سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 08-20-2018, 01:27 PM   #1


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة

الدرس : ( الاول )

الموضوع : سيدنا معاذ بن جبل


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
قف عند هذا المنعطف :
أيها الأخوة الأكارم، طرأ على درس الاثنين اِنْعِطاف في موضوعه، ولا بد من تَبْيانِ الأسباب التي حمَلَتْني على هذا الانْعطاف؛ وهو أنَّ درس الجمعة بِفَضْل الله تعالى تفْسيرٌ لِكِتاب الله ، وهذا هو الدرس الأول، لأنّه لا شيءَ يعْلو على كلام الله، ودرْسَ الأحد درس حديث نبوي شريف وهو تَبْيانٌ لما في كتاب الله، ولا شيء مما سوى كلام رسول الله يعْلو على كلام رسول الله؛ لكنَّني وجدْتُ نفسي في درس الاثنين أتَتَبَّعُ موضوعات تتعلَّق بالأخلاق وهو الجَوْهَرِ في الدين , والله جلّ جلاله حين وصف النبي عليه الصلاة والسلام وصَفَهُ بأنَّهُ على خلقٍ عظيم، والخلق الحسن ذهب بِخَيْري الدنيا والآخرة، وهناك أحاديث صحيحة وكثيرة تُؤكِّد أنَّ الخُلُق الحَسَن بعد الإيمان بالله هو كُلّ شيء .

فاخْتَرْتُ لكم موضوعات في الأخلاق الإسلامية، ثمّ اخْترْت لكم موضوعات من كتاب إحْياء علوم الدين، وقبل أيام تساءلت في نفْسي: أيُّهما أبْلغ أنْ نعرض الأخلاق الإسلامية بِشَكلٍ نظري، أم أنْ نرى الأخلاق الإسلامية مُجَسَّدَةً في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنّ الخُلق الإسلامي إذا عُرض بِشَكلٍ نظري بَقِيَ حقيقةً تفْتقر إلى البرهان عليها, فإذا قرأت السيرة, سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أو أصْحابه الأجلاء رأيْت الأخلاق الإسلاميّة مُجَسَّدَةً فيهم، أيْ رأيت الأخلاق الإسلاميّة مع البرهان عليها، ولقد وجَدْت من خلال خبْرتي السابقة المُتواضعة في الدعوة إلى الله, وفي التدْريس الديني أنَّ مادة القِصَّة ولا سِيَّما قِصص أبطال المسلمين وقِصص أصْحاب رسول الله، هؤلاء الذين اخْتارهم الله على عِلْم لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام:

((إنّ الله قد اخْتارني واخْتار لي أصْحابي ))
[أخرجه البيهقي في سننه ]

هو الموضوع الثالث المُهِمّ الذي يأتي بعد تفْسير كتاب الله، وبيان سُنَّة نبِيِّه، لذلك اسْتعَنْتُ بالله عزّ وجل وأردْتُ أنْ أجْعل من درْس الاثنين في السيرة النبويَّة، وفي سيرة أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن دون أن أكون مُلْزَماً بِتَسَلْسُلٍ مُعيَّن، ولا بِصحابي دون صحابي، لأنني أخْتار بِفَضْل الله عزّ وجل الصحابِيَّ أو المَوْقف من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام الذي نحن في أشدّ الحاجة إليه، وسِرّ هذا أنني كنت مرَّة في عقد قِران، وقام أحد العلماء يُلقي كلمة فَمِن جُمْلة كلِمَتِه ذكر حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:
((أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ, فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))
[أخرجه النسائي في سننه ]
وما أدري لِمَ فعلَتْ هذه الكلمة في نفْسي فِعْل السِّحْر؟ فقلت: إذا أحَبَّك النبي عليه الصلاة والسلام فهل من بعد هذه المرتبة من مرْتبة؟ ولذلك وجدت أنّ كلّ إنْسانٍ يفْرح بِحُبِّ جِهَةٍ له، فكلما ارْتقى الإنسان فرِح بِحُبِّ الله ورسوله له، لأنّ حُب الله عز وجل هو عَيْن حُبّ رسول الله، وحب رسول الله هو عَين حُبّ الله عز وجل، لأنّ الله ورسوله أحقّ أن يُرْضوه، فانْطِلاقاً من هذا الصحابي الجليل الذي قال في حقِّه رسول الله حديثاً؛ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: ((أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ, فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))
[أخرجه النسائي في سننه ]
أردْت أنْ أجعل هذا الصحابي موضوع الدرس الأول من دروس السيرة مُقْتطفات وفقرات ومواقف وأقْوالاً لهذا الصحابي الجليل، الذي هو سيّدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه . إليكم الحديث عن هيئة سيدنا معاذ بن جبل كما وصفه الواصفون :
قال بعْضهم: دخلْتُ مسْجدَ حِمْص فإذا أنا بِفَتىً حوله الناس؛ جَعْدٍ قطَطٍ، أيْ شعْره أجْعد، إذْ هناك شعْرٌ أجْعد ليس مُسْتَحْسناً، لكن شعْر هذا الصحابي كان أجْعد، ولكنه مُسْتَحْسن، وهو معنى قطط، إذا تكلَّم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولُؤلؤ, هذا تأييد الله له فأنت إذا أخْلصْت أيها الأخ الكريم لله رب العالمين، والْتَزَمْتَ أوامر الديــن، واتّصلْت بالله جل جلاله، أسْبغ الله عليك مهابَةً وجمالاً ووضاءَةً ونوراً وهَيْبَةً وسكينةً ووقاراً .

فقلتُ: من هذا؟ فقالوا: هو مُعاذ بن جبل، وهذا هو معنى قول الله عز وجل حينما خاطب النبي عليه الصلاة والسلام وأصْحابه مَعْنِيون بِهذا الخِطاب وكذا كلّ مؤمن في كلّ مكانٍ وزمان:

﴿وَرَفعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
[سورة الشرح الآية: 4]
هذا لِكُلّ مؤمن؛ كل مؤمن أخْلص لله عز وجل، وأكْرمه الله عز وجل بِمَنْطقٍ وحُجَّةٍ ووقارٍ ومهابَةٍ ونورٍ ومكانةٍ وسُمْعةٍ ...إلخ .

وعن أبي مسلم الخوْلاني, قال: أتيتُ مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا شابٌ فيهم أكحل العين، براق الثنايا، وأسْنانه تلمَع؛ دليل نظافته، ودليل عِنايَتِهِ بِأسْنانه، وكلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، فقلت لِجَليسٍ لي: مَن هذا؟ فقال: هذا مُعاذُ بن جبل، هذا يُذكِّرُني بِمَقولةٍ أنَّ العالم شيْخٌ ولو كان حَدَثاً، وأنّ الجاهل حَدَثٌ، ولو كان شيخًا، وهذا يُذكِّرُني كيف أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اخْتار أُسامة بن زيد الذي لا تزيد سِنُّهُ عن سبعة عشر عاماً قائداً لِجَيْشٍ فيهم أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ؟ وكيف أنّ الشباب في الإسلام لهم شأنٌ كبير، ولهم شأنٌ خطير، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( ريح الجنّة في الشباب ))
[ورد في الأثر]
طاقاتهم كامنة، وانْدِفاعهم شديد، وغيرةٌ عظيمة، وتعلُّقٌ بالمبادئ والمُثُل؛ هؤلاء الشباب إذا أُحْسن تَوْجيههم، ودُلوا على الله عز وجل، وعلى طريق البطولة، كان لهم شأنٌ، وأيُّ شأنٍ .
صفات هذا الصحابي الجليل كما ورد إلينا :
1- زهده في الدنيا :
كان هذا الصحابي الجليل زاهِداً في الدنيا، قال مالك الداريّ: أخذ عمر بن الخطاب أربعمئة دينارٍ فَجَعَلها في صُرَّةٍ, فقال لِغُلامٍ له: اِذْهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجراح ثمّ تلَه - وهو فعل أمرٍ- أيْ أُلْهُ بشيءٍ حتى تبْقى عنده فَتَنْظر ما يصْنع بها، فذَهب الغلام وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: اِجْعل هذه في بعض حاجتك، فقال رضي الله عنه: وصله الله ورحِمَهُ .

أرأيْتُم أيها الأخوة, أنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله، فهناك أشْخاص يسوق الله لهم خيراً على يدِ رِجال ثمّ يتنكَّرون, ويقولون: لقد منَّ الله علينا بالهُدى، ولكن هذا لا يمْنَعُ أنْ تشْكر الناس، لأنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله، ماذا قال هذا الصحابي الجليل, وماذا فعل؟ قال: وصله الله ورحِمَهُ، ثمّ قال: تعالَيْ يا جارِيَة، واذْهَبي بِهذه السبْعة إلى فلان، وبِهذه الخمسة إلى فلان، وبِهذه الثلاثة إلى فلان، حتى أنْفَذَها جميعَها، فَرَجَع الغُلام إلى عُمر فأَخْبَرَهُ، فوَجَده قد أعَدّ مِثْلها لِمُعاذ بن جبل صاحب هذا الدرس، وقال له: اِذْهب بها إلى معاذ بن جبل وتله في البيت ساعةً حتى تنظر ماذا يصْنع؟ فذَهَب بها إليه، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: اِجْعَل هذه في بعض حاجَتِك، فقال: وصله الله ورحِمَهُ، تعالَيْ يا جارِيَة واذْهبي إلى بيت فلان بكذا، وإلى بيت فلان بِكذا، فاطَّلَعَتْ امْرأته, فقالت: ونحن والله مساكين فأَعْطِنا، ولم يبْقَ في الخِرْقة إلا ديناران فدفع بهما إليها، وقال: خُذي، فرجع الغلام إلى عمر وأخْبره بِذلك، فقال: إنهم أخوة، بعضُهم من بعض, ألم يقف النبي عليه الصلاة والسلام قُبَيْل وفاته وقد نظر إلى أصْحابه وهم يُصلون في المسْجد فتَبَسَّم حتى بَدَتْ نواجذه، وقال: حُكماء علماء، كادوا من فِقْهِهِم أن يكونوا أنبياء؟ إنهم أبطال .

2- ورعه فيها :
أمّا وَرَعُهُ؛ فكان لِمُعاذ بن جبل امْرأتان، فإذا كان عند إحْداهما لم يشْرب في بيت الأخرى الماء، لِيُحَقِّقَ العدْل الكامل بينهما, هذه الليلة لِفُلانة فيأكل ويشْرب وينام عندها، أمّا عند الأخرى فَكان لا يشْرب عندها الماء في الليلة التي ليسَتْ لها، ألم يقل الله عز وجل:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾
[ سورة النساء الآية: 3 ]

لذلك قالوا: ركْعتان من ورِع خير من ألف ركعة من مُخلِّط! ألم يتَنَحَّ الإمام أبو حنيفة عن ظلِّ بيتٍ إلى الشمس, فلما قيل له لِمَ؟ قال: هذا البيت مُرْتَهَنٌ عندي، وأنا أكْرهُ أن أسْتفيد من ظِلِّه، وعن ثَوْر بن يزيد, قال:

(( كان مُعاذ بن جبل إذا تهجَّد من الليل, قال: اللهم قد نامت العُيون وغارتِ النجوم وأنت الحيّ القيوم, اللهم طلبي للجنّة بطيء, وهربي من النار ضعيف, اللهم اجْعل لي عندك هُدىً ترُدُّهُ لي يوم القِيامة إنك لا تُخْلف الميعاد ))
ولِذلك علامة المؤمن أنَّهُ يتَّهِم نفْسه دائِما، وعلامةُ المنافق أنَّهُ يرضى عن نفسه، حتى العوام يقولون: لا يرْضى عن نفسه إلا إبليس .
وهذا أحد التابعين, قال: الْتَقَيْتُ بِأَربعين صحابِياً ما واحِدٌ منهم إلا ويظنّ أنه منافق، من شِدَّة خوفِهِ من الله، ومُحاسَبَتِهِ لِنَفْسه، ومُراقَبَتِهِ لها، والنبي عليه الصلاة والسلام, قال: ((أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ, وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ, وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ, وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ, وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ, وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ, وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
ماذا نستنبط من هذا الحديث المشهور عند أهل العلم ؟
النبي عليه الصلاة والسلام وُجودُهُ يطغى على كلّ إنسان، وعظمتُهٌُ باهرة، ولا يُلْتَفـَتُ إلى إنسانٍ غَيْرِهِ، وفقد عرف قدْرَ أصْحابه، وأعطى كُلّ واحِدٍ منهم قَدْرَهُ، مرَّةً سأل النبي عليه الصلاة والسلام مُعاذ حينما أرسله إلى اليمن،
(( فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ, قَالَ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ, قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ, قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ, قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ, وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ))
[أخرجه أبو داود في سننه]

القرآن والسنة، والاجْتهاد دخل فيه القِياس والإجماع، ولا تجْتمع أمتي على ضلالة، والقِياس أنْ اكْتَشف عِلَّة التحريم، فإذا اتَّحَدَتْ هذه العِلَّة في حالةٍ ما مع حالةٍ أخرى انْسَحَب التحريم على الحالة الأخرى، كما في الأولى، فالخمر حرام، وعِلَّتُها الإسْكار، فأَيُّ شرابٍ أسْكر فهو حرام، وهذا هو القِياس، ولعلّ هذا الصحابي الجليل كان رائِداً في الاجتهاد، وكأنَّهُ رسَمَ للأئمَّة المُجْتهدين من بعْده أنّ الكِتاب أوَّلاً، ثم السنّة ثانيا، ثمّ الإجماع ثالِثاً، ثمّ القياس رابِعاً، والإجْماع والقِياس هما الاجْتِهاد، والأدلّة كما تعلمون أدِلَّة أصْلية، وأدِلّة فرعِيَّة، فالأصلية الكتاب والسنة، والفرعية القياس والإجماع والاسْتحسان والمصالح المرسلة، إلى آخر الأدلة الفرعية في الاجتهاد.

وعن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل, قال: لما بعثه رسول الله صلى لله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه النبي الكريم لِيُوصيه، فهل من الأصول المُتَّبعة الآن أنْ يخرج رأس القوم لِيُوَدِّع أصحابه الذين هم تابِعون له؟ هذا لا نجده عند غير النبي عليه الصلاة والسلام، والأغرب من هذا أن معاذاً كان راكِباً، والنبي عليه الصلاة والسلام يمْشي محاذِيًا راحِلَتَه, ما هذا؟
يَرْوي بعض كُتاب السيرة أنَّه نظر إليه ملِياً وتأمَّلَهُ كثيراً، أنا اسْتنبطتُ من هذا كيف أَنَّ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يُحِبون النبي حُباً جماً؟ وكيف أنه أخذ عليهم مجامع قلوبهم ؟ وكيف أنَّه أسَرَهم بِكماله؟ أعتقد أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحِبُّهم حُباً جماً
واعْتقِدوا معي أيها الأخوة أنّ الحُبّ لا يُمكن أن يكون من طرفٍ واحد، كما أنهم كانوا يُحبونه كان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهم، وما خرج مع سيّدنا معاذ بن جبل مُشَيِّعاً له وهو يمْشي ومُعاذٌ يرْكب إلا من شِدَّة حُبّ النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ .
تَرْوي القصص أنه لما قدِم جعْفر أيضاً هشَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وبشَّ، فالنبي عليه الصلاة والسلام مشى معه ومُعاذٌ يركب والنبي يمْشي ويُوصيه، فلما فرغ قال: يا معاذ، إنك عسى ألاّ تلْقاني بعد عامي هذا، يُسْتنبط من هذا اسْتِنباط دقيق؛ إذْ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام آثر أن يُرسل سيّدنا معاذًا إلى اليمن لِيَدْعُوَ إلى الله هناك، ولِيُعَلِّمَهم كتاب الله وسنَّة رسوله، على أنْ يبْقى إلى جانِبِه، معنى ذلك أنّ أكبر هدفٍ يجب أن نسْعى إليه هو نشْرُ هذا الدِّين، نشرُ هذا العِلْم العظيم، ودعوة الناس إلى الله ورسوله, فالنبي أرْسله إلى اليمن، ولعلَّكَ تمرُّ بِمَسْجِدي هذا وقبري، فَبَكى مُعاذٌ خُشوعاً لِفِراقِ رسول الله، ثمّ الْتَفَت بِوَجْهِهِ إلى المدينة, فقال: إنَّ أوْلى الناس بي المُتَّقون، مَنْ كانوا وحيث كانوا، حُبٌّ شديد، وشَوْقٌ أشدّ، ووفاءٌ لا مثيل له، ومع ذلك الدعوةُ إلى الله عز وجل كانت فوق كُلِّ اعْتِبار .
3- علمه :
سيِّدنا عمر, يقول: لو اسْتَخْلَفْتُ معاذ بن جبل، أيْ لو جعلهُ خليفةً من بعده، فسألني عنه ربي عز وجل: ما حَمَلَكَ على ذلك؟ لَقُلْتُ: سمِعْتُ نبِيَّك صلى الله عليه وسلَّم, يقول: إنَّ العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان مُعاذٌ بين أيْديهم .

إذاً: معي شهادةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأنّ مُعاذَ بن جبل أهلٌ لِخِلافة المُسلمين جميعاً، بعض أصْحاب النبي وهو ابن مسْعود, كان يقول هكذا:

((إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً, فقيل له: إِنّ إبراهيم هو الذي كان أمةً قانتاً لله حنيفاً, فقال: ما نسيتُ ولكن هل تدري ما الأمة وما القانت؟ قُلتُ: الله أعلم، فقال: الأمة الذي يعلمُ الخير والقانت المُطيع لله عز وجل ولِرَسوله وكان مُعاذ بن جبل يُعَلِّمُ الناس الخير وكانَ مُطيعاً لله عز وجل))
إذاً: إنَّ معاذ بن جبل كان أمَّةً قانتاً لله حنيفاً .
وعن شهْر بن حَوْشَب: ((كان أصْحاب مُحَمَّدٍ رِضْوان الله عليهم إذا تحَدَّثوا وفيهم مُعاذٌ نظروا إليه هَيْبَةً له))
لقد كانت له هَيْبَة حتى مع أصْحاب النبي . إليكم مواعظ هذا الإمام الجليل :
ومن مواعِظِه رضي الله عنه أنه كان يقول: إنَّ مِن ورائِكم فِتناً يكثر فيها المال، ويُفْتح فيها القرآن، حتى يقْرأه المؤمن والمنافق، والصغير والكبير، والأحمر والأسود، فَيوشِكُ قائِلٌ أنْ يقول: ما لي أقرأ على الناس القرآن فلا يتبعوني عليه ، فما أظنّ أنهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيرَه، إياكم وإياكم وما ابْتُدِع، يعني إياكم والبِدَع، فإنَّ ما ابتُدِع ضلالة، وأُحَذِّركم من زَيْغَة الحكيم - فالحكيمُ أحْياناً يخْطئ - فإنَّ الشيطان يقول: عليَّ في الحكيم كلمة ضلالٍ واحدة، فالشيطان لا يتمنى إلا أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمة ضلال واحدة، لأنَّ تلك الكلمة تُسيء إلى الدِّين إساءة كبيرة .

كلكم يعلم أنَّ أبا حنيفة النعمان رحمه الله كان يمشي في الطريق، فرأى غلاماً أمامه حُفْرة, فقال: يا غلام إياك أن تسْقط، ولا أدري كيف أنطَق اللهُ هذا الغُلام؟ وقال: بل أنت يا إمام إياك أن تسْقط، إني إنْ سقطتُ سقطْتُ وحدي، وإنك إنْ سقطتَ سقط العالم معك، فالحكيم إذا تكلَّم كلمة ضلال واحدة سقطت معه الأمة، لأنَّ عامَّة الناس لا يُفَرِّقون بين الإسلام والمُسْلمين، ولا بين الحقِّ وأهل الحقِّ، ولا بين المبادئ وأصْحابها، فهذا التداخل يجْعلهم إنْ سقط أمامهم الحكيم سقط معه الدِّين، فَلِذلك سيّدنا معاذ بن جبل أدْرك بِحاسَّتِه المُرْهفة أنَّ أكبر خطرٍ على الإسلام أنْ ينطق الحكيم بِكَلِمةِ ضلالٍ واحدة، لأنَّ هذه الكلمة الواحدة ربما أسْقطتْ كلّ كلامه الصحيح، فلو أنَّ أحداً أعْطاك مئات المعْلومات الصحيحة، ثمّ قال لك: اثْنين واثنين خمْسة، هنا يداخلك الشكّ، ليس في هذا الكلام، بل في كلّ ما قاله لك .

وقد يقول المنافق كلمة الحق، دقِّق في هذا؛ وقد يقول الحكيم كلمة ضلال، فما الأصل؟ المُتَكّلِّم أم الكلام؟ الكلام، وهذا ما قاله الإمام عليّ:

((نحن نعرف الرجال بِالحقّ ولا نعْرف الحق بالرجال))
فالأصل هو الحق، قالوا: وما يُدْرينا أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال: هي كلمةٌ تُنْكِرونها، مُخالفة للفِطرة والعقل والنقل والواقع, تُنْكِرونها بِفِطَرِكم السليمة، وعُقولِكم الراجحة .
سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يسْتعين بِرَأْيِ مُعاذ بن جبل, حتى إنه قال: ((لولا معاذ بن جبل لَهَلَكَ عُمر))
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: ((إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ, فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))
[أخرجه النسائي في سننه ]
انصت إليه أيضاً أيها المسلم :
وكان هذا الصحابي, يقول:
((يا بُني إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صلاة مُوَدِّع، ويا بني إنَّ المؤمن يموت بين حَسَنَتَين: حسنةٍ قدَّمَها، وحسنةٍ أخَّرها))

له أعمالٌ جليلة قبل موته، وترك خيراً كثيراً بعد موته .
ويقول هذا الصحابي الجليل: ((قد ابْتُليتُم بِفِتْنَة الضراء فَصَبَرْتُم وسَتُبْلَوْنَ بِفِتْنَةِ السراء وأَخْوَفُ ما أخاف عليكم فِتْنة النِّساء، إذا تسَوَّرْنَ الذهب، ولَبِسْنَ رباط الشام، وعَصْبَ اليَمَن، فأَتْعَبْنَ الغني، وكلَّفنَ الفقير ما لا يجد))
لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (( إنَ إبليس طلاعٌ رصاد وما هو من فُخوخه - جمع فخّ - بِأَوثق في صَيْدِه في الأتْقِياء من النِّساء ))
[ورد في الأثر]
إليكم العبرة من وفاته والمدة التي مكثها في الدنيا :
أيها الأخوة, فلما حضره الموت, قال:

((أصْبَحْنا، فقِيل له: لم نُصْبِحْ؟ فقال رضي الله عنه: أعوذ بالله من ليلةٍ صباحُها النار، مرْحَبًا بالموت مرْحبًا بالموت؛ زائِرٌ مُغِبّ، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافُك وأنا اليوم أرْجوك، إنك تعلم أني لم أكن أُحِبّ الدنيا وطول البقاء فيها لِكَرْي الأنهار، ولا لِغَرْس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومُكابَدَة الساعات، ومُزاحَمَة العُلماء بِالرُّكَب عند حِلَق الذِّكر))
وتُوُفِّيَ هذا الصحابي الجليل عن عُمُرٍ لا يزيد عن ثلاث وثلاثين سنة، فالعُمْرُ أَتْفَهُ ما فيه طولُهُ، وأعْظم ما فيه الأعمال الجليلة التي عمِلَها .
عن سعيد بن المُسَيِّب, قال: (( قُبِضَ مُعاذ بن جبل وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين أو أرْبعٍ وثلاثين عاماً ))
العُمُر يُقاسُ بِوَزْن العمل الذي احْتواهُ لا بِمُدَّتِه .


 
 توقيع : السعيد


التعديل الأخير تم بواسطة السعيد ; 08-20-2018 الساعة 01:40 PM

رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:30 PM   #2


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثانى )

الموضوع : سيدنا عبدالله بن مسعود



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف ندرس السيرة , وما هي الثمرة التي يمكن أن نقطفها منها ؟
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من دروس السيرة, والصحابي اليوم سيدنا عبد الله بن مسعود، وقبل أن نبدأ بعرض سيرته وتعبُّده وفضائله وزهده وأقواله لا بد من وقفة قصيرة حول موضوع السيرة .

أيها الأخوة الأكارم، السيرة شيئان: وقائع ونصوص, وتحليل ودراسات، والأمر الذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه أن نجمع بين النص و التحليل، وبين النص والاستنباط، وبين النص واستنباط القاعدة، تُلقي الضوء على حياتنا اليومية .
إذاً: كما نعتني بالنص الذي ورد في كتب السيرة نعتني بالتحليل والاستنباط؛ لأن هذا التحليل والاستنباط يعطينا قانونًا وسنة، أو قاعدة تنير لنا السبيل في الدنيا .
والشيء الآخر, يجب أن نعتقد جميعًا أن الله جل جلاله هو هو, يعني أن القوانين التي سنَّها، والقواعد التي قعَّدها، والوُعود التي قطعها، والبشارات التي بشَّر بها هي هي، فهي لأيِّ مؤمن في أيِّ زمانٍ ومكان، فالشيء الذي ناله أصْحاب رسول الله من الله عز وجل شيءٌ ثمينٌ، لكنّ الإله موجود، فالذي نصرهم ينصرنا، والذي أعْطاهم يُعْطينا، والذي أسْعدهم يُسْعِدنا، والذي أغْناهم يُغْنينا، والذي رفعهم يرْفعنا، المفْهوم التاريخي للدين مفْهوم غير صحيح، يقولون: إنّ الدِّين ظاهِرَةٌ ظهرت وانْتَهَت، لا، بل ظهرتْ وتَسْتَمرّ، فإذا أخذ المرءُ بِقَواعد الدِّين قطف ثِماره، وما أردتُ من درْس السيرة إلا تأكيد هذه الحقيقة .
لمحة قصيرة عن سيرة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود :
أيها الأخوة, سيّدنا عبد الله بن مسْعود كانَ ماهِراً في القرآن، والقرآن موجود بين أيدينا ، وبِإمْكانك أنْ تكون ماهِراً فيه، وأن تَحْفَظه، وأن تفْهمه، وأنْ تعمل به، وأن تقطِفَ ثِماره، فهذه المُقَدِّمة مُهِمَّة، نحن على أبواب البُطولة، فإما أنْ نُقْدم، وإما أنْ نُحْجِم، وإما أن نُبادر، وإما أن نتردّد .

هذا الصحابيُّ الجليل يُكْنى أبا عبد الرحمن، وأُمُّهُ أُمُّ عبْد، أسْلم قبل دُخول النبي عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم، أيْ أسْلم في وقْتٍ مُبَكِّر، وقال: كُنْتُ سادس المُسْلمين، أيْ سادِسَ من أسْلم من المُسلمين، وهاجر إلى الحبشة الهِجْرَتين، وشهِد بدْراً والمشاهد كُلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وصاحِبَ وِسادته وسِواكِهِ وطُهوره في سفره، وكان يُشْبه النبي عليه الصلاة والسلام في هَدْيِه وسَمْتِه، وكان خفيف اللحم، قصيراً، شديدَ الأَدَمَة، وكان من أجْود الناس ثَوْباً، ومن أطْيَبِ الناس ريحاً، وُلِيَّ قضاء الكوفة وبَيْتَ المال لعُمَر، وصدْراً من خلافة عُثمان، ثمّ صار إلى المدينة فَماتَ بها سنة اثْنَتَيْن وثلاثين، ودُفِنَ بِالبقيع وهو ابنُ بِضْعٍ وسِتين .

إليكم هذا الموقف لابن مسعود تشهد له بالخيرية أيام الجاهلية :
عن عبد الله بن مسْعود صاحب الترجمة رضي الله عنه، قال:
((كُنْتُ غُلاماً يافِعاً أرْعى غَنَماً لِعُقْبَةَ بن أبي مُعيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وقد نفرَا من المُشْركين، فقال : يا غُلام هل عندك من لَبَنٍ فَتَسْقِيَنا؟ قُلتُ: إني مُؤْتَمَنٌ، ولَسْتُ أسْقيكُما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جَذْعَةٍ لم ينْزُ عليها الفحل؟ (أيْ غَنَمة ليس فيها لبن) قلتُ: نعم فأتَيْتُهما بها، فاعْتَنَقَها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع، ودعا فَحَفَل الضَّرْعُ، - وهذا من مُعْجِزات النبي صلى الله عليه وسلم- ثمّ أتاهُ أبو بكرٍ بِإناءٍ فاحْتَلَبَ بها، فَشَرِبَ أبو بكْرٍ، ثمّ شَرِبْتُ))

الاسْتِنْباط الأول: أنّ هذا الصحابيّ الجليل وهو غُلامٌ يافِع أدْرك بِفِطْرَتِه أنّ هناك شيءٌ يجوز، وهناك شيءٌ لا يجوز، وهذا يُؤكِّدُ قوْل النبي صلى الله عليه وسلم:
((خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح]
فما من أخٍ مؤمن إلا وله مواقف أخْلاقِيَّة في جاهِلِيَّتِه قبل أنْ يتوب إلى الله، وهذا هو معنى قوْل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
(( تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا, وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً, وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح ]
ما قيل في ابن مسعود :
وعن أبي موسى الأشْعري, قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله .
أنا أُقْسِمُ لكم بالله أنَّ بين الأخوة المؤمنين مِن المَحَبَّة والمَوَدَّة ورفْعِ الكُلْفة والثِّقة والطُّمأنينة والاسْتِسلام والانْدِماجِ أشَدُّ مما بين الأقارب، وأشَدُّ مما بين الأخ وأخيه، والعلاقة نَسَبِيَّة هذا قانون، وأنا في هذا الدرس إنْ شاء الله تعالى يَعْنيني أكثر ما يعْنيني اسْتِنْباط قواعد في الإيمان

يقول أبو موسى الأشْعري:

((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله))
فكلَّما ازْداد إيمانُ أحدكم ازْدادَ حُبُّهُ لأخْوانه, وازْدادَتْ خِدْمته لهم, وازْداد تَعَلُّقُهُ بهم, وازْدادتْ شَفَقَتُهُ عليهم, وازْداد نُصْحُهُ لهم، يجب أنْ يكون المؤمنون كُتْلَةً واحدة وجسداً واحداً إذا اشْتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائِرُ الجَسَد بالسَّهَر والحُمى .
سيّدنا أبو موسى الأشعري, يقول: ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله))
فمن أهْلُكَ؟ هم المؤمنون، وهذا معنى قولهم: ((رُبَّ أخٍ لك لم تلِدْهُ أُمُّكَ))

استنبط من قَوْل النبي في حقِّ الجار إذا اسْتعانَ بك أَعَنْتَهُ, وإنْ اسْتَنْصَرَك نصَرْته، وإن اسْتَقْرَضَك أقْرَضْته، وإنْ أصابهُ خيرٌ هَنَّأْته، وإن أصابَتْهُ مُصيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، ولا تَسْتَطِل عليه بالبناء فَتَحْجُبَ عنه الريح إلا بِإذْنه، وإذا اشْتَرَيْتَ فاكِهَةً فأهْدِ له منها، وإنْ لم تفْعل فأَدْخِلْها سِرًّا، ولا يخْرُجْ بها ولَدُكَ لِيَغيظَ ولَدَهُ، ولا تؤْذِهِ بِقُتارِ قِدْرِك إلا أنْ تَغْرِفَ له منها، فإذا كان هذا حَقُّ الجار، وقد يكون الجار ليس مُسْلِماً، فَكَيْفَ بحقِّ المؤمن؟! وكيف بِحَقِّ الأخ في الله؟ لِذلك علامة قَبول ما عند الله مَحَبَّتُنا، وتواضُعُنا، وتضْحِيَتُنا، وإيثارُنا، وذْلُنا، وتواصُلُنا، وتناصُحُنا .
عن القاسم بن عبد الرحمن, قال: ((كانَ عبدُ الله يُلْبِسُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نَعْلَيْه, ثمّ يمْشي أمامه بِالعصا, حتى إذا أتى مجْلِسَهُ نزعَ نعْلَيْه, فأدْخَلَهما في ذِراعَيْه, وأعْطاه العصا, فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم ألْبَسَهُ نعْلَيْه, ثمّ مشى بِالعَصا أمامه, حتى يدْخُل الحُجْرة قبل النبي))
الأدلة من الكتاب على أن حب النبي هو عين حب الله :
أنا أقول لكم: إنَّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو عَيْنُ حُبِّ الله، وإنَّ حُبَّ الله عز وجل عَيْنُ حُبِّ النبي، وإنَّ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عَيْنُ طاعة الله، وإنَّ طاعة الله عز وجل هي عَيْنُ طاعة النبي، والدليل قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
( سورة آل عمران الآية: 31 )
وقوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 62)

بِضِميرِ المُفْرَد الغائِب، ولم يَقُل: يُرْضوهُما، ونُضيفُ شيئاً وهو أنّك إذا أحْبَبْتَ الله والنبي حُباً جماً، وألْغَيْتَ ذاتك نِهائِياً، شَفَفْتَ عن حقيقة رسول الله، لذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: فيما روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:

((اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ))
[أخرجه الترمذي في سننه ]
والإسْلام بلا حُبٍّ جسَدٌ بلا روحٍ، وورد في بعض الأقْوال: ((ألا لا إيمانَ لِمن لا حُبَّ له))

وهل للحُبِّ دليل؟ هناك مئة دليل، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
(سورة المائدة الآية:54 )
وقال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾
(سورة البقرة الآية: 165 )
فمن هَوِيَ الكَفَرَة حُشِرَ معهم، ولا ينْفَعُهُ عملهُ شيئاً، قلبُكَ أين هو؟ سوْفَ تَرَوْنَ أيها الأخوة, أنَّ أصْحاب النبي عليهم رضْوان الله أحَبُّوا النبي حُباً يفوقُ كُلَّ التَّصَوُّر، افْتَدَوْهُ بِأموالهم وأوْلادهم وأرْواحِهم، ماتَ أبوها وابنُها وزوْجُها وأَخوها، وتقول: ما فَعَلَ رسول الله إلى أنْ رأَتْهُ؟ فقالت: يا رسول الله كُلُّ مُصيبَةٍ بعْدك جَلَلٌ، لا قيمة لها، هذه امرأة .
كيف نعبر عن حبنا لله ولرسوله في هذا الزمان ؟
أيها الأخوة, نحن في هـذا الزمان كيف نعبِّر عن حبِّنا؟ كيف نعبِّر أننا نُحب الله أكثر من كل شيء؟ لا يوجد جهاد، نحن في الحياة المدنية الآن؛ هذا مُدرِّس، هذا طبيب، هذا صانع، هذا صاحب مصلحة، هذا تاجر, هذا صاحب معمل، هذا طالب مدرسة، هذا طالب جامعة، هذا متزوج, هذا غير متزوج، كيف يعبر أحدنا عن حبِّه لله عزّ و جل؟ بتطبيق أمر الله، وتطبيق أمر الله سَهْلٌ يسير .

هناك نقطة دقيقة: ربنا عز وجل يخْلق ظروفًا للمؤمن، ويضعِفُه أمام خِيارٍ صعْبٍ، شيءٌ يُرضي الله، ولكن يضرّ بِمَصْلَحَته، صفْقَةٌ رابحة، لكن فيها شُبْهَة، فإذا أَمْضَيْتها أثْبَتَّ أنك تُحِبّ المال أكثر من حُبِّك لله ورسوله، وإذاَ رفَضْتها أثْبتَّ أنك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من هذه الصَّفْقَة، وفي حالة البَحْبوحة والرخاء طاعة الله سهْلة؛ أغُضُّ بصري، لكن هناك ظروف تضَعُك أمامَ خِيارين صعبيْن, الدنيا هنا، وطاعة الله هنا، ولولا أنَّ الله عز وجل يضعُكَ أمام هذين الظرْفَين، وأمام خِيارٍ صعْبٍ لأصْبَحَت الجنَّة سهْلة، وهناك آية تدلّ على ذلك، قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
( سورة العنكبوت الآية: 2 )

فلا بدّ من الابْتلاء، ولا بد من أن توضَعَ في ظرفٍ، فإما أن تخْتار رِضى الله عز وجل، وإما أنْ تخْتار الدنيا، والآية التي أكثر دلالةً, قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 24 )
ففي الحياة المدَنِيَّة, كيف نًؤكِّدُ حُبَّنا لله عز وجل؟ إذا امْتُحِنا وابْتُلينا فوُضِعْنا أمام ظرْفين، أحْياناً زوجَتُك وأُمُّك – هذا أقرب مثل – وأُمُّك مُتَقّدِّمة في السِّن، والإنسان لما يتقدَّم في السِّن يُرَدُّ إلى أرْذل العُمُر؛ تفْكير ضعيف، تدَخُّل شديد، طلبات غير معْقولة، سَيْطرة وإحْكام القبْضة، فكُلّ سعادَتِك مع زوْجَتِك،ِ وأُمُّك عِبءٌ عليك، لكنَّ الذي يُرْضي الله يبَرَّ أُمَّه، ولا يضَيِّعَ حقَّ زوْجَتِه، فالبُطولة أنْ تقف المَوْقِف الكامل .

إذًا: أنت دائِماً توضَعُ في امْتِحانات صعْبة، فإما أن تؤكِّد أنَّك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من حبِّك الدنيا، وإما أن تؤكِّد أنك تحب الدنيا والمال والزوجة والعشيرة والأهل والابن والتجارة والمسكن، فلو كنت في مسكنٍ فخمٍ مستأجراً، وبقاؤك في المسكن شيء مريح، والأجرة رمزية، والقانون إلى جانبك، ويوفِّر لك الحماية؛ فإنْ كنتَ ممَّن يُؤْثر مرضاةَ الله عز وجل أعطيتَ هذا البيت لأصحابه، نمتَ قرير العين، إذاً: أنت ممتحن، في تجارتك، في صناعتك، وقد تدخل مادة في صناعتك غير شرعية، تقول لك نفسك: الخُبز يُطْبخُ الآن، فَدَعِ الأمور تسير, وهناك رواج سريع، والمؤمن يخاف الله عز وجل، ولا يفعل هذا، فالقصد أنَّ حبَّك لله عز وجل، شئت أم أبيت ، ولا بد أن يظهر، أو لا يظهر من خلال الامتحان .

أمثلة من الواقع على امتحان الرب للعبد :
فهناك سؤال: هل نحن نمتحن أو لا نمتحن؟ لا بد أن نمتحن، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 24 )
أحيانا تعرض البيت للبيع خمس سنوات، وثمنُه ثلاثة ملايين، فوافقت على بيعه، وحصل هناك عقد، ثم يبعث الله لك بعد يوم أو يومين شخصا يعِرض عليك شراءه بثلاثة ملايين ونصف، هذا امتحان، فإما أن تنجح فيه وإما أن تسقط، ونجاحك هو أنك قد بعت البيت بمبلغ ثلاثة ملايين، وتم البيع، وكتِب العقد، ورسوبك أن تلجأ حيلة، تقول له: ما رضيتْ الزوجة، أو ابني عارضني، فأنت ممتحن في البيع والشراء، وفي كل شيء أنت ممتحن، إما أن يظهر أنك تحب الله ورسوله أكثر من كل شيء، وإما أن تثبت أن أي شيء من الدنيا أغلى عندك من الله ورسوله، وهذا الامتحان واقع لا محالة، وربنا عز وجل فعَّال لما يريد, فأحيانا يبعث لك عرضا مغريا، وأحيانا أخرى تقع في مشكلة، والأبواب كلها مغلقة إلا باب الشبهات، ولا بد أن تأخذ قرضا بفائدة .

