حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 09-04-2018, 09:17 AM   #11


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( العاشر )


الموضوع : صفية بنت حيى بن اخطب



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لمحة مختصرة عن حياة السيدة صفية بنت حيي بن أخطب :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس التاسع عشر من دروس الصحابيات الجليلات، ومع أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب، هي صفية بنت حيي من ذرية نبي الله هارون، كانت صفية رضي الله عنها شريفة عاقلة, ذات حسب وجمال، ودين وتقوى، وذات حلم ووقار، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي))
فمن باب أولى أن يختار له زوجاته، وزوجات النبي عليه الصلاة والسلام جزء من دعوة الله عز وجل، فحينما تكون زوجة الإنسان حصيفة، وعاقلة، وتبلغ عنه بشكل دقيق, فهذا جزء من الدعوة، لذلك تولى الله بذاته تطهير أهل بيت النبي، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 33]
تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع من الهجرة، وكان عمرها سبع عشرة سنة يوم تزوجها صلى الله عليه وسلم، ولدت رضي الله عنها بعد البعثة بثلاثة أعوام بين قومها يهود خيبر، ولا تنسوا أن زواج النبي عليه الصلاة والسلام زواج حكمة ومصلحة، وزواج تأليف قلوب ، وزواج دعوة إلى الله عز وجل .
لقد أسلمت بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنها كانت من سبايا خيبر، وقد جعل مهرها عتقها، تزوجها عليه الصلاة والسلام راغبة مختارة، ولم يكرهها على الإسلام، لأن الله عز وجل يقول:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
[سورة البقرة الآية: 256]
وقد دخلت في دين الله طواعية، لذلك عدت من أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن، أقامت مدة على دينها, ثم أعلنت إسلامها, ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا كثيراً، وفي حديث أنس رضي الله عنه:
((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ صفية بنت حيي, قال لها: هل لك فيّ؟ قالت: يا رسول الله! قد كنت أتمنى ذلك في الشرك، فكيف إذا أمكنني الله منه في الإسلام؟))
وفي صحيح البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ, وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا))
فهذه الرواية توضح: أن إسلامها كان قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة، روى عنها ابن أخيها كنانة، ويزيد، وعلي، ومسلم بن صفوان، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث .
لماذا ينبغي أن تكون زوجة رسول الله عاقلة, حصيفة, عفيفة, طاهرة؟ لأنها ستبلغ عنه، النبي طلق امرأة واحدة, رآها ضعيفة العقل، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:

((أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَنَا مِنْهَا, قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ, فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ الْحَقِي بِأَهْلِكِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
والإنسان من سعادته في الدنيا أن تكون زوجته صالحة عاقلة، لأن الزوجة المؤمنة ستيرة وعاقلة, ستعين زوجها، والمرأة كما تعلمون لها دور خطير في معونة زوجها على صلاح أمره .
ما هي الأحداث التي جرت في السنة السابعة للهجرة, وكيف تم إسلام صفية وزواجها من النبي ؟
لمّا انتهت السنة السادسة للهجرة بأحداثها المليئة بالخيرات والبركات، وأقبلت السنة السابعة بما تحمله من خطوب جسام، وبزغ هلال المحرم من أول العام، فتهيأ النبي صلى الله عليه وسلم لمعركة حاسمة, تقطع دابر المكر اليهودي من أرض الحجاز, الذي كشف لثامه في معركة الخندق .
في معركة الخندق اتضح أن اليهود ماكرون خائنون، وأنهم يكيدون للنبي عليه الصلاة والسلام، وما معركة الخندق عنكم ببعيد، يوم نقض اليهود عهدهم، وجاء أهل الشرك في الجزيرة, يحيطون بالمدينة, ليستأصلوا شقفة الإسلام، وكانت معركة الخندق معركة حياة أو موت ، معركة وجود أو عدم وجود، والله سبحانه وتعالى نصر النبي عليه الصلاة والسلام, وانكشفت نوايا اليهود الشريرة، وانكشف مكرهم وخداعهم، وهذا ديدنهم منذ قديم الأزمان .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في النصف الثاني من المحرم إلى خيبر, وهي مدينة كبيرة, ذات حصون ومزارع وقلاع، تقع على بعد مئة ميل شمال المدينة المنورة، من أكبر مدن الحجاز، ومن أشدها حصانة، وقوة, ومناعة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة مقاتل، ما بين فارس وراجل .
فلما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا، وكان عليه الصلاة والسلام إذا غزا قوماً لم يغز عليهم حتى يصبح، فلما أصبح رآه عمّال خيبر، وقد خرجوا بمساحيهم، وفؤوسهم، ومكاتلهم, يقصدون مزارعهم، فلما رأوه صاحوا:

((محمد والخميس، ثم ولوا هاربين، فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر, خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم, فساء صباح المنذرين))
ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام, يفتح عقول خيبر وحصونها واحدًا تلو الآخر، حتى إن حصن ابن أبي الحقيق فتحه، وجيء بسبايا الحصن، وفيهم صفية بنت حيي، إذاً: صفية سبية من سبايا أحد حصون خيبر، ومعها ابنة عم لها, جاء بهما بلال رضي الله عنه, فمرّ بهما على قتلى يهود الحصن، فلما رأتهم المرأة التي مع صفية, صكت وجهها، وصاحت, وحثت التراب على وجهها، فقال عليه الصلاة والسلام لبلال:
((أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟))
أرأيتم إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى في الأسيرة، أسيرة أعدائه، كبر عليه أن يرى امرأة ضعيفة قتلى قومها أمامها، فعنف بلالاً فقال: أنزعت الرحمة من قلبك, حينما تمر بالمرأة على قتلى قومها، وقال لبلال أيضاً، وكان صفية رأت قبل ذلك .
هنا هذه السبية بنت حيي زعيم اليهود, رأت في المنام أن القمر وقع في حجرها، وفي رواية: رأت الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها، فذكرت ذلك لأمها، فلطمت وجهها, وقالت: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب، هذه الرؤيا التي رأتها هذه السبية بشرت بمستقبلها، هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأت القمر قد وقع في حجرها، أو رأت الشمس نزلت فوقعت على صدرها .
فلم يزل الأثر على وجهها، لطم أمها لها بقي فترة طويلة، حتى أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألها عنه أخبرته، فكبرت في نفسه صلى الله عليه وسلم حين سمع منها هذه البشارة التي زفها الله إليها .
يعني أحياناً الإنسان يرى رؤيا واضحة جداً, هذه الرؤيا الواضحة هي من عند الله عز وجل، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، الرؤيا الصالحة طريقة أو هي إعلام الله عز وجل لهذا الإنسان، يعلمه بشيء ما، فربنا عز وجل بشرّ هذه المرأة الصالحة التي جعلها من نسل يهودي بأن زوجها رسول الله، ومن خلال هذه الرؤيا التي رأتها, أدركت أمها معنى هذه الرؤيا، فلطمت وجهها، وصكته، وقالت: إنك تمدين عينيك إلى أن تكوني عند ملك العرب، ولم يبق أثر لطم أمها على وجهها .
فحينما رآها النبي عليه الصلاة والسلام، وسمع منها هذه البشارة التي زفها الله تعالى إليها, واسى آلامها، وخفف من مصابها، وأعلمها أن الله تعالى حقق رؤياها .
الآن لما صار النبي عليه الصلاة والسلام على ستة أميال من خيبر, يريد أن يعرس بها, فأبت عليه، فوجد في نفسه, فلما كان بالصهباء، وهو على بريد من خيبر, نزل بها هناك, فمشطتها أم سليم، وعطرتها، وكانت صفية من أضوء ما يكون من النساء، فدخل صلى الله عليه وسلم على أهله، فلما أصبحت سألتها عمّا قال لها، فقالت: قال لي:

((ما حملك على الامتناع من النزول أولاً؟ فقالت: خشيت عليك من قرب اليهود، فزادها ذلك عنده منزلة ومكانة))
يعني أرادت أن يبتعد كثيراً عن ديار اليهود, لئلا يغدروه، فكانت حريصة عليه حرصاً شديداً، هذا الذي ذكره كتاب السيرة .
وفي طريق العودة إلى المدينة, تهيأ الركب لملاقاة الأهل والأخوة، فاستقبل القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالترحاب والإكرام، وكانت بشائر الانتصارات تزف إليهم حيناً بعد حين .
وقد ذكر ابن سعد من طريق عطاء بن يسار, قال:

