سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > رياض الأنبياء والرسل

رياض الأنبياء والرسل (يختص بسيرة وقصص الأنبياء والرسل عليهم السلام

الإهداءات
منال نور الهدى : السعيد هو من يحتِرم مواعيده مع الله عندما ينادي المنِادي "حي على الصلاة" منال نور الهدى : اللهم اجعله عيداً مليئًا بالأفراح والتوفيق ، اللهم اجعله عيد تحقق فيه كل الأمنيات، اللهم إنا ننتظر منك فرحة تغير مجرى أيامنا فبشرنا بها يا كريم." منال نور الهدى : "اللهم اجعل هذا العيد بدايه الجبر والعوض لقلوبنا، واجعله بداية خير وبشرنا فيه بما يسرنا،

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 07-05-2018, 04:00 PM   #21


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الواحد و العشرون )

الموضوع : الرحلة إلى الطائف - المحن قبل المنح





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
دلائل وعِبر رحلة النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف
أيها الإخوة الكرام، توقفنا في دروس فقه السيرة النبوية عند مكان سبق رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، هذه الرحلة لها دلالات كثيرة، أنا لا أعتقد مسلماً واحداً لا يعرف مجمل هذه الرحلة، ولكن درسنا متعلق بفقه السيرة، فماذا نستفيد من رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ؟
1. كل محنة وراءها منحة

أيها الإخوة، ما من محنة تصيب المؤمن مطلقاً إلا وراءها منحة، وما من شِدة يقع بالمؤمن إلا وراءها شَدة إلى الله، المحنة تنتهي بمنحة، الشِدة تنتهي بشَدة، ذلك لأن هذه الدنيا في الأصل دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، لأن الرخاء مؤقت، والشقاء مؤقت، قد جعلها الله دار بلوى.

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
( سورة المؤمنين )
ويوم توطّن نفسك على أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا تفاجَأ بالابتلاء، وفي الحديث عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قُلْتُ:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))
[الترمذي]
فكلما زاد إيمانك اشتد بلاؤك الدعوي، وهناك بلاء عقاب.
أنواع الابتلاء:
أيها الإخوة، هذا الموضوع لا بد من أن نعرج على أنوع الابتلاء
1.مصيبة ردع أو مصيبة قصم:
هذه تنزل بالكفار والمشركين والشاردين. ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
( سورة هود ).
الذي شرد عن الله عز وجل، والذي ابتعد عن الدين بُعداً كبيراً هذا إن كان فيه بقية خير يردعه الله، وإن لم يكن فيه خير يقصمه الله، لا علاقة لنا في هذا الدرس بمصائب القصم أو الردع،
2. ابتلاء دفع إلى الله:
لكن نحن إن شاء الله كمؤمنين علاقتنا بآية ثانية:
كل يوم تهديدات:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
( سورة البقرة ).
إذاً يبتلى المؤمن، ولكن هناك حقيقة، أن لك عند الله مرتبة، فإما أن تبلغها بالعمل الصالح، وإما أن تبلغها بالصبر على مصيبة، أيهما أهون ؟ إما أن تبلغها بعمل صالح تتألق به، وإما أن تصبر على مصيبة.
أنا أنصح الإخوة المؤمنين أنهم إذا شمروا لخدمة الخلق يبلغون مرتبتهم عند الله بعمل لا بصبر، وإلا فلا بد من أن يرحمنا الله عز وجل، هذه الدنيا ليست دار نعيم، لكنها دار ابتلاء، فالمؤمن مبتلى، والآية تقول:

﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

لكن المؤمن بلاءه بسبب ضعف سيره إلى الله أحياناً، فيكون الابتلاء ابتلاء دفع إلى الله.
حدثني أخ أنه في زلازل تركيا لم تتسع المساجد في الأوقات الخمسة للمصلين، ولا الصحن، حتى أوجدوا ملحقات للمساجد عقب الزلزال.
أيها الإخوة، بين أن تخاف بعقلك وأن تخاف بعينك فرق كبير جداً، فكلما ارتقى عقل الإنسان خاف بعقله، وكلما هبط عقل الإنسان خاف بعينه، فالإنسان ضعيف التفكير عند الخطر يخاف، أما العاقل فيتوقع الخطر، فيستعد لعدم بلوغه بطاعة الله عز وجل،
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
فالمؤمن مصيبته مصيبة دفع، عنده سرعة بطيئة، وتهاون، فيجعل الله عز وجل له شبح مصيبة فيغدو إلى الله.
مرة سألني أحدهم سؤالا في دعابة فأجبت عليه بإجابة لطيفة، قال لي: ما ملخص دعوتك في الأعوام الثلاثين ؟ قلت له: إما أن تأتيه مسرعاً، وإما أن يأتي بك مسرعاً، اختر واحدة، إما أن تأتيه طواعية برغبتك وبمبادرة منك، وإما أن يأتي بك مسرعاً.
لي أخ التحق بالمسجد من سنوات عدة، قال لي: قبل أن اصطلح مع الله كنت أعمل في عمل تجاري درّ علي مبالغ كبيرة جداً، والله قال لي بالحرف الواحد: وضعت في جيبي 500 ألف، وتوجهت إلى بلد بعيد كي أستمتع، ولم آخذ معي أحداً، وصل إلى هذا البلد البعيد، وهو يحلم بأن يمضي شهراً كما يحب من دون قيد، من دون ضابط، من دون رقابة، من دون محاسبة، من دون تكليف، وإذ آلام في ظهره، قال: فدخلت إلى المستشفى، وأجريت الفحوص، نتائج التشخيص سرطان في العمود الفقري، قال لي: عدت أدراجي إلى الشام أتنقل من مسجد إلى مسجد، ومن شيخ إلى شيخ، وتاب الله عليه.
فإما أن تأتيه مسرعاً، وإما أن يأتي بك مسرعاً، عند الله أساليب تدع الحليم حيران.

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
( سورة البروج ).
هناك فتاة تحب أن تتوظف في التدريس، وهي متفلتة، سافرة، لا تصلي، قدمت أوراقها الثبوتية فطولبت بشهادة صحية من مشفى المجتهد، ذهبت إلى المشفى، وأجرت فحصاً شاملاً، فكان الجواب سلّ رئوي، وهو مرض مُعدٍ، فعلم أهلها بذلك، وابتعدوا عنها، وجعلوها تقبع في غرفتها، واستخدموا لها أدوات خاصة بها، وبقيت تبكي، وتبكي، وتَبكي، وقد رأت مصيرها الأسود، ثم خطر لها أن تتوب إلى الله، وأن تصطلح معه، وأن تبدأ بالصلاة، وأن تبدأ بالحجاب، وبعد أن تابت إلى الله عز وجل ذهب أخوها إلى المستشفى ليتأكد من النتيجة، فإذا بالنتيجة ليست لها، بل لغيرها، لكن الله سبحانه وتعالى أتى بها مسرعة، فإما أن تأتيه مسرعاً، أو يأتي بك مسرعاً.
إذاً الكفار والمشركون مصائبهم مصائب ردع أو قصم، أما المؤمنون فمصائبهم مصائب دفع أو رفع.
2. مصيبة الطائف كانت مصيبة كشف
درسنا السيرة النبوية، ما نوع مصيبة الطائف للنبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال العلماء: هي مصيبة كشف، لأن النبي صلى الله عليه و سلم ينطوي على كمال لا يمكن أن يظهر إلا بهذه الطريقة.
للتقريب: عندك مركبة قوة محركها ألف حصان، هذه المركبة لا تبدو ميزاتها في الطريق السهل، ولا في الطريق النازلة، ولا في الطريق الصاعدة صعوداً بطيئاً، تبدو ميزاتها في طريق يكاد يكون حائطاً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ينطوي على كمال لا يظهر إلا بهذه المصيبة، لذلك كانت مصائب الأنبياء والمرسلين مصائب كشف، لأنها كشفت لهم عن كمالهم.
لو أن إنسانًا يحمل دكتوراه، وأخطأ المتكلم، وقال له: أستاذ، يقيم عليه الدنيا ولا يقعدها، فكيف إذا لم يرفق بأية صفة علمية !؟ فكيف إذا تهجمتَ عليه !؟ فكيف إذا نظرت إليه نظرة قاسية !؟ فكيف إذا شتمته !؟ فكيف إذا ضربته !؟ .
سيد الخلق وحبيب الحق أغرى أهل الطائفُ صبيانهم أن يضربوه، ماذا فعل ؟ الآن إذا كانت زوجة أحدهم أكبر منه بخمس سنوات يندب حظه طول حياته، يقول: غلطت !؟ وأخذتها كبيرة، سيدنا الصديق كان مما يؤثر عنه أنه ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط، والدعاء المعروف !؟ والله يحتاج الآن كل مسلم وكأنه معنا:

(( اللهم إليكَ أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس ))
[الجامع الصغير عن عبد الله بن جعفر]
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ـ مليار وأربع مئة مليون ـ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))
[أبو داود وأحمد]
النبي عليه الصلاة والسلام نصِر بالرعب مسيرة شهر، وأمته حينما تركت سنته التزمت بالرعب مسيرة عام.
(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ))
3. مصيبة للمؤمنين هي دفع أو رفع
أحدهم أصابه الله بمرض، وأنا والله لا أزكي على الله أحدا، لكنني أحسبه مستقيماً استقامة تامة، وأحسبه بذل كل ما في وسعه لتعليم النشء الجديد وهدايته، وهو ملتزم، وصالح، وزوجته محجبة، دخله حلال، أصيب بمرض، قلت له: أشد الناس بلاء الأنبياء، والنبي أشدهم بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر إيمانه.
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
( سورة الطور الآية: 48 ).
من الخطأ الكبير الشنيع أن تتوهم أن المصائب كلها من نوع واحد، هناك مصيبة قصم والعياذ بالله.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ))
[مسلم]
فالمصيبة لأهل الدنيا الشاربين، الكافرين، المشركين، مصيبة قصم أو ردع، لكن للمؤمنين هي مصيبة دفع أو رفع.
وفي الأثر: " وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ".
إذا وصلنا إلى القبر، وقد طهرنا الله من أدران الدنيا، من شهوات الدنيا، من شبهات الدنيا، فنحن في خير كبير، أخطر مرض لا أعراض له، كالسرطان، فإذا كان لمرض أعراض فهذا نعمة كبيرة، في البدايات يتحرك المريض، أما الأمراض الوبيلة التي ليس لها أعراض كقوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
( سورة الأنعام ).
4. المؤمن يرضى بكل الشدائد إذا كان الله راضىٍ عنه
من دون أعراض، موت مفاجئ، أما المؤمن فهو مبتلى، مذنب تواب، إذاً يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ))
أيْ: يا رب إن كانت هذه الشدة التي أنا فيها لا علاقة لها بمحبتك لي ورضاك عني فأنا لا أبالي.
فليتك تحلو و الحياة مـــريرة و ليتك ترضى والأنام غِضـابُ
و ليت الذي بيني و بينك عامـر و بيني وبين العالمين خــرابُ
وليت شرابي من ودادك سائـغ وشربي من ماء الـفرات سرابُ
إذا صح منك الوصل فالكل هيّن و الكل الذي فوق الـتراب تراب

هذا المؤمن يرضى بكل شيء، لكنه يقلق أشد القلق أن يغضب الله عليه.
أطع أمرنا نرفع لأجلك حــجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحـــبنا
ولذ بحمانا و احتمِ بجـنـــابنا لنحميك مما فيه أشرار خـــلقنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــل وأخلص لنا تلق المسرة و الــهنا
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكـن فما القرب والإبعاد إلا بأمـــرنا
فلو لاح من أنوارنا لك لائــح تركت جميع الكائنات لأجلـــنا
فما حبنا سهل وكل من ادعــى سهولته قلنا له:قد جهلـــــتنا

لذلك: (( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ))
إذا كان هذا الذي أصابني لا علاقة له بمحبتك، ولا برضوانك فلا أبالي.
سيدنا عمر رضي الله عن عمر له كلمة رائعة، كان إذا أصابته مصيبة قال: " الحمد لله ثلاثًا ـ كلمة رائعة جداً ـ كان إذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله ثلاثًا، الحمد لله إذ لم تكن في ديني ـ صلاتك، صيامك، غض بصرك، دخلك، إنفاقك، بيتك، زوجتك، بناتك، سهراتك، لقاءاتك، كلامك، كله وفق منهج الله ـ الحمد لله إذ لم تكن في ديني، كل شيء في الدنيا يعوَّض، بل إن أكبر مرض في الدنيا ينتهي عند الموت، وموته على الإيمان خير من الدنيا وما فيها.
جاءتني خاطرة، قبل أيام كنت في الطريق فرأيت جنازة، حدثت نفسي لو أن هذا الذي في النعش مات على الإيمان، مِمَّ استراح ؟ استراح من ارتفاع الدولار، واستراح من الضغوط، واستراح من القلق، واستراح من شبح حرب أهلية، أليس كذلك ؟ واستراح من مكر الأعداء، عددت أكثر من ثلاثين بندًا، استراح منها لو أنه مات على الإيمان طبعاً.
الموت راحة كل المؤمن

لذلك عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ:

(( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ))
[ متفق عليه ].
العبد المؤمن إذا مات استراح من عناء الدنيا، انتهى التكليف، انتهت الفتن، انتهت النساء الكاسيات العاريات، انتهى عقوق الأبناء، انتهت الزوجة السيئة، انتهى الشريك الصعب، إذا مات العبد المؤمن استراح من عناء الدنيا، دققوا الآن:
(( وإذا مات َالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشّجَرُ وَالدّوَاب ))
البلاد الجماد، والعباد البشر، والشجر النبات، والدواب الحيوانات.
الفرق بين الأنبياء و الأقوياء
لذلك أيها الإخوة، في الأرض زمرتان: أقوياء وأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء أخذوا، ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا، ولم يأخذوا، الأنبياء عاشوا للناس، والأقوياء عاش الناس لهم، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، والأنبياء يمدحون في غيبتهم، وبعد موتهم ، وبعد 1400 عام من موتهم، اذهب إلى المدينة المنورة، ملايين، من الهند، من باكستان، من الصين، من بنغلادش، من الشرق الأوسط، من المغرب، الكل يبكي أمام قبره، ما التقوا معه، ماذا أعطاهم ؟ والله هذا شيء لا يكاد يصدق، يا رب، ما هذا الإنسان ؟ يقف الإنسان أمام قبره بكل أدب، ويقول له: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت بالله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد.
نحن الآن ماذا قدمنا للإسلام ؟
النبي صلى الله عليه و سلم ذهب إلى الطائف، وكذبه أهلها، وسخروا منه، واستهزؤوا به، وقال أحدهم له: والله لو أنك صادق فيما تقول لمزقت ثياب الكعبة، ثم ضربوه، حتى سال الدم من أعضائه، ماذا قدمت أنت ؟ الرحلة بالطائرة من المدينة إلى جدة أو بالعكس تستغرق خمسا وثلاثين دقيقة، المقاعد مريحة ووثيرة، والطائرة مكيفة، مع طعام، مع ضيافة، أما النبي صلى الله عليه و سلم فقد قطعها في الهجرة في اثني عشر يوماً، ودمه مهدور، ومئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لَقَدْ أُخِفْتُ في الله، وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ مثلي ))
[ أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنهما ]
إنه بشر، ولأنه بشر وتجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ))
[ أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن أنس ].
سيدنا خالد هذا الذي فتح هذه البلاد، قال: " خضت مئة معركة، وليس في بدني موضع إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء ".
بماذا أنت مطالب اليوم ؟ بحضور مجلس علم فقط في مسجد فيه سجاد، وتدفئة، وصوت ، بماذا أنت مطالب اليوم ؟ بأداء الصلوات، بصيام رمضان، بغض بصرك، بتربية أولادك.
سيدنا ابن رواحة عينه النبي عليه الصلاة والسلام القائد الثالث في مؤتة، أول قائد كان زيد بن حارث، حمل الراية، وقاتل بها حتى قتل، جاء بعده سيدنا جعفر، أمسك الراية، وقاتل بها حتى قتل، جاء دور ابن رواحة، وكان شاعراً، أنا عددت كم يستغرق الوقت لبيتين من الشعر، قال:
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضيت وإن توليت فـــقد شقيت

تردد عشر ثوانٍ، لا بتقديم ماله، بل بتقديم نفسه، قال عليه الصلاة والسلام:
أخذ الراية أخوكم زيد، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر، فقاتل بها حتى قتل، وإني أراه يطير في الجنة بجناحين، وسكت، فلما سكت النبي صلى الله عليه و سلم قلق أصحاب رسول الله على أخيهم عبد الله، قالوا: يا رسول الله، ما فعل عبد الله ؟ قال: ثم أخذها عبد الله، فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازورارا عن صاحبيه ، هبط مقامه، لماذا ؟ لأنه تردد عشر ثوان بتقديم روحه لله.
بماذا أنتم الآن مكلفون ؟ فقط بحضور درس علم، من أجل أن تعرفوا ربكم، بماذا انتم مطالبون ؟ بخمس صلوات، كل صلاة ثلث ساعة، بماذا أنتم مطالبون ؟ ماذا قدمنا ؟

موضوع الطائف أيها الإخوة امتحن الله به سيد الخلق وحبيب الحق، فكشف هذا الامتحان كماله صلى الله عليه و سلم، قلت قبل قليل: إن واحدًا يحمل لقب دكتور، وإذا قال له أحدهم: أستاذ، لا يتحمل، تعاتبه، فكيف إذا لم يقل لك شيئًا ؟!
بالمناسبة، يمكن ما من إنسان على وجه الأرض فيما أعتقد يحب إنساناً كحب الصدِّيق لرسول الله صلى الله عليه و سلم، لكن العجب لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام، ما قال: رسول الله، وما قال: نبي الله، كان يقول: يا حبيبي يا رسول الله، قال:
(( أَمَّا بَعْدُ ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... إِلَى الشَّاكِرِينَ ))
[متفق عليه]
ليرسخ التوحيد، العبادة لله وحده، من كان يعبد محمداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام ضُرب، وكُذب، واستهزأ به، وأعلن أن يا رب، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، وإن كان بك عليّ غضب يا رب فإني أستسمحك عذراً، فاغفر لي يا رب، يا ترى أنت لك مناجاة مع الله ؟ تخاطبه، جلست صباحاً بعد الصلاة، قبل أن تنام، تستغفره، تعلن عن محبتك له، في الصلاة يقول لك الإمام: سمع الله لمن حمده، يعني أنا يا عبدي استمع إليك، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، وإن كان في غضب لك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، أنا ما رأيت دعاء بليغًا جامعًا مانعًا شاملا عميقًا كهذا الدعاء، ما هذا الموقف، يا رب، هذه المصيبة إن عبرت عن غضبك فأنا أقلق لها أشد الغضب، ولك العتبى حتى ترضى، وإن لم يكن لها علاقة برضاك عني ومحبتك لي فلا أبالي، أنا أتحملها، لكن الأدب، لكن عافيتك أوسع لي أريد لي، لا تسأل الله الابتلاء، قد لا تحتمل، قل: لكن عافيتك أوسع لي، تأدب مع الله، نحن في محنة كهذه المحنة.
الحزن خلاق
إخوانا الكرام، الحزن خلاق، الحزن يجعل للإنسان يتألق، أنا رأيت ماسة في استنبول بمتحف مشهور جداً اسمه ( توبي كبي )، بلغوني أن ثمن الماسة 150 مليون دولار، والماس فحم، لو أتينا بفحمة سوداء بحجم هذه الماسة كم ثمنها ؟ ولا ليرة، كيف تحول الفحم إلى ماس ؟ من شدة الضغط، ومن شدة الحرارة.
معنى ذلك لما يبتلي الله المؤمن، ويخوفه، يفقره أحياناً، يخوفه من عدو ، ويلجأ إلى الله، ويراجع نفسه، ويتوب، ويناجي ربه يتألق، لأن المصائب محك الرجال، والحزن خلاق، الحزانى في كنف الله، الحزانى معرضون للرحمة.

(( إن الله تعالى يحب كل قلب حزين ))
[ أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء ]

ادخل إلى مسجد تجد عددًا كبيرًا من الناس، أنا والله لا أبالغ، لكن بحسب رغبتي 90% من الحاضرين تألقوا مع الله بسبب شدة أصابتهم سابقاً.
أعرف رجلا بعيدًا عن الدين بُعد الأرض عن السماء، يحمل شهادة عليا بفرع نادر، وجميل الصورة، ومتفلت في مزاحه، وفي لسانه، وفي عقيدته، يستهزأ، تزوج فتاة تروق له، فأنجبت له بنتاً صغيرة، كاد عقله يذهب بحبها، فإذا هي تصاب بمرض عضال في دمها، أنا أعرفه شارداً، أعرفه غارقاً في المعاصي والآثام، أعرفه بعيداً عن الدين، فجأة وجدته في حال لا يصدق من الإنابة والتوبة والخشوع، سألته: ما الذي حصل ؟ قال: هذه البنت الصغيرة أصابها مرض عضال، لم أبقِ طبيباً إلا وعرضتها عليه، ثم باع بيته، وذهب بها إلى بريطانيا، ولم تشفَ من مرضها، بعد هذه المحاولات اليائسة ألهم أن إذا تبت إلى الله أنا وزوجتي لعل الله يشفيها، بدأ يصلي، وحجب زوجته، والتزم في مسجدي، ثم شفاها الله، وبعد حين دُعيت إلى عقد قران من قِبله لابنته، وألقيت كلمة، ولما انتهت الكلمة سألته: هيَ هي ؟! قال: هيَ هي، والله بكيت، قلت: يا رب، هذا المرض الخبيث جاء كضيف فهدى الأب والأم، وانصرف بسلام، هذا فعل الله عز وجل. ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
( سورة السجدة ).
لكن البطولة أن تأتيه طائعاً، أن تأتيه مسرعاً، قبل أن يأتي بك مسرعاً، هذه بطولة كبيرة، وأنت معافى صحيح، ليس عندك مشكلة، آمن في بيتك، عندك زوجة وأولاد، وعندك عمل، وتصلي، وتدعو، وتناجي.
(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو أن يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله ))
الإسراء والمعراج مكافأة لمحنة الطائف:
أيها الإخوة، محنة الطائف أوصلت النبي الكريم إلى الإسراء والمعراج.
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
( سورة الإسراء ).
لو أنك تتغتع في حفظ القرآن تقول: إنه على كل شيء قدير،
﴿ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
يعني يا محمد سمعتك في الطائف، وهذه المكافأة، أنت سيد الخلق، وحبيب الحق، الإسراء والمعراج هي المنحة بعد المحنة، الإسراء والمعراج هي الشَدة إليه بعد الشِدة ، فاطمئن، ما من محنة تبتلى بها كمؤمن إلا وراءها منحة من الله، ما من شِدة تقع بك إلا وراءها شَدة إلى الله.
الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مقصودة لذاتها
أيها الإخوة، الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مقصودة لذاتها، ليقف النبي منها الموقف الكامل، ضُرب، وهذا شيء لا يصدقه العقل، وهو سيد الخلق، من أجل ماذا، إذا دعا إنسان إلى الله في بلد صعب، وحقِّق معه، وتلقى بعض الكدمات فإن له برسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة، له بالنبي عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة، إذا اتهمت امرأة في أعلى درجة من الشرف والطهر والعفاف في عفافها فلها بالسيدة عائشة أسوة حسنة، إذا كان لأب بار بأبنائه ابن عاق فله بسيدنا نوح أسوة حسنة، إذا كان لإنسان زوجة سيئة فله بسيدنا لوط أسوة حسنة، إذا كان لإنسان أب سيئ جداً فسيدنا إبراهيم أسوة حسنة، إذا كان الإنسان عقيمًا فمَن أسوته الحسنة ؟ سيدنا زكريا، إذا كان الإنسان مريضًا فأسوته سيدنا أيوب، هؤلاء قمم البشر، وكل نبي يغطي مشكلة في المجتمع، حتى تحب الله وأنت في هذه المشكلة.
ماذا أثر عن سيدنا عمر ؟ كان إذا أصابته مصيبة قال: " الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصب عليها ".
أحيانا يقع حادث سير، لكن ليس ثمة جروح، الضرر في المركبة فقط، وتصليحها سهل، وقد تكلِّف مالاً، أما لو قطعت إصبع فشيء صعب، فكل لمصيبة مصيبة أكبر منها، وأكبر المصائب أن تكون المصيبة في الدين، كشارب خمر، أو زان، أو مَن ينكر ما علم بالدين للضرورة، هذه مصيبة، بنت منحرفة، هذه مصيبة، ابن عاق، هذه مصيبة، دخل حرام، هذه مصيبة، ألِف المعصية والإثم، هذه مصيبة، " الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها ".
أيها الإخوة، محنة الطائف كانت سبب الإسراء والمعراج، وفي الإسراء والمعراج أعلم الله نبيه أنه سيد الخلق، وسيد الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول:

(( سَلُوا اللّه لِي الوَسِيلَةَ، فإنها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ اللّه، وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا ))
[ رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ].
هذا هو المقام المحمود، ولا يكون إلا لواحد من الخلق، (( وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا ))
كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( سَلُوا اللّه لِي الوَسِيلَةَ، فإنها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ اللّه، وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا ))
وفي درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى فقرات السيرة النبوية العطرة.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:04 PM   #22


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثانى و العشرون )

الموضوع : الإسراء والمعراج - المعجزة خرق لنواميس الكون







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإسراء والمعراج:
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ومع موضوع الإسراء والمعراج، ولقد بينت لكم في درس سابق أن كل محنة تصيب المؤمن وراءها منحة من الله عز وجل، وأن كل شِدّة تقع بالمؤمن وراءها شَدّة إلى الله عز وجل، فالشر المطلق في الكون لا وجود له، بل إن وجود الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، لكن هناك شر نسبي موظف للخير المطلق. ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
( سورة السجدة الآية: 21 ).