أحد أخواننا الكرام, في أول حياته التجارية يملك بيتا صغيرا، وعرض عليه بيتٌ بثمنٍ مغر، وهو تاجر، ولكن المبلغ غير متوافر لديه لشرائه، وكانت معه سندات مالية، ذهب إلى أحد المصارف، وكان مدير المصرف نصرانيا، فقال: اخصم لي هذه السندات، (علماً أن هذا ربا معكوس)، فنطق مدير هذا المصرف قائلاً: يا أبا فلان، أنت مسلم، وهذا حرام في ديانتك، فقال: كأنه صفعني, أنا أتلقى النصيحة من إنسانٍ غير مسلم، وفي ديني!
قال: والله عندها بكيتُ، فخرجت وأنا أنزل الدَرَج, وأقول: والله يا رب، لا أريد هذا البيت، وسأبقى في بيتي، ولن أعصيك ، وانتقل من المصرف إلى محلِّه بالحريقة، وما أن وصل إلى محله حتى فوجئ بصديق له ينتظره ، لم يره منذ زمن، فقال له: أين أنت يا أبا فلان؟ لقد انتظرتك نصف ساعة، إني ذاهبٌ إلى الكويت، ومعي ستون ألف ليرة سورية، اتركها عندك، وأُنشدك الله أن تستعملها عند حاجتك لها، فالردّ جاء بعد نصف ساعة، أنت قُلْتَ: يا رب لا أريد البيت، ولا أعْصيك، فهل يتْرُكُك الله؟.
أيها الأخوة, الامتحان لا يطول، إلا أنّ الله يحِبّ منك هذه الكلمة: يا رب لن أعْصِيَك، هذه الدنيا تحت قدمي، فإذا جاءك الشيطان, وقال لك: أنت إذا لم تسْلُك مسْلَكَ الرِّبا فسَتُصْبِح في الطريق، قُل: لا أعْصي الله، ولن يُضَيِّعني، فهذا هو المؤمن، والمنهج مُقَدَّسٌ عنده، وطاعة الله أغلى شيءٍ عند المؤمن .
انظر إلى خدمة ابن مسعود لرسول الله , علام يدل ؟
سيّدنا ابن مسْعود كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان يوقِظُهُ صلى الله عليه وسلّم إذا نام، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً, أيْ مُنْفَرِداً, وبالمناسبة هناك أشْخاص إذا رأوا من يُعَلِّمُونهم دائِماً على المِنْبر ووراء كُرْسي التدْريس وبِثِيابِهِ الأصوليَّة، يجد أنَّ الأمر على التَّمام
أما إذا ذهب في نُزْهَةٍ معه، ورأى شَيْخَهُ قد نام أو أكل، وجد في ذلك ضيقًا، وكأنَّ شَيْخَهُ ينبغي ألاّ يأكل وألاّ ينام، اُنْظر إلى سيّدنا ابن مسْعود كان صاحب الوِساد والسِّواك والنَّعْلين، يا عبد الله أين السِّواك؟ تجِدُهُ مُلَبِّيًا، فالإنسان له حياةٌ خاصَّة، ومهما كانَ عظيماً ؛ فهو ينام ويجوع ويأكل ويعطش ويغْضب, اللهم إني بشر، أغْضب كما يغْضب البشر، اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر، فكلما ارْتقى الإنسان بإيمانه لا تؤثِّرُ عليه الأمورُ الخاصَّة .
وعن عبد الله بن زيدٍ, قال:
((أَتَيْنا حُذَيْفة, فقُلْنا له: حدِّثْنا بِأقْرب الناس لِرَسول الله هَدْياً وسَمْتاً؛ لِنَأخذ عنه ونسْتَمِعَ عنه، فقال عبد الله بن زيدٍ: كان أقرب الناس لِرسول الله صلى الله عليه وسلم هدْياً وسمْتاً عبد الله بن مسْعودٍ))
أيها الأخوة, نحن كَمُؤْمنين لنا المثَلُ الأعلى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمؤمن العَنيف والقاسي الذي لا يَتَحَمَّل، يضْرب ويَسُبُّ, فهو إذًا ليس مُقْتَدِياً بِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم، نحن إذا أخَذْنا السيرة، وقرأْناها إنما للاقْتِداء به صلى الله عليه وسلَّم، والاسْتِفادة منه . المرتبة الإيمانية التي حازها ابن مسعود من رسول الله :
فاسمعوا ثناءَ النبي عليه الصلاة والسلام على عبْد الله بن مسْعود، عَنْ عَلْقَمَةَ, قَالَ:
((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِعَرَفَةَ, فَقَالَ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ, وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرَّحْلِ, فَقَالَ: وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ ينطفئ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا, ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ, وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ, (أي يسهر), عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ, فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ لَهُ: سَلْ تُعْطَهْ, سَلْ تُعْطَهْ, قَالَ عُمـَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ, قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ, وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ))
[أخرجه أحمد في مسنده]

لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يسْتمع إلى قِراءَتِهِ، ويطْرب لها، مع أنَّ القرآن أُنْزِل عليه، وبالمناسبة أقول لكم: كلما ارتقى حالك طربْتَ لقراءة القرآن، وكلكم يعلم هذه الحقيقة، فأحيانا تقرأ القرآن فلا تجد طلاقة، ولا تجد انسيابا وطربا وشوقا وترنُّما، أحيانا تقرأ القرآن تطرب أنت لصوتك, و قد يكون صوتك عاديا، حدثني مرّة أخٌ أنّ منشدا كان لا ينشد إلا بدرهم، و لا يسكت إلا بدينار، البداية بدرهم، أما السكوت فبدينار، وهذا صوته معروف، فالمؤمن إذا كان صافي القلب
و إذا كان له عملٌ طيِّبٌ، له قراءة شجيّة يطرب لها هو قبل غيره، فقرّاء القرآن لهم ساعات صفاءٍ، و ساعات تحليق وتجل، فالساعات النادرة عند قراء القرآن يكون فيها تجلٍّ من الله عز وجل, فقال عمر: والله لأغدوَنّ عليه فلأبشِّرنه، قال: فغدوت عليه فبشّرته، فإذا أبو بكر قد سبقني إليه فبشّره، كم هم يحبون بعضهم بعضا؟ إذا جاء أخاك خبرٌ طيّبٌ من رسول الله، فرأسا بشِّره به، وبالمناسبة فما علاقتنا بالموضوع؟ أحيانا يرى الإنسان رؤيا طيِّبةً، رؤيا صالحة، فلْيقصُّها على أخيه ولا يسكت عنها، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستٍّ وأربعين جزءاً من النبوّة ، يراها المؤمن أو تُرى له، فإذا رأى الإنسانُ رجلاً مؤمنًا يحبُّه في حالة مع الله طيِّبة، في مظهر يرضي، برمزٍ واضحٍ فلا يسكت عن ذلك، هذه بشرى من الله عز وجل .
فعَنْ أُمِّ مُوسَى, قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِي اللَّه عَنْهُ, يَقُولُ:
((أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَضْحَكُونَ لرجل عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ))
[أخرجه أحمد في مسنده ]
شهادتا عمر وعلي لابن مسعود بالعلم :
فسيّدنا عُمَر أيها الأخوة، خرج من المدينة لِيَسْتَقْبِلَ بِلالاً, وكان أصْحابُ النبي صلى الله عليه وسلَّم عليهم رِضْوان الله إذا ذكروا بِلالاً، أو إذا ذكروا الصَّديق, قالوا: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أحْياناً أهْل الفجور وأهل الدنيا ينقدون المؤمنين أنهم لا ينْطِقون باسمٍ لِصَحابي إلا ويَقولون سيّدنا، أما الكُتاب العادِيِّين, يقولون: جاءَ مُحَمَّد -هل تظنّ أنه رفيقك؟- قُلْ: سيّدنا محمّد، والله يا أخواننا, هذا شخص مُسْلِم ابن مُسلم زارَ مصرَ, يقول لِشَخْصٍ آخر: أين قبر محمّد؟ فقيل له: أنت بِمِصْر، فقال: أو ليس قبْرُهُ هنا؟ قال لي هذا الكلام: شخْصٌ أثِقُ بِكَلامه, فالصحابة الكِرام كانوا يقولون عن سيّدنا أبي بكر: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أيْ بلالاً، فسيِّدُنا عمر كان جالِساً، فَجاء ابن مسْعود فقال رضي الله عنه: إنَّهُ رجُلٌ ملئ عِلْماً، أحْياناً الإنسان يتَعَلَّم, يحضر مجالس العِلم بالتفْسير والحديث والسيرة، ويحضر خُطب الجُمُعة، ويقْرأ ويُطالع حتى يشْعُر أنّ كلّ خَلِيَّةٍ في جسمِهِ تنْطِق بعلم، فمرْتَبَةُ العِلم مرْتَبَةٌ عاليَة، ولن تعْرِفَ مرْتبة عِلْمِك حتى تُجالِس جاهِلاً .

أذكرُ مرةً كُنت أوَدُّ أنْ أُسافر إلى بلدٍ، فكان لي قريبٌ قد سافر إلى البلد الذي أقصده بِسَيارَتِهِ الشَّخْصِيَّة، فَعَرَضَ عليَّ, فَقُلْتُ: لا مانع من صحبتك، فَرَكِبَ بجانبه صديق له من كِبار التُّجار، لكنَّهُ من الجَهْل بِمَكانٍ كبير، فأنا رَكِبْتُ واسْتَمَعْتُ طوال الطريق إلى حديثهما؛ حينما وَصَلْنا إلى البَلْد الذي نقصده بعد خمْس ساعات، تَمَنَّيْتُ أنْ آكلَ خُبزاً يابِساً طوال حياتي، ولا أكون بِهذا الجَهْل الذي يتمتَّعُ به هذا الغَنيّ! سُخْف على ضيق أُفُقٍ، وعلى أنانِيَّة، وعلى جَهْلٍ مُطْبِق، لكِنَّهُ غنِيٌّ .
فاعلموا أنّ رتبة العلم أعلى الرُّتب، فلذلك الكفاءة في الزواج مطلوبة، فالذي عنده فتاة مؤمنة تعرف علوم القرآن والسنّة، وتُجيدُ دراسَتهما, فلا يتوَرَّط ويُزَوِّجها رجلا جاهِلاً، بهذا يكون قد قتلها, لأنّ الشهرة هي كُلّ شيءٍ في حَياته، فهذه لا بد لها من زوجٍ مؤمنٍ راقٍ يعْرف قيمتها، وقيمة دينها وقُرآنها، جاءَتني رسالة عن الخُطبة الإذاعِيَّة الأخيرة، فتاةٌ من الحَسَكَة، فَبَعَثَتْ رسالة إلى جامع النابلسي فَقَرَأْتها, فقالت: لي مُشْكِلَة فهل تُوافق أن أَعْرُضها عليك؟
فقلتُ: فأخبرتها أني مُوافق، عندها جاءَتْني رِسالة مُطَوَّلَة, فتاةٌ مؤمنة حافِظة لِكِتاب الله، وهناك رجُلٌ ضرير، كذلك مؤمن تطَوَّعَتْ أنْ تتزَوَّجَهُ, طبْعاً أنا أكْبرتُ هذا المَوْقف، إذْ إنَّ هذا الضرير لعلّ له شأنًا عند الله عز وجل، وفتاةٌ تامَّةُ الخلق، ومن أُسْرة، ولكنّ أرادَتْ أنْ تُضَحي، وأنْ تكون زوْجَةً لِهذا الضرير، فهذا الضرير أسْكنها في بيْتٍ صغير، وأهل هذه الفتاة أصروا على أنْ ترفضه، وأنْ تعود إليهم، وهي مُصِرَّة على أنْ تبْقى معه، وتسألني ماذا أفعل؟ قُلْتُ: والله هذه بُطولة, امْرأةٌ تحفظ كتاب الله عز وجل, واخْتارَتْ رجلاً ضريراً مؤمناً، طبْعاً هي لم تخْتَرْهُ لأنه ضرير فقط، وإنما لأنه مؤمن، فالمرأة الصالحة العالمة لو أننا أردْنا أنْ نُقَدِّر دينها لكانَ مهْرُها مئة مليون أو أكثر, لأنها تحْفَظ دينك وأولادك، والعبرة أنَّ جَمْعَ الجاهل مع العالم أمْرٌ صَعْبٌ .

لقِيَ سيّدنا عمر ركْباً في سفَرٍ له فيهم عبد الله بن مسْعود، فأمَرَ عمرُ رجُلاً يُنادِيهم، من أين القَوْم؟ فأجابه عبد الله: أقْبَلْنا من الفجِّ العميق، فقال عمر: وأين تُريدون؟ قال عبد الله: البيتَ العتيق، قال عمر: إنَّ فيهم عالِماً من كلّ فجٍّ عميق أرادوا البيتَ العتيق، وأمر الرجل فناداهم, وقال له: سَلْهُم أيُّ القرآن أعْظم؟ فأجابه عبد الله: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، ثمّ ناداهم: أيُّ القرآن أحْكم؟ قال: إنّ الله يأمر بالعَدْل والإحْسان، فناداهم: أيُّ القرآن أجْمع؟ قال: فَمن يعْمل مثقال ذرةٍ خيراً يره, ومن يعْمل مثقال ذرّةٍ شراً يره، قال: نادِهِم، أيُّ القرآن أخْوَف: ليس بِأَمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْل الكِتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ به، قال عمر: نادِهـِم، أيُّ القرآن أرْجى؟ قال ابن مسْعود : يا عِبادِيَ الذين أسْرفوا على أنْفسهم لا تقْنطوا من رحمة الله، فقال عمر: نادِهِم، أفيكم ابن مسْعودٍ؟ قالوا: نعم. فالذي اسْتَوْعَبَ القرآن كلَّه, إنّه لعالِم، فالماهر بالقرآن مع النبيّين والصِّديقين يوم القِيامة .
سئِلَ عليٌّ كرَّم الله وجْهه عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, فقال:
((عن أيِّهم تسْألون؟ فقالوا: أخْبِرنا عن سيّدنا عبد الله بن مسْعود, فقال سيّدنا عليّ: علم القرآن وعلم السنَّة ثم انتهى، وكفى به عِلْماً))
إذا الإنسان درس القرآن وتعلَّمَهُ، ففيه كلُّ شيءٍ وهو كلامُ خالق الكَوْن، وهو الكِتاب المُقَرَّر، وحبْل الله المتين، والنور المُبين، والصِّراط المُسْتقيم . أقوال أخرى للصحابة يبينون فضل علم هذا الصحابي الجليل :
حينما مات هذا الصحابيّ الجليل، كان الصحابة يسْألون: أترك مثلهُ؟ وكان الجواب: لا، فسيّدنا أبو موسى الأشْعري, قال:
((لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم))
فإذا سُئِلَ الإنسانُ وكان من هو أعلمُ منه فالأدَبُ ألاَّ يجيب، أحْياناً يكون في الجلسة طبيب، ويسأل مريض سؤالاً، فإذا بك تجد من يجيب والطبيب أمامه, اِحْتَرم الطبيب، فأنت لا شيءَ أمامه، أحْياناً السؤال شرْعي وتجد من يتجرَّأُ ويجيب, هذا سوء أدب، والمفْروض إذا وُجِد من هو أعلم منك, تقول: سلْ فُلاناً، لذلك سيّدنا أبو موسى الأشْعري, قال: ((لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم))

يُسْتَنْبَط من هذا الكلام أنّ أصْحاب النبي كان يعْرف أحدهم حقَّ الآخر، والمؤمنون يتعاوَنون، ولا يتنافَسون، ولا يتحاسدون, ولا يتباغَضون، وأجمل منظر أراهُ في حياتي حينما أجد الدعاة إلى الله مُتعاوِنين، ويَحْترمُ بعْضهم بعْضاً، ويُجِلُّ بعضهم بعضًا، ويتعاوَنون على مصْلحة المسْلمين العامة، أما حينما أراهم يتنافسون ويتحاسَدون ويتراشقون التُّهَم، وكُلُّ واحدٍ منهم يرى أنَّهُ هو الإمام في الدين، وأنَّ الله جلّ جلاله له وحْده، وأنَّ جماعته هم على الحقّ، وأنهم هم الفرقة الناجِيَّة، وما سِواهم إلى النار, فهذه نظْرة سخيفة، فيجب أن يكون انْتِماؤُك إلى جميع المؤمنين، وكلُّ إنسانٍ عقيدته صحيحة، وسٌلوكُهُ مُنْضَبِط فهُو على عَيْني ورأسي، واْحتَرِمُهُ وأُجِلُّهُ .
وعن شقيقٍ, قال: كنت قاعِداً مع حُذَيْفَة, فأَقْبل ابن مسْعودٍ: فقال حُذَيْفَة: ((إنَّ أشْبه الناسِ هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم من حين يخْرجُ من بيْتِهِ إلى أنْ يرْجِع، ولا أدري ما يصْنع في أهْله لَهُوَ عبد الله بن مسْعودٍ؛ ووالله لقد عَلِمَ المَحْظوظون من أصْحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم أنّ من أقْربهم إلى الله تعالى وسيلَةً يومَ القِيامة هو عبد الله بن مسْعودٍ))
ماذا يقول ابن مسعود عن نفسه ؟
يقول سيّدنا عبد الله بن مسْعودٍ عن نفْسه:

((والله الذي لا إله إلا هو، ما نزلَتْ آيَةٌ في كِتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ، وفيمَا نزَلَتْ، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم بِكِتاب الله منِّي تنالُهُ المَطِيُّ لأتَيْتُهُ))
فما مِن آيةٍ إلا وهو يعلم أين نزلت؟ وفيما نزلت, ومتى نزلتْ, هذا هو المؤمن، إما أنْ تعرف، وإما أنْ تتعلم على من يعرف، وإياكَ أنْ تتكَبَّر، أما ألاّ يتعلَّم يدَّعي المعْرفة فهذا شيْطان، ومن الناس من يدْري ويدْري أنَّهُ يدْري فهذا عالمٌ فاتَّبِعوه، ومنهم من يدْري ولا يدْري أنه يدْري فهذا غافِلٌ فنَبِّهوه، ومنهم مَن لا يدْري ويدْري أنه لا يدْري فهذا جاهِلٌ فَعَلِّموه، ولكنْ أخْطر واحد أنَّ منهم مَن لا يدْري ولا يدْري أنَّهُ لا يدْري فهذا شيْطانٌ فاحْذَروه، وهذا نِصْف العالِمِ، وهو خطيرٌ, لا هُوَ عالمٌ فيَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، ولا هو جاهِلٌ فَيَتَعَلَّم . انظر إلى حسن تصرفه مع جسده حتى لا يضيع حق الله عليه :
قال تميمُ بن حَذْلَم:
((جالَسْتُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم, وما رأيْتُ أحداً أزْهَدَ في الدنيا، ولا أرْغَبَ في الآخرة، ولا أحَبَّ إليَّ أنْ أكون فيه مِن والِهٍ منك يا عبد الله بن مسْعود ، جالَسْتُ أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَوَجَدْتُهُم كالإيخاذ, والإيخاذ يرْوي الرَّجُل والرَّجُلَيْن والإيخاذ يَرْوي المئة، والإيخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصْدرهم ؛ فَوَجَدْتُ عبد الله من ذلك الإيخاذ))
فهناك مُجَمَّعُ ماءٍ يرْوي شَخْصاً واحداً، وهناك مُجمَّع يرْوي المئة، وجمّع آخر يروي ألفًا، ومجمع لو جاء أهل الأرض كلهم لارْتَوَوا منه، فابن مسْعودٍ من النوع الأخير .
قال عبد الله بن يزيد: ((ما رأيْتُ فقيهاً قطّ أقَلَّ صَوْماً من ابن مسْعودٍ، فقيلَ له: لمَ لا تصوم, فقال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة))

فَكُلّ شخْصٍ له مزاجُهُ، أحْياناً تجد شخْصاً يتوافق مزاجُهُ مع الصِّيام، وبِالمُقابل تجد أنَّ الآخر إذا صامَ تعَطَّل عن كُلّ أعْماله وتُجَمَّدُ، ولا يسْتطيع أنْ يفْعل شيئاً, فَسَيِّدُنا ابن مسْعودٍ كانَ واقِعِياً: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة، يبْدو أنَّ تِلاوَتَهُ وقِراءَتَهُ وصلاته وعمله الصالح لا ينْشط لها إلا وهو في الإفْطار، لذلك كان أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في سَفَرٍ، بعضُهُم صام وبعضهم الآخر أفْطر, وأجْمَلُ شيءٍ في هَذه الرِّواية, قال: إنَّ الذين صاموا لم يأخُذوا على الذين لم يصوموا، والذين لم يصوموا لم يأخذوا على الذين صاموا، أما الآن إذا صام أحدُهُم عاشوراء، كلما الْتقى بِشَخْصٍ, يقول له: ألَسْتَ صائِماً اليوم؟ ألَسْتَ كذا وكذا؟ يُشْهِّر نفسه في هذا اليوم، ويرى أنَّ من لم يَصُمْهُ كأنَّهُ قد ارْتكب جريمة, وهناك أشْخاص ألَمَّ بهم المرض، وآخرون مُتْعَبون، وذاك معه قَرْحَة في المِعدة، فَكُلُّ واحدٍ له وضْعُهُ الخاص، فلا تتَدَخَّل، أنت عليك الفرائِض، فإذا وَجَدْته في رِمَضان مُفْطِراً فعليك أنْ تُؤاخِذَهُ، أما فيما عداه فَكُلُّ جِسْمٍ له مزاج ووضْع، هناك أعْمالٌ شاقَّة، اُنْظر إلى سيّدنا عبد الله بن مسْعود, قال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة .
سؤال وجه إلى ابن مسعود :
مرَّ أحد الصحابة بِسَيِّدِنا عبد الله بن مسْعودٍ بِسَحَرٍ, وهو يقول:
((اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي))
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح]

وهذه نصيحَتي لكم جميعاً, إذا ضاقَتْ الأُمور، وتريد من الله عطاءً أو فَرَجًا، وكانت الأمور مُعَسَّرة، فعليك ثُلُثُ الليل الأخير:

((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))
[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح]
قال ذلك الصحابيُّ الذي سمع ابنَ مسعود يدعو سحَرًا:
((فلما أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عليه وسألته، فقال: إنَّ يعْقوب لما قال لِبَنيهِ سوف أسْتَغْفِرُ لكم أخَّرَهُم إلى السَّحَر- اُنْظر إلى الفَهْم الدقيق- سيّدنا يعْقوب, قال: سوف أسْتغْفر لكم ربي, ولماذا لم يقُل: سوفَ أسْتغفر لكم الآن؟ قال: لأنَّهُ يعْلم أنَّ وقْتَ السَّحر وَقْتَ إِجابة))
ولذلك دعا ابن مسعود في السَّحَر, قائلاً: ((اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي))


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:33 PM   #3


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثالث )

الموضوع : سيدنا طلحة بن عبيد الله و سيدنا الزبير بن العوام



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما العبرة من دراسة سير الصحابة ؟
أيها الأخوة الأكارم، ما دام الإنسان مخلوقاً للدار الآخرة وللسعادة الأبديَّة, فأثْمَنُ شيءٍ في هذه الدنيا أنْ يرْضى الله عنه، وهو الذي سوف تكون في رِحابِهِ إلى أبد الآبِدين، حيث كان الأمر مع الصحابة رضي الله عنهم بِنَصِّ القرآن الكريم
قال تعالى:

﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾
[ سورة الفتح الآية: 18 ]
فإذا درَسنا أفْعال الصحابة ومواقِفَهم وصِفاتِهم وسجاياهُم وتَضْحِياتِهم لا نقْصِدُ من هذه الدِّراسة مجرّد الاطِّلاع، ولكن نقْصِد أن نتأسى بهم، وأن نقْتَدِيَ بهم, وأنْ نجْعَلَهم مُثُلاً عُلْيا لنا، فَلِذلك حينما ندْرس تاريخ الصحابة ينْبغي أنْ تبْقى هذه الفِكْرة ماثِلَةً في أذْهاننا، نحن أمام النموذج الذي رضي الله عنه، ماذا فَعَلوا؟ وماذا قالوا؟ ولِماذا وقفوا هذه المواقف؟ .
في سيرة الصحابة شيئان: أحْداثٌ و تَحْليلات، فَنحن قد نُعْنى بالتحْليلات أكثر مما نُعْنى بالأحْداث؛ لأنّ التحْليل هو القانون والضِّياء والتحْليل وهو النِّبْراس .
المواقف المشرفة التي قدمها الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله في خدمة الإسلام وأهله :
أبو محمّد طلْحَةُ بن عُبَيْدِ الله، هذا صحابيٌّ جليل بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم مع سعيد بن زيدٍ قبل خُروجِهِ إلى بدْرٍ، يتَجَسَّسان خبرَ العِير، فَمَرَّتْ بِهما، فَبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم الخَبَرُ، فَخَرَج ورجعا يُريدان المدينة، ولم يعْلما بِخُروج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم فَقَدِما في اليوم الذي لاقى فيه النبي صلى الله عليه وسلّم المُشْركين، فَخَرَجا يعْتَرِضان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَلَقِيَاهُ مُنْصَرِفاً من بدْرٍ، فَضَرَبَ لهُما بِسِهامِهِما وأَجْرِهِما، فَكانا كَمَن شَهِدَها.

فالنبيّ عليه الصلاة والسلام يقودُ أُمَّتَهُ قيادة فذة، فالمَعْلومات شيءٌ مُهِمٌّ, فقد بعثَ النبي صلى الله عليه وسلّم طلْحَة مع صحابِيٍّ آخر لِيَأْخُذا خبر العَدُوِّ، فالخبرُ في المعْرَكَة له قيمَةٌ كبيرة، ولا تنْسَوا أيها الأخوة، أنَّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أبْقى عَمَّهُ العباس في مكَّةَ يوْمَ كان المُشْركون يتولَّوْن أمْرهم، لِيَأتيهِ بالأَخْبار، فقد كتَمَ إسْلامه، وكتَمَ العَباسُ كذلك إسْلامه، ولم يُفاجأ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَيِّ حدثٍ من قريْشٍ، لأنَّ المعْلومات كانت تأتيهِ تِباعاً من عمِّهِ العباس ، لكن وقعتْ مُشْكِلةٌ في مَوْقِعَة بدْر حينما شارك العَباس المُشْركين في هذه المَوْقِعة، فلو لم يُشارِك لَكُشِفَ أمْرُهُ، ولو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام, قال: لقد أسْلَمَ عمِّي لَكَشَفَهُ، وانْتَهتْ مُهِمَّتُهُ، ولكنَّهُ قال: لا تقْتُلوا عمِّي العَباس، ولو لم يقُل ذلك لَقَتَلَهُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، إنْ تكلَّمَ العباسُ كَشَفَ أمْرهُ، وإنْ لم يُشارِك في المعْركة كُشِف، وإنْ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم أسْلم كَشَفَهُ المشركون، وإنْ سكت صلى الله عليه وسلَّم قتلَهُ أصْحابُهُ
فلا بدّ من تنْبيه الصحابة ألاّ يقْتُلوا عمَّهُ العَباس، وكان من جراء ذلك أنَّ صحابِيًّا أساء الظنّ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال: ينْهانا عن قَتْلِ عمِّهِ، وأحَدُنا يقْتُلُ أباهُ وأخْوانهُ! فلما كُشِفَ له الأمر بَقِيَ عشْرَ سِنين يتصَدَّقُ ويُعْتِقُ الرِّقاب، لعلَّ الله يغْفِرُ له سوءَ ظَنِّهِ بِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمعْلومات ضروريَّةٌ في أيِّ قِيادة، والنبي صلى الله عليه وسلَّم أرْسَلَ طلْحَةَ بن عُبيْدِ الله لِيأْتِيَهُ بالأخْبار، لأنَّ قرارَ المعْركة أساسه الخبرُ الصحيح، والحَرْبُ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((الْحَرْبُ خَدْعَةٌ))
[أخرجه البخاري عن جابر في الصحيح]
شَهِدَ طلْحَةُ أُحُداً، وثبتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئِذٍ، ووقاهُ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ إصْبعاهُ، وجُرِحَ يومئِذٍ أربعاً وعشرين جِراحَةً، ويُقال: كانت فيهِ خَمْسٌ وسبْعون بين طعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ، وسَمَّاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومَ أُحُدٍ (طلْحَةَ الخَيْر)، وسمَّاه يومَ غزْوة ذات العُشَيْرة (طلْحَةَ الفياض)، وسمَّاه يوم حُنَيْنٍ (طلْحَةَ الجود)، فهذه مواقف مُشَرِّفَةٌ وقفها هذا الصحابِيُّ الجليل .
ما الذي ينبغي أن تفعله أيها الإنسان قبل مضي الزمن ؟
أيها الأخوة, إنَّ الأحْداثَ تمْضي، والآلام تنْتهي، والمَوْتُ يُنْهي كُلّ شيءٍ، وتَبْقى المواقِفُ المُشَرِّفَة التي يسْعَدُ بها الإنْسانُ إلى الأبد، وكُلّ شيءٍ ينقضي
فاللَّذائِذُ تمْضي وتبْقى تَبِعاتُها، والمتاعِبُ تمْضي وتبْقى خَيْراتُها .
قرأْتُ كِتاباً عن تاريخ العَرَب, وهو كِتابٌ أدَبيٌّ مُمْتِعٌ اسْمُهُ: قَصَصُ العَرَب، فيه من القِصص المُمتِعة الشيءُ الكثير، بعد أنْ أنْهَيْتُ قِراءَته تأمَّلْتُهُ تأَمُّلاً طفيفاً, قُلْتُ: هؤلاء الذين قرأْتُ عنهم، الأقْوِياءُ ماتوا، والضُّعفاء ماتوا، والأغنياءُ ماتوا، والأصِحاءُ ماتوا، والمرْضى ماتوا، والأذْكياءُ ماتوا، والأغْبِياء ماتوا، والظالمون ماتوا، والمظْلومون ماتوا، وكُلُّهم تحت أطْباق الثرى ؛ ماذا بَقِيَ الآن؟ بَقِيَتْ مواقِفُهُم التي سَيُحاسَبون عليها, إنْ خيراً فَخَيْرٌ، وإنْ شراً فَشَرٌّ، ونحن لا بد من يومٍ نكون فيه تحت أطْباق الثرى، هذا الوقت, كيفَ أمْضَيْتَهُ؟ في طاعَةٍ أم في معْصِيَةٍ, ماذا فَعَلْتَ؟ وماذا أدَّيْتَ؟ وماذا قَدَّمْتَ؟ وماذا أعْطَيْتَ؟ وبِماذا ضَحَّيْتَ؟ وما الأثر الذي تَرَكْتَهُ؟ .
هذه النُّقْطة مُهِمَّةٌ, يجب أن نذْكرَ دائِماً أنَّ الأيام والأسابيع والشهور والسِّنون تمْضي، ويبْقى شيءٌ واحدٌ, هو العَمَل، إما في جنَّةٍ يدومُ نعيمُها، أو في نارٍ لا ينْفَدُ عذابُها .
إليكم مناقب هذا الصحابي الجليل :
فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ, قَالَ:
((كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ, فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ, فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ, فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
أيْ وجَبَتْ له الجنَّة, لأنَّهُ ماذا فعَلَ؟ أظْهر من المواقفِ والتَّضْحِيات الشيءَ الذي لا يوصَفُ، فَطَلْحَةُ برَك على الأرض، وصعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لِيَرى بعض ملامِحِ المعْركة، فجَعَلَ من نفْسِهِ كُرْسِياً للنبي عليه الصلاة والسلام .
وقالتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: ((كان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذُكِر يومُ أُحُدٍ، قال: ذلك كُلُّهُ يوم طلْحة))

وقال أبو بكرٍ رضي الله عنه:
((كُنْتُ أوَّلَ من جاءَ يومَ أُحُدٍ, فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام ولِأبي عُبَيْدة بن الجراح: عَلَيْكما به (يُريدُ طلْحة) وقد نزفَ، فأصْلَحْنا من شأنِ النبي صلى الله عليه وسلَّم، ثمَّ أتَيْنا طلْحة في بعض تِلك الحِفار فإذا به بِضْعٌ وَسَبْعون أو أقَلَّ أو أكثر، بين طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَة! وإذا قد قُطِعَتْ إصْبعُهُ، فأصْلَحْنا من شأنِهِ))
فقد بذَل سيّدنا طلْحة في غزوة أُحد الشيء الكثير . ((النبي عليه الصلاة والسلام دَمِيَتْ يدُهُ في الخَنْدَق، فعَنْ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ, قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبـِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إصْبُعُهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
قَالَ: وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام, فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾))
[أخرجه الترمذي في سننه]
طلحة من أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه :
عن موسى بن طلْحة عن أبيه طلْحةَ بن عُبَيْد الله, قال:
((لما رجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أُحد صَعِدَ المِنْبر, فَحَمِدَ الله وأثْنى عليه, ثمّ قرأ هذه الآية قال تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
[ سورة الأحزاب الآية: 23 ]

فقام إليه رجُلٌ, وقال: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال سيّدنا طلْحة: فأَقْبَلْتُ وعليَّ ثوْبان أخْضران, فقال عليه الصلاة والسلام: أيُّها السائل, هذا منهم وأشار إلى سيّدنا طلْحة)) ألا تَكْفي هذه الشهادة من رسول الله، أحْياناً يقول لك شخْصٌ: معي شهادة موقَّعة من البروفِيسور الفُلاني، وهو أكبر جراح في العالم، يُمْكن أنْ يفْتَخر بِهذا افْتِخاراً لا حُدود له، فَكُلَّما ارْتفع مقامُ الذي يُثْني عليك يكون لِهذا الثناء قيمة، فكيف إذا أثْنى عليك النبـي عليه الصلاة والسلام؟ .
لو أرَدْنا أنْ نسْتفيد من هذا المَوْقف، حينما يُشْعِرك الله عز وجل بِطَريقَةٍ أو بِأُخرى, بِرُؤْيا أو ثناءٍ صادِقٍ من أهل الحق أو بِسَعادةٍ يُلقيها في قلبك أنه راضٍ عنك, فهذه أسْعد لحظات المؤمن .
وبِالمُناسَبَة كلِمَةُ (رجُلٍ) في القرآن والسُّنَّة لا يعْني في الأعَمِّ الأغلب أنَّهُ ذكَرٌ، بل يعْني أنَّهُ بطلٌ، وفي أقْوال الصحابة الكِرام ما يدْعَمُ هذا المعْنى، فسيَّدنا سعدُ بن أبي وقاصٍ, قال: ((ثلاثة أنا فيهِنَّ رجُلٌ ( أيْ بطل) وما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ من الناس, ما صَلَّيْتُ صلاةً فَشُغِلَتْ نفْسي بغيرها حتى أقْضِيَها، ولا سِرْتُ في جنازَةٍ فحَدَّثْتُ نفْسي بِغَيْر ما تقول حتى أنْصَرِفَ منها, ولا سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى))
فالرُّجولة أنْ تُصَدِّقَ أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام، والرُّجولةُ أنْ تُصَلي صلاةً كما أرادها الله عز وجل، والرُّجولة أنْ تتَّعِظَ بِالمَوت، لأنَّ الموت كما قال عُمَر: ((كفى بالموت واعِظاً يا عُمر))
هل يرفع الإنسان مقامه عند الله إذا حصل على شهادة الرضا أو الذم من الناس ؟
أيها الأخوة, قلت قبل قليل: المصير إلى الله عز وجل، فحينما يُدْفَنُ العبد في القبر يقول الله عز وجل: عبدي رجَعوا وتَرَكوك، وفي التُّراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبْقَ لك إلا أنا، وأنا الحيّ الذي لا يموت .
ذكروا في الأخبار أنهم كشَفوا إنْساناً تحت أنْقاض الزِّلْزال, بقي حيًّا بعد إحْدى وثمانين ساعة، وإلى جانِبِهِ امْرأته وأُمُّهُ قد ماتتا، شُعور الإنسان حينما ينْهار عليه البيت، ويُصْبِحُ تحت الأنْقاض, هذا شُعورٌ مُخيف، لماذا نخاف الزِّلْزال ولا نخاف القبر؟ أليس القبر يُشْبِهُ بِشَكْلٍ أو بِآخر دمار الزِّلْزال؟ يوضع الإنسان في هذه الحُفْرة ثمّ يُهيل عليه الحُفَّارُ التراب، وينْصرفُ الناس عنه, هذا معنى رجَعوا وتَرَكوك، وفي التُّراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبْقَ لك إلا أنا ، وأنا الحيّ الذي لا يموت
فما دام المصير مع الله، في جنَّةٍ عرْضُها السموات والأرض أو -والعِياذ بالله- في نارٍ لا ينْفذ عذابها، فأثمن شيءٍ في الدنيا، وأعظمُ مرْتَبَةٍ تنالها أنْ يرضى الله عنك, الله عز وجل يُعْطي القُوَّةَ لِأُناسٍ ولا يُحِبُّهم، ويُعْطي المال لِأُناسٍ ولا يُحِبُّهُم، ولكن إذا رضي الله عنك فهذا أعظمُ مَطْلَبٍ تناله .
فَنَحْنُ الآن ندْرسُ سيرة الذين رضي الله عنهم, ماذا فعلوا؟ أحْوالهم وأفْعالهم وأعْمالهم ومواقِفُهم, مِن هذا المُنْطَلَق، سيِّدنا طلْحة لو تحَدَّثْنا عنه مئة مرَّة، هل يزْدادُ مقامُهُ عند الله عز وجل؟ لا واللهِ، وكذلك لو سَكَتْنا عنه, هل يُنْقُصُ مقامُهُ؟ لا، ولو أنَّ رجُلاً ذمَّه, هل ينْقُصُ مقامُهُ؟ مقامُهُ هو مَقامُهُ، كُلُّ إنْسانٍ بِحَسَبَ إخْلاصِهِ وعملِه, وله عند الله مقامٌ ومَكَانة، وهذه المكانة لا يرْفَعُها المادِحون، ولا يَخْفِضُها الذامون، فَلو أنَّ الناسَ جميعاً أثْنوا عليك، ولم يكُن خالقُك راضٍ عنك فأنت الخاسِرُ الوحيد، ولو أنَّ الناس جميعاً ذَمُّوك وأنت عند الله مَرْضيٌّ، فكُلّ هذا عند الله لا قيمة له‍، فنحن ندْرس مواقف الذين رضي الله عنهم .
كيف نؤول كلمة رضا الله على الإنسان ؟
أيها الأخوة, فَرِضا الله عليك قد يكون بالتيْسير لك, فالأمور مُيَسَّرة، قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾
[سورة الليل الآية: 5-13]

أحْياناً التَّيْسير علامة من علامة رِضا الله عنك، وأحْياناً إذا انْطلق لِسانُك في الدَّعْوة إلى الله ، ورأَيْتَ المعْلومات تزْدَحِمُ، واللِّسانُ طليق، والتأثيرُ قَوِيّ، قال تعالى:
﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾
[ سورة الكهف الآية: 51 ]
هذه علامة توفيق من الله لك .
لذلك هناك من يجْعل وِرْدَهُ ذِكر الله تعالى، لِقَوْله تعالى:﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾
[سورة الإنسان الآية: 25 ]
فإذا انْقَطَعَ نفَسُهُ, يقول: إلهي أنت مقْصودي، ورِضاك مطْلوبي، فإذا أردْتَ رِضاء الله في كُلّ أحْوالك انْقَلَبَت المُباحات إلى عِباداتٍ .
ما قيمة المال عند هذا الصحابي الجليل ؟
قال أحدُ الصحابة:
((دخَلْتُ على طلْحَةَ فرأيْتُهُ مغْموماً، فَقُلْتُ: ما شأنُك؟ قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني - ما هؤلاء الأشْخاص؟ إذا كثُر مالُهم أصابهم الكَرْب, لأنَّ المال عِبءٌ .
فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ, قَالَ:

((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ, وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ, وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَا وَضَعَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟))
[أخرجه الدارمي في سننه]

- فهذا الصحابي, قال: المال الذي عندي قد كثُر وكرَبَني، قُلْتُ: وما عليك, اِقْسِمْهُ، فَقَسَمَهُ حتى ما بَقِيَ منه دِرْهم

إنْفاق المال يُعْطي الإنسانَ سعادَةً كُبْرى، واللهُ يُعَوِّض، قال تعالى :﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
[ سورة سبأ الآية: 39 ]
اشترى طلحة أرضاً له من عُثمان بِسَبْعمئة ألفٍ، فَحَمَلها إليه، ولما جاء بها، قال: إنَّ رجُلاً تبيتُ هذه عنده لا يدْري ما يطْرُقُه من أمر الله لَغَريرٌ بالله، لأنَّ الله عز وجل يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾
[سورة الانفطار الآية: 6 ]

من عَدَّ غداً من أجَلِهِ فقد أساء صُحْبة الموت، هناك رجُلان اخْتلفا على بيْعِ بيْتٍ، وكَلَّفاني أنْ أكون بيْنهما حَكَماً, جَلَسْتُ معهما وقْتاً طويلاً، أحدُ الطَّرَفَيْن لم ينْصَاعْ لِحُكْمِ المحكمين، واسْتَمَرَّ الخِلاف أربع أو خمسَ سنواتٍ أو أكثر وأنا أُتابِعُ هذا الخِلاف، كُلِّفَتْ لجْنَةٌ ولجْنةٌ ومُحَكَّمون، والأمر يزْدادُ تخاصُماً، فأُخْبِرْتُ الأمس أنَّ أحدَ الخصْمَينِ توفاهُ الله عز وجل، هذه هي الدنيا، كلّ هذه المتاعب، ثمّ يأتي مَلَك الموت، ويُنْهي هذه المتاعب، فالإنسانُ عُمُرُهُ ثمينٌ، فإذا أمْضاهُ في الخُصومات، واسْتَهْلك أعْصابه ووقْته وحواسَّهُ وقُدْراته، فقد قامَرَ بسعادته الأبدِيَّة، وغامر في شيء زائل، فأكثر الدعاوي تبقى في القضاء سنوات عديدة، عشرًا أو نحو ذلك، وفي الأعمِّ الأغْلب يموتُ أحدُ المُتَخاصِمَين قبل أنْ يُفْصَل بالدعوى، فمن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صُحْبة الموت .
هذا الصحابي الجليل قُتِل يوم الجمل، عن عُمُرٍ لا يتجاوز الاثنين والسِّتين عاماً فيما تذْكُر الرِّوايات .
ترجمة عن حياة هذا الصحابي الجليل الزبير بن العوام :
صحابِيٌّ آخر اسمه الزُّبَيْر بن العَوام، هذا الصحابي كما ترْوي أُمُّهُ صَفِيَّة بن عبد المُطَّلِب عَمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسْلَمَتْ وأسْلم الزُّبير وهو ابن ثماني سنين، وقيل: ابن ست عشْرة سنة، فَعَذَّبه عمُّهُ بالدُّخان، لِكَي يتْرُك الإسلام فلم يفْعل، وهاجر إلى أرضِ الحَبَشَة الهِجْرَتين جميعاً، ولم يتَخَلَّف عن غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم .

يقول أحدهم: أنا لا أتَخَلَّفُ عن الدرس، ولكن ماذا في الدروس؟ لا عِبءٌ ولا تضْحِيَة ولا سَفْك دم، ومع ذلك لُزوم مجالس العِلْم عَمَلٌ عظيمٌ، وهذا الوقت زكاةُ وقْتِكَ كُلِّه، والله عز وجل قادِرٌ على أنْ يُضَيِّع لك عشرات الساعات بل المئات في الأمور التافِهَة، وإذا أدَّى القويُّ من قوَّته لِنُصْرة الحق فقد أدَّى زكاة قُوَّتِه، والمُتَعّلِّم إذا علَّم الناس أدى زكاة عِلْمِه، والخبير إذا أدى خِبْرَته للناس أدى زكاة خِبْرته، وطالب العلم إذا بذل وقْته لِمَعْرفة الله عز وجل فقد أدى زكاة وقْتِهِ، والحقيقة أنَّ كلَّ حظٍّ آتاك الله إياه فهو له زكاة، والدليل قوله تعالى:

﴿ومما رزَقْناهم يُنْفِقون﴾
(سورة السجدة الآية: 16)
وهو أوَّل من سلَّ سيْفاً في سبيل الله، وكان عليه يوم بدْرٍ ريقةٌ صفْراء مُعْتَجِراً بها، أيْ قُماشٌ أصْفر لَفَّهُ على رأسه، وكان على مَيْمَنَة رسول الله، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبايَعَهُ على الموْت، وفي الحقيقة حين يبْذل الإنسان حياته في سبيل الله فقد بذل أثمن ما يَمْلكه، والجود بالنَّفْس أقْصى غاية الجود .
من أبْنائِهِ المشْهورين: عبد الله بن الزبير، هذا الذي رآه عمرُ مع صِبْيَةٍ يلْعبون فَتَفَرَّقوا جميعا إلا هو، فلما وصَلَ إليه, قال:
((يا غُلام لما لم تهْرُب مع من هرَبَ؟ قال: أيها الأمير, لسْتَ ظالِماً فأخْشى ظُلْمَك، ولَسْتُ مُذْنباً فأخْشى عِقابك، والطريق يَسَعُني ويَسَعُك))
درجته في الإسلام :
تَرْوي كُتُب السيرة أنَّ إسلام هذا الصحابي الزبير بن العوام، كان رابِعاً أو خامِساً بعد إسْلام أبي بكرٍ، هؤلاء السابقون الأولون، والإنسانُ في ساعة العُسْرة إذا آمن فله حِسابٌ خاص، لذلك قال الله عز وجل:
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾
[ سورة آل عمران الآية: 113 ]

فالذي آمن مع النبي عليه الصلاة والسلام في أشدِّ حالات الضعْف والعُسْرة والضِّيق، والناسُ كلهم أعْداؤُهُ، وقُريش تكيد له، فهذا من ذوي البذل والتضحية، أما الذي يُسْلم بعد الفَتْح فالقَضِيِّة سهْلة، لأن هذا جاء للمغانم فقط، لكن البطولة أن تؤمن بالحق وهو ضعيف، والله عز وجل قادر أن يجعل الأنبياء ملوكا، فإذا دعوا إليه انصاع الناس إليهم جميعا خوفا لا إيمانا
ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الأنبياء ضعافا، حيث إنك لو قلت عنه: إنه مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر، فإنك تنام مساءً مطمئنّ البال، ولا شيء عليك, من أجل أن يكون مَن آمن به قد آمن به عن قناعة ما بعدها قناعة, وله أجرٌ عظيم، وهذا أيضا ينسحب بشكلٍ أو بآخر على الدعاة إلى الله، لأن هذا الداعي ليس عنده شيء، لا يقدر أن يعينك بمنصب، ولا يقدر أن يعطيك مالاً، وليس عنده أيّةَ ميزة، إلا أن الحق معه، فإذا اتبعته وسرت على منهج الله عز وجل بمعيته، ولم يأتك شيء من الدنيا فقد أثبت أنك مع الحق، فقوّة المؤمنين تكمن في أنهم آمنوا بالنبيّ وهو ضعيف، قال تعالى:

﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
[ سورة الأعراف الآية: 188 ]
إليكم مواقفه :
عن سعيد بن المسيّب, قال:
((أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينا هو بمكة - في اللغة العربية يصح أن تقول بينا, ويصح أن تقول بينما- بينا هو بمكة إذ سمع نغمة ، (يعني صوتاً) بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج عرياناً وما عليه شيء، وفي يده السيف مُصلتاً مسحوبا من غِمده، فتلقاه النبي، وقال له: ما لك يا زبير؟ قال: سمعت أنك قد قُتلتَ، قال: فماذا كنتَ صانعًا؟ قال: أردتُ واللهِ أن استعرض أهل مكة بهذا السيف، من شدّة حبّه للنبي عليه الصّلاة والسلام، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام))

باع الزبيرُ داراً له بستمئة ألف، قال: فقيل له: يا أبا عبد الله غُبِنتَ، قال: كلا, واللّه لتعلمنَّ أني لم أُغبَن, هي في سبيل الله .
أعجبني في هذا الموضوع موقفا رائعا، اختلف اثنان على مبلغ، كلٌّ يدّعي أنه له، وكان الحلُّ أن يُدفع هذا المبلغ لعملٍ صالح بكامله، وكل إنسان يأخذ أجره عند الله عز و جل بنصيبه الحقيقيِّ منه .
وعن عليِّ بن زيدٍ، قال: ((أخبرني من رأى الزبير, وإن في صدره مثلُ العيون من الطعن والرمي))
أحيانا يفتخر الإنسان بآثار خوضه للمعارك، وآثار خوضه للغزوات، كلها تشهد له يوم القيامة, كيف أن أهل المعصية تشهد عليهم جلودهم وأيديهم وأرجلهم, كذلك أهل الإيمان تشهد لهم؟ هناك فرقٌ كبير بين مَنْ تشهد لهم، ومَنْ تشهد عليهم؟ .
قال الزبير بن العوام: ((من استطاع منكم أن يكون له جَنْيٌ من عملٍ صالح فليفعل))
وهذا الموضوع دقيق, فكل إنسان له مقام عند الله بحجم عمله الصَّالح، فالإنسان يحاسب نفسه حساباً عسيرًا، فإن حاسب نفسه في الدنيا حسابا عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيرًا، وإن حاسبها حسابا يسيرا كان حسابه يوم القيامة عسيرا . إليكم وصيته لابنه عبد الله بن الزبير :
عن عبد الله بن الزبير, قال:

((جعل الزبيرُ يوم الجمل يوصيه, يقول: إن عجزتَ عن شيء فاستعن عليه بمولاي, قال: فو الله ما فهمتُ ما أراد حتى قلتُ: يا أبت من مولاك؟ قال: الله -والإنسان كلما قوي إيمانه تمتَّنتْ علاقته بالله عز وجل، ويطلب من الله مباشرة، والناس ينهمكون بالوسائط وبالأسباب أمّا سيدنا زكريا فقد سأل الله عز وجل، ولم يحرك شفتيه، قال تعالى:
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾
[سورة مريم الآية: 3 ]
فعلامة إيمان المؤمن أنّه يطْلب حاجاته من الله عز وجل، ويسأله, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
- قال عبد الله بن الزبير: فو الله ما وقَعْتُ في كُرْبة من دَيْنٍ إلا قُلْتُ: يا مولى الزبير اِقْضِ عني فَيَقْضيهِ

إليكم ورع هذا الصحابي الجليل الزبير بن العوام :
هذا الصحابي كان الناس يضَعون عنده المال ثِقَةً به، من شِدَّة ورَعِهِ كان يقول لهم: سَلَفٌ وليس أمانة، إذْ الأمانة لو تَلِفَتْ فهي على صاحِبِها، فما دام لم يُصِبْها عُدْوانٌ ولا تقْصير فالمُؤْتَمَنُ ليس ضامِناً، فكان هذا الصحابي لِشِدَّة وَرَعِهِ إذا أخذ مالاً لِيَكون أمانةً عنده عدَّهُ دَيْناً عليه، فإذا تَلِفَ كان عليه أنْ يرُدَّهُ، وقف هذا المَوْقف وألزم نفسه به ورعًا .

وفي التاريخ قِصَّة, وهي أنّ زوْج بنْت النبي عليه الصلاة والسلام أبو العاص، كان في طريقه من الشام إلى مكَّة، فسرية من سرايا النبي عليه الصلاة والسلام أخَذَتْهُ أسيراً مع بِضاعَتِهِ، وجيءَ به أسيراً إلى المدينة، معه بِضاعَةٌ لِقُرَيْش، فعرضوا عليه الإسلام، فإذا أسلم أصْبَحَتْ هذه البِضاعة غنائِم، فَرَفَضَ أنْ يُسْلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لِسَبَبٍ أو لآخر أمر بِإِطْلاق سراحِهِ مع البِضاعة، وذهب إلى مكَّة وأدَّى المال لِأصْحابه، وبعد أنْ أعْطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ وقف, وقال : أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، وعاد إلى المدينة، وانْخَرَط مع أصْحاب النبي، فلما قيل له: لمَ لمْ تُسْلم يوم كنت في المدينة، ومعك البِضاعة؟ قال هذا الصحابي زَوْجُ بِنْت النبي صلى الله عليه وسلّم: والله ما أُحِبُّ أنْ أبْدأَ إسْلامي بِهذا! ما أراد أنْ يبْدأ إسْلامه بِأَكْل مال الناس ظُلْماً، بعد أنَّ أدى المال لأصْحابه أسلَم، والمال الذي عند الزبير أمانة، لكنه جعله دينا عليه حتى يضمن لصاحبه هذا المبلغ لو تلف .
وقصة ابنه عبد الله معروفة, فحينما أرسل إلى معاوية بن أبي سفيان, يقول: أمّا بعد, فإن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك، وإلاّ كان لي ولك شأنٌ، والسّلام، فقال معاوية لابنه يزيد: ما قولك؟ قال: أرى أن ترسل إليه جيشًا أوّلُه عنده، وآخرُه عندك، فيأتوك برأسه، فقال: غير ذلك أفضل، فكتب معاويةُ كتاباً قال فيه: أمّا بعد, فقد وقفتُ على كتاب ولد حواريِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا هيِّنة جنب رضاه، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها، فجاء الجواب, أما بعد, فيا أمير المؤمنين, أطال الله بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلَّك من قومك, فاستدعى ابنه يزيد, وقال له: يا يزيد من عفا ساد، ومن حلُمَ عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب .

ماذا نستنبط من حياة صحابة رسول الله ؟
من خلال هذه المواقف: نجد في أصحاب النبيِّ ورعاً ما بعده ورع، وزهدا ما بعده زهد ، وتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، في سبيل الحق، فإذا أردتم أن يرضى الله عنكم فعليكم بالورع، كما في الحديث:
((ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط ))
[ورد في الأثر]

ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، هذا في الورع، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك, إن كانت في القلب فهي مصيبة، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق، في حلّ مشكلات الناس، في الرقيِّ عند الله عز وجل، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال، سيِّدنا أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب, سأله:

((أتحب أن يكون محمدٌ مكانك، وأنت في أهلك؟ فانتفض خبيب، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة))
لذلك قال أبو سفيان: ((ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً))
هذه أربعُ نقاطٍ تستنبط من حياة أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله، لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:36 PM   #4


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الرابع )

الموضوع : سيدنا عبدالرحمن بن عوف





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هو العظيم عند الله ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الرابع من دروس سير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابي اليوم؛ سيُّدنا عبد الرحمن بن عوف، وقبل أن نبدأ الحديث عن هذا الصحابي الجليل لا بدَّ من مقدمة .
خلاصة المقدمة هي أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله بمجموعهم يمثلون كل النماذج البشرية، ففي كل مجتمع غنيٌّ وفقير، قويٌّ وضعيف، شابٌ وكهلٌ وشيخ، صحيح ومريض، ذو نسب عالٍ، وذو ضآلة في النسب، هذه الحظوظ التي وزَّعها الله يبن البشر موجودة في كل مجتمع
لذلك يجب أن نعلم أن الإنسان إذا عرف الله واتصل به، واصطبغ بصبغته ارتقى إلى مرتبة عالية، فإذا كان غنيًّا اشتهيْتَ الغنى عليه، وإذا كان فقيراً لا ترى الفقر ضيراً على مؤمن، وإذا كان صحيحاً جعل صحته في سبيل الله، وإذا كان مريضاً رأيتَ فيه الصبر والسلوان، وإن كان وجيهاً استخدم وجاهته في الحق، وإن كان خاملا استغنى برضاء الله عن الدنيا, الذي أريد أن أؤكِّده لكم أنه بأيِّ حال أنت, بأيِّ وضعٍ اجتماعيٍّ, بأيَّة قوة، بأيِّ ضعف, بأيِّ غنى, بأيِّ فقرٍ, بأيِّ وجاهة، وبأيِّ خمول, بأي وَسَامةٍ، وبأيِّ دمامة، فإذا عرفت الله عز وجل، و طبَّقتَ منهجه، واصطبغت بصبغته كنتَ إنساناً عظيما .
قد يظن الناس واهمين أن الغنى يتناقض مع الإيمان, من قال ذلك؟ يمكن أن تكون أغنى أغنياء الأرض، وفي أعلى درجات الإيمان والقبول عند الله عز وجل, يمكن أن تكون من أقوى الأقوياء وأنت مؤمن، لماذا حدثنا ربنا عز وجل عن ذي القرنين؟ كان ملكاً، ولا يتنافى الملكُ مع الإيمان، فقد تكون فقيراً وأنت عند الله عظيم .
في نفسي معنى أرجو الله أن يمكنني من التعبير عنه, لا تقل: أنا ابن فلان, لا تقل: أنا لي نسبٌ رفيع، أو لي نسب وضيع, لا تقل: أنا فقير، لا تقل: أنا شاب، كن ابن من شئتَ, في أيِّ حالٍ شئتَ، وفي أيِّ طور شئت، وفي أيِّ مستوى شئتَ، فإذا عرفتَ اللهَ، وعرفتَ منهجه، وطبَّقتَ شرعَه، وأقبلتَ عليه، واصطبغتَ بصبغته, فأنت عند الله عظيم .
ما هو المقصود من هذا الدرس ؟
نحن اليوم مع صحابي كان من أغنى الصحابة، سأُِريكم كيف يكون الغنى مـــع الإيمان؟ قد يقول أحدكم: قد مرَّ بنا تاريخ الصحابة كثيرًا في أوقات خلتْ، فأقول: كلكم يعلم أنَّ في التعليم الإعدادي والثانوي والابتدائي مثلاً نصًّا للمتنبيِّ، قد تجده في كتاب الصف الخامس، وتجده في كتاب الصف الثامن، والنص نفسه تجده في كتاب الصف الحادي عشر، والنص نفسه يدرسه طلاب الجامعة في السنَّة الثالثة في الأدب العباسي، أن يكون النص واحدا في كل هذه المراحل، هل يعني ذلك أن مستوى التدريس واحد؟ لا، نحن عندما كنا في الجامعة كان الأستاذ رحمه الله يمضي ساعتين في شرح بيتين من الشعر، فيظل يشرحها، ويحللها، ويبيِّن معنى كلماتها, و معنى تراكيبها وصورها، إلى أن يشخب هذان البيتان دمًا .
فلذلك ولو أن هذا الصحابي معروف عندكم، ولكن لا أريد في هذه الدروس الجديدة من السيرة أنْ أكتفي بسرد الوقائع, هذه قد تجدونها في كتب السيرة، والكتاب يغني عن الدرس، لكنْ أرجو الله عز وجل أنْ يوفِّقني إلى تحليل هذه الوقائع, ومركز الثقل في هذا الدرس هو التحليل وليس السرد .
إليكم قصة قافلة عبد الرحمن بن عوف التي هزت عرش المدينة وما وراءها من أحداث :
مرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سُمِع في المدينة ضجيجٌ، وتعالى غبارٌ في الأفق، فسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وقد ترامى إلى سمعها أن قافلة عظيمة زاحفة إلى المدينة: ما هذا الذي يحدث في المدينة؟ فقالوا لها: يا أم المؤمنين, إنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف، جاءت من الشام تحمل تجارة له، قالت أم المؤمنين: قافلة تحدث كل هذه الضجَّة! قالوا: أجل يا أم المؤمنين, إنها سبعمئة راحلة .
تصوَّر قافلةَ شاحناتٍ عددُها سبعُمئة تراها على الساحل، فستضيق نفسك بها، و في عدِّها، قافلة واحدة لهذا الصحابي الجليل، فهزَّت أم المؤمنين رأسها وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا كأنها تبحث عن شيء، عن ذكرى مرَّت بها، أو عن حديث سمعته، ثم قالت:
((أمَا إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا))
يعني زحفاً، عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا! ولماذا لا يدخلها وثباً وجرياً وركضاً وخبباً؟ فإنّه من أصحاب رسول الله، وإنه من السابقين السابقين، من أصحاب رسول الله الذين شهدوا بدراً وأُحداً والخندق، وهاجروا إلى الحبشة مرتين، وكان ثامن مسلم دخل الإسلام، أسلم على يد سيدنا أبي بكر، وهذا الصحابي الجليل من العشرة المبشرين بالجنة، ويدخلها حبواً! لكن سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحَى . ما هو الخبر الذي نقل إلى عبد الرحمن بن عوف, وما هو موقفه منه ؟
أيها الأخوة, سيدنا عبد الرحمن بن عوف نقل إليه بعض الصحابة نقلاً, نقل نصيحة لا نقل نميمة، وهناك فرق كبير بين أنْ تنقل الخبر شامتا, وبين أن تنقله ناصحاً، وبالمناسبة أعجبني أخٌ كريم رأى أمرًا منكراً, فقد رأى إنسانا يقدم على منكر في مكان يرأسه رجلٌ طيِّب، فقال له: إنْ فعلتَ هذا فسأبلِّغ فلاناً، فإذا استدعاك فلانٌ فأنا الذي بلَّغتُه، أنا أعجبني هذا الموقف .
مرَّة غلامٌ صغير سمع عمَّه, يقول: لو أن محمداً صادق فيما يقول فنحن شرٌّ من الحُمُرِ ، عهْدُهُ بعمِّه أنه مؤمن، فإذا به كافر، فقد قال له: هذه كلمة كفر، والله يا عمَّاه ما رجلٌ تحت قبَّة السماء بعد رسول الله، أحبُّ إليَّ منك، ولكنني سأبلِّغ رسول الله، هذه كلمة كفر لا مجاملة فيها، فإذا تجاملنا مجاملات بكلام غلط، أو بكلام فيه إساءة وتجاوز، فهذا مجتمع المنافقين، ولا نرقى بهذه الطريقة، ولكن مجتمع المؤمنين فيه غيرة شديدة، والقصة لها وقت آخر، وذكر هذا الغلامُ الخبرَ للنبي عليه الصلاة والسلام، واستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام فأنكر، قال يا رسول الله: إن هذا غلامٌ كذَّاب، أأنا أقول هذا الكلام؟ فنزل الوحي مصدقا قول الغلام، فأمسك النبيُّ بأذن الغلام متحبِّبًا: لقد صدَّقك الله من فوق سبع سموات, وكانت توبة هذا المنافق على يد هذا الغلام، فهؤلاء الذين أوصلوا هذا الكلام إلى سيِّدنا عبد الرحمن ليسوا نمامين، ولكنهم ناصحون، ونقل بعضُ أصحابه مقالة عائشة رضي الله عنها .
فتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرَّة، وأكثر من صيغة، وقبل أن تُفَضَّ مغاليق الأحمال حثَّ خطاه إلى بيت عائشة، وقال لها: لقد ذكَّرتِني بحديث لم أنسه، ثم قال: أما إني أُشهدكِ أن هذه القافلة كلها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله، ثم قال: والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً ليس حَبْواً .
كيف نوحد القول بين ما ورد في حديث رسول الله وقول عبد الرحمن بن عوف ؟
هناك مُشْكِلة, وهي أنَّ أُمَّنا عائِشَة تسْمع من النبي عليه الصلاة والسلام - وهو الذي لا ينْطق عن الهَوى- أنّ سيّدنا عبد الرحمن بن عوْف سيَدْخُل الجنَّة حَبْواً، أيُعقَل أنْ يقول عبد الرحمن مُتَحَدِّيًّا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام: والله لأَدْخُلَنَّها خَببًا؟ وفي روايةٍ أخرى:
((وما عَلَيَّ إنْ تصَدَّقْتُ مئةً في الصباح، فَيُؤْتيني الله ألْفاً في المَساء‍))
حُلَّتْ هذه المُشْكِلة بِهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلَّم لِسَيِّدنا بن عوف: ((يا ابن عَوْفِ إنك من الأغْنِياء، وإنَّك سَتَدْخُل الجنَّة حَبْواً، فأَقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك))
أعْطاهُ الحل, إنْ لم تُنْفِق بِسَخاء تدْخُلُها حَبْواً، فإذا أَقْرَضْتَ الله عز وجل أطْلَقَ الله قَدَمَيْكَ فَدَخَلْتها خَبَباً وجَرْياً، القَضِيَّة حُلَّت، إذْ إنَّ الحلَّ معه، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه، وما أراد أنْ يجعله يَيْأس، قال له: إنك غنِيّ، والأغْنِياءُ عادَةً تشْغَلُهُم أمْوالهم، وتَنْمِيَةُ أمْوالهم واسْتِثْمارها، والمال الوفير يحْتاج إلى وسائل رفاه، وهذه الوسائل تشْغَلُ صاحبَ المال عن ذِكْر الله، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾
( سورة العلق الآية: 6-8)
فالنبي لم يقصد عبد الرحمن بالذات, إنما قال: إنك غنيّ، والأغنياءُ عادَةً مشْغولون بأمْوالهم، فإذا آمنوا واسْتقاموا دَخَلوا الجنَّة حَبْواً, أَقْرِض الله يُطْلق لك قَدَمَيْك، فهو يعْرف الطريق ، ولما قال: سبعُمئة راحِلَة في سبيل الله، والله لأدْخُلَنَّها خَبباً، فالنبي صلى الله عليه وسلّم ما أراد أنْ يُثَبِّطه، ويجعل مصيرَه مصيراً محْتوماً، والقَوْلُ الشهير الذي ورد عن النبي:
((خُذْ من الدنيا ما شِئتَ، وخُذ بِقَدرِها هماً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكْفيه أخذ من حَتْفِهِ وهو لا يشْعر))
[ورد في الأثر]
المال وسيلة عند ابن عوف وليس غايته :
أيها الأخوة, هذا هو عبد الرحمن بن عوْفٍ، هذا هو الغنيُّ المؤمن، هذا الذي يكون سيِّد المال، وليسَ عبداً له، هذا الذي يسْتخدم المال في سبيل الجنَّة، في سبيل مرْضاة الله عز وجل، في سبيل أنْ يفوز بِجَنَّةٍ عَرْضُها السموات والأرض، في سبيل أنْ يرْضى الله عنه، هذا الصحابي الجليل هو أحدُ الثمانِيَّة الذين سبَقوا إلى الإسلام، عرضَ عليه أبو بكر الإسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العَوام وطلْحة بن عُبَيد الله وسعْدُ بن أبي وقاص فمَا غُمَّ عليهم الأمر, ولا أبْطؤوا، بل سارَعوا مع الصِّديق إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُبايِعونه، ويحْمِلون لِواءَهُ، معنى ذلك لما ينْشرحُ صَدْرك للحق فهذه علامة طيِّبة، حينما لا تتَرَدَّدُ، كلكم يذكر قِصَّة سيِّدنا عبد الله بن رواحة حينما عَيَّنَهُ النبي عليه الصلاة والسلام قائدًا ثالثاً، وكيف أنَّ القائد الأول حمل راية المُسْلمين ، فقاتل بها حتى قُتِل, وحملَها بعده سيّدنا جعفر، فقاتل بها حتى قُتِل؟ فلما جاء دَوْرُ عبد الله بن رواحة تَرَدَّدَ، ويَذْكُر المُؤرِّخون أنه تردَّد بِقَدْر هذين البيْتَيْن:
يا نفْسُ إلاّ تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صَليت
إنْ تفْعلي فِعْلها رضيـت و إنْ تَوَلَّيْتِ فقد شَقيــت
وأخذ الراية فقاتِل بها حتى قُتِل، لكنَّ النبي الكريم, قال: رأيْتُ أخاكم جعْفرًا وهو في الجنَّة، ورأيْتُ أخاكم زيداً وهو في الجنَّة، ثمَّ سكتَ النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلما سكتَ النبي قَلِقَ الصحابة الكِرام على أخيهم عبد الله، فقال الصحابة: ما فعل عبد الله؟ قال: ثمّ أخذها عبد الله، فقاتَلَ بها حتى قُتِل، وإني لأرى في مقامِهِ اِزْوِراراً عن صاحِبَيْه، درجته هَبَطَتْ، فإذا كانَ الصحابة هَبَطَت درجَتُهُم بتَرَدُّدِهم ثلاثين ثانِيَة، فَكَيْفَ بنا؟! أما الآن فتضعُ له مُقَدِّمات، وتُبَيِّن له عِظَم العمل الصالح والجنَّة، ثمَّ يُعْطيك عشرات الليرات . إليكم نموذجان متنوعان من التجار في إنفاقهم للمال في عصرنا هذا :
أيها الأخوة, قال لي أحدهم: دخلْتُ مَحَلاًّ تِجاريًا في رمضان، والمَحَلُّ كبير وفَخْم، البضاعة بالملايين، فقال له: عندنا أيْتام، ومدارس شرْعِيَّة، قال: فإذا بي أراهُ أخْرج عشْر لَيْراتٍ، واللهِ لو رآها هو في الطريق لم يأخُذُها, أفهذه قيمة الآخرة عنده؟ لذلك قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 133 )
وهذا أحد التجار كذلك، أنا لا أزكي على الله أحداً، لكني أظنه مؤمناً، كلما جاءته جمْعيَّة خيرية، أو لجنة بناء مسْجد يقول لهم: دونَكُم الصندوق، خُذوا منه ما تشاؤون، ولا تُعْلِموني كم أخَذْتم؟ هذا الإنْسان عاشَ عُمْراً لا بأسَ به، ولكنَّهُ أصيب بِمَرضٍ خبيثٍ في دمه، فجاءَتْ مُخابرة إلى البيت، وفي البيت عدَّةُ هواتف، ورُفِعَتْ سماعة، فرفعَ هو السماعة، وكانت المكالمة من المستشفى، وأخذ الموظف يقرأ له التقْرير, معلنًا أنَّ القضِيَّةُ مُنْتهيَّة، ولا بدّ أنْ يموت بعد ثلاثة أيامٍ ! سمِعَها بِأُذُنه، والقِصَّة واقِعِيَّة، وقصَّها عليّ أُناسُ كثيرون، تلقى هذا الخبر بِنَفْسٍ رَضِيَّة، لأنَّ عمله صالحٌ، ولأنه قدَّمَ ماله أمامه، والآن سرَّهُ اللَّحاقُ به، كلُّ علاقاته المالِيَّة أنْجَزَها أوَّلَ يومٍ، واليوم الثاني طلب أوْلاده وأصْهاره وبناته وودَّعَهُم، وفي اليوم الثالث: دخل للحمام فاِغْتَسَل اِغْتِسال درجة أولى بِيَدِه، دون أنْ يُغَسِّلَهُ أحد، واضْطَجَع على السرير حتى الساعة الثانِيَة عشر، واسْتَقْبَل أحد علماء دِمَشْق الأجِلاء، وهذا العالم مع أخْوانه أجْرَوا له تهْليلة وقرآن حتى الساعة الواحدة، وفي الساعة الواحدة سلَّمَ روحَهُ لبارِئِه، شيءُ لا يُصَدَّق، أن يتلَقى الإنسانُ خبرَ وفاته بِصَدْرٍ رَحِب، وبِنَفْسٍ طيِّبة، يقول الله عز وجل في الحديث القُدْسي:
((عبدي أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه؟ يقول: يا رب, لم أُنْفِق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله عز وجل: ألم تعْلم أنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين، إنَّ الذي خَشيتَهُ على أوْلادك من بعْدِك قد أنْزَلْتُهُ بهم، يقول لِعَبْدٍ آخر آتاه مالاً: أعْطَيْتُك مالاً فماذا صَنَعْتَ فيه؟ يقول: يا رب, أنْفَقْتُهُ على كُلّ مُحْتاجٍ ومِسْكين لِثِقَتي أنَّك خيرٌ حافِظاً، وأنت أرْحم الراحِمين، فَيَقُول الله عز وجل: أنا الحافظ لِأولادك من بعدك))
[ورد في الأثر]
سؤال وجه إلى عبد الرحمن بن عوف :
ففي التاريخ الإسْلامي عشَرَةُ أشخاص يدْخلون الجنَّة على التحْقيق، وما سِواهُم على الرَّجاء، نحن نرْجو الله، وفرْقٌ كبير بين التحْقيق والرَّجاء، وهو من أصْحاب الشورى السِّتَة الذين اخْتارهم سيّدُنا عمر من بعْده, وكان مَحْظوظاً في التِّجارة، وكان يقول:
((لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً))
مرَّةً سألوه: بِما حَقَّقْتَ هذه الثرْوة يا عبد الرحمن؟ قال: ((والله ما اسْتَقْللتُ رِبْحاً، ولا بِعْتُ دَيْناً، تِجارةُ الدَّيْن ليْسَتْ تِجارة، بل هي ذُلٌّ وتَسَوُّلٌ وفَقْرٌ وهَمٌّ))
هذا تَوْجيهُ صحابِيٍّ جليل آتاهُ الله مالاً، وكان له ثلاثة أطْوار: فهُوَ إما في المسْجد، وإما أنه في غَزْوٍ مع رسول الله، وإما أنه في تِجارِتِه . ما هي الفائدة التي يمكن أن نستنبطها من موقف ابن عوف من أخيه الأنصاري حينما عرض عليه المال ؟
إنّ الصحابة الكٍرام كانوا مٌثُلاً عُلْيا، فلما هاجَروا إلى المدينة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنْ يتآخَوا اثْنَيْن اثْنَين، فسيّدنا بن عوفٍ كان نصيبُهُ سيّدنا سَعْد بن الربيع، وهو أنْصاري، وسيّدنا ابن عوف مُهاجِر، ولما انْتَقَل إلى المدينة كانَ بِلا مالٍ، تَصَوَّر أنَّ شَخْصاً ترك كلّ ثَرْوَته من أراضٍ ومصانع وسيارات ومسْكن بالمالْكي وأمْوالٍ ضَخْمة، ثمّ يذْهب إلى مكانٍ آخر وهو مُفْلِس، هكذا كان الصحابة، تركوا كلّ أمْوالهم وهاجَروا مع النبي صلى الله عليه وسلّم، فَسَيِّدُنا سَعْد بن الربيع قال له: يا أخي أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانْظُر شَطْرَ مالي فَخُذْهُ، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: بارك الله لك في مالك، ولكن دُلَّني على السوق, هؤلاء الصحابة الكِرام الأنْصار الذين أظْهروا أعْلى درجات المُؤاثرة قابَلَهُم المُهاجِرون بِأَعلى درجات العِفَّة .
لذلك لم يُسَجِّل التاريخ أنَّ مُهاجِراً واحداً أخذ شطْر مال أخيه الأنْصاري, فإذا كان الإنْسان ضَيِّقَ ذات اليد فله طريقان: الطريقُ الأكْمل أنْ تقول: يا رب اُرْزُقْني من فضْلك، ولا تُحْوِجْني إلى أحدٍ سِواك، ولا تجْعَلْ حاجتي إلا إليك، لأنّ الإنسان إذا أعْطى فَعَطاؤُهُ غير عطاء رب العالمين، قيل: اِحْتَجّ إلى الرجل تكُنْ أسيرَهُ، واْستَغْنِ عنه تكُن نظيره، وأحْسِن إليه تكُن أميرهُ.
إليكم هذه القصة للعبرة :
رَوَوا أنَّ أحد الشيوخ كان له تلاميذ، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم نِصْفَ لَيْرة لِيَشْتَري بِهــا حاجَتَين، وأعْطى تِلميذاً عشر لَيْرات لِتَكون معه، فالذي أُعْطي المبلغ القليل تألَّم وانْكسر خاطِرُهُ، وشعر أنه ليس من مُسْتوى الثاني، وأنّ الشَّيْخُ ليس واثِقاً به، بيْنما أعطى الثاني مبْلغاً كبيراً، فَشَعَرَ الشيخ أنّ تِلْميذه استولى عليه هذا الشُّعور، فقال: نحن بِحاجة إلى حمام يا أبنائي، وبِحَمام السوق يوجد داخِلي وخارجي وأوْسطي، فأدْخَلَهم إلى الحمام، وإلى الغُرْفة الساخِنَة، وبدأ يقول لِصاحب العشر ليرات: حاسِبْني في هذه وهذه، فاضطرب وارتبك، أما صاحب المبلغ القليل فكانَ حسابهُ يسيراً، ربع ليرة بقْدونس، والربع الآخر كزْبرة، وانتهى الحساب, إذاً: كلما كان نصيبك قليلاً كلما كان حِسابك يسيراً، وكلما كثُر المبْلغ صار الحِساب مُعَقَّدًا أكثر فأكثر, هذه قِصَّة رَمْزِيَّة فقط، المُهِمّ أنّ الإنسان إذا اخْتار اللهُ له الكفاف فقد اختار له اليسير .
أنا أقول لكم: كل إنسان يشكو لي أنّ الأمور كما يقولون: ماشي الحال, ونحن نشْتَغِل قدْر مصْروفِنا، كلما سَمِعْتُ إنْساناً يشْكو لي هذه الشَّكْوى، أقول له: لقد أصابَتْكَ دعْوَةُ رسول الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((اللهم من أحَبَّني فاجْعَل رِزْقَهُ كفافاً))
[ورد في الأثر]
فأكْمَلُ مُسْتوى هو الكفاف, لا غِنى فيُطْغي، ولا فقر فلا يُحْتَمَل، والنبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا, هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟))
[أخرجه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننه]
فهذه هي القاعدة: من شأن الغني أنَّ ماله يشْغله عن ذِكر الله، والدليل قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
( سورة المنافقون الآية: 9)
قال له: يا ابن عَوْف، إنَّك من الأغْنياء وإن لم تُنْفِق هذا المال في سبيل الله فإنَّك سَتَدْخَل الجنَّة حَبْواً، فأقْرِض الله يُطْلِقُ لك قَدَمَيْك، وعندئذٍ تدْخُلها خبباً، وانْتهى الأمر، سيّدنا ابن عوفٍ منذ أنْ سَمِع هذا النُّصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُقْرض ربَّهُ قرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ له أضْعافاً كثيرة .
القوافل التي أنفقها عبد الرحمن بن عوف في سبيل الله :
باعَ يوْماً أرْضاً بِأرْبعين ألْفَ دينار, فكانت ثلاثة أثلاث: ثلثٌ على أقْربائه من بني زهرة, وثلث على أُمَّهات المؤمنين، وثلث على فقراء المُسْلمين .
وقدَّم يوماً رضي الله عنه لِجُيوش المسلمين خمسُ مئة فَرَسٍ تشبه كلٌّ منها في أيامنا سيارة مَرْسيدَس، أو شاحنة مَرْسيدَس, شيءٌ ثمين، هناك مَن سَعَّرها خمسة ملايين، وحتى عشْرة ملايين .
مرَّةً قدَّم ألفًا وخمسمئة راحِلَة في سبيل الله، وعند مَوْتِهِ أوْصى بِخَمْسين ألف دينار في سبيل الله، وأَوْصى لكل من بَقِيَ ممن شهِدوا بدْراً بِأَرْبَعمئة دينار، حتى إنَّ عُثْمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من هذه الوَصِيَّة رغْمَ ثرائِهِ، وقال: إنَّ مال عبد الرحمن حلالٌ صَفْوٌ، وإنَّ الطُّعْمَةَ منه عافِيَةٌ وبَرَكَة، فإذا دعاك المؤمن، فو الله طعامه شِفاء، فالمخلص سيِّدَ ماله، ولم يكن عَبْداً لِماله، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ, وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
ما قيل عن إنفاق ابن عوف :
بلغ من سعة عطائه وعَوْنِه أنه كان يُقال: أهل المدينة جميعاً شُرَكاءُ لابن عوفٍ في ماله ، وقد سَمِعْتُ اليوم قِصَّة عن رجلٍ غَنِيّ، كانت امْرأة تأتي في الساعة السابعة إلى مَكْتَبِه لِتُنَظِّف، وهو لا يعْرِفُها في شَكْلِها، إنما يسْمع عنها، ويُعْطيها أُجْرتها، مرَّةً جاء في الساعة السابعة لِأمرٍ اسْتِثْنائي، فرأى امْرأة مُسِنَّة تشْتغل، وتَمْسح، فقال لها: أنت كم تأخُذين؟ فقالت له: ألْفَيْن وخمسمئة في الشَّهْر، فقال لها: كم ولدٍ عندك؟ فقالت: أربعة، فقال لها: اذْهبي إلى بيْتِكِ، وارْعَيْ أوْلادك، وتعَالَي كلَّ شهْرٍ وخُذي خمْسة آلاف, قلْبه رقيق، ما تحَمَّل ذلك المشْهد، وهي على كِبَر سِنِّها تشْتغل، فالغَنيّ أحْياناً يصِلُ إلى الأوْج في إنْفاق ماله، لأنَّها المِسْكينة وصَلَتْ إلى مرْحلة التقاعُد، فالدنيا لا تخْلو من أهل الخير .
قالوا: أهل المدينة جميعاً شُركاءُ لابن عوفٍ في ماله، ثُلُثٌ يُقْرِضُهم، وثُلُثٌ يقْضي عنهم دُيونهم، وثُلُثٌ يصِلُهُم ويُعْطيهم، ألا تشْتهون غِنى مثل هذا الصحابي الجليل؟ .
ما الذي يبكي عبد الرحمن بن عوف ؟
سيِّدنا ابن عوف جيءَ له بِطعام الإفْطار، وكان صائِماً، فَلَما وقَعَتْ عَيْناهُ فَقَدَ شَهِيَّتَهُ، وبكى، لماذا يبْكي؟ قال: اسْتُشْهِدَ مُصْعب بن عُمَيْر، وهو خيرٌ مني، فَكُفِّن في بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رأْسه بَدَتْ رِجْلاه، وإنْ غطيت رِجْلاه بدا رأسه، واسْتُشْهِدَ حمزة، وهو خيرٌ مني فلم يوجد له ما يُكَفَّن فيه إلا بُرْدة، ثمّ بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإني لأخْشى أنْ تكون قد عُجِّلتْ لنا حَسَناتُنا .
أقول لكم هذا الكلام: إذا كثر رفه المؤمن فهو في خوف مِن سوء المصير، أما إذا كان بالكفاف فهذه نِعْمة, هذه دار عمل وليس دار بَسْط ولا دار نعيم, هي دار ابْتِلاء وامْتِحان وطاعة ومُجاهدة والْتِزام، فالمؤمن الصادق إذا شعر أنَّ رفاهته أكثر مما يجب يحُسّ بِضيقٍ، حاله حال طالب دخل إلى المدْرسة، له أحْلى طاولة، وأحْلى كُرْسي، ومن جِهَة الشَّمس, هذه مدْرسة للعلم وليست للتَّشَمُّس .
واجْتمع بعض أصْحابه يوماً على طعامٍ عنده، وما كاد الطعام يوضَعُ أمامهم حتى بكى، فسألوه: ما يُبْكيك يا أبا محمد؟! فقال: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما شَبِعَ هو وأهْلُ بَيْتِه من خُبْز الشعير، وما أرانا أننا أُخِّرْنا لما هو خيرٌ منا .
زرْتُ صديقاً يوماً وكان بَيْتُهُ صغيراً، فقال لي: لا تؤاخِذْنا لصِغر بيتنا, فقُلْتُ له: والله لو تقرأ عن بيْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي هو سيِّدُ الخلق وحبيب الحق لما استحييتَ ببيتك، كان إذا صلى قِيام الليل تحوِّل السيِّدة عائِشة رِجْلَيْها، لأنَّ غرفته لا تَتَّسِعُ لِصَلاته ونوْمه، ولما دخل عليه عديّ بن حاتم قذف إليه وِسادةً من أدم مَحْشُوَّةً ليفًا، وقال له: اجْلِسْ عليها، قُلْتُ بل أنت, فقال: بل أنت، فَجَلَسْتُ عليها وجلس صلى الله عليه وسلّم على الأرض، ليس في بيْتِ النبي إلا وِسادةٌ واحدة !!، هذه هي النبُوَّة، النبوَّة قُدوة وتَقَشُّفٌ وزُهْدٌ وليس ملكاً .
ماذا نستنبط من هذين الموقفين لابن عوف ؟
سيّدنا عمر قبل أنْ يتوفاه الله عز وجل مُتأثِّراً بِجِراحه اسْتأذن السيّدة عائِشة أمُّ المؤمنين أنْ يُدْفَن في حُجرة النبي عليه الصلاة والسلام، ثمَّ اسْتدرك وقال: أنا خليفة المسلمين، ولعلَّها قبلتْ خجَلاً مني، بعد أنْ أموت اسْألوها مرَّةً ثانِيَة، فإن قبِلتْ فافْعلوا، فهُوَ رضي الله عنه ما أراد أنْ يسْتخدم سُلْطته في أخذِ مُوافقَتِها، والسيّدة عائِشَة أرادَتْ أنْ تَخُصّ نفسها بِشَرف الدفْن في حُجْرة النبي .
فهذا الصحابي الجليل وهو على فِراش الموت أشارتْ إليه أنَّها تُوافقُ على أنْ يُدْفن في حُجْرَتها إلى جِوار النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعُمر، ولكنه رضي الله عنه كان على حياءٍ كبير، فقد اسْتَحْيا أن يكون مع هؤلاء الكِبار، ثمّ إنه كان على مَوْعِدٍ وثيق مع عثمان بن مظغون، إذْ تواثقا ذات يومٍ أَيُّهُما يموت بعد الآخر يُدْفَنُ إلى جِوار صاحِبِه، فهذا وعْدٌ .
وهو على فِراش الموت, قال: إني أخاف أنْ أُحْبَسَ عن أصْحابي لكثرة ما كان لي من مالٍ، مع كُلّ هذا الإنفاق وهذا السَّبْق والحُبّ والمؤاثرة، عندئذٍ ذكر قوْل النبي عليه الصلاة والسلام:
((عبد الرحمن بن عوْفٍ في الجنَّة))
هذه البِشارة طَمْأنَتْ قلْبه وجعَلَتْهُ قريرَ العَيْن وتلا قولَه تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
( سورة البقرة الآية: 262 )
الخير يعم الجميع :
حضرْتُ مرَّةً حفل ختام مسابقة القرآن الكريم، فَتَكَلَّمَ وزير الأوْقاف كلمة تأثَّرْتُ لها، قال : جزى الله عنا العلماء الذين علَّموا القرآن، وأشْكر هؤلاء الطلاب الذين تدافعوا إلى حِفْظِه، ولا أنْسى أصْحاب الأموال الذين تبَرَّعوا بأموالهم تكْريماً لِهَؤلاء الأطفال، وحينها قال رجل: كلُّ من حَفِظ القرآن فله مني عشْرة آلاف دائِماً، وسَمِعْنا أنَّ أحداً تبرَّعَ لهم جميعاً بِعُمْرةٍ، وأخذ على حِسابه سبْعين طالِباً، فقال الخطيب: المال شقيقُ الروح، فلَيْسَ الفضل للعالم فقط، بل وللغنيّ المؤمن، فهذا بِعِلْمه وهذا بماله، لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
فليستْ العظمة عند الله أنْ تكون داعِيَةً فقط ، أصْحاب الأموال بِإنْفاقهم وسخائِهم وبذْلهـم يصِلون إلى مرْتَبَةٍ عالِيَةٍ عند الله عز وجلّ .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:39 PM   #5


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضى الله عنهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الخامس )

الموضوع : سيدنا سعد بن ابى وقاص



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
النبأ العظيم الذي تلقاه سيدنا عمر من بلاد الفتوحات في فارس :
أيها الأخوة الأكارم، الصحابي اليوم سعْد بن أبي وقاص
وأوَّلُ نقطة في شَخْصِيَّة هذا الصحابي الجليل أنه شَخْصِيَّةٌ فذَّة، بِمَعْنى أنه يُمْكن أنْ يُعْتمد عليه في أشَدِّ الأزْمات، ويُمْكن أنْ يُدَّخَر لِحَلِّ مُشْكِلَاتٍ كبيرة .
فَسَيِّدُنا عمر رضي الله عنه كان أمير المؤمنين، وقد تلقى أنْباءً مُؤْسِفَةً جداً من بلاد الفُتوحات في فارس، فقد قُتِل في يومٍ واحدٍ أربعة آلاف شهيد من أصْحاب رسول الله ، ولم يعُدْ يمْلك خِياراً، فأراد هذا الخليفة العظيم أن يقود جَيْشَ إنْقاذٍ بِنَفْسِه، وجَهَّزَ هذا الجَيْش ممن بَقِيَ من أصْحاب رسول الله وقادهم وخرج من المدينة، لكنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأوا أنَّ حياة هذا الخليفة العظيم ليْسَتْ مِلْكَهُ، إنما هي مِلْكُ المُسْلِمين .
كيف نفسر بين الموت بأنه قضاء وقدر وبين العناية بصحة الإنسان واجباً دينياً ؟
أتوقَّفُ قليلاً عند هذه الكلِمَة, أنت كَمُؤْمِنٍ لك رِسالة تعْرف لماذا جِئتَ إلى الدنيا، وتعرف عِظَم المُهِمّة التي ألْقاها الله على عاتِقِك؟ تؤمن وتوقِنُ أنَّ حياتك لَيْسَتْ مِلْكك، وهي قبل كُلّ شيءٍ مِلْكُ أُسرتك، ومِلْكُ المؤمنين، ومن هنا كانت العِنايةُ بِصِحَّة الإنسان واجِبًا دينيًا، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
((من ركب ناقةً حرونًا فلا يقربنّ مجْلِسَنا...))
[ ورد في الأثر ]