((لما قدمت صفية من خيبر, أنزلت في بيت الحارث بن نعمان، فسمع نساء الأنصار, فجئن ينظرن إلى جمالها، وجاءت عائشة متنقبة، فلما خرجت, خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أثرها, فقال لها: كيف رأيت يا عائشة؟ قالت : رأيت يهودية، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقول ذلك، فإنها أسلمت، وحسن إسلامها))
أنا استنبط من هذا: أن الإنسان يكون له انتماء معين، له مشكلة معينة، وبعد أن يتوب إلى الله، ويسلم، وبعد أن يستغفر, ينتهي الماضي، فكلما كنت أقرب إلى الله نسيت الماضي، وكلما كنت تتحرك بحركة غير صحيحة, يثير ماضيك عندك الشيء الكثير، فإذا كان الإنسان تائهاً أو شارداً، وتاب إلى الله توبة نصوحاً, فينقسم الناسُ قسمين: قسم يريد أن يركز على ماضيه، وقسم يركز على حاضره، كلما كنت أقرب إلى الله عز وجل تركز على الحاضر، وكلما كنت أبعد عن منهج الله تركز على الماضي، وهذا الشيء يبعث في النفس الألم، كان الإنسان شاردًا ومخطئًا، ثم تاب، وأسلم وحسن إسلامه، وارتقى إلى الله عز وجل, لماذا تذكره بهذا الماضي؟ لا بدّ أنك تريد أن تثبطه، أن تضعفه، أن تذكره بما اقترفت يداه .
لذلك سيدنا يوسف عليه السلام علمنا من خلال القرآن لما التقى بأخوانه, قال:

﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
[سورة يوسف الآية: 100]
السجن ليس فيه خطر على بقاء الإنسان، الخطر بالجب، يعني لو أنك أردت أن تذكر أيهما أخطر وضعه في الجب أم وضعه في السجن؟ وضعه في الجب مظنة هلاك، لكن وضعه في السجن مظنة سلامة، هو يتذكر فضل الله عليه إذ أخرجه من السجن، ولم يقل: إذ أخرجه من الجب، لأنه إن قال: إذ أحسن بي إذ أخرجني من الجب, يخاطب أخوته, ذكرهم بجريمتهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان قمة في الكمال .
فإذا كان للإنسان عمل، وتاب منه، فالكمال ألا نذكره له إطلاقاً، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام, وقف موقفاً أبلغ من ذلك, لما جاءه عكرمة مسلماً, وجه أصحابه الكرام, فقال: جاءكم عكرمة مسلماً، فإياكم أن تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغه .
فالمؤمن يقرب ولا يبعد، لا يحمر الوجوه، لا يحرج الناس، في شخص عنده رغبة في إحراج الناس, دائماً يذكرهم بعمل أخطؤوا فيه سابقاً، سيدنا عمر جاءه رجل, وقال: يا أمير المؤمنين, إن أختي وقعت في معصية، وأقيم عليها الحد، وجاء الآن من يخطبها, أفأذكر ذلك لمن خطبها؟ قال له: والله لو ذكرته لقتلتك، إذا تاب الإنسان من شيء, ينبغي أن تطوى صفحة.
فقال صلى الله عليه وسلم:

((لا تقولي ذلك إنها أسلمت، وحسن إسلامها))
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء عقب ذكره لصفية:
((ومنهن التقية الذاكرة, ذات العين الباكية, صفية الصافية زوجة النبي صلى الله عليه وسلم))
بالمناسبة ليس في الإسلام عداوة ثابتة، الله جلّ جلاله في الأصل لا يبغض عباده، بل يبغض أفعالهم، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، فالله لا يبغض عبده، بل يبغض فعل عبده، بدليل أن الإنسان مجرد أن يتوب إلى الله, ينتهي الأمر .
سيدنا عمر رضي الله عنه, لما دخل عمير بن وهب, جاء ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، وأدرك بحدسه، وهو عملاق الإسلام, أن هذا عدو الله، جاء يريد شراً، فكتفه بحمالة سيفه، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال:

((يا رسول الله! هذا عمير جاء يريد شراً، سيدنا رسول الله قال له: ابتعد عنه، وأطلق سراحه، وقال: ادن مني يا عمير، -بقلب كبير، وعطف شديد, وقد جاء ليقتله- قال: سلِّمْ علينا، فقال: أنعمت صباحاً يا محمد، قال له: سلّم بسلام الإسلام، -بغلظة ما بعدها غلظة- ليس بعيدَ عهدٍ بسلام الجاهلية، ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: جئت أفك ابني من الأسر، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال له: ألم تقل لصفوان: لولا أولاد صغار, أخشى عليهم العنت، وديون لا أطيق سدادها, لذهبت وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ فوقف، وقال: أشهد أنك رسول الله، إن هذا الذي قلته لصفوان, لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله، وأسلم .
-الشاهد أن سيدنا عمر- قال: دخل عمير على رسول الله، والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده، وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي))

هذه عظمة الإسلام, ليس هناك عداوة دائمة، والمسلم لا يكره غير المسلم، بل يكره فعله فقط، يكره انحرافه، يكره تقصيره، يكره عدوانه، لا يكره ذاته، لأنه عبد لله شارد .
حال المسلم مع غير المسلم, كحال الطبيب مع المريض، هناك مرض جلدي، المرض مقزز، لكن هل يحقد الطبيب على المريض المصاب بمرض جلدي؟ لا, بل يشفق عليه، وكل مؤمن بلغ مرتبة عالية في قلبه رحمة، فإن رأى إنسانًا شاردًا منحرفًا, يشفق عليه، ولا يحقد عليه، وهذا الدين لا يبنى على الحقد، ولا على الكراهية، بل يبنى على المحبة، ويبنى على محبة الخلق كلهم .
إذاً: هذه بنت حيي ابن أخطب, قال عنها كتاب السيرة:

((التقية الزكية، ذات العين الباكية ، صفية الصافية، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم))
إليكم هذا الموقف من السيدة صفية مع ضرائرها :
الآن وقفات مع هذه الزوجة الصالحة، قال:
((لاحظت صفية, وهي بين أمهات المؤمنين, أنها شريكتهم برسول الله، لذلك أثارت شراكتها الجديدة حفيظتهم، -وتلك سنة الله في النساء، وغيرة المرأة ميزة فيها، ولولا أنها تغار عليك لما أحببتها، لا تضجروا من غيرة النساء، فلولا أنها تغار عليك لما أحببتها، تحبها لأنها تغار عليك، وتحرص عليك، إلا أن هناك غيرة مرضية، وهذه حالات قليلة، هناك غيرة سوية، كل امرأة تحب أن يكون زوجها لها وحدها، وهناك نساء غيرتهن مرضية، يعني يتوهمن أشياء لم تقع، ولن تقع، فهذه تحتاج إلى معالجة، فالمرأة هي المرأة- .
لاحظت صفية هذا الأثر في نفوس بعض ضرائرها, فقدمت لهن بعض الحلي من الذهب, كرمز لمودتها لهن، كما قدمت ذلك لفاطمة بنت محمد))

وهذا أسلوب ذكي جداً، الإنسان أحياناً يحقق بعض أهدافه بكلمة طيبة, أو بهدية مخلصة, من أجل أن المركب يسير .

ماذا فعل النبي حينما سمع من السيدة صفية الكلام المؤذي الذي توصل من عائشة وحفصة
أيها الأخوة, هذه الزوجة الذكية, اكتشفت أن الخطر لا يأتيها, إلا من زوجتين, تقتربان منها في السن والجمال؛ السيدة عائشة، والسيدة حفصة .
فمرة بلغها عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني آلمها قول حفصة وعائشة فيها، فقال عليه الصلاة والسلام:

((ألا قلت لهما: وكيف تكونان خيراً مني, وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى؟ فنزل قول النبي عليه الصلاة والسلام برداً وسلاماً على قلبها))
وكان لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم رعاية خاصة, حيث يشعر بغربة صفية ، يعني بقية نساؤه قرشيات بين قومهن، أما هي فغريبة، ولأنها غريبة, فلها معاملة خاصة، ولها عطف خاص، ولها رعاية خاصة، وهذا أيضاً من حسن السياسة، ومن الحكمة في التعامل .
أحيانا يكون الشخص مقيمًا في مدينة أقربائه، وأخوانه، وأعمامه، وأخواله، أما الشخص الغريب الوحيد, فليس له أحد، وهذا يحتاج إلى معاملة طيبة جداً، وإلى رعاية خاصة, كي ينسى أنه غريب .
روى أبو نعيم عن أنس, قال:

((بلغ صفية أن حفصة قالت لها: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي, فقال: ما شأنك؟ قالت: قالت لي حفصة: إنك بنت يهودي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: إنك لبنت نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحتَ نبي ، فبم تفخر عليك؟ ثم قال: اتق الله يا حفصة، وكانت صفية؛ عاقلة, فاضلة, حليمة, لا تأبه بكل تلك المضايقات))
هنا سؤال: الله عز وجل له حكمة بالغة، قد يخرج من صلب إنسان لئيم أحمق, امرأة صالحة، قد يأتي من نسل رجل مجرم, إنسان ولي، فالله عز وجل يخلط، معنى يخلط, قد يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، وقد تجد من نسل عالم جليل, تائهًا شاردًا، قد تجد من نسل رجل شارد, وليًّا لله عز وجل، فهذه صفاته أن تكون من نساء رسول الله عليه الصلاة والسلام عقل، وذكاء، وحكمة، وأدب، وخجل، وتواضع، ورأت أن قمراً وقع في حجرها، فلما ذكرت ذلك لأمها, لطمتها على وجهها .
تروي كتب السيرة أن بعض زوجاته آذتها بلسانها, فقاطعها النبي شهرين للتي آذتها، كان يرعاها رعاية خاصة .