أيها الإخوة، ذهاب النبي إلى الطائف، وتكذيب أهل الطائف، وسخرية أهل الطائف، وإيذاء أهل الطائف كلها محنة جاء وراءها هذه المنحة، أن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق جميعاً، وسيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والمرسلين، وجاءت هذه المنحة فضلاً عن أنها جاءت بعد الطائف جاءت بعد موت زوجته الحبيبة خديجة، وكانت هذه الزوجة هي الزوجة المثالية التي أثنى الله عليها في نصوص كثيرة، وكانت هذه الزوجة أكبر سند لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الداخل، وحينما فتح النبي مكة المكرمة قال: انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة، ليعلم العالم كله أن هذه المرأة التي في القبر هي شريكته في النصر، وهذا يؤكد أن المرأة في الإسلام مكرمة أعظم التكريم، مشرفة أعظم التشريف، ومسؤولة أعظم المسؤولية.
الإسراء أيها الإخوة معجزة، والدليل:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾
( سورة الإسراء الآية: 1 ).
فكلمة ] سُبْحَانَ [ في مطلع الآية تعني أن هذه الحادثة ليست وفق قوانين الأرض ، في الأرض هناك مكان، وزمان، ومسافات، وسرعات، وإمكانات. ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
( سورة القمر ).
لكن إذا قال الله عز وجل: ﴿ سُبْحَانَ ﴾
أي هذه الحادثة ليست وفق قوانين الأرض، بل هي وفق القدرة المطلقة لله عز وجل.
علاقة السبب بالنتيجة:

أيها الإخوة، هذا ينقلنا إلى أن ربنا جل جلاله جعل لكل نتيجة سببًا، بل جعل الكون وفق نظام السببية، ونظام السببية يعني أن الأسباب تأتي قبل النتائج، وعقل الإنسان لا يفهم شيئاً من دون سبب، ولكن لئلا يتوهم الإنسان أن السبب خالق النتيجة فأحياناً تعطَّل الأسباب، وأحياناً تُلغى.
سيدنا آدم جاء من دون أب ولا أم، ألغي سبب الولادة، وأحياناً يعطل السبب، فيلغى، فيأتي آدم عليه السلام من دون أب ولا أم، وأحياناً يلغى، تجد شاباً وشابة متزوجين ولا ينجبان، حينما تخرق هذه القواعد، وتلك القوانين لكي يعلم الإنسان أن السبب لا يخلق النتيجة، ولكن السبب يأتي قبل النتيجة، لكن الذي يخلق النتيجة هو الله جل جلاله، وهذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
لذلك أيها الإخوة، الغرب ألّه السبب، وعبده من دون الله، فوقع في الشرك ، والشرق لم يأخذ بالأسباب، فعصى، وكلاهما على خطأ، والصواب أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، هذه بطولة، الحالات المتطرفة سهلة، أن تكون قاسياً سهل جداً، وأن تكون ليناً أسهل، لكن البطولة أن تجمع بين القسوة واللين، فهذا الذي أمامك يحار، يحبك ويخاف منك، المواقف المتوازنة صعب جداً.
لذلك أن تأخذ بالسباب، وتعتمد عليها اعتماداً كلياً شيء سهل، وهذا تفوق فيه الغرب، وألا تأخذ بالأسباب هذا أيضاً شيء سهل، وهذا تواكل، لكن أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وأن تتكل على الله، وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف الكامل للمؤمن، يدرس ويفتقر في دعائه إلى الله، يراجع مركبته قبل أن يسافر، ويقول: يا رب، أنت الحافظ، يأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ويتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء.
المعجزات:
أيها الإخوة، الآن هناك سؤال: لماذا كانت المعجزات ؟ لأن الله سبحانه وتعالى كل هذا الكون يشهد بكماله، وحكمته، ورحمته، وقدرته، وعلمه، ورأفته، وكمال الخلق يدل على كمال التصرف، لا بد من أن برسل أنبياء ورسلاً لخلقه، والأنبياء معهم منهج الله، هناك أشياء مسموح أن تفعلها، وهناك أشياء ممنوع أن تفعلها، لذلك مع النبي منهج، وهذا المنهج يحد من حرية الإنسان، فردُّ الفعل الطبيعي التكذيب: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾
( سورة الرعد الآية: 43 ).
فلابد من أن يشهد الله بأنبيائه ورسله أن هؤلاء هم رسل الله عز وجل، من هنا كانت المعجزة، فالإسراء والمعراج أمرٌ غير مألوف عادة، ولكنه مقبول عقلاً، لأن: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
( سورة الحشر ).

﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾
( سورة النحل ).
لكن بحسب قوانين الأرض هو غير مألوف، غير مألوف أن ينطلق النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم يعرج إلى السماء، ويعود، ولا يزال فراشه ساخناً، هذا غير مألوف، لذلك قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
لذلك إذا اعتمد الإنسان على عقله فقط، ولم يعتمد على وحي السماء فقد لا يصدق المعجزات، لكن يجب أن نعلم جميعاً أن هذا العقل الذي أودعه الله في الإنسان هو كهذه العين تماماً، لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين المرئي، وكذلك العقل لا قيمة له من دون وحي يستنير به، فحاجة العين إلى الضوء كحاجة العقل إلى الوحي، أو حاجة العقل إلى الوحي كحاجة العين إلى الضوء.
إذاً المعجزات مهمتها أن تعتقد أن النتيجة لا يخلقها السبب، ولكن السبب يرافق النتيجة، والذي يخلق النتائج هو الله، لذلك قال علماء العقيدة: عندها لا بها، يعني عند إرادة الله أن يفعل هذا الدواء فعله، لا أن الدواء وحده يفعل فعله.
الإسراء والمعراج تسلية للنبي :
شيء آخر، لماذا عانى النبي e ما عان قبل الإسراء والمعراج ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قدوة لنا، قدوة في السراء وفي الضراء، قدوة في تصديق الناس، وفي تكذيبهم، هم كذبوه، ثم صدقوه، كان فقيراً، وكان غنياً، أصابه المرض، عانى من بعض زوجاته، مات بعض أبنائه، لولا أن النبي e بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر.
أيها الإخوة، وقعت حادثة الإسراء والمعراج بعد هذه الغمر من المآسي والأحزان، والحزن خلاّق، والحزن يصنع الرجال، وهؤلاء الذين ربوا في النعيم، وألفوا النعيم، هؤلاء لا يملكون مقاومة للشدائد إطلاقاً، وإن ملكوا مقاومة فمقاومتهم هشة، لا تصمد لا أمام ضغوط الحياة، ولا أمام إغراءاتها، لكن الله سبحانه وتعالى يربي عباده المؤمنين، فالسراء ضروري، والضراء ضروري، والله عز وجل يذيقنا من رحمته، ويمتحننا أحياناً، فلذلك بعد هذه الغمرة من المآسي والأحزان والشدائد المتلاحقة كان ذلك تسلية لنفس النبي ، ومواساة له، وتكريماً، وتشريفاً، تماماً أيها الإخوة كيف أن الإنسان يمشي في الصحراء، والصحراء حارة، والسير فيها شاق، لكن بعد حين يصل إلى واحة، والواحة ظل نخلة، وغدير ماء، فيستريح، ومن سياسة الله جل جلاله مع عباده المؤمنين أنه تأتيهم بعد الشدائد واحات يستريحون فيها.
أحيانا يتجلى الله عز وجل عليك بالسرور، يكون فيك تعب سابق، وهموم، وضغوط، وامتحانات، وابتلاءات، لأن الله رب العالمين، وهو الحكيم، وهو الذي يحب عباده، فيريحهم أحياناً، هذه واحات في طريق الصحراء.
الإسراء والمعراج ثابتان بالكتاب والسنة:
أيها الإخوة، إن الإسراء والمعراج حادثتان متلازمتان ومترادفتان، وهما ثابتان في نص القرآن الكريم، الإسراء والمعراج، الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، والمعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى، وقد وردت هاتان الحادثتان فضلاً عن أنها وردت في بعض آيات القرآن الكريم، وردت أيضاً في السنة النبوية الصحيحة، في صحيح البخاري، فلقد نص الكتاب العزيز على أن معجزة الإسراء قد تمت ليلاً حين تم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف بأرض فلسطين، والآية التي تلوتها عليكم مرات عديدة:

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
أما المعراج فهو انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا، وتجواله في ملكوت الله تعالى.
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
( سورة النجم ).
أكبر كلمة تدل على الله آياتُه، وآيات الله عز وجل قد تكون كونية، وهي خَلقه، وقد تكون قرآنية، وهي كلامه، وقد تكون تكوينية، وهي أفعاله، إذاً المعراج انتقال النبي صلى الله عليه وسلم وتجواله في السماوات وفي ملكوت الله تعالى في رحلة تجاوز حدود التصور المادي، وتصل إلى حدود الإعجاز الإلهي.
الفرق بين المعجزة والإعجاز:
سألني أخ كريم: هل هناك فرق بين الإعجاز العلمي وبين المعجزة ؟ الفرق كبير جداً.
المعجزة أيها الإخوة خرق لنواميس الكون، أنت إنسان، وانتقالك من مكان إلى يكون مكان بحسب سرعتك، والسرعة القصوى التي صنعها الإنسان الطائرة، ألف كيلومتر في الساعة، والمركبة الأرضية مئة كيلومتر في الساعة، مركبات الفضاء 60 ألف كيلومتر في الساعة، هذه السرعة القصوى.
ضربت مثلا: أقرب نجم ملتهب إلى الأرض بُعْده عنا أربع سنوات ضوئية، كم يبعد ؟ الضوء يقطع في الثانية 300 ألف كم، في الدقيقة ضرب 60 = " 18000000 "، في الساعة ضرب 60 = ” 1080000000 "، في اليوم ضرب 24 = "25920000000"، في السنة ضرب 365 = " 9460800000000"، في الأربع سنوات ضرب أربعة = "37843200000000 "، هذا هو الرقم، وهذه المسافة التي يبعد عنا فيها نجم يعدّ أقرب نجم إلى الأرض، لو أردنا أن نقطعها بمركبة أرضية لاحتجنا إلى خمسين مليون عام، لقطع مسافة تعدّ أقصر مسافة على الإطلاق بين الأرض وأقرب نجم ملتهب، عدا الشمس طبعاً، لكن هناك الآن نجوم تبعد عنا 20 مليار سنة ضوئية، لذلك قال تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
( سورة الواقعة ).
إذاً: تصل إلى حدود الإعجاز الإلهي، المعجزة خرق لنواميس الكون، العصا تصبح ثعباناً مبيناً، الميت يحيه سيدنا عيسى، الجبل ينشق عن ناقة، سيدنا إبراهيم يوضع في نار مشتعلة فلا يحترق، فالمعجزة خرق لنواميس الكون، أو تعطيل لنواميس الكون، أو إلغاء لنواميس الكون، والإسراء معجزة، وأنت لا تستطيع أن تصل إلى أمريكة بالطائرة إلا بعد 17 ساعة، أما أن تنتقل في ثانية واحدة فهذا خرق لقوانين الكون، لذلك الإسراء معجزة، أما الإعجاز العلمي فموضوع آخر.
إذا كان هناك إشارة في القرآن إلى قضية علمية لم تكن معروفة وقت نزول الوحي، إشارة إلى ظاهرة علمية، نحن في الأرض في مكان فيه ضوء، وفي مكان فيه أشعة شمس، ذلك أن أشعة الشمس حينما تنعكس على ذرات الهواء، تعكسها ذرات الهواء على ذرات أخرى، الذرات الأخرى التي انعكست عليها أشعة الشمس تضيء، وعندنا في الأرض مكان فيه ضوء، ومكان فيه أشعة شمس الشمس ، هذا واضح، هذه الظاهرة سماها العلماء انتشار الضوء، لكن لو انطلقنا إلى الفضاء الخارجي بعد أن تنتهي طبقة الهواء، وطبقة الهواء تزيد سماكتها عن 65 ألف كيلومتر، وهناك مركبات الفضاء إذا صعدنا إلى الفضاء الخارجي بعد أن نجتاز طبقة الهواء نجد ظلاماً دامساً، لا نرى شيئاً في سماء.
انطلق رائد فضائي بمركبته من الأرض، وصعد في أجواء الفضاء، بعد وقت من الزمن صاح عبر اللاسلكي أنني أصبحت أعمى لا أرى شيئاً، قال بالحرف الواحد: لقد أصبحنا عمياً، وكان بمركز المركبة الفضائية، وهو المكان التي انطلقت منه المركبة الفضائية عالم من علماء الفلك الكبار عربي مصري مسلم، سمع هذا العالم بأذنه رائد الفضاء يقول: لقد أصبحنا عمياً، إذاً بعد طبقة الهواء هناك ظلام دامس، افتح القرآن: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾
( سورة الحجر ).
هذه آية في الإعجاز العلمي، وهي إشارة لشيء لم يكن على عهد النبي e، ولم تكن معروفة عند النبي e، وبعد 1300 عام تقريباً اتفق أن الفضاء الخارجي الأصل فيه الظلمة القاتلة، هذا هو الإعجاز.
لذلك الإسراء والمعراج معجزة، لكن هناك آيات تسمّى في علم العقيدة آيات الإعجاز العلمي، هذا واضح، وأما المعراج فهو انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وتجواله في ملكوت الله تعالى في رحلة تتجاوز حدود التصور المادي، وتصل إلى حدود الإعجاز الإلهي لتصل به إلى سدرة المنتهى، وليطلع بحواسه ودون شك على آيات الله الكبرى، وأعلى مكان وصل إليه إنسان هو سدرة المنتهى، هذا المكان بلوغه تكريم، وأيّ تكريم، واحتفاء بالنبي عليه أتم الصلاة والتسليم، وأيّ احتفاء، هذا المكان يبين للنبي أنه سيد الأنبياء والمرسلين، وأنه سيد ولد آدم ولا فخر، وأن الله سبحانه وتعالى وعده بمقام محمود ، وهذا المقام المحمود لا يتاح إلا لواحد من خلقه، ويرجو النبي عليه الصلاة والسلام كما يقول في بعض الأحاديث:
(( وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا ))
[ رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ].
أيها الإخوة، لكن الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى قال عن المعراج: ﴿ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
( سورة النجم ).

لذلك سيدنا الصديق رضي الله عنه كان يمشي في الطريق، فرأى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واسمه حنظلة، رآه يبكي، قال: يا حنظلة، ما لك تبكي ؟ قال: نافق حنظلة، قال: ولمَ يا أخي ؟ قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى، وهذه شكوى يشكو منها معظم المؤمنين، يقول لك: أنا في البدايات كان لي أحوال لا توصف، بعد حين ضعفت هذه الأحوال، سيدنا الصديق في أعلى درجات الأدب والتواضع قال له: أنا كذلك يا أخي، انطلق بنا إلى رسول الله، فانطلاقا إليه، وحدثاه بالمشكلة، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))
[ رواه أحمد في مسنده والترمذي عن حنظلة الأسيدي].
(( إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا ))
[ رواه ابن سعد عن عطاء مرسلا ].
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام بلغ سدرة المنتهى، معنى ذلك أن مقام النبي هذا يدل على أن صاحبه لا ينقطع عن الله إطلاقاً، فهو في صلة دائمة بالله.
معنى شق صدر النبي :
أيها الإخوة، ورد أيضاً أنه في هذه الرحلة العجيبة أنه تمّ شق صدر النبي e مرة ثانية، ولكن لعلّي وقفت في درس سابق عند شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وأحب أن أؤكد لكم أننا إذا فهمنا شق الصدر على أن الله سبحانه وتعالى شق صدره، وأخرج منه علقة سوداء هي حظ الشيطان منه، وأنه بهذا صار سيد الأنبياء والمرسلين، هذا كلام ليس مقبولاً إطلاقاً، لأن هذه الحادثة تشير إلى إرهاص للنبوة في وقت مبكر، أيْ إشارة إلى النبوة في وقت مبكر، ولا تعني كما يتوهم بعضهم أن هذا حظ الشيطان نزع من صدر سيد الأنام، وبقي في صدر الخلائق، فلو أن هذا الحظ من الشيطان نزع من كل منا لكنا أنبياء ومرسلين، هذا كلام مرفوض، بل هو إرهاص من إرهاصات النبوة، وإشارة مبكرة، لأن الشر ليس شيئاً مادياً، ولو أن نزع هذه العلقة يلغي الشر في الأرض لكان هذا لكل الناس، لأن الله يحب كل عباده، فلا تقف كل هذه الاستنباطات التي ما أرادها الله عز وجل على قدميها، هذا إذا أردت أن ترمز للشر بعلقة سوداء، وأن ترمز للخير بشيء آخر.
وبعد الانتهاء من شق الصدر، وغسله أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وهو راكب ظهر البراق، والبراق ورد في صحيح البخاري، فقد ذكر انس قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ))
[مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
أيها الإخوة، هذه معجزة، أنْ تركب كائناً ليس مألوفاً عند البشر في وقت معلوم، تصل به إلى بيت المقدس، وفي بيت المقدس صلى النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأنبياء، ووصف هيأتهم، ثم عرج به إلى السماء السابعة ماراً بما قبلها من السماوات، حيث التقى بالأنبياء آدم ويوسف وإدريس وعيسى ويحيى وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، طبعاً نبينا سيد الأنبياء والمرسلين قاطبة، لذلك هيأه الله للمقام المحمود، هذه نقطة تؤكد لنا أن الله سبحانه وتعالى اختص هذه الأمة بهذا النبي الكريم الذي هو سيد الأنبياء والمرسلين، وصلاته بالأنبياء تعني أنه إمامهم، وتعني أن كل الأنبياء والمرسلين يقتبسون من نوره صلى الله عليه وسلم، لذلك هو رحمة للعالمين.
دوائر الدين: حسية وعقلية وإخبارية:
بالمناسبة أيها الإخوة، نحن إيماننا باليوم الآخر إيمان تصديقي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، نحن أمام نصوص في القرآن الكريم تشف عن حقيقة الدار الآخرة، وتصف نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، فنحن إيماننا بنعيم أهل الجنة، وبعذاب أهل النار إيمان تصديقي، أي صدقنا الخبر عن الله عز وجل.
وكما تعلمون أيها الإخوة، قضايا الدين يمكن أن توضع في حلقات ثلاث:
أول حلقة: الحلقة الحسية، أنا حينما أرى أشياء كثيرة ليست طاهرة في هذا الماء، لا أشربه، لأنني رأيت هذه الأشياء غير طاهرة في عيني، هذه قضية حسية، أو سمعت صوت امرأة في أذني، فلم أسمح لها بدخول البيت، لأن البيت الذي أنا فيه ليس معي أحد من محارمي، مثلاً، أسمع الصوت بأذني، وأرى الشيء بعيني، وألمس الثوب بيدي عند شراءه، هذه الدائرة الحسية أداة اليقين بها الحواس الخمس.
ولكن هناك دائرة عقلية أداة اليقين بها العقل، أنا حينما أرى آثار أقدام أقول: هذه الأقدام تدل على المسير، وحينما أرى جدول ماء أقول: هذا الماء يدل على الغدير، هذه الدائرة الثانية، الدائرة العقلية، وهي شيء غابت عينه، وبقيت آثاره، أداة اليقين فيها العقل ، والإنسان بعقله يمكن أن يصل إلى الله، لا أن يحيط به، يؤمن بالله واحداً، وموجوداً وكاملاً، بعقله، ويؤمن أن القرآن الكريم كلام الله، لأن فيه آيات الإعجاز، وبعقله يدرك أن الذي جاء بكتاب الله عز وجل هو رسول الله.
لكن عندنا دائرة ثالثة، هنا الشاهد، هذه دائرة الإخباريات، ليس فيها شيء غابت عينه، وبقيت آثاره، ولا فيها شيء ظهرت عينه وآثاره.
الدائرة الثالثة تتحدث عن شيء غابت عينه، وغابت آثاره، ليس له أيّ دليل، لكن الله أخبر به، فالدليل الوحيد الخبر الصادق، هو الدليل الوحيد على قضايا الدين الكثيرة، فموضوع اليوم الآخر إخباري، وموضوع الجن إخباري، وموضوع الملائكة إخباري ، وموضوع الحوض يوم القيامة إخباري، وموضوع الجنة إخباري، وموضوع النار إخباري وموضوع قصة خلق العالم من آدم وحواء إخباري، هناك آلاف الموضوعات الإخبارية ليس لها أي دليل مادي إطلاقاً.
لذلك بالمناسبة، أنصح الإخوة الدعاة، وأيّ مؤمن ألا يطرح موضوعاً إخبارياً أمام إنسان لا يزال أصل الدين مهتزاً عنده، يلهيك، تقول له: الملائكة، يقول لك: أين الملائكة ؟ تقول له: الجن، يقول لك: أثبت أن هناك جناً، تقول له: الجنة، يقول لك: من دخلها، ثم عاد وأخبرنا ؟ تقول له: البشرية بدأت بآدم وحواء، يقول: لا، يقول داروين: بدأت بالقرد، مثلاً، فلذلك القضايا الثالثة القضايا الإخبارية هذه لا يمكن أن تثبتها بدليل، إلا دليل واحد أن الله أخبر بها.
إذاً كل قضايا اليوم الآخر إخباريات، أليس كذلك ؟ إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم وحده من بين الخلائق، رآها في المعراج، رأى أهل الجنة يتنعمون، ورأى أهل النار يتصايحون، رأى كل شيء،
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا ﴾
﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
منزلة الصلاة في الإسلام:
لذلك قال كتاب السيرة: لقد رأى خلال هذه الرحلة السماوية الفريدة الجنة ونعيمها، ووصف أنهارها، وبخاصة الكوثر، كما رأى النار ومن يعذب فيها، وسمع صرير أقلام الملائكة الكاتبين، ورأى البيت المعمور في السماء السابعة، وما يدخله من الملائكة، كما وصف سدرة المنتهى، كما وصف جبريل عليه السلام، الذي قدم له خمراً ولبناً، فاختار e اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة، وفرضت على أمته في المعراج خمسون صلاة في اليوم والليلة، ثم خفضت إلى خمس صلوات، ففريضة الصلاة هي الفريضة التي لا تسقط بحال، بل هي الفريضة التي تتكرر فرضت في المعراج، لأن:
(( الصلاة عماد الدين، مَن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين ))
[الجامع الصغير عن ابن عمر بسند ضعيف]
ولا خير في دين لا صلاة فيه، والصلاة طهور، تطهر النفس من الأدران، والصلاة حبور، أي سرور، والصلاة معراج المؤمن، فهي طهور، وحبور، وسرور، ومعراج، والصلاة عقل.
(( ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منها ))
[ ورد في الأثر ].
والصلاة ذكر، والصلاة قرب. ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
( سورة طه ).
﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾
( سورة العلق ).
والصلاة ذكر لله عز وجل. ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
( سورة العنكبوت الآية: 45 ).
قالوا: ذكر الله أكبر ما فيها، وقال بعض العلماء: ذكر الله لك في الصلاة أكبر مِن ذكْرك له، لأنك تذكره تعبّداً، لكنه يذكرك تفضلاً، لذلك الفريضة الأولى أداة اتصال المخلوق الضعيف الطارئ الجاهل مع أصل الوجود، وخالق الوجود هي الصلاة، لذلك أيها الإخوة إن صحت الصلاة صح الدين، وإن لم تصح لم يصح الدين، وأول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة صلاته، فإن صحت فاز وربح، وإن لم تصح خاب وخسر.
بالمناسبة أيها الإخوة، في الأثر:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلمة نورا، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها، ولا يتغير حالها ))
[ رواه الديلمي عن حارثة بن وهب ].
يبدو أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن أخطر فريضة في هذا الدين هي الصلاة، لذلك فرضت والنبي صلى الله عليه وسلم في سدرة المنتهى، فرضت مباشرة من قبل الذات الإلهية.
أيها الإخوة الكرام، الحديث عن الصلاة حديث يطول:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
( سورة المعارج ).
في أصل خَلقه. ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
( سورة المعارج ).
نحن الآن في هذه المحن التي تحيط بنا في أمسّ الحاجة إلى إحكام الاتصال بالله عز وجل، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة:
(( أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلاَلُ ))
[أخرجه أبو داود ]

الصلاة طهور، الصلاة نور، ترى بها الحق حقاً والباطل باطلاً، الصلاة حبور، وسعادة كبيرة، الصلاة عقل، الصلاة عروج، الصلاة ذكر، الصلاة قرب، الصلاة بعد عن الفحشاء والمنكر.
إخواننا الكرام، مستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن تتصل برب الكائنات، وأن تكون في الظلمات، بل الآية الدقيقة جداً:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 159 ).
أيْ من خلال اتصالك بنا طهُر هذا القلب، وصار رحيماً، الصلاة تطهر، وتزكي، تخلّي وتحلّي، تزيل وتوجب: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 159 ).
معنى ذلك أنك إما أن تتصل بالله فيغدو القلب رحيماً، وتنعكس الرحمة ليناً، فيلتف الناس حولك، أما المنقطع عن الله عز وجل فيمتلئ قلبه قسوة وغلظة، فينفض الناس من حوله. ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 159 ).
أيها الإخوة الكرام، إن شاء الله في درس قادم نتابع فقرات الإسراء والمعراج، وأن الإسراء والمعراج أضخم حدث جاء بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معجزة تؤكد أن هذا الإنسان الذي أرسله الله هو رسول الله حقاً، وأن الكتاب الذي جاء به هو كتاب الله حقاً.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:07 PM   #23


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثالث و العشرون )

الموضوع : دعوة النبى للاوس و الخزرج





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
رحلة الطائف وأثرها على النبي:

أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد تحدثنا في الدرس السابق عن الإسراء والمعراج، وبينت لكم أن كل محنة تصيب المؤمن وراءها منحة من الله عز وجل، وأن كل شِدة تلم بالمؤمن وراءها شَدة إلى الله عز وجل، فكيف بسيد الأنبياء، وقد وقف بالطائف، وقد بالغ أهل الطائف في تكذيبه والسخرية منه، بل دفعوا صبيانهم إلى إيقاع الأذى المادي فيه، ودعاؤه الذي أُثِر عنه أن يا رب:

(( إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي ))
[الطبراني عن عبد الله بن جعفر]
والحقيقة أن هذه محنة عظيمة، وإذا صح أن الخط البياني للدعوة وصل إلى النهاية الصغرى في الطائف فقد جاء بعد الطائف الإسراء والمعراج، وهو الرد الإلهي مكافأة الله عز وجل، وتسلية النبي عليه الصلاة والسلام عن وحشة أهل الأرض بأنس السماء، لذلك أعلمه الله بالإسراء والمعراج أنه سيد الأنبياء والمرسلين، وأنه سيد ولد آدم، وأنه حبيب رب العالمين، وكل المحن في الدنيا تنقضي ويبقى ثوابها، وكل اللذائذ غير المشروعة في الدنيا تنقضي، ويبقى عقابها. الإسراء والمعراج بالروح والجسد
أيها الإخوة، من الثابت أن الإسراء والمعراج كانا بالروح وبالجسد، وهؤلاء الذين يتوهمون أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فقط وقعوا في وهم الكبير، لأن كلمة ( عبد ) تعني جسمه وروحه، وهو في سدرة المنتهى: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
( سورة النجم ).
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾
( سورة النجم ).
الإسراء والمعراج معجزة خارج القوانين
شيء آخر، هناك من يخشى أن يذكر هذه المعجزة، إن الإسراء والمعراج ليسا على قوانين الدنيا، بل هما استثناء من قوانين الله عز وجل، والدليل قوله تعالى:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾
( سورة الإسراء ).
كفاية الله أمر المستهزئين بالنبي
بعد الإسراء والمعراج كانت هناك كفاية الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أمر المستهزئين، فقد أقام النبي عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء والمعراج على أمر الله تعالى صابراً محتسباً.
قرار المؤمن وعدم تأثره بالظروف

فإذا اتخذ مؤمنٌ قراراً مصيرياً بمعرفة الله وطاعته، لا يتأثر لا بالظروف ولا بالأحداث، ولا بإقبال الدنيا ولا بإدبارها، لا بالغنى ولا بالفقر، لا بالتكذيب ولا بالتصديق، هذا اسمه قرار مصيري، والمؤمن الصادق كما قال الله عز وجل:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
( سورة الأحزاب ).
المؤمن راسخ كالسفينة العملاقة في البحر، بينما المؤمن ضعيف الإيمان كأنه قارب تتلاعب به الأمواج كيف شاءت، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء والمعراج أقام على أمر الله تعالى صابراً محتسباً. مراحل حياة المؤمن
بالمناسبة أيها الإخوة، أبين لكم الحقيقة التالية، وهي: أن في حياة كل مؤمن مرحلة تأديب، ومرحلة ابتلاء، ومرحلة تكريم، هذه المراحل قد تكون متداخلة، وقد تكون متمايزة، فإنه يمكن مثلا أن يؤدب المؤمن في يوم واحد على عمل لا يرضِي الله، ويبتلى، ويمتحن، وهو مستقيم على أمر الله ويكرم، أو أن تكون مرحلة بأكملها مرحلة تأديب، ومرحلة بأكملها مرحلة ابتلاء، ومرحلة بأكملها مرحلة تكريم، لكن أطمئنكم أن حياة المؤمن لا تستقر إلا على التكريم.
معاملة الله للمؤمن

﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
( سورة السجدة ).
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
( سورة القلم ).
هذه آيات كثيرة تبين أن معاملة الله للمؤمن معاملة متميزة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مؤدياً إلى قومه النصيحة على ما يلقى منهم من التعذيب والأذى والاستهزاء ، وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر، دائماً هناك رؤوس للإيمان، وهناك رؤوس للكفر وهذه سنة الله في خلقه، وأقول لكم مرة ومرة أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية لكن قد يسأل سائل لماذا كانت معركة أزلية أبدية ؟ لأن الحق لا يثبت إلا بالتحدي، ولا ينمو إلا بالتحدي، وهذا الذي يؤكده قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾
( سورة الأنعام الآية 111:).
معركة الحق مع الباطل أزلية
شاءت حكمة الله أن يجعل
﴿ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾
من النبي ؟ قمة كبرى من قمم البشر، قمة في العلم، قمة في الخلق، قمة في الأدب، قمة في البيان قمة في الجمال، ومع ذلك له عدو من شياطين الإنس والجن.
إذاً معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، الحكمة أن الحق يقوى بالتحدي.
أضرب مثلا: قد يصدر كتاب فيه انحرافات خطيرة جداً عن منهج الله، وهو يوصف بأنه كتاب إسلامي، ما الذي يحصل ؟ تقوم الدنيا ولا تقعد، طلاب العلم يلجؤون إلى شيوخهم، الدعاة يردون على هذا الكتاب، تنشأ حركة نشطة جداً تثبت دعائم الإيمان، وهذا الذي يحصل من دون أن يشعر هؤلاء الأعداء للدين، ومن دون أن يريدوا يقدمون خدمة لا ندركها سريعاً، يقومون بخدمة سلبية، حينما يثيرون الفتن، يثيرون الشبهات، والناس يردون عليهم، يثبت الإيمان في قلوب المؤمنين، وهذا دور الشيطان ، وله دور إيجابي قد يغيب عن معظم الناس، يلقي وسوسة، ماذا تفعل أنت ؟ تسأل أستاذك، هذا السؤال يدفع الأستاذ إلى توضيح هذه الشبهة في درس عام، معنى ذلك أن هذا الذي توضح يثبت الإيمان في قلوب المؤمنين، إذاً معظم نشاطات المؤمنين الدعوية أساسها أن هناك شبهة طرحت، أو أن هناك ضلالة انتشرتْ.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾
( سورة الأنعام الآية: 112 ).
وحي الشيطان زخرف من القول
الزخرف ؛ المعاصي والآثام أيها الإخوة فيها أخطار مدمرة، يأتي الشيطان فيخفي الآثار المدمرة المهلكة، ويظهر إيجابيات المتعة، يزينها لك، يعرضها بأسلوب مزخرف ، وحينما تتفلت الفتاة تفلتاً كبيراً يسمى هذا حضارة، وتقدماً، وعلماً، ونمط حياة عصريًا، فيه انفتاح، وإدراك، وروح رياضية، هذه كلها كلمات مزخرفة يعبر بها عن الاختلاط الآثم، والشهوات الماجنة باسم فن، باسم فتاة ( سبور )، باسم عقل منفتح، باسم روح رياضية، باسم هذا،
﴿ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ﴾
جريمة، وانحراف، وشذوذ، تحت اسم روح رياضية ، ومرونة، وتفهّم، وحياة معاصرة، واقعية،
﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾
( سورة الأنعام الآية: 112 ).
ما دام الله سمح به ففيه حكمة بالغة. ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
( سورة الأنعام ).
قال: ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾
( سورة الأنعام الآية: 113 ).
من الذي يصغي لهذا الكلام الذي المزخرج، المزخرف ؟ الذي لم يؤمن بالآخرة آمن بالدنيا فقط، دعوة إلى المعصية، دعوة إلى التفلت، دعوة إلى الانحلال، ما في آخرة بذهنه، وكأن الله فرز الناس، لذلك قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 179 ).
عملية فرز.
الإسراء والمعراج فرز للناس
صدقوا أيها الإخوة أن الإسراء والمعراج فرز، كيف ؟ هناك من كفر بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء والمعراج، ما صدق به، وما قبِل منه هذا أن يذهب إلى القدس، وأن يعرج إلى السماء، وأن يبلغ سدرة المنتهى، وأن يعود، وفراشه لا يزال ساخناً، ففرز الله عز وجل المؤمنين في الإسراء والمعراج، وفرز المؤمنين في الهجرة، لذلك:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
( سورة العنكبوت ).
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾
( سورة آل عمران ).
فنحن في دار ابتلاء، وطنوا أنفسكم لا بد من الابتلاء، وهذا الذي يجري الآن في العالم الإسلامي ابتلاء امتحان، إما أن نصمد، وأن نثق بأن الله لا يتخلى عنا، وإما أن نصطلح مع الله عز وجل، وإما أن نقيم الإسلام في نفوسنا، وفي بيتنا، وفي أعمالنا، وإلا نكون قد سقطنا من عين الله. ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾
يجب أن نكون موحدين، كل شيء يقع أراده الله، وسمح به، لحكمة بالغةٍ بالِغةٍ بالغة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
عظماء المستهزئين بالنبي :
وكان عظماء المستهزئين خمسة، خمسة نفر، وكانوا ذوي شرف في قومهم، وأورد ابن إسحاق رواية عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أنه ذكر فيهما أسمائهم، وهم:
الأسود بن المطلب بن أسد من بني أسد، والأسود بن عبد يغوث من بني زهرة، والوليد بن المغيرة، من بني مخزوم، والعاص بن وائل بن هشام، من بني سهم، والحارث ابن الطلالة، من بني خزاعة.
فلما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى قوله:
﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
( سورة الحجر ).
هذا قانون، لا بد من ابتلاء، لا بد من عدو، وطنوا أنفسكم على أن للحق أعداء وطنوا أنفسكم على أن المؤمن مبتلى، من الذي ابتلاه الله ؟ سيد الخلق وحبيب الحق، هل تتصورون أن نبيه الكريم، وحبيبه، ومن جعله الله سيد الأنبياء والمرسلين يذهب مشياً على أقدامه إلى الطائف ليلقى التكذيب والسخرية والضرب ؟!. ﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنين ).
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ:
(( الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، حَتَّى يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ ذَاكَ، فَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ، فَمَا تَبْرَحُ الْبَلَايَا عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ))
[رواه أحمد]
الله عز وجل كفاه، لذلك الله عز وجل لا يتخلَىعن المؤمنين، لكنه يعالجهم ، ويمتحنهم، يؤدبهم، أو يبتليهم، أو يكرمهم، لابد من ذلك، لكن حينما ترى إصرار النبي عليه الصلاة والسلام على نشر هذا الدين هذا درس لنا، والنبي قدوة لنا أيضاً، النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل، وكل شيء معروض فيه صعوبة بالغة.
أنت حينما تدخل محلا تجاريًا وأنت مندوب مبيعات تعرض على صاحب المحل بضاعتك، في المئة محل تسعون منهم لا يبالون، لسنا بحاجة، شيء صعب جداً أن تعرض جوهرة ثمينة على من لا يعرف قيمتها.
لذلك الدعاة حينما يعرضون دعوتهم على أناس يرفضونها، بل يستهزئون بها، بل لا يقيمونها تقييماً صحيحاً، يعانون من حالة صعبة جداً، لكن الثواب على قدر المشقة.
حرص النبي على الاجتماع بالناس
حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الاجتماع بالناس، النبي لم يكن في برج عاجي فكري، كان مع الناس، كان يمشي في الأسواق، بل من صفات الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، أي أنهم مفتقرون في وجودهم إلى تناولوا الطعام والشراب، وليسوا آلهة، بل هم يفتقرون ثانية لتأمين ثمن الطعام والشراب فيمشون في الأسواق، فالإنسان حينما يعرف أنه بشر، وأنه تجري عليه كل خصائص البشر، وحينما ينتصر على بشريته، ربما أعلى الله مقامه بين البشر، لا تصدق أن هناك عطاء إلهي إلا بعد ابتلاء.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾
( سورة البقرة الآية: 124 ).

ببساطة بالغة، من دون ابتلاء، من دون امتحان، من دون درس قاس، أن تصل إلى أعلى مقام هذا مستحيل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عانى ما عانى.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ ))
[ أخرجه الترمذي وابن ماجة أحمد في مسنده]
أيها الإخوة الكرام، كان عليه الصلاة والسلام في موسم الحج، وفي فترات عقد أسواق العرب حيث كان يلتقي بذوي الشأن من رؤساء القبائل وغيرهم، وكانوا يطالبون الرؤساء بحمايته دون أن يُكرِه أحداً على قبول دعوته.
نحن الآن في بحبوحة كبيرة جداً، نأتي إلى المسجد ونحن آمنون، قرأت البارحة في موقع معلوماتي ببلد إسلامي في شمال إفريقيا كل إنسان يريد أن يصلي يجب أن يصلي في مسجد واحد، ويعطى بطاقة إلكترونية، يجب أن يبرز هذه البطاقة لمسؤول في المسجد ، فإن لم يكن قد ذكر فيها هذا المسجد فممنوع دخوله، مسموح أن يدخل خمس مرات، تريد معاملة طويلة، لا بد لا من بطاقة إلكترونية، وعليها اسمك ورقمك، واسم المسجد، شيء لا يحتمل، من أجل أن تؤدي الصلاة في المسجد، نحن في بحبوحة، يجب أن نعرف فضل الله علينا في ممارسة شعائر الإسلام، ونسأل الله أن يتم فضله علينا، تدخل أيّ مسجد، تحضر أيّ درس علم، تحضر أي خطبة، تحجب فتياتك، لا أحد يحاسبك، تدخل إلى بيتك، تصلي، تقوم الليل، تقرأ القرآن، يجب أن تعلموا إيجابيات ما يعيشه الناس في هذه البلدة، نحن في بحبوحة كبيرة، ولا يعرف قدر هذه البلدة إلا من ذهب إلى بلاد أخرى.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ))
[أحمد]
فعليكم بالشام في آخر الزمان، الداخل إليها برضائي، والخارج منها بسخطي.
مباشرة النبي الدعوة في مواسم الأسواق
وقد نقل الإمام أحمد رواية ربيعة بن عباد الدؤلي، وكان من شهود العيان الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواسم الأسواق، وهو يباشر الدعوة: قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم به المجاز يتبع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى الله عز وجل .
إخوانا الكرام، لعل أشقى الناس على الإطلاق هذا الذي يقف في خندق معادٍ للحق، تعرض عليه الإسلام بكل أدب، بكل تواضع، بكل وضوح، بكل دليل، يرفض.
(( يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تتقد وجنتاه، وهو يقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم ))
[ رواه البيهقي ].
لماذا كان النبي ضعيفا ؟
سؤال: لماذا كان النبي ضعيفاً إلى هذه الدرجة ؟ لو أنه قوي، لو أعطى أمرًا لمشت مسيرة من خمسة ملايين، لكنه ضعيف، ما الحكمة من ذلك ؟ لماذا أراد الله أن يكون الأنبياء ضعافاً في أول دعوتهم ؟ لأن قيمة الإيمان أن تؤمن وأنت حر، هل تتصورون أن النبي عليه الصلاة والسلام يمر على آل ياسر وهم يعذبون، وماتوا تحت التعذيب، يقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ما كان يستطيع إنقاذهم، ولا تخفيف العذاب عنهم، لأنه ضعيف، ومع ذلك آمن به من آمن، فقيمة الإيمان أن تؤمن من دون ضغط، لذلك أقول هذا كثيراً: في المجتمع أقوياء وأنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، لكن الأنبياء ملكوا القلوب، وشتان بين أن تملك رقبة تسيرها كما تشاء، وبين أن تملك قلباً، البطولة أن تملك القلوب، لا أن تملك الرقاب، الأقوياء عاش الناس لهم، والأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء أخذوا، ولم يعطوا والأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، بينما الأنبياء يمدحون في غيبتهم، اذهب إلى العمرة، تجد أمام قبر النبي e عشرات، بل مئات الألوف، من شتى بقاع الأرض يبكون، ولن يلتقوا به، ولم يأخذوا من ماله، ولم ينَلْهم شيء من فضله، لماذا هؤلاء يبكون وقد مضى على وفاته 1400 عام ؟ هؤلاء الأنبياء، هؤلاء الذين جاؤوا الحياة فأعطوا، ولم يأخذوا، فيقول هذا الرجل الأحول الذي تفتقد وجنتاه:
(( لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم، وأن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من بني مالك ))
النبي ضعيف، يدعو إلى الله، وهناك من يقول له: تباً لك، ألهذا دعوتنا ؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض نفسه على كِندة، وبني كلب، وبني حنيفة، وكان ردهم قبيحاً.
أشق الناس من يقف في وجه دعوة الإسلام
والله أيها الإخوة، حينما تقف يوم القيامة أمام رب العزة، ويعرض عليك موقفك من أهل الحق، تفننت في تكذيبهم، تفننت في إهانتهم، تفننت في الافتراء عليهم، وهم أناس أطهار صادقون، هذا أشقى إنسان على وجه الأرض حينما يقف في خندق معادٍ للحق، لذلك هنيئاً لمن كان للحق ناصرا، وويل وألف ويل لمن كان عدواً للحق.
كما عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة، ومحارب، وفزارة، وغسان، ومرة، وسليم، وعبس وبني النضر، وبني البكاء وعذرة، وربيعة، وبني شيبان، هؤلاء كذبوه، والوضع صعب جداً أن تعرض حقاً على من لا يريده، أن تعرض شيئاً ثميناً على من لا يعرف قيمته.

وكان عليه الصلاة والسلام مما يقوله في المواسم هل من رجل يحملني إلى قومه ، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل.
قصة العداء بين أهل الحق وأهل الباطل
إن ملة الكفر واحدة، الكفر هو الكفر من آدم إلى يوم القيامة، الكفر يعادي الحق بلا سبب، بدأ الكفر من قابيل، وهابيل ما فعل شيئًا، ما فعل شيئاً إلا أنه تقرب إلى الله بقربان فقبِله الله، تقرب إلى الله من ثمن ما عنده، هذا هابيل، بينما قابيل قدم قرباناً فلن يتقبل منه:
﴿ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾
( سورة المائدة الآية:27).
ما فعل معك شيئاً، هذه قصة البشرية، الكافر عدو للمؤمن، ولو كان ملكاً، هذه قصة العداء بين أهل الحق والباطل، فكان عليه الصلاة والسلام مما يقوله في المواسم:
(( هل من رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ ؟ فَإِنّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَن أُبَلّغَ كَلاَمَ رَبّي عز وجل ))
[ رواه أحمد عن جابر بن عبد الله، ورجاله ثقاة].
الدعوة فيها عقبات
الدعوة مرت بمضائق خطيرة جداً، الدعوة مرة بعقبات كأداء، الدعوة مرت بصعوبات كبيرة جداً، ولكن الله سبحانه وتعالى على هذا الصبر، وعلى هذا الجلد وعلى هذه الهمة العالية، وعلى هذا الحرص على هداية الخلق جعله سيد الأنبياء والمرسلين.
وأنت أيها الأخ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، حجمك عند الله بحجم دعوتك بحجم حرصك، بحجم رحمتك، بحجم حرصك على هداية الخلق.
تروي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز كان يخاطب الناس ويقول:
(( يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ))
[ رواه الطبراني عن منبت الأزدي ]
حرص النبي على دعوة قومه ورحمته بهم
وكان الناس يزدحمون عليه، غير أنهم لن يتجاوبوا مع دعوته، ومع ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يواصل الدعوة فلا يسكت، بل يكرر مقولته، هذا هو الثبات، والإنسان أحيانا يتكلم مع إنسان عشر دقائق، يقول لك: ما فيه خير، قطعه وارتاح، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الحرص على هداية الخلق، الله عز وجل ينتظر منك أن تلح في دعوتك إلى الله، أن تلح في دعوتك إلى الله وأن تقلد النبي عليه الصلاة والسلام في إصراره وفي ثباته، وفي حرصه، وفي رحمته.
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
( سورة التوبة ).
لذلك قالوا: أرحم الخلق بالخلق سيد الخلق، ومع ذلك قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 159 ).
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾
( سورة الكهف الآية: 58 ).

رحمة النبي أعلى رحمة بين بني البشر، ومع ذلك ليست بشيء أمام رحمة الله عز وجل.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:
(( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ))
[متفق عليه]
أنت حينما تعرف رحمة الله تذوب محبة له، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب الناس في سوق ذي المجاز بقوله: (( يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ))
وكان الناس يزدحمون عليه، غير أنهم لم يتجاوبوا مع دعوته، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يواصل الدعوة فلا يسكت، بل يكرر مقولته، وحينما يعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل كان يقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا بي، وتصدقوني، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به.
عرض النبي على القبائل وموقفها منه
بعد الإسراء والمعراج، وبعد تخلي قريش عنه، وبعد اضطهادها له، ولا سيما بعد موت زوجته، وعمه أبي طالب، بدأ النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل، ولا أحد يستجيب، لكن رحمة الله كانت من جهة الأوس والخزرج في المدينة ، فمكث عليه الصلاة والسلام يتبع الناس في منازلهم، وأسواقهم بعكاظ ومجنة، وفي مواسم الحج في منى، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتينك، ويمشي بين رجالهم، وهم يشيرون عليه بالأصابع، ماذا فعل ؟ ماذا اقترف ؟ ما الذي فعله حتى يحذر الناس منه ؟ هذه معركة الحق والباطل، إما أن تكون على الحق، والكلمة الثانية قاسية جداً، وإما إنك على الباطل قطعاً، الدليل:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
( سورة القصص ).
موقف أهل يثرب من دعوة النبي :
أيها الإخوة، لقد كان أهل يثرب من الأوس والخزرج أكثر الناس تجاوباً مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتعبير العامي: الله جبار الخواطر، وأنا أقول لكم: ما مِن إنسان دعا إلى الله بإخلاص إلا هيأ الله عز وجل له من يقتنع بدعوته، الله جبار الخواطر، الكل أعرض عنه، لذلك قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾
( سورة محمد ).
الاتصالات الأولى بالأنصار
هنيئاً لمن استجاب إلى الله عز وجل، وكانت الاتصالات الأولى بالأنصار قد تمت في مواسم الحج والعمرة، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على سويد بن الصامت، غير أنه لم يعلن إسلامه، كما أنه لم يبعد عنه، وقد استحسن ما سمع من القرآن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج في حرب بعاث، وكان رجال من قومه يقولون: إنه مات مسلماً، ما أجاب النبي e، لكنه اقتنع بالقرآن، ومات بعد حين.
وفد الأوس والخزرج في الحج وعلاقتهم بالنبي e:
ويذكر جابر بن عبد الله الأنصاري مجيء أعداد من الأوس والخزرج إلى الحج ، وعلاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: فأوينا وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبقَ دار من الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، فجعل الله عز وجل نصرة هذا الدين في المدينة، فكان يأتي الرجل من المدينة إلى مكة يلتقي بالنبي e، ويعلن إسلامه، والنبي يقرئه القرآن، ويعود إلى أهله، فيقنع أهله بالإسلام، فيسلموا، وهكذا.
وكانت الأوس قد سعوا بمحالفة قريش على الخزرج الذين كانوا أكثر منهم عدداً ، فقدم أبو الخير أنس بن رافع في وفد من بني عبد الأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء ودعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال أحدهم، وهو إياس بن معاذ: أيْ قوم هذا ؟ والله خير ممن جئتم له، فانتهره أبو الحيسر فصمت، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، ورجعوا المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم مات إياس بن معاذ، وكان قومه يسعونه يهلل الله، ويكبر، ويحمده، ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلماً، فقد استشعر الإسلام في لقائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس.
حال المسلمين اليوم وواجبهم في الدعوة

الباطل قوي، والكفر قوي، وهو يملك كل شيء، والإسلام ضعيف، والمسلمون ضعاف، كيف نحن اليوم ؟ نحن ضعاف، والطرف الآخر أقوياء جداً، وكلمتهم هي النافذة، الإعلام لهم، القوة لهم، الأسلحة لهم، القرار لهم، لكن هذا لا يمنع أن نكون صادقين في الدعوة إلى الله، وأن نكون صادقين بأن الله لا يتخلَى عنا، وهذه السيرة فيها إسقاطات كثيرة جداً على واقع المسلمين اليوم.
ومع أن هذين الرجلين من الأوس كانا قد استشعرا الإسلام فإن المصادر لن تذكر قيامهما في الدعوة في وصف قومهما، فإن البداية المثمرة للأنصار حين الاتصال بهم كانت مع وفد الخزرج في موسم الحج عند عقبة منى، الذين لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس معه، وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وقد وذكر ابن إسحاق إسلامهم وقيامهم بالدعوة إلى الله. أيها الإخوة الكرام، ننتقل إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم إلى بيعة العقبة الأولى، ويجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يتخلَى عن المؤمنين في كل الظروف، وفي كل العصور.






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:10 PM   #24


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الرابع و العشرون )

الموضوع : بيعة العقبة الاولى - الاعتناء باولادنا





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد بينت لكم من قبل أن السنة النبوية تعني أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وإقراره، فقد عصمه الله عن أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، لذاك قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر الآية: 7 ).
سيرة النبي تطبيق لما جاء به
ميزة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحق الذي جاء به مطبق من الناحية العملية، وحقيقة ما جاء به النبي كان قدوة لنا في تطبيقها، والمثُل العليا لا تعيش إلا بالمثُل الأعلى، والقيم لا تعيش إلا بواقع تطبق فيه، فلذلك تأخذ السيرة النبوية بعداً خاصاً حينما نجد أن المثالية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، ودعا إليها طبقها في حياته، وصح أن نقول: هي المثالية الواقعية، أو الواقعية المثالية .
بيعة العقبة الأولى
تعريف البيعة:
ننتقل في هذا الدرس إلى فقرة من السيرة النبوية، وهي بيعة العقبة الأولى.
البيعة مأخوذة من البيع، والبيع والشراء أوسع نشاط بشري على الإطلاق، بل إن الله جل جلاله جعل الإيمان به وطاعته، والعمل الصالح تجارة، والتجارة قوامها البيع والشراء. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة الصف ).
ذلك لأن البيع والشراء أوسع نشاط بشري على الإطلاق، فأنت كإنسان لا بد من أن تشتري لتجلب مصالحك ومنافعك، وقد تلتهن البيع.
أيها الإخوة الكرام، لا بد من آية مناسبة جداً للبيع والشراء، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾
( سورة التوبة الآية: 111).
هناك مشترٍ، وهناك بائع، وهناك ثمن، المؤمنون باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، والمشتري هو الله، والثمن هو الجنة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾

أيها الإخوة، أحياناً يدخل في معنى البيع والشراء القرض، قال تعالى:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة ﴾

( سورة البقرة الآية: 245 ).
أيّ عمل صالح تفعله موجه إلى إنسان، أو إلى مخلوق كائنًا من كان فهو قرض حسن لله عز وجل، وسيعوضه عليك أضعافاً مضاعفة يوم القيامة، ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾
وأحياناً يأتي البيان الإلهي متماشياً مع طبيعة الإنسان، فالإنسان يطمئن بالكتابة، ولا يطمئن بعقد شفهي، إذا كان العقد موثقاً مكتوباً، معه وصل، معه سند، العقد مسجل عند كاتب العدل، ترتاح نفسه، لذلك الله عز وجل يقول: ﴿ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾
( سورة المجادلة الآية: 21 ).
ربنا عز وجل كتب على نفسه الرحمة، كي نطمئن أن الوعد الإلهي وعد محقق، وكأنه عندكم أيها البشر مكتوب.
لقاء العقبة الأولى
ورد في السيرة النبوية أن في السنة التالية للقاء النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد الخزرج، وقد تحدثت عنه في درس سابق، في السنة التالية للقاء النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد الخزرج جرت البيعة الأولى، ومن منا يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، أسلمت معه خديجة زوجته، وابن عمه علي بن أبي طالب، الذي كان طفلاً صغيراً ، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعدد قليل يعدّ على أصابع اليد من أصحاب رسول الله، من منا يصدق أنه بعد 1400 عام وزيادة المسلمون يعدون مليار وثلاثمئة مليون.
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾
( سورة إبراهيم الآيات: 23 ـ 24 ).
أيها الإخوة الكرام، مادام الحديث عن بيعة العقبة، وعن هذه الدعوة الفتية التي حمل لواءها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عليه حينما قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾
( سورة الأحزاب ).
ولا تنسوا أن الله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت ).
أي لم تجد على وجه الأرض إنساناً أفضل،
﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
وكل من اهتدى بدعوته، وكل من خشع قلبه لدعوته، وكل من تاب بسبب دعوته، وكل من اصطلح مع الله بسبب دعوته، كل أعماله، وأعمال ذريته وإلى يوم القيامة في صحيفته، لذلك:

(( يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ))
[الجامع الصغير عن أبي رافع]
الرواية الأولى:
(( وَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))
[ رواه البخاري ومسلم، عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه ].
الرواية الثانية:
(( أن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها ))
[ أخرجه أحمد من حديث معاذ وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد ].
الرواية الثالثة:
(( يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ))
[الجامع الصغير عن أبي رافع]
لذلك ما دمنا في الحديث عن بيعة العقبة، وما دمنا في الحديث عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي طارت في الآفاق حتى وصلت إلى مشارف الصين شرقاً، وإلى مشارف باريس غرباً، ما دام الحديث عن هذه الدعوة فيجب أن أعلمكم، وهذه أمانة التبيين أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، طالبوني بالدليل، ولا تقبلوا شيئاً من دون دليل، ولا ترفضوا شيئاً من دون دليل، الدليل أن الله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
( سورة العصر ).
التواصي بالحق ربع أركان النجاة، أي أن الإنسان لا ينجو إلا إذا آمن بالله ، وعمل صالحاً، وتواصى بالحق، وتواصى بالصبر، فلا ينجو الإنسان إلا إذا بحث عن الحق، ثم عمل به، ثم دعا إليه، ثم صبر على البحث عنه، ثم العمل به، والدعوة إليه، هذا الدليل الأول.
والدليل الثاني:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
( سورة يوسف الآية: 108 ).
فأي متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يدعو إلى الله، ومن لم يتبع رسول الله فإنه لا يحب الله، والدليل: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 31 ).
إذاً الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، ولكن دعوة فرض العين محدودة ، أي في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، حضرت درس علم، استوعبت منه شرح آية ينبغي أن تنقلها إلى الناس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(( بلِّغوا عني ولو آية ))
[ رواه البخاري والترمذي وأحمد في مسنده عن ابن عمرو ].
استمعت إلى خطبة، لك أخت، ولك أصهار، ولك شريك، ولك زميل، ولك جار، ولك صديق، ولك سهرة كل ثلاثاء، ماذا تقول في هذه اللقاءات ؟

إخواننا الكرام، أعرض عليكم عرضًا، احرص أن تحضر خطبة لخطيب تثق بعلمه، وتثق بورعه، وخذ منه شيئاً في هذه الخطبة، واجعل هذا الشيء الذي نقلته عنه موضوع حديثك مع من يلوذ بك طوال الأسبوع، لذلك ورد في بعض الأحاديث:
(( أمرني ربي بتسع، خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة ))
[التبريزي في مشكاة المصابيح عن أبي هريرة]
إن صمت فأنت تفكر في آلاء الله، وإن نطقت فأنت تذكر الله عز وجل، (( وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة ))
أسوق لكم هذه الحقائق، لأن بيعة العقبة الأولى بيعة متواضعة جداً، وبيعة العقبة الثانية بيعة أوسع شمولاً، ومن خلال هاتين البيعتين انتقل المسلمون من بلد قمعوا فيه، واضطهدوا، وكذبوا، ونكل الكفار بهم إلى بلد آمن كان منطلقاً إلى بلد إسلامي نشر الحق في الآفاق، لذلك قالوا: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، كيف ؟
سيدنا موسى، وهو مع أهله أراد أن يقتبس ناراً:
﴿ لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ﴾
( سورة طه ).
ناجاه الله عز وجل، هو أراد أن يقتبس قبساً من نار كي يتدفأ أهله بها، فإذا بخالق السماوات والأرض يناجيه: ﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾
( سورة طه ).
أيها الإخوة، أنا أدعوكم من خلال هذه السيرة النبوية، ومن خلال هذه الأحداث المشجعة دعوة إسلامية عمّت الآفاق، بدأت من بيعتين متواضعتين من عدد لا يزيد على أصابع اليد، وكان بعدها الإسلام كما ترون.
في السنة الثانية من لقاء النبي مع وفد الخزرج جرت بيعة العقبة الأولى، فقد حضر 12 رجلاً، 10 منهم من الخزرج، واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط الرجال الذين أسلموا من الرجال في السنة السابقة قد تركز ضمن قبيلتهم، ما معنى هذا الكلام ؟ حينما يقول الله عز وجل:
﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
( سورة الشعراء ).
الحكمة من بدء الدعوة بالأقربين
لماذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بعشيرته الأقربين ؟ هل تعلمون لماذا ؟ لأن الحواجز بين الإنسان وغيره ليست موجودة بين القريب والقريب، مثلاً:
لو أنك تمشي في الطريق، وأنت متوجه إلى درس في هذا المسجد، هل تستطيع أن تقول لإنسان يمشي إلى جانبك: تعال امشِ معي إلى هذا الدرس، يخاف منك، يقول لك: ما الدرس ؟ من يحضر هذا الدرس ؟ من يلقي هذا الدرس ؟ أما إذا نظرت إلى صهرك، أو إلى أخيك، أو إلى ابن عمك، لا يخاف منك، لا يتوقع شيئاً غير متوقع، لذلك هذا منهج ،

﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
أنت لك أولاد، لك إخوة، لك أولاد عم، لك أولاد خال لك أولاد خالة، لك جيران، لك أصدقاء، لك زملاء في العمل، هؤلاء تعرفهم، ويعرفونك، وتثق بهم، ويثقون بك، هؤلاء خاصة نفسك.
الرجال الذين التقى بهم النبي عليه الصلاة والسلام ركزوا دعوتهم على قومهم، لذلك أيها الإخوة ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أنْ:
(( إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً ))
[أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن ماجه ].
مادية مقيتة، يبيع الإنسان دينه بعرض من الدنيا قليل، يحلف البائع أحياناً بربه، وبنبيه، وبالأمانة، وبالكعبة، أن ثمن شراء هذه السلعة أعلى مما دفع المشتري، والحقيقة ليست كذلك، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، لذلك:
(( إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً، وَهَوًى مُتّبَعاً ))
الشح المطاع المال، وفي آخر الزمان يبيع الرجل دينه بعرض من الدنيا قليل ، (( وَهَوًى مُتّبَعاً ))
الجنس.
(( وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ))
مادية مقيتة، وشهوات جامحة، وكبر ما بعده كبر، هذه من علامات قيام الساعة، (( إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً، وَهَوًى مُتّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ ))
نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم
(( فالزم بيتك ))
ليس معنى هذا ألا تخرج، اخرج إلى عملك، لكن ليسَعْك بيتك، وأدِّ عملك، ولا تنغمس في وحول البشر.
﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ﴾
( سورة الكهف ).

(( إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً، وَهَوًى مُتّبَعاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فلزم بيتك، وأمسك لسانك، وخذ ما تعرف، و فَعَلَيْكَ بِخَاصّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعِ عنك الْعَامة ))
سقت هذا الحديث من أجل كلمتين: (( فَعَلَيْكَ بِخَاصّةِ نَفْسِكَ ))
قال علماء الحديث: " ليس معنى خاصة نفسك أولادك، بل الجيران، والأصدقاء، والزملاء، والأقرباء، ومن تثق بهم، إذاً:
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))
[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]
بيعة العقبة الأولى حضرها 12 رجلاً، 10 منهم من الخزرج، و2 من الأوس مما يشير إلى أن نشاط الرجال الذين أسلموا من الخزرج من السنة السابقة قد تركز ضمن قبيلتهم بشكل رئيسي، وإن كانوا قد تمكنوا في اجتذاب رجال من الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام.
قانون العداوة والبغضاء
إخوتنا الكرام، نحن إذا تفلتنا من مهج الله تخلق بيننا عداوة لا تعد ولا تحصى، الدليل:
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة المائدة ).
هذا قانون العداوة والبغضاء، يطبق على الزوجين، وعلى الجارين، وعلى الشريكين، وعلى الأسرتين، وعلى القبيلتين، وعلى الشعبين، وعلى الأمتين، وعلى الحضارتين، هذا الصراع في العالم، لماذا العدوان ؟ لماذا سفك الدماء ؟ لماذا قتل الأبرياء ؟ لأن المتحاربين تفلتا من منهج الله، ﴿ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
أحياناً على مستوى الأسرة، على مستوى الأب والأبناء، على مستوى الزوج وزوجته، على مستوى الشريك وشريكه، على مستوى الجار وجاره ، على مستوى الأخ وأخيه، لماذا المسلمون ممزقون ؟ لأنهم تفلتوا من تطبيق منهج الله، الثمرة مجازا، أو النتيجة الطبيعية للتفلت العداوة والبغضاء، لا أحد يحب أحد.
﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾
( سورة الحشر الآية: 14 ).
بأس المسلمون بينهم، أما إذا طبقنا منهج الله يغدو الأخ الكريم حبيباً.
والله أيها الإخوة، رواية أرويها كثيراً، لكن لا أرتوي منها، النبي عليه الصلاة والسلام عقب معركة أحد تفقد أصحابه، سأل عن سعد بن الربيع، لم يعرف أحد مصيره، أرسل صحابياً إلى أرض المعركة كي يتفقده أهو بين القتلى، فإذا به بين الجرحى، قال له الصحابي الكريم: يا سعد، أنت بين الأحياء أم بين الأموات ؟ جراحك يسيرة أم خطيرة ؟ قال له: أنا مع الأموات، إنسان في النزع الأخير، يغادر الدنيا، والذي سبب هذه المغادرة أنه أسلم، وأنه مشى مع النبي الكريم e، وأنه خاض هذه المعركة، فقال هذا الصحابي الجليل: أقرئ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبي عن أمته، وأقرئ أصحابه السلام، وقل لهم: لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
والله أيها الإخوة، مما يلفت النظر أنني قرأت سير أصحاب الرسول، ودرّستها بفضل الله عز وجل، ما وجدت قاسماً مشترك بين كل هؤلاء الصحابة في سيرهم إلا قاسماً واضحاً صارخاً كبيراً، أنهم كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند مغادرة الدنيا، إنسان ينازع ، وسيموت، لأنه أسلم، ولأنه خاض هذه المعركة، يقول: أبلغ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خُلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، لذلك حينما بقول عليه الصلاة والسلام:

(( تحفة المؤمن الموت ))
[أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمر ].
الموت عرس المؤمن، وهو عند الناس أكبر مصيبة أن يموت الإنسان، أما عند المؤمنين الموت تحفة وعرس.
قالت ابنة سيدنا بلال لأبيها: واكربتاه يا أبتِ، وهو على فراش الموت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه.
وازنوا بين حياة مؤمن كلما اقترب من لقاء الله استبشر، ووازنوا بين حياة إنسان متفلت إذا شعر بوخزة في قلبه لا ينام الليل خوفاً، إذا جاء التخطيط مخيفاً، تنهار معنوياته لأنه لم يعد للآخرة، أعد للدنيا ولم يعد للآخرة، لأن هذا الأبد خسره، لذلك قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة الزمر الآية: 12 ).
بيعة العقبة خطوة أولى لائتلاف الأوس والخزرج
هذه البيعة كانت بداية ائتلاف القبيلتين المتنازعتين المخاصمتين قبيلة الأوس والخزرج، كان هذا اللقاء في بيعة العقبة الأولى بداية ائتلاف هاتين القبيلتين تحت راية الإسلام، الإسلام يجمع، لذلك أعداء المسلمين في بداية عصر النهضة أرادوا تفتيت الجامعة الإسلامية، أنتم أكراد، وأنتم عرب، وأنتم طورانييون، الذي حصل أن جمع الأمة الإسلامية تفرق، والآن قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾
( سورة القصص الآية: 4 ).
وإن لكل عصر فرعون. ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾
( سورة القصص الآية: 4 ).
أينما حلّت هذه القوة العظمى تصنف المجتمع إلى طوائف، وتثير الأحقاد بينهم، ألا ترون إلى ذلك في العراق، في لبنان، وفي أي مكان ؟ صرّح أحد كبار زعمائهم مرة فقال: أنا لا يعجبني العالم أن يكون 200 دولة، أنا أتنمى أن يكون العالم 5000 دولة، وسياستهم في إثارة الفتن الطائفية لا تخفى عن أحد أبداً، ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾
كان هنالك أوس وخزرج، فصار الأمر هو دين الإسلام، هل يخطر في بالك أن الإمام البخاري ليس عربياً، إطلاقاً، معظم علماء المسلمين ليسوا عرباً، ذابوا في بوتقة الإسلام، الإسلام أممي، كل من أسلم له ما لنا، وعليه ما علينا، ولا فرق بيننا وبينه أبداً.
إذاً بيعة العقبة الأولى بداية ائتلاف القبيلتين المتنازعتين المتحاربتين المتخاصمتين، تحت راية الإسلام، وكان الصحابي الجليل عبادة بن الصامت قد شارك في بيعة العقبة الأولى، لذلك فإنه من مصادر المعلومات الأساسية والدقيقة عنها، معلوماتنا عن بيعة الأولى نأخذها من الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وقد وردت روايته عن البيعة في الصحيحين.
بالمناسبة نحن مع الأسف الشديد لم يتح للتاريخ الإسلامي رجال باحثون، ومدققون كما أتيح للحديث الشريف من رجال بحثوا، ومحصوا، وفرزوا، وأزالوا الضعيف والموضوع عن الصحيح، طبعاً شيء طبيعي، لأن الله في عليائه تولى حفظ قرآنه، ومن لوازم حفظ قرآنه حفظ سنة نبيه، لكن التاريخ الإسلامي لم يتح له ذلك.
إذاً رواية عبادة بن الصامت عن البيعة التي وردت في الصحيحين، وأوردها ابن إسحاق في السيرة بشكل أوضح وأكمل:
بنود بيعة العقبة
قال عبادة بن الصامت:
(( كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب على ألاّ نشرك بالله شيئا ـ البند الأول ـ ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف ـ هذه المعاني وردت في آية كريمة ـ فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غششتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم ))
البيعة إذاً على: (( ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ))
إن تسعة أحكام الفقه متعلقة بالمال والنساء، ولا شيء يردي الإنسان كالمال والنساء، وكل فضائح أهل الأرض إما فضيحة جنسية أو فضيحة مالية، (( ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ))
لأن الأبوة رسالة،
(( ولا نأتي ببهتان ))
بكذب وافتراء،
(( نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ))
إما عمل ندعيه ولم نفعله، أو شهوة نفعلها ولا نعترف بها،
(( ولا نعصيه في معروف ))
والمعصية هنا مقيدة بالمعروف.
النبي عليه الصلاة والسلام أرسل سرية، وأمر عليها أنصارياً ذا دعابة، هكذا ورد في الرواية، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ ))
[ أخرجه البخاري ومسلم].
إنّ العقل لا يعطل أبداً، بل إن الطاعة مقيدة بالمعروف، أما حينما توسع بعض الجهال فأمروا إخوانهم، وتلاميذهم بأوامر غير معقولة، وغير شرعية جانبوا الصواب، وابتعدوا عن الحق، لماذا نفسر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أُحد من الرماة الذين عصوه، قال العلماء: إنهم عصوا أمراً تنظيماً، ولم يعصوا أمراً تشريعياً، نحن الآن إذا كانت زوجة إنسان لا تنجب، أو مريضة، أو هناك مشكلة، لا يحب أن يفصح بها، وتزوج امرأة ثانية، فكأنه زنا عند الناس، كيف ؟ ﴿ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾
( سورة الممتحنة الآية: 12 ).
ما فعل شيئاً، هناك ضرورات، وبعد أن تمت البيعة، وأراد المبايعون العودة إلى يثرب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير ليقرئهم القرآن، وليعلمهم الإسلام، وليفقههم في الدين.
الإلقاء بعد التلقي
كتعليق اسمحوا لي به: أنت أيها الأخ الكريم هل يعقل أن تستمع إلى الدروس طوال عمرك ؟ وأن تتلقى طوال عمرك ؟ متى تلقي الدروس ؟ ومتى تنطق بالحق ؟ ومتى تعلم بعد أن تعلمت، ومتى تشرح بعد أن شُرح لك ؟ ألا تحب أن تلقى الله بعمل صالح ، فلماذا لا توطن نفسك على أن تنطق بالحق ؟ لماذا لا تحاول أن تنقل الهدى إلى إنسان، ألا يغريك عطاء الدعاة إلى الله ؟ ألا تغريك هذه الآية ؟
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت ).
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))
الإلقاء بعد التلقي السعادة في خدمة الخَلق
أيها الإخوة الكرام، أكثر مرض يشكَى إلي، يقول: معي كآبة، كلمة شائعة وذائعة، الحقيقة أن الإنسان إذا بقي في ذاته تأتيه الكآبة، أما إذا خرج عن ذاته ليقدم الخير للآخرين تذهب عنه الكآبة.
والله مرة قرأت كلمة في مجلة مترجمة، بعد نهاية المقالة كتبوا حكمة، لكن هذه الحكمة تغلغلت إلى أعماق أعماقي، والقصة من 30 عامًا أو 40 عامًا: " إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين ".
اخرج من ذاتك إلى خدمة الخلق، إن أسعدت الآخرين فأنت أسعدهم، نحن ألا نقول في الصلاة على رسول الله اللهم صلِ على أسعدنا محمد، هو أسعد الخلق، أنت حينما تخرج من ذاتك لتقدم الخير للآخرين، كلمة طيبة، أو معروفاً، أو مالاً، أو حكمة، أو خبرة، أو خدمة، تشعر أن الله يحبك، وان الله قبل هذا العمل.
لذاك كانت السيدة عائشة، هكذا ورد في السيرة تعطر الدرهم الذي تدفعه صدقة، فلما سئلت عن سر هذا قالت: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، أنا أحب أن أعطرها.
حينما تخرج من ذاتك تعرف معنى السعادة الحقيقية.

وقبل حلول موسم الحج للسنة 13 من البعثة عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أصابه من نجاح وتوفيق من الله سبحانه وتعالى في مهمته.
الدعوة تحتاج إلى نفس طويل، لأن بناء النفوس ليس سهلاً، والحقائق مع أدلتها ليست سهلة، وإقناع الإنسان أن يستقيموا ليس أمرا سهلاً، أتحبون توضيحاً لذلك ؟
قد يحضر إنسان خطبة، أو درس علم، أو يسمع محاضرة، أو يقرأ كتابًا، إن صح أن للقناعات الإسلامية وحدة تقاس بها، نسمي عشر وحدات، لكن لا تنسوا أن الشهوات ألف وحدة، فالعشرة أمام الألف لا تصنع شيئاً، والدرس الواحد لا يصنع إيمانًا، بالضبط لما يكتب الإنسان على عيادته " الدكتور فلان "، طبيب، ماذا تستنبط أنت من كلمة الدكتور فلان ؟ معه وثيقة إتمام مرحلة، ومعه شهادة إعدادية ومعه شهادة ثانوية، ونال علامات فوق 230، وكان متفوق جداً، ودخل كلية الطب، وأول سنة درس العلوم، والسنة الثانية تشريح، والثالثة فيزيولوجيا، والرابعة علم الأمراض، والخامسة علم الأدوية، وسنتين تطبيق، بعد هذا أخذ إجازة بالطب، بعد هذا ذهب إلى أمريكا، وبقي سبع سنوات لأخذ بورد، حتى جاء إلى بلده فسمح له أن يكتب " الدكتور فلان "، فهناك نفَس طويل.
فهذا الذي يتكلم قبل أن يتعلم، ينطق قبل أن يتقن، هذا لم يسلك الطريق الطبيعي الذي أراده الله، لكن هذه الدعوة إلى الله إذا نجحت فنجاحها لا يقدر بثمن.
﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا ﴾
هذه النفس البشرية: ﴿ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾
( سورة المائدة الآية: 32 ).
كيف ؟ أنت بجهد كبير، بنفس طويل، بمتابعة، وبإصرار، وببذل، وتضحية أقنعت إنسانًا أن يؤمن ويستقيم، أن يستقيم مع الله، وأن يصطلح معه، وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً، فقد اصطلح مع الله، هذا الإنسان، أولاً بعد ما اصطلح مع الله، واستقام على أمره لن يتزوج إلا شابة مؤمنة، تسره إن نظر إليها، وتحفظه إن غاب عنها، وتطيعه إن أمرها، ولم يعمل عملاً إلا مشروعاً ، وسوف يربي أولاده تربية إسلامية، وقد ينجب إلى يوم القيامة من ذرية ثلاثة ملايين، وكلهم على هذا النسق، إذاً كل أعمال هذا الذي هديته إلى الله في صحيفتك، الدليل: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾
( سورة الطور الآية: 21 ).
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾
أي: ألحقنا بهم أعمال ذريتهم،
﴿ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾
لذلك أيها الإخوة، أقول لكم هذه الكلمة من القلب: لم يبقَ في أيدي المسلمين ـ وهذا حالهم ـ من ورقة رابحة إلا أولادهم، أولادهم هم المستقبل، فإذا أردت أن تقدم لهذه الأمة عملاً لا يقدر بثمن فربِّ ابنك تربية إسلامية، نشئه على العلم، ومعرفة الله، وطاعة رسول الله e، وعلى الخُلق الكريم، إذا قدمت للمجتمع شاباً مؤمناً منضبطاً فقد قدمت للأمة خدمة لا تقدر بثمن، لأن أعداء المسلمين لا يراهنون عليك، أنت بعيد عن طموحهم، لكنهم يراهنون على أولادك، لذلك حتى برامج الكرتون تبنى على الإلحاد والإباحية، وأنت لا تدري، حتى البرامج التي نستوردها للأطفال، ويتعلقون بها أشد التعلق تهدم الدين، تهدم العقيدة، تهدم السنة، فلذلك إذا أردتم أن تقدموا لأمتكم شيئاً، وهي في محنة ما بعدها محنة، والعالم كله يحاربها، وكأن حرباً عالمية ثالثة أعلنت على المسلمين، فاعتنوا بأولادكم، ألحقوهم بالمساجد، ليكونوا معكم في الدروس، أكرموهم، أحسنوا إليهم، اعتنوا بصحتهم، بدراستهم، بأخلاقهم.
كنت مرةً في القاهرة في أحد الأعياد، ولعله عيد الأضحى، فلفت نظري أن هناك تقليداً بالقاهرة، أن الأسر في معظمها لا تسمح لأولادها أن يذهبوا في العيد وحدهم، خوفاً عليهم، مهما علت مرتبة الأب، قد يكون وزيرًا، يأخذ بنفسه أولاده ليلعبوا بإشرافه.
هنا يقع في بعض الأعياد من المخازي في أثناء لعب الأطفال، وفي الساحات العامة ما يندى له الجبين، ابنك أمانة في عنقك، لذلك ورد في بعض الأحاديث:
(( خير كسب الرجل ولده ))
[الجامع الصغير عن أبي بردة بسند ضعيف]
فلذلك بأيدينا أولادنا، هم ثمرة قلوبنا، وهم أملنا، وهم أمتنا في مستقبلها، فاعتنوا بالأولاد، وبينت لكم أن 12 رجلاً هم قوام بيعة العقبة الأولى، هم نواة العالم الإسلامي اليوم، والأمل كبير، الله عز وجل لا يتخلى عنا، وهذا الدين دينه، ولا تقلق على هذا الدين إنه دين الله، ولكن اقلق ما إذا سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون جندياً له.
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع بيعة العقبة الثانية.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:13 PM   #25


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الخامس و العشرون )

الموضوع : بيعة العقبة الثانية






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
بيعة العقبة الثانية: دلالاتها
الحياة دون عمل صالح وقت ضائع وعيش تافه
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، والموضوع اليوم بيعة العقبة الثانية، ولكن قبل أن نبدأ في الحديث عن هذه البيعة يمكن أن نقول: إن الإنسان حينما يسمح الله له أن يكون علَماً من أعلام الدعوة، أو حينما يكون جندياً من جنود الحق، أو حينما يكون أداة للخير، فهذا أعظم عطاء لله عز وجل.
(( أنا خلقت الخير والشر، فطوبى لمن قدرت على يده الخير، وويل لمن قدرت على يده الشر ))
[ رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ].

إن هذا الإسلام العظيم الذي انتشر في الخافقين، والذي يعد المسلمون اليوم مليارًا وثلاثمئة مليون، بداية هذا الدين من بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية، فالذين كانوا في هذه البيعة أو في تلك هم أعلام الأمة، فما لم يكن لك دور في بناء هذا الدين، أو في نشر هذا الحق فحياة الإنسان عندئذٍ تافهة لا معنى لها، ولو كان غنياً، ولو كان قوياً، لأن الموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وصحة الصحيح، ومرض المريض، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم.
إنّ الله عز وجل أعطى المال لمن لا يحب ولمن يحب، أعطاه لقارون، وهو لا يحبه، أعطاه لسيدنا عثمان، وهو يحبه، إذاً ليس المال مقياساً، أعطى المُلك لمن يحب، ولمن لا يحب، أعطاه لفرعون وهو لا يحبه، إذاً ليس الملك مقياساً، لكن كما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
( سورة يوسف ).
فإذا كان نصيبك من الله علم وحكمة فهذا من نوع عطاء الله لأنبيائه ولأحبابه ولأوليائه، فانظر ما العطاء الذي خصك الله به.
أيها الإخوة، حديث شريف يقصم الظهر، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تُنْظَرُونَ إِلاّ إِلّا فَقْرًا مُنْسيًا، أَوْ غِنًى مُطغيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِداً، أَوْ هَرَمًا مُفْنِدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدّجّال، فَشَرّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوْ السّاعَةِ ؟ فالسّاعةُ أَدْهَى وَأَمَرّ ))
[الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ].
هذا الكلام أيها الإخوة أسوقه لكم لنعلم علم اليقين أن حياة من دون عمل صالح حياة تافهة، والذي يقدم على الله من دون عمل صالح لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا، بل له عند الله صغار، لأنه أمضى حياته في مصالحه وشهواته ونزواته، لذلك لما قرأت عن بيعة العقبة الثانية وجدت هؤلاء الذين حضروها هم عماد هذا الدين، كلٌّ ركنٌ ركين.
حيثيات بيعة العقبة الثانية ومعانيها
أيها الإخوة، في العام التالي الذي تلا بيعة العقبة الأولى قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسلمي الأوس والخزرج 73 رجلاً وامرأتان، وترون أن النساء كن في البيعة الأولى وفي بيعة العقبة الثانية، فالمرأة كما هو ثابت مساوية للرجل في التكليف والتشريف والمسؤولية وهي شبه الرجل عند الله، لكن للمرأة خصائص، وللرجل خصائص، وخصائص كل منهما كمال مطلق للمهمة التي أنيطت بهما.

فبايعوه بيعة العقبة الثانية، وقد بينت لكم في اللقاء السابق أن الحياة الدنيا دار تكليف، لا دار تشريف، ودار عمل لا دار أمل، ودار دفع ثمن الآخرة، فلذلك هذه البيعة التي بايع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبيهم من نوع بيع النفس.

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾
( سورة التوبة الآية: 111 ).
المؤمن باع نفسه لله، أعطى من ماله، أعطى من وقته، أعطى من جهده، أعطى من خبرته، أعطى من صحته، من أجل أن يسعد في الدار الآخرة إلى أبد الآبدين.
إذاً: بايعوه أن يمنعوه إذا قدم عليهم، الآن هناك تفاصيل، إذا قدم عليهم، وهاجر إليهم بايعوه، أي منعوه مما يمنعون منه نسائهم وأبناءهم وأنفسهم.
الجماعة المؤمنة رحمة والفرقة عذاب

إن المؤمن يعيش في جماعة، ومن نظلم الجماعة أن الكل للواحد، والواحد للكل، وأنتم قد لا تشعرون بقيمة الجماعة، لأن انتماء الإنسان في هذا الأيام إلى نفسه، همه بيته فقط، همه أولاده، همه دخله، لا يهتم بشأن المسلمين، وكلما نمت روح الجماعة في مجتمع ما، كان هذا المجتمع أقوى وكان أقرب إلى الله، لأن الله عز وجل يقول:
(( يدُ اللهِ مع الجماعة ))
[ رواه الترمذي عن ابن عباس ].
وفي رواية:
(( يد الله مع على الجماعة من شذ شذ في النار ))
[ رواه الحاكم عن ابن عمر ].
(( عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ، وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ))
[رواه أحمد في مسنده والترمذي والحاكم في المستدرك عن عمر ].
(( فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))
[رَوَاهُ أبُو دَاوُد عن أبي الدرداء ].
فوعدوه على أن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم ، وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام دار يمكن أن يتخذ قاعدة للانتشار، وهو ما حصل بالفعل، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة.
بيعة العقبة الثانية تحوُّلٌ كبير في الدعوة إلى الله
إخوتنا الكرام، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم في مكة المكرمة مُنعوا أن يجابهوا أحداً:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
( سورة النساء الآية: 77 ).

لم يكن هناك إذن في مكة المكرمة أن يجابه المسلمون أحداً، مع أن قريشاً بالغت في التنكيل بهم، وفي تعذيبهم، وفي مقاطعتهم، وبأعمال لا تحصَى، ومع ذلك التوجيه القرآني، وتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام يمنع أن تكون هناك مواجهة بين المسلمين في مكة، وبين أعدائه، وقد يسأل أحدكم: لماذا ؟ لأن البيت الواحد فيه مسلم، وفيه مشرك ، فلو سُمح بالمواجهة لكانت حرباً أهلية، المسلمون في مكة ليس لهم كيان، مؤمنون متفرقون يجمعهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن ليس لهم كيان، لذلك كانت بيعة العقبة تحولاً كبيراً في الدعوة إلى الله، صار هناك مكان يضم المسلمين، ثم صار هناك كيان، ثم صار هناك مجتمع، وعلى رأس هذا المجتمع رسول الله، عندئذٍ لما كان هناك كيان مستقل له قيادة مؤمنة، قال تعالى:
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾
( سورة الحج ).
لذلك هذه البيعة كما قلت قبل قليل: كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام داراً يمكن أن يتخذ قاعدة للانتشار، وهو ما حصل بالفعل، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة.
تفاصيل بيعة العقبة الثانية ومعانيها
الآن يحدثنا الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري عن تفاصيل بيعة العقبة الثانية فيقول:
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعني تواعدنا معه ـ بالعقبة من أوسط أيام التشريق.

اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك في يوم النحر، والأيام الثلاثة اسمها أيام التشريق، فهذه البيعة كانت في أوسط أيام التشريق، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين ـ الإسلام ضعيف، سيد الخلق لن يستطع أن يعدهم في وضح النهار، بعد ثلث الليل، وخرجوا متخفين ـ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن 73 رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مَن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة
إنّ الأمر في البدايات صعب، لكن من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، وقد تدخل على إنسان حصل علماً عالياً، ودرس 44 سنة، ولم ينم الليل، ولم يعرف طعم الحياة، بعد هذه الدرجة العلمية العالية جداً قد يأتيه دخل كبير، وقد يحظى باحترام كبير، هذه المكانة وهذا الدخل من هذه السنوات الطويلة التي أمضاها في طاعة الله، فمن لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة، حتى جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم، معه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه.
أثر القرابة وشأنها في الدعوة
كما ترون علاقات القرابة لها شان كبير في الدعوة، لذلك قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء ).

وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، وأن يتوثق له، فلما جلس كان أول المتكلمين العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب إنما يسمون الحي من الأنصار الخزرج ـ قال: يا معشر الخزرج، إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، منعنا محمداً من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز في قومه، ومنعة في بلاده، وإنه قد أبى إلا الانحياز لكم، واللحاق لكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه، ممن خالفه فأنتم، وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه.
الوضوح والبيان في بداية الدعوة والعمل
هذا يعلمنا أنك أيها الأخ في كل أعمالك كن واضحاً، كن واضحاً في البداية ، وضح كل شيء، وبيّن كل شيء، واستفهم عن كل شيء، كلما كان الأمر واضحاً في البداية كان ناجحاً في النهاية، لذلك أكثر المشكلات التي تتفاقم بين المسلمين، لأن البداية ليست واضحة، لذلك قيل: " الجهالة في الإِسقاط لا تفضي إلى المنازعة ".