الناقة الحرون هي الناقة الخَطِيرة، يُقاسُ على هذا أنَّك إذا ركِبْتَ مرْكَبَةً ليْسَتْ جاهِزِيَّتُها كاملة فقد عَصَيْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إنْ ركِبْتَ مرْكَبَةً مكابِحُها ليْسَتْ مُحْكَمة، وعجلاتها ليْسَتْ مضْبوطة فقد عصيت رسول الله عليه الصلاة والسلام .
النبي عليه الصلاة والسلام نهى أنْ ينام الإنسان على سَطْحٍ ليس له سور لئلا يقع، هـذه التَّوْجيهات يُحْمَلُ عليها أنَّ أيَّةَ مُخاطَرَةٍ يُخاطِرُ بها الإنسان بِحَياته فإنّه يموت عاصِياً، وهــل تُصَدِّقون أنَّ أحد أصْحاب النبي وهو في الجِهاد عصى رسول الله وركِبَ ناقَةً حروناً، فَدَقَّتْ عُنُقَه، فأبى النبي أنْ يُصَلي عليه؟ لمعصيته رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وركوبِه ناقَةً حروناً، فَحَياةُ المؤمن ليْسَتْ مِلْكه، إنما هي مِلْكُ المسْلمينَ جميعاً، ولا سِيَما إذا كان له عملٌ صالحٌ، وباعٌ طويلٌ في خِدْمة الخَلْق والدعوة إلى الله عز وجل, فعِنايَتُكَ بِصِحَّتِكَ ليْسَتْ أنانِيـَّةً أو أَثَرَة، ولكنَّها مؤاثرة
قد يسأل سائل: ألَيْسَت الأعْمارُ بِيَد الله؟ نعم الأعمار بِيَد الله، ولك عُمُرٌ لا يزيد ولا ينْقص، ولكن إما أنْ تُمْضي العُمُر الذي كتبه الله لك هكذا صحيحًا، وإما أنْ تمْضيه هكذا طريح الفِراش، وذلك بسبب مُخالفتك سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك دقِّقوا في قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
(سورة الشعراء الآية: 78-80)

فما قال: والذي إذا أمْرضني فهُو يشْفين، قال:
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
(سورة الشعراء الآية: 78-80)
فالمرض في هذه الآية عُزِيَ إلى الإنسان، أما الخلق فعُزِيَ إلى الله، فأصْلُ المرض مُخالفَةٌ لِمَنْهج الله عز وجل، وبالمُناسَبَة قد تقْتني أحْدث وأرْقى وأغْلى سيارة، ومع ذلك مصانع السيارات الآن ليس بِإِمْكانها أن تصنع سيارة لترْكَبَها أرْبعين عاماً من دون أنْ تُغَيِّر لها بعض القِطَع، بل لا بد أنْ تُغَيِّر لها المكابِح والزيت وقطعًا كثيرة
فالتغيير لا بدَّ منه، لكن الإنسان لما خلقه الله عز وجل صَمَّمَهُ بِطَريقة يمكن معها للأجهزة والأعْضاء أنْ تقوم بِعَمَلها حتى آخر لحْظة في حياتك في أعلى درجة، كالمفاصِل والكُلْيَتَين، والقلب والشرايين، والأوْردة والأعْصاب والعضلات، ولقد سمِعْتُ مرةً أنَّ الإنْسان إذا لَبِسَ حذاءً قاسِياً وسار على أرضٍ صلبة وهَرْوَل يسْتَهْلكُ مفاصِلَهُ عن طريق تضاد الصَّدْمة، فلا بد من حِذاءٍ مرِنٍ وأرضٍ مرِنة، أما إذا كان الحِذاءُ صَلْباً والأرض صلبةً فإنَّ المفاصل تُسْتَهْلك قبل أوانِها .
المُلَخَّص أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى أن تشْرب مِن فم الإناء, وأمر أنْ تشرب الماء ثلاثاً، وأنْ تشْربه قاعداً، ونهى كذلك أنْ تأكل أكثر من حَدِّك الطبيعي، ونهى عليه الصلاة و السلام أنْ تأكل فاكِهَةً ليْستْ مغْسولةً، فمن أكل التراب فقد أعان على قتْل نفْسه، وأيضًا النبي أنْ تترك صحاف الطِّعام وقُدور الماء مكْشوفةً، فهذا كُلُّه من أجل الحِفاظ على حياتك . القائد الجديد الذي اختاره الصحابة بموافقة عمر لإرساله إلى بلاد العراق :
أيها الأخوة, أصْحاب رسول الله حينما رأوا خليفتهم وهو في وقْتٍ عصيبٍ جداً، وقد علِموا أنَّ أثْمن شيءٍ يمْلِكُهُ المُسْلمون حياةُ أميرهم، فلِذلك اجْتمع أصْحاب رسول الله ولَحِقوا بِعُمَر ، وثَنوهُ عن أنْ يقود جَيْشاً بِنَفْسه، وأنَّ حياته الآن في هذا الوقْت العصيب وقْتِ الرِّدة والفِتَن والحُروب والفتوحات هي أثمُن شيءٍ عند المؤمنين، فنزل سيّدنا عمر عند رأْيِهِم، وقال:
((من تَرَوْن أنْ نبْعث إلى العِراق؟ فصَمَتَ أصْحابُهُ، وراحوا يُفَكِّرون، ثمَّ صاح عبد الرحمن بن عَوْفٍ لقد وَجَدْتُهُ))

بالمُناسبة أصْعَبُ شيءٍ في القِيادة أنْ يخْتار القائِدُ أعْوانه، لأنَّ القائِدَ أجَلُّ مُهِماتِهِ أنْ يخْتار من حَوْله, فإذا كانوا صالِحين صلُحَ بِهِم المُجْتمع، وإذا كانوا فاسِدين فَسَد بهم المُجْتمع، والنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يدْعو اللهَ أنْ يهيِّئ له بِطانةَ خيرٍ، تنْصَحُهُ وتأمُرَهُ وتُخْلِصَ له، سيّدنا عمر أرْسل مرةً والِياً, وقال: خُذْ عَهْدك، وانْطَلِق إلى عَمَلِك، واعْلم أنَّك مصْروفٌ رأسَ سَنَتِك، وأنَّك تصير إلى أرْبع خِلال، فاخْتر لِنَفْسك, إنْ وَجَدْناك أميناً ضعيفاً اسْتَبْدَلْناك لِضَعْفِك، وسَلَّمَتْك من مَعَرَّتِنا أمانتُك، وإنْ وَجَدْناك خائِناً قوِياً اسْتَهنا بِقُوَّتِك، وأوْجَعْنا ظَهْرك، وأحْسَنا أدَبَك ، وإنْ جَمَعْتَ الجُرْمَيْن - الضَّعْفُ والخِيانة - جَمَعْنا عليك المَضَرَّتَين، وإن وجدناك أميناً قَوِياً زِدْناك في عمَلِك، ورَفَعْنا لك ذِكْرك، وأَوْطأْنا لك عَقِبَك، قال تعالى:
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
( سورة القصص الآية: 26 )
((قال عمرُ: من هو؟ قال: الأسد في براثِنِه سعْدُ بن مالك الزهري))
أيْ سعْدُ بن أبي وقاص، هذا الصحابيّ الجليل يتيهُ على أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, يتيهُ ليس بِمَعْناها اللغوي وإنما بِمَعْناها المَجازي, فالنبي لما قال: (( لا حسد إلا في اثْنتين ...))

العُلَماء لما فسَّروا هذا الحَسَد, قالوا: الغِبْطة، فإذا كان لك أخٌ يُعْطي عطاء من لا يخْشى الفقْر فأنت تَغْبِطُهُ، أو لك أخٌ يُلْقي على الناسِ عِلْماً يُؤَثِّرُ فيهم، فأنت تغبطه كذلك، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كلما دخل عليه سعْدُ بن أبي وقاص يُداعِبُهُ, ويقول: هذا خالي، أروني خالاً مِثْل خالي، ومُداعَبَةُ النبي شيءٌ ثمينٌ، فَمُداعَبَةُ النبي لأصْحابه تعْني أنَّهُ راضٍ عنهم، ورِضاءُ النبي عليه الصلاة والسلام هو عَيْنُ رِضاء الله عز وجل، لأنَّ النبي شفاف، وليس له ذات إطْلاقاً ، بل يَشِفٌّ عن الحقيقة الإلهِيَّة، فإذا رضي الله عنك رَضِيَ عنك رسوله وإذا رضِيَ عنك رسوله رضي عنك الله عز وجل، قِياساً على ذلك إذا كان الفَسَقَة والفَجَرَة يوَدُّونك كثيراً فلا تفْرح بِهذا أعوذ بالله! هذه وصمة عارٍ، فالمُنْحَرِفون تارِكو الصلاة، آكِلو المال الحرام، الذين يَحْتالون على الناس، فإذا كانت علاقتُكَ بِهؤلاء حميمةً فانْدُبْ حظَّك، إذْ إنَّها وصْمة عارٍ، أما إذا كان المؤمنون الصادِقون يُحِبُّونك، ويُقَدِّرونك، ويَرْعَوْنك فهذه بِشارةُ خير .

لِذلك لا تُصاحِبْ إلا مؤمناً ولا يأكُل طعامك إلا تقِيّ، دائِماً ابْتَغِ العِزَّة عند أهْل الإيمان، ولا تبْتَغِها عند أهْل الكُفْر والعِصْيان، فتقْريبُهم لك لا قيمة له، وكلما قرَّبوك منهم أبْعَدوك عن الله، أما أهلُ الإيمان فكلما قَرَّبوك إلَيْهم قرَّبوك إلى الله، لأنَّهُم أيْضاً شفّافون, ولَيْسَتْ لهم نُفوسٌ تكون حِجاباً بينك وبين الله، فكُلَّما قرَّبوك إليهم قَرَّبوك إلى الله .
قال الخليفةُ المنصور: يا أبا حنيفة لو تَغَشَّيْتنا؛ أي لو زُرْتَنا، فقال: ولِمَ أَتَغَشَّاكم, وليْس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشَّاكم إلا مَن خافكم على شيءٍ؟ سألني اليوم أخٌ: كيف يُطْلبُ العِلم؟ قُلْتُ له: من الكُتُب العظيمة التي أعْتزّ بها كتابٌ في أُصول الفقه: اسمه المُوافَقات للإمام الشاطِبي, هذا يُعَدُّ مَرْجعَ كلّ علماء الأصول, كِتابٌ قَيِّمٌ، لكنه يحْتاج إلى مُسْتوى ثقافي مُعَيَّن، وقد ورد في مقدمته التاسعة أن العلم لا يُطلَب إلا على يد عالم متحقِّق وَرِع, قال: هذا خالي أروني خالاً مثل خالي . ترتيبه في الإسلام :
يبدو أن سعدًا أسلم وكان ترتيبه في الإسلام الرجل الثالث, فقال رضي الله عنه: لقد أتى عليَّ يومٌ وأنا ثُلُثُ الإسلام، لذلك فالسابقون السابقون لهم أجرٌ عظيم .
أعجبني في ذلك كلمة قالها أحد العلماء في عقد قران: هناك من يحمله الإسلامُ ؛ أي لمَّا صار لك زيٌّ ديني عظَّمك الناس، وبجَّلوك، ووضعوك في مقدِّمة الصُّفوف، ورحَّبوا بك ، وقبَّلوا يدك، ولمَّا دخلتَ عليهم, طلع البدر علينا, هؤلاء وأمثالهم رفعهم الإسلام وأعلاهم، لكن هناك أبطال حملوا الإسلامَ، فشتَّان بين أن يحملك الإسلام، وبين أن تحملَ الإسلام، حينما تجاهد وتضحي بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، حينما تواجهك المحنُ وتصبر، وتقدِّم كل ما عندك في سبيل الله، فأنت بهذا ترْفع الإسْلام .

النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا كان في الطَّائف, من منّا يمشي ثمانين كيلومترًا على قدميه؟ مِن هنا إلى النَّبَك، والطريق وعْرٌ صعبٌ، وما تمكنوا حديثًا أنْ يشقُّوه بالجبال إلا بالآلات الضخمة، والمهندسون الكبار عجزوا عن شقِّ هذه الطرق، إلاّ بعد أنْ قام أصحاب الخبرة في شقِّ الطرق، وفكَّكُوا الآلات قطعة قطعة حتى استطاعوا أن يشقُّوا الجبال، فكيف صعد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطَّائف؟ هل صعد للتَّنَزُّه؟ صعد لِيَلْقى المُعارضة والتكذيب والسُّخْرِيَة والضَّرْب, هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، أما الآن إذا وضعوا إنْساناً بِمَكانٍ غير لائق، وما احْتَرموه يغْضب قائِلاً: أنا مقامي ليس هنا!! ماذا قدَّمْتَ للمُسْلمين والإسلام حتى تغْضب؟ فأنت تريدُ مَيِّزاتٍ فقط، ولا تتحمّل الأعباء والتكاليف .

أسْلم على يد أبي بكرٍ، أحْياناً في الدعوة إلى الله تَجِدُّ كُلّ الجدّ كي تهدي إنسانًا ما, وتَجُرُّهُ جراً إلى الدرس، ثمّ يأتي درساً وعشرة دروس لا يأتيها، وإذا جاء تجده نائِماً، وإنْ كان جالِساً تجده يُفَكِّر في غير موضوع الدرس، وباله مشْغولٌ! وأَحْياناً يُوَفِّقُك الله في دَعْوتك لِشَخْصٍ ، فإذا بك تجده أصْبح علَماً من أعْلام الدين, على ورَعٍ وعِلْمٍ وبذْلٍ وتَضْحِيَة ودَعْوة، تجده مثل الأُمَّة، والآية التي تَهُزّ مشاعِري هي قوله تعالى:

﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
( سورة النحل الآية: 120 )

فأنت قد تكون فرْداً، وقد تكونُ أُمَّةً، فإذا بذَلْتَ من ذات نفْسك، من عِلْمك وخِبْرتك، ومن وقْتك ومالك وجُهْدك للآخرين، وصَبَرْتَ عليهم إلى أنْ أخَذْتَ بِأيْديهم إلى الله عز وجل فاسْتقاموا على أمر الله، كلما ألْقَيْتَ عليه نظرةً يدخل إلى قلْبك سرور لا يعْلمه إلا الله، هذا قُرَّةٌ عَيْنٍ لك .
لذلك أهْلُكَ الحقيقيُّون هم الذين اهْتَدَوا على يَدَيْك, وآباؤك الحقيقيُّون هم الذين أسْدَوا إليك الهُدى، مرةً قال أحدُهم: آباؤُك ثلاثٌة: أبٌ أنْجَبَكَ، وأبٌ زَوَّجَك، وأبٌ هداك إلى الله، فالذي أنْجَبَكَ كان له فضْلٌ كبير عليك، لأنه سبب وُجودك، ولكن هذا الوُجود ينْتهي عند المَوْت، فإذا انْتهى الوُجود انْتهى فضْل الأب، والذي زوَّجَك أبٌ آخر له فضْلٌ عليك، ولكن حينما ينْتهي الزواج بالموت ينْتهي فَضْلُهُ، أما الذي هداك إلى الله فالخَيْر الذي جاءَكَ من قِبَلِه يسْتمرّ معك إلى أبد الآباد ، سَألني أحدهم فقال: أيُّهم أعظم؟ فقُلْتُ: حسب المُدَّة, فعلى قَدْر المُدَّة التي تنْتفع بها منه، لكن أكْملُ شيءٍ أنْ يقول المرءُ: تَعَلَّمْتُ على يد والِدي، فإذا كان الأب الذي أنْجَبَك هو الذي هداك فهذا من أرْوَعِ ما يكون، أو أنَّ الأب الذي زوَّجك هو الذي هداك كذلك من أرْوَعِ ما يكون، فأنْ تَجْتَمِعَ أُبُوَّتان في أبٍ فشيءٌ رائِعٌ . الشهادة العليا التي حازها سعد بن أبي وقاص من رسول الله :
أيها الأخوة, لا يوجد صحابي جليل فداهُ النبي عليه الصلاة والسلام بِأُمِّهِ وأبيه إلا سعْد بن أبي وقاص، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ, يَقُولُ يَوْمَ أُحُد:ٍ
(( يَا سَعْد,ُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي))
[أخرجه البخاري في الصحيح عن علي]
أيها الأخوة, لو سألتُم كلَّ الناس العُقلاء وخاصَّتهم عن أعْلى شيءٍ يُمْكن أن تصِل إليه لَقالوا: هو أنْ يرْضى الله عنك، لأنه إذا رضي عنك أرْضى عنك كُلّ شيء، وإذا أَحبَّك الله ألْقى حُبَّك عند كُلِّ الناس:
يُنادى له في الكَون أنَّا نحبُّه فَيَسْمع من في الكَون أمر مُحِبِّنا

فإذا هِبْتَ الله هابك كُلُّ شيء، وإذا خِفْتَ الله خافك كُلّ شيءٍ، وإذا أحَبَّك الله أحَبَّكَ كُلّ شيء، وإذا أطَعْتَ الله أطاعَكَ كُلّ شيء، وإذا أقْبَلْتَ على الله أقْبل عليك كُلّ شيء، ليس هناك شيء أشقى من أن تعيش في سَخَط الله، وأنْ يكون عملك ومِهْنَتُك وكَسْبك في سَخَط الله، وقْتُ فراغه في سَخَط الله، ولَهْوُهُ في سَخَط الله، وجِدُّهُ في سَخَط الله، وسَفَرُه في سَخَط الله، فهذا هو الشقيّ، الذي يرى المَعْصِيَة حلالاً .
إذاً: لمَّا قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: اِرْمِ سَعْدُ فِداك أبي وأُمِّي، فهذه أكبر شهادة، ومرَّة ثانية أقول: إذا أَحَبَّكَ المؤمنون فهذا وِسامُ شَرَفٍ، قد تتَوَدَّد من أجل أنْ تدخل على الأغنياء من أجل شيء تافِه، لذلك من توَدَّد إلى الأغْنياء خرج من عِنْدهم وهو ساخِط على الله, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ, وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ, وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن عائشة]
أيها الأخ الكريم, فأنت لا بد أنْ تُصاحب المؤمنين، وتدخل عليهم، وهم الذين يعْرفون قيمتك وفضْلك وورَعَك وعِلمك وحُبَّك لله، وشَوْقك إليهم، لذلك لا تصْحَب من لا يُنْهضك حاله، ولا يدلُّك على الله مقاله، وقْتُك ثمين، فالبُطولة باخْتِيار الصديق, أن يكون مؤمناً مُخْلصاً وودوداً، إنْ أدْبَرَت الدنيا عنك أقبَلَ عليك، وإنْ أقْبَلَت ابتعَدَ عنك، أما أهل الدنيا إنْ أقْبَلَت عليك الدنيا أقبَلوا عليك، وإن أدْبَرَت أدبَروا عنك، وهؤلاء أشْأمُ الناس .
ما هي الأسلحة التي كانت في جعبة سعد بن أبي وقاص ؟

سيّدنا سعْد بن أبي وقاص كان يقول:

((والله إني لأوَّلُ رجُلٍ من العَرَب رمى بِسَهْمٍ في سبيل الله))
هذا الصحابي الجليل معه سِلاحان قويَّان: رُمْحُهُ ودُعاؤُهُ، فقد كان مُسْتجاب الدعوة، لماذا كان مُسْتجاب الدعوة؟ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دعا له أنْ يكون مُسْتجاب الدعوة، فقال: اللهم سدِّدْ رَمْيَتَهُ، وأجِبْ دَعْوَتَهُ, خرجت من أعماق قلبه, أُحِبّ أن أربط الماضي بالحاضِر، والسيرة منهج في حَياتِنا ، أحْياناً تخْدُمُ إنْساناً خِدْمة, فَيَقول لك: وفَّقَك الله وأحسَن إليك، وجزاك الله عنا كُلّ خير، تَشعُر أنها خرجت من أعمق أعْماقه, فهذه الدّعْوة أيها الأخوة، والله خيرٌ لك من الدنيا وما فيها . إليكم هذه القصص نستنبط منها العبر والحكم :
قِصَّة أعْرفها جيِّداً، بطلها أحدُ أخْواننا, بيتُه بالأُجرة في أحد الأحياء الراقِيَة بِدِمَشْق، ففي أثناء أزمة السكَن الخانِقَة, قالتْ له صاحِبَةُ البَيْت يا فلان, أريد البَيْت، ألم تَقُل لي: عندما تُريدين البَيْت سأخْرُج منه, فقال لها: أنا حاضِرٌ، فقالتْ له: غداً تعال، في اليوم الثاني جاء فإذا به يجد مُحاميًا، وقد جهّز الأوراق للتوقيع فوقّعها المستأجِر، فإذا بِالمُحامي, يقول له: أنت مجْنون، كيف تُوَقِّعَ هذه الأوْراق؟ لقد أصْبَحْتَ في الطريق فجاءني, وقال لي: هكذا فَعَلْتُ، فقُلْتُ له: ليس لك إلا الله، ودَلَلْتُهُ على قِيام الليل، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام, يقول: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
القِصَّة طويلة, ولكن مُلَخَّصُها: خلال ستَّة أشْهر وجدَ بيْتاً في بِناء عَمَلِه، وله دُكان شهيرة، والبِناء عالٍ ومفْتوحٌ مِن ِأَرْبع جِهاتٍ, هذا تَوْفيقٌ من الله عجيبٌ !! قال لي: أنا وقَفْتُ فإذا بي أجد نفْسي في بَيْتٍ أملِكه, سِرُّ هذه القِصَّة أنَّ صاحِبَة هذه البيْت لها بِنْتٌ عانِس، وقد فاتَها قِطارُ الزواج، ثمّ جاءَها شابٌ يَخْطُبُها، وقد أعْجَبَتْهُ، ولكِنَّ المُشْكلة ليس عنده بيتٌ، فقالت هذه البِنْتُ لِأُمِّها: سلي فُلاناً المستأجِر, هل يُمْكِنُهُ أنْ يُعْطِيَنا البَيْت؟ وحدث الذي عَلِمْتُموه، فهذه الفتاة العانِس ذَهَبَتْ لأداء العُمْرة، ومن أوَّل الطريق وفي مكَّة وفي الطَّواف وفي السَّعْي وفي المدينة وفي العَوْدة, تقول: يا رب وَفِّقْ فُلاناً لِبَيْتٍ أحْسن من بيْته، لأنَّهُ جَبَرَ خاطِري، فجَبَر اللهَ خاطره حقًّا، فإذا دعا لك أخوك دَعْوَةً صادِقَة، واللهِ أيها الأخوة, هي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها .

فإذا قضيْتَ لأخيك حاجةً من حاجاتِ الدنيا، وقال لك: جزاك الله خيراً، فهي خيرٌ لك من الدنيا وما فيها، كان هناك أخٌ من أخْواننا يُعاني أزمة صعبة مع أهْله، فأحدُ أخْواننا أمَّن له بيْتاً، فلما اِلْتَقَيْتُ معه, قُلْتُ له: واللهِ من أعْماقي أشْكُرك، لأنَّك أعَنْتَ أخاً، ونحن يا أيها الأخوة، مَجالِسُنا ليْسَتْ مجالسُ كلام, مجالِسُنا مجالِسُ مُعاوَنَة، نحبّ أنْ نعيش عَيْشَة النبي مع أصْحابه، وهذه هي سُنَّتُهُ, حياةُ المـَوَدَّة والمُعاوَنَة، حياةُ الأُخُوَّة الصادِقَة والمُؤاثرة، هل من مرَّةٍ وجدتَ أخاً بِلا شُغْلٍ؟ فَقُلْتَ له: دخْلي بيْني وبيْنك, فهكذا فعل الصحابة .

أخٌ بيننا يحْضُر جاءهُ أخٌ في الله, وكان يشْتغلُ ويتقاضى بِالشهْر ألْفَيْن وخمسمئة ليرة، أو ثلاثة آلاف، وقال له: فَقَدْتُ عملي، وأنا مُتَزَوِّج حديثًا، فقال له هذا الأخ الكريم: تعال، وخُذْ نِصْفَ دخْلي، وهي ثلاثة آلاف، إنّه موقف بُطولة، أقْسَمَ بالله وهو حيٌّ يُرْزق, ولعلَّهُ بيننا: أنَّ الشهْر الأول أكرمهما الله بِثَلاثين ألْفًا، قفز َدخْلُهما من ثلاثة آلاف إلى ثلاثين ألفًا، قال تعالى:
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
( سورة غافر الآية: 64 )
إنّ الدعاءُ أكبر سِلاحٍ, خالقُ الكَوْن معك، ولذلك قال العلماء: إذا الْتقى الإنْسان بِشابٍ بارٍّ لِوالِدَيْه لِيَسْأَلْهُ الدعاء، لأنَّ دعاءهُ مُسْتجابٌ، فَمَن كانَ باراً بِوالِدَيْهِ فقد أكْرَمَهُ الله بأنْ جعَلَهُ مُسْتجاب الدعوة .
بِالمُناسبة, أنْ تُسْتَجابَ دعْوَتُك هذه من إكرام الله لك، وإحدى كرامات المؤمن أنْ يجْعَلَهُ اللهُ مُسْتجاب الدَّعْوة . إليكم غيرته على أصحاب رسول الله مما دفعه إلى اﻹلتجاء على باب الله بشأن هذا الرجل :
يُرْوى أنَّ سيّدنا سَعْد رأى رَجُلاً يسُبُّ علِياً كرَّم الله وجْهه وطلْحة والزبير فنهاهُ فلم ينْتهِ ، فقال له: أدْعو عليك, فقال الرجل: أراك تهددني كأنَّك نبِيّ، فانْصَرَفَ سعْدُ وتوضَّأ وصلى ركْعَتَين، ثمّ رفع يديه, وقال: اللهم إنْ كنت تعلم أنَّ هذا الرجل قد سَبَّ أقْواماً قد سَبَقَتْ منك لهم الحُسنى، وأنه قد أسْخَطَك سَبُّهُ إياهم فاجْعَلْهُ آيةً وعِبْرة، ولم يمْضِ إلا الوقتُ اليسير حتى خَرَجَت من إحْدى الدور ناقَةٌ شاردة لا يَرُدُّها شيء، فدخلَتْ في زِحام الناس كأنها تبْحثُ عن شيء، ثمَّ اقْتَحَمَت الرجل، وأخَذَتْهُ بين قوائِمِها، وما زالتْ تَخْبِطُهُ حتى مات .
قصص من هذا القبيل :
حَدَّثني أخٌ بِمَعْمل, فقال: كان هناك خبير من بلادٍ كافرة، في أثْناء تَجَوُّلِهِ بين الآلات سمع كلمة (الله)، فطلب تَرْجَمة لها، فلما علم أنها (الله) فإذا به يشْمَئزّ ويسبّ، وفي أثناء مروره اقترب من آلةٍ فدخل ثوْبُهُ بين المُسَنَّنات، فحَمَلَتْهُ إلى سَقْفِ الغُرْفة، ثمّ رمَتْهُ أرْضاً ميِّتاً، فَبَيْنَ سِبابِهِ للذات الإلهيّة وبين تَحْطيمه لم يمضِ إلا ثوانٍ .
فإذا ظلَمْتَ أحداً وكانَ ضعيفاً, وقال لك: شَكوتُك إلى الله فإذا كنت تعْرف الله فلا بد أنْ ترْجف مفاصِلك, قالوا لك: فإنّ القانون إلى جانبك، وخصمك ضعيف، ومعه وثيقة، وأقام دعوى عليك، وتخلَّصٍت منها عن طريق القاضي, وقُلتَ له: هذا الحاضر واشْرب البحر الآن, فقال لك: شكوتُك إلى الله، فاحذَرْ .
يَرْوون قِصَّة قد تكون رمْزِيَّة ولكنَّها مُؤثِّرة، أنَّ رجُلاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج، فإذا بالباب يُطْرق، فقامَتْ لِتَرى من الطارق، فإذا بالباب سائِل، فالزوجة أرادت أنْ تُطْعم ذاك السائل، ولِبُخل الزوج صار يسبّها ويعَنَّفُها، وقال: اطْرُديه، فَطَرَدَتْهُ، وعادت، ولا زالت العلاقة تسوء بينه وبيْنها إلى أنْ طلَّقها، وبعد تطْليقها تَزَوَّجَها إنْسانٌ آخر فقير، وهذا الإنسان أخذ اللهُ بِيَدِهِ حتى أصْبح غَنِيّاً، ومرَّةً كانت تَجْلِسُ معه يأكلان الدجاج، وإذا بالباب يُطْرق، وعادَتْ مُضْطَربة فقال لها: ما بك؟ فقالت: لا شيء، سائِلٌ، فقال: من هذا السائِل؟! قالَتْ: إنه زوْجي الأول، قال: أَتَعْلمين من أنا؟ أنا السائِلُ الأول, الله أكبر .

أحْياناً يتوفى الرجل، فإذا بالابن الأكبر يأخذ كلّ ثروة أخوته الصِّغار، والأم معه، ويسْتولي على البيت والمزرعة، ويُكَلِّف أخوته البنات بأنْ يوكِّلْنَه وكالة عامَّة، فيحتال عن طريق تلك الوكالة، ويَحْرُمُهُنّ ميراثهن، ويظنّ أنه قد فاز، ونسي أنّ الله عز وجل قادرٌ على أنْ يجعله يشتغل بعد حين أجيراً عند أخْوته الصِّغار، وقد وقع الكثير من هذا، والله يمْتَحِنُك، وبعْد حين يأتي الردّ، فما معنى قوله تعالى:

﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾
( سورة الفجر الآية: 22 )
لقد فَسَّرَها العلماء: جاء أمر ربِّك، واللهُ يُرْخي لك الحَبْل، فإذا به تجِدُه يتعالى، ويغْتصب وينْتهك أعْراضًا، ويقْهر الضعيف، إلى أنْ يأتي أمرُ الله، عندئذٍ يأتي وقتُ الحساب، فتأتي الأمور على خِلاف ما يريد، وعندها يُدمِّره الله عز وجل جزاءً وفاقًا . سعد كان من أولئك الرجال الذين أمدهم الله بسعة في المال :
سيدنا سعد، هذا الصحابي الجليل كذلك قِصَّته غريبة، فقد كان غَنِياً، ولكن قيل: قَلَّما يجْتمعُ المالُ الوفيرُ مع الحلال، أما هذا الصحابي كانت أمْواله كثيرة من وَجْهٍ حلال، أمّا الآن فإذا وَجَدتَ غِنى فُجائيًا, فهذا شيءٌ يُحَيِّر العقول السليمة, أكبر شركة في العالم من دون اسْتِثناء وَزَّعَتْ أرْباحاً بِنِسْبَة ثمانِيَة عشر بالمئة، لكن الذي يُعْطيك بالمئة سبعين أرباحاً، فهذه تَمْثيلِيَّة، وكثير من الأشخاص تجدهم يربحون رِبْحاً خيالِياً، ثمّ تجد المال قد ذهب, فالمال الوفير إذا لم تكُن لصاحبه اسْتِقامة فإنّه يُظَنّ أنه مال حرام، أقول: يُظَنُّ، لا على اليقين، فسيّدنا سعد اجتمع عنده الحلال الطَيِّب الكثير، لكن هناك من تجده أسْتاذاً في فنِّ الكَسْب، وأُسْتاذاً في العطاء، فماذا قال سيّدنا ابن عَوْف: يا رب، وماذا أصْنع إذا كنتُ أُنْفقُ مئةً في الصباح فَيُؤْتيني الله ألْفاً في المساء؟

عَنْ سَعْدَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, قَالَ:

((عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى, وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ, أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا, قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا, قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ, وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي امْرَأَتِكَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
لذلك في السنة لك الحق في التصرُّف في الأعمال الصالحة كبِناء المساجد، والنفقة على طلاب العِلْم، ونشْرُ الكُتُب، وإطْعامُ الفُقَراء، وأبواب الخير كثيرة، ولكن كل هذه الأموال التي اجْتمعت لا تزيد عن رُبُع المال، لأنّ الثُّلُثُ كثير، ثمَّ قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
كنتُ أردِّد كلمة دائمًا: الفقير أنت له، وغيرك له، ولكن ابْنك مَنْ له غيرك, فلذلك:
((إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
هل تعْرفون أنَّ هناك وَصِيَّة محرَّمة؟ هي الوَصِيَّة لِوارِث، هذا لدَيْه امرأة وخمْسة أوْلاد ، فيوصي بِثُلُث مالِه للفقراء، ولا يمْلك إلا بيْتاً تِسْعين متْراً, أين يذهب أولادك؟ فالضَّرر بالوَرَثَة من أجل الوَصِيَّة، هذه الوَصِيَّةُ حرام,
((إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي امْرَأَتِكَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]

فإذا أطعم الإنسانُ أهْله وكساهم وأشْبَعَهُم وأضْحَكَهُم، أنت بهذا تبْتغي وجْه الله، دَخَلَ فقيرٌ على غَنِيٍّ فَوَجد أنَّ تَكْلُفَة الحمام المَوْجود عند هذا الغَنِيّ تعدل خمسمئة ألف ليرة، والبيت أربعمئة متر، أحَسَّ هذا الفقير أنَّهُ كإنسان لا يعدل شيئًا، وهذا الغَنِيّ بدأ يتفَلْسَف، وقال: لم أقْصِد بهذا حبَّ الدنيا، ولكن للأَخْذ بِيَد أهْلي إلى الله والدار الآخرة، فلما رأتْ زوجةُ الفقيرِ البيْتَ تشاجَرَتْ معه إلى أنْ وصل الأمر إلى ضربها، فماتَتْ، فقال هذا الرجل للغنيّ: أنا أخَذْتُ بِيَدها إلى الدار الآخرة مُباشَرَةً, وشرُّ البلية ما يضحك .

سعد رجل من أهل الجنة كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام :
ذات يوْمٍ كان النبي عليه الصلاة والسلام جالِساً مع أصْحابه فَنَظَر إلى الأُفُق بإصْغاء، ثمّ قال:

((يطْلع عليكم الآن رجُلٌ من أهل الجنَّة، فأخذ الأصْحابُ يلْتَفِتون صَوْبَ كُلِّ اتِّجاهٍ، يسْتَشْرِفون هذا السعيد المُوَفَّقُ المَحْظوظ، ثمَّ أطلَّ سيّدنا سعْد عليهم، فلاذَ به أحدُ الصحابة، وقال له: قُل لي: ماذا تفْعل؟ وكيف اسْتَحْقَقْتَ هذه البِشارة من رسول الله؟ وبعد إلْحاحٍ، قال له: لا أعمل إلا ما تعْملونه جميعاً من العِبادة, أصوم وأُصلي وأغضّ بصري, غير أني لا أحمل لِأحدٍ من المُسلمين ضِغْناً ولا حقدًا ولا أبغيهم سوءًا))
لذلك عندما نجد بين المُسلمين مُشاحنات وحسد، أحُسّ بِضيقٍ ليس له حدود، أما إذا وجدتُ مودَّةً وحباً ووِفاقًا، أشْعُر بِراحَةٍ كبيرة، فالذي جعله النبي صلى الله عليه وسلّم من أهلِ الجنّة أنّه لا يحْمل في قلبه ضِغْناً ولا سوءًا .
هذا الصحابي، إنه الفارسُ يوم بدْر وأحد، وفي كلِّ مَشْهَد شهِدَهُ النبي عليه الصلاة والسلام . سعد لم يمنعه بره لوالدته ترك دينه كما أمرت :
آخر قِصَّة لِهذا الصحابي، كانت مع أُمِّه، أنا أدْعو ليلاً نهاراً لِبِرِّ الوالِدَيْن، لكن يُؤْلِمُني أشدّ الألم حينما أرى مؤمناً يسْتَجيبُ لأبٍ فاسِقٍ ويُطيعُهُ، ويعصي الله عز وجل, هذا ليس بِراً إنما هو معْصِيَةٌ وضَعْف، فَسَيِّدُنا سعْد حاوَلَتْ أُمُّهُ كثيراً أنْ تصْرِفَهُ عن هذا الدِّين فلم تُفْلِح، فاسْتَخْدَمَتْ آخر ورقَةٍ رابِحَة بِيَدِها, وهي حياتها، فقالت له: يا سعْد, إني سأصوم عن الطعام، ولن أُفْطر حتى تكْفر بِمُحَمَّد أو أنْ أموت، سيّدنا سَعْد إيمانه كالجِبال, قال: تعْلَمين واللهِ يا أُمي, أنه لو كانت لك مئةُ نفْسٍ فخَرَجَتْ نفْساً نفْساً، ما تَرَكْتُ دينَ مُحَمَّدٍ، فَكُلي إن شِئت أو لا تأكلي, ثمَّ تلا قوله تعالى:

﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
( سورة لقمان الآية: 15 )
أنا أدْعوكم ليلاً ونهاراً، صُبْحاً ومساءً، في كُلِّ درْسٍ إلى بِرِّ الوالِدَيْن، أما أنْ أرى مؤمناً يُؤْمرُ بالمَعْصِيَة كالاخْتِلاط وكسْب المال عن طريق الرِّبا, لأن والده أمره بهذا, هذا ليس هو البر, والله تعالى يقول:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾
( سورة الإسْراء الآية: 23 )
فمن عبد والِدَيْه بأن أطاعَهُما، وعصى ربَّهُ فقد ضلَّ سواء السبيل .
إليكم بيان الوصية التي كتبها عمر لسعد حينما أرسله إلى العراق :
لما أرسله سيّدنا عمر إلى العراق أعْطاهُ وَصِيَّةً، وأُحِبَّ أنْ أُلْقيها على مسامِعِكم لأنها حاسِمَة، قال له:
((يا سعْدُ بن وهيب، لا يَغُرَنَّك من الله أنْ قيل: خالُ رسول وصاحِبُهُ، فإنَّ الله ليس بينه وبين أحدٍ نسَبٌ))

فلا تتقرَّب من الشيخ ظناً منك أنه يُنْهي لك مُشْكِلاتك، ثم تقول: واللهِ ما انتهى شيء, والمعْصِيَة هي هي، تُحاسب عليها حِساباً عسيراً، لو اسْتَطَعْتَ أنْ تنْتَزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام فَتْوى لِصالِحِكَ، ولم تَكُن مُحِقاً فلن تنْجُوَ من عذاب الله، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ, وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ, وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ, فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ))
[ متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح]
فإذا كان هذا النبي وعَظَمَته وقُرْآنه لا ينْفَعُك من دون الله، أيَنْفَعُكَ شيخٌ من دون رسول الله ؟ ((الناسُ شريفهم ووضيعُهُم في ذات الله سواء، فالله ربهم، وهم عِبادُهُ، يتفاضلون بالعافِيَة، ويُدْركون ما عند الله بالطاعة))
سواءٌ كنت من نسبٍ رفيع أو وضيع، وسيم الهَيْئة أو ذميماً، ذَكِياً أو بليداً، هذا كله لا قيمة له، بِطاعة الله وحده تسْتطيع أنْ تصل إلى ما تريد، التعاوُنُ مع الله سهلٌ، ولا يوجد عند الله مُقَرَّبون ومُبْعَدون إلاّ بالتقوى، وهؤلاء من جماعَتِه، وهؤلاء ليسوا من جماعَتِه، فكلُّنا عباد الله، وطريقُ رِضْوانه, وما عنده من إكْرام يُنال بطاعته .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:43 PM   #6


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : (السادس )

الموضوع : سيدنا سعيد بن زيد





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
علام تدل هذه القصة ؟
أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس السادس من دروس السيرة النبويَّة، وسِيَر الصحابة الكِرام رِضْوان الله عليهم أجْمعين، وصحابِيُّ اليوم هو أحدُ الصحابة العَشَرة الذين بشَّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنَّة، وهو سعيد بن زَيْدٍ، والأخْبار عنه قليلةٌ، ولكن مع قِلَّتِها فيها دلالاتٌ كثيرةٌ .

هذا الصحابيّ الجليل، والده اسمه زَيد بن عمرو بن نُفَيل، كان مرَّةً في مكَّة المُكّرَّمَة، وكانت قُرَيْش تحْتفلُ بأحد أعْيادِها، فرأى الرِّجال يعْتَجِرون بالعَمائِم السُّنْدُسِيَّة الغالِيَة، ويَخْتالون بالبُرودِ اليمانِيَّة الثمينة، وأبصر النِّساء والوِلْدان وقد لبِسوا زاهي الثِّياب وبديع الحُلَل، ونظر إلى الأنعام يقودُها الموسِرون بعد أن حلَّوها بأنواع الزِّينة ليذبحوها بين أيدي الأوثان .
وقف زيد بن عمرو بن نفيل والد سيدنا سعيد بن زيد، مُسْنداً ظهره إلى جدار الكعبة وقال: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله عز وجل، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل، إني أراكم قوما تجهلون .
ماذا تَدُّلُّ هذه القصة؟ النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعث بعد، وهذا الإنسان ما الذي جعله ينكر على قومه هذه الأفعال؟ قال: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله عز وجل، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل، إني أراكم قوماً تجهلون .

أسألكم سؤالاً يبدو لكم أنه لا علاقة له بهذه القصة، كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، لِمَ لمْ يقل النبي عليه الصلاة والسلام: أو يُسْلِمَانه؟ لأن الإسلام هو الفطرة، والفطرة هي الإسلام، وهذا الإنسان جُبِلَ جِبِلَّةً، وبُنِيَ بناءً، وصُمِّم تصميما حيث إنه إذا عرف الله عز وجل، وعرف أمره, وطبَّق منهجه ارتاحتْ نفسه، وإذا حاد عن منهج الله تغلي نفسه وتضطرب، لذلك فالعصاة في حالة غليان، و في حالة اختلال توازن، كما سمَّاها علماء النفس، وسمَّاها العلماء أيضاً ُعْقَدُة الذَّنْب، فحينما خرج عن فطرته شعر بخلل، والله جل جلاله أشار إلى الفطرة قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
( سورة طه الآية: 124)
هذه هي المعيشة الضنك حينما تسلك في الحياة سلوكاً غير سُلوك الدِّين، وغير المنهج الذي رسمه الله لك تشعر بالاضطراب والضيق، فالإنسان إذا أحبَّ ذاته ووُجوده، وسلامة وُجوده وراحة نفْسه، وأحَبَّ اسْتِقْرارها وطُمَأنينتها، وأنْ تتنَزَّل السكينة على قلْبه فَعَلَيْهِ بِطاعة ربِّه عز وجل .
قيمة هذه القصة أنَّ والد سيّدنا سعيد بن زيدٍ عاشَ قبل بِعْثة النبي وما سمِع بالقُرآن ولا بِالنَّبي العَدنان، ولا قرأ كتاب الله، ولا نُقِلَتْ إليه الأحاديث الشريفة, شيءٌ فِطْري فَفِطْرَته السليمة أبَتْ هذه العادات القبيحة . ما المقصود في هذه الآية فأقم وجهك للدين حنيفاً ؟

أيها الأخوة, الله عز وجل يقول:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
( سورة الروم الآية: 30)
إعراب هذه الكلمات في هذه الآية أنَّك إذا أقمْتَ وجْهَكَ للدِّين حنيفاً, إقامة وَجْهِك للدِّين حنيفاً هي عَيْنُها فِطْرة الله .
لذلك أيها الأخوة, أصْدُقُكم أنَّ المؤمن المُسْتقيم على أمر الله يشْعر بِراحَةٍ نفْسِيَّة وطُمأنينةٍ وسكينةٍ، لو وُزِّعَتْ على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم، ويشْعُر المُعْرِض عن الله عز وجل باضْطِرابٍ واخْتِلال توازُنٍ وعُقْدة نقْصٍ، وشُعورٍ بالذَّنْب وقلقٍ واضطراب وغَلَيانٍ, لو وُزِّع على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم، هذا الإنسان على الفِطْرة, إنما فطرته السليمة قادَتْهُ إلى اسْتِنكار أفْعال قُرَيشٍ .