روايات عدة ذكرت بشأن صفية بنت حيي بن أخطب :
كان لهذه السيدة المصون مواقف جليلة, وتصرفات نبيلة, تنبئ عن كبر عقلها، وعظيم إخلاصها .
والحقيقة: أروع ما في المرأة عقلها، المألوف أن المرأة تزهو بجمالها أو بأنوثتها، أما حينما يضاف إلى جمالها عقل راجح, فتكون شيئًا نادرًا جداً، فما أروع العقل بالمرأة، وقد قال رجلٌ لزوجته:

((إن في خلقي سوءاً، فقالت له: إن أسوأ منك خلقاً من حاجك إلى سوء الخلق))
روى زيد بن أسلم قال:
((اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية بنت حيي: إني والله يا رسول الله! لوددت أن الذي بك بي، فغمزن أزواجه ببصرهن، فقال عليه الصلاة والسلام: مضمضنّ، -أي اغسلن أفواهكن- فقلنا: من أي شيء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: من تغامزكن، وإنها والله لصادقة))
قال كتاب السيرة:
((أعظم بهذا من شهادة لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم))
وروى أبو نعيم أيضاً عن عبد الله بن عبيدة:
((أن نفراً اجتمعوا في حجرة صفية بنت حيي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا الله، وتلوا القرآن، وسجدوا، فنادتهم صفية رضي الله عنها: هذا السجود، وتلاوة القرآن، فأين البكاء؟ أين الخشوع؟ وما كان الله ليسمح لامرأة أن تكون زوجة النبي, إلا أن تكون قمة في الكمال، وقمة في الفهم والقرب))
وقد روى ابن حجر عن أبي عمر, قال:
((كانت صفية رضي الله عنها عاقلة فاضلة))
روي أن جارية لها أتت عمر, فقالت:
((إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها عمر, فسألها عن ذلك، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، فلم يجب عمر، ثم قال للجارية، أو قالت هي: ما حملك على ذلك؟ قالت: الشيطان، فقالت: اذهبي فأنت حرة))
يعني أرادت أن توغر صدر عمر عليها، وهي بهذا تتخلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم, الذي كان يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه .

خاتمة القول :
أيها الأخوة, الحقيقة: أن رواية هذه البطولات عن الصحابيات الجليلات, وفي مقدمتهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم, يعلمن الشيء الكثير، يعلمنا أن المرأة كالرجل، يمكن أن تحقق بطولة، ويمكن أن تكون في أعلى مرتبة عند الله عز وجل، وأن أي نظرة إلى المرأة, توهم أنها دون الرجل، وأن مجالها البيت, والطبخ, والأشياء التي يفعلها النساء عادة, هذه نظرة جاهلية للمرأة، لذلك أنا أتمنى على كل أب عنده بنات, أن يلقي في روعهن, أنهن يمكن أن يكن بطلات، فالمرأة التي ترعى حق زوجها وأولادها كالمجاهدة في سبيل الله،
((اعلمي أيتها المرأة، وأعلمي من دونك من النساء, أن حسن تبعل المرأة زوجها, يعدل الجهاد في سبيل الله))
والإنسان إذا جاءته بنت أو بنتان, فأحسن تربيتهما, فالنبي كفله في الجنة، قالوا:
((واحدة , قال: واحدة))
في بيت ليس فيه بنات إلا ما ندر، فأي بيت فيه بنت, يمكن أن يكون هذا البيت مرحوماً ، وأي رجل جاءته بنت, فرباها تربية صالحة, يمكن أن تكون هذه الفتاة الصالحة, سببًا لدخول الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
((أكرموا النساء، فو الله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً))


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 11:14 AM   #12



الصورة الرمزية آفراح
آفراح غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 20
 تاريخ التسجيل :  Sep 2012
 أخر زيارة : اليوم (05:47 AM)
 المشاركات : 15,156 [ + ]
 التقييم :  1818
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



جوزيت كل خير وبورك فيك
تحية


 
 توقيع : آفراح


كلمة شكر لا تفي حقك على الاهداء مصممتنا المبدعة سوالف احساس على الرمزية والتوقيع


رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 12:56 PM   #13


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



تسلمين اختى الكريمة افراح


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 12:59 PM   #14


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الحادى العاشر )