فالعباس بن عبد المطلب قال كلاماً دقيقاً، قال: يا معشر الخزرج، إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز في قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم واقون له لما دعوتموه إليه، مانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
مرة ثانية: في عقد الزواج وضح كل شيء، في عقد الشراكة وضح كل شيء، في عقد البيع وضح كل شيء، في أي اتفاق، أو أي بيع، أو أي شراء، أو أي عمل، كن واضحاً في البداية تسترح في النهاية.
فقلنا له: لقد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
قضية أن تكون خادماً للحق، أن تكون جندياً للحق، أن تكون جندياً للحق، أن تسخر إمكاناتك للحق، أن تسخر وجاهتك للحق، هذا مقام كبير عند الله، الآية الكريمة التي خاطب الله سيدنا موسى عليه السلام:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾
( سورة طه ).

أنت لي، قال: فلتكلم النبي عليه الصلاة والسلام فتلا القرآن، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام في حلف معهم، يمنعونه من خصومه كما يمنعون نساءهم وأبناءهم، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزواجنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلق، ورثناها كابراً عن كابر، قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إننا بيننا وبين الرجال حبالاً، إن بيننا وبين الرجال ـ أي اليهود الذين كانوا في المدينة ـ حبالاً وإنا قاطعوها، ـ يعني اليهود ـ فهل عفيت إن نحن فعلنا ذلك، أيْ قطعنا علاقاتنا مع اليهود، وانضممنا إليك، فعل عفيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا، هل يمكن هذا ؟!
أرأيتم إلى هذه الصراحة، وإلى هذه الجرأة، وإلى هذا الأدب، وإلى هذا الاستفهام وإلى ذاك التوضيح ؟
مرة ثانية: إن تسعين بالمئة من مشكلات الزوجين ناتجة عن الجهالة، وعدم التوضيح والمخادعة، كن واضحاً إذا خطبت امرأة، كن واضحاً إذا شاركت إنساناً.
إن أيّ كلام فيه جهالة، ضبابي، في تعمية، في مخاتلة تتفجر بعده الأحداث، هنا العباس بن عبد المطلب قال: هو في عز ومنعة، فإذا انحاز إليكم فهل أنتم مانعوه مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم ؟ من الآن قولوا، وهذا الأنصاري بالمقابل قال: يا رسول، الله إن بيننا وبين القوم حبالاً، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله، ونصرك أن تدعنا، وأن تتركنا إليهم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الأوفياء، وسيد الأسخياء، وما عرف التاريخ أوفى من رسول الله، قال:
(( بل الدم الدّم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم ))
قصة: عبرة وموعظة
لذلك جاءت الأنصار عقب معركة حنين، حين أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حديثي العهد بالإسلام الغنائم، بل معظم الغنائم، ولم يعطِ الأنصار شيئاً ، فوجدوا عليه في أنفسهم، وخافوا أنه إذا انتصر، وأظهره الله أن يعود إلى مكة، ولا يبقَى معهم، فجاءه سيد الأنصار سعد بن عبادة، قال: (( يا رسول الله، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم من أجل هذا الفيء الذي وزعته، ولم يأخذ منه الأنصار شيئاً، فقال: أين أنت يا سعد ؟ فقال سعد: ما أنا إلا من قومي، فقال: اجمع لي قومك، فجمع له الأنصار، وألقى كلمة تكتب بماء الذهب، قال:
يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، من أجل لعاعة تألفت بها قوم ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، يا معشر الأنصار، مقالة إن قلتموها صدقكم الناس، أما إنكم إن شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم به: أتيتنا مكذباً فصدقناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك ))

[السيرة النبوية بسند صحيح]
أرأيت إلى هذا الوفاء ؟ وهو في قمة نجاحه، وقد دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

(( يا معشر الأنصار، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي، ألم تكونوا عالة فأغناكم الله ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم، يا معشر الأنصار، أوجدتم علي في أنفسكم من أجل لعاعة تألفت بها قوماً حتى يسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم ؟ قال: فبكوا حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظا ))
أيها الإخوة، هذه القصة أين مكانها في السيرة ؟ مع وفاءه أم مع رحمته ؟ أم مع تواضعه ؟ أم مع وضوحه ؟ أم مع حنكته في القيادة ؟ طوق الحادثة، وامتص النقمة، وأعلن عن وفائه للأنصار، وفي رواية أخرى:
((بل المحيى محياكم، والممات مماتكم ))
((ولو سلك الأنصار شعباً، وسلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ))

أنا لا أصدق أن في العالم كله إنسان أوفى من رسول الله، قال: (( بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم مني، وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم ))
قال كعب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ))
هؤلاء النقباء هم نخبة، هؤلاء الذين بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد هذه البيعة قام العباس بن عبادة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل مِنى غداً بأسيافنا، نحارب معك غداً، فقال عليه الصلاة والسلام: لم نؤمر بهذا.
كما قلت قبل قليل: هناك توجيه رباني ألا يواجه المسلمون أحداً في مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى رحالهم.
وفي صباح اليوم التالي ـ الآن دققوا ـ في صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له بالهجرة، هم سألوا عامة أهل الخزرج، فقال المشركون: وحلفوا بالله بأنهم لم يفعلوا كذلك، هم سألوا أناساً ما حضروا بيعة العقبة، فأسموا بالله أنهم ما فعلوا كذلك، أرأيت إلى قول الله عز وجل : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
( سورة الحج الآية: 38 ).
((ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه، وأرسخت الهوى من تحت قدميه ))
[ أخرجه ابن عساكر عن كعب بن مالك ].
فحلفوا أنهم لم يفعلوا ذلك، مرة النبي أرسل سيدنا حذيفة في معركة، وكان البرد شديداً، والجوع أشد، والقلق أشد وأشد، فأمره النبي أن ينطلق إلى معسكر العدو، وأن يجلس بينهم ليستمع إلى أخبارهم، وماذا يزمعون أن يفعلوا، فجلس، فقال أبو سفيان: لعل فيكم غريباً، ليتفقد كل منكم صاحبه، فسيدنا حذيفة بتوفيق الله عز وجل بادر، وأسرع إلى من على جنبه، قال له: من أنت ؟ هو المطلوب، قال له: من أنت ؟ فأجابه.

إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ أحياناً الله عز وجل يحمي دعوة كبيرة جداً بشيء بسيط جداً، هذا الإسلام العظيم، وهذا الدين القويم الذي يدين له ثلث الأرض، كيف حماه الله في الغار ؟ بالعنكبوت، العنكبوت نسج، فاستنبطوا أن هذا الغار ليس فيه أحد، والدليل العنكبوت، لو كان فيه أحد لخرق هذا النسيج.
إن من تمام عظمة الله أن يكافئ عباداً بأقل الأشياء، وأضعفها، ويمكن أن يدمر إنساناً بأقل الأسباب.
وفي صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم له بالهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا ذلك، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم، وبذلك مرت هذه الأزمة بسلام، وعاد الأنصار إلى يثرب، وهم ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين بلهف كبير. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾
( سورة التوبة الآيات: 38 ـ 39 ).

إذا دعيت إلى خير فبادر إلى فعل الخير، لأنك إن لم تبادر فسيأتي من يبادر:
﴿ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ﴾
( سورة التوبة الآية: 39 ).
آية دقيقة جداً:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
إن لم تبادر فغيرك سيبادر، إن دعيت إلى عمل صالح، واعتذرت وتنصلت، وجئت بالحجج الواهية يأت غيرك، ويأخذ شرف هذا العمل، لذلك إذا دعي الإنسان إلى خير من تمام توفيقه ومن تمام عقله أن يسارع، قال تعالى:
﴿ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
( سورة المطففين )
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
( سورة الصافات )
هذه بدايات الإسلام، وبدأ الدين غريباً، وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( أناس صالحون في قوم سوء كبير ))
وقد قال الإمام مالك: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ".

صلح أولها بإخلاص لله، وصلح أولها بمحبة رسول الله، وصلح أولها بالتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، فما لم نعد سيرة السلف الصالح في التفافنا حول النبي صلى الله عليه وسلم فليس هناك من أمل أن نتقي كيد الكائدين، وعدوان المعتدين.
أيها الإخوة الكرام، حقيقة دقيقة جداً يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
( سورة الأنفال الآية: 33 ).
وهذه الآية إلى يوم القيامة، لكن في حياة النبي، ما دام شخص النبي بين ظهرانيهم فهم في مأمن من عذاب الله، ولكن بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملإ الأعلى فلها معنى آخر: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

أي أن سنتك مطبقة فيهم، إذا طبقنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن في مأمن من عذاب الله.

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
( سورة الأنفال ).
أما إذا لم نطبق، وخالفنا ثم ندمنا، واعتذرا واستغفرنا، أيضاً فنحن في مأمن آخر ، نحن آمنون إذا طبقنا منهج النبي عليه الصلاة والسلام، ونحن آمنون إذا استغفرنا الله بعد التقصير في تطبيقه.
والشيء الدقيق جداً أن الله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
( سورة آل عمران ).
فعلامة محبة الله في قلبك أنك تتبع النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الكرام، أرجو الله في دروس قادمة أن نتابع فقه السيرة، وننتقل بعدها إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والهجرة حركة، والإسلام حركي، وليس سكونياً، والهجرة بمعناها الواسع وهذا بإمكاننا أن نطبقه، من هجر المنكر أو هجر المعصية أو المخالفة فهو عند الله مهاجر.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:15 PM   #26


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( السادس و العشرون )

الموضوع :الهجرة -1- المفاهيم العامة للهجرة





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا في دروس سابقة بعد بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية إلى الهجرة، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة.
مفهومات الهجرة في الإسلام
المفهوم الأول: الهجرة حركة
بادئ ذي بدء، الهجرة حركة، وليست سكوناً، لذلك الإسلام حركي، وليس الإسلام سكونياً، أي أنك استمعت، وأعجبت، وأثنيت، ومدحت، وقدرت، وأكبرت، ولم تفعل شيئاً فأنت لست على شيء. ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾
( سورة المائدة الآية: 68 ).
ويا أيها المسلمون، لستم على شيء حتى تقيموا أحكام القرآن في حياتكم، الإسلام حركة، سلوك، التزام، عطاء، صلة، مجاهدة، فإذا بقي الإنسان معجباً بالإسلام إعجاباً نظرياً، أو إعجاباً سكونياً، أو إعجاباً لا يسبر عملاً، هذا فالإنسان أبعد شيء عن حقيقة هذا الدين.
كان من الممكن أن يستمر الإسلام في مكة المكرمة بترتيب إلهي، أن يخضع أهل مكة إلى النبي، ويبقى النبي في مكة، ولكن لماذا شاءت حكمة الله أن تشتد المعارضة في مكة، وأن يبالغ القرشيون في التنكيل بأصحاب النبي، وأن يبدو الطريق مسدوداً للدعوة في مكة، عندها كانت الهجرة.
هذا الدرس بليغ، ما لم تتحرك، ما لم تلتزم، لك حرفة لا ترضي الله ينبغي أن تتركها، لك سلوك لا يرضي الله ينبغي أن تتوب منه، لك علاقة مشبوهة ينبغي أن تقطعها، اعتقدت أن العلاقة مع هذا الإنسان تنفعك مع الله ينبغي أن تقيمها، أما أن تبقى ساكناً، وهذا من أصعب ما يواجه المسلمون به اليوم أعداءهم، سكون، انتظار، ماذا يفعل بنا ؟ دون حركة، دون سعي، دون تفكير في المستقيل، لذلك المفهوم الأول للهجرة يعني الحركة ، المسلم كائن متحرك، وليس كائناً ساكناً، والإنسان يميل إلى السكون، والقعود، والاستسلام ويندب حظه، ويندب أعداءه، ويندب الظروف الصعبة التي يمر بها، ليس هذا من الإسلام في شيء.
النبي عليه الصلاة والسلام واجه أعتى أنواع الظلم، والكفر، والاضطهاد، والتنكيل أصحابه يعذبون أمامه، ولا يملك شيئاً، يقول: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.
المفهوم الثاني: هجرة المعاصي
أيها الإخوة، أوسع معنى للهجرة أنها حركة، والإسلام حركة، وفي معنى واسع آخر ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
[ رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو ].
أنت مهاجر، بعد ما أُغلق باب الهجرة من مكة إلى المدينة هو في الحقيقة مفتوح بين كل مدينتين يشبهان مكة والمدينة، أما الهجرة بالذات من مكة إلى المدينة فأُغلق بابها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))
[ متفق عليه عن ابن عباس].
لكن بين أيّ مدينتين تشبهان مكة والمدينة الهجرة قائمة بينهما.
المعنى الثاني الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام الذي يوسع معنى الهجرة الضيق:

(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
تركت هذه الحرفة التي بُنيت على معصية، فأنت مهاجر تركت هذه السهرة التي فيها اختلاط فأنت مهاجر، تركت هذه العلاقة التجارية التي فيها شبهة فأنت مهاجر تركت إيداع المال في مؤسسة ربوية، وأخذت رأس مالك فأنت مهاجر
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
أعطى النبي عليه الصلاة والسلام مفهوماً ثالثاً للهجرة، الأول حركة: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
( سورة الأنفال الآية: 72 ).
أول مفهوم حركي.
المفهوم الثاني: أن تترك ما نهى الله عنه فأنت مهاجر .
المفهوم الثالث: هجرة المعاصي
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
[ رَوَاهُ مُسلِم عن معقل بن يسار رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ ].
أي في زمن الفتن، في زمن النساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، في زمن الفضائيات، في زمن الإنترنت، في زمن أن يعم الفسق والفجور أهل الأرض، في زمن أن يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، في زمن لا يأمر الناس فيه بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، في زمن أن يأمر الناس بالمنكر، وينهون عن المعروف، في زمن أن يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، في زمن أن تضيع الأمانة، وأن يكذب الصادق، وأن يصدق الكاذب، وأن:
(( يكون الولد غيظا، والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا ))
[رواه الخرائطي من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن مسعود ].
في زمن يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغيّر، إن تكلم قتلوه، وإن سكت استباحوه، في زمن موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ؟ المقتول فيمَ قُتل، تطهير عرقي، في زمن التناقضات، في زمن أن تحتقر الأَمَة ربّتها التي ربّتها، تقول: أمي دقة قديمة، هي مثقفة، في زمن أن يوسد الأمر لغير أهله، في زمن أن ترتكب المعصية على قارعة الطريق، في زمن أن يكون الفجار هم علية القوم، في هذا الزمن:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
إذا عبدت الله في زمن الفتن، في زمن أن يمس الناس غبار الربا، في زمن أن يُكذب الصادق، ويصدق الكاذب، فهذه العبادة بنص الحديث الصحيح القدس:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
أول مفهوم: الحركة.
المفهوم الثاني: أن تدع ما نهى الله عنه.
المفهوم الثالث: أن تعبد الله في زمن الفتن.
توقيت الهجرة بالمفهوم العام
ولكن متى ينبغي أن تهاجر ؟ ومتى ينبغي ألا تهاجر، أنا أتكلم عن الهجرة بالمفهوم الواسع.
أضرب مثلاً: أُرسلتَ ببعثة إلى بلد غربي لتنال الدكتوراه، من جامعة بالذات، إذا مُنعت من دخول هذه الجامعة، وقرار إيفادك ينص على هذه الجامعة، ولم يسمح لك بالانتساب إلى هذه الجامعة أيعقل أن تبقى في هذا البلد ؟ الجواب: لا، علة وجودي الوحيدة في هذا البلد أن أنتسب لهذه الجامعة، وأن أنال الدكتوراه، فإذا مُنعت من أن أنتسب إليها فلا معنى للبقاء في هذا البلد، هذا المثل.
التطبيق: هل يعلم الأخ المؤمن ما علة وجوده في الأرض ؟ أن يعبد الله.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
( سورة الذاريات ).
سبب الهجرة العامة ودليلها
أن يعبد الله بالمفهوم الواسع، طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فإذا كنت في مكان، وحيل بينك وبين أن تعبد الله، وحيل بينك وبين أن تحقق علة وجودك في هذا المكان، هل تبقى في هذا المكان ؟ إن كان في الإمكان أن تعبد الله في مكان فابقَ فيه، وإذا كان في الإمكان أن تصلح هذا المكان ليتاح أن تعبد الله فيه فابقَ في هذا المكان، أما إذا مُنعت أن تعبد الله، وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً في هذا المكان فعليك أن تغادر هذا المكان إلى مكان تعبد الله فيه، هذا كلام، ما الدليل ؟ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، الدليل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
( سورة النساء الآية: 97 ).
معنى الاستضعاف في الأرض
المعنى الأول: عدم الاستطاعة لعبادة الله
ما معنى مستضعفين ؟ أي لا نستطيع أن نفعل شيئاً وفق اختيارنا، لا نستطيع أن نعبد الله، لا نستطيع أن نؤدي شعائر الإسلام، لا نستطيع أن نصلي، لا نستطيع أن نحجب نساءنا، لا نستطيع أن نفعل شيئاً يرضي ربنا،

﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
يعني كان الذي يتولى الأمر يمنع الناس أن يحققوا شعائر دينهم.
المعنى الثاني: الضعف أمام الشهوات
هناك معنى آخر:

﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
أي: ضعفنا في مكان ما أمام الشهوات، أمامي كأس من الماء شربت من رشفة، قلت: هذا العمل في بلاد المسلمين بمَ يقيم ؟ هل يعدّ الذي شرب الماء قد ارتكب منكراً ؟ لا يعد منكرا أبداً، هذا الماء ماء عذب زلال أنزل الله من السماء، فاختزن في الأرض، وظهر ينبوع، وشربنا منه، والناس شركاء في ثلاث، في الماء، والإنسان خلق فيه، أو خلقت فيه حاجة إلى الماء.
أقسمت إلى أحد الإخوة الكرام البارحة أن الزنا في بلاد الغرب كشربة الماء تماماً، ويستحيل أن تجد فتاة عذراء هناك، بل إن الفتاة العذراء متهمة في عقلها، فإذا كان الإنسان في بلد كهذا البلد المعاصي ترتكب على قارعة الطريق، وفي الحدائق، وأمام الناس، ترتكب الفاحشة العظمى في الطريق فليهاجر.
كنت أضرب على هذا بعض الأمثلة:
إن شاباً أعجبته فتاة هناك فاستأذن والده بالزواج منها، والأب كان زير نساء، هذا مصطلح معروف، قال: لا يا بني، إنها أختك، وأمك لا تدري، فأحجم عنها، ثم أعجبته فتاة ثانية، فاستأذن والده، قال: لا يا بني، إنها أختك أيضاً، وأمك لا تدري، أعجبته فتاة ثالثة، فقال: لا يا بني، إنها أختك أيضاً، وأمك لا تدري، هذا الشاب ضجر فأخبر والدته، قالت له: خذ أين شئت، فأنت لست ابنه، وهو لا يدري، هكذا.
فإذا كنت في هذا البلد، في بلد غربي ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق وضعفت أمام شهوتك، هذا الضعف من نوع آخر، هناك ضعف قمع، وضعف غلبة، غلبتك شهوتك، فإذا كنت في بلد ضعفت أمام شهواتك، ولأن الشهوات مستعرة، وسبلها ميسرة أيضاً فهاجر من هذا البلد، متى أهاجر ؟ إذا كنت مستضعفاً.

الترغيب في سكنى بلاد الشام
الاستضعاف الأول: أن أُمنع من تأدية شعائر الإسلام، نحن في فضل كبير، والحق يقال: المساجد ممتلئة، وعامرة بالمصلين، ولك أن تفعل كل ما يأمرك به الدين، ولك أن تحجب فتياتك، ونساءك.
نحن في بلد تكلم عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَمْرِ بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( بَيْنَا أَنَا فِي مَنَامِي أَتَتْنِي الْمَلَائِكَةُ، فَحَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فَعَمَدَتْ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا، فَالْإِيمَانُ حَيْثُ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ))
[أحمد]
(( طوبى لمن له فيها مربض شاة ))
كحجم هذه الطاولة، (( طوبى لمن له فيها مربض شاة، الداخل إليها فبرضائي، والخارج منها بسخطي ))
[ورد في الأثر]
هناك أحاديث صحيحة في الترغيب والترهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فضل السكنى بالشام، ذكرت هذا من أجل أهمس من آذان من اغتربوا، وأقاموا في بلاد الغرب، وضعفوا أمام أولادهم، حيث لا تستطيع إذا رأيت مع ابنتك في غرفتها الخاصة شاباً في فراشها، إذا غضبتَ فأنت لست حضارياً، أنت لست مهذباً، لأن هذا الذي ينام معها جاء بطلب منها، هو مدعو، وأنت إنسان همجي حينما ترى ابنتك تحتضن شاباً في غرفتها أو هي في المدرسة فتنهاها عن ذلك، لذلك تؤخذ إلى دوائر الشرطة كي توقع تعهداً ألا تغضب مرة ثانية إذا رأيت شاباً مع ابنتك، في مثل هذه البلاد لا يعاش فيها، لذلك:
(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
[ رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن جرير ].
لي طالب أقام في بلد بعيد ادعت زوجته التي هي حلاله، أنه التقى بها وهي ليست راضية فحُكم عليه بسنتين سجنا، هذا اسمه بالقانون الغربي اغتصاب الزوجة، زوجته وهو بحاجة إليها حلاله، (( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))
لأن عندهم الزواج عقد بين شخصين، لا بين ذكر وأنثى، قد يكون العقد بين رجلين، أو بين امرأتين، أو بين رجل وامرأة ، والإجهاض مسموح به، والزوجة ليست مطالبة أن تتابع زوجها، لها أن تسكن في مكان آخر، وهذا حديث يطول عن مؤتمر السكان، وعن توصيات مؤتمر السكان، وعما يفرض على العالم الإسلامي من إباحيات مؤتمر السكان.
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً ﴾
( سورة النساء الآية: 97 ).
﴿ فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
كم نوعًا من الضعف ؟ ضعف قمع، وضعف غلبة شهوة، فمثل هاتين الحالتين إذا كنت ترجو الله والدار الآخرة ينبغي أن تهاجر إلى بلاد المسلمين، إلى بلاد تؤدي فيه الصلوات بحرية، إلى بلاد تستطيع أن تحجب بناتك.
أيها الإخوة الكرام، هذه علة الهجرة، لكن المشكلة أن هؤلاء المسلمين الذين أقاموا في بلاد الغرب وجدوا الحياة هناك طرية، والعيش رغيداً، والحاجات موفرة، وفي حريات، وفي إباحية والإنسان فيما يبدو له حقوق كثيرة جداً محققة هناك، فآثروا دنياهم على أخرتهم، لذلك لا توازن بين دولة متقدمة جداً، وبين بلد إسلامي متخلف، وازن بين الدنيا والآخرة.
في رمضان كنت مدعواً إلى طعام الإفطار فجلس إلى جانبي رجل عرّفني عن نفسه بأنه رائد فضائي سوري، ركب مركبة فضائية وصل إلى منطقة انعدام الوزن بين الأرض والقمر، قلت له: هذا الجنين الذي في بطن أمه حجمه بعد أن يبلغ الابن تسعة أشهر 750 سم مكعبًا، وهو جالس في مكان مرتاحًا، هناك سائل أمينوسي، يحقق له الدفء والراحة ، طعامه وافر، ليس عنده مشكلة، حينما يعلم أنه سيخرج يتألم أشد الألم، لكن غاب عنه أنه سيخرج من ضيق الرحم، إلى سعة الدنيا، سوريا وحدها فيها ساحل، وفيها شمال، وفيها جنوب، وفيها شرق، وفيها بادية، أليس كذلك ؟ وفي بلاد أوربا، وفي بلاد أمريكا، وفي بلاد آسيا، إفريقيا، أقينوسيا، استراليا، وفي ريادة فضاء.
في الأثر:

(( ينتقل المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ))
فهذا الذي آثر الدنيا ما عرف الآخرة، وقد خسر أكبر خسارة.
أعظم خسارة تتحقق أن تخسر الآخرة، فهذا الذي آثر الدنيا على الآخرة ما عرف قيمة الآخرة، لذلك يقول:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ* يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾
( سورة الفجر ).
فهذا الذي استمرأ الحياة في بلاد يعصى الله فيها على قارعة الطريق، ويضعف الإنسان أمام شهواته هناك، هذا الذي فعل ذلك خسر الآخرة، فلذلك الهجرة جزء لا يتجزأ من الدين.
مفهومات الهجرة الضيقة وتطبيقاتها
أيها الإخوة، لو وصلنا إلى مفهوماتها الضيقة: قد تكون في حرفة لا ترضي الله يقتضي مفهوم الهجرة أن تدعها إلى حرفة ترضي الله.
حدثني أخ قال لي: في رمضان الماضي وأنا راكب مركبتي متجهًا إلى أحد المساجد لأداء صلاة التراويح، استوقفه شرطي لمخالفة، قال لي: أعطيته خمسين ليرة فرفضها، توهمت أنه لم تعجبه، أعطيته مئة ليرة، قال له: لا تحاول، أنا تائب إلى الله، ولن آخذ منك قرشاً واحداً، قال له: انظر إلى يدي، أنا أنقل الرمل مساء لئلا آخذ درهماً حراماً، هذا الشرطي مهاجر، أليس كذلك ؟ والقصة لها تتمة رائعة، فهذا الإنسان عنده معمل ألبسة درجة أولى أعجب بتوبة هذا الشرطي فأخذه إلى معمله وكسا أهله جميعاً بأحدث الألبسة، هذا شرطي مهاجر.
لما تنتقل فجأة في وضع فيه معصية إلى وضع في طاعة فأنت مهاجر عند الله، سهرة لا ترضي الله، فيها لعب نرد، وفيها غناء، فيها مقاهٍ، فيها نساء كاسيات عاريات، والسهرة عمرها عشر سنوات، بعد أن عرفت الله أنا أعتذر، أنا لا أجلس في مثل هذه الجلسات، أنت مهاجر.
لك حرفة مبنية على معصية غيّرها.
حدثني أخ قال لي: عندي مطعم، من خمس وعشرين سنة مسموح فيه الخمر، قال لي: والله أرباحي فلكية، أنا متعاقد مع 18 شركة أجنبية، والأسعار عشرة أمثال، لكن فيه خمر، تاب إلى الله، بعد أن تاب إلى الله هبط الدخل إلى واحد من عشرين، لأن 18 شركة ألغوا العقد معه باعتبار إلغاء الخمر، لأنهم أجانب، صاحب هذا المطعم ما تصنيفه عند الله ؟ مهاجر، هذا هجر المنكر.
امرأة سافرة، ولها مكانة اجتماعية، فلما عرفت أن الحجاب جزء من الدين تحجبت، وقطعت كل علاقاتها مع من كنّ على شاكلتها فهي مهاجرة،

(( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
إنْ ثيابك، أو في بيتك، أو في علاقاتك، أو في حرفتك، أو في عملك.
قال لي أخ: أنا منعَم عليّ والحمد لله، وأسافر دائماً بالدرجة الأولى، أنا مرة دعيتُ لمؤتمر، طبعاً الداعي أمير بالخليج، بالدرجة الأولى، قرأت بطاقة الطائرة 50 ألفًا، 25 ألفًا زيادة على الضعف، يضعون معطفك في مكان، هناك كأس عصير، وهناك بعض المجلات الزائدة، وثمة أخوان لنا كرماء، بعد أن عرفوا الله ألغوا الدرجة الأولى من حياتهم، لأن الزيادة في هذا المال الفقراء أولى بها، السفر كله ساعة مثلاً أو ساعتين فأوقف الدرجة الأولى، هذا مهاجر، اركب طائرة ولا مانع، وحقق أعمالك، لكن لا داعي أن تدفع الضعف من أجل أشياء بسيطة جداً، والناس في أمسّ الحاجة لهذا المبلغ.
لو أردت أن أسرد عليكم أنواع من الهجرة لا تعد ولا تحصى، لمجرد أن تنتقل من موقع إلى موقع، من حرفة إلى حرفة، من علاقة إلى علاقة، من نمط إلى نمط، من سلوك إلى سلوك، من مكان إلى مكان.
أحد الإخوة الكرام حج بيت الله الحرام، لشدة ما امتن الله عليه بحالة مسعدة عاهد الله ألا يغادر بلده إلا إلى الحرمين الشريفين، هذا أيضاً مهاجر،

(( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ))
أردت بهذا الدرس أيها الإخوة أن يكون حول مفهومات الهجرة، ونحن على مشارف ذكرى الهجرة.
لماذا اختار سيدنا عمر رضي الله عنه التأريخ الهجري ليبدأ من هجرة النبي ؟ الهجرة حركة، لذلك أعيد عليكم هذه الآية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
الضعف نوعان: ضعف قمع، وضعف خضوع للشهوة.
﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
هل هناك وعيد أشد من هذا الوعيد ؟.
كنت في مؤتمر في لوس أنجلوس، وعقب إلقاء المحاضرة قالت لي امرأة محجبة هذه الكلمة، قالت لي: أنا فلانة أخت فلان، فلان صديقي الحميم في الشام، قلت لها: أهلاً وسهلاً فبكت فوراً، خير إن شاء الله، قالت لي: ابني ملحد، وابنتي راقصة، هذا ثمن الإقامة هناك.

﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾
لذلك الوعيد،
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
أيها الإخوة الكرام، قضية الهجرة تدخل في حياتنا اليومية، في بعض الحرف التي لا ترضي الله، في بعض البيوت في أمكان لا ترضي الله، حولك طبقة من المجتمع المخملي، نساءهم كاسيات عاريات، مع الاستمرار بهذه المنطقة يأتيك ضغط من بناتك عليك كي يقلدن ما يرين بأعينهن، فيجب أن تغادر إلى مكان محافظ.
الهجرة حركة أيها الإخوة، الهجرة موقف، لكن أخطر شيء بالموضوع:
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
أسوق لهذه الآية هذا المثل:
أنت مهما كنت متعمقاً بالدين، وهمما عظمت هذا الشرع العظيم، ومهما أثنيت على هذا القرآن العظيم، ومهما اعتززت بهذا الدين القويم، إن لم تطبقه فلا قيمة لك عند الله أبداً، تماماً كما لو أن إنساناً يعاني من مرض جلدي، وعلاجه الوحيد التعرض لأشعة الشمس، وهو قابع في غرفة مظلمة قميئة، لا ترى ضوء الشمس، وهو فصيح اللسان يتحدث عن الشمس، وعن قيمتها، وعن أشعتها، وعن نصاعتها، وعن تألقها في كبد السماء، وعن أنها شمس عظيمة، كل هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر، ما لم يتعرض لأشعة الشمس.
لذلك القرآن الكريم بآية واحدة لخصت القرآن كله، أين الآية ؟
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى ﴾
الآن تلخيص القرآن: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
( سورة الكهف ).
إن أردت لقاء الله عز وجل بالمعنى الواسع، إن أردت أن تتصل به، إن أردت أن يتجلى على قلبك، إن أردت أن تكون محظياً عنده، إن أردت أن تكون في مقعد صدق عنده، إن أردت السلامة والنجاة:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
هناك جانب عقدي، وجانب سلوكي، العقدي: ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
والجانب السلوكي:
﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾
إذاً: الإسلام حركة، ونحن في عيد الهجرة، ونحن في مفهوم الهجرة، أوسع مفهوم الحركة، يليه أن تدع ما نهى الله عنه، يليه أن تعبد الله في زمن الفتن، (( العبادة في الهرج كهجرة إليّ ))
والهجرة بين مكة والمدينة أغلقت لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))
بينما الهجرة من أي مدينتين تشبهان مكة والمدينة قائمة إلى يوم القيامة، والمستضعف ينبغي أن يهاجر، أي الذي مُنع من أداء شعائره الدينية، أو ضعفت نفسه أمام الشهوات المستعرة في تلك البلاد، والعقاب جهنم،
﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
الوعيد مخيف، لأنك حينما لا تستطيع تحقيق علة وجودك ببقائك في هذا البلد أو في بلد لا تستطيع أن تؤدي به شعائر الله، ولا أن تقيم أمره، أو أن تضعف أمام شهواتك هذا بلد يلغي آخرتك، والإنسان كما ترون وكما تسمعون في قبضة الله، بثانية واحدة انتهى أحد زعماء إسرائيل، ثانية واحدة، خثرة بالدماغ، والناس جميعاً يدعون له بطول البقاء ثانية، هذا الذي يؤثر الدنيا على الآخرة، إنسان غبي أحمق، ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع أحداث الهجرة، وأسبابها، وبعض الوقائع التي كانت بها.







والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:18 PM   #27


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( السابع و العشرون )

الموضوع :الهجرة -2-تفاصيل الهجرة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى موضوع الهجرة، وكان الحديث عن مفهومات الهجرة:
الهجرة حركة، والهجرة ترك ما نهى الله عنه، والهجرة قائمة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
[ رواه مسلم].
وكان الحديث المطول حول قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
( سورة النساء ).
الآن ندخل في التفاصيل. اختيار يثرب مكانا للهجرة
في هذا الدرس الثاني للهجرة، الآن لم يكن اختيار يثرب داراً للهجرة مما اقتضته الظروف ظروف الدعوة فقط، إنما كان ذلك بوحي من الله سبحانه وتعالى.
التعليق: إن كل حدث وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان من قِبل العناية الإلهية مقصوداً لذاته، لأن السنة النبوية المطهرة هي أقواله، وأفعاله، وإقراره، أفعاله كما يقول بعض العلماء: أبلغ في الدالة على معرفته بالله، وفهمه لكلامه من أقواله، لماذا ؟ لأن القول يحتمل التأويل، بينما الفعل حدّي، إذاً كل أفعاله كانت تشريعاً، النبي وحده، ولا أحد سواه أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وسكوته تشريع، وصفاته تشريع.

﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر الآية: 7 ).
﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾
( سورة النساء الآية: 80 ).
ولأن أمر الله تعالى واضح جلي، قطعي الثبوت والدلالة في وجوب طاعة رسول الله، في أقواله، وأفعاله، وإقراره، إذاً ينبغي أن تكون أفعاله معصومة عن الخطأ لأنه مشرع.
رؤية النبي يثرب في المنام
إذاً يجب أن نأخذ أحداث السيرة النبوية على أنها أحداث أرادها الله عز وجل لعبرة بالغةٍ بالغة ليقف النبي e منها الموقف الكامل، عندئذٍ يكون هذا الموقف تشريعاً، الله عز وجل هو الذي اختار يثرب، فقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ))
[البخاري عن عائشة]
(( إِنِّي أُرِيتُ ))
ورؤيا الأنبياء حق، ورؤيا الأنبياء أمر.
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾
( سورة الصافات الآية: 102 ).
رؤيا الأنبياء أمر، والله عز وجل هو الذي اختار يثرب لتكون داراً للهجرة، لذلك ورد في بعض الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مهاجراً، قال:
(( اللهم ! إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك ))
[ رواه الحاكم عن أبي هريرة ]
فكانت المدينة المنورة، لذلك الذين يزرون مكة والمدينة يؤكدون أن الجو العام في مكة جو إجلال، بينما الجو العام في المدينة جو جمال، روحانية النبي مهيمنة على هذه المدينة النبوية، إذاً:
(( إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ))
وفي حديث آخر:
(( رأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِب ))
[ البخاري عن أبي موسى]
من أسباب الهجرة
إنّ أسباب الهجرة لا تخفى على أحد، حيث كان الابتلاء والاضطهاد سبب هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله إلى المدينة التي اختارها الله، والحقيقة أن المدينة وظيفتها الأولى في الهجرة تأمين ملاذ آمن للدعوة، لذلك المكان أو أيّ مكان يحول بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تغادره، لأن علة وجودك أن تعبد الله، وإذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ))
[ متفق عليه عن ابن عباس].
أي أن باب الهجرة أغلق بين مكة والمدينة بعد الفتح، لكن الحقيقة أن الهجرة قائمة ومفتحة أبوابها على مصاريعها بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
وقد بينت في درس سابق أن الإنسان إذا كان ضعيفاً ضعف قمع على أن يعبد الله ينبغي أن يهاجر، وإن كان ضعيفاً ضعف غلبة على أن يعبد الله فينبغي أن يهاجر، إما أن يضعف أمام قوى الشر، وإما أن يضعف أمام الشهوات، إذاً سبب الهجرة توفير مكان آمن للدعوة، ولعبادة الله جل جلاله هدف الهجرة، والسبب اضطهاد المؤمنين والصحابة الكرام في مكة.
كان المؤمنون قبل الهجرة يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى، وبالمناسبة السفر مشروع لأهداف متعددة، يقع في أعلاها الجهاد في سبيل الله، وبعد الجهاد يقع الفرار بالدين، وبعد الفرار في الدين يقع الدعوة إلى الله، ثم يقع التماس الرزق، فبين أن يهاجر المرء أو أن يسافر ليجاهد في سبيل الله، أو ليفر في دينه، أو ليطلب العلم، أو ليتمس الرزق، هذه الأهداف المشروعة التي وردت في هذا الدين العظيم.
أما الآن فهناك سياحة، وسفر من أجل ارتكاب الموبقات، وهناك سفر من أجل انتهاك المحرمات، وسفر هدفه الفاحشة، فكان السفر الذي يرقى بالإنسان إلى أعلى عليين أن يسافر المسلم ليجاهد، يسافر ليفر بدينه، يسافر لطلب العلم، يسافر ليلتمس الرزق، الآن يسافر ليزداد بعداً عن الله، يسافر ليقترف الفواحش والآثام.
الأمور أيها الإخوة بمقاصدها، أن تقيم الأمر بمقصده، فأي سفر كان من أجل التحلل من منهج الله عز وجل هو سفر لا يرضي الله، وفي بعض البلاد التي تأمر رعاياها ببعض أحكام الدين كالحجاب مثلاً تجد منظراً عجيباً في المطارات، أن المرأة التي كانت قبل قليل محجبة ما إن دخلت إلى الطائرة حتى خلعت حجابها، وظهرت بأبهى زينتها، وكان تعليق بعض المراقبين بهذه الظاهرة غير المقبولة أن هذا الدين الذي يعتنقه إنسان في مكان، ويتفلت منه في مكان، هو دين جغرافي.
كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى، لأن قريشاً يضطهد من يتبع الرسول لكن ثمة سؤال أتمنى أن نقف عنده وقفة متأنية:
ما الحكمة من كون الرسول ضعيفا ؟
ما الحكمة أن يكون الرسول ضعيفاً ؟ الدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما مر بعمار بن ياسر يعذب لم يستطع تخليصه، فما كان منه إلا أن قال:
(( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))
[السيرة النبوية بسند صحيح]
لماذا كان النبي ضعيفاً ؟ أو ما الحكمة أن الله شاءت إرادته أن يكون النبي ضعيفاً.
(( لاَ أَملِكُ لَكُمْ مِنَ الله ضَرّا وَلاَ نَفْعاً ))
[ الترمذي عَن أَبي هُرَيْرَةَ ].
بل: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
( سورة الأعراف الآية: 188 ).
لماذا ؟ لأنه لو كان قوياً كأقوياء هذا العصر، وجاء بهذه الرسالة لآمن به الملايين المملينة، لا عن قناعة، ولا عن إيمان، ولا عن عبادة، ولكن آمنوا خوفاً منه، وهذا الإيمان لا قيمة له عند الله إطلاقاً، لذلك كانت حكمة الله عز وجل أن يجعل سيد الخلق ضعيفاً، لا يملك لا لهم ولا لنفسه نفعاً ولا ضرا، ليكون الإيمان برسول الله إيماناً حقيقياً ، لكن بعد حين الله جل جلاله يتفضل عليه بالقوة.
أحوال المؤمن مع الله تعالى
بالمناسبة، كل مؤمن له مع الله أحوال ثلاثة، وهذا الكلام ينطبق على كل مؤمن:
الحال الأول: حال التأديب، إذا كان هناك مخالفات.

الحال الثاني: حال الابتلاء وهو مستقيم.
الحال الثالث: حالم التكريم.
أنت بين التأديب، والابتلاء، والتكريم، وقد تكون هذه الأحوال الثلاثة متداخلة، وقد تكون متمايزة، مرحلة تأديب، ومرحلة ابتلاء، ومرحلة تكريم، أو في اليوم الواحد تكون معاملة من الله أساسها التأديب، ومعاملة أخرى أساسها الابتلاء ومعاملة ثالثة أساسها التكريم.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
( سورة العنكبوت ).
هل تعتقدون أن الإنسان بإمكانه أن يقول: أنا مؤمن، دون أن يمتحن، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون ).
الله عز وجل قادر أن يحجم كل إنسان، أو أن يعيده إلى حجمه الطبيعي، قل ما شئت، لكن الله يسوق لهذا الإنسان بحكمة بالغة ظروفاً تكشفه على حقيقته، لذلك الله جل جلاله لا تخفى عليه خافية. ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
( سورة غافر ).
علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
كان المؤمنون قبل الهجرة بين أي يفرّ أحدهم بدينه إلى الله تعالى مخافة أن يُفتتن، وكان من هو مفتون بدينه، وكان من هو معذب في أيديهم، وكان من هو هارب إلى بلاد أخرى، فهم بين معذب، ومفتون، وهارب، ومضطهد، وفارّ بدينه.
(( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، ألا إن سلعة الله الجنة ))
[ رواه الترمذي والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة ].
الحكمة من الأمر بالصبر في مكة وعدم القتال
إن جنة عرضها السماوات والأرض لا تأتي بركعتين وليرتين، بل تحتاج إلى جهد كبير، ومن طلب الجنة بغير عمل فطلبه ذنب من الذنوب، يقول حَبر الأمة عبد الله بن عباس: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ))
[ ورد في الأثر]
هناك توجيه إلهي هو في الحقيقة تشريع، وهو أنّ الله عز وجل لا يقبل بالتعبير المعاصر حرباً أهلية. ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
( سورة النساء الآية: 77 ).
هذه الآية في مكة، البيت الواحد فيه مؤمن وفيه مشرك، فلو سمح بالقتال في مكة لكانت هذه الحرب حرباً أهلية، ولأحرقت الأخضر واليابس، وقد قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
( سورة الأنعام الآية: 65 ).
بل إن الثالثة هي أصعب ما في الحياة الدنيا.
شيء آخر، الدعوة لا تنمو إلا بالسلام، فلما انتقل الصحابة الكرام إلى المدينة حيث الأمن والسلام والهدوء نمت قدراتهم، وازداد نشاطاتهم، وأقبلوا على ربهم، هذا شأن الإنسان، أؤكد لكم هذا المعنى مرة ثانية: أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾
( سورة الفتح ).
متى كان هذا الفتح ؟ كان هذا الفتح في صلح الحديبية، وكانت مناسبة هذا الفتح للسلام، و الأمن، والاستقرار، هذا ما ينقص المسلمين اليوم، فقد تهاونوا سابقاً وقصروا، ولم يعدوا العدة لأعدائهم، فتفنن أعداؤهم في إرهابهم، وفي تخويفهم، وفي تهديدهم، وفي الضغط عليهم، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
( سورة الأنفال الآية: 60 ).
إذاً أنت حينما تعد العدة تحقق هدفاً لا يكون إلا بها، أنك ترهب أعداءك، وكم من دولة قوية عندها أسلحة قوية لا تحتاج أن تستخدمها إطلاقاً، لكن وجود السلاح يلقي الرعب في قلوب الأعداء، والذي يحصل الآن من تدنيس للمصحف، ومن تشويه لمكانة النبي عليه الصلاة والسلام هو بسبب ضعف المسلمين، هذا الذي يحدث تحصيل حاصل، لذلك المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ))
لمّا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقر المسلمون، وكان لهم كيان، وقيادة، وأتباع، عندئذٍ نزل قوله تعالى:
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾
( سورة الحج ).
من أوائل من هاجر من الرجل والنساء
وهذه أول آيات القتال، الآن أول المهاجرين، كلن مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، أول من هاجر إلى المدينة، وكانا يقرآني الناس القرآن كما ورد في آثار السيرة النبوية، في حين وردت روايات أخرى تفيد أن أول من هاجر هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وذلك بعد أن آذته قريش على أثر رجوعه من هجرته إلى الحبشة، فتوجه إلى يثرب قبل بيعة العقبة بسنة واحدة، على أنه يمكن الجمع بين الخبرين في أن هذا الصحابي أبو سلمة وصل إلى المدينة، لا هجرة، ولكن فراراً بدينه، وكانت قبل بيعة العقبة، وكأن الذي أشار إلى أن أول من هاجر هو مصعب بن عمير أراد هذا الإنسان الكريم لأنه هاجر هجرة بأمر النبي بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد بينت أحداث السيرة والمصادر المعتمدة الكثيرة، من أساليب قريش في محاولتها عرقلة هجرة المسلمين إلى يثرب، وإثارتها للمشكلات في وجه المهاجرين، كالإرهاب مثلاً، وحجز الزوجات، والأطفال، وسلب الأموال، أو الاحتيال لإعادة من هاجر منهم، لأن هؤلاء المسلمين إن لم يهاجروا هم في قبضتها، وتحت سيطرتها، فإذا هاجروا تفلتوا من قبضتها، ونجوا من سيطرتها، لذلك كانت قريش تمنع الهجرة، إما بسلب الأموال، أو بحجز الزوجات، أو بالتهديد، أو بالوعيد.
لكن الصحابة الكرام كانوا على استعداد لا حدود له ليفتدوا أنفسهم بكل ما يملكون.
إنّ أم سلمة رضي الله عنها لها قصة عجيبة، تأتي في سير الصحابة، وكيف كانت مع زوجها الأول، وكيف أن قريشاً انتزعتها وطفلها من زوجها، وكيف أن رحلة العذاب قد استمرت قرابة سنة، قبل أن يتاح لها أن تسترجع ابنها، وأن تلحق بزوجها، زوجها هاجر، وقد أخذوها وكانت برفقته، ومنعوها أن تهاجر، وأخذوا ابنها رهينة، ومضى عام حتى استطاعت أن تصل إلى المدينة، وأن تأتي بولدها إليها.
الحقيقة أن لقصة أم سلمة تفاصيل مذهلة، كما قال عليه الصلاة والسلام.

(( فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ))
[ رواه البخاري عن أبي هريرة ].
لم يكن مسلماً عثمان بن طلحة، فرقّ لها، رقّ لامرأة زوجها في المدينة، وهي محجوزة في مكة، هي مؤمنة، وقومها ليسوا مؤمنين، فما كان منه إلا أن اصطحبها مع طفلها قرابة أسبوعين من مكة إلى المدينة على ناقة لها، وناقة له، ولم ينظر إليها، هذا قبل أن يسلم، كان إذا أراد أن يريحها ينيخ ناقتها، ويبتعد كثيراً، ثم حين يزمع أن يتابع السير، يوقظ الناقة يدعوها إلى أن تركب الناقة، ويلتفت إلى جهة أخرى، ثم ينطلق بهذه الناقة، وكان مشركاً قبل أن يسلم، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى إنساناً دخل في الإسلام يقول له يا فلان:
(( أسلمت على ما أسلفت من خير ))
[ رواه أحمد في مسنده عن حكيم بن حزام وهو متفق عليه ].
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (( فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ))
وكتعقيب على هذه الحقيقة: إن الله عز وجل يتولى الصالحين، فأيّ إنسان صالح ولو لم يكن يعرف الله عز وجل ما دام صالحاً يتولاه، ويأخذ بيده إلى الإيمان.
إن صهيب الرومي منعه زعماء قريش من الهجرة بحجة أنه كان قد أتى إلى مكة فقيراً، فقالوا له: فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون هذا أبداً، ليس هناك هجرة، جئتنا فقيراً، واغتنيت بين أظهرنا، الآن تريد أن تخرج مع المال، لن نسمح لك بذلك، ما فعل صهيب ؟ عرض عليهم أن يجعل لهم المال كله في مقابل أن يخلوا سبيله، عندئذٍ وافقوا على ذلك، وبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
(( ربح صهيب، ربح صهيب، ربح صهيب ))
إذا دفعت كل مالك، واستطعت أن تؤمن، وأن تنجو فأنت الرابح الأول، من هنا قيل: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح.
يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر هجرته، حيث تواعد مع عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي على الالتقاء في مكان بعيد عن مكة، وكيف أن هشام بن العاص قد حبس عنهما، وفتن، فافتتن، ثم تحدث عن خبر وصولهما إلى ظاهر المدينة ونزولهما في بني عمر بن عوف، وخروج أبي جهل بن هشام وأخيه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة، وإقناع إياه بضرورة العودة إلى مكة ليبر بقسم أمه التي نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراه، وكيف حذره عمر منهما، وقوله له: يا عياش، << إنك والله إن يريد القوم إلا ليفتونك عن دينك، فاحذرهم >>.
إذاً أُخِذ مال مسلم كله، وحُجِزتْ زوجة آخر وطفله كرهينة، ومنعوا الثالث بالقوة أن يهاجر، وفي بعض الطريق أوثقاه، وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن، يقول سيدنا عمر: كنا نقول: ما والله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر ببلاء أصابهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى فيهم.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾
( سورة الزمر ).
أيها الإخوة، المتاعب التي تحملها أصحاب رسول الله أكبر من أن توصف حتى وصل الدين إلينا، وقدم إلينا على طبق من ذهب، ماذا يطلب من المؤمنين اليوم ؟ يطلب الحفاظ على دينهم ، وأداء العبادات، وفعل الخيرات، أما الصحابة الكرام فتنوا، وقتّل بعضهم، وحبسوا، وأخذت أموالهم، وحجزت عنهم زوجاتهم، وكانوا أبطالاً بحق، بل إن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا نخبة، كان عليه الصلاة والسلام كان يقول:
(( إن الله اختارني واختار لي أصحابا ))
[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه ضعف]
لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة
ومن أعظم نعمة ينعم الله بها عليك أن يكون الذين حولك على شاكلتك، ومن تكريم الله للإنسان أن يحاط بمن هو على شاكلته، يقدرهم ويقدروه، ويحبهم ويحبوه، ويعينهم ويعينوه، لذلك قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
( سورة التوبة ).
أي أنكم لا تستطيعون أن تتقوا ربكم إلا إذا كنتم مع المؤمنين، مع الصادقين ، والحمية عن أهل الشرك والكفر ضرورية، لكن البعد عن أهل الصلاح والتقوى خطأ كبير. ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
( سورة الكهف ).
(( وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ))
[ رواه أحمد عن النعمان بن بشير بسند حسن]
وإن الله مع الجماعة، ويد الله مع الجماعة.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ ))
[رواه الترمذي]
(( فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ))
[ أحمد]
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ ))
[ أحمد]
أيها الإخوة الكرام، تآمرت قريش على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن علم المشركون بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار في العقبة الثانية، ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعات وأفرادا، وقد أرّخ الزهري لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:
" مكث عليه الصلاة والسلام بعد الحج بقية ذي الحجة، ومحرم، وصفر، ثم إن المشركين اجتمعوا يعني على قتله، وقد تواترت الأخبار بأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة كان يوم الاثنين، وكان دخوله المدينة يوم الاثنين أيضاً، وحادثة تآمر قريش على قتل النبي نأخذها بالتفصيل إن شاء الله في درس قادم.








والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:21 PM   #28


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثامن و العشرون )

الموضوع :الهجرة -3-لن نمكن فى الارض قبل ان ننتصر على انفسنا



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إشارة القرآن إلى هجرة النبي
أيها الإخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ومع موضوع بدأنا به في الدرس الماضي، وهو هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب.
أيها الإخوة، أشار القرآن الكريم إلى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى:

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
( سورة التوبة ).
حقائق مهمة لهذه الأمة
إله النبي هو إلهنا
أيها الإخوة، الحقيقة الأولى، ونحن في أمسّ الحاجة إليها أنّ إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي نصره في الهجرة هو إلهنا، وكما نصر نبيه وأصحابه الكرام يمكن أن ينصرنا.
تقديم أسباب النصر
ولكن إذا قدمنا الأسباب التي نستحق بها أن ننتصر، قال تعالى:
﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 126 ).
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
( سورة محمد الآية: 7 ).
لذلك نسال الله أن ننتصر على أنفسنا حتى ننتصر لله، حتى نستحق أن ينصرنا على أعداءنا.
هذه أول حقيقة:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾
من هو الثاني ؟ صدّيق الأمة.
" ما طلعت شمس على رجل بعد نبي خير من أبي بكر ".
هو صديق المسلمين.

(( أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر ))
[ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي حُجيفة ].
(( ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك ))
[ ورد في الأثر ].
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾
الله عز وجل ينتظر منا أن ننصر دينه، فإن تخاذلنا نصر هو دينه، وحرمنا هذه المرتبة العلية في نصر دينه، لذلك لا تنسوا هذه الكلمة: لا تقلقوا على هذا الدين إنه دين الله، فقد ينصره الله بالرجل الفاجر، ولكن لنقلق على أنفسنا فيما إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً له، أعلى مرتبة ينالها الإنسان أن يكون جندياً للحق، وأخس مرتبة يكونها الإنسان أن يكون في خندق مناهض للحق، لعل أشقى البشر من عاندوا الرسل، أبو بكر وعمر هم في أعلى عليين، وأبو جهل وأبو لهب في أسفل سافلين، هم في مزبلة التاريخ، بين أن تكون في أعلى عليين إذا نصرت الحق وأهله، وبين أن يكون الإنسان في أسفل سافلين إذا كان في خندق معادٍ للحق.
هنا ملمح يحضرني، لماذا قال الله عز وجل في القرآن الكريم:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
( سورة التحريم ).
هذه آية فيها تساؤل كبير من أجل امرأتين ضعيفتين.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾
لو أن امرأتين انتقدتا النظام هل يعقل أن تستنفر القوى البحرية والجوية والبرية، وكل القوى ؟ مستحيل ! ما معنى الآية ؟ معنى الآية إذا كنت في خندق معادنٍ للحق فاعلم من هو الطرف الأخر، أشقى إنسان من وقف في خندق معادنٍ للحق، من أراد أن يطفئ نور الله
إخوانا الكرام، بربكم لو أن إنسانًا توجه إلى الشمس، ونفخ بفمه يريد أن يطفئ نورها بماذا نحكم على عقله ؟ بالجنون.
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾
( سورة التوبة الآية: 32 ).
المصائب فرزٌ ومحن ومنح
إذا كان ضوء الشمس يستحيل أن تطفئه، فهل تستطيع أن تطفي نور الله ؟ لذلك كلمة أقولها لكم لعلهم قاسية: ما ضر الصحابة نبح الكلاب، وما ضر البحر أن ألقى فيه غلام بحجر، ولو تحول الناس إلى كناسين ليثيروا الغبار على هذا الدين ما أثاروه إلا على أنفسهم، والذي حصل من تطاول على سيد الخلق وحبيب الحق فيه خير لا يعلمه إلا الله، ولكن في المستقبل، لأن كتاباً صدر مرة وصف بيوت النبي وصفاً لا يليق بمقام النبوة، (سلمان رشدي)، ثم أسلم بسبب هذا الكتاب 20 ألف بريطاني، لأنهم ما صدقوا هذا الوصف، فبحثوا عن الحقيقة فاهتدوا، وأنا أطمئنكم أن مئات من الألوف سوف يبحثون عن الحقيقة، وسوف يدخلون في دين الله أفواجاً، وأن كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
( سورة الأنعام ).
إخواننا الكرام، الشيطان الذي هو رأس الإضلال في الكون، والذي يريد دائماً أن يغوي الإنسان، وأن يدعوه إلى المعصية، وأن يصرفه عن الطاعة، لو أنه يستطيع أن يفعل ما يريد لما أمده الله إلى يوم يبعثون، ولكن لأن الله يوظف كيده للخير المطلق ما أبقاه يتوهم أنه يضل البشر، كل شيء فيه شر هو شر نسبي، موظف للخير المطلق، والشر المطلق لا وجود له في الكون، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾
وهذه عملية فرز.
﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾
( سورة الأنعام ).
هذه عملية فرز، وحديث الإفك عملية فرز، المؤمنون الصادقون ظنوا بأنفسهم خيراً، والمنافقون فرحوا بهذه الأخبار. ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 179 ).
عملية الفرز والامتحان والابتلاء مستمرة طوال الحياة، وهذا الذي حصل نوع من الابتلاء، ونوع من الامتحان، ونوع من الفرز، لذلك الإله الذي نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام موجود، وهو إلهنا، ولماذا لا ينصرنا ؟! وزوال الكون أهون عليه من ألاّ يحقق وعوده للمؤمنين. ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
( سورة غافر ).
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الروم ).
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
( سورة النور الآية: 55 ).
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾
( سورة الصافات ).
ومرة ثانية: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، ولكن لابد من دفع الثمن، نحن نقرأ في التاريخ أن الفرنجة حينما احتلوا القدس ذبحوا 70 ألفاً من المسلمين، وكتّاب التاريخ يقفزون فجأة إلى أن صلاح الدين فتح القدس، ولم يسفك دماً، وكأنه فعل معجزة، وكأنه فعل أسطورة، وهذا لأن صلاح الدين الأيوبي استحق النصر بعد خمسين عاماً من إزالة المنكرات، ومن تعليم الطلاب العلم الشرعي، هناك جهود جبارة بذلها هذا القائد البطل توجت بفتح القدس، فإذا أغفلنا هذه الجهود شعرنا أننا أمام أسطورة، أو أمام معجزة، وليس هناك أساطير ولا معجزات، لا ننتصر إلا بالصلح مع الله، لا ننتصر إلا بالتوبة، ما نزل بلاء لا يرفع إلا بالتوبة. ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
( سورة آل عمران ).
سيدنا صلاح الدين حينما أخرج الغزاة من الشرق قال: لم يعودوا ما دمنا رجالاً، لكنهم عادوا، عادوا مرتين، عادوا في المرة الأولى حينما دخل قائد الجيش الفرنسي إلى مقامه، وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين، وعادوا ثانية إلى العراق، وإلى أفغانستان، ولسان حالهم يقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين.
النصر له ثمن
النصر له ثمن، ثمنه طاعة الله عز وجل، أما توقع النصر من دون طاعة فغباء وسذاجة، أما انتظار معجزة فغباء وسذاجة، أما انتظار أن يأتي شيء غير مألوف فننتصر غباء وسذاجة.
أيها الإخوة،

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
معية الله عامة وخاصة ومعنى: إن الله معنا، ودققوا في هذا الكلام، والكلام كبير، وخطير، معية الله معيتان:
﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
( سورة الحديد الآية: 4 ).
هذه معية عامة، يعني معكم بعلمه فقط، هو مع الكافر، مع المنافق، مع الملحد مع العاصي، مع الفاسق، مع المؤمن بعلمه ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
إذا وضع إنسان في محله التجاري آلة تصوير، وهو في مكتب في الطابق الثاني، وهو يرى كل من يدخل، وكل من يخرج، هو مع كل الزبائن، يرى بعلمه فقط، لكن إذا جاءت المعية خاصة فلها معنى رائع، لها معنى نحتاجه نحن اليوم، إذا قال الله: إن الله مع المؤمنين، فإن الله معهم بالتأييد والنصر، والحفظ، والتوفيق، إن الله مع المؤمنين، المعية الخاصة لها معناً إيجابي يحتاجه المؤمن أشد الاحتياج.
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
إخوتنا الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بكل الأسباب، وأغلق كل الاحتمالات، وسد كل الثغرات، وغطى كل الحاجات، مع أنه الإنسان الأول الذي يستحق النصر، لذلك المنهج النبوي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، أخذ بالأسباب كلف من يأتيه بالأخبار، وكلف من يمحو الآثار، وكلف من يأتيه بالطعام، وكلف من يدله على الطريق، ولم يدع ثغرة إلا وغطاها، سار باتجاه الساحل، واختبأ في غار ثور ليخف الطلب، ولماذا وصلوا إليه ؟ ولماذا سمح الله لهم أن يصلوا إليه ؟ ليبين الله لنا أن اعتماد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن على الأسباب وقد أخذ بها، لكن اعتماده كان على رب الأرباب، لذلك لما وصلوا إليه، وقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله لو نظر أحدهم لموطأ قدمه لرآنا قال:
(( مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ))
[ أخرجه البخاري عن أبي بكر]
إذاً: يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، إذاً إذ يقول لصاحبه وقد وصل المطاردون إلى الغار: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾
هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء عطاء لا يوصف، إذا أنزل الله على قلبك السكينة أنت أغنى الناس، وأنت أقوى الناس وأنت أحكم الناس، وأنت أعلم الناس، وأنت أكرم الناس، فإذا حجبها عنك وكانت الدنيا بيديك أنت أفقر الناس، وأنت أجهل الناس، وأنت أضعف الناس، وأنت أبعد الناس عن الصواب.
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾
تسكن لها، ترتاح لها، تسعد بها، ترضى بها، تطمئن بها،
﴿ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
والله عز وجل عنده جنود لا نراها.
مرة أراد أعداؤنا أن يخطفوا عدداً كبيراً جداً من المصلين ليلة القدر في جنوب لبنان، وهيئوا خطة محكمة جداً، وضعوا في طائرتين مروحيتين 125 ضابط مغوار، كل واحد كلّف تدريبه 5 ملايين، يتقن اللغة المحلية، والعامية، والسلاح الأبيض، والصراع الياباني، واستخدام أعقد الأجهزة والأسلحة، الخطة أن يخطفوا المسلمين من المساجد، ليأخذوهم رهائن يبادلون عليهم أسراهم الذين أسروا في جنوب لبنان،

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾
فوقعت الطائرة الأولى على الطائرة الثانية فوق مستعمرة في إسرائيل، ومات كل الضباط، ولم تُمْنَ إسرائيل بهزيمة بشرية في نخبة ضباطها من تاريخها منذ أن أسست وحتى الآن كهذه المأساة، لأن الله تدخل وانتهى كل شيء، اعترفوا بتسعين، ثم أوردوا البقية في حوادث طرق.
إن الله عز وجل إذا كنا معه كان معنا، وإذا اصطلحنا معه نصرنا، وإذا كنا معه كنا أقوياء، وإذا كنا أقوياء لن يستطع العدو أن يسخر من نبينا، ولا أن يدنس مصحفنا، ولا أن يستفزنا بأن تقف امرأة وتخطب في كنيسة خطبة الجمعة، وتصلي بالرجال، وعلى مرأى خمسين مندوب وكالة صحافة، هذا استفزاز للمسلمين.
الذي يحصل الآن استفزاز، أنتم ضعفاء، سندنّس مصحفكم، ونسخر من نبييكم، لو كنا أقوياء لما تجرؤوا، لو كنا مطبقين لقوله تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
( سورة الأنفال الآية: 60 ).
لما تجرؤوا.
المعركة حياة أو موت
أيها الإخوة، معركتنا مع أعداءنا معركة حياة أو موت، معركة وجود أو لا وجود، فلا بد من أن نتعاون، وأن تصطلح، وأن نعود إلى الله.
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
يقول قائد الطائرة العليا كما هو مسجَّل في الصندوق الأسود في آخر كلمة قالها: أنا أسقط، ولا أدري لمَ أسقط، وليس ثمة سبب في الطائرة يدعو إلى السقوط، الله عز وجل عنده جنود لا يعلمها إلا هو، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ))
[ متفق عليه عن جابر ]
لكن أمته حينما تركت سنته هزمت بالرعب مسيرة عام، نخاف من أي تهديد، وننسى أن الله بيده كل شيء. ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة آل عمران ).
أيها الإخوة الكرام، ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾
أحد الجنود أن يلقي الله في قلبك الخوف، أحياناً يقلّل عدوك بك، أو التكثير، وإلقاء الرعب، وإلقاء الخوف.
التنبيه إلى معنى خطير في الآية
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
لو أن واحداً من الإخوة الكرام قرأ الآية على النحو التالي متوهماً أن الواو الثانية حرف عطف، وقال: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمةَ الله هي العليا، المعنى خطير، ولا يليق بمقام الألوهية، أيْ: جعل كلمة الذين كفروا السفلى بعد أن كانت عليا، وجعل كلمة الله العليا بعد ما كانت لا سمح الله سفلى، هذا المعنى مستحيل، انظر إلى ضمة واحدة تغيير المعنى.
إذا كان الواحد ضعيفًا في الإعراب ووقف، وتمثل بقول أحد الأصحاب الكرام:
ولست أُبالي حين أَقتُل مسلماً على أي جنب ألقى في الله مصرعي
إلى جهنم وبئس المصير، والبيت:
ولست أَبالي حين أُقتل مسلماً.
شهيد إلى جنة عرضها السماوات والأرض، بين جنة عرضها السماوات والأرض وجهنم وبئس المصير حركة واحدة، بين أن تقول: حين أَقتل مسلماً، أو حين أُقتل مسلماً فرق.
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾
الواو ليست واو عطف، هي واو استئناف، لو عددناها واو عطف كان المعنى: وجعل كلمة الله هي العليا بعد أن لم تكن عليا، هذا مستحيل، أما الواو هنا فواو استئناف:
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ﴾
وقف:
﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
دائماً،
﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾
دائماً، هذا واضح.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
أيها الإخوة،
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
من أدق معاني عزيز حكيم أي أن كل الخلق يحتاجونه، بل إن كل شيء يحتاجه في كل شيء، ﴿ عَزِيزٌ ﴾
الشيء العزيز إذا احتاجه الناس، وكان نادراً، احتاجه الناس وكان نادراً، أما إذا قلت:
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾
يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويستحيل أن تحيط به،
﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
إخواننا الكرام، في معامل الحديد روافع أساسها مغناطيسي، سطح حديد كبير جداً محاط بوشيعة كهربائية، فإذا وضع هذا السطح فوق عشرين طنًّا من الحديد حملها، ونقلها إلى مكان آخر، ولا يستطيع إنسان أن ينزع عن هذه الرافعة قطعة، لكن العامل الذي يدير هذه الرافعة لو ضغط على زر عشر الميلي وقطع الكهرباء كل هذا الحديد الذي تحمله الرافعة يسقط.
إنْ رأيت قوياً، متغطرساً، طاغية، لئيماً، خسيساً، معتدياً، مجرماً، سفاحاً بثانية واحدة خثرة بالدماغ ينتهي، ألم تروا ذلك ؟ بثانية واحدة انتهى، الاسم المخيف انتهى، لأن الإنسان في قبضة الله، ومعنى قوله تعالى:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ﴾
( سورة الأنفال الآية: 59).
يعني أن الكافر في قبضة الله، في أي لحظة هو في قبضته، معنى: ﴿ سَبَقُوا ﴾
أي تفلتوا من عقاب الله، أو أرادوا شيئاً ما أراده الله، لذلك يقولون: خطة الكافر تستوعبها خطة الله، لهذا أي شيء وقع أراده الله، وأي أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
( سورة الزخرف ).
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
( سورة الكهف ).
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
( سورة الأعراف الآية: 51 ).
قد يصنع مصنع الطائرات طائرة، ويبيعها، أمر هذه الطائرة ليس بيد مدير المعمل، يقول لك بعتها، وأمرها ليس بيدي، لكن الله عز وجل يقول: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
( سورة الزمر ).
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
( سورة الأعراف الآية: 51 ).
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا ﴾ً
( سورة الكهف ).
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
( سورة الزخرف الآية: 84 ).
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه ﴾ِ
( سورة هود الآية: 123 ).
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
( سورة الغاشية ).
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد سكينة، التوحيد أمن التوحيد راحة، التوحيد سعادة، التوحيد ثقة بالله، التوحيد تفاؤل، ونحن في هذه الظروف الصعبة نحتاج إلى التوحيد، نحتاج أن لا نرى مع الله أحدا. ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
( سورة الأنفال الآية: 16 ).
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
( سورة الأنفال ).
أيها الإخوة الكرام، هذه آية الهجرة:
﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾
هناك زيادة قرأتها مرة في كتاب لا أذكره، يبدو أن عين أحد المطاردين وقعت على عين الصديق، فقال: يا رسول الله، لقد رأونا، فقال: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
( سورة الأعراف ).
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب، ماذا فَقَد من وجدك، وماذا وجد من فَقَدك.
(( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات بين يديه، وأرسخت الهوى من تحت قدميه، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، وغافر له قبل أن يستغفرني ))
[ رواه ابن عساكر عن كعب بن مالك ].
أيها الإخوة الكرام، هذا هو التوحيد:
(( أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك وملك الملوك قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع، أكفكم ملوككم ))
[ رواه الطبراني عن أبي الدرداء ].
(( فإن صلاحهم لكم صلاح ))
[رواه الطبراني عن شيخه الحسين بن محمد بن مصعب الأسناني ].
آية الهجرة موضوع هذا الدرس.
وكان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين
أيها الإخوة، النصر بيد الله، وإن كنت بطلاً فحقّق شروط النصر، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الروم ).
إذا كنت بطلاً تحقق شروط النصر، لأن الله سبحانه وتعالى لا يريد ألا ينصر عباده المؤمنين، ونحن في محنة، وإن شاء الله هذه المحنة تتبعها منحة، ونحن في شِدة وإن شاء الله تتبعها شَدة إلى الله، ونحن في العناية المشددة، نحن نمثل إنسان معه التهاب معدة حاد، وشفاء هذا المرض محقق، وسهل جداً، ولكن يحتاج هذا المريض إلى حمية تامة، بينما الطرف الآخر معه ورم خبيث، ولا أمل في شفائه، لو أن الطرف الآخر سأل طبيباً ماذا آكل ؟ يقول له: كل ما شئت. ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
( سورة الأنعام ).
لكن الذي معه التهاب معدة حاد، الطبيب المخلص يقيم الدنيا عليه ولا يقعدها إذا أكل أكلة تؤذي التهاب معدته، لذلك نحن في العناية المشددة، ونحمل حملاً ثقيلاً، لأن الله ينتظر منا أن نتوب إليه. ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
( سورة القصص ).
وفي درس قادم إن شاء الله ندخل في تفاصيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن كان الدرس الماضي كان هجرة أصحابه إلى المدينة.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:23 PM   #29


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( التاسع و العشرون )

الموضوع :الهجرة -4- الصحبة





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الأكارم، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ولا بد من كلمة تمهيدية.
كلمة تمهيدية
سيرة النبي كتاب وسنة

لو أنه لم يكن كتاب وسنة لكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنة، لأنه :

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم).
فأقواله، وأفعاله، وإقراره، وصفاته منهج لبني البشر، هو سيد الخلق وحبيب الحق.
لكن لا بد من ملاحظة ثانية:



أحداث السيرة مقصودة للتشريع
إن كل الأحداث التي وقعت في عصره كانت مقصودة من قِبَل الله عز وجل ليقف منها الموقف الكامل المشرع، أفعاله تشريع يمكن أن نستنبط من أفعاله قواعد، وقوانين ومناهج في السلامة والسعادة، هو إنسان متميز أقسم الله بعمره الثمين، إله خالق السماوات والأرض يقسم بعمر إنسان، قال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
( سورة الحجر ).
والمقولة التي أرددها كثيراً: أن الكون قرآن صامت، وأن القرآن كون ناطق ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، هو زوج كامل، وأخ كامل، وأب كامل وجار كامل، وقائد كامل، وزعيم كامل، فلذلك ما خاطبه الله عز وجل باسمه أبداً: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾
( سورة مريم الآية: 12 ).
﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 55).

ولم يرِد في القرآن الكريم يا محمد:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾
( سورة المائدة الآية: 67 ).

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾
( سورة التحريم الآية: 9).
إذاً بادئ ذي بدء الأحداث التي وقعت في حياة النبي كانت مقصودة لذاتها، ليقف النبي منها موقفاً كاملاً مشرعاً لنا، لذلك إذا قال الله عز وجل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
( سورة الأحزاب الآية:21 ).
كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا إن لم نعرف سيرته، هذا ينقلنا بالمناسبة إلى قاعدة في أصول الفقه وهي:
ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض
أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، الصلاة فرض، هل تتم من دون وضوء ؟ لا، إذاً الوضوء فرض، ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما تتم السنة إلا به فهو سنة، قياساً على هذا، إذا قال الله:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

هذا أمر يقتضي الوجوب، كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لنا إن لم نعرف سيرته ؟ تكاد معرفة سنة النبي العملية تكون فرض عين على كل مسلم، لينفذ الآية، أضرب على ذلك مثلا:
السيدة عائشة أم المؤمنين زوجة سيد العالمين، الطاهرة، العفيفة، الحَصان اتهمت بأغلى ما تملكه امرأة، اتهمت بعفتها، لماذا ؟ لتكون أسوة حسنة لكل فتاة طاهرة عفيفة، حَصان اتهمت كيداً بأثمن ما تملكه.
إذاً هؤلاء الصحابة الكرام هم قدوة لنا أيضاً، لأنهم عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عقد زعماء قريش اجتماعاً خطيراً في دار الندوة، حيث تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم لخص مؤامرتهم، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ﴾
( سورة الأنفال الآية: 30 ).
أي ليسجنوك.
﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ﴾
﴿ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
( سورة الأنفال ).

مرة ثانية: معركة الحق والباطل أرادها الله عز وجل، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن المؤمن لا يرقى إلا بالصبر والبر والتضحية، ولأن الكافر لعله يهتدي إذا مع المؤمن،
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
أيها الإخوة، بيّن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حصار المشركين لبيت صلى الله عليه وسلم ابتغاء قتله، هذا يعني أنه لا يجب أن تضعف إذا أراد بك الأعداء شراً، الله عز وجل يسمح لهم بالبدايات، ولكنهم لن ينجحوا، لأن الله عز وجل يقول: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
( سورة الأعراف ).

الأمور تدور، وتدور، وتدور، ولا تستقر إلا على نصر المؤمن، لذلك ينبغي ألا تضحك أولاً، بطولتك أن تضحك آخر، إن الذي يضحك أولاً يضحك قليلاً، ثم يبكي كثيراً ، أما الذي يضحك آخر يبكي قليلاً، ثم يضحك كثيراً، ثم جنة عرضها السماوات والأرض.
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾
( سورة المطففين ).
لا تفرح بالضحك المبكر، افرح بالضحك المتأخر.
حينما يولد الإنسان كل من حوله يضحك وهو يبكي وحده، فإذا وافته المنية كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده.
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾
( سورة يس ).
حصار المشركين لبيت النبي ابتغاء قتله

بيّن عبد الله بن عباس حصار المشركين لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، الآن هؤلاء الصناديد، كفار قريش، أبو لهب، أبو جهل، هؤلاء الذين قاوموا الدعوة، وحاربوا النبي، ونكلوا بأصحابه، أين هم اليوم ؟ في مزبلة التاريخ، والذين وقفوا معه، أبو بكر عمر، عثمان، علي، طلحة، الزبير، ابن مسعود، هؤلاء الصحابة الكبار أين هم ؟ في أعلى عليين.
إخواننا الكرام، امشِ في سوق الحمدية في يوم مزدحم، كل هؤلاء الذين تراهم بعد مئة عام تحت الأرض، وكل الذين كانوا قبل مئة عام كانوا مثلنا، بيوت، وهموم وشركات، ودعاوى في القضاء، وزواج، وطلاق، وسفر، وحضر، وتهنئة، وحفلات، انتهى كل شيء، الموت ينهي قوة القوي، وينهي ضعف الضعيف، وينهي صحة الصحيح ، وينهي مرض المريض، وينهي غنى الغني، وينهي فقر الفقير، وينهي وسامة الوسيم ، وينهي دمامة الدميم، ولا يبقى إلا العمل الصالح الذي عملته تقرباً إلى الله عز وجل، فالدنيا زائلة.
شدة حب الصحابة للنبي
سيدنا علي، وهذه تضحية كبيرة، لأن المشركين ائتمروا على قتل النبي e، وضع مكانه علي بن أبي طالب، واحتمال أن يدخلوا عليه فجأة، ويقتلوه دون أن يتحققوا قائم، فلذلك أبو سفيان قال مرة: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
امضِ يا رسول الله بما أردت، نحن معك، والله لو خضت هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، ودع ما شئت، فو الذي بعثك بالحق للذي تأخذه أحب إلينا من الذي تدعه لنا، هكذا الصحابة، أما صحابة نبي آخر فقالوا:

﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
( سورة المائدة ).
الصحابة الكرام أكرم الله نبيه بهم، فقال عليه الصلاة والسلام:
((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي ))
[ رواه الطبراني عن عويمر بن ساعدة ].
حصار المشركين لبيت النبي ابتغاء قتله
أما نحن فحاجة ماسة إلى هذا الدرس
ينقصنا الحب لا المساجد، المسجد النبوي كان سقفه من سعف النخيل، وأرضه من الرمل، هنا سجاد مدفأ من تحته، ثريات، أعمدة، سقف شامخ، المساجد أرقى الآن بكثير، والكتب والمجلدات، والمؤتمرات، والأشرطة شيء لا يصدق، لكن لا حب بيننا، لا أقول: نحن بالذات، ليس هناك حب بين المسلمين، الأمة الإسلامية ممزقة، لماذا ؟

﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة المائدة الآية: 14 ).
كلما اقتربت من الله أحببت أخاك، وكلما ابتعدت عنه تنافست معه، فالذي كان بين الصحابة من حب وود لا يعلمه إلا الله، أُخوة صادقة، يؤدون صلاة العشاء مع رسول الله، ثم يفترقان صحابيان، وقبل الفجر يلتقيان فيعانق أحدهما الآخر ويقول لأخيه: وا شوقاه غاب عنه ست ساعات فقط، وا شوقاه، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
حرص النبي على ردِّ أمانات المشركين مع خطورة الوضع
هنا نقطة دقيقة، أناس كثيرون يذهبون إلى بلاد الغرب، ويشترون بطاقات ائتمانية ليستخدموها في المحلات التجارية، ويشترون بمبالغ طائلة، ويعودون إلى بلدهم ولا يدفعون شيئاً من هذه الديون المترتبة عليهم، ظناً منهم بغباء ما بعده غباء، وسذاجة ما بعدها ساذجة، وجهل ما بعده جهل أنهم كفار، لماذا أبقى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه وعرضه للخطر، خطر القتل، من أجل ماذا ؟
من أجل أن يرد الودائع لأصحابها، من أصحاب الودائع ؟ كفار، أرأيتم إلى فهمنا السقيم ؟!!
إخواننا الكرام، أنت إذا أسأت إلى مسلم يقول الناس: فلان أساء إلى فلان فقط ، أما إذا أسأت إلى غير المسلم فإنه يتهم الإسلام بالإساءة، أنا أرى أن الخطأ مع المسلم أقلّ بكثير من الخطأ مع غير المسلم، لماذا أبقى علي في فراشه، وعرضه للقتل ؟ من أجل أن يرد ودائع المشركين إلى أصحابها، لذلك قال تعالى:

﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
( سورة المائدة الآية: 8 ).
لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((من غش فليس منا ))
[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ].
مطلقاً، لو كان عابد وثن ينبغي ألا تغشه، إسلامنا إنساني، معظم الأنظمة في العالم أنظمة عنصرية، تعطي شعبها، ترفع مستوى شعبها، تهيئ فرص العمل لشعبها على حساب بقية الشعوب، هذه أنظمة غير إنسانية، أما الإسلام فدينٌ إنساني، والإسلام أممي، وكل من دخل في الإسلام له ما لنا، وعليه ما علينا، من دون أي تمييز، لذلك فإن إنسانًا من هؤلاء أفتي له أن هؤلاء غير المسلمين لك أن تأخذ أموالهم، فأخذ أموالهم بجرم فقد أخذ المال الحرام ، وأودع السجن، مضى عليه في السجن سنوات، أعطي كتابًا في السيرة، فلما وصل إلى هذه الفقرة، رأى نفسه مجرماً، كان متوهماً أنه فعل صواباً:
(( اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا، فإنها ليس دونها حجاب ))
[ رواه أحمد في مسنده عن أنس ].

هذا درس بليغ في السيرة، ضحى بابن عمه علي، واحتمال قتله قائم، من أجل أن يرد الودائع إلى أصحابها المشركين، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا مات أحد صحابته الكرام، وكان هذا الصحابي من أقرب الناس إليه يسأل: أعليه دين ؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، من عادة الصحابة أن يقول أحدهم: علي دينه يا رسول الله، كي يصلي عليه، فيقبل النبي هذه الضمانة، ويصلي عليه، يسأله بعد يومين أأديت الأمانة ؟ قال: لا، أأديت الدين ؟ قال: لا، في اليوم الخامس يقول له: لقد أديت الدين، فيقول عليه الصلاة والسلام: الآن ابترد جلده.
كم في المسلمين مَن يأكل الأموال بالباطل زوراً وبهتاناً ؟ وهذا القضاء، أنا لست متشائماً، ولكن أتمنى ألا تعتبوا على الله إذا بدا لنا أنه تخلى عنا، لا تعتبوا على الله، البنية التحتية، الطبقة المسلمة أقل طبقة عندها أخطاء كثيرة جداً.
قال سيدنا عمر لأحد أصحابه: هل تعرف فلانًا ؟ قال له: نعم، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، هل سافرت معه ؟ قال: لا، هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال: لا، قال: إنك لا تعرفه إذاً.
وقفت عند هذه النقطة لأن هناك أناسًا كثيرين يبيحون لأنفسهم أخذ أموال غير المسلمين، وهذا خطأ كبير، الأمانة لا تجزأ، والاستقامة لا تجزأ، وما هو حرام حرامٌ، مع من يلوذ بك، ومع من لا يلوذ بك، مع من يدين بدينك، ومع من لا يدين بدينك.
وكما تعلمون انتقل النبي إلى غار ثور، وقام المشركون بتقفي أثره.
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
الحقيقة عودًا على بدء، ذكرت لكم في أول الدرس أن كل الأحداث التي وقعت في أحداث النبي مقصودة لذاتها، النبي علمنا أن نأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، ثم نتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، علمنا ذلك والله عز وجل شاءت حكمته أن يصل المطاردون إليه، لماذا ؟ ما الحكمة ؟ الحكمة أنه أخذ بالأسباب تعبداً لله، ولم يعتمد عليها، لكنه اعتمد على الله، فلما وصلوا إليه كان واثقاً من الله قال:
(( يَا أَبا بَكْرٍ، مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ؟ ))
[ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ].

إذاً الدرس الثاني: ينبغي أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء، وينبغي أن تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء.
في روايات ليست قوية جداً نسيج العنكبوت رواية ضعيفة، والحمامتان الوحشيتان أيضاً رواية ضعيفة، والشجرة التي نبتت في وجه الغار الرواية ضعيفة، لكن من حكمة الله جل جلاله أنه إذا أراد أن يحفظ إنساناً يحفظه بأقل الأسباب، وأحياناً يدمر إنساناً بأتفه الأسباب، وإنّ نقطة دم لا يزيد حجمها على رأس الدبوس تتجمد في مكان من الدماغ تصيبه بفقد وعيه كلياً، إذاً نحن في قبضة الله عز وجل.
وحين أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب جاء صلى الله عليه وسلم متقنعاً إلى منزل أبي بكر رضي الله عنه في وقت لم يعتد أن يزوره فيه في نحر الظهر، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، وقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه وقائع ما جرى فقال:
(( فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا بها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي ))
الإسلام حبٌّ ونصرة وحسن معاملة
إخواننا الكرام، الإسلام حب، فإذا فرغت الإسلام من الحب فهو نصوص، وأفكار وأدلة، وحجج فقط، غدا كجثة بلا روح، انظر إلى وردة صُنعت من البلاستيك تضعها في البيت أيامًا معدودة، ثم تملّ منها، وقد تلقيها في القمامة، أما الوردة الطبيعية فلا تشبع من النظر إليها، ولا من شمها، لأنه فيها حياة.