ما هو موقف الخطاب والد عمر من قول زيد بن عمرو والد سعيد ؟
أمَّا عمُّ زيد بن عمرو فهو الخطَّاب, والد عمر بن الخطَّاب، قال تعالى:
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾
( سورة الروم الآية: 19)
قالوا: هذا الخطَّاب والد عمر بن الخطَّاب, قام إليه فلطمه, وقال: تبًّا لك ما زلنا نسمع منك هذا البذاء, هذا الكلام السخيف، ونحتمله حتَّى نفد صبرنا .
مرَّةً ثانية، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى يوم القيامة, هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل في كل عصرٍ ومصرٍ، وفي كل مجتمع وبيئة, وبين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان، المؤمنون يحبُّون الناس جميعاً، هذه صبغة الله التي اصطبغوا بها، لكنَّ أهل الدنيا لا يحبون المؤمنين، دائماً يقفون في الصفِّ المعارض .

لذلك أيُّها الأخ الكريم, وَطِّنْ نفسك أنَّك إذا اتَّبعتَ منهج الله فسيكون لك خصومٌ وأعداء، ومنتقدون ومُجَرِّحون، ولك من يعيب عليك، ويبحث عن أخطائك الطَّفيفة ويكبِّرَها، ليُثبِت لنفسه وللنَّاس أن الدِّين لا يصلح لهذا الزَّمان، لهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام:

((أنت على ثُغرةٍ من ثُغَرِ الإسلام فلا يُؤْتَيَنَّ من قِبَلِك))
[ورد في الأثر]
المسلم هو بشرٌ، وليس معصوماً، لكن أهل الباطل يسلِّطونُ على أخطائه الطَّفيفة أشدَّ الأضواء، ويكبِّرُونها أشدَّ التَّكبير، ويُشهِّرون به أشدَّ التَّشهير حتَّى يرتاحوا, لأنَّهم إذا رأوا المسلم إنساناً ناجحاً منضبطاً ظهر خللُهم ونقصهم وعيبهم، فإذا نهشُوه بألسنتهم، وكبَّروا أخطاءَه ارتاحوا, فالمسلم العاقل لا يمكن أهلّ الباطل من خطأ عليه، ولا يُمِّسك أهل الباطل خطأً يتاجرون به .
يُروَى أنَّ أحدَ الملوكَ الطُّغاةَ أرادَ أن يضعَ العلماءَ في موقفٍ صعبٍ، فوضعَ لحمَ خنزيرٍ، وأمرهم أن يأكلوا منه، ومن لم يأكل ضُرِبَتْ عُنُقُه، أحدُ العلماء الورعين الذين أحَبَّهم الناسُ حبًّا جمًّا قُدِّم له اللَّحمُ، وقيل له: هذا لحمُ ضَّأن وليس لحم خنزير، جيء به لأجلك, كُلْهُ ولا تَخَفْ، فرفض أن يأكله حفاظاً على سمعة العلم، وقال لهم: أنا آكلُ لحم الضَّأنِ، ولكنه عند الناس لحم خنزير، فرفض أن يأكله، وضحَّى بحياته حفاظًا على سمعة العلم والعلماء .

إنَّ هذا الدِّين قد ارتضيتُه لنفسي، ولا يُصلحُه إلاَّ السَّخاء وحُسْنُ الخُلق، فأكرموه بهما ما صحِبْتُمُوه، هناك داعية وهناك مُنَفِّرٌ, الدَّاعية يعطي المثل العالي ويُدهش الناسَ مِن كماله وأخلاقه ، أمَّا المُنَفِّرُ فيُبَعِّدُ ويَقطع، فالإِساءةُ من مسلمٍ إساءتان, لأنك إذا أسأْتَ يُقالُ لك: أهكذا الإسلام؟ فلا تُنْسَبُ الإساءة إليك بل إلى إسلامك، فكل إنسان له موضعٌ قِياديٌّ يُحاسب مرَّتين، قال تعالى:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 30)

لذلك أيُّها الأخوة الأكارم, موقفٌ أخلاقيٌّ واحدٌ خيرٌ من مئة محاضرة، عفة في المحاسبة ، دخلٌ حلالٌ، موقفٌ فيه شهامة فيه مروءة، وإنصاف وتواضع، أفضل بِكَثير للمسلمين اليوم من مُحاضرة عَصْماء بليغةٍ، لذلك أصحاب النبي لو اكْتفَوا بِالكَلام لما خرج الإسلام من مكة المكرمة ، لكن وصل الإسلام إلى أطراف الصين وإلى وسط أوروبا عن طريق سلوكهم وأفعالهم .
أيها الأخوة, ثمّ أغرى به سُفهاء قَوْمه، فآذَوْهُ ولَجُّوا في إيذائِهِ، حتى نزح عن مكة، والْتَجَأ إلى أحد جبالها وشِعابِها، فَوَكَّل به الخطاب طائِفَةً من شباب قُرَيْش لِيَحولوا بينه وبين دُخول مكَّة فكان لا يدْخُلُها إلا سِراً لأنه قال كلمة الحق، قال تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾
( سورة البروج الآية: 8)
ما هو محور الاجتماع الذي اجتمع فيه زيد ومن معه ؟
قالوا: هذا زيد بن عمرو بن نفيل, اِجْتَمَعَ في غَفْلةٍ من قُرَيْش إلى كلٍّ من ورقة بن نَوْفَل ، وعبد الله بن جَحْش، وعُثمان بن الحارث، وأُمَيْمَة بنت عبد المُطَّلِب عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم
وجعلوا يتذاكرون فيما غَرِقَتْ فيه قُرَيْشٌ من الضلال، فقال زيْدٌ لأَصْحابه: إنكم واللهِ، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ, وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة، فَهَبَّ الرِّجال الأربعة إلى أحْبار اليهود والنصارى وغيرهم من أصْحاب المِلَل، يَلْتَمِسون عندهم الحَنِيفِيَّة دين إبراهيم، استمعوا إلى هذه الآية الكريمة، قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
( سورة العنكبوت الآية: 69 )
فإذا كنت في حَيْرَةٍ من أمْرك، وبَحَثْتَ عن الحقيقة، وجَهِدْتَ من أجْلها ودَعَوْتَ الله عز وجل، وقلتَ: يا ربّ أبْتغي الحقيقة، وأبتغي وجْهَك الكريم ورِضْوانك، دُلَّني على ما يدُلُّني عليك، اُرْزُقْني حُبَّك وحُبَّ من يُحِبُّك وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُني إليك، اُرْزُقْني إلى أنْ ألْتَقِيَ مع أحْبابك، ومع من تُحِبُّهم، فهذا الدعاء له أثره إنْ شاء الله, وهذا قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
(سورة العنكبوت الآية: 69 )
قال: أما ورقَةُ بن نَوْفَل فَتَنَصَّر، وأما عبد الله بن جَحْشٍ وعُثمان بن الحارث فلم يَصِلا إلى شيءٍ .
إليكم قصة زيد وهو يبحث عن الحقيقة :
أيها الأخوة, أما زيد والد سيّدِنا سعيد فكانت له قِصَّة ولْنَدَعْ له الكلام لِيَرْويَها لنا:
قال زَيْدٍ:
((وَقَفْتُ على اليهودِيَّة والنَّصْرانِيَّة فأعْرَضْتُ عنهما، إذْ لم أجِدْ فيهما شيئاً أطْمَئِنُّ إليه - طبْعاً بعد أنْ حُرِّفَ كلٌّ منهما- وجَعَلْتُ أضْرِبُ في الآفاق بحْثاً عن مِلَّة إبراهيم، حتى صِرْتُ إلى بلاد الشام، فَذُكِرَ لي راهِبٌ له علْمٌ من الكِتاب، فأَتَيْتُه وقَصَصْتُ عليه أمْري، فقال: أراك تُريدُ دين إبراهيم يا أخا مكَّة، قُلْتُ: نعم، وذلك ما أبْغي، فقال: إنَّك تطْلب ديناً لا وجود له اليوم، ولكِنَّ الحق بِبَلَدِك، فإنَّ الله يبْعَثُ مِن قَوْمِك مَن يُجَدِّدُ دين إبْراهيم، فإنْ أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ))

وهذا مذكور في كتب النصارى، كما يبيِّنه قوله تعالى:
﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
(سورة الصفّ الآية: 6 )
وهناك بعض الطبعات للإنجيل فيها إشارة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، منها إنْجيل بَرْنابا، ((فَقَفَل زيدٌ راجِعاً إلى مكَّة بِخُطى حثيثَة اِلْتِماساً للنبيّ المَوْعود، ولما كان في بعض طريقه بعث الله نبِيَّهُ محمَّداً بالهُدى ودين الحق، وبينما هو في الطريق ظهر النبي محمّدٌ، ودعا الناس إلى التوحيد، ولكنَّ زيْداً لم يُدْرِكْهُ، إذْ خَرَجَتْ عليه جماعَةٌ من الأعراب فَقَتَلَتْهُ, فالعَرَب في ِالجاهِلِيَّة كانوا قُطاعاً للطرق، قالوا: وقبل أن يبلغ مكَّة، وقبل أنْ تكْتَحِل عيْناه بِرُؤية النبي عليه الصلاة والسلام، وفيما كان يلْفِظ أنْفاسه الأخيرة، رفع بصره إلى السماء, وقال: اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير، فلا تحْرم منه ابني سعيداً))
نية المؤمن أبلغ من عمله :
هنا وَقْفَة لطيفة، وهي:
قد يكون الأب ليس من الفِئة المُتَعَلِّمة، فإذا أنْجَبَ مَوْلوداً ووجَّهَهُ إلى العِلْم الشرعي، وأصْبح هذا الغُلام عالِماً جليلاً, فكُلُّ دَعْوة هذا الغُلام في صحيفة الأب، فما أجْمل الدُّعاء, فزيدٌ لم يلتقِ بالنبي، ولكنَّ هذه الدَّعْوة تركتْ أثراً كبيراً، أما أنْ تتزَوَّج وتتْرُك أولادك في ِالطُّرقات، يمارَسُون هِواياتهم، ويشبّون على معْصِيَة الله، وقد تذهب أخلاقهم، فهل هذه أُبُوَّة؟ في حين أنّ هناك من يُنْفِقُ أكثر وَقْتِه في تَرْبِيَة ابنه، فهذا الذي يُنْفقُ وَقْته في تَرْبِيَة ابنه يُعْتبر هذا أهمُّ وَقْتٍ تُنْفِقُهُ في حياتك، لأنَّ ابنك اسْتِمْرارٌ لك، وخليفةٌ لك، وكلّ الخير الذي يظهر من ابنك في صحيفتك، من أراد ألاّ يموت وأنْ يبْقى ذِكْره حياًّ فعليه بِتَرْبِيَة ابنه ترْبِيَةً إسلاميةً صحيحة، فَلَعَلَّهُ ينْفع الناس من بعْده، والإنسان إذا مات انْقطع عمله إلا من ثلاث: أحد هذه الثلاث ولدٌ صالحٌ يدْعو له .
فهذا كانت له حُرْقة، وهي تَمَني لِقاء النبي، ولكنَّ فضل الله عز وجل كبير, فإنَّك إنْ كنتَ في أوَّل الطريق وجاءتْك المَنِيَّة فإنّ اللهَ عز وجل يُحاسِبُك الله وكأنَّك بلَغْتَ نِهاية الطريق، وهذا من كرم الله عز وجل, إنسان خرج من بيته يطلب العلم فإن أدْرَكَتْهُ المَنِيَّة فهو في ذِمَّة الله، وكأنه بلغ نِهاية العِلْم, وهذا من كرم الله عز وجل .
هل استجاب الله دعوة زيد بن عمرو , وما هو المغنم الذي رزق به سعيد وزوجته ؟
فربنا عز وجل اسْتجاب لِزَيْدٍ دَعْوَته الحارَّة، وسيّدنا سعيد بن زيد ما أَنْ بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام حتى بادر إلى الإيمان به، وكان من السابقين السابقين, آمن به من قبل أنْ ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار الأرقم، والحقيقة أنّ سيّدنا سعيد بن زيْدٍ, أسْلَمَ وأسْلَمَت معه زوْجته فاطمة بنت الخطاب, أُخْتُ عمر بن الخطاب
وقد لَقِيَ هذا الفتى القُرَشي من قومه ما كان خليقاً أنْ يفْتِنَهُ عن دينه، فلقد آذتْهُ قريشٌ وضغطتْ عليهِ، لكنه اسْتطاع أنْ ينتزع منهم عِمْلاقهم سيّدنا عمر، حتى إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يدْعو, ويقول:

((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ, بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ))
[أخرجه الترمذي عن ابن عمر في سننه]
وقِصَّة إسْلام عمر قِصَّةٌ مؤَثِّرة جداً, بلغه أنَّ أُخْته قد أسْلَمَتْ فانْطَلَق لِيَقْتُلها، وسمع القرآن الكريم فَلانَ قلبه، وخشع فُؤاده، وانْهَمَرَتْ دُموعه، واتَّجَهَ نحو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تَوَجَّس أصْحاب النبي خيفَةً من عمر بن الخطاب، فإذا هو قد جاء مُسْلِماً, قد يكون شخصٌ عبئًا على الإسلام، وآخر في خِدْمة الإسلام، وشاء الله أنْ يسلم عمر على يد سعيد بن زيد وأخته فاطمة، فمهما لَقِيَ سعيد من اضطهاد من قومه لكنَّ الله عز وجل وفَّقَهُ إلى أنْ يجعل هذا الإنسان العظيم يُسْلِمُ على يَدَيْه، فَسَيِّدُنا عمر في صحيفة سيّدنا سعيد بن زيد, وفي صحيفة أُخته فاطمة بنت الخطاب .
ترجمة عن حياة الصحابي الجليل سعيد بن زيد :
سيّدنا سعيد بن زيد حينما أسلم، كانت سِنُّهُ لا تزيد عن عشْرين عاماً، وأنا أقول لكم: يا معْشر الشباب كلما بَكَّرْتُم بمَعْرِفَة الله كُلَّما شَكَّلْتم حياتكم وِفْقَ منهج الله، واخْتَرْتُم مهْنَةً تُرْضي الله، وألْصـق شيء بالإنسان مَن؟ زوْجَتُهُ ومهنتُه، فإن اخْتار زوْجَةً فاسِدَةً مِن أهل الدنيا، شَهْوانِيَّة شيْطانِيَّة، ثمَّ اهْتدى إلى الله عز وجل فإنّه يتَمَزَّقُ تَمَزُّقاً لا حُدود له، فهو في وادٍ وهي في وادٍ, ولا شيءَ أسعد للمؤمن من زوْجَةٍ تُعينه على دينه، ولا شيءَ أسعد للمؤمن من أنْ يكون هو وأهله على شاكلةٍ واحدة .

سيّدنا سعيد بن زيد شَهِد مع النبي عليه الصلاة والسلام المشاهد كلَّها، إنّها هِمَّة عالية وقد يقول لك أخٌ: أنا آتي للدرس الجمعة والسبت والأحد، نقول له: تُشْكر على هذه الهِمَّة العالية، ونسأل اللهَ عز وجل أنْ يُبارك له في وقْتك, قال تعالى:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى﴾
( سورة الليل الآية: 5-13 )

إذا كان الله معك فَمَن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟! يا رب, ماذا فَقَدَ من وَجَدك، وماذا وجد من فقدك؟! قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 41 )
فقد كان الصحابة أعلى منازل من شباب زماننا، فيقولون لك: شَهِد المشاهد كلَّها، بدْرًا وأُحدًا والخندق وحُنينًا وتبوكَ ومُؤتة، أما الآن فلا حرْب ولا غزوة، وما عليك إلا أن تحضر الدرس وتسْتمع إلى كلام الله، والسنَّة النبوية المطهَّرة، ولأقوال الصحابة ومواقفهم المُشَرِّفة، ثمّ إنَّ المسجد نظيف، وهناك تكْبير صوت، وتَهْوِيَة وتدْفئة مرْكزيَّة، لا تحْتاج عند الدخول إلى وَصْل أو قسيمة أو اسْتِلام، عكسَ دُخولِك للمحامي أو الطبيب، فإنّه يكلِّفك مالاً كثيرًا، لكن بيْتَ الله دُخوله سَهْل .
إذاً: هذا الصحابي شَهِد المشاهد كلَّها إلا بدْراً، لكنه تخَلَّف عن بدْرٍ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كلَّفَهُ بِمُهِمَّة، فلما عاد إلى المدينة كان النبي قد خرج إلى بدْرٍ فلما لَحِقَ بالنبي عليه الصلاة والسلام كانت المعركة قد انتَهَتْ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أعْطاه سَهْماً، وكأنه قد شَهِدَ بدْراً إكْراماً له .
سعيد خاض مع المسلمين معركة اليرموك :
هذا الصحابي الجليل، سعيد بن زَيْد أسْهَم مع المسلمين في اسْتِلاب عرْشِ كِسْرى، وتقْويض مُلْك قيْصَر، وكانت له في كُلِّ مَوْقِعَةٍ خاض غمارَها المسلمون مواقف مشْهودة، وأيادٍ بيْضاءُ حميدة، ومن أرْوَعِ بُطولاته يوْمَ اليَرْموك، فقد قال:
((لما كان يوم اليرْموك كنا أربعةً وعشرين ألْفاً، أو نحْواً من ذلك، فَخَرَجَتْ لنا الروم بِعِشْرين ومئة ألف, وأقْبلوا علينا بِخُطى ثقيلة، كأنهم الجِبال تُحَرِّكُها أيْدٍ خَفِيَّة، وسار أمامهم الأساقِفَة والبطارقة والقِسِّيسُون يحْمِلون الصُّلْبان، وهم يَجْهَرون بالصلوات فَيُرَدِّدُها الجَيْش من ورائِهم، ولهم هزيمٌ كَهَزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون على حالتهم هذه هالَتْهُم كثْرَتُهُم، وخالط قُلوبهم شيءٌ من خَوْفِهم، فعنْدها قام أبو عُبَيْدة بن الجراح أمينُ هذه الأمة يَحُضُّ المسْلمين على القِتال, فقال: عِباد الله، اُنْصُروا الله ينْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامكم، عباد الله, اصْبِروا فإنَّ الصبر منْجاةٌ من الكُفْر، ومرْضاةٌ للربِّ، ومدْحَضَةٌ للعارِ، أشْرِعوا الرِّماح، واسْتَتِروا بالتُّروس، وألزموا الصَّمْتَ إلا من ذِكْر الله تعالى في أنفسكم حتى آمركم إنْ شاء الله))

أحْياناً موقِفٌ واحدٌ يُغَيِّر مجْرى معْركة، قال سعيد بن زَيْد:
((عند ذلك خرج رجُلٌ من صُفوف المُسْلمين، وقال لأبي عُبَيْدة: إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة، فَهَل لك من رِسالة تبْعَثُ بها للنبي صلى الله عليه وسلَّم؟ هكذا كان الصحابة, رأى المَوْت وبعده الجنَّة، رأى الموتَ يتألَّق، فقال أبو عُبَيْدة: نعم، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام، وقُل له يا رسول الله: إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً))
والنبي عليه الصلاة والسلام لما انْتَهَتْ معركة بدْرٍ، ورأى صناديد قُرَيْش قد قُتِلوا وهم جُثَثٌ مُتَفَسِّخة خاطبهم واحدًا واحداً: يا شيبةُ، يا عُتْبة، يا فُلان، وتَرْوي كُتُب السيرة أنهم خاطَبَهُم فَرْداً فرْداً، قال: ((هل وجَدْتم ما وعَدَ ربكم حقاً؟ فإني وَجَدْتُ ما وعدني ربي حقاً, لقد أخْرَجْتُموني وآواني الناس، وخَذَلْتُموني ونصَرَني الناس، قالوا: يا نَبَيَّ الله، أَتُخاطِبُ قومًا جَيَّفوا؟ قال: ما أنتم بِأَسْمَع لما أقول منهم، ولكنَّهُم لا يُجيبونني))
قال سعيد: ((فما إنْ سمِعْتُ كلامه ورأيته يمْتَشِقُ حُسامه، ويَمْضي إلى لِقاء أعْداء الله حتى خررتُ إلى الأرض، وجَفَوْتُ على رُكْبَتَي، وأشْرَعْتُ رُمْحي، وطَعَنْتُ أوَّل فارِسٍ أقبل علينا ، ثمَّ وَثَبْتُ على العَدُوّ، وقد انْتَزَعَ الله كُلّ ما في قلبي من الخوف))

فالإنسان إذا نوى أعانه الله، وبِالمُناسبة مرَّ معي قَوْلٌ مأثورٌ يُعْزى إلى النبي عليه الصلاة والسلام:
((ما كان الله لِيُعَذِّب قَلْباً بِشَهْوَةٍ تركها صاحِبُها في سبيل الله))
[ورد في الأثر]
حينما تخْتارُ اخْتِياراً صحيحاً فالله عز وجل يمْلأُ قلبك غنىً وشَجاعَةً وطُمَأنينةً، إذا خاف الناسُ فأنت مُطْمئِنّ، وإذا ارْتَعَدَت فرائِص الناس فأنت مُتماسِك .
ثم قال:
((فثار الناسُ في وُجوه الروم، وما زالوا يُقاتِلونهم حتى كُتِبَ لهم النَّصْر))
أربعة وعشرون ألفاً انْتصروا على مئة وعشرين ألفاً, عِلْماً أنه إذا الْتقى مؤمن وكافر فالمَعْركة قصيرة لأن الموازين لِصالِح المؤمن والله معه، وإذا الْتقى الكُفار مع بعضهم بعضاً فإنَّ المعركة تطول، لأنَّ الموضوع للقُوَّة من السِلاحٍ والتكنولوجيا، كلُّ المُقَوِّمات التي يقولها الناس تدْخل في الحِسابات. ما هي الحادثة التي ضجت بها أهل المدينة وتكلم بها الزمان طويلاً ؟
سيِّدُنا سعيد بن زيد شَهِد فَتْح دِمَشْق، فلما دانت للمسلمين بالطاعة جعله أبو عُبَيْدة بن الجراح والِياً عليها، فكان سعيد أوَّل من وَلِيَ إمْرةَ دِمَشْق من المُسْلمين .

في زمن بني أُميَّة وقعتْ لسيِّدنا سعيد بن زيد حادثة ظلّ أهل المدينة يتحدَّثون بها زمناً طويلاً، وهذه القِصَّة أيها الأخوة تقع في كُلِّ زمان، ذلك أنَّ أرْوَى بنت أُوَيْس زعمتْ أنَّ سعيد بن زيد, قد غَصَب شيئاً من أرضِها وضمَّها إلى أرْضه، وجعلتْ تلوك ذلك بين المُسلمين، وتتحدَّثُ به إلى أنْ رفَعَتْ أمْرها إلى مروان بن الحكم والي المدينة، واضْطرّ الوالي أنْ يُرْسِل إليه أشْخاصاً لِيُحَقِّقوا في الأمر، فأرسل مروان بن الحكم أُناساً يُكَلِّمونه بِذلك، فَصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله .
فأحْياناً يكون الشخصٌ له دَعْوة إلى الله، مؤمن ومسْتقيم، يأتي خصْمٌ له يتَّهِمُهُ باتِّهامات لا أصْل لها، بل باطلة، ثمّ يُرَوِّجُها، وذلك غافِلٌ عن كلِّ هذا، حتى يصل الأمر إلى أنْ تسمع كلّ البلدة عما أذيع عنه, أين دينه واسْتِقامته؟ لأنَّ الشيطان يؤز الكافرُ أزاًّ .
فهذا الصحابي الجليل تألَّم أشّدَّ الألم، وهل معْقولٌ أنْ يعْتدي هذا الصحابي المُبَشَّر بالجنة على أرْضِها؟ وأين قَوْلُ النبي واتباع السُّنة؟ وأين اسْتِقامته وطهارته وعِفَّتهُ؟ إذا كان لك أخٌ مؤمن وتعرفه حقَّ المعْرفة, وسَمِعْتَ عنه قِصَّة بِإمْكانك أنْ تنْفِيَها عنه وأنت مُطْمَئِنّ، لا يُعْقَلُ أنْ يفعل هذا .
سيِّدُنا الصِّديق قيل له:
((اُنْظر ما قال صاحِبُك, إنه ذهب إلى بيت المقْدِس، وكانوا أساساً غير مُعْترفين به كَنَبِيّ، وفوق هذا وذاك, قال لهم: إنْ قال هذا: فقد صَدَق))
فمن أساء الظنَّ بِأخيه المؤمن فقد أساء الظنَّ بِرَبِّه، هذا مؤمن ويعرف الله، ولا يسْتطيع أنْ يأكل دِرْهمًا حرامًا، الإيمان قَيْدُ الفَتْك، وحينما يُتَّهَمُ المؤمن يهْتزُّ عرشُ الرحمن، إنسانٌ مُسْتقيمٌ عرف الله، والْتَزَم أمْره، وضَحى بالغالي والرخيص، والنفْس والنَّفيس، ثمَّ تَتَّهِمُهُ أنت، وبِبَساطةٍ, فَهذه المرأة أساءتْ إلى هذا الصحابي إساءةً بالغة, فصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله, وقال: ((يَرَوْنني ظالِماً أظْلِمُها، فكيفَ أظْلِمُها, وقد سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, يقول :
((من ظلمَ شِبْراً من أرْضٍ طُوِّقَهُ يوم القِيامة من سبْعِ أرضين))

اللهم إنها قد زعَمَتْ أنني ظلمْتُها، فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها، وأظهرْ من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها)) فالله عز وجل استجاب له، وأظْهرُ الحق .
إنَّ المؤمن ليس له اخْتِيار إذا رأى أمر الله وأمر رسوله, فالله عز وجل قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾
( سورة الأحزاب الآية : 36 )
وإذا قال الله أو قال رسولُه, فالمؤمن يقول: سمعًا وطاعة .

حديثٌ عن رسول الله سَمِعَهُ بِأُذُنه من النبي صلى الله عليه وسلَّم:
((من ظلمَ شِبْراً من الأرْضٍ كلَّفه الله تعالى أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين ثمّ يطُوِّقُهُ يوم القِيامة حتى يقْضي بين الناس))
[أخرجه الطبراني في الكبير ]
قال:
((فَلَمْ يمْضِ على ذلك إلا القليل حتى سال العقيق, وهو وادٍ في المدينة, سال هذا الوادي سيْلاً لم يسِل مثله قطّ فَكَشَفَ عن الحدِّ الذي كانا يخْتَلِفان فيه، وظهر للناس جميعاً أنَّ سعيداً كانَ صادِقاً، ولم تَلْبث المرأة بعد ذلك إلا شَهْراً حتى عَمِيَتْ، وبينما هي تطوفُ في أرْضِها تِلك سَقَطَتْ في بئْرها، قال عبد الله بن عمر: فَكُنا ونحن غِلْمان نسْمع أحدهم يقول للآخر: أعْماك الله كما أعمى أرْوى))
فأصْبَحَتْ مضرب المثل، وجعلها الله نكالاً، فعلى الإنسان ألاّ يقترب من حدود شَخْصٍ من ذوي الخير، ومن أصْحاب الدعوة، ومن شَخْصٍ تسْتفيد منه الناس، عليك أنْ تبْتعد عنه ، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونِعْم الوكيل، ولا عَجَبَ في ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام, يقول: ((اتَّقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حِجاب))
[أخرجه أحمد في مسنده]
أولاد سعيد كما ورد في الخبر :

هناك خَبَرٌ في كتاب صِفَة الصَّفْوة، يقول: له مِن الولد عبد الله الأكبر، هذا واحد، وعبد الله الأصغر، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأصغر، وإبراهيم الأكبر، وإبراهيم الأصغر، وعمرو الأكبر، وعمرو الأصغر, وطلحة، ومحمد، وخالد، وزيد، واُمُّ الحَسَن الكبرى، وأمُّ الحسن الصغرى، وأمُّ حبيب الكبرى، وأمُّ حبيب الصغرى، وأمُّ زيد الكبرى والصغرى، وعائِشَة، وعاتِكَة وحَفْصَة, وزَيْنب, وأمُّ سلمة, وأمُّ موسى, وأمُّ سعيد، وأمُّ النعمان، وأمُّ صالح، وأمُ خالد, وأمُّ عبد، ودَجْلة، رزَقَهُ الله أولاداً كثرى .



سعيد بن زيد من العشرة المبشرين في الجنة :
الآن ما الذي يُؤكِّدُ أنه من أصْحاب الجنَّة؟ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ:
((أَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ, وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ آثَمْ, قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَاءَ, فَقَالَ: اثْبُتْ حِرَاءُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ, قِيلَ: وَمَنْ هُمْ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ, قِيلَ: فَمَنْ الْعَاشِرُ؟ قَالَ: أنا))
[أخرجه الترمذي عن سعيد بن زيد في سننه]
قال سعيد بن زيد:
((أشْهد أني سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, يقول: أبو بكرٍ في الجنة, وعمر في الجنَّة, وعثمان في الجنَّة ....وسعْدُ في الجنَّة, قال: فإن شِئتم أخْبرتكم بالعاشر, قال: أنا))

وهذه أكبر شهادة أنْ يقول لك النبي: أنت من أهل الجنَّة .
علماء العقيدة, يقولون: ليس من أهل الجنَّة على التحْقيق إلا هؤلاء العشرة، والبَقِيَّة على الرجاء، ويبدو أنهم بذلوا كلّ شيء، وأحبوا رسول الله حباًّ جماً، ولكن أبواب البُطولة مفْتوحة، والأعمال الصالحة مُتاحَةٌ لكم جميعاً، فبِإمكانكم أنْ تطلبوا المال، وأن تبْذلوه، وأن تدعوا إلى الله، وأنْ تلْتَزِموا الشرع، وأنْ تكونوا قُدْوَةً لِغَيْرِكم، كلُّ هذا بِإِمْكانكم, لأنَّ الله عز وجل قال: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ﴾
( سورة الواقعة الآية: 13-14 )
عدد غفير, ولكن بالنسبة للآخرين هم قليل، فإذا كنتم طموحين، وأردتم أنْ تبْلغوا أعلى المراتب عند الله عز وجل، كما قال النبي الكريم:
((ابتغوا الرِّفْعة عند الله ..))
لتبتغيها أيها المؤمن عند الله، ولا تبْتغها عند أهل الدنيا . خلاصة الدرس :

وهذه هي قصَّة سيّدنا سعيد بن زيد وقصة أبيه، وفي هذه القِصَّة على قِلَّة أخْبارها عِبَرٌ واضحة، ولكنها تحْمل اسْتِنْباطات كثيرة, فالأب قال داعيًا: اللهم إن حَرَمْتني هذا الخير العظيم فلا تحْرِم منه ابني سعيدًا، فَكُلُّ واحدٍ منا إذا كان له ابنٌ فعليه أنْ يعْتني به أشَدَّ العِناية, لِيُعَلِّمْهُ العِلم الصحيح، ليُراقب سُلوكه، ولِيَدْفَعه لِطاعة الله، فإذا نجا وأفْلح كان كلُّ عمله في صحيفة أبيه، كما أنَّ عمل سيِّدنا سعيد بن زيدٍ في صحيفة والده زيد بن عمرو بن نفيل .




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:46 PM   #7


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( السابع )

الموضوع : سيدنا ابا عبيدة بن الجراح





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم هاتان الآيتان فاعتبروا يا أولي الأبصار :
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس السابع من دروس السيرة, سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وسير أصْحابه الكِرام رِضْوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابيُّ اليوم أبو عُبَيْدة عامر بن الجراح، هذا الصحابي الجليل قال في حقِّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:
((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))
[أخرجه البخاري عَنْ أَنَسٍ في الصحيح]

أيها الأخوة, قبل أن أنطلق في الحديث عن حياته ومواقفه وعن بطولاته ومكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، أريد أنْ أنقل إليكم شُعوراً انْتابني وأنا أُطالعُ سيرة هذا الصحابيِّ الجليل قبل قُدومي إليكم, لَفَتَ نظري أنَّ هؤلاء الصحابة قاسَوا شدائد الحياة, فطعامُهُم ولِباسُهم خَشِنٌ، حياتهم كلُّها متاعب وغزوات وقِتال ودِفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وفي تَصَوُّري وأنا موقِنٌ بِهذا التصَوُّر أنهم كانوا أسعد الناس، تشعر أنّ أحدهم يكادُ يمْتلئُ سعادةً وشُعوراً بأنه إنْسانٌ كريمٌ على الله، وفجأةً قفَزَتْ إلى نفْسي صُورة إنسانٍ مُعاصِر عاش حياة الدَّعة والرخاء، يأكل أفضل الطعام، ويسكُنُ في أفْخَرِ منزل, تَكْييف وتدفئة مركزيَّة، كُلُّ شيءٍ جميل حوله، وشَعَرت أنَّ مثل حياة الإنسان المُعاصِر الذي خلَتْ حياتُه من البُطولة، ومن التضْحِيَة، ومن الإيثارٍ، ومن حُبٍّ لله ورسوله، ومن رِسالةٍ يحْمِلُها، ودَعْوةٍ يدْعو إليها، ومن عملٍ صالحٍ يُقَدِّمُه، ومن قلْبٍ ينْبِضُ بِالرحمة، إنْسانٌ خَلَتْ حياته من هذه المشاعر، وتِلك المُهِمات المُقدَّسة، مثل هذا الإنسان يشْعر بِتَفاهَتِهِ وهوانِهِ على الناس، ولو عاش في أعلى درجات النعيم، صحابِيٌّ جليل حياته كلُّها متاعب يقود جُيوشاً قِيادةً لا أرْوَع ولا أعظم منها، يدْخُلُ عليه الخليفة عمر بن الخطاب فإذا غُرْفَتُه فيها قِدْر ماء، وجِلْدٌ قد ذهب ريشُهُ، ورَغيفُ خُبْزٍ قد غطى به قِدْر الماء، وسَيْفٌ مُعَلَّقٌ على الحائِط، سيِّدُنا عمر الزاهد المُتَقَشِّف فوجئ, أهذه غُرْفَة أمين الأُمّة وقائد الجيش؟ قال له: ما هذا يا أبا عُبيدة؟ قال: هو للدنيا، وهو على الدنيا كثير، ألا يُبَلِّغُنا المقيل .

شَعَرْتُ بِأحاسيس أردْتُ أنْ أُعَبِّرَها لكم، كلُّ الدنيا لو كانت بِيَد الإنسان, الدنيا بِأموالها وبُيوتِها ومُتَنَزَّهاتِها وقُصورِها ومرْكَباتِها وطائِراتها ونِسائِها, كُلُّ ما لذَّ وطاب فيها، لا تسْتطيعُ الدنيا بِأكْمَلِها أنْ تمْنح الإنسان سعادةً، وهؤلاء الصحابة الذين عاشوا حياةً مملوءةً بالشَّقاء فيما يبْدو, هِجْرةٌ اقتلعت الإنسانَ من جذوره، لقد هاجَرَ أبو عبيدة إلى الحَبَشَة وإلى المدينة، وشَهِد كلّ المشاهد، وكان أكبر مُدافِعٍ عن رسول الله حتى إنه نزع حلَقَةً غُرِسَتْ في وَجْنة النبي عليه الصلاة والسلام بِأسْنانه، فنزع الحلقة الأولى بِفَمِه فانْكسرت سِنُّهُ الأمامية، ونزع الحلقة الثانِيَة بِفَمِه فانكسرت سِنُّهُ الأخرى فصار أهتمَ، ومات بالطاعون، وهو أمين هذه الأمة، شَعَرْتُ أنَّ الله عز وجل إذا تجلى على قلب المؤمن بالرحمة أسْعَدَهُ سعادَةً لا توصَفُ .
فما هؤلاء الرجال؟ واللهِ إنْ كانوا بشَرًا فَنَحْنُ لسْنا من بني البشر، وإنْ كُنا بشَرٌ فهم فوق البشر، هم مُلوك الدار الآخرة، وما هذا الحُبّ الذي في جوانِحِهم؟ وما هذا الشوْقُ الذي ينْبضُ بِه قُلوبهم؟ كلما قرأتَ تاريخ هذا الصحابي مهما تعدَّدَت مرَّات القراءة تشْعُر أنَّك تَقِفُ أمام إنْسانٍ عظيم، من أيِّ جامِعَةٍ تَخَرَّج؟ هل يحْمِلُ دُكْتوراه؟ كم كِتابًا قرأ؟ فإذا اتَّصل الإنسانُ بالله أصْبح شيئاً آخر، يُمْكن أنْ يُلْغى عنده مع الاتِّصال بالله كلُّ شيء، أرجو الله جلّ جلاله أنْ يُمَكِّنَني من نقْل صورة صادِقَةٍ مُشْرِقَةٍ عن هذا الصحابيّ الجليل الذي هو أبو عُبَيْدة بن الجراح .
إليكم الحديث عن صفاته الخَلقية والخُلقية كما ذكره الذاكرون :
قالوا في صفته: كان وضيء الوجه، بَهِيَّ الطلْعَة، نحيل الجِسْم، طويل القامة، خفيف العارِضَيْن، ترْتاحُ العَيْنُ لِمَرْآه، وتأنَسُ النفْسُ بِلُقْياه، ويطْمَئِنّ الفؤاد إليه، وكان رقيق الحاشِيَة جمَّ التواضع، شديد الحياء لكنه كان إذا حزب الأمر، وجدَّ الجِدّ يغْدو كاللّيْث، لا يلْوي على شيء ، رِقَّةٌ ما بعدها رِقَّة، وبهاءٌ ما بعده بهاء، إشْراقُ وجْهٍ ما بعده إشْراق .

قالوا: كان يُشْبِهُ نصْل السيْف، رَوْنَقاً وبهاءً، ويحْكيهِ حِدَّةً ومضاءً، إنه أبو عُبَيْدة بن الجراح .
سيّدنا عبد الله بن عمر وَصَفهُ, فقال:
((ثلاثة من قريش أصبح الناس وُجوهاً، وأحْسنها أخلاقاً، وأثْبَتُها حياءً، إنْ حَدَّثوك لم يكْذِبوك، وإنْ حَدَّثْتهم لم يُكَذِّبوك, إنهم أبو بكرٍ الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عُبَيْدة ابن الجَراح))
وهكذا وصف النبي المؤمن, فقال: ((من عامل الناس فلم يظْلمهم، وحَدَّثَهُم فلم يكْذِبْهم، ووعَدَهُم فلم يخْلِفْهُم، فَهُوَ ممن كَمُلَتْ مُروءته، وظهرَتْ عدالته ، ووجَبَتْ أُخُوَّتُه، وحرُمَت غيْبته))
[ورد في الأثر]
ترتيبه في الإسلام :
كان من السابقين السابقين، أسلم في اليوم الثاني لإسلام أبي بكرٍ رضي الله عنه، وكان إسْلامه على يدي أبي بكرٍ، فإذا أكْرم اللهُ أحدَكم بِهِداية إنسانٍ على يده, فأنت من أسعد الناس .