الموضوع : رملة بنت ابى سفيان




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هي أم حبيبة, ومع من هاجرت إلى الحبشة, وما هي الماسأة التي وقعت فيها في تلك الديار ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس العشرين من دروس الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع زوجات النبي أمهات المؤمنين، ومع السيدة حبيبة بنت أبي سفيان، وهي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت قديماً، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، ولها مأساة كبيرة جداً، حدث عنها أخواها الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير .
كان لأم المؤمنين أم حبيبة مكانة عالية, وحرمة فائقة، ولمكانتها قيل لأخيها معاوية: أنت خال المؤمنين، لأن أخته أم المؤمنين، وهو أخوها، فكان معاوية يدعى خالَ المؤمنين لمكانتها العلية عند المسلمين .
يعني قبل أن أتابع الحديث, المرأة تستطيع أن تصل عند الله إلى أعلى مكانة، ولا تمنعها أنوثتها أن تكون ولية لله، ولا يمنعها كأنثى أن تكون عالية القدر عند الله، ولا يمنعها أن تسبق آلاف الرجال، هذه حقيقة .
أما نحن فعندنا فكر جاهلي، أن هذا امرأة، لا، هناك نساء صحابيات جليلات فُقْنَ الرجال، بربكم هل تصدقون امرأة ترى زوجها مقتولاً في ساحة المعركة، ثم ترى أخاها مقتولاً، ثم ترى أباها مقتولاً، ثم ترى ابنها مقتولاً، وتقول: ما فعل رسول الله؟ لم تطمئن حتى وقعت عينها على شخص النبي، فلما رأته معافًى سليماً, قالت: يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل، أية امرأة هذه؟‍ فالمرأة إذا عرفت ربها، واستقامت على أمره، وأدت مهمتها التي أناطها الله بها تسبق الرجال .
أنا أتمنى أن زوجتك في البيت تعطيها نفَسًا قويًا، تعطيها معنويات عالية، بإمكانها أن تتفوق، بإمكانها أن تكون في أعلى مقام،
((اعلم أيتها المرأة, وأعلم من دونك من النساء, أن حسن تبعل المرأة زوجها, يعدل الجهاد في سبيل الله))
متاح لكل امرأة أن تكون بطلة، متاح لكل امرأة أن تدخل الجنة من أي أبوابها، متاح لكل امرأة أن تسابق الرجال، امرأة زاحمت النبي عليه الصلاة والسلام هكذا تروي بعض الأحاديث:
((أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي، قلت من هذه يا جبريل؟ قال: هي امرأة مات زوجها, وترك لها أولاداً, فأبت الزواج من أجلهن))
تنازع رسول الله في دخول الجنة، فالمرأة مساوية للرجل تماماً في التكليف والتشريف, والمسؤولية، إلا أن خصائصها غير خصائصه، خصائصها مناسبة لأنوثتها، وللمهمة التي أنيطت بها، وخصائص الرجل مناسبة لرجولته, وللمهمة التي أنيطت به، وهذا العصر خلط الأوراق، أنت يمكنك أن تقوم برحلة على متن (تراكس), مستحيل، وتسخر سيارة سياحية من أجل بناء، هذا الذي يحصل، خلطنا الأوراق، وتشبهت النساء بالرجال، والرجال بالنساء .
أصبحت المرأة في غير موقعها مفسدة، موقعها مقدس، موقعها أم، موقعها زوجة، موقعها أخت، أصبحت ممتهنة، أصبحت سلعة من السلع، أنت إذا أردت أن تروج أي سلعة, تضع عليها امرأة شبه عارية، حتى إن مرة عدد كبير من نساء بريطانيا, قمن بمظاهرة, يحتجن بها, على أن المرأة, امتهنت إلى درجة, أنها سلعة من السلع، لا تروج بضاعة في العالم كله إلا عن طريق المرأة، صورة مغرية لامرأة مع البضاعة، أما المرأة المسلمة فإنها ملكة .
أعجبني من رجل سألته امرأة: لماذا يمنع أن نصافح الرجال؟ هو أجابها إجابة ليست شرعية، ولكنها إجابة حكيمة، قال لها: لأن الملكة في بريطانيا لا يصافحها إلا سبعة رجال بالقانون البريطاني، ونساء المسلمات ملكات لا يصافحهن إلا سبعة رجال بالقانون الرباني .
لما اشتد الأذى على المسلمين من المشركين في مكة، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام للمسلمين المستضعفين بالهجرة فراراً بدينهم إلى الحبشة, هاجرت أم حبيبة مع زوجها عبيد الله مع من هاجر من الصحابة إلى الحبشة، وتحملت هذه الزوجة الكثير مما تحمله الصحابة من أجل إسلامهم .
أنتم قبضتم الثمن، أما الصحابة فقد دفعوا الثمن، أنتم حملكم الإسلام، نشأتم في بلد إسلامي، المساجد مفتوحة، الصلاة لا شيء عليك بها، تصلي في البيت، وفي المسجد، والدروس قائمة، والخطب قائمة، وهناك مكتبة إسلامية، ولك أن تفعل ما تشاء، أما الصحابة فكانوا إذا صلوا يقتلون، ففرّوا بدينهم إلى الحبشة, ليقيموا شعائر الله، هم دفعوا الثمن, ونحن قبضنا الثمن، هم حملوا الإسلام، ونحن حَمَلَنا الإسلام .
تحملت أذى قومها، وتحملت هجر أهلها، والغربة عن وطنها وديارها، كل ذلك لتحيي حياة الإيمان والإسلام بعيداً عن الشرك والعصيان، وحينما استقرت في الحبشة آمنة مطمئنة, فاجأتها محنة شديدة وعصيبة، تلك المحنة هي ردة زوجها عن الإسلام، وتنصره بعد أن هداه الله للإسلام، إنها محنة منكرة، الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، والنجاشي أعلن إسلامه، وأسلم كبار البطارقة، وهذه زوجها تنصر، وشرب الخمر وعاقرها حتى مات من شرب الخمر، هل هناك محنة أقصى من هذه المحنة؟ أقرب رجل إلى المرأة زوجها، زوجها أصبح يعاقر الخمر، من البطولة إلى معاقرة الخمر .
بماذا كلف رسول الله النجاشي, ومن وكلت أم حبيبة في تزويجها, وما موقف والدها من هذا الزواج ؟
أخرج ابن سعد عن ابن عمر بن سعيد الأموي, قال: قالت أم حبيبة:
((رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت، فأصبحت فإذا به قد ترك دينه، فأخبرته بالمنام فلم يحفل به، وأكبّ على الخمر حتى مات من شرب الخمر، فأتاني آت في نومي, فقال: يا أم المؤمنين))
ربنا جلّ جلاله أحياناً, يدعم الإنسان برؤيا صادقة، كلمة (يا أم المؤمنين) أي ستغدو زوجة النبي عليه الصلاة والسلام .
فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن لي، فإذا هي جارية يقال لها أبرهة, فقالت:
((إن الملك يقول لك: وكِّلِي من يزوجك؟ فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص بن أمية فوكلته، فأعطيت أبرهة على بشارته سوارين من فضة، فلما كان العشي, أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب, ومن هناك من المسلمين, فحضروا، وخطب النجاشي، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وتشهد، ثم قال:
أما بعد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة، فأجبت، وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار، ثم سكب الدنانير، ثم خطب خالد بن سعيد, فقال: قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله, وزوجته أم حبيبة، وقبض الدنانير، وصنع لهم النجاشي طعاماً .
-أخواننا الكرام, صدقوا أنه ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، والله أعرف شبابًا مؤمنين مستقيمين ورعين كلُّ الطرق أمامهم مسدودة، ولا يوجد أمل أن يتزوج، هناك من طَرَقَ بيته، وعرض عليه ابنته مع بيت وفرش، ومع مبلغ لتأمين حاجاته ، هذا شيء دائم، فما من إنسان يعف عن الحرام ابتغاء وجه الله, إلا وله من الله معين، إلا وله من الله نصير، العبرة أن تكون مطيعاً لله، البطولة أن تطيعه ولا تعبأ بما سوى ذلك، فإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك- .
قالت أم حبيبة: فلما وصل إليّ المال أعطيت أبرهة منه خمسين ديناراً, فرددتها إليّ، وقالت: إن الملك عزم عليّ بذلك، -يعني يبدو أنها صادقة- أبلغت الملك أنها أعطتها سوارين من فضة، فزجرها، وقال: أرجعي كل ذلك، وردت عليّ ما كنت أعطيتها أولاً، ثم جاءتني من الغد؛ بعود من الطيب، وورس، وعنبر، فقدمت به معي على رسول الله .
-قدمت لها هدية هذه الجارية- ولما بلغ أبا سفيان والدها، وكان مشركاً, أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ابنته, قال: هو الفحل لا يجدع أنفه))

أي أنه الكفء الكريم الذي لا يعاب ولا يرد .
كم هي عالية أخلاق النبي، حتى إن هذا من أكبر أعدائه، ناصبه العداء عشرين عاماً ، وحاربه ثلاث مرات؛ في بدر، وأحد، والخندق، ومع ذلك ماذا قال عنه؟ قال: إنه الكفء الكريم الذي لا يعاب ولا يرد، معنى ذلك لو أن المشركين وجدوا على النبي مأخذاً واحداً, لملؤوا الدنيا صياحاً، لكنه هو الكريم, ابن الكريم، الصادق، الأمين، الورع، هذا قبل البعثة، اسمه الأمين أساساً .
أحد الرجال مغرر به، مغسول دماغه, يقول: إن كل مال الكفار يجب أن نأخذه عنوة ، فلما قرأ أن النبي ترك في فراشه عليَ بن أبي طالب, ليردّ الأمانات إلى أهلها، وكلهم مشركون، معنى ذلك أن تفكيره غلط، إذا كنت تريد أن تبني إسلامك على العدوان, فهذا الإسلام منبوذ، فالنبي عليه الصلاة والسلام، وهو نبي الأمة، وهو المشرع, حينما هاجر, ترك علي بن أبي طالب في سريره, ليردّ الأمانات إلى أهلها .
سيدنا أبو العاصي لما أسلم, كل ما معه من تجارة ضخمة لكفار قريش, صودرت في المدينة، وعرضوا عليه الإسلام، فإذا أسلم صارت له، قال:
((والله لا أبدأ إسلامي بهذا، فعاد إلى مكة، وأعطى كل ذي حق حقه، ثم أعلن إسلامه))
إياك أن تخلط الدين بالدنيا، إياك أن تأخذ الدنيا، وتعللها بالدين، هذا لا يخفى على الناس .

متى عادت أم حبيبة إلى وطنها, وكيف استقبل النبي المهاجرين بعد طول هذه الغربة, وكيف كان استقباله لأم حبيبة وكذلك زوجاته ؟