إخواننا الكرام، تصور بيتًا فيه براد، غسالة، مكيف، سخان، كل الأجهزة الكهربائية من دون استثناء، و دون أن أذكرها جميعاً، لكن ليس فيه كهرباء، كلها لا معنى لها إطلاقاً، مملة، تأخذ حجماً، نحن في أمسّ الحاجة إليه، فإذا سَرَت الكهرباء في البيت فكل آلة لها قيمة كبيرة جداً، صدقوا، ولا أبالغ: إذا كنت مؤمنًا كان الهدف واضحًا، الآخرة واضحة، إيمانك قوي، تعرف حقيقة الكون، وكيف سُخر لك، تعرف حقيقة الدنيا، وكيف أنها دار عمل، وليست دار أمل، ودار تكليف لا دار تشريف، دار سعي، وليست دار جزاء
إن علمت الحقيقة تماماً، الزواج له معنى كبير جداً، أكبر من أن تحقق متعة كنت محروماً منها، أكبر بكثير، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: << والله أقوم إلى زوجتي وما بي من شهوة إلا ابتغاء ولد صالح ينفع الناس من بعدي >>، الزواج له معنى، والعمل تختار فيه نفع للمسلمين، فينقلب عملك عبادة، وأنت في معملك، وأنت في مكتبك، وأنت في دكانك وأنت في صفّك، وأنت أستاذ في الجامعة، وأنت مهندس، لأن الحرفة التي تكون في الأصل مشروعة، وتسلك فيها الطرق المشروعة، وتبتغي بها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين، ولم تشغلك عن واجب، ولا عن فرض، ولا عن عمل صالح، ولا عن طلب علم، انقلبت حرفتك إلى عبادة، هكذا المسلم، يسعد في عمله، لأنه عبادة، فإذا جلس مع زوجته وأولاده يسعد بهذا الجلوس لأنه عبادة، وإذا أخذ أهله نزهة هذه النزهة عند الله عبادة لأنه متن العلاقة مع زوجته وأولاده، وخفف عنهم أعباء الحياة، ولا يقطعون وادياً، ولا يطئون موطأ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح.
فإذا سرت الكهرباء كانت الأجهزة كلها ثمينة، وكلها لها فائدة، أما من دون إيمان فلا حياة، بل كانت الحياة مملة، حياة فيها ضجر، فيها قلق، فيها إحباط، فيها تشاؤم، فيها خوف، فيها رعب.
الإذن بهجرة النبي إلى المدينة
السيدة عائشة قالت: << بينما كنا نحن يوماً جلوسًا في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، يعني لأمر جللٍ، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم، يعني أنا صاحبك بالهجرة.
والله أيها الإخوة، مرة كنت في عقد قران، وقام خطيب فقال كلمة جيدة، لكن فيها كلمة هزت أعماق أعماقي، النبي عليه الصلاة والسلام يقول لسيدنا معاذ: والله يا معاذ إني لأحبك، هذا وسام شرف، أن يحبك أهل الإيمان، وأحياناً الفسقة يحبون بعض الناس، لأنهم على شاكلتهم، فقل لي من يحبك أقلْ لك من أنت، هل يحبك أهل الإيمان ؟ هل يحبك المقربون إلى الله ؟ هل يحبك المنصفون ؟ هل يحبك العاملون في طاعة الله عز وجل، قال: والله يا معاذ إني لأحبك، أما سيدنا سعد فقال:
(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))
[ أخرجه مسلم عن علي وعن سعد بن أبي وقاص ].
هذا خالي أروني خالاً مثل خالي، كان يداعبه، وما فدى أحداً بأمه وأبيه إلا سعد بن أبي وقاص.

سيدنا عمر الفقيه العملاق، قال لسعد بعد وفاة رسول الله: << يا سعد، لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له >>.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾
( سورة الحجرات ).
فقال أبو بكر: الصحبة ؟ يعني هل أكون صاحباً لك ؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: نعم، فقال أبو بكر: فخذْ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قطعت نطاقها قطعتين على شكل سريدة، وربطت بها فم الجوربين، الذين فيهما غذاء الصاحبين.

أيها الإخوة، ألك أعمال تذكرها من حين لآخر تعتز بها، وتقول: يا رب اجعلها في ميزان حسناتي ؟ ألك أعمال ؟ ألك بطولات ؟ ألك إنفاق ؟ ألك خدمة للناس ؟ ألك موقف فيه بطولة ؟ فيه جرأة، فيه ورع، فيه زهد، هذا الذي يمكن أن تعتد به يوم القيامة إذا وقفت للحساب بين يدي الله عز وجل.
لو أن الله سبحانه وتعالى أوقف أحدنا يوم القيامة، وقال: يا عبدي ؟ ماذا فعلت من أجلي ؟ ماذا يقول أحدنا ؟ يا رب، تزوجنا، لك الزواج، اشترينا بيتًا، ذهبنا إلى النزهات، أقمنا سهرات رائعة جداً، تحدثنا في السياسة طوال السهرة، وسمعنا الأخبار، وحللنا، والسهرة كانت مختلطة، ماذا فعلت من أجلي ؟ هل واليت فيّ ولياً ؟ هل عاديت فيّ عدواً ؟ هل بذلت من مالك ؟ هل بذلت من وقتك ؟ هل بذلت من جاهك ؟. ماذا أعددْنا ليوم القيامة من عمل صالح ؟
إخواننا الكرام، هذا أخطر موضوع ماذا أعددنا يوم القيامة إذا قيل لنا ما عملكم يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله ))
[ أخرجه مسلم عن أبو داود، الترمذي، النسائي، عن أبي هريرة ].
هل تعلمون من له الويل ؟
(( إذا مات الإنسان انقطع عمله ))

الويل لمن ؟ لمن ليس له عمل، هذا في الذي له عمل ينقطع، فكيف بالذي ليس له عمل، لكن البطولة أن يكون لك عمل لا ينقطع، أن تكون أمة، أن تكون في قلوب أمة، أن تدع أثراً تبكي عليه السماء والأرض، بدليل أن الله جل جلاله يصف أهل الدنيا الكفار بأنهم حينما يموتون لا تبكي عليهم السماوات والأرض، أما المؤمن بالمعنى المخالف فتبكي عليه السماء والأرض.
أريد قبل أن أختم الدرس أن نكون متيقنين أن يكون حجمنا عند الله بحجم عمله الصالح.
حينما غرقت الباخرة العبارة قبل أسابيع، ومات ألف رجل وامرأة قرأت في صحيفة حينما كنت في العمرة بمقابلة مع أحد الذين نجوا، لفت نظري أن هذا الناجي وهو يصارع الموت ثلاثة أيام شريط حياته رسم أمامه حَدثاً حدثاً، موقفاً مَوقفاً، كلمةً كَلمةً ، حَركةً حركةً، سَكنةً سَكنةً، هذا حق، الإنسان قبل أن توافيه المنية يذكر كل أعماله من دون استثناء.
يا قييس، إن لك قريناً تدفن معه وهو حي، ويدفن معك وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك.
أخطر شيء عملك، أنت رجل، كنت تاجراً، هل كنت صادقاً ؟ هل كنت أميناً هل نصحت المسلمين ؟ أنت كنت محامياً، هل قبلت دعوى أنت واثق أنها لن تنجح ؟ ولكنك كسبت الوقت، وكسبت أتعاباً لا تستحقها، أنت طبيب، هل كبرت الأمر على المريض أم كنت معتدلاً في وصف مرضه ؟ بكل حرفة في آلاف الطرق الغير مشروعة في كسب المال في أية حرفة.
وجوب الاستفادة من السيرة النبوية

فلذلك أيها الإخوة، نحن يجب أن نستفيد من هذه السيرة، الحياة مواقف، الحياة مواقف بطولية، الحياة التزام، الحياة صبر، الحياة تضحية، من لم يكن له مثل هذه الأعمال هو ميت كحي، وحي كميت.
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء.
والله عز وجل وصف أهل الدنيا بأنهم.

﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾
( سورة النحل الآية: 21 ).
قد يكون ضغطه 8 ـ 10ـ 8 ـ 12 ـ هذا أفضل ضغط، ونبضه ـ70 ـ وفحص دمه فحصًا كاملا، فكان كله طبيعيًّا، وهو عند الله ميت، لأنه ليس له عمل صالح له، والغنى والفقر بعد العرض على الله.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-05-2018, 04:26 PM   #30


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثلاثون )

الموضوع :الهجرة - 5 - قصة الهجرة





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
القوة الإدراكية
أيها الإخوة الكرام، لا يغيب عنكم أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوة إدراكية هذه القوة الإدراكية تقتضي أن تبحث عن الحقيقة، فمجرد أنك تبحث عن الحقيقة فأنت تنتمي إلى صنف البشر، الذين كرمهم الله عز وجل قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
( سورة الإسراء ).

لأن الله كرمك بالقوة الإدراكية ؛ إذاً هي الحاجة العليا عندك، فما لم تُلَبَّ هذه الحاجة يسقط الإنسان من هذا المستوى الرفيع الذي كرمه الله به، وأنت حينما تأتي إلى بيت من بيوت الله تأتي كي تتعرف إلى الإنسان المكرّم الذي جعله الله سبحانه وتعالى على رأس البشرية مقاماً، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( سَلُوا اللّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإنّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنّةِ لاَ تَنْبَغِي إلاّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللّهِ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ))
[ رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
ونحن في الصلاة عقب الأذان نقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قمة البشر، وجعله الله قدوة لنا وأسوة، من هنا كان من الواجبات الحتمية على كل منا أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا ؟ لأن الله عز وجل يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
( سورة الأحزاب الآية: 21 ).

فكيف يكون النبي أسوة حسنة لنا، ونحن لا تعرف سيرته ؟ وهذا الذي ذكرته من قبل ما لا يتم الفرض به فهو فرض، وما لا يتم الواجب به فهو واجب، وما لا تتم السنة به فهو سنة، فإذا كان كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر الآية: 7 ).
إذاً فمعرفة سنة النبي القولية فرض عين، وما دام الله عز وجل يقول: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾
( سورة التوبة ).
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
كيف يكون النبي لنا أسوة حسنة ما لم نعرف سيرته؟

السؤال كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم لنا أسوة حسنة ما لم نعرف سيرته ؟.
إذاً مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية.
وصدقوا أيها الإخوة، لو لم يكن كتاب ولا سنة لكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بأبعادها ودلالتها كتاباً وسنة، إلا أن السيرة العملية تتميز بأنها حدية في الاستنباط، فالإنسان قد يقول كلمة وقد تؤوّل يمنة ويسرة، أما إذا سلك سلوكاً فالسلوك حدي، فإذا ألقى عليكم إنسان محاضرة في الحجاب يا ترى هل يعد الوجه عورةً أم ليس بعورةٍ ؟ ماذا قال ؟ أما إذا رأيته مع زوجته، وقد سترت وجهها ؟! هذا موقفه، الموقف العملي حدي، والموقف الكلامي يحتمل التأويل.
السيرة العملية أصدق تطبيق للقرآن
لذلك قال بعض العلماء: إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية أصدق في فهمه لكتاب الله من أقواله، لأن أقواله تحتمل، مثل:
إذا قال الله عز وجل:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
(سورة الشمس ).
قد يتبادر إلى الذهن أن الله خلق فيها الفجور، نعوذ بالله من هذا المعنى، لكن الآية تعني أن الله سبحانه وتعالى فطر النفوس فطرة عالية جداً، بحيث لو أن النفس البشرية أخطأت لعلمت أنها أخطأت من دون معلم، تعرف ذاتياً أنها أخطأت، ألهمها أنها فجرت حينما تفجر، وألهمها أنها اتقت حينما تتقي، هذا المعنى.
فدائماً النص يحتاج إلى تأويلات.
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
( سورة يونس الآية: 39 ).
فأنت مثلاً تقرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ ﴾
( سورة السجدة الآية: 13 ).
( لو ) حرف امتناع لامتناع، لو جئتني أكرمتك، امتنع إكرامي لك بامتناع مجيئك إلي. ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
( سورة السجدة).
هذه الآية ينبغي أن تسأل عنها أهل الذكر، وأهل الذكر هم أهل القرآن، قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
(سورة النحل ).
ما معنى الآية ؟ الإنسان دائماً وأبداً يحاول أن يمحو خطأه لغيره، كل شيء سلبي في حياة الإنسان يقول لك: قضاء وقدر، هكذا أراد الله عز وجل، هذه كلمة حق أريد بها باطل.
والمعنى: يا عبادي، إذا زعمتم أنني أجبرتكم على المعاصي والآثام، وأنها من قضائي وقدري فأنتم مخطئون، لو أنني أجبركم على شيء ما لما أجبرتكم إلا على الهدى.
ولو شئنا أن نلغي اختياركم، وأن نلغي تكليفكم، وأن نسلبكم حريتكم، وأن نجبركم على شيء ما، ما أجبرناكم إلا على الهدى،
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾
هذا هو المعنى الصحيح، لكن الذي تزعمون أن أخطائكم من إجبار الله لكم فأنتم واهمون،
﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾

أي لأحاسبكم حساباً عسيراً على ما تقترفونه من آثام، وما تتهمون به ربكم أنه أجبركم على ذلك، هذا المعنى.
لذلك النص يحتاج إلى تأويل، لكن الفعل لا يحتاج إلى تأويل الفعل حدي، لذلك كان اختيار هذه الدروس فقه السيرة النبوية.
أيها الإخوة، أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
وقل رب ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق

(( كَانَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ، ثُمّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ: وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي منْ لَدُنْكَ سُلْطَانَاً نَصِيراً ))
﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ﴾
( سورة الإسراء ).
ألا يخطر في بالكم أيها الإخوة أن كلام الله معجز، وإعجازه في إيجازه ؟ فلمَ قال الله عز وجل: ﴿ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾
؟ يعني: يا رب اجعلني صادقاً، كلمة واحدة، أعمال لا تعد ولا تحصى تدخلها صادقاً، وتخرج منها غير بصادق، لست بصادق، فالبطولة لا في الدخول بل في الخروج.
لذلك مرةً معاوية بن أبي سفيان التقى بأحد دهاة العرب الكبار عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو، ما بلغ من دهائك ؟ قال: والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، فقال له معاوية: لست بداهية، أما أنا والله لا أدخل مدخلاً أحتاج أن أخرج منه، هذا مستوى أرقى.
إذاً:

﴿ رَبّ أَدْخِلْنِي ﴾

تقول: أنا إذا تزوجت، سأقيم الإسلام في بيتي، سأحجب زوجتي، سأربي أولادي، سأنشئهم على طاعة الله، فإذا دخلت إلى عالم المرأة، وحملتك زوجتك على معصية تقول: ما بيدنا شيء، دخلت مدخل صدق، لكنك لم تخرج مخرج صدق.
تقول: سأنشئ مستشفى هدفه معالجة الفقراء والمساكين، بعد أن تشعر بقيمة المال الذين دخلوا هذه المستشفى تأتيهم الجلطة من الفاتورة، دخلت مدخل صدق، لكن لم تخرج مخرج صدق.
إخواننا الكرام، صدقوا أن طريق القمة صعب جداً، لكن النزول من القمة إلى الحضيض سهل جداً، إذا كان الطريق إلى القمة طريقًا فيه أكمات، وصخور، وغبار، و حر، وجهد كبير، والطريق من القمة إلى الحضيض زلق، هو طريق الغرور، لذلك البطولة لا أن تصل إلى القمة، بل أن تبقى فيها، لا أن تصل إلى المنبر، بل أن تبقى فيه، لا أن تصل إلى هذا المكان، بل أن تبقى فيه باستمرار.
لذاك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة دخلها مطأطأ الرأس تواضعاً لله عز وجل، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره،

﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾
إخوانا الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في بدر انتصروا، والآية تقول: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
( سورة آل عمران الآية: 123 ).
أي أنتم مفتقرون إلى الله، النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحابه الكرام وهم خيرة الخلق، ومعهم سيد الخلق لم ينتصروا في حنين، لماذا ؟ لأنهم قالوا:
(( ولا يُغلَبُ اثنا عشَرَ ألفاً مِنْ قِلةٍ ))
[ أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك عن ابن عباس ].

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
( سورة التوبة).
درس بليغ
إخواننا الكرام، درس بليغ تحتاجه كل يوم، بل كل ساعة
إن قلت: الله، تولَّك الله، وإن قلت: أنا تخلَّ الله عنك، ولست أكرم على الله من أصحاب رسول الله، لست أكرم على الله من أصحاب النبي الذين باعوا حياتهم في سبيل الله، ومع ذلك لم ينتصروا، فحينما تعتز بقوتك أو بمالك، أو بنسبك، أو بمنصبك يتخلى الله عنك، وحينما تفتقر إلى الله يتولاك بالرعاية، لذلك قبل أن تقدم على أي عمل، قبل أن تقدم مشروعاً، قبل أن تقابل مسؤولاً قبل أن تقف موقفاً عصيباً قل: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك، يا ذا القوة المتين، هذا معنى قوله تعالى حينما أُمر بالهجرة :
﴿ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾
انطلاق النبي إلى غار ثور بصحبة أبي بكر:دروس وعبر
وقد انطلق النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغار من بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثوبه، ونام في مكانه، واخترق النبي صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه بعد أن أوصى علياً بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به، فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب بأن نبي الله في بيته، فقال: يا نبي الله، فقال علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه في الغار، قال: وجعل علي يرمي بالحجارة كما كان يرمي نبي الله، وهو يتضور، فقد لف رأسه بالثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك للئيم ـ توقعوا أن النبي في البيت ـ كان صاحبك نرميه فلا يتضور، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك، إذاً النبي خرج من بيته إلى غار ثور.
مرة ثانية للتذكير: الذي انتقل من مكة إلى بيت المقدس بلمح البصر لمَ لم ينتقل من مكة إلى المدينة بلمح البصر؟ لأنه قدوة لنا، هذا يذكرنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هاجر نهاراً جهاراً متحدياً، قال: من أراد أن تثكله أمه، أو أن يتيم ولده، فليلحق بي إلى ذلك الوادي، وقد يسأل سائل: أيعقل أن يكون عمر بن الخطاب أشجع من رسول الله ؟ الجواب: لا، وألف لا، ولكن عمر ليس مشرّعاً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرّع، النبي مشرع، ويجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامر بن أن يصحبهما في هجرتهما ليخدمهما، ويعينهما على الطريق، وحمل أبو بكر رضي الله عنه ثروته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إخواننا الكرام، المال قوة، والمنصب قوة، والعلم قوة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، لأن المؤمن القوي يحمل معك، والمؤمن الضعيف ينبغي أن تحمله، وفرق كبير بين من يحمل معك، وبين من تحمله، ولكن المؤمن الضعيف على العين والرأس، لكن لا بد من تعليق، وهذا التعليق نحن في أشدّ الحاجة إليه، اسمعوا:
إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون قوياً، لأن فرص العمل الصالح المتاحة للقوي ليست متاحة للضعيف، فالقوي بجرة قلم يحق حقاً، ويبطل باطلاً، يقر معروفاً ويزيل منكراً بجرة قلم، والضعيف هو يزاح من عمله بجرة قلم، وفرق كبير بينهما، لكن إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، أما إذا كان طريق القوة على حساب دينك وقيمك، ومبادئك الضعف وسام شرف للإنسان.

لذلك الأهداف النبيلة لا يمكن إلا أن يختار لها الإنسان وسائل نبيلة، الوسيلة من جنس الهدف، أما عند الأعداء فالهدف يبرر الوسيلة، الغاية تبرر الوسيلة، عند المسلمين لابد للهدف النبيل من وسيلة نبيلة، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً، لأنك إذا كنت غنياً يمكن أن تنشئ ميتماً، و مستشفى، ومعهداً شرعياً، وأن تزوج الشباب، وأن تربي الأيتام، وأن تكون لك أعمال كالجبال.
<< حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي >>.
يقول أحد العلماء: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا، وخرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، أطيب ما فيها العمل الصالح ".
يا رب، لا يطيب الليل إلا بمناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك.
والله أيها الإخوة، هؤلاء الذين سمح الله لهم أن يعملوا الأعمال الصالحة هم في قمم السعادة، هؤلاء الذين سمح الله لهم أن يكونوا جنوداً للحق، هم في قمم السعادة، إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون غنياً، أما إذا كان طريق الغنى سببه الكذب والاحتيال، وأن يبيع الإنسان دينه بعرض من الدنيا قليل الفقر وسام شرف لك، الأهداف النبيلة لا بد لها من وسائل نبيلة.

لذلك صهر النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم، بقي مشركاً، وقد احتجزت بضاعته التي كانت معه في طريقه إلى مكة، ووقع أسيراً، أجارته زوجته، وكانت في المدينة، فالنبي أجاره، قيل له بحسب النظام القائم: إنك إذا أسلمت، فهذه البضائع تصبح ملكاً للمسلمين، على أساس دار الحرب ودار السلم في الحروب، لأن أموال المحارب هي غنائم، قال كلمة والله لا أنساها، قال: والله ما أحب أن أبدأ إسلامي بهذا، مغطى، ذهب إلى مكة، ووزع الأموال على أصحابها، وبرأ ذمته تماماً، ثم شهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، فالأهداف النبيلة يجب أن تسلك إليها الوسائل النبيلة، وقد ذكرت أسماء بنت أبي بكر أنها كانت خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم.

والله أيها الإخوة لو يعلم أصحاب الأموال كم يستطيعون أن يصلوا إلى درجات الجنة بأموالهم لما ترددوا لحظة.
لأن روح الميت ترفرف فوق النعش، تنادي الأهل، هكذا ورد في الأثر: " يا أهلي يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم والتبعة علي ".
ورد في الأثر أيضاً: " أن الله يوقف عبدً أعطاه مالاً، يقول له: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال: يا رب لن أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله له: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين ؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم، يسأل عبداً آخر أعطاه مالاً قال: عبدي، أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال: يا رب، أنفقت على كل محتاج ومسكين، لثقتي بأنك خيراً حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، قال الله عز وجل: عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك ".
تنبيه خطير:
إن الرجل ليعبد الله ستين عاماً، ثم يضر بالوصية فتجب له النار، يريد ألا يعطي البنات شيئاً، يخص ثروته الذكورَ، متوهماً بوحي من الشيطان أنك إذا أعطيت البنات انتقل المال إلى أسر غريبة، هل أنت أحكم من الله ؟! النبي عليه الصلاة والسلام لم يسمح له بتوزيع الأموال، تولاها الله بذاته، الفرائض أين أحكامها ؟ في القرآن الكريم.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في الغار ثلاث ليال تمكن المشركون خلالها من اقتفاء آثارهم إلى الغار، وقد ذكرت كثيراً أن حكمة وصول المطاردين إلى الغار ليعرف العالم كله أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أخذ بالأسباب لم يعتمد عليها، ولكنه اعتمد على الله، وهذا الموقف دقيق جداً، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء فيما يبدو، ويجب أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.

العالم الغربي أخذ بالأسباب واعتمد عليها، وألهها، فوقع بالشرك، والعالم الشرقي لم يأخذ بها مدعياً أنه متوكل على الله، وهذا ليس توكلاً بل تواكلاً، وقع في المعصية.
حينما تجري مراجعة للمركبة تامة، وتعتقد أنه لم يحدث حادث لأنك أجريت مراجعة تامة المكبح، والزيت، والعجلات، وتوهمت أنك في مأمن للحادث، أنت أخذت بالأسباب، واعتمدت عليها، لكن المؤمن يعتقد مع أنه أخذ بالأسباب لو أن الله أراد أن يؤدبه لألغيت الأسباب، لذلك الحكمة يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وبعد ذلك يا رب أنت الحافظ، أنت الموفق، أنت المسلم يا رب، طبعاً سهل جداً أن تأخذ بالأسباب، وتعتمد عليها، وسهل جداً ألا تأخذ بها، وأن تتواكل على الله، لكن البطولة أن تأخذ بالأسباب بشكل دقيق، ثم تتوكل على الله، وكأنك لم تأخذ بالأسباب.
الحالة الثالثة صعبة تحتاج إلى علم عميق، وإيمان دقيق.
إخواننا الكرام، هذا أخطر شيء يعاني منه العالم الإسلامي، ينتظر أن تقع معجزة، لن تقع معجزة، لأن المسلمين لم يأخذوا بالأسباب، لم يعدوا لعدو القوة التي أمرهم الله بها، فالأولى أن نأخذ بالأسباب إن أخذنا بها الآن تولّنا الله عز وجل.
قال أحدهم: سأصلح العالم كله في عشر سنوات، العالم كله، القارات الخمس، الدول كلها، ومضت السنوات العشر، ولم يستطع أن يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح بلدي في خمس سنوات، السنوات الخمس مضت، ولم يستطع أن يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح مدينتي في سنتين، والسنتان مضتا، ولم يفعل شيئاً، قال: إذاً سأصلح بيتي في عام، مر العام، ولم يصلح البيت، قال: إذاً سأصلح نفسي أولاً، وقرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
(سورة الرعد الآية: 11 ).

إخواننا الكرام، بالمناسبة ذكرت قضية أنا أراها حساسة جداً ولا أبالغ، مليون شيء يمكن أن تفعله في ظل هذه الظروف الصعبة، في ظل الضغوط، في ظل العقبات، في ظل حرب عالمية ثالثة أعلنت على المسلمين في شتى بقاع الأرض، يمكن أن تفعل مليون شيء دون أن تُسأل، دون أن تحاسب، ألا تستطيع أن تكون صادقاً ؟ ألا تستطيع أن تكون أميناً ؟ ألا تستطيع أن تكون متقناً لعملك ؟ ألا تستطيع أن تعتني بأهل بيتك ؟ ألا تستطيع أن تعتني بصحتك ؟
ألا تستطيع أن تربي أولادك ؟ كل هذه الأعمال بإمكانك أن تفعلها من دون أن تحاسب عليها، لكنْ يأتي إبليس ليزهدك بكل ما تستطيع، ويدفعك إلى ما لا تستطيع، هذا من تلبيس إبليس، يزهدنا فيما نستطيع، ويقحمنا فيما لا نستطيع، هنا الإشكال.
لذلك قالوا: أقم أمر الله فيما تملك يكفك ما لا تملك، لكنْ ماذا تملك أنت ؟ تملك نفسك، وتملك أسرتك، وتملك عملك، إذا كل مسلم أقام الإسلام في نفسه، وفي بيته، وفي عمله، وانتهى كل شيء.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾
( سورة البقرة الآية: 286).

الذي تطمح إليه لا تستطيعه جميع الدول الإسلامية مجتمعة، تهمل ما أنت قادر عليه، وتقحم إلى ما لا تستطيع أن تفعله، هذا من تلبيس إبليس، من تلبيس إبليس أن تنصب نفسك وصياً على المسلمين، تقيمهم، وتكفر من تكفر، وتبدع من تبدع، هذا أيضاً من تلبس إبليس، تحرك، اعمل، أقول لكم من القلب:
(( انتهى عهد النوم يا خديجة ))
[ورد في الأثر]
السيدة خديجة التمست من النبي أن يأخذ قسطاً من الراحة، فقال: يا خديجة انقضى عهد النوم، ونحن الآن ينبغي أن نقول: انقضى عهد النوم، ويجب أن نقول أيضاً: وانتهى عهد الكلام، نريد عهد العمل، لأن الطرف الآخر يريد إفقارنا، وإضلالنا، وإفسادنا، وإذلالنا، وإبادتنا.






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الشجرة, النبوية, فقه


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 1 )
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السيرة الذاتية لعلماء الاسلام السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 63 11-05-2018 02:41 PM
المسجد الأقصى في السيرة النبوية قتيبه العاشق رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 7 06-09-2016 08:12 AM
في ظلال السيرة النبوية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 3 05-09-2016 10:10 PM
من خصائص السيرة النبوية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 5 07-14-2014 05:10 AM
السيرة النبوية ربانية ووسطية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 4 02-07-2014 10:34 PM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 06:19 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.