أيها الأخوة الأكارم، أحبّ دائِماً أنْ أُذَكِّركم بِقَوْل النبي عليه الصلاة والسلام:

((يا علي لأنْ يهدي الله بك رجُلاً خير لك من حُمر النّعَم))
[أخرجه أبو داود في سننه]
خير لك من الدنيا وما فيها، وخير لك مما طلعت عليه الشمس، فالإنسان آن له أن ينْتقل من طور التلقي إلى طَوْر الإلقاء، ومن طَوْر الأخذ إلى طَوْر العطاء، ومن طَوْر الاهتداء إلى طَوْر الهِداية ، آن له أنْ يرفعه الله عز وجل بِحَسَب عمله الطَيِّب، فهذا سيِّدُنا الصديق أجْرى الله على يده هِداية عُظماء المسلمين، وسيِّدنا أبو عبيدة قد أسلمَ على يد سيّدنا الصديق، ولعلّ العشرة المُبَشّرين بالجنة أسلموا كلُّهم على يد سيّدنا الصديق .
كان إسلامه على يد سيّدنا الصديق فَمَضى به وبِعَبْد الرحمن بن عَوْف وبِعُثمان بن مظعون وبِالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأعْلنوا على يدَيْه كلمة الحق، وكانوا القواعد الأولى التي أُقيم عليها صَرْحُ هذا الدِّين .
ما سبب نزول هذه الآية ؟
قال بعض المُفَسِّرين في شأن نزول هذه الآية:
﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
( سورة المجادلة الآية: 22 )
قدِمَ وفْد نصارى نجْران على النبي عليه الصلاة والسلام -اُنْظر إلى ما كان يشْغل أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر الآن إلى مُجتمع اليوم ما يشْغله, يتنافَسون على الدنيا وزينتها وتِجارتها وأموالها ونِسائِها- فقالوا:
((يا أبا القاسم، اِبْعَث معنا رجلاً من أصْحابك تَرْضاهُ لنا لِيَحْكُم بيْننا في أشْياء من أموالنا اخْتَلَفْنا فيها، فإنكم عندنا معْشَر المُسْلمين مرْضِيون))

هنا يطالعنا العجبُ حقًّا, فأنت كَمُؤمن مَوْثوق حتى من قِبَل خُصومك، موثوق في أمانتك، وعِفَّتِك، وصِدْقِك، وحِكْمَتِك، هذه علامة الإيمان، علامة الإيمان أنَّ المؤمن شَخْصِيَةٌ فذَّة، شَخْصِيَةٌ يرْتاح لها الإنسان ولو كان عَدُواً, كلكم يذكر حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
فَرْقٌ كبير بين أن يسْلم الناس منك، وبين أن يأْمنوك، فلو سَكَنْتَ في بيْتٍ ولك جيران، ومضى على سكناك في هذا البيت عشرُ سنواتٍ، ولم يتضجَّر، ولم يشْكُ منك أحدٌ من الجيران, إذاً: سَلِم الجيران منك، لكنهم لم يطْمئِنوا إليك، فالسلامة عدم حُدوث المكْروه، لكنَّ الطمأنينة والأمن عدم تَوَقُّع ما يُكْره، فالمُسلم يسْلم الناس من لِسانه ويَدِه، لكنَّ المؤمن أرْقى من ذلك، يأمنه الناس على أمْوالهم وأعْراضِهم، المُسلم لا يُؤذي جيرانه ولا يؤذي َمن دونه، ولا من فوقه
لكنَّ المؤمن لا يتوَقَّعُ أحدٌ ممن حوله أنْ يأتيَ الأذى منه، فثَمَّة فَرْقٌ كبير بين ألاّ تؤذي، وبينْ ألاّ يتوقَّعَ الناسُ منك شيئاً من الأذى, فالحديث فيه دِقَّة، لا يُمْكن لإنسانٍ يُعامِلُ مؤمناً أنْ يخاف منه، ولا أنْ يتوَجَّس منه خيفَةً، وحتى أنْ يقول: لعلَّهُ يؤذيني، فهذه صِفات المؤمنين .
خُصوم المؤمنين من أهل الكتاب جاؤوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام طالِبين منه أنْ يبْعث إليهم أحد أصْحابه لِيَحْكُم بينهم في خِلافاتٍ مالِيَّة، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟
((قال: ائتوني العَشِيَّة أبْعَثْ معكم القَوِيَّ الأمين، يقول سيِّدُنا عمر: فَرُحْتُ إلى صلاة الظهر مُبَكِّراً، لعلَّني أنا القويُّ الأمين، وإني ما أحْبَبْتُ الإمارة حُبي إياها يومئِذٍ، فلما صلى بنا النبي عليه الصلاة والسلام جعل ينْظر عن يمينه وعن شِماله، فَجَعَلْتُ أتطاول لعلَّهُ يخْتارُني، ولعلَّني أنا القوِيُّ الأمين, فلم يزَل يُقَلِّبُ بصره فينا حتى رأى أبا عُبَيْدة بن الجراح, فقال: اُخْرُج معهم، فاقْضِ بينهم بالحق فيما اخْتَلفوا فيه، فقُلْتُ: والله ذهب بها أبو عُبَيْدة))
أبو عبيدة بن الجراح لم يتزحزح عن مكانه في الغزوات بالرغم من المحن والابتلاءات :
سيِّدنا أبو عُبيدة بن الجراح بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في جَمْعٍ من أصْحابه لِيَتَلَقَوا عيراً لِقُرَيْش، وأمَّره عليهم، وزوَّدَهُم جِراباً من تمْرٍ، ولم يَجِد لهم غيره، فكانَ أبو عُبَيْدة يُعْطي الرجل من أصْحابه كلَّ يومٍ تمْرة، فَيَمُصُّها الواحد منهم كما يمُصُّ الصَبِيُّ ضَرْعَ أُمِّه طوال النهار ، ثمّ يشْرب عليها ماءً، فكانت تكْفيه إلى الليل، هذا هو الطعام الخَشِن، طوال النهار تَمْرة، أما الآن يقول لك: أين الشاي الأخضر؟ وأين المُقَبِّلات والفواكه؟ أنواعٌ مُنَوَّعة، أنا الذي لفتَ نظري أنَّ كلّ هذه الحياة الصعبة والشاقة وهذا الجِهاد
وهذه الهِجْرة والمُكابدة والتضْحِيَة، وهذا الحرّ والقرّ جعلهم أسعد الناس، وكلُّ النعيم الذي نحْياه، وكُلُّ الرفاه وكلُّ هذه المواد التي بين أيْدينا من دون معْرفةٍ بالله هي عَيْنُ الشَّقاء، لِذلك اُطْلُبوا العِزَّة عند الله .
ويوم أُحُدٍ حينما هُزِم المسلمون، وطَفِق صائح المُشْركين يُنادي: دُلوني على محمد، كان أبو عُبَيْدة بن الجراح أحد النفر العَشَرة الذين أحاطوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ليذودوا عنه بِصُدورِهم رِماح المُشْرِكين، فلما انْتَهَت المعْركة كان النبي عليه الصلاة والسلام قد كُسِرَت رُباعِيَّتُه، وشُجَّ جبينه، وغارَتْ في وَجْنَتِه حلْقتان من حلق دِرْعِه، فأقْبَلَ عليه الصديق يريد انْتَزاعهما من وَجْنَتَيْه صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو عُبَيْدة:

((أُقسم عليك أنْ تترك ذلك لي، فَتَرَكَهُ، فَخَشِيَ أبو عُبَيْدة إنْ اِقتَلَعَهُما بِيَدِه أنْ يُؤذِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّتَيْه عضاً قوِياً مُحْكماً فاسْتَخْرَجَها، ووقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، ثمَّ عضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتِهِ الثانِيَة فاقْتَلَعَها، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ الثانِيَة، قال أبو بكرٍ: فكان أبو عٌبَيْدة من أحْسن الناس هتْماً, الأهْتَم الذي كُسِرَت أسْنانه الأماميَّة, لقد كان في قلوبهم حبٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم))
حينما قال أبو سُفْيان: ((ما رأيْتُ أحداً يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصْحابِ محمدٍ محمَّداً, ففعلُ أبي عبيدة هذا مصداق قول أبي سفيان))
شَهِد أبو عُبَيْدة بن الجراح المشاهدَ كلَّها، وما تخَلَّف عن النبي إطْلاقاً . ماذا تعني كلمة أمين ؟
قَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]

كلمة أمين لها عُمْقٌ كبير، ولا أعْتَقِد أنَّ هناك أعمق منها في المعنى الذي تشْمله، أمين على مصالح الناس، أمين على دينهم، فأحياناً تجد شَخْصاً لديه موظَّف مُجِدّ ومُتَفَوِّق وذو نشاط، ولكنه لا يُصلي، ويقول لك صاحب المحلَّ: ماذا أفعل له؟ دَعوهُ وشأنه, فصاحب هذا المحل يَهُمُّه أن يكون الموظَّف مُنْضبطًا في العمل ومصالحه، أما أنه لا يُصلي وغير مُلْتَزِم بالشرع فهذا لا يَهُمُّه، أما المؤمن أمين على دين الناس وينْصحهم ويُوَجِّهُهُم ويُحْسِن إليهم ويُرَبِّيهم، فالإنسان لا ينْبغي أنْ يتعلَّق بِمَصالِحه الدنيَوِيَّة .
أنت أمين على دين أهلك, على دين زوْجَتك، فإذا وَجَدْتَ الطبخ ممتازًا، ونظافة البيت جيِّدة, قُلْتَ: زوْجَتي ممتازة إلا أنَّها ليْسَتْ مُتَدَيِّنة، فأنت لسْتَ أميناً على دينها، وكذا إذا كان لك أولاد أبْرار ولكن ليس فيهم الدِّين سليمًا، فهذه قاصمة الظهر، وهذا اشْترى منك بِضاعة، وقال لك : اِنْصَحْني، ونَصَحْتَهُ بالبِضاعة الكاسِدة، فأنت لستَ أمينًا، هناك أمانة فَتْوى، وأمانة عِلْم، وأمانة نُصح، وأمانة دين، فأنت عليك دائِماً أنْ تنْصح الناس، وأنْ تكون حريصًا على مصالِحِهم الدنيوِيَّة والأُخْرَوِيَّة .
التربية النبوية التي غرست في عقول وقلوب الصحابة :
نعود لعمر بن الخطاب إذْ قال لأبي عُبَيْدة: اُبْسُط يدَكَ أُبايِعْك، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, يقول:
((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]

أنا ما وَجَدْتُ أشْخاصاً مُتَأدِّبين مع بَعْضِهم بعْضاً كأصْحاب رسول الله، سيِّدنا عمر, عِمْلاق الإسلام، وهو خليفة المسلمين، وهو أمير المؤمنين يقول له أحدهم:

((والله ما رأيْنا أحداً خيراً منك بعد رسول الله، فتفرَّس فيهم، وكاد يأكلُهم، إلى أن قال أحدهم: لا واللهِ، لقد رأيْنا مَنْ هو خيرٌ منك، فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر، فقال: صَدَقْتَ وكَذَبْتم جميعا، قال: والله لقد كان أبو بكر أطْيب من ريح المِسْك، وكُنتُ أضَلّ من بعيري))
لقد كان أميناً على الصديق بعد وفاته، وقبل أنْ يموت اسْتأذن عائِشَة رضي الله عنها لِيُدْفَن إلى جانب الصديق، فأذِنَتْ له فقال: ((لعلها اسْتَحْيَتْ مني وأنا أمير المُؤمنين، فأوْصى أصْحابه: أنْ إذا متُّ فسِيروا بِنَعْشي أمام بيْتِها، واسْتأذِنوها، فإنْ أذِنَتْ فادْفِنوني جانب الصِدِّيق))

ما أُخِذَ بِسَيْف الحياء فهُو حرام .
مرَّةً أكرمني الله بِعُمرة وكنت في بَحْبوحةٍ من الوقت، فأَحْبَبْتُ أنْ أمُرَّ على أكثر المشاهد الإسلاميّة، فَزُرْتُ موْقِعَة بدْرٍ، ورأيْتُ العريش الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، والعُدْوة الدنيا, والعُدْوة القُصوى، لكن لفتَ نظري أنَّ الزائرين مِن الناس الذين كانوا بالسيارات الفَخْمة مدُّوا المَّدات، وأخْرجوا الأكْلات الفَخْمة، فقارنتُ بين هؤلاء الذين زاروا أرض هذه المعركة، وبين أولئك الذين خاضوا هذه المعركة، فلم أجِد هناك نِسبة, طَقْمُ هؤلاء غير طَقْم أولئك، أين الثرى من الثريا؟ الآن الناس هَمُّهُم بطونهم وشَهَواتهم، فلِذلك قال عليه الصلاة و السلام: ((إذا كان أُمراؤكم خِياركم، وأغْنياؤُكم سُمحاؤُكم، وأمْركم شورى بينكم فَظَهْر الأرض خيرٌ لكم من بطْنها، وإن كان أمراؤكم شِراركم وأغْنياؤكم بُخلاءكم، وأمركم إلى نِسائِكم، فَبَطْنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهْرها))
[ورد في الأثر]
فلما طلب عمر بن الخطاب من أبي عُبَيْدة ما طلب -كما أسْلَفْنا- قال أبو عُبَيْدة:
((ما كنتُ لأَتَقَدَّم بين يدي رجلٍ أمَّرهُ رسول الله علينا أنْ يؤُمَّنا في الصلاة، فأَمَّنا حتى مات))
وهو أبو بكر الصديق, فكان مع الصِّديق يده اليُمْنى، وما عصاهُ أبداً, هذا ما تربى عليه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام . كيف نحلل هذا الموقف ؟
كان أبو عُبَيْدة في الشام يقودُ جُيوشَ المُسلمين من نصْرٍ إلى نصْرٍ، حتى فَتَحَ الله على يَدَيْه الدِّيار الشامِيَّة كُلَّها, فَبَلَغَ الفُرات شَرْقاً وآسْيا الصغرى شمالاً، عند ذلك دهمَ بِلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قطّ، فَجَعَل يحْصد الناس حصْداً، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أنْ وَجَّهَ رسولاً لأبي عُبَيْدة بِرِسالةٍ، بلَّغ أبا عُبيدة وهو في الشام قائِدًا الجُيوش، فكتب إليه يقول:
((إني بَدَتْ لي إليك حاجة، لا غِنى لي عنك فيها، فإنْ أتاك كِتابي هذا، إنْ أتاكَ ليْلاً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُصْبِحُ حتى تَرْكَبَ إلَيَّ، وإنْ أتاك كِتابي نهاراً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُمْسي حتى ترْكَبَ إلَيَّ))

فَفَهِمَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة ما يريده عمر، واسْمَعوا ما قاله هذا الصحابيّ الجليل:
((قد علمتُ حاجة أمير المؤمنين إليّ، فَهُو يُريد أنْ يسْتَبْقي ما هو ليس بِبَاقٍ, ثمَّ كتب يقول: يا أمير المؤمنين, إني قد عَرَفْتُ حاجَتَك إلَيّ، وإني في جُنْدٍ من المُسْلمين، ولا أجد بِنَفْسي رَغْبَةً عن الذي يُصيبُهم))
فهو رضي الله عنه ما أراد أنْ يُغادر الجُيوش لِيَنْجُوَ وحْده من الطاعون، ويَهْلك الجُنْدُ هناك، ((ولا أريد فِراقهم حتى يَقْضِيَ الله فيَّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كِتابي هذا فَحَلِّلْني من عزْمك، وأْذَنْ لي بالبَقاء))
فهو رضي الله عنه كَبُرَ عليه أنْ يأخذ ميزة على جُنوده، فلا بدَّ من أنْ يكونوا هناك لِيُدافِعوا ويفْتحوا، ((فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضَتْ عَيْناه، فقال له مَن عنده من شِدَّة ما رأَوْهُ يبْكي: أمات أبو عُبَيْدة؟ قال: لا، ولكنَّ الموتَ قريبٌ منه))
كانَ رحيماً بِجُنوده، وأَبَتْ نفسه أنْ يمْتاز عليهم . صور من أخلاقه وزهده وتواضعه :
لما سيِّدُنا عمر عزل سيّدنا خالدًا وولَّى مكانه أبا عُبَيْدة، فالكِتاب جاء لِأبي عُبَيْدة، وكان خالدٌ رضي الله عنه يقود معْرَكَةً، فَكَتَمَ الخبر، وكتم الكِتاب، ولم يُبَلِّغ سيِّدنا خالدًا إلا بعد أنْ انْتَهتْ المعركة، وانْتَصَر المسلمون، فتَقَدَّم أبو عُبَيْدة القائِد المُعَيَّن من سيِّدِنا خالد القائِدُ المعْزول بِأدَبٍ جمٍّ ، وقدَّم له كِتاب التَّعْيين، فَسَيِّدُنا خالد رضي الله عنهم شعر بالحرج، وقال:
((يرْحَمُك الله أبا عُبَيْدة، ما منعك أنْ تُخْبِرني لمّا جاءَكَ الكِتاب؟ فأجابه أبو عُبَيْدة رضي الله عنه, وقال: والله إني كَرِهْتُ أنْ أكْسِرَ عليك حرْبَكَ، وما سُلْطانُ الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، وكلنا في الله أخوة))

يقولون: إنّه لما جاء سيِّدُنا خالد رضي الله عنه إلى المدينة, قال لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه:
((يا أمير المؤمنين, لِمَ عزَلْتني؟ وكانَ عُمر رضي الله عنه يُقَدِّر خالداً رضي الله عنه أعلى تقْدير، فقال له: والله إني أُحِبُّك، فقال له: يا أمير المؤمنين, لِمَ عزلْتني؟ فقال له: والله إني أُحِبُّك، فقال له: يا أمير المؤمنين, لِمَ عزلْتني؟ فقال له: واللهِ ما عَزَلْتُك يا أبا سُلَيْمان إلا مخافَةَ أنْ يُفْتَتَنَ الناسُ بك، لِكَثْرة ما أبْليْتَ في سبيل الله))

فهو رضي الله عنه أراد إنقاذَ الوحيد، وذلك من شِدَّة الانتِصارات وكثرتها على يد خالد، فخاف أن يظن الناسُ أنَّ النصر من عِنْد خالِدٍ، فأراد هذا الخليفة العظيم أنْ يُبَيِّن للناس أنَّ النصر من عند الله، وكان هذا هو سبب العزْلِ .
يبْدو أنه حينما تسّلَّم الإمارة أبو عُبَيْدة ولمع نجْمُهُ وذاعَ صيتُهُ وحقَّقَ انتِصارات كبيرة، عَظَّمَهُ الناس وأكبروه وأجَلُّوه، فخاف على نفْسه أنْ يُصيبَها الغُرور، فقال:
((أيها الناس، إني مُسلمٌ من قُريش، وما منكم مِن أحدٍ أحمر ولا أسْود يفْضُلُني بِتَقْوى إلا وَدِدْتُ أني في إهابِهِ))
وهذا من تواضُعِه .
سيِّدُنا عمر يزور أبا عُبَيْدة بن الجراح، ويسْأل مُسْتَقْبِليه أين أخي؟ يقولون: من؟ يقول: أبو عُبَيْدة، فيأتي أبو عُبَيْدة فَيُعانِقُ أمير المؤمنين، ثمَّ يصْحبه إلى داره فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً, سَيْفَهُ وتِرْسه ورَحْلَهُ وقِدْرَ ماءٍ مُغَطىً بِرَغيفِ خُبْزٍ، يسْأله عمر قائِلاً: ألا اتَّخَذْتَ لِنَفْسِك مثل ما يتَّخِذُ الناس, فقال له أبو عُبيدة: يا أمير المؤمنين, هذا يُبَلِّغُني المقيل, هو للدنيا, وهو على الدنيا كثير . إليكم رسالته الأخيرة التي تلفظها قبل رحيله من الدنيا :
حينما وافَتْ المَنِيَّةُ أبا عُبَيْدة وهو يلْفِظُ أنْفاسَهُ الأخيرة أوْصى, فقال:
((أقيموا الصلاة))
سيِّدُنا عمر حينما طُعِن وقُتِل، فقبْل أنْ يموتَ سأل سؤالا غريبا، فقال: ((هل صلى المُسْلمون الفجر؟ ما الذي يَهُمُّهُ؟ صلاة الفجرْ، فلما قال له المسلمون: نعم، اطْمَأنَّ))
فَسَيِّدُنا أبو عُبَيْدة, قال: ((أقيموا الصلاة، وصوموا رمضان، وتصَدَّقوا، وحُجُّوا، واعْتَمِروا، وتواصوا, وانْصحوا لأُمرائِكم ولا تغُشُّوهم، ولا تُلْهِكم الدنيا، فإنَّ المرء لو عُمِّر ألف حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصْرعي هذا الذي تَرَوْن))

وكان على فِراش الموت .
فنحن جميعاً حُكِمَ علينا بالموت مع وقْفِ التنْفيذ, ويأتي التنفيذ وَفْقَ برنامَجٍ عند الله عز وجل، فعلى هذا الشرط جِئْنا، فلو أنَّ شخْصاً اسْتَأجر سيارة ثلاثة أيام, فهل يُعْقَل عند انتهاء الأجل أنْ يقول: لماذا أخذوها مني؟ فأنت ركِبْتَها على شرطٍ وهي أنها مستأْجَرة، وكذا الإنسان جاء على هذا الشرط وهو الموت, لكنَّ الله خلقهُ لِجَنَّةٍ عرضُها السموات والأرض .
اِلْتَفَتَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة إلى مُعاذ بن جبل ساعة احتضاره، وقال: ((يا مُعاذ، صلِّ بِالناس، ثمَّ ما أنْ لبِث حتى فاضَتْ روحُهُ الطاهِرة, فقال معاذ: يا أيها الناس, إنكم قد فُجِعْتُم بِرَجُلٍ، واللهِ ما أعلم أني رأيتُ رجُلاً أبرَّ صدْراً ولا أبعد غائِلَةً، ولا أشدَّ حُباً للعاقِبَة، ولا أنصح للعامَّة منهم فَتَرَحَّموا عليه يرْحَمْكم الله))

كم من شَخْصٍ في العالم يموتون يوميًّا؟ أنا لا أذكر الرقم، ولكن على مُستوى العالم كُلّ ثانِيَتَيْن هناك وفاة، فبِمَ يوصون؟ وبِمَ يودعون الدنيا؟ أقول: تبقى قلوبهم متعلقةً بالدنيا .
كذلك لمّا سيدنا عمر بلغه خبر وفاة سيِّدنا أبي عُبَيْدة بن الجراح بَكى بُكاءً ما بكاهُ على أحدٍ من قبل حتى غُصَّ حلْقُهُ، وانْهَمَرَتْ دُموعه، وقال: ((لو كنت مُتَمَنِّياً ما تمَنَّيْتُ إلا بيْتاً مملوء بِرِجالٍ مثل أبي عُبَيْدة))
ما تمَنى إلا هذا .
فيا أيها الأخ المسلم, اِعْمل عملاً تسْعد به عند لِقاء الله تعالى، اِبْذل، ووضَحِّ، والتزِم، وأنْفِق ، وتعلَّم حتى يكون الموت أسعد لَحَظاتك، والموت سماهُ الله مُصيبة، لأنَّ كلّ شيءٍ تُجَمِّعُه في الدنيا يُسْلبُ منك في ثانِيَةٍ واحدة، أما إذا كان الإنسان له أعْمال صالحة يُصبحُ الموتُ عُرْسَهُ وفرْحَتَهُ الكُبْرى .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:49 PM   #8


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثامن )

الموضوع : سيدنا حمزة بن عبدالمطلب





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أطوار الدعوة الإسلامية :
أيها الأخوة الأكارم, وأنا في طريقي إليكم لاحت أمامي فكرةٌ يمكن أن تكون مقدِّمةً لدروس السِّيرة، لو أنَّ إنساناً يتيه في صحراءَ موحشةٍ، أو في غابة فيها وحوشٌ مفترسة، أو في أرضٍ وَعرةٍ فيها مخاطرُ ثابتةٌ، وأنت رأيته في هذه الحالة الخطيرة التي تدعو إلى الشَّفقة، مهمتك الأولى أن تدعُوَه إلى مكانٍ آمنٍ، إلى حصنٍ حصينٍ، إلى بستانٍ مَحاطٍ، إلى قصرٍ مُنيفٍ، فإذا رضي واستجاب لك، ودخل هذا البستان الآمن أو إلى هذا القصر المنيف، فقد أصبح لك مهمَّةٌ ثانيةٌ، وهي أن تعرِّفَه مداخل هذا القصر ومخارجه، وأماكن النوم، وأماكن الرَّاحة، وأماكن الطَّعام فلمّا كان خارج القصر كانت له طريقة في التوجيه، فإذا دخل إلى القصر فله طريقة أخرى .

فحينما تدعو إلى الله عز وجل ورأيتَ إنساناً شارداً تائهاً عاصيًا مقيماً على معصية, عقيدته زائغة، تصَوُراته غير صحيحة، هذا الإنسان عليك أن تدعوَه إلى الله، عليك أن تقنعه بأحقِّية هذا الدِّين، عليك أن ترشده إلى طريق الحق، فإذا استجاب وسلك هذا الطريق عليك أن تبيِّن له الجزئيات, الأمرَ الإلهي, النَّهي الإلهي, حقيقة الدُّنيا، فمهمة الدَّاعية إلى الله عز وجل تجاه الإنسان الشَّارد لها طبيعة، وبعد أن يستجيب هذا الإنسان فللدعوة طبيعة أخرى، فحينما نخاطب أخوةً كراماً مؤمنين آمنوا بالله عز وجل، آمنوا بوجوده، آمنوا بكمالاته ووحدانيته، وآمنوا برسوله و بكتابه، هؤلاء الأخوة الأكارم الذين استجابوا لله، يجب أن نبصِّرهم بدقائق الأفعالِ, وبدقائق السُّنة, وبدقائق الأحكام الفقهية, وبطبيعة المنهج الدَّقيق الذي ينبغي أن يسيروا عليه، هذه مهمة ثانية .
لذلك طلب العلم لا ينقطع بل يستمر ما دام المسلم حيًّا، لكن في كل طوْرٍ هناك موضوعاتٌ ينبغي أنْ نُعْنى بها، هذا ما حصل تماماً في عهد الصحابة الكِرام، ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة إلى الله والإيمان به, والإيمان باليوم الآخر والرسُل والملائكة والقدر خيره وشَرِّه، وكانت دعوة إلى التفكُّر في الكون، وإلى إقام الصلاة، ودعْوةٌ إلى ضبْط الشهوات والالْتِزام, والتضْحِيَة، والهِجْرة .

فلما اسْتجاب أصحاب النبي لله وللرسول فيما دعاهم إليه وهاجَروا معه واسْتَقَروا في المدينة، جاءَتْ آياتُ التشريع, آية الدَّيْن وأحكام الطلاق، والزواج، وأحْكام البيْع، فَنَحْنُ في مسيرتنا في هذه الحياة، نَطْلُب العلم دائِماً ولكن في كلِّ مرحلةٍ، ونحْتاج إلى موضوعات خاصَّةٍ بها، نحن آمنا بالله ورسوله وكتابه، ثم نريد أنْ نقْتَدِيَ بأصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، بهؤلاء الذين خصَّهم الله بالنبيِّ عليه الصَّلاة و السَّلام، بهؤلاء الذين رضي الله عنهم، بهؤلاء الذين اختارهم الله لصُحبة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام، بهؤلاء الأبطال الذين وصفهم النبي عليه الصَّلاة والسَّلام, فقال: "علماء حكماء كادوا بفقههم أن يكونوا أنبياء " هؤلاء الذين كانوا قادة ألوية النبي عليه الصَّلاة والصلاة والسَّلام، وكانوا رسلَه إلى بقية الأمم والشُّعوب .
لذلك فقراءة سيرتهم جزءٌ أساسيٌّ من الدِّين، بعد أن آمنتَ بالله ورسوله و كتابه واليوم الآخر، وبعد أن التزمتَ وطبَّقتَ واستجبتَ, بقي عليك أن تفهم دقائق مواقف هؤلاء الصَّحابة .
ينبغي على المسلم أن لا يتخذ من نفسه مشرعاً ويدلو بقرارات يحكم بها على الآخرين بعدم الخيرية :
صحابيُّ اليوم, هو سيِّدنا حمزة بن عبد المطَّلب, عم النبي عليه الصَّلاة والسلام، قد يقول قائلٌ: هذا الصحابي درسناه قبل ثماني سنوات، تماماً كما تجد نصًّا في المرحلة الإعدادية، وتجده في المرحلة الثَّانوية، والنصُّ نفسه في المرحلة الجامعية
نحن لمَّا نريد أن نعطيَ الأخوةَ الأكارم دروسًا في السِّيرة، ولاسيما سير الصَّحابة الكرام، نريد أن نستنبط من سيرهم حقائق نستعين بها في هذه الحياة المعاصرة، لا نريد أن ندرس هذه السِّير كتاريخ، نريد أن ندرسها كوقائع يمكن أن نستنبط منها قواعدَ وعبراً وحقائق ومبادئ نستعين بها في تعاملنا مع الله، ومع أهل الحق، ومع عامة الناس, فمن السذاجة، ومِن ضيق الأفق, ومِن عدم النضج، ومن أخلاق الغوغاء والعامة, أن تقول: هذا أبيض وهذا أسود, وليس بينهما لونٌ آخر، هذا مؤمن وهذا كافر، هذه النظرة الحادَّةُ المتطرفة، هذه الأحكام الحدِّية القاسية، هذه ليست من صفات أهل الإيمان .

فمثلاً: في العهد الذي أُرسِل به النبي عليه الصلاة والسلام وجاء بالقرآن الكريم, كان الناس في مكة غارقين في الشَّهوات، غارقين في المعاصي والآثام، غارقين في أكل المال الحرام، غارقين في الطُّغيان والعدوان، غارقين في الكِبْر، غارقين في البَطَرِ، هؤلاء الكفَّار الفجَّار المشركون، بينما كان في الطَّرف الثَّاني النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام, قمَّة البشر, سيِّد الخلق, حبيب الحق، ومعه أصحابٌ مخلصون, مجاهدون تائبون, عابدون سائحون, راكعون ساجدون، هؤلاء في قمَّة الرُّقي والمجد، وأولئك الكفرة في حضيض الدناءة والاحتقار, السؤالُ الآن, أليس بين هؤلاء ناسٌ لا من هؤلاء و لا من هؤلاء؟ هذا الذي أتمنَّى عليكم أن تعرفوه .
أنتَ مؤمن تصلي وتصوم ومستقيم، وتغدو وتروح إلى مسجد، ولك مجلس علم، ولك أخوان، وتعرف الحق من الباطل، شيءٌ جميل، وهناك شخصٌ في حياتك, فاجر عاصٍ، شارب خمرٍ، زانٍ، باغٍ، عاتٍ، أليس ممَّن حولك شخصٌ لا من أخوانك ولا من أولئك الفجرة, إنسان لم يُصَلِّ بعد، لكنْ له أخلاقٌ ترضي، وقدً لا يحبُّ الانحراف، ويفي بالوعد، وينجز العهد؟ هذا الذي لا من هؤلاء ولا من أولئك، ليس لك أن تُقَيِّمه تقييمًا سيِّئًا، بل عليك أن تلتفت إليه .

فالنبي عليه الصلاة والسلام و أصحابه الكرام الذين سبقوا إلى الإسلام كانوا في قِمَّة الطُّهر والعفاف والمجد، وكان كفَّار قريش في حضيض الدناءة والبغي والطُّغيان، أمَّا سيدنا حمزة فلم يكن مسلماً بعد، لكن كان شهماً، وكان صاحب مروءة، شجاعاً يأبى الظلم والدناءة، فإذا رأيتَ أيها الأخ الكريم إنساناً أخلاقيًّاً يفي بالعهد، ولا يكذب، لكنه ليس ملتزِمًا، فلا ينبغي أن تُقَيّمَه تقييماً سيِّئاً لأنه تاركٌ للصلاة فقط، هذا كما يُقال: خامةٌ طيِّبةٌ، هذا عنصرٌ جيدٌ، لو وجَّهته، وسدَّدتَ خُطاه، وعلَّمتَه ودرَّبتَه، وفقَّهتَه، ودفعتَه إلى الله عز وجل لاستجاب، فمن السذاجة وضيق الأفق، بل من الغباء أن تقول: أبيض أو أسود فقط، بين الأبيض والأسود مئات الألوف من الألوان التي لا هي في نصاعة البياض، ولا في قتامة السَّواد، هذا هو الموقف المعتدل والمنصف، ولو أنك كلما شاهدتَ إنساناً بعيدًا عن مسجدك، فحكمتَ عليه بالكفر ولم تعبأ به، فأنَّى لك أن تكون هادياً للناس؟ وأنى لك أن يستخدمك الله في الدعوة إليه؟ عندئذٍ لا تُصْلِح .
لذلك أنا أتمنَّى على الأخوة الأكارم رحابة الصَّدر، واتساع صدورهم لكل الناس، لكل من هو على شاكلتهم، أو ليس على شاكلتهم . ما هي وظيفة المسلم في الحياة الدنيا ؟
لا أكتمكم أنني أنطلق من فكرة، أتمنَّى على الله عز وجل في هذا الدرس أن أوضِّحها لكم، أنتم رُوَادُ هذا المسجد، ونحن جميعاً طرفٌ واحد، تؤمنون بما أنا به مؤمن، وتصدِّقون بما أنا به مصدق، لأننا آمنَّا بالله عز وجل, وآمنا بكتابه, واستجبنا له، ولكن متى ترتفعون عند الله عز وجل؟ إذا ضممتم إليكم أناسًا من الطرف الآخر، أنت تجلس مع أخوانك فتأنس بهم، تحدِّثهم ويحدثونك، تتفاعلون وتتصافون وتحلقون، ولكن هل أضفتم إلى المجتمع الإسلامي عناصر جديدة ؟ هل حاورتم الطَّرف الآخر؟ هل لك صديق لا يصلي؟ هل لك صديق يحدِّث نفسه إطلاقًا في أن يأتي إلى مجالس العلم؟ هل تقنعه بحضور مجلس علم؟
أردتُ من هذه النقطة, ومن هذا النص الذي أمامي أنه ينبغي أن تضيف إلى مجتمع المؤمنين عناصر جديدة من مجتمع غير المؤمنين، هنا البطولة، وأنا أثني على كل لقاء بين الأخوة الأكارم لتمتين علاقتهم بالله، وأنا أحضُّ على هذا اللقاء، كما قال تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾
( سورة سبأ الآية: 46)

هذا أمرٌ إلهي أن تجلس مع أخوانك في الأسبوع مرَّة، بحسب القرب والمكان، وبحسب العمل والعلاقات الاجتماعية، وتحدثهم عمَّا أفاض الله عليك، وعما عقلتَه من درس الجمعة، أو من درس السبت، أو من درس الاثنين، أو من خطبة الجمعة، عن موقف تأثَّرتَ به أشدَّ التأثُّر, هذا اللقاء أنا أباركه وأحضُّ عليه، وأتمنَّى أنْ يكون لكل واحد منكم مثل هذا اللقاء، ولكن هذه اللقاءات ماذا تفعل؟ توطِّن علاقة الأخوة الأكارم بربهم، وتمتِّن علاقتهم بدينهم، وبمنهلهم وبمشربهم الدِّيني ، وبمسجدهم، وهذا شيء جميل .
لكن ينبغي أن يكون لك نشاطٌ آخر، هؤلاء الأخلاقيون الذين لا يرتادون المساجد، هؤلاء الطيِّبون الذين شرَدوا عن الله عز وجل، هؤلاء الذين تأنسون لهم، لكنكم لا ترضون عنهم، قد يكون هناك شخص وحش، هناك شخص دنيء، ساقط، منحرف، متكبِّر، هذا دعونا منه، ولكنْ هناك شخص من جلدتك، من أخوانك، من أقرب الناس إليك، هذا أيضًا تأنس به وترتاح له، وكذلك هناك شخص ممن يلوذ بك, قريب أو وصديق أو جار أو زميل أو صاحب بالجَنب، هذا لا ترْضى عن سُلوكه، ولكن ترْتاحُ له، وحينما ترْتاحُ له، فهذا يعْني أنه ينْطوي على نفْسٍ طيِّبَة، هذا ينْبغي أنْ تسْعى لِإقْناعِهِ أنْ يسْلك طريق الإيمان، وهذا الذي ترتاحُ له ولا ترْضى عن سُلوكه ينْبغي ألاّ يكون خارج الحِساب، وخارج اهْتِمامك، هذا الذي أتمناهُ عليكم .

فما المانع أنْ تدْعُوَ أقارِبَك الذين تتَوَسَّمُ فيهم الخير إلى حفلٍ بسيط في منزلك، وتَدْعُوَهم في أثناء اللقاء إلى سُلوك طريق الإيمان والالْتِزام بالدين، والصُّلْح مع الله، وإلى معْرِفَتِه؟ فإن كُنت قادِراً فافْعَل، وإنْ لم تكُن قادِراً, فما الذي يمْنَعُك أنْ تدْعُوَ من يقْدُر على تَوْجيهِهِم إلى بيْتِك؟ فإذا اسْتَجاب عدد من الذين شَرُدوا على الله عز وجل وتأثَّروا فهذا في صحيفتك عند الله .
لقد سمعتُ قِصَّةً تأثَّرْتُ لها، هذه القِصَّة أنَّ رجُلاً ممن شرد على الله، وممن آمن أنه لا إله أيْ أنه مُلْحِدٌ، في الخامسة والأربعين، أو الخمسين من عُمُره اهْتدى إلى الله، وبدأ يُصلي، له ابنٌ صالِحًٌ، فَمِن شِدَّة فَرَحِ ابنه أنَّ أباهُ بدأ يُصَلي، هذا الابن أقام موْلِداً في بيْتِهِ، ودعا أصْدِقاء والده، فكلَّف أحد علماء دِمَشْق لإِلْقاء كلمة على هؤلاء الشارِدين، أصْدِقاء هذا المُلْحِد, ألْقى عليهم كلمة فيها كُلُّ العَقْلانية والمنطق والأدِلَّة
فهذا الابن, يقول: لم ينتهِ هذا الاِحْتِفال إلا وخَمْسَةٌ من أصْدِقاء والده اصْطَلَحوا مع الله, فالبطولة لا أنْ تُفْسِد إنْساناً على شَيْخِهِ, دِمَشْق فيها خمسة ملايين ، كم من مُصَلٍّ فيها؟ نِصْف مليون أو أكثر، فهؤلاء أربعة الملايين الشارِدين عن ربِّهم ابذل من نفسك لهم، ولِهَؤُلاء الذين لا يُصَلون، ولِهَؤُلاء الذين أُلْبِسوا شُبُهاتٍ حول الدِّين، وظنوا أنَّ الإسلام شيءٌ قديمٌ، وأنَّ الأديان أشياءٌ غَيْبِيَّة لا علاقة لها بِالواقع، فأنت إذا أردتَ أنْ ترقى عند الله يجب أنْ تنْطلق في حِوار الطَّرَف الآخر، لا أنْ تبْقى على الطَّرف الواحد، فالبُطولة في إقْناعِ الطَّرَف الشارِد .
أردتُ من هذه المُقَدِّمة أنْ أبيِّن أنَّه في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان النبي قِمَّةً في الحُبِّ والوَرَعِ والإقْبال والسُّمُوِّ وإنْكار الذات والشَّوْق لربِّه، وكان أُناسٌ في مكَّةَ في حضيض الانْحِطاط والدناءة والأَثَرَة والكِبْر والبَغْي والأنانية والعُدْوان، وكان أُناسٌ لم يؤمنوا بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وليْسوا في هذا المُسْتوى الوَضيع الذي انْحدر إليه كُفارُ قريش، من هؤلاء سيِّدُنا حمزة بن عبد المُطَّلب رضي الله عنه وأرْضاه .
العبر التي يمكن أن نستنبطها من مواقف حمزة بن عبد المطلب قبيل إسلامه مع ابن أخيه :
1- شفافية حمزة بن عبد المطلب :
كان سيدنا حمزة مرَّةً في فناء الكعبة، حيثُ سادة قريشٌ يتحادثون، فجلس معهم ليسمع ما يقولون، وكانوا يتحدَّثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولأوَّل مرَّةٍ رآهم يقلقون على مصيرهم من هذه الدعوة الجديدة، ويُعبِّرون عن حقدهم وغيظهم وعن مرارة قلوبهم، كان هو متفائلاً معتدلاً واقعيًّا، فلم يبالغ هذه المبالغة، ولم ينطوِ على هذا الحقد، وهو ليس على دين محمد ، ولكن لا ينطوي على حقد على ابن أخيه، ولا على كُرهٍ للحق، هذا الذي أريده, هؤلاء الذين لم يقاتلوكم في الدين، قال الله عز وجل:

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
( سورة الممتحنة الآية: 8 )
لو أقمـتَ علاقةً مع إنسان لك ثقة بأخلاقه، لكن لا تراه ملتزِماً، هذا الذي أتمنَّى أن استنبطه من هذه القصَّة، فكان سيدنا حمزة كلما طُرِح موضوعُ النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه لم يكن على دينه, كان يرى أنَّ ابن أخيه على حقٍّ، ولم يفكِّر أنْ يؤمن به، لكنه كان يدافع عنه، هؤلاء الحياديون ينبغي أن نقرِّبهم إلينا, لا أن نبعِّدَهم عنَّا، أحيانًا يكون أخٌ منا ملتزماً بالدين وله قريب متلبِّسٌ بمعصيةٍ أو مخالفة، فيكَفِّرُه بها، ويحاربه، هذا ليس من الحكمةِ إطلاقًا, هذا موقف غير حكيم، وغير إسلامي، ولا يُرْضي الله عز وجل، فهذا موقفٌ مُنَفِّر، إذْ إنه ما عاداك، وما هاجمك، ولا نال منك، ولكنه ليس على شاكِلَتِك، ليس على الْتِزامك، فأنت عليك أنْ تُحْسن إليه، وأنْ تصِله وتزوره وتُقَدِّم له بعض الخدمات، وتريه منكَ الكمال، وعليك أنْ تُرِيَهُ العِفَّة والإحسان ، حتى يُوازن فيقول: هذا إنسانٌ عظيمٌ .
2- حمزة لم يبخس قدر ابن أخيه على الرغم من تقارب العمر بينهما واختلاف الدين :
هناك اسْتِنباط آخر من هذه القِصَّة، فأكثر الأشْخاص عامِلُ السِنِّ حِجابٌ بينهم وبين الله, مثلاً إذا كان أكبر من هذا الذي يدْعو إلى الله سِناًّ, لا يسْتمع إليه، لذلك دائِماً عقدة الآباء مع أبنائِهم ، فالأب يقول: هذا ابني، أنَّى له أن يسْبِقَني، وقد يسْبِقُ الابن أباهُ، قال تعالى: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً﴾
( سورة مريم الآية: 43 )

فَسَيِّدُنا حمزة مع أنه كان عمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك عرف قَدْرهُ وصِدْقَهُ، وعرف أمانته وإخْلاصه وقيمته عند الله عز وجل، فالسُّعداء أيها الأخوة, لا يمْنعهم فارق السِّنِّ من أن يسْتمعوا وأن يتَّبِعوا .
أحْياناً يكون الشخْصُ مدير ثانويَّة لا يُمْكن أنْ يسْتجيب لِمُعَلِّمٍ عنده، كذلك طبيبٌ كبير لا يسْتجيب لِمُمَرِّض، مديرٌ عام لا يسْتجيب لِمُوَظَّف صغيرٍ عنده، ففارق المرتبة الاجتِماعِيَّة والسِّن أو فارق المستوى الاقتِصادي، هذا حِجابٌ بين العبد والحقّ، فَسَيِّدُنا حمزة وهو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك عرف قَدْره، بل إن العباس رضي الله عنه لشدَّة أدبه مع رسول الله, سُئِلَ مرَّةً : أيُّكُما أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر مني، وأنا وُلِدْتُ قبله، أحْيانًا أنت تحمل شهادة، ويُلْقي الله في قلب إنسان أقلَّ منك عِلمًا، وتكون أنت من ذوي الشهادات العاليَة, يُنْطِقُهُ بالحِكمة، ويُلقي في قلبه السكينة، فلا يكون فارق السنِّ، ولا فارق الشهادة، ولا فارق المرتبة الاجتِماعِيَّة حِجاباً بينك وبين الحقّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك]
التدين فطرة في كيان الإنسان هذا ما يؤكده واقعه :
مرَّ معنا حديثٌ شريف منذ يومين في درس الفجر أنَّ الرجل قد يبْدو بليغاً، طليق اللِّسان ، ووسيمَ المنظر، لا شأنَ له عند الله، وقد تجد إنساناً في مقاييس البشر في الدرجة الدنيا، وله عند الله شأنٌ عظيم,
((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك]