عادت هذه المهاجرة عقب فتح النبي خيبر، يعني بقي هؤلاء الصحابة في الحبشة ثلاثة عشر عاماً؛ يصلون، ويصومون، ويعبدون الله عز وجل، كم هي الحوادث صعبة, إنسان مبعد عن أهله ثلاثة عشر عاماً، ولم يكن ذنبه إلا أن يقول: ربي الله .
عادوا مع جعفر بن أبي طالب ومن معه، وقد سرّ النبي عليه الصلاة والسلام أيما سرور بمجيء هؤلاء الصحابة بعد غياب طويل، ومعهم الزوجة الصابرة, الطاهرة الكريمة، إنهم خرجوا من مكة فارين بدينهم من الشرك، واليوم يعودون، وأمر الإسلام يعلو، وسلطانه يمتد، فلا خوف من ظلم، ولا إرهاب، وعندما حلّوا بالمدينة, استقبلهم النبي عليه الصلاة والسلام مسروراً مبتهجًا، وهو يقول: والله لا أدري بأيِّهم أفرح؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟.
هناك إشارة لطيفة لا بأس من ذكرها: عن أبي موسى الشعري, قال:
((كان أناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وكانت مع مهاجري الحبشة على حفصة زوج النبي زائرة، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: هذه أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية، هذه البحرية، قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم فغضبت, وقالت: كلا، والله كنتم مع رسول الله؛ يطعم جائعكم، ويرشد جاهلكم، وكنا في أرض العداء البغضاء، وذلك في الله، وفي رسول الله، وايم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً, حتى أذكر ما قلت لرسول الله، وقالت له: والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، -أنت قلت: سبقناكم بالهجرة، أنا سأذهب إلى النبي ، وأنقل ما قلته لي، فإن أقر قولك قبلته، وإن لم يقره, سأنقله إليك دون زيادة- .
فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله, إن عمر قال كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا قلت له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان))
أنتم هاجرتم مرتين مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، اعتزاز الإنسان بإيمانه، سيدنا عمر قال كلمة: نحن سبقناكم بالهجرة، والنبي عليه الصلاة والسلام جبار الخواطر، من عظمة هذا النبي العظيم؛ أن كل صحابي من صحابته, كان يظن أنه أقرب الناس له، هذه بطولة، الصغار أحياناً يخصون بعض الناس باهتمامهم، يقربون لهم بعض الأشخاص، ويهملون الباقين، هذا شيء من الفجاجة في قيادة الدعوة، أنت للكل .
مرة إنسان بعيد عن الدين بعد السماء عن الأرض في فرنسا، نجح في الانتخابات، فألقى خطابًا في أربع كلمات، قال: أنا أشكر من انتخبني، وأحترم من لم ينتخبني، وأنا لكل الفرنسيين، وهذا إنسان كافر، ليس فيه دين .
فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وحبيب الحق، هو لكل المؤمنين، بعطفه، ومحبته، ووفائه, وقربه، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((لن يمضي وقت على هؤلاء المهاجرين العادين, حتى اكتسبوا ما فاتهم من علم القرآن والسنة طوال غيابهم، ثم انتسبوا في مواكب الجهاد مع من سبقوهم بإحسان، وقد أشركهم النبي في مغانم خيبر))
هذا له معنى عميق، يعني كأنهم حضروا غزوة خيبر، أشرك النبي من هاجر إلى الحبشة في مغانم خيبر مع أهل الحديبية .
وما أن وصلت أم حبيبة رضوان الله عليه إلى المدينة بعد تلك الغربة الطويلة والأعجوبة المريرة, حتى استقبلها النبي عليه الصلاة والسلام بالسرور والبهجة، وأنزلها إحدى حجراته بجوار زوجاته الأخريات، واحتفل نساء المدينة بدخول أم حبيبة بنت سفيان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنَّ يحملن إليها التحيات، والتبريكات، والتهاني، والأمنيات بهذا الزواج المبارك، وقد أولم خالها عثمان بن عفان وليمة حافلة, نحر فيها الذبائح، وأطعم الناس اللحم فرحًا وبهجة بهذا الزواج الميمون، واستقبل أمهات المؤمنين هذه الشريكة الكريمة بالإكرام والترحاب، ومن بينهن صفية العروس الجديدة التي لم يمض على عرسها أيام معدودات، لأنها جاءت من خيبر، وقد أبدت السيدة عائشة استعداداً لاستقبال الزوجة الجديدة التي لم تثر فيها حفيظة الغيرة حين رأتها، وقد قاربت سن الأربعين، وتعيش أم حبيبة بجوار صواحبها الضرائر بكل سعادة وأمان .
ما هو سبب مجيء أبي سفيان إلى المدينة, وهل حقق مراده عند ابنته لهذا السبب الذي جيء من أجله, ومتى أسلم أبو سفيان, وهل سرت ابنته في ذلك؟
حضر أبو سفيان إلى المدينة، صلح الحديبية فيه شرط، وهو في ظاهره لصالح قريش، أما في الحقيقة فقد انقلب عليهم، فمن خرج من المسلمين إلى مكة مرتداً خذوه، أما من جاءنا منكم مسلماً نرده، ليس هناك تكافؤ، فهذا الشرط لم يقبله سيدنا عمر، وقال:
((علام نعطي الدنية في ديننا؟ قال له سيدنا الصديق: الزم حجرك، هو رسول الله، -هذا الشرط من غرائب الصدف، فهو في ظاهره مهانة، أما عملياً فهؤلاء الذين جاؤوا, وردَّهم النبي, شكَّلوا عصابة, قطعوا الطريق على أهل مكة، فضجرت تجارتهم، لأن الطريق غير آمن- فجاء أبو سفيان إلى النبي يرجوه، ويتوسل إليه أن يلغي هذا الشرط
-أيّ واحد أسلم من عندنا فاقبلوه، ليس هناك مانع- فالنبي لم يرض، -هذا هو سبب مجيء أبي سفيان إلى المدينة- .
لقد حضر أبو سفيان والد أم حبيبة المدينة, يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يمد في أجل الهدنة التي تمت المصالحة عليها في الحديبية, فيأبى عليه النبي هذا الطلب، أراد أبو سفيان أن يستعين على تحقيق الطلب بابنته زوجة النبي، فدخل دار أم حبيبة، وفوجئت به يدخل بيتها، وما رأته من خمسة عشر عاماً، ولم تكن قد رأته منذ أن هاجرت إلى الحبشة، فلاقته بالحيرة، فلا تدري أترده لكونه مشركاً، أم تستقبله لكونه أباً؟ وأدرك أبو سفيان ما تعانيه ابنته، فأعفاها من أن تأذن له بالجلوس، وتقدم من تلقاء نفسه, ليجلس على فراش رسول الله، فما راعه إلا وابنته, تجذب الفراش من تحته, لئلا يجلس عليه، فسألها بدهشة: يا بنية, أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: يا بنية, لقد أصابك بعدي شرٌّ، وخرج من بيتها خائب الرجاء .
وبعد أن خرج أبو سفيان من بيت ابنته, توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد علم من أمر ابنته ما علم، فكلمه أبو سفيان في العهد فلم يجبه بشيء، فأجابه علي فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه به، -له هيبة كبيرة، صلى الله عليه وسلم- فقال أبو سفيان: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني, قال: والله لا أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، -أي أن الناس بمكة بجواري، أي بحمايتي- ثم الحق بأرضك، -يعني أجر أهل مكة- قال: أو ترى هذا مغنياً عني شيئا، قال: لا والله، لا أظنه مغنياً عنك شيئاً، ولكنني لا أجد لك غير ذلك، -طلب من النبي فرفض، سيدنا الصديق رفض، سيدنا عمر رفض، سيدنا علي قال شيئاً لا يقدم ولا يؤخر: أجر أهل مكة- .
فذهب أبو سفيان حتى وقف في مسجد النبي، والناس مجتمعون للصلاة, فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يجبه بشيء، ولم يردّ عليه الصحابة بكلمة، فلما قدم على قريش, أخبرهم بما جرى معه، وأنه جاء علياً, فوجده ألين القوم، وقال عليّ شيئًا صنعته، فو الله لا أدري هل يغني هذا شيئاً أم لا؟ قالوا : وبم أشار عليك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك والله إذا زاد الرجل أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك، يعني عاد خائباً، ما حقق شيئاً .
-الحقيقة: أم حبيبة لما نقضت قريش عهدها مع رسول الله, لم يكن من أم حبيبة لأبيها وأخيها أي عون أو مساعدة, إلا أنها تدعو الله بالهداية لأبيها وقومها، ولعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام راقبنها، وهي في موقفها ذاك الحرج، ترى جيش رسول الله يتأهب, ليأخذ قومها على غرة، ومكة لا تزال في حيرة من الأمر، وأبوها يحمل إلى قريش خيبة الرجاء، والحقيقة هذا موقف صعب، أبوها وقومها وزوجها النبي، وكما يقول كتاب السيرة: لا تراهم أغلى عليها من المسلمين، وهي التي هجرت أهلها وقومها ثلاثة عشر عاماً في الحبشة فرارًا بدينها من أذاهم- .
ولما تم فتح مكة، وطارت البشرى إلى أهل المدينة بنصر الله والفتح، وما تسامع الناس بما كان من لقاء النبي بأبي سفيان، وقد أجاره العباس، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم معه, حيث قال: ويحك يا أبا سفيان, ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي؛ ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، وما أحكمك، -وأبو سفيان زعيم قريش، وأحد أكبر قادتها, يرى أن النبي في أعلى مكان من الحكمة، والكرم، والرحمة، والصلة- قال : بأبي أنت وأمي؛ ما أحلمك، وما أكرمك، وما أحكمك، وما أوصلك، والله إني لظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئاً عنّا .
-حسب اعتقاده لا إله إلا الله- فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا أبا سفيان, أم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي؛ ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، أما هذه فو الله إنه لفي النفس منها حتى الآن شيء .
فزجره العباس على مقالته هذه زجراً قاسياً، وقال: ما لبث أبو سفيان إلا أن أعلن إسلامه، أسلم في وقت متأخر جداً بعد أن حارب النبي عشرين عاماً، وبعد أن كان لا بدّ له أن يسلم فأسلم .
-الآن في بعض الصحابة كانوا حكيمين جداً- قال: فالتمس العباس من النبي, أن يكرم الرجل بشيء يرضي كبريائه، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل بيت الله الحرام فهو آمن، هذا كرمه.
طارت أصداء هذا الحدث الجلل المبارك, حتى بلغ سمع أم حبيبة، فرحتْ فرحاً شديداً ، وشكرت الله تعالى أن حقق لها أمنيتها ورجاءها في إسلام أبيها وقومها, وكانت رضي الله عنها, قد رأت أنه قد أزيح عن كاهلها عبء الحزن, على عدم إسلام أبيها وقومها، وقد اعتبر يوم الفتح, يوم فتح لفرحتها، وسرورها، وسعادتها, بنجاة أبيها من الخلود في النار))

بعض الأخوة الكرام, عندهم حرقة على أوليائهم، وعلى آبائهم، أنا أكبرهم عليها كثيراً، الأب عمره ستون سنة لا يصلي، وبعيد عن الدين، وابنه متألم, يرى أباه هكذا .