لذلك هذا الأخلاقي الذي لا يُصلي أنت ترتاحُ له، ولكن لا ترْضى عن سُلوكه هذا الإنسان بالذات, لا بد أنْ يأتِيَ يومٌ يسْتجيب فيه لله عز وجل, أخْلاقِيَّتُهُ ونظافَتُهُ ومُروءَتُهُ هذه تُعينه على طلب الحقّ، فَسَيِّدنا حمزة خرج من داره مُتَوَشِّحاً قوسه، ومُيَمِّماً وجْههُ شطر الفلاة لِيُمارِس هِوايَةً يُحِبُّها, إنها الصَّيْد، وكان صاحِبَ مهارَةٍ فائِقَة فيها، قضى هناك بعض يومه، ولما عاد من صَيْده ذهب كَعَادتِهِ إلى الكعبة لِيَطوفَ بها قبل أنْ يقْفِلَ راجِعاً إلى داره، ماذا نسْتنبط من هذا؟ الإنسانُ مُتَدَيِّن بالفِطْرة .
الآن اذْهب إلى أيِّ مكانٍ في العالم, اِذْهب إلى شرق آسيا تجد مُثَقَّفين يدخُلون معْبد بوذا ، ويُمارِسون طقوساً مُعَيَّنَة أمام صَنَمٍ كبير، وأمام هذا الصَّنم فواكه كثيرة توضَع لِيَأكلها ليلاً، والذين يأكُلونها هم الرُّهبان، وحتى الإنسان الذي له مرتبة اجْتِماعِيَّة وسِياسِيَّة يقْصد كاهِناً أو عرافاً لِيَسْتَنْبِئه الغيب، وهذه كُلُّها إشارات إلى أنَّ الإنسان مُتَدّيِّنٌ بِالفِطْرة، فإما أنْ يتعلَّق بِالخُرافات والأباطيل والأكاذيب، وإما أنْ يتعلَّق بالحقّ فلا بد أنْ تكون عبْداً, إما أنْ تكون عبْداً لِخُرافَةٍ، أو لِفِكْرةٍ تافِهَة مغْلوطة، أو أنْ تكون عبْداً لله عز وجل, حتى على مُستوى عامَّة الناس تجده يُقيمُ على كلَّ المعاصي
لكنَّهُ لا بد أنْ يتبرَّك بِهذا الولِيِّ، ولا بد أن يذْبح خروفاً على روح فلان، فهؤلاء العُصاة والمُنْحَرِفون لهم سُلوكٌ ديني - غير صحيح طبْعاً- فالتَدَيُّن بِالفِطرة، فهؤلاء الذين ينْدَفِعون للكَهَنَة من العُصاة، إنما ينْدفِعون بِفِطْرتهم، لماذا ينْدفعون لهذا؟ لأنّ الإنسان ضعيف يُحِبُّ أنْ يلْجأ إلى قَوِيّ، وكل الخُرافات الدِّينِيَّة منْبعُها هذه الحاجة الفِطْرِيَّة إلى التدَيُّن .
قريباً من الكَعْبة لَقِيَهُ خادِمٌ لِعَبْد الله، ولم تكد تبصرُه حتى قال له: يا أبا عُمارة - وهي كنية سيدنا حمزة- لو رأيتَ ما لقيَ ابن أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشام، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره، فسيدنا حمزة بكل مروءته وشهامته وغيرته، وبكل إنصافه توَشَّح سيفه، واتَّجه ليقتصَّ من أبي الحكم بن هشام، بحث عنه فإذا هو في جوار الكعبة، تقدَّم نحوه، واستلَّ قوسه، وهوى به على رأسه فشجَّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة صاح حمزة بهم وصاح في أبي جهل: أَتَشْتُمُ محمَّداً وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ أسلم سيِّدنا حمزة، ولكن بِمَوْقفٍ ارْتِجالي، وموقف دفعته إليه حَمِيَّتُهُ لابن أخيه، وإنْصافُهُ وغَيْرَتُهُ، أسْلم وتحَدى المُشْرِكين .
حالتا الشك واليقين التي مر بهما حمزة أثناء إسلامه :
أيها الأخوة, أدَعُكُم معه لِيُعبِّر عن حالةٍ نفْسِيَّة ألمَّتْ به
يقول سيِّدنا حمزة: أدْركني النَّدَم على فِراقي دين آبائي وقَوْمي, وبِتُّ في شكٍّ من أمرٍ عظيم، لا أكْتَحِلُ بِنَوْم، ثمّ أتَيْتُ الكعبة وتضرَّعْتُ إلى الله أنْ يشرح صدْري، مفْهوم الإله مفْهومٌ عامٌ في كلِّ مكان وزمانٍ، وفي كلِّ مِصر .
فاستجاب الله لي، وملأ قلبي يقيناً، وغدوتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرتُه بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبِّتَ قلبي على دينه، كذلك هنا استنباط, أنتَ لك علاقة مع الله مباشرة، لك ابتهالات، لك سؤال إلى الله، لا شكَّ أنَّ في حياتنا أشياءَ مُحَيِّرةً، أحياناً يلجأ إلى الله, يا رب أنت تعلم وأنا لا أعلم، دُلَّني بك عليك، دُلَّني على رجلٍ يُحِبُّك, إنْ كان هذا يُحِبُّك وتُحِبُّه فألْقِ حبي فيه، إنْ كان هذا على الحق فاجْعَلْني أميل إليه، فاجْعل بينك وبين الله سُؤالاً وعلاقة، كما فعل سيِّدُنا الحمزة .
الخير الكبير الذي دخل على النبي والمسلمين حينما اعتنق حمزة الإسلام :

النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل سيِّدُنا حمزة في الإسلام كان هذا مَكْسَبًا كبيرًا لِذلك أنا أقول لكم: كُنْ شَخْصاً لامِعاً, إما في الدِّراسة، أو في العمل، أو في التِّجارة, أو في الزِّراعة, أو في الصِّناعة، ِحَيْث إذا عرف الناسُ أنَّك مؤمن بالإسلام اعتزُّوا بك, هناك من يَعْتَزُّ بالإسْلام، وهناك من يعْتَزُّ به الإسْلام، فإذا كان ذاك مُتَفَوِّقًا، وهو يغُضُّ بصره عن محارم الله, فشيء عظيم، والناسُ لا يُطَأطؤون لك إلا إذا رأوا تَفَوُّقاً في اخْتِصاصِك، عندئِذٍ يَحْتَرِمونك، ويَحْتَرمون دينك، ويحْتَرمون المنهل الذي تشرب منه .
إليكم حديث وحشي كيف خطط لقتل حمزة فأصاب رمحه ؟
كلكم يعلم أنّه في معْركة بدْرٍ قُتِل أبو جَهْل، وعُتْبَة بن ربيعة عبد، وشيْبَة بن ربيعة، وأُمَيَّة بن خلف، وعُقْبَة بن أبي مُعيط، والأسود بن الأسد المخْزومي، والوليد بن عُتبة، والنَّضر بن الحارث، والعاص بن سعيد، وطعْمَة بن عدِيّ، وعشَرات من زُعَماء قريش، ومن أعلى مُستوى من مُسْتَوَياتهم .
فغزوَةُ أُحد كانت أخْذًا بالثَّأر لِهؤلاء القتْلى، فهذا وَحْشي الذي قتل سيِّدَنا حمزة -طبْعاً أسْلم- وبعد أنْ أسْلم يرْوي كيف قتله؟ يقول وَحْشي: كنتُ عَبْداً لِجُبَيْر بن مُطعم، وكان عمُّ جُبَيْر قد لَقِيَ مصْرَعَهُ يوم بدْرٍ، فقال له جُبَيْر: اُخْرج مع الناس، وإنْ أنت قتَلْتَ حمزة فأنت عتيق، ثمَّ أحالوه إلى هند بنت عُتبة زوجة أبي سُفْيان لِتَزيدهُ تحْريضاً ودفْعاً إلى الهدف، وكانت هند قد فَقَدَت في معركة بدْرٍ أباها وعَمَّها وأخاها وابنها، وقيل لها: إنَّ حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجْهَزَ على البعض الآخر، من أجل ذلك كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سُفيان أكثر القُرَشِيات تَحْريضاً للخُروج للحرب، لا لِشَيْءٍ إلاّ لتظفر بِرَأسِ حمزة مهما يكُن الثمن، ولقد لَبِثَت أياماً قبل الخُروج وليس لها عمل إلا إفْراغُ كُلِّ حِقْدِها في صدْر وَحْشي، ورسْم الدَّوْر الذي يقومُ به، كُلُّ قلائِدِها وكُلُّ أساوِرِها وأقْراطِها وخلاخِلِها وزينتها هِبَةٌ لِهذا الوَحْشي إذا قتل حَمْزة .

يقول وَحْشي:
((كُنتُ رجُلاً وحْشِياً حَبَشِياً، أقذِفُ بالحَرْبة قذْف الحَبَشَة، فقَلَّما أُخْطِئُ بها شيئاً، ولما الْتَقى الناس خَرَجْتُ أنظر حمزة وأتَبَصَّرُهُ، حتى رأَيْتُهُ في عَرْض الناس مثل الجمل الأورق، يَهُدُّ الناس بِسَيْفِه هداً، ما يقِفُ أمامه شيءٌ، فو الله بينما كنتُ أتَهَيَّأُ له أريدهُ وأسْتَتِرُ منه بِشَجَرَةٍ لِأتَقَحَّمَهُ، أو يَدْنُوَ مني إذْ تَقَدَّمني سُباعُ بن عبد العُزَّى فلما رآهُ حمزة صاح به قائِلاً: هلمَّ إليّ، ثمّ ضربه ضربةً فما أخْطأ رأسه، قال وحشي: عندئذٍ هَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رضيتُ منها دَفَعْتُها حتى وقَعَتْ في ثُنَّتِهِ، أيْ تحت سُرَّتِه، حتى خرجت من بين رِجْلَيْه، ونهض نحوي ثم غلب على أمْره فمات، وأتَيْتُهُ فأَخَذْتُ حَرْبَتي، ثمَّ رَجَعْتُ إلى المُعَسْكر، فَقَعَدْتُ فيه، إذْ لم يكن لي فيه حاجةٌ، فقد قَتَلْتُهُ لأُعتَقَ .
ثم قال: لقد أمـرتْ هندُ بنت عُتبة وَحْشِياً أنْ يأتِيَها بِكَبِد حمزة، واسْتجاب الحَبَشِيُّ لِهذه الرغبة المذعورة، وعندما عاد بها إلى هند، كان يُناوِلُها الكبد بِيُمْناه، ويتلقى قِرْطها وقلائِدها بِيُسْراه، مُكافَأةً له على إنْجاز هذه المُهِمَّة))

المصيبة التي فجع لها النبي والمسلمين :

النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سيّدنا حمزة قد قُتِل ومُثِّل به, قال:

((لن أُصابَ بِمِثْلِك أبداً))
أيْ هذه أكبرُ مصيبةٍ في حياتي، هكذا كان وفاءُ النبي وحُبُّهُ صلى الله عليه وسلَّم، وما وَقَفْتُ مَوْقِفاً قطُّ أغيَظ من مَوْقِفي هذا .
تَرْوي بعضُ الكُتُب أنَّ أصْحابه تَمَنَّوا أنْ يُمَثِّل بقتلى قُرَيْش، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث بُرَيْدَةَ, قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ, وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا, فَقَالَ: اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ, اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا))
[أخرجه الترمذي في سننه]

وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُثْلَةَ . على مثلك أبو عمارة تبكي البواكي :
حينما انْصَرَفَ النبي من مَوْقِعة أُحد مرَّ على نِساءٍ من بني عبد الأشْهل يبْكينَ شُهَداءَهنّ ، فقال عليه الصلاة والسلام من فَرْط حنانه وحُبِّه: لكنَّ حمزة نام وما بُكِيَ له، فَهِم أصْحابه أنه لا بد من أن تأتي النِّساء لِتَبْكي حَمْزة، فلما سمع النبي البُكاء, قال: ما إلى هذا قَصَدْتُ، اِرْجِعْنَ يرْحَمْكُنَّ الله، فلا بُكاء بعد اليَوْم, كالنواح، وضرب الوجه، وتمْزيق الثياب .

أذكر أنني كُنتُ في جنازة فَخَرَجَتْ زوْجَةُ ذاك الشخْص المُتوفَّى إلى الطريق تُوَلْوِل حاسرة متكشفة, هكذا بلا شيءٍ، كل هذا من فِعْل الجاهِلِيَّة، أمّا مَوْتُهُ واسْتِشْهادُه كُلُّ هذا قضاءٌ وقدَر، والإنسانُ كلما ارْتقى إيمانه انضبطتْ أحْزانه, يبْكي ويتألَّم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ:

((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ, وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ, ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ, فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ, إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
كلمة قالها النبي عند قبر حمزة تهتز لها القلوب :
على هامِش هذه القِصّة عبرةٌ تَعْرِفونها جميعاً, فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على قَبْره قال هذه الكَلِمة:
((رَحْمَةُ الله عليك، فإنَّك كُنتَ كما عَلِمْتُ))
-اُنظر أيها المؤمن إلى الأدب مع الله، المؤمن لا يُزَكي على الله أحداً- ((وَصولاً للرحِم، فَعولاً للخَيْرات))
.
مرَّةً حَضَرْتُ جنازَةً، قام أحدُ العلماء يُؤبِّنُهُ, وقد تأثَّرْتُ لما قاله هذا العالم, قال: إنَّ أخاكم أبا فلان كان مُؤذِّناً فَتَرَحَّموا عليه, خمسةٌ وسِتونَ عاماً عاشَها هذا المتوفى، ألم يسْتطِع هذا العالم أنْ يتكَلَّم عنه إلا بهذا؟! فقُلْتُ: هذا دليل على أنَّ الإنسان مهما كان يمْلك، ومهما قدَّم أثناء حياته، فإذا وافَتْهُ المَنِيَّة لا يتكلَّمون عنه أكثر من خمس دقائق، فهذه الدنيا فانِيَة، وبُطولتنا فيها أنْ نعمل عملاً صالِحاً نَرْقى به إلى الله . إليكم موقف النبي الكريم من وحشي قاتل عمه :
يقول وحشي:

((لما قَدِمْتُ مكَّة أُعْتِقْتُ حسب الوَعْد، ثمَّ أقَمْتُ بها حتى دخلها النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فهَرَبْتُ منها إلى الطائِف، فلما خرج وفْدُ الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيُسْلم ضاقَتْ عَلَيَّ المذاهب، وقُلْتُ: ألْحُق بالشام أو اليمن أو سِواهما، فو الله لأني في ذلك من هَمِّي وحُزْني إذْ قال لي رَجُلٌ: وَيْحَكَ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يقْتُلُ أحداً من الناس يدْخُلُ في دينه, فَخَرَجْتُ حتى قَدِمْتُ على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فلم يرني إلا قائِماً أمامه أشْهَدُ شهادة الحقِّ, أشْهد أنْ لا إله إلا الله، وأشْهد أنَّ محمَّداً رسول الله، فلما رآني النبي, قال: أَوَحْشِيٌّ أنت؟! قلتُ نعم، يا رسول الله! فقال: حَدِّثْني كيف قَتَلْتَ حمزة؟ فَحَدَّثْتُهُ فلما فَرَغْتُ من حديثي, قال: وَيْحك! غَيِّبْ عني وَجْهَك، اللهم هذا قَسْمي فيما أمْلك، فأنا أملكُ أنْ أعْفُوَ عنه، ولكن لا أمْلكُ أنْ أراه! قتَلَ أحبَّ الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فَكُنْتُ أتنكَّبُ طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ كان، أيْ لا أُواجِهُهُ حتى لا يراني حتى قبضه الله إليه قال: فلما خرجَ المُسلمون إلى مُسَيْلَمة الكَذاب -هذه بِتِلْك- صاحِبِ اليمامة خَرَجْتُ معهم وأخذْتُ حَرْبتي التي قَتَلْتُ بها حمزة فلما الْتقى الناسُ رأيـْتُ مُسَيْلمة الكذاب قائِماً في يده السَّيْف وتهيَّأتُ له وهَزَزْتُ حَرْبتي حتى إذا رَضيتُ منها دَفَعْتُها عليه فَوَقَعَتْ فيه، فإنْ كُنْتُ قد قتلْتُ خير الناس بحربتي هذه, وهو حَمْزة، فإني لأرْجو اللهَ أنْ يغفر لي إذْ قَتَلْتُ بها شرَّ الناس مُسيْلَمَة))
أنا قرأتُ بعض التاريخ الذي يتحدَّثُ عن فتْح القُدْس في عهْد الصَلِيبيين، فالصَلِيبِيُّون قتلوا في القدس سبْعين ألف مُسلمٍ في يومٍ واحد، ذبحوهم ذَبْحاً، فلما فتح القُدْس سيّدنا صلاح الدِّين عفا عنهم جميعاً وكان أرحم بهم من أنفسهم, هذا هو المؤمن، فهناك أخْلاقٌ شَرَعَها الله لنا .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:51 PM   #9


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( التاسع )

الموضوع : سيدنا زيد بن حارثة






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الصفات الجسدية التي كان يتمتع بها زيد بن حارثة :
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس التاسع من دروس سِيَر الصحابة رِضْوان الله عليهم أجْمعين
وصَحابِيُّ اليوم حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفَهُ الواصِفون بأنَّهُ كان قصير القامة، شديد السُّمْرة، في أنفِهِ فطَس، وأما نبؤُهُ فَعَظيمٌ جداً جداً، ماذا تدُلُّكم هذه المُفارقة, قصير القامة، شديد السُّمْرة، في أنفِهِ فَطَس، وهو حِبُّ رسول الله؟ وسَأريكم بعد قليل كم هي المكانة التي يتمَتَّع بها عند النبي عليه الصلاة والسلام؟ وسأُخْبِرُكم بعد قليل أنَّ الصحابيُّ الوحيد الذي ذكر الله اسمه في القرآن هو سيِّدُنا زَيْد، وفي ذِكْره قِصَّة، ولماذا ذكر الله اسمه في القرآن الكريم؟ .
أوَّلاً: لا قيمة لِشَكْل الإنسان إطْلاقاً عند الله عز وجل، أيَّةُ صِفَةٍ تكون مُتَلَبِّساً بها قصيرُ القامة أو طويلها، أبيض اللون أو أسْمر اللون، أيَّةُ صِحَّةٍ, وأيَّةُ عاهَةٍ، أيُّ جمـالٍ, وأيَّةُ وسامَةٍ, وأيـَّةُ دمامةٍ لا أثر لها عند الله تعالى, قيمة الرجل في إيمانه وأفْعاله وعملــه، إذاً: كلُّ القِيَم المادِيَّــة الأخرى تحت الأقدام نَبِيُّ الرحمة والعدل والقِيَم والأخلاق، كلها اجتمعت فيه، وهاهو عليه الصلاة والسلام, يقول:
((إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّم َصالح الأخلاق))
[أخرجه أحمد في مسنده]
إنه حِبُّ رسول الله . لسيدنا زيد قصة مؤثرة فاستمعوا لها :
هذا الصحابيُّ الجليل كان أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام, قبل أنْ يُبْعَث النبي عليه الصلاة والسلام له قِصَّة، وهي أنَّ زَيْداً كان صغيراً وعُمرهُ لا تزيد على ثماني سنوات، أَتَوْا به إلى سوق عُكاظ وباعوه عَبْداً, لماذاَ؟ لأنَّ أمه سعدى بنت ثعْلبة أرادت أن تزور قومها بني معن, وكانت تصحب معها ابنها زيد بن حارثة الكعبي، فما كادت تحِلُّ في ديار قومها حتى أغارت عليهم خيلٌ لبني القيد, فأخذوا المال واستاقوا الإبل وسبوا الذراري، هكذا كان العرب في الجاهلية .

فكان هذا الطفل الصغير في الثامنة من عمره مع أمه في زيارة بيت جدِّه, جاءت غارةٌ مفاجئة فأخذته وباعته في سوق عُكاظ عبداً, واشترى هذا العبدَ حكيم بن حَزام بن خُوَيلِد بأربعمئة درهم، واشترى معه طائفةً من الغلمان وعاد بهم إلى مكة, فلما عرفت عمَّتُه خديجة بنت خُوَيلد بمقدمه زارته مسَلِّمةً عليه مرَحِّبةً به, فقال:
((يا عمَّةُ, لقد ابتعتُ من سوق عُكاظٍ طائفةً من الغلمان فاختاري أيَّا منهم تشائين فهو هديَّةٌ لكِ، فتفرَّست السيدةُ خديجةُ وجوه الغلمان واختارت زيدَ بنَ الحارثة لِما بدا لها من نجابته, ومضتْ به, وما هو إلاَّ وقتٌ قليلٌ حتَّى تزوَّجتْ خديجةُ بنتُ خويلد من محمد بنِ عبدِ الله صلى الله عليه وسلم فأرادت أن تُطرِفه, أي تتحفه بتُحفة وهدية، فأهدت له غلامها زيد بن حارثة، فأعتقه النبي عليه الصلاة والسلام فورًا .
بقِيَ عند النبي عليه صلاة والسلام، لم يَبْقَ عنده عبداً، إنما بقي عنده ضيفًا، أما أُمُّه وأبوه فقد بَكَيَا عليه كثيرًا وبَحَثاَ عنه كثيرًا، وفي موسمٍ من مواسم الحجِّ قصَدَ البيتَ الحرام نفرٌ من قوم زيدٍ، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق, إذْ هم بِزَيدٍ وجهاً لوجهٍ، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم، ولما قضَوْا مناسكهم وعادوا إلى دِيارِهم أخبروا حارثةَ, -من حارثةُ؟ أبوه– بِما رأوا وبما سمعوا, وقال زيدٌ لهؤلاء: أخبروا أبي أني مع أكرمِ والد))

ما هي المعاني التي يمكن أن نستنبطها من القصة ؟
هناك معانٍ كثيرةٌ جدًّا تدور في نفسي حول هذه القصة، النبي عليه الصلاة والسلام لم يُبعَثْ بعدُ، اسمه محمدُ بنُ عبدِ الله، وانظر إلى تعامله لزيد حتى تكلم زيد لأبناء قومه أني مع أكرم والد .

وبعد, دعونا قليلاً من أحداثِ هذه السيرةِ وتعالَوْا بنا إلى حياتنا اليومية، أنتَ كمؤمن, إذا كان إنسانٌ تحتَ يَدِكَ, وليكُنْ صانعاً في محلِّكَ التِّجاري, وليكن موظفاً عندك، أنتَ كمؤمنٍ عليك أن تقتديَ بهذا النبي عليه الصلاة والسلام، يجبُ أن تعاملَه كما تُعامل ابنَك إلى أن يقولَ هذا الإنسانُ الذي تحت يدك: أنا مع أكرم والد، الإسلامُ هكذا، الذي تحت يدك يجب أن تُطعِمَه ممَّا تأكلُ, وأن تُلبسَه ممَّا تلبس، أنا يَحُزُّ في قلبي أن أرى رجلاً مسلماً عنده مُوظَفٌ أو صانعٌ أو غُلامٌ صغيرٌ، يؤتى له بالطَّعام ظهرًا فيأكل، وذاك الغلام أو ذاك المُوَظف أو ذاك الصَّانع ينظرُ إليه, ولا يقول له: تَعَالَ كُلْ معي يا بني .
أيُّها الأخوة الأكارم, إن لم تُعاملوا مَنْ تَحْتَ أيديكم كما تُعاملون أبناءكم, فو اللهِ الذي لا إله إلاَّ هو لا قيمةَ لا لصلاتكم ولا لصومكم ولا لحجِّكُم، فالدِّينُ هكذا، هذا الذي يعيش معك ويتعامل معك إن لم يشعرْ برحمتك وبِعَطْفك وبِحِرصِك، فأنتَ لستَ مسلماً، لعلَّك تظنُّ أنَّ الإسلامَ صومٌ وصلاةٌ، لا والله، شيء يُلفتُ النظرَ فهذا كان قبل البعثة، ولو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عامله هذه المعاملة بعد أن بعثه الله وأحبَّه، فلرُبَّما ليستفيد دعاية له، أو مُجاملةً، لكن عامله المعاملة الطيبة قبل البِعثةِ وهو كرجلٍ من رجال مكةَ اسمُه محمَّدُ بنُ عبد الله .

لديك يتيمٌ في بيْتِك إنْ لم تَرْعَهُ الرِّعاية التامة وتُطْعِمه مما تأكل، إنْ لم يشْعُر بالحَنان والإنصاف، فإسلامك صورة وشكل، سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده ضَيْفٌ وهو أمير المؤمنين فانطفأ السِّراج، فقامَ سيّدنا عمر بِنَفْسِه وأصلح السِّراج، فهذا الضَّيف وقع في حرَجٍ, فقال له: أنت أميرُ المؤمنين، قُل للغُلام أو أكون أنا مُصْلِحه، فقال له: أما أنت فَضَيْفٌ وَسَخافَةٌ بالمرء أنْ يسْتخدم ضَيْفه, هكذا النبي علَّمَهُ، وأما الغُلام فقد نام وكَرِهْتُ أنْ أوقظه, ذَهَبْتُ وأنا عمر وعُدْتُ وأنا عمر .
فيا أيها الأخوة الأكارم, الإسلام دينُ معاملة بِحَيث يجْعلك عند عاملك أو الموظف الذي لديك تزْداد احْتِراماً وحُباً عنده وتَعَلُّقاً بك وكُلُّ هذا من الإحْسان، والله لو عامَلْنا غيرنا بهذه المُعاملة لكُنا مُجْتَمَعاً مُتَماسِكاً وبِحالٍ غير هذه الحال قَوْلاً وعملاً .

فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصْحابه, وقال:

((وعلّيَّ جمعُ الحطب، فقالوا: نَكْفيكَ ذلك, قال: أعرف، ولكنَّ الله يكرهُ أنْ يرى عبداً مُتَمَيِّزاً عن أقْرانه))
في معْركة بدْر, قال: ((أنا وعليّ وأبو لُبابة على راحِلَة, فقالوا: ابْقَ راكِباً, فقال: لا، ما أنتما بِأقْوى مني على المَشْي، ولا أغْنى مني عن الأجر))
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم بلا مَيِّزَة، فَحُبُّهم له وتعْظيمُهُم له وتقْديسُهم له شيءٌ آخر, أما هو فقد جعل نفْسه معهم في كفَّةٍ واحدة, سَواءً بِسَواء, حتى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصْحابه ودخل أعْرابيّ لم يعْرِفْهُ, قال: ((أيُّكُم مُحمّدٌ صلى الله عليه وسلّم, فَيَقول النبي: قد أصَبْتَ))
لماذا؟ لأنه لم تكن له ميزَةٌ على أصْحابه الكِرام . ما السبب الذي دفع زيد بن حارثة إلى الاستبقاء مع النبي دون والديه ؟
حارثة لما علِمَ أنَّ ابنه فَلِذَةُ كَبِدِه بِمَكَّة عند محمدٍ بن عبد الله، شَدَّ راحِلَتَهُ وهيَّأ المبلغ الكبير لافتدائه, تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مكَّة المُكَرَّمة ومعه أخوه فلما دخلا على محمد بن عبد الله, قالاَ له :
((يا بن عبد المُطَّلب أنتم جيران الله تَفُكُّون العاني, وتُطْعِمون الجائِع, وتُغيثون الملْهوف, وقد جِئْنا في ابننا الذي عِندك، وحَمَلْنا إليك من المال ما يفي به، فامْنُنْ علينا وفاده لنا بما تشاء واطْلُب المبلغ الذي تريد, فقال عليه الصلاة والسلام وهو سيّد الخلق: ومن ابْنُكُما الذي تَعْنِيان؟ – الدِّقَة والتحْقيق – فقالاَ: غُلامك زَيْدُ بن حارِثَة, فقال: وهل لكما فيما هو خيرٌ من الفِداء؟ فقالا: وما هو؟ قال عليه الصلاة والسلام: أدْعوه لكم فَخَيِّروهُ بيني وبينكم فإنْ اخْتاركم فَهُو لكم بِغَيْر مال, وإن اخْتارني فما أنا بالذي يرغب عمن اخْتاره))
دَقِّقوا في دِقَّة النبي عليه الصلاة والسلام، ((فقال العمّ والأب: والله قد أنْصَفْت وبالغتَ في الإنصاف, فَدَعا النبي عليه الصلاة والسلام زيْداً, فقال: من هذان؟ قال: هذا أبي حارثة ابن شُرَحْبيل, وهذا عمِّي كَعْب, فقال: يا زيد, قد خَيَّرْتك إنْ شِئتَ مَضَيْتَ معهما, وإن شِئتَ أقَمْتَ معي، فقال زيدٌ من غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء: بل أُقيمُ معك، وما أنا بالذي أخْتار عليك أحداً أنت الأب والعمّ, فقال أبوه: وَيْحَكَ يا زيد, أَتخْتارُ العُبودِيَّة على أبيك وأمِّك؟ قال: إني رأيْتُ من هذا الرجل شيئاً أنْساني كُلَّ إنْسان، ما أنا بالذي يُفارقُه أبداً))

هذه هي المُعاملة, هل تسْتطيع أنْ تُعامل إنْساناً مُعامَلَةً يؤْثِرُك على أمِّهِ وأبيه؟ إذا كنت مؤمناً فهكذا تُعامل الناس، المؤمن أيها الأخوة، كيْفما تَحَرَّك مع الذين يعيشون معه من شِدّة إنصافه ورحمته وحنانه وعَطْفِه وكرمِهِ ووفائِه وتواضُعِه يؤثرونه على كُلِّ شيء .
((فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من زَيْدٍ ما رأى أخذ بِيَده وأخْرجه إلى البيت الحرام, ووقف به بِالحِجْر على ملأ من قُرَيش, وقال: يا معْشَر قُرَيْش, اِشْهدوا أنَّ هذا ابني يَرِثُني وأرِثُهُ، عندئِذٍ طابتْ نفسُ أبيه وعَمِّه وخَلَّفاهُ عند محمّدٍ بن عبد الله وعادا إلى قوْمِهما مُطْمئِنّي النفس و مُرْتاحي البال))

ومنذ ذلك الوقت أصبح زيدُ بن حارِثة يُدْعى بِزَيْد بن محمّد والغريب في القصَّة هو أنه مهما كان الإنسان يعيش في رَغَدٍ من الحياة إلا أنه لا يُؤثر أحداً على والدَيْه! لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان بِمَثابة الوالد والأم وهكذا الإسلام، وهكذا ليكن المسلم .
فأنت قد يكون عندك بالمحلّ أو المصنع عامل أو بالبيت يتيم أو طِفْلٌ يكْنس لك، أرِهِ العَطْف والحنان والموَدَّة والإكْرام، اِبْذِل المال واعْتَبِرْه كابنك، والله أستمع إلى كلِّ قِصَّة –شهِد الله- لولا أنَّ الذي أخبرني بها لي صادِقٌ لما صَدِّقتهُ، قَلْبٌ قاسٍ كالحجر، المبيعات باليوم مئة ألف، الراتب ألفان وخمسمئة بالشهر، هل هذا يكْفي؟ وتجده يقول: إذا لم يُعْجِبك هذا المبلغ نأتي بِغَيْرك، القصد أنَّ الإنسان إذا لم يرْحَم لا يُرْحم، وإنْ أرَدْتُم رحْمتي فارْحَموا خَلْقي، فهذا الذي أُجْرته ألفان وخمسمئة بالشهر, هل تكْفيه للأكل هو وزَوْجَته؟ .

حدَّثني أحد الأخوة, فقال لي: آخذ ألفين وخمسمئة بالشهر, وأنا أشْتري لصاحب المحلّ كلَّ يومٍ أغْراضاً مبْلغها سِتَّة آلاف, فأنت خَرْجك اليومي ستة آلاف, وهذا الصادق الأمين تعطيه ألفين وخمسمئة بالشهر! ثمَّ تذهب إلى المسْجد, الله أكبر! وأنا الآن أحِبُّ أنْ أجري موازنةً، النبي عليه الصلاة والسلام كُتلةُ رحمة، كُتلة إنصاف، كتلة تواضع، كتلة حبٍّ، لذلك لما رأى زيدٌ أباه آثر النبي عليه الصلاة والسلام على أبيه وعمِّه، فكل إنسان عنده شخصٌ تحت يده، قد يكون موظفًا أو صانعا أو خادماً أو آذِناً أو حاجِباً فهذا شَخْصٌ غالٍ عند الله عز وجل، فهذا إنْ اهْتَمَمْتَ به وأكْرَمْته وعاوَنْتَه، وسألْتَ عن أحْواله, ودَقَّقْتَ بِدَخْله وبِأَهْلِهِ, وسألت هل عنده مشروع زواج أو وِلادة أو مُشْكلة؟ فمثلاً: في أوَّل الشِّتاء لا بد له من وَقود، وأوَّلُ العام المدْرسي يحْتاج إلى ملابس لأولاده، فهل أنت تعيشُ لِنَفْسِك أمْ للناس؟ .
لكن زيداً اخْتار النبي وآثره وأحَبَّهُ، فماذا نسْتَنبط من هذه الحقيقة؟ نسْتَنْبط أنَّ الأنبياء اصْطفاهُم الله عز وجل من صَفْوَة الخلق، فالنُّبَوَة هِبَة أساسُها اصْطِفاء، والاصْطِفاء أساسه التَفَوُّق، فهو عليه الصلاة والسلام تَفَوَّقَ بِكماله وأخْلاقه وتواضُعِه وإنْسانِيَتِهِ وكَرَمِه وحُبِّه للخلق، فاصْطَفاهُ الله عز وجل، هي نُبَوَّةٌ وهِبَةُ ولكن أساسها اصْطِفاءٌ من بين صَفْوَة الخلق . الإسلام يحرم التبني :
فلما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام, وأبْطَلَ الإسلامُ التَبَني حيث نزل قوله عز وجل :

﴿ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 5 )
عندَئِذٍ عاد النبي عليه الصلاة والسلام وناداهُ زيد بن حارثة اِمْتِثالاً لأمر الله, فإكْراماً له عندما ردّه إلى أبيه, ذكر الله اسمه في القرآن الكريم تطيباً لخاطره، وهو الوحيد الذي ذكِر في القرآن الكريم، إذْ ليس في القرآن الكريم اسم لصحابي إلا سيّدنا زيد، والآية قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 37 )
هل في القرآن اسمُ امرأة؟ نعم مريم، وهي الوحيدة التي ذُكِرَت في القرآن إذْ إنّ بعض العلماء, قال: إنَّ ذِكْر اسم المرأة مكْروه، وإنما ذُكِرت مريم في القرآن لأنَّ سيّدنا عيسى عليه السلام قالوا عنه: إنَّهُ إله، وهو ابن الله، فَرَبُّنا عز وجل, قال: عيسى بن مريم وهو الاسم الوحيد .
المكانة التي احتلها زيد عند رسول الله عليه الصلاة والسلام :
كُنْتُ أذكر لكم هذه الفِكْرة وأكررها كثيراً، لما بُعَث النبي عليه الصلاة والسلام وجاء الوَحْيُ وزَيْدٌ عنده, وقد آثَرَهُ على أمِّهِ وأبيه, فاحْتَلَّ زيْدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلَّم مكانة كبيرة، فِالمَرْتبة الاجْتِماعِيَّة والتصْنيف الطَبَقي سيّدنا زيد عَبْدٌ لكنه كان خليفة رسول الله على المدينة, وكان أمين سِرِّه, وقائِدَ غزواته, هذا هو الإسلام الذي نطْمَحُ إليه .

دائِماً أيها الأخوة، لا يوجد حُبٌّ من طرفٍ واحدٍ، عظمة النبي عليه الصلاة والسلام أنه أحبَّ أصْحابه كما أحبُّوه، أو أنهم أحَبُّوه كما أنه أحَبَّهُم، أَحَبوهُ لأنه أحَبَّهُم، مُجْتمع المؤمنين مُتماسِك, عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ:

((وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ فِيَّ وَيَتَجَالَسُونَ فِيَّ وَيَتَبَاذَلُونَ فِيَّ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
إذا لم تُحبّ أخوانك, ولم ترْحَمْهُم، ولم تعْطِف عليهم، ولم تنصِفْهم، ولم تزرهم وتتفَقَّدْهم بِمُناسبات مُعَيَّنة، وتبْذل لهم شيئاً من مالك حتى يصير الأخ لِأخيه كالبُنْيان المَرْصوص, إنْ لم نكُن كذلك فَلَسْنا من المؤمنين . هنيئاً لك زيد على هذا الحب المبارك لك من نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام :
الشيءُ الذي لفتَ نظري في سيرة هذا الصحابي، كما أنه أحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وآثره على أمِّه وأبيه فقد أحَبَّهُ النبي عليه الصلاة والسلام وخلطه بِأهله وبنيه فكان يشْتاقُ إليه .
أيها الأخوة، أُقْسِم لكم بالله أنَّ أخاً كريماً إذا غابَ أسبوعاً أو أسْبوعَيْن أشْتاقُ له، هذه حقيقة وليس ادعاءً، والعلاقة بين المؤمنين لا يعْلمها إلا الله, لا تظنّ أنَّ أخْوانك هم الذين يُحِبونك فقط بل لا بد من أنْ تُحِبَّهم أيضاً، وتشْتاقُ لهم كما يشْتاقون لك، وتُؤْثِرُهم كما يُؤْثِرونك، وتَحْفظ وُدَّهُم كما يحْفظون وُدَّك, هذا مُجْتمعُ المؤمنين والصحابة .

فالنبي صلى الله عليه وسلّم إنْسانٌ عظيمٌ جداً ووقورٌ جداً وهو سيِّدُ الأنبياء, ومع ذلك يشْتاقُ لزيد إذا غاب عنه, وهذا هو مُجْتمع المؤمنين, على عكس مُجْتمع الدنيا، إذ يضْحك لك أحدهم ويبتسمُ لك ابْتِسامة صفراء وهو يكيد لك, الذي لفتَ نظري أنَّ النبي يشْتاقُ إليه, هذا المُتَّصِل بالله عز و جل والذي يأتيه الوَحْي وأسْعد الخلق يشْتاقُ لِسَيِّدِنا زيْد قصير القامة، شديد السُّمْرة، في أنفِهِ فَطس، وهو حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقد كان يشْتاقُ إليه إذا غاب عنه, ويفْرَحُ بِقُدومه إذا عاد إليه, ويلْقاهُ لِقاءً لا يَحظى بِمِثْله أحد، هذا هو الوفاء، وكأنَّ لِسانَ حالِ النبي عليه الصلاة والسلام: أنت يا زيد آثرْتني على والِدَيْك وبقيتَ عندي أفلا أُحِبُّك أشَدَّ من حُبِّك لي؟ .

السَيِّدة عائِشَة رضي الله عنها تَرْوي مشْهداً, تقول:

((قَدِمَ زيد بن حارِثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم في بيتي فقَرَعَ الباب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَخَفِّفاً من ثِيابه, فلما علِمَ أنَّ زيْداً قد جاء فَمِن شِدَّة شَوْق النبي لِزَيْدٍ واهْتِمامه به نَسِيَ أنْ يرْتَدي ثِيابه الخارِجِيَّة, فلما قرع الباب قام إليه النبي عليه الصلاة والسلام بِثِيابه الخفيفة, ومضى نحو الباب يَجُرُّ ثَوْبَهُ فاعْتَنَقَهُ وقبَّلَهُ, ووالله ما رأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يسْتقبل أحداً قبله ولا بعده بِهذه الثِّياب))
وهو مَشْهَدٌ من مشاهد حُبِّ النبي لِهذا الصحابيِّ الجليل، شاعَ هذا الأمر بين الصحابة حتى إنَّ الصحابة سَمَّوْهُ بِزَيْد الحِبّ أيْ محْبوبهُ, وأطْلقوا عليه لقب حِبَّ رسول الله, ولَقَّبوا ابنه أسامة من بعده بِحِبِّ رسول الله وابن حِبِّه . كيف استشهد هذا الصحابي ؟
قِصَّة اسْتِشْهادِهِ معْروفة عندكم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عَيَّنَهُ القائِد الأول في جَيْش مؤتة, وتَعْلمون أنَّ مؤتة موْقِعَةٌ خاضَها المُسلمون, والنبي عليه الصلاة والسلام ليس معهم، كان أصْحابُ النبي ثلاثة آلاف، ما قَوْلُكم بأنهم واجَهوا أكثر من مئتي ألف من الروم؟ ووقف أصْحاب النبي أمام هذا الجيش الكبير بِعُدَّتِه وعتاده, والقِصَّة التي أرْويها لكم دائِماً أنَّ سيّدنا جعْفر تسلم القيادة بعد استشهاد زيد, فلما قطعت يده اليُمنى, حَمَل الراية بِيَدِهِ اليُسرى فلما قُطِعَت اليُسْرى حَمَلها بِعَضُدَيْه, وقاتل حتى قُتِل, وخَرَّ صريعاً من علا فرَسِه غارِقاً في بحْر دِمائِهِ واسْتُشْهِد، بعدها تقدَّم سيّدنا ابن رواحة, رأى صاحِبَيْه قد اسْتُشْهِدا في وقْتٍ قصيرٍ جداً, ورأى مصيرهُ المحْتوم, بعضُهم قال: تَرَدَّد مِقدار ثلاثين ثانية, بمِقْدار بيْتَيْن من الشِّعر:
يا نفْسُ إلا تُقْتلي تموتي هذا حِمامُ الموت قد صليتِ
إنْ تفْعلي فِعْلهما رضيتِ وإنْ تَوَلَّيْتِ فقـد شَـقيـتِ


وقاتل حتى قُتِل، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه النبأ, قال:
((أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتِل, وإني لأرى مقامه في الجنَّة, وقبله سيّدنا زيد بن حارثة قاتل حتى قُتِل واسْتُشهد, ومن شِدَّة وفائِه ذهب بِنَفْسِه لِيُبَلِّغَ أهل سيِّدنا جَعْفر نبأ اسْتِشْهاده لأنَّ مكانته الكبيرة عند الله لعلَّها تُخَفِّفُ وطْأةَ خبرِ اسْتِشْهاده, وذهب بِنَفْسِهِ أيضاً إلى بيتِ سيّدنا زيدٍ بن حارِثة لِيُبَلِّغ نبأ اسْتِشهاده، ولما َبَلَغَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أنباءُ مُؤتة ومصْرَعُ قادته الثلاثة حَزِنَ عليهم حُزْناً لم يحْزن مثله قطُّ ، ومضى إلى أهْليهم يُعَزيهم فيهم فلما بلغ بيتَ زيْدٍ لاذَتْ به ابنته أيْ أقْبلت على النبي عليه الصلاة والسلام وتعلَّقَت به، وهي مُجْهِشَةٌ بالبُكاء، شيءٌ غريب فقد كان النبي يبْكي ولكن بدون صَوْتٍ إلا مرَّةً واحدة فقد بكى صلى الله عليه وسلَّم حتى انتَحَب, ومعنى انْتَحَب اِرْتفع صوْته بالبُكاء، فقال له سعدُ بن عُبادة: ما هذا يا رسول الله؟‍ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا بُكاءُ الحبيب على حبيبه))
هذا هو الحُبّ الذي بين النبي وبين أصْحابه، وينْبغي أنْ يكون هذا الحُبُّ بين المؤمنين ، وهذا هو الإسلام، هؤلاء الصحابة هم الذين حملوا الإسلام ورَوَوا هذه الأراضي بِدِمائِهم، أما نحن فالإسلام هو الذي حملنا، فإذا الإنسان منا حَفِظ القرآن أُكْرم بالجوائِز من عُمْرةٍ ودراهم إلى احْتِفالات وعزائِم، وهؤلاء الدعاة الآن يُكْرمون كثيراً, أما الذين فتحوا هذه البلاد ورووا الأرض بِدِمائِهم، والذين دفعوا الثمن باهِظاً، وأكلوا طعاماً خَشِناً, وخاضوا حُروباً قاسِيَة, وما ذاقوا طعْمَ النوم إلا قليلاً, فهؤلاء هم الذين حملوا الإسلام حقاً فَشَتَّان بين أن تحْمِل الإسلام وبين أنْ يحملك الإسلام ‍. كيف كان الرسول يعامل أصحابه ؟
الذي لفَتَ نظري في سيرة هذا الصحابي, كيفَ أنَّ النبي الكريم يشْتاقُ لأصْحابه، ويُحِبُّهم، ويرْعى شأنهم، ويَفِي بِعَهْدهم، ويذْكرهم وينْتَحِبُ حين فقْدِهم؟ هذا هو الإسلام بِأبهى صُوَرِه، ومن المُمْكن أن نسْتفيد من سلوكهم فالذي يملك محلاً أو متْجَراً أو معْمَلاً يُمْكِنُ أنْ يُقْنع من حوله بِدِينه وهو ساكِت، فأنت يمكن أنْ تكون داعِيَة كبيراً وأنت ساكِت, وهذا يتم بِإنْصافِك وإحْسانك وتواضُعِك وحُبِّك وعطْفِك وحنانك .