وفاتها :
أيها الأخوة, قبل وفاتها أرسلت إلى عائشة كما روى ذلك ابن سعد عنها, قالت:
((دعتني أم حبيبة عند موتها, فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون من الضرائر, فتحللي من ذلك، فحللتها من ذلك, واستغفرت لها، فقالت لي: سررتِني سرّك الله))
إذا أخطأ إنسان مع أخيه، وقال له: سامحني، فليس هناك ألطف من الاعتذار، كان بين عائشة وبين أم حبيبة ما كان بين الضرائر، وهذا الشيء مألوف، قبل وفاتها طلبت المعذرة من السيدة عائشة، وأرسلت بمثل ذلك إلى باقي ضرائرها، وتوفيت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين، ودفنت بالبقيع .

مرة كنت في العمرة، والفندق مطل على البقيع، والطابق عال، انظر إلى البقيع, كل أصحاب النبي فيه أعلام؛ سيدنا عثمان، والسيدة عائشة، وزوجات النبي، وبنات النبي، شيء لا يصدق، النبي عليه الصلاة والسلام كان عصره عصر الأبطال، قال:
((إن الله اختارني واختار لي أصحابي))
أيها الأخوة, إنّ أبواب البطولة مفتحة على مصارعيها في كل مكان وزمان، إله الصحابة هو إلهنا، والوسائل هي نفسها، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، ومتاح لك أن تكون بطلاً في كل عصر، الشرع أمرك، والقرآن بين يديك، والسنة بين يديك، وبإمكانك أن تصل إلى الله بطاعته, والإحسان إلى خلقه، والولاء لله ورسوله، هذا ولاء أم حبيبة عجيب ، أبوها يدخل بيتها, تسحب من تحته الفراش، وتقول: هذا فراش رسول الله، وأنت نجس مشرك، ما هذا الولاء؟ في أعماقها دعاء إلى الله بهداية أبيها وقومها، هذا الموقف الأكمل، إذا أنت واليت إنسانًا فاسقًا منحرفًا فموالاتك له طعن في إيمانك، ولاؤك للمؤمنين، ودعاؤك لمن حولك من أقربائك، الولاء للمؤمنين والدعاء للشاردين، أما الولاء للشاردين والقسوة على المؤمنين, فلا .
الله عز وجل وصف المؤمنين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، الناس بالعكس، على المؤمنين قساة جداً، أما أمام الأقوياء فضعاف جداً، يقسو على المؤمنين لاعتقاده لا ناصر لهم في هذه الدنيا، ويستخزي أمام الكافرين ويخنع لهم، أما المؤمن يذل للمؤمن، ويكون عزيزاً أمام الكافر، ومن جلس إلى غني, فتضعضع له, ذهب ثلثا دينه .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:01 PM   #15


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثانى العاشر )


الموضوع : ماريا القبطية



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من هي ماريا القبطية, وكيف أسلمت, وفي أي عام من الهجرة أنجبت إبراهيم ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الحادي والعشرين من دروس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من دروس صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أمهات المؤمنين زوجاته الطاهرات، ومع مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماريا القبطية أم إبراهيم .
ماريا بنت شمعون، أهداها له المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية ومصر، أسلمت على يدي حاطب بن أبي بلتعة، وهو رسولُ رسولِ الله إلى المقوقس, هذا الذي ارتكب خيانة عظمى، وأنهضه النبي، وأخذ بيده، وصلح حاله، وهذه هي البطولة، قد يخطئ الإنسان فتسحقه ، أن تسحقه ليست بطولة، أما أن تأخذ بيده, وأن تصلحه, وأن يعود إنساناً عظيماً, هذه هي البطولة.

حاطب بن أبي بلتعة قبل فتح مكة, أرسل إلى قريش أن محمداً سيغزوكم, فخذوا حذركم، جاء الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل حاطب، فأرسل علي بن أبي طالب مع صاحب له إلى موضع, يقال له: الروضة بين مكة والمدينة, ليأخذ الكتاب من امرأة أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، وهذا الذي فعله حاطب في كل المقاييس خيانة عظمى، فجاء به النبي, فقال عمر:
((يا رسول الله, دعني أضرب عنق هذا المنافق .
-استمعوا أيها الأخوة إلى جواب النبي- قال له: لا, يا عمر، إنه شهد بدرًا، -لم يهدر النبي له عملاً- قال: يا حاطب, ما حملك على ما فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت، ولا ارتدت، وإني لست لصيقاً بقريش، أردت أن يكون لي يد عند قريش، فاغفر لي ذلك, -ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟- قال: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً))
أنهضه من كبوته، أعانه على نفسه، أعطاه فرصة ليصلح نفسه .
أقول لكم مرة ثانية : الإنسان قد يخطئ، البطولة لا أن تسحقه، لا أن تقصمه, لا أن تنهي وجوده، البطولة أن تصلحه، لذلك رويت لكم سابقاً قصة هنا موطن الاستشهاد بها، إمام أحد المساجد في دمشق قبل سبعين أو ثمانين عامًا, رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام ، وقال له: قل لفلان: إنه رفيقي في الجنة، الذي رأى الرؤيا خطيب مسجد الورد في ساروجا ، وهذا الذي معه البشارة, له بائع بسيط جداً في طرف المسجد، هذا الخطيب تأثر، هذه البشارة لي أم له؟ له، طرق بابه، وقال: يا فلان, لك عندي بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أقولها لك إلا إذا أنبأتني بما فعلت مع ربك، طبعاً تمنع فاستحلفه، قال: والله تزوجت امرأة, وبعد خمسة أشهر من زواجنا, كانت على وشك الولادة، معنى ذلك: أن هذا الولد ليس ابنه، وأنها زلت قدمها، وأخطأت، وارتكبت خطيئة، قال له: بإمكاني أن أسحقها، وأن أفضحها، أو أن أطلقها، ولكنني رجوت الله أن يصلحها على يدي، علمت أنها تابت توبة النصوح، جئت بالقابلة، وولدتها، وأخذت الطفل الصغير، ودخلت المسجد بعد أن نوى الإمام الصلاة، ووضعته في طرف المسجد، وصليت مع الإمام، فلما انتهت الصلاة, بكى الطفل, فتحلق الناس حوله، جئتهم مستغرباً، قلت: خير، قالوا: تعال انظر، إنه طفل في زاوية المسجد ، قال: آتوني أنا أكفله، أرجعه إلى أمه، أمام الجيران سمعة الأم جيدة، لذلك إمام هذا المسجد رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال: قل لفلان: إنه رفيقي في الجنة .

أنت من الممكن أن تسحق إنسانًا، وأن تفضحه، وأن تقصمه، وأنْ تنهي وجوده، هذا شيء سهل, لكن البطولة أن تصلحه .
الآن في نقطة دقيقة جداً: عندك أمين مستودع خانك، اختلس بضاعة، أنت غفرت له ، لكن هل تبقيه في هذا العمل؟ لا، تنقله إلى عمل آخر، لا علاقة له بالبضاعة، النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يرفع معنويات حاطب، من أجل أن يجعله كما كان صحابياً جليلاً ، من أجل أن يأخذ بيده, كلفه بعمل من جنس خيانته، أرسله رسولاً له إلى مصر، إلى المقوقس، هذا هو حاطب بن أبي بلتعة .
فماريا القبطية أسلمت على يد حاطب، وهو قادم بها من مصر إلى المدينة، حين عرض عليها الإسلام، وكانت مولاة النبي عليه الصلاة والسلام، وضرب عليها الحجاب، ولدت له إبراهيم الذي عاش قرابة سنتين، وكانت ولادته في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة، وكانت أمها رومية، ولها أخت قدمت معها اسمها سيرين، أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا حسان بن ثابت، وأسلمت مع أختها أيضاً .
من هو الصحابي الذي أرسله النبي إلى المقوقس عظيم مصر, وما هو الحوار الذي دار بينهما, وما الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى النبي ؟

ما قصة ماريا؟ بعد أن تم للنبي عليه الصلاة والسلام معاهدة الحديبية، وما أعده من دعائم, لاستتباب الدولة الإسلامية الفتية، وتقوية هيبتها في النفوس، كان صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه, يتحسس الموقف الدولي، ويتفهم أوضاعه، وفي ضوء ذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام, يوجه الرسل والسفراء لتبليغ الإسلام إلى ملوك الأرض، لأن رسالة الإسلام عامة لكل البشر، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 107]
من أولئك الملوك الذين أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام رسالة, يحثه فيها على الإسلام, المقوقس عظيم مصر، جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يدعوه فيه إلى الإسلام، هذا المقوقس كان من الأقباط, جاء به حاطب حتى دخل مصراً فلم يجده هناك، فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، ركب حاطب سفينة، وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه المقوقس أمر بإحضاره بين يديه، فلما جيء به, نظر في الكتاب، وفضه، وقرأه .
الآن دققوا في الحوار الذي جرى بين حاطب وبين المقوقس، بعد قراءة الكتاب دار الحوار التالي:
قال لحاطب:
((يا حاطب, ما منع نبيك إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه؟ قال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه ، ألا يكون قد دعا عليهم أن يهلكهم الله عز وجل حتى رفعه الله إليه؟ .
-هذه فطنة ، حتى استطاع أن يرجع له الكرة- قال: أحسنت، أنت حكيم من عند حكيم ، -أخطر شيء: الرسول، لأنه يمثل المرسل، وشرف الرسول من شرف المرسل- ثم قال له حاطب: إنه كان من قبلك يزعم أنه الرب الأعلى - يعني فرعون - فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، -لأنه قد ورد أن الظالم سوط الله ينتقم به، ثم ينتقم منه، وقد الله عز وجل:
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 129]
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾
[سورة القصص الآية: 4-6]
قال له: فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك، -وقد قرأت دعاء يهز أعماق الإنسان:
((يا رب, لا تجعلني عبرة لأحد من خلقك، لا تجعلني قصة تتلى في المحافل، لا تجعلني مأساة, يتعظ الناس بها، اجعلني أتعظ لا أن يتعظ بي، اجعلني أعتبر، لا أن يعتبر بي، اجعلني أشاهد، لا أن يشاهدني الناس، وأنا في مأساة))
احفظ الله يحفظك- .
قال له: إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشد عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منهم النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما السلام إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، بل نأمرك به .

-إنسان من الصحراء ليس معه دكتوراه شرف أولى، لا يتقن أربع أو خمس لغات، لا يحمل شهادات عليا، ما خرج من معهد دبلوماسي، من الصحراء، لكن الإيمان يفجر العبقريات ، هو يخاطب ملكًا، كيف أصلحه النبي؟ كيف ارتكب خيانة عظمى، وهو الآن رسولُ رسولِ الله بهذا الفقه، وهذه الحجة، والحكمة ؟- .
فقال له المقوقس: إني نظرت في أمر هذا النبي, فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء، أي المستور والأخبار بالنجوى، وسأنظر، ثم أخذ الكتاب، وجعله في حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جاريته، وأرسل المقوقس إلى حاطب, فقال: القبط لا يطاوعني في اتباع نبيكم .
-أنا عملي غالٍ عليّ، إذا اتبعتكم فقدتُ عملي، لذلك لا أحب أن تعلم بمحاورتي تلك، لا أحب أن يعلم بهذه المحاورة أحد، نبيك على حق، ورجل مرسل، وليس بكذاب، ولا كاهن، ولا مشعوذ، يأمر بالخير، وينهى عن الشر، ولكن القبط لا يتبعونني إن آمنت بهذا النبي- ولا أحب أن يعلم أحد بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر في البلاد نبيك، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده، -يعني النهاية لهم- .
أعطاه مئة دينار وخمسة أثواب، وأهدى المقوقس إلى النبي عليه الصلاة والسلام ماريا القبطية، -موضوع درسنا اليوم- وأختها سيرين، وغلاماً اسمه: مأبور، وبغلة شهباء، وأهدى له حماراً أشهب، كان أغلى شيء حمار أشهب، يقال له: يعفور، وفرساً، وأهدى إليه عسلاً من عسل بنهة، قرية في قرى مصر، يعني هذه الهدية, وأبقني على حالي))

هذا موقف مصلحي، مصلحته أن يبقى على رأس ملكه .
ما مضمون الكتاب الذي حمله حاطب إلى النبي من المقوقس, وماذا أخذ النبي من الهدايا التي أرسلت إليه من المقوقس ؟
فلما عاد حاطب قافلاً, زوده المقوقس بكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام, قال فيه المقوقس:
((بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من مقوقس عظيم القبط, سلام عليك، أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبثياب، وأهديت لك بغلة كي تركبها, والسلام عليك))
.
موقف مصلحي، هذه هدية، أنت عندك، ونحن عندنا، فلما قدم حاطب المدينة، وعرض الهدايا على النبي صلى الله عليه وسلم قبلها، ونقل إليه كلام المقوقس، وناوله الكتاب, فقال صلى الله عليه وسلم:
((ضنَّ بملكه، ولا بقاء لملكه))
vz
من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، لماذا الإيمان؟ من أجل أن تتخذ القرار الحكيم، من أجل أن تعرف الواحد الديان، من أجل أن تفوز بالدنيا والآخرة، اختار الدنيا, واختار النبي عليه الصلاة والسلام ماريا فاكتفى بها، ووهب أختها لشاعره حسان بن ثابت .

كيف استقبلت ماريا القبطية حياتها الجديدة حينما حلت مولاة للنبي, وما هي الأمنية التي كانت في خواطرها, وما الخطب الجلل الذي أصاب فؤاد أم إبراهيم ؟
طار النبأ إلى بيوت النبي أن اختارها لنفسه، وكانت شابة، وقد أنزلها في منزل الحارث قرب المسجد، وقد حاولت عائشة وضرائرها التعرف على هذه الجارية عن بعد، فعلمت عائشة باهتمام النبي بها، ولكنها لا تقدر على معارضة النبي، أو الإنكار عليه، لكنها راحت ترقب من بعيد مظاهر اهتمام النبي بهذه الجارية المصرية .
استقبلت ماريا حياتها الجديدة بنفس مشرقة مبتهجة، حيث حلّت مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مولاته ملك يمينه، وليست زوجته، وإنه لشرف عظيم، وزادها غبطة وسروراً: أن ضرب عليها الحجاب كشأن أمهات المؤمنين، وانصرفت بكليتها للاهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم التي تراه صنو المسيح, التي كانت تدين بدينه قبل إسلامه، فأي كرامة قد حظيت بها, حين قدمها قدر الله من بلاد القبط, لتكون أقرب المقربات, بقرابة الولاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
مرة دخلت إلى بيت أحد الدعاة, كتب آية بخط جميل جداً في صدر المجلس، والله لما قرأتها اقشعر جلدي:
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 113]