فالنبي الكريم عامل سيّدنا زيداً مُعاملة جَعَلَتْهُ يؤثِرُهُ على أمِّه وأبيه وهذه المُعاملة قبل البِعْثة، ومعنى ذلك أنَّ النبي معْصومٌ قبل البِعْثة وبعْدها، وهو في أعْلى درجات الكمال قبل البِعْثة وبعْدها، والشيءُ الثاني: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بادل أصْحابه حُباًّ بِحُبٍّ, وشَوْقاً بِشَوْقٍ, ووفاءً بِوَفاء .
وإذا أردْتم أن تكونوا مؤمنين صادِقين اتِّبِعوا سُنَّة النبي, واعْتَذِروا من بعضِكم, وراعوا مشاعر بعضكم, واصْدُقوا أخوانكم, وتعاونوا فيما بينكم, واحْتَرِموا بعضكم, وإياكم والمزاح، تواصَلوا وتبادلوا وتزاوروا وضَحوا من أجل بعضكم حتى يُحِبَّنا الله جميعاً ونسْتحقّ أنْ نكون مؤمنين .
أعرفُ رجُلاً ساكِناً بِبَيْت, وله أخٌ مُتَزَوِّج ليس له بيت, فقال له: تعال، وخُذ هذا البيت, ثم إن الله تعالى أكْرمه الله بِبَيْتٍ خيرٍ منه, فَبَذْلُ الخير يورثك الِسَعادَة، ويعود عليك بالعوض، فالإسلام دينُ معاملة ومواقف وبذْلٌ وعدالة ورحمة وإنْصاف وحبّ وتماسك وصِدْق وأمانة .
خلاصة الدرس :

فَدَرْسُنا اليوم، يتلخص بأن لِكُلِّ واحدٍ منا من هو دونه, بالوظيفة أو المتْجر أو المصنع أو المزرعة, وأقلّ شيء أنه قد يكون عندك مُوَظَّف فإن رأى منك العطف والحنان والحبّ والإنصاف والإكْرام, فالأب مع أوْلاده, والضابط مع جُنودِه، والمُعَلِّم مع تلاميذه, والطبيب مع مُمَرِّضيه، والمُحامي مع مُوَكِّليه، ألا تُحِبُّ أنْ يكون هذا الذي جعله الله دونك طريقاً لك إلى الله, وزاداً لك إلى الآخرة, ورأس مالك إلى الجَنَّة, اِفْعَل .
أعرفُ أخاً له مصنع عُمالُهُ كأولاده, فإذا رأى في وجْههم ضيْقاً سارِعَ لِحَلِّ مُشْكِلاتهم ، تجد بعدها أنَّ العامل يَفْدي ربَّ العمل بِنَفْسِه وروحه، الحِقْدُ الطبقي مُسْتَوْرَد، فنحن عندنا حُبَّ طبقي, وليس عندنا حقد طبقي .
أرجو الله سبحانه وتعالى ضارعاً أنْ يُلْهِمنا الخير والحق، وتطبيق هذه السيرة السمحة في مجتمعنا, وفيما بيننا, لأننا إذا طبَّقْناها كُنا مسْلمين حقاً .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:53 PM   #10


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( العاشر )

الموضوع : سيدنا اسامة بن زيد







الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
هل هناك فارق بين المؤمن والكافر ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس العاشر من دروس سِيَر صحابة رسول الله رِضْوان الله عليهم أجْمعين، وصحابِيُّ اليوم ابن صحابيِّ الأمس سيّدنا أُسامة بن زيد ابن حِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كمــا ذكرتُ لكم سابِقاً: إنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله في وقـْتٍ سابق، فقد غَلَبَتْ النُصوص على التحليل، وإنْ دَرَسْنا سِيَر أصْحاب رسول الله مرَّةً ثانِيَة فَنَرْجو الله تعالى أن يغلب التحليل على النُصوص, أيْ أنْ نربط هذه المواقف مع حياتنا، وأنْ نسْتَخْلص العِبر من سِيَرِهم كي نسْتفيد منها في حياتنا، أو في التعامل مع بعضِنا بعْضاً أوْ في علاقاتنا بالله عز وجل .

بادئ ذي بدْء في قِصَّة هذا الصحابِيِّ الجليل حقيقةٌ خطيرة, وهي أنَّ الكافِر بالتعبير الحديث عُنْصُرِي بِمَعْنى أنهْ يحْتَقِر الآخرين، ويقْبَلُ أنْ يبْنِيَ حياته على مَوْت غيره، وغِناهُ على فقْرِه، وأمْنَهُ على خَوْفِهم، يرى أنَّ الحياة له وحْده، وأنَّهـا من حقِّهِ هو فقط، يُمْكِن أنْ يأكُل لِيَجوع الآخرون هذه نظْرَةٌ عُنْصُرِيَّة, أيُّ إنْسان لأيِّ انْتِماء ومن أيِّ مشْرب إذا رأى أن له الحق أنْ ينطلق هذا المُنْطَلق فَهُو عُنْصُري، كما أنه بعيدٌ عن الإيمان بالله عز وجل بُعْد الأرض عن السماء، أما المؤمن يرى أنَّ الناس كلَّهُم عباد الله، وأنَّ أيَّ مَخْلوقٍ إنْ زاد في طاعَتِهِ لِرَبِّه يرْقى في مرْتَبَتِه، يُصَدِّقُ قوله تعالى:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
( سورة الحجرات الآية: 13)
لا يرْفَعُ الإنسان عند الله إلا طاعته لله، لذلك فالمؤمن قد يرى شَخْصاً فقيراً لكنَّهُ يعْرف الله حقاً ويعبده, فيُكِنُّ له في قلْبِهِ أعظم التقْدير، قد يكونُ مُديراً عاماً لِمُؤَسَّسَةٍ ضَخْمة وعنده حاجِب, هذا الحاجِب مُستقيمٌ على أمر الله لا يُعامِلُهُ إلا كما يُعاملُ نفْسه, فهذا هو المؤمن، اِحْذَر أيها الأخ الكريم أنه إذا انْطَلَقْتَ من أنَّك إنْسانٌ آخر, ولك مَيِّزات, ولك حقُّ الحياة, ولك حقّ أنْ تأكلُ ما تشْتهي بينما الذين حوْلك, تقول: ما شأني وشأنَهُم, إذا كانَ بالإمْكان أنْ تنْطَلِق بِهذا المُنْطلق فَبَيْنَك وبين الإيمان مراحل فسيحة .
أردْتُ من هذه المُقَدِّمة بيان أنَّ المؤمن يُحِبُّ عباد الله جميعاً، ويحْتَرِمُهم جميعاً، ولا يُفَرِّقُ أبداً بين جِنْسٍ وجِنْس، ولا بين عِرْقٍ وعِرْق، ولا بين لَوْنٍ ولَوْنٍ، ولا بين نَسَبٍ ونَسَبٍ ولا بين ثقافَةٍ وثقافة، ولا بين بلدٍ وآخر، ولا بين مدينةٍ وريفٍ، ولا بين غِنىً وفقْر, كُلُّ الناس عِباد الله، وإذا أراد أنْ يقيسهم فهو يقِيسُهم بِمِقْياس الإيمان فقط، إذا أراد أنْ يُصَنِّفَهم فتَصْنيفُهُ وِفْق قِيَم الإيمان فقط, أما أنْ يَفَرِّق بين قوِيٍّ وضعيف، وبين وَجيهٍ وحقير، وبين عالي النَّسَب ومغْمور النَّسَب، بين الذكِيّ وغير الذكيّ, هذا شيء يتنافى مع طبيعة الإيمان .
من هي أم أيمن , ومن هو ولدها ؟
هذه المُقَدِّمة قَدَّمْتُها لكم لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعْلمون في السنة السابعة قبل الهِجْرة كابد عليه الصلاة والسلام من أذى قُرَيش ما كابد, وحَمَلَ هُموم الدَّعْوة وأعْباءِها ما أحال حياته إلى سِلْسِلَةٍ مُتواصِلَة من الأحْزان والنوائِب، وفيما هو في هذه المَشَقَّة والمُكابَدَة وأشَدِّ الضِّيق أشْرَقَتْ في حياته بارقة سُرور، جاءَهُ المُبَشِّر أنَّ أُمَّ أيْمن وَضَعَتْ غُلاماً فأضاءتْ أساريرُ النبي فأشْرق وَجْهُهُ الكريم، وابْتَهَجَ قلبه الشريف, فَمَن هي أُمُّ أيْمن؟ ومن هذا الغُلام؟ ومن والد هذا الغُلام؟ هذا الذي جعلني أُقَدِّمُ هذه المُقَدِّمة, رسولٌ كريم، سيِّدٌ عظيم، من أرْقى أُسَر قُرَيش, من بني هاشِم تُصْبِحُ حياته سعيدةً لأنَّ أُمَّ أيمن التي زَوَّجَها لِزَيْد بن حارِثة غُلامه ومُتَبَناه، أنْجَبَتْ أُمُّ أيْمَن لِزَيْد بن حارِثَة غُلاماً اسمُهُ أُسامة طبْعاً أُمُّ أيْمن هي بَرَكَةُ الحَبَشِيَّة, كُنْيَتُها أُمُّ أيْمن، كانت مَمْلوكَةً وجارِيَة لآمنةَ بنت وَهْب أُمِّ رسول الله صلى الله عليه وسَلَّم، هذه بركة الحَبَشِيَّة أُمُّ أيمن رَبَّتْهُ في حياةِ أُمِّه وحَضَنَتْه بعد وفاتِها، فَحينما فتح عَيْنه على الدنيا فتحها على أُمِّ أيمن، فأحَبَّها أعْمَقَ الحُبِّ وأصْدَقَهُ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام:
((هي أمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّة أهل بيْتي))
أرَأيْتُم إلى هذا الوَفاء؟ .
تَرْوي كُتُبُ السيرة أنَّهُ أكْرَمها في مُناسَباتٍ لاحِقَة أشَدَّ الإكْرام, فمن والد هذا الغُلام؟ إنَّهُ حِبُّ رسول الله صلى اله عليه وسلم, زَيْدُ بن حارِثَة, هل هناك عُنْصُرِيَّة؟ هل هناك تَفْرِقَـة؟ هل هنـاك ما يُسَمَّى بالطَّبَقِيَّة؟ نحن الآن في القَرْن العِشْرين قــَرْنُ الديمقْراطِيَّة والتَّنْوير العِلْمي، نسْتَمِع إلى الأخبار إلى نَزَعاتٍ عِرْقِيَّة تظْهر في أوروبا الغَرْبِيَّة أعْمـال عُنْف ضِدّ كلّ إنْسان ليس من ألْمانْيـا، لا لِشَيءٍ إلا لأنه ليس من هذا العِرْق, لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يفرق بين المسلمين .
حينما تشْعُر أيها الأخ المؤمن أنَّ عندك اسْتِعْداداً, أنْ تقول: أنا غير فُلان، وأنا من بَيْتِ فُلان، أنا أهْلي أغْنِياء، أنا مُثَقَّفٌ، أنا من هذه الأُسْرة، أنا لديّ أمْوال، إذا كان لك اسْتِعْداد أنْ تنْطَلِق هذا الانْطِلاق فابْكِ على نفْسِك وعلى إيمانك، النبي عليه الصلاة والسلام سيِّدُ العُرْب والعَجَم، ومع ذلك هذه التي رَبَّتْهُ وحَضَنَتْهُ وهذه التي فَتَحَ عَيْنَيْه في الدنيا على مُحَيَّاها، هذه أُمُّهُ, قال: هي أُمِّي بعد أُمِّي، من زَوْجُها؟ هو مُتَبَناه، أنا ما أردْتُ من هذه المُقَدِّمة إلا أنْ تَشْعُر أيها المؤمن أنَّهُ ليس لك الفضْلُ على أحدٍ إلا بِالتَّقْوى .
تذْكُرون أنَّ سيّدنا عمر لما اسْتَدْعى سَيِّدَنا سَعْدُ بن أبي وقاص, وقال له: ((يا سَعْدُ, لا يَغُرَنَّك أنَّهُ قد قيل خال رسول الله, فالخَلْقُ كُلُّهم عند الله سَواسِيَة, وليس لهم عند الله قرابة إلا طاعَتُهُم))
الناسُ يتفاضَلون بالعافِيَة وينالون ما عند الله بالطاعة، لقد اِسْتَمَعْتُ قبل أيامٍّ إلى قِصَّةٍ هَزَّتْ مشاعِري أسْرةٌ فيها مجْموعة فَتيات، وبعض هؤلاء الفَتَيات على جانِبٍ من الجمال لكن هناك فتاةٌ كأنَّها أقَلُّهُنَّ شأناً وحَظاًّ، اِعْتَقَد أهْلُها أنَّ هذه أبْقَاها الله لِخِدْمَتِهم, أما أخواتها الأربع فلَهُنَّ أزْواج وبُيوت, وإذْ بِهذه الخامِسَة يأتيها زَوْجٌ كريمٌ كريم، والشُّروط المطلوبة كلها مُتَوَفِّرة بِهذا الزوج، يُكْرِمُها أعْظم تَكْريمٍ ويرفَعُ من شأنِها .
تَعْرِفون القِصَّة التي كُنْتُ أُرَدِّدُها عليكم أنَّ شخْصاً كان يأكل مع زوْجَتِه الدجاج, فَطَرَقَ سائِلٌ الباب هَمَّتْ أنْ تُعْطِيَهُ قِطْعَة من هذه الدجاجة فَنَهَرَها زَوْجُها, وقال لها: اُطْرُديه ففَعَلَتْ، بعد سَنَةٍ أو سنَتَيْن نَشَب خِلافٌ بينهما فاِنْتهى إلى الطلاق، ثمَّ جاءَها زوْجٌ آخر فَتَزَوَّجَها، وفي جَلْسَةٍ مثل الجَلْسَة المُشابِهَة للأولى كانا يأكُلان الدجاج, فَطُرِقَ الباب فَذَهَبَتْ لِتفتح الباب فاضْطَرَبَتْ, فقال زوجُها من؟ قالت: سائِل, فقال زوْجُها: لِماذا اضْطَرَبْت؟ قالتْ: إنَّهُ زَوْجي الأوَّل، فقال: أتَدْرين من أنا؟ قال: أنا السائِل الأول, تعلَّم أنْ تحْتَرِم الناس جميعــاً، وألا تكون عُنْصُريـاً، وأنْ تقيسَ الناسَ بِمِقْياسٍ واحدٍ وهو مِقْياسُ الطاعة لله، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
( سورة الحجرات الآية: 13)
فأنا دائِماً عندي قاعدة في النظر إلى الناس والتعامل معهم, هذا الإنسان أهو رَحْماني مؤمن أو عُنْصُري له تفْكيرٌ طَبَقي وعِرْقي؟ الدول المُتَحَضِّرَة لها تفْكير عِرْقي، من أجل أنه مسلم يجب أنْ يُقْتل، وهذا هو التفْكير الجاهِلي، أما المُسْلمون فهم أُناسٌ آخرون .
أُمَّ أيمن أنْجَبَتْ طِفْلاً صغيراً اسمه أُسامة لِمَمْلوكٍ سابق اسمه زيدُ بن حارِثة، وكان كُلَّما ذُكرت له, يقول:
((هي أُمِّي بعد أُمِّي وبَقِيَّةُ أهل بيْتي))
هذا الغُلام أطْلق أصْحاب رسول الله عليه الحِبُّ وابن الحِبّ، الحِبُّ هو زيد، وابن الحِبِّ هو أُسامة بن زَيد . الإسلام حطم قيد الجاهلية وأعلن بدلاً منها القيم والمبادئ :
يا أيها الأخوان، إنْ لم تضَع تحت رِجْلِك كُلَّ قِيَم الجاهِلِيَّة وأعْرافِها فلن تكون مُسلما حق الإسلام، تذكـرون أن أحد مُلــوك بني غَسَّان جَبَلَة بن الأَيْهَم، أسْلم واسْتَقْبَلَهُ عمر ورَحَّبَ به, وفي أثناء طوافِهِ حول البيت، بَدَوِيٌّ من دون أنْ يدْري ويقْصِد داسَ طرَفَ إزاره فانْخَلَع إزارُهُ فَغَضِبَ, والْتَفَتَ نحو هذا البدَوِيّ من قبيلة فزارَة وضربه على أنْفِهِ ضَرْبةً هَشَّمَتْ أنْفَهُ فَوْراً، فاشْتكى هذا البَدَوِيّ لِعُمَر بن الخطاب لما فَعَلَهُ به جَبَلَة بن الأَيْهَم، فاسْتَدْعاه سيّدنا عمر, وقال له:

((لا بدّ من إرْضاء الفَتى، ما زال ظِفْرُكَ عالِقاً بِدِمائِهِ، أوْ يُهْشَمَنَّ الآن أنْفُكَ ، وتنال ما فَعَلَتْهُ كَفُّكَ ، قال: كيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ هو سوقَة وأنا عَرْشٌ وتاج, كيف ترْضى أنْ يخِرَّ النجْمُ أرْضاً؟ فقــال عمر رضي الله عنه: نزَوَاتُ الجاهِلِيَّة دَعْكَ منها، ورِياحُ العنْجُهِيَّة، فالنَّزَواتُ قد دَفَنَّاها أقَمْنا فوقها صَرْحاً جديداً، وتساوى الناس لدَيْنا أحْراراً وعَبيداً، فقال: كانَ وهْماً ما جرى في خَلَدي، أنني عندك أقْوى وأعزّ، أنا مُرْتَدٌّ إذا أكْرَهْتَني، فقال عمر رضي الله عنه: عُنُقُ المُرْتدِّ بالسيفِ تُحَزّ، عالمٌ نبْنيهِ كلُّ صدْع فيه بِشَبى السيف يُداوى، وأعزُّ الناس بالصُّعْلوك بالعَبْد تساوى))
هذا هو الإسلام يُمْكِنُ أنْ تُعامِلَ الناس وكأنَّك واحدٌ منهم، فإن كان عندك خادِم أو أجير أو مُوَظَّف أو امرأة خادِمَة، فهذه لها مكانَتُها وشأنُها عند الله وهي أشْرفُ من ألف امرأة تؤذي الناس فَهِيَ تُطْعم أوْلادها بِعَرَقِ جبينها، يجب أنْ تشْعُر أنَّهُ لا فضْل لك على أحد إلا بالتَّقْوى, كُلُّ هذه القِيَم التي تعارف عليها الناس لا قيمة لها, فالقرآن أغْفَلَها وأهْمَلَها وسَكَتَ عنها، فالقُرآن يتبنّى قيمتين اثنتين قيمة العِلْمُ وقيمة العَمَل، قال تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
(سورة المجادلة الآية: 11)
والقيمة الثانِيَة, قوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
( سورة الأحقاف الآية: 19)
كلُّ هذه القِيَم, وسامة الطَّلْعة، وقِيَمُ الغِنى والقُوَّة، وقِيَمُ الذكاءِ كُلُّها لا قيمة لها عند الله ، فَعِند الله قيمتان: العلم والعمل, يُمْكِنُ أنْ يُقاسَ الناسُ بهما، واحْرَصْ على أنْ تُحْفَرَ في ذِهْنِك هذه الآية:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
( سورة الحجرات الآية: 13)
فإما مؤمن وإما عُنْصُري, والتفْكيرٌ الطبقي أساسه الغِنى والفقْر، والقوَّة والضَّعْف، رُبَّ أشْعَثَ أغْبر ذي طِمْرَيْن، مدْفوعٍ بالأبواب، لو أقْسَمَ على الله لأَبَرَّه .
انظر إلى رسول الله أحب زيد بن حارثة فأحب ابنه أسامة كحب الحسن والحسين :
المُسْلِمون حينما أطْلقوا على هذا الغُلام كلمة حِبّ وابن حبّ رسول الله, ما بالَغوا، فكان عليه الصلاة والسلام يُحِبُّهُ حُبًّا شديداً وتَغْبِطُهُ الدنيا كلها عليه، كانَ أُسامة يُقارِبُ في السِنِّ الحسن بن فاطِمَة الزهْراء، وكان الحَسَن أبيض أزْهر رائِع الحُسْن شديد الشَّبَهِ بِجَدِّهِ رسول الله، وكان أُسامةُ أسْوَدَ البَشَرة، أفْطَسَ الأنف، شديد الشَّبَهِ بِأُمِّه الحَبَشِيَّة, لكنَّ النبي صلوات الله عليه ما كان يُفَرِّقُ بينهما في الحُبِّ حُبُّهُ لِسِبْطِهِ الحَسَن كَحُبِّهِ لابن مُتبناهُ أًسامة، كان يأخذُ أسامة فَيَضَعُهُ على إحْدى فخذه ويأخذ الحَسَن ويضَعُهُ على فخذِهِ الأُخْرى، ثمَّ يَضُمُّهما إلى صَدْرِه, ويقول: اللهمَّ إني أُحِبُّهُما فَأَحِبَّهُما, هذا هو الإنسان الكامل .
ولقد قُلتُ منذ يَوْمَين: إنَّ الإنسان لو سار في الطريق عارِياً، فالإنْسانُ بَشِعٌ جداً وهو عاري الجسد, وهو لا يرْتَكِبُ حماقَةً, ولا يسْقُطُ عند الناس كما لو تعامل مع الناس بِمِقْياسَيْن فهناك في الحياة: ابِنْتُك، وكُنَّتَك, هل لك اسْتِعْداد أنْ تُعامِل ابنتك مثل أنْ تُعامِل زوْجة ابنك؟ لماذا إذا قالتْ لك ابنتك: أنا مريضةٌ يا أبي, تُصَدِّقُها فَوْراً، وإذا قالتْ زوْجَةُ ابنك الكلام نفسه لم تُصَدِّقْها؟ هل لك اسْتِعْدادٌ أنْ تعامل ابنك كما تعامل مُوَظَّفاً يعْملُ عندك في مَحَلٍّ تِجاري؟ إنْ حَمَلَ ابنك شيئاً ثقيلاً بادَرْتَهُ معترضاً, وإنْ حملها خادمك لم تُلْقِ بالاً, هذه هي العُنْصُرِيَّة, وهي أنْ تقيس ابنك بِمِقْياس والأجير بِمِقْياس، وابنتك بِمِقْياس وزوْجَةُ ابنك بِمِقْياسٍ, فأنت عُنْصُري، هل لك اسْتِعْداد أنْ تخدمَ والد زوْجَتِك كما تخْدُم والدك؟ .

أيها الأخوة, لا حِظوا أنفسكم فإنَّ الإنسان أحْياناً يقيسُ بِمِقْياسَيْن وهو لا يشْعُر, ذكر لي أحدهم قصة وهي واقِعِيَّة، بِيَوْمٍ واحدٍ ابنُها اشْترى غسالة حديثة لِزَوْجَتِه، وصِهْرُها اشْترى غسالة لِابِنْتِها، فالحماة بِيَوْمٍ واحدٍ عَنَّفَتْ ابنها على شِرائِهِ هذه الغسالة، وفي اليوم ذاته قالت: اللهم ارْض على فُلان صهرها رَيَّحَ لي ابْنتي، هذه هي العُنْصُرِيَّة، وهي من ضَعْف الإيمان، فإذا أراد الصانع الخُروج من العمل قبل ساعة من أجل الالْتِحاق بالمَدْرَسَة الليلية, وقُلْتَ له: لا ، كان ذلك علامة الأنانيَّة والعُنْصُرِيَّة، اِبْكِ على حالك، نحن نعيشُ هذا الكلام ونراهُ بالمُسْلمين واقعاً, ابنه يُؤمن له اثنى عشر أُسْتاذاً، وخادِمُهُ لا يسْمح له بالخُروج قبل الوقت بقليل من أجل الدِراسة, ثلاثة مئة ألف ليرة كلَّفَتْني من أجل الدروس الخاصَّة، هذا الأمر يُؤْلِمُني أنْ يصدُر من المسلمين، كان عليه الصلاة والسلام يضُمُّهُما إليه, ويقول اللهم إني أحبهما فأحبهما,

((عن أَبِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ, قَالَ: طَرَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ لا أَدْرِي مَا هُوَ, فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي, قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ, قَالَ: فَكَشَفَهُ فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ فَقَالَ: هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ, اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا))
[أخرجه الترمذي في سننه]
راقبْ نفْسَكَ حينما تُعامِلُ الناس، عامِلِ الناس كما تُحِبّ أنْ يُعامِلوك، هل عندك اسْتِعْداد إذا كنت مُوَظَّفاً وجاءَكَ رجُلٌ مُراجِع أنْ تضعَ نفْسَكَ مكانه، أم أنك تضع أمامه ألف عَقَبَة كأن تقول له: لا بد من أنْ تُصَدِّق لي على هذا التوقيع، وأنت تقْدِر أنْ تتجاوز له عن هذا، وتيسر له المعاملة، ولكن تعرقلها، إما لِإظْهار قيمتك, وإما لكي تُشْعِرَهُ أنَّك إنْسانٌ مُهِمّ وخطير؟ فالإنسان عليه أن يعامِل الناس كما يُحِبّ أنْ يُعامِلوه .
تَرْوي بعض الرِّوايات أنَّهُ بلغ من شِدَّة حُبِّ النبي عليه الصلاة والسلام لأُسامة أنَّه عثر يوماً بِعَتَبَةِ الباب فَشُجَّتْ جَبْهَتُهُ وسال الدمُ من جُرْحِهِ, فأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى عائِشة رِضْوان الله عليها أنْ تُزيل الدَّم عن جُرْحِهِ فربما أنَّها لم تسْتَجِبْ سريعاً، أو لم تَطِبْ نفْساً, لِذلك فقامَ إليه النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يُزيلُ الدَّم عن جَبْهَتِه ويُطَيِّبُ خاطِرَهُ بِكَلِماتٍ تفيضُ عُذوبِةً وحناناً .
وبِالمُناسَبَة فإياكم أنْ تنْزَلِقوا وتَظُنوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يُمَثِّلُ في هذه الأخلاق كما يفعل بعض الناس، فهذه أبعد عن أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام بُعْد الأرض عن السماء، والآن في زماننا هناك أشْخاصٌ أذْكِياء وبارعون في تمْثيل التَحَبُّب, هذا ليس حُباً ولكن مصْلَحَةً, هذا يفْعَلُهُ الناس أحْياناً, لكن النبي عليه الصلاة والسلام حُبُّهُ حقيقيّ, وصِدْقُهُ ما بعْده صِدْق, وإخْلاصه ما بعده إخْلاص .
أسامة تربى في بيت النبوة فانظر كيف تخرج ؟
أهْدى حكيم بن حزام أحد سَراة قُرَيْش لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم حُلَّةً ثمينةً شراها من اليَمَن بِخَمْسين ديناراً ذَهَبِياً فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يقبل هَدِيَّتَهُ لأنه كان يوْمئِذٍ مُشْرِكاً، أخَذَها منه بِالثَّمن، لِمَنْ اشْتراها؟ هو لا يلْبَسُها، لَبِسَها النبي مرَّةً واحدة ثمَّ خلعها على أُسامة بن زيد, فكان أُسامة يروحُ بها ويغْدو بين أتْرابِهِ من شُبان الأنْصار والمُهاجِرين، حُلَّةٌ يرْتَديها مَلِكٌ سابق اشْتراها النبي وقَدَّمَها لأُسامة بن زَيْد .
يرْوي التاريخُ أنَّ هذا الصحابيّ الجليل كان ذَكِياًّ جداً، وشُجاعاً خارِقَ الشجاعة، حكيماً يضَعُ الأمور في مواضعها، عفيفاً يأنفُ من الدنايا، آلِفاً مألوفاً يُحِبُّهُ الناس، تَقِياً وَرِعاً يُحِبُّهُ الله ، أحْياناً يكون الإنسانُ ذَكِياً ويُحِبُّهُ الناس ولكنَّ الله تعالى لا يُحِبُّهُ فهو منافق، وأحْياناً الإنسان له عِبادته واتِّصاله بالله لكن يُقَصِّر أحْياناً مع الناس، فالذي ينْبغي أن يكون أنك بِقَدْرِ ما تُحِبُّ الله بِقَدْر ما تكون مع الناس لطيفاً رحيماً وكامِلاً ومُنْصِفاً حتى يُحِبُّك الناس .
إليكم بعض الغزوات التي شارك فيها أسامة بن زيد :
في غزوة الخَنْدَق جاءَ أُسامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام لِيَنْخَرِط في هذه الغزوة، فَرَقَّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازَهُ، أما في أُحد جاءَهُ فَرَدَّهُ صلى الله عليه وسلم لِصِغَرِه، فَبَكى من شِدَّة تأثُّرِهِ، الآن أين تجد أبناء الخامسة عشرة؟ تجدهم بِالمَلْعَب، ويوْمَ حُنَيْن حينما انْهَزَم المُسلمون ثبت أسامة بن زيد مع العباس عمّ رسول الله وأبي سُفْيان بن الحارث بن عَمِّهِ وسِتَّةُ نَفَرٍ آخرين من كِرام الصحابة, فاسْتطاع النبي عليه الصلاة والسلام بِهَذه الفِئَة المسلمة الصغيرة الباسِلَة أنْ يُغَيِّر هزيمة أصْحابه إلى نصْرٍ وأنْ يَحْمِيَ المسلمين الفارِّين من أنْ يفتِكَ بِهِم المشركون .
قد يتساءل الإنسان: أُسامة بن زيد سبْعَةَ عشر عاماً يُمْكِنُ أنْ يُعَيَّن قائِداً لِجَيْش فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعَلِيّ, هذا مَوْقِفُ النبي صلى الله عليه وسلَّم, أوَّلاً: هو قُدْوَة للشباب جميعاً، كُلُّ من دخل الإسلام صار عظيماً سواء أكان شاباً أم كهْلاً أم شَيْخاً, سيِّدنا أبو أيوب الأنْصاري شارك في جَيْشٍ اتَّجَه لِفَتْحِ القُسْطنْطينِيَّة وهو في الثمانين من عُمُرِه, فهذه عَظَمَةُ الإسلام فالإسلام يصْنع الأبطال, الشيْخُ له نَفْسِيَّةُ الشاب، والشاب لهُ حِكْمَةُ الشَّيْخ .
الآن تجد شاباً مُنْدَفِعاً لكنَّهُ أحْمق ولا علم له، حركة عَشْوائِيَّة، وتجد شيخاً وقوراً كلُّه حكمة لا مُروءَة له، فإذا أردت أنْ تكون شيخاً وأنت شابٌّ فَكُنْ مُسْلماً، وإنْ أردتَ أنْ تكون شاباً وأنت شيخٌ فكنْ مُسْلماً .
في يومِ مؤتة جاهد أُسامة تحت لِواء أبيه زيد بن حارِثَة وسِنُّهُ دون الثامنة عشرة, فرأى بِعَيْنَيْه مصْرع أبيه فلم يَهِن ولم يتضَعْضَع وإنما ظلَّ يُقاتلُ تحت لِواء جعفر بن أبي طالب حتى صُرِع, وعلى مرْأى منه ومشْهد، ثمَّ تحت لِواء عبد الله بن رواحة حتى لَحِق بِصاحِبَيْه، ثمَّ تحت لِواء خالد بن الوليد حتى اسْتَنْقَذ الجيش الصغير من براش الروم، ثمَّ عاد أُسامة إلى المدينة مُحْتَسِباً أباهُ عند الله، تارِكاً جسده الطاهر على تُخوم الشام راكِباً جواده الذي اسْتُشْهِد عليه .
النصر العظيم الذي حل بالإسلام وأهله حينما قاد أسامة الجيش لغزو الروم :
المَوْقِف الحاسِم ومركز الثِّقَل في سيرة هذا الصحابيِّ الجليل أنَّهُ في السَّنَة الحادِيَة عشرة للهِجْرة أمر النبي عليه الصلاة والسلام بِتَجْهيزِ جَيْشٍ لِغَزْوِ الروم، وجعل فيه أبا بكرٍ، وعمر، وسعْد بن أبي وقاصٍّ، وأبا عُبَيْدة بن الجراح, وغيْرهم من جِلَّة الصحابة وأمَّر على الجَيْش أُسامة بن زيْد، وهو لم يتجاوز العِشْرين من عُمره، وأمره أنْ يوطئ الخيل تُخوم البلْقاء ، وقَلْعَةَ الداروم القريبة من غَزَّة بِلاد الروم، حرْبٌ هَدَفُها تحْجيمُ الأعْداء وفيما كان الجَيْشُ يتَجَهَّز مَرِضَ عليه الصلاة والسلام، لو أنَّهُ يعْلمُ الغَيْب لَتَرَك هذه المُهِمَّة لِخَليفَتِه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعْلمُ الغَيْب، ولو أنَّهُ كان يعْلم الغَيْب لما مسَّهُ السوء، وهو صلى الله عليه وسلم يخاف إنْ عصى ربَّهُ عذابَ يوْمٍ عظيم، ولا يمْلِكُ لِنَفْسِهِ نفْعاً ولا ضَرًّا, فمن باب أوْلى ألا يمْلِكَ لأصْحابه نفْعاً ولا ضَرًّا, وهذا هو مقامُ النُبُوَّة وأيُّ إنْسانٍ يدَّعي فوق ذلك فَهُوَ دَجَّال .
يقول أُسامة:
((لما اشْتَدَّ المرضُ على النبي الصلاة والسلام تَوَقَّفَ الجَيْشُ عن المَسير اِنْتِظاراً لما تُسْفِرُ عنه حال النبي عليه الصلاة والسلام، ولما ثقُلَ على نبِيِّ المرضُ أقْبَلْتُ عليه وأقْبَلَ الناسُ معي فَدَخَلْتُ عليه فَوَجَدْتُهُ قد صَمَتَ فما يتكلَّمُ من وطْأةِ الداء, فَجَعَلَ عليه الصلاة والسلام يرْفَعُ يدَهُ إلى السماء ثمَّ يضَعُها عليّ فَعَرَفْتُ أنَّهُ يدْعو لي، وما لبِثَ عليه الصلاة والسلام أنْ فارق الحياة وتَمَّتْ البَيْعَة لأبي بكْرٍ، وأوَّلُ قرارٍ اتَّخَذَهُ هذا الصحابيّ الجليل خليفة رسول الله أنَّهُ أمر بإنْفـاذ بعْث أُسامة, لكنَّ الأنْصار رأوا أنْ يُؤخَّر هذا البعْثُ وطَلَبَوا من عمر بن الخطاب أنْ يُكَلِّم أبا بكرٍ، وقالوا له: فإنْ أبى إلا المُضِيّ فأبْلِغْهُ عنا أنْ يُوَلِّي أمْرنا رَجُلاً أقْدَمَ سِناًّ من أُسامة, هذا الصِّديق اللطيف النَّاعِم الرقيق الحليم, ما إنْ سَمِعَ الصِّديق من عمر رسالة الأنصار حتى وَثَبَ وكان جالِساً، وأخذ بِلِحْيَةِ الفاروق وهَزَّها حتى كادَت تنْخَلِع، وقال مُغْضَباً: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا ابن الخطاب اِسْتَعْمَلَهُ رسول الله وتأمُرُني أنْ أنْزِعَهُ, والله لا يكون هذا أبداً، جبارٌ في الجاهِلِيَّة خَوَّارٌ في الإسلام))
بعض كُتاب السيرة المُوَفَّقين, قالوا: هذا المَوْقِف من سيِّدنا عمر ليس مَوْقِفُهُ لكن أراد هذا الصحابيُّ الجليل أنْ ينْقُلَ لِخَليفة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأْيَ الأنصار, ((ولما رجع عمر إلى الناس سألوه عما حدث، فقال: اُمْضوا، ثَكِلَتْكُم أُمُّهاتكم، فقد لقيتُ ما لقيتُ في سبيلِكم من خليفة رسول الله، ولما انْطَلَقَ الجَيْش بانْطِلاقة قائِدِهِ الشاب شَيَّعَهُ خليفة رسول الله, هذا المنظر بِتاريخ العالم ليس له نظير، خليفة المسلمين يمْشي وشابٌ لا تزيدُ عُمُرُهُ على سبعة عشر عاماً راكِبٌ الناقة، فقال أُسامة: يا خليفة رسول الله، والله لَتَرْكَبَنَّ أوْ لأنْزِلَنَّ, فقال أبو بكرٍ: والله لا تنْزِل، ووالله لا أرْكَب، وما علَيَّ أنْ أُغَبِّرَ قدَمَيَّ في سبيل الله ساعة – سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان عنده ضَيْفٌ, وهو أمير المؤمنين والسِّراج قد انْطَفَأ، فقامَ سيّدنا عمر بِنَفْسِه وأصلح السِّراج، فهذا الضَّيف وقع في حرَجٍ, فقال له:
((أنت أميرُ المؤمنين، قُل للغُلام أو أكون أنا مُصْلِحه، فقال له: أما أنت فَضَيْفٌ وَسَخافَةٌ بالمرء أنْ يسْتخدم ضَيْفه))
فهكذا النبي علَّمَهُ، ومَرَّةً كان سيِّدُنا عمر بن الخطاب مارًّا بالمسجد ورجُلٌ مُضْطَجِعٌ بِالمَسْجد ليلاً فداسَ على طَرَفَيْه, فقال له ذلك المُضطجِع: ((أَأَعْمى أنت؟‍ فقال: لا، ولما سئل عمر، قال مجيباً: سألني فأجبته))
فالبساطة وعدم التَكَلُّف والتواضع أخلاقهم-
سيِّدُنا أُسامة لما ودَّعَ سيِّدنا الصِّديق, اِسْمعوا هذا الوداع، قال له: أسْتَوْدِعُ الله دينك وأمانتك وخواتيمَ عَمَلِكَ، وأوصيكَ بِإِنْفاذ ما أمرك به رسول الله ثمَّ مال عليه, وقال: إنْ رأيْتَ أنْ تُعينني بِعُمَر فأذن له بالبقاء معي, فأذِنَ أُسامةُ لِعُمَر، هذا هو نِظامُ التَسَلْسُل، ومضى أسامةُ بالجَيْش ونفَّذَ كلَّ ما أمــره به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وأَوْطَأ خَيْلَ المُسلمين تُخوم البلْقاء، وقَلْعَةَ الداروم، ونزع هَيْبَة الروم من قُلوب المُسلمين، ومهَّد الطريق أمامهم لِفَتْحِ دِيار الشام ومِصـْر، والشمال الإفْريقي كُلِّه حتى بحْر الظلمات، ثمَّ عاد أُسامة مُمْتَطِياً صَهْوَة الجواد الذي اسْتُشْهِد عليه أبوه حامِلاً من الغنائِم ما زاد على تقْدير المُقَدِّرين)) حتى قيل: إنَّهُ ما رُئِيَ جيْشٌ أسلم وأغْنَمُ من جَيْش أُسامة بن زيد، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت نظْرته في مَحَلِّها, وظَلَّ أُسامة بن زَيْد ما امْتَدَّتْ به الحياة مَوْضِعَ إجْلال المُسْلمين وحُبِّهِم وفاءً لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم . العطاء الذي فرضه عمر لأسامة من بيت مال المسلمين :

لما فرض الفاروقُ لأسامة عطاءً، عني أن سيِّدُنا عمر أعْطاهُ عطاءً ويبْدو أنَّ عبد الله بن عمر كان عطاؤُهُ أقَلّ, فقال عبد الله لأبيه مُؤاخِذاً:

((يا أبتِ, فَرَضْتَ لأسامة أربعة آلافٍ، وفَرَضْتَ لي ثلاثة آلاف، وما كان لأبيه من الفضْل أكثر مما كان لك، وليس له من الفضْل أكثر مما هو لي، فقال له سيِّدُنا عمر: إنَّ أباهُ كان أحَبَّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبيك، وكان هو أحَبَّ إلى رسول الله منك))
وكان عمر إذا لَقِيَ أُسامة بن زيد الشاب الناشئ يقول له: ((مَرْحَباً بأميري, فإذا رأى أحداً يعْجَبُ من كلامه, يقول: لقد أمَّرَهُ علي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم))

نصيحة لك أيها المسلم :
أيها الأخوة، والله إنهم إن كانوا بشراً فنحن لسْنا من بني البشر، وإن كُنا بَشَراً فهُم فوق البشر، ولكن نقْتَدي بِهم، ونَعْتني بِشَبابِنا، لأن الشاب قيمته عظيمة، شابٌ ذهب إلى تُخوم الروم, وقاد جَيْشاً فيه كِبارُ الصحابة, والنبي عليه الصلاة والسلام وَضَع تحت قَدَمَيْه كُلّ الجاهِلِيَّة والغَطْرَسَة، فراقِب نفْسَكَ في مُعامَلَتِك للآخرين, هل عندك شيءٌ من العُنْصُرِيَّة وتحس أن لك مَيِّزات؟ وهل ينْبغي أنْ تأكُلَ وحْدَك، وأنْ تسْتَخْدِمَ الآخرين وأنْ تستثمر جُهودَهُم؟ إن كنت كذلك فهذا التفْكير يتناقض مع الإيمان، والحقيقة أن هذه الأخبار مُمْتِعَة ولكن الأمْتَعُ منها أنْ تُطَبِّقها، وأنْ تنْطَلِقَ في حياتك من هذه القِيَم, من العَدْل والتواضع والمُؤاثرة وحُبِّ الآخرين وتوْقيرُ الآخرين, وأنْ تسْتخدِمَ مِقْياساً واحِداً وهو المِقْياس الذي وضعه الله، قال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الصحابة, سيرة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 3 )
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فضائل الصحابة رضي الله عنهم السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 14 10-29-2017 09:38 AM
سلسة زوجات وابناء وبنات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 30 10-20-2017 01:04 PM
فضل الصحابة - أبو بكر الصديق رضي الله عنه منال نور الهدى ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 9 07-11-2013 07:48 AM
صور من حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 07-11-2013 07:43 AM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 08:24 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.