إذا أكرم الله عز وجل إنسانًا بالعلم، وعرفه بذاته، وعرف سرّ وجوده، وغاية وجوده ، وعرف حقيقة الحياة, والكون، وحقيقة الإنسان، وأن أثمن شيء هو العمل الصالح، وأن الحياة فانية زائلة، وأن الجنة هي الحياة الحقيقية، هذا الذي يعلم هذه الحقائق أغنى الأغنياء, لقد أعطى الله جلّ جلاله الذين يحيهم العلم والحكمة، أما الذين لا يحبهم فأعطاهم المال, قال تعالى:
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
[سورة القصص الآية: 76]
أعطى المال لمن لا يحب، أعطى الملك لمن لا يحب، لفرعون, فقال: أنا ربكم الأعلى، أما الذين يحبهم, فماذا أعطاهم؟ العلم والحكمة :
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
[سورة القصص الآية: 14]
لأن العلم حارس، أن تمتلك الحكمة, فأنت أغنى الأغنياء، أقوى الأقوياء، أسعد السعداء، أكرم الكرماء، فبالحكمة يصلح الفاسد، وبالحمق يفسد الصالح .
كانت هذه المولاة مشغوفة برسول الله، كما كانت هاجر مولاة إبراهيم مشغوفة بإبراهيم، وكانت ماريا أم ولد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد آتاه الله منها ولداً اسمه إبراهيم تيمناً بأبيه إبراهيم، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((أنا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ, وَبُشْرَى عِيسَى, وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ))
وقد علمت ماريا الشيء الكثير عن هاجر التي سبقتها بقرون إلى بلاد الحجاز، بلاد الله الآمنة المباركة الطيبة، فتاقت نفسها لزيارة تلك الأماكن المقدسة, لتحيي في نفسها معالم الوفاء والإخلاص، وألفت أن تخلو بنفسها, لتجمع صور الماضي بواقع الحاضر، وكيف أن هاجر عند نبي الله إبراهيم، وماريا عند نبي الله محمد، وكيف أن هاجر لها ابن اسمه إسماعيل، وهي لها ابن اسمه إبراهيم؟ .
كانت رضي الله عنها تواقة, لتكون أم ولد, ليكون لها شرف الذرية من محمد, كما كان لهاجر شرف الذرية من إبراهيم عليه السلام .
تمضي الأيام طاوية ذكريات الأمل المتجدد في نفس ماريا, حتى أذن لها الله بالحمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحملت بإبراهيم، وقد حقق الله لها أمنيتها, فولدت ابن رسول الله الذي سماه باسم أبيه الكبير إبراهيم عليه السلام، نالت بذلك بغيتها، وتحققت رغبتها ، وكانت لها بذلك الحظوة الكبيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم, حيث أصبحت أم ولده الذي أعتقها من الرق، وسمت منزلتها, لتكون في مصاف أمهات المؤمنين، فيا لها من مكانة عالية.
سعدت هذه الزوجة الطاهرة أن تهب لنبي الله عليه السلام الولد من بعد خديجة التي لم يبق من أولاده إلا فاطمة رضي الله عنها، فقد تزوج النبي عليه الصلاة والسلام قبل ماريا بالكثير, غير أنهن لم ينجبن الأولاد .
تقول أم المؤمنين عائشة:
((ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على ماريا، ذلك أنها كانت أسيرة عند رسول الله، وأنزلها أول ما قدم بها بيت للحارث بن النعمان, فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها, فجزعت، وكان عليه الصلاة والسلام يؤثرها ويحبها))
وفي رواية: ثم رزقه الله منها الولد، وحرمنا منه، ولكن ماريا لم تطل سعادتها سوى عامين، بل أقل, حيث قدر الله تعالى ألاّ يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أبا أحد من رجالكم، فكانت الفاجعة الأليمة أن توفى الله ولدها الوحيد إبراهيم، فقضى إبراهيم نحبه، وبقيت أمه من بعده ثكلى أبد الحياة .
يعني لحكمة بالغة جداً: لم يبق من ذرية النبي ذكور، هذا ابن النبي، وليس معصوماً، فإذا أخطأ انتقلت البغضاء إلى أبيه، وهذه مشكلة كبيرة جداً، لذلك لحكمة أرادها الله لم يكن من ذرية النبي الذكور، بل كنّ كلهن إناثًا .
بلغ إبراهيم قرابة العامين من عمره فمرض, فطار فؤاد أمه عليه، فأرسلت إلى سيرين خالة إبراهيم, لتقوم على تمريضه، وطلب الدواء له، وتمضي الأيام, والطفل لم تظهر عليه بوادر الشفاء، فخافت عليه أكثر فأكثر، حتى إذا اشتد عليه المرض, أرسلت إلى أبيه النبي، فجاء ليرى ولده، قال أنس: لقد رأيته, وهو يجود بنفسه، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا النبي, فقال:
((إِنَّ الْعَيْنَ لتَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ ليَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يرضي رَبُّنَا, وَإِنَّا على فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))

تعليق لطيف: حينما يصاب الإنسان بمصيبة ليس ممنوعاً أن يتألم، وإلا ليس من بني البشر، الممنوع أن يعترض، الممنوع أن يرفض، الممنوع أن يتهم الله عز وجل، هذا هو الممنوع، أما كل واحد منا إذا مات ابنه يتألم، إذا خسر عمله يتألم، إذا أصابه مرض يتألم، فالألم لا تؤاخذ عليه، ولكن الذي تؤاخذ عليه ألا تفهم الحكمة، أن تعترض، أن ترفض، فالنبي قال:
((إِنَّ الْعَيْنَ لتَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ ليَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يرضي رَبُّنَا, وَإِنَّا على فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]

وهذا درس لنا جميعاً، مقامك عند الله, بقدر رحمتك لأولادك، وأنا والله أتمنى أن يكون كل بيت من بيوت المسلمين جنة، والإنسان قد يعيش في جنة بين أهله وأولاده من دون مال كثير، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم, فسعوهم بأخلاقكم، الابتسامة، واللطف، والمودة، والدعابة أحياناً، والمعاونة، والاعتذار، هذه تخلق جوًّا رائعًا، فلذلك نجاح الإنسان في زواجه نجاح كبير جداً, أحد أسباب نجاحه في حياته العملية .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
((قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ, فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
كان إبراهيم ابن النبي مسترضعاً في عوالي المدينة، وكان النبي ينطلق مع أصحابه, فيدخل البيت الذي فيه ابنه إبراهيم، وكان ظئره يعني زوج مرضعته قيناً حداداً، والبيت كله دخان، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع، من شدة رحمته بأولاده, وعطفه عليهم, وحبه لهم .
ما هي الظاهرة الكونية التي حصلت حينما شاع خبر وفاة إبراهيم, وماذا قال الناس عنها, وما هو الموقف الذي وقفه النبي من جراء هذه الظاهرة ؟
لما شاع خبر وفاة إبراهيم, حصل كسوف للشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال عليه الصلاة والسلام, وهذا هو الموقف العلمي، أنا قبل سنتين كنت في عمرة، وأنا في مكة المكرمة, سمعت خبرًا تكرر كثيراً: أن في المدينة أنوارًا ساطعة إلى السماء، هذه أنوار النبي، فلما قدمت المدينة في أحد الأيام بين المغرب والعشاء, كان ثمة درس علم جيد جداً، فجلست مع الدرس، فانتهى الدرس, فقال المتكلم العالم الجليل: أنبأني أمير المدينة أن هناك مشروعُ تزيينٍ للمدينة عن طريق أشعة الليزر، ترسل هذه الأشعة إلى الفضاء بشكل حزم, تراها عن بُعد مئتي كيلو متر، دائماً ليكن موقفك علمياً، طبعاً أيّ إنسان إذا مات ابنه، والشمس كسفت, يعني لمصلحة مكانته بين أخوانه، طبعاً كسفت لموت ابني، هذه تزيد مكانته كثيراً، لكن النبي أمين على هذا الدين، أمين على الحقيقة، هذه ليست حقيقة، جمع أصحابه وقال:
((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ, لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ, وَلَا لِحَيَاتِه,ِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
هذا الموقف العلمي، وما في دعوة تنجح إلا إذا كان الموقف علمياً، تعريف العلم: الوصف المطابق للواقع مع الدليل، فإذا ابتعد الوصف عن الواقع, صار جهلاً، لذلك قالوا من بعض التعاريف المعقدة للعلم: علاقة بين شيئين مقطوع بها، تطابق الواقع، وعليها دليل، لو أن هذه العلاقة ليس مقطوعًا بها, لكانت ظناً، أو شكاً، أو وهماً، الصحة في الوهم ثلاثون بالمئة، والصحة في الشك خمسون بالمئة، والصحة في الظن ثمانون بالمئة، أما القطع فمئة بالمئة، علاقة بين شيئين مقطوع بصحتها تطابق الواقع، فإن لم تطابق الواقع كانت جهلاً، عليها دليل، فإن لم تأت بدليل كانت تقليداً، فالعلم ليس جهلاً، ولا تقليداً، ولا وهماً، ولا شكاً، ولا ظناً، العلم قطعي مطابق للواقع عليه الدليل، ولولا الدليل لقال: من شاء ما شاء، وإن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم، والعلم والدين يتطابقان حتماً، لأن الدين وحي من عند الله، والعلم قوانين مستنبطة من خلق الله, والمصدر واحد .

لذلك أحد كبار العلماء قال: لا بدّ من تطابق صحيح المنقول مع صريح المعقول، قد يتعارض النقل الضعيف، أو النقل الموضوع، أو التفسير المغلوط للمنقول مع العلم، أو قد يتعارض النقل الصحيح مع نظرية لم تثبت صحتها، أما صريح المعقول فلا بدّ أن يطابق صحيح المنقول قولاً واحداً .
وبقيت ماريا صابرة راضية بقضاء الله وقدره, حتى نزل بها الخطب الجلل، ألا وهو وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فأنساها ذلك حزنها على ابنها إبراهيم، وبقيت على العهد التي كانت عليه في حياته, حتى جاءها أجلها في عهد عمر سنة ستة عشر للهجرة رضي الله عنها وأرضاها .
ما هي الوصية التي أوصى النبي بها قومه بشأن مصر ؟
وقد حفظ الصحابة لماريا مقامها كما حفظوا وصية رسول الله في قومها، عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ, وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ, فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا, فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا, فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا, أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وَصِهْرًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: أن الحسن بن علي رضي الله عنه, كلمه معاوية بن أبي سفيان لأهل حفن، وهي قرية من قرى مصر, في هذه القرية ولدت ماريا، لما جاء عبادة بن الصامت إلى مصر وفتحها, أعفى هذه القرية من كل خراج عليها, إكراماً لزوجة نبيهم عليه الصلاة والسلام .
الخاتمة :
أيها الأخوة, هناك دروس كثيرة جداً تعلمنها، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بالعيال من كل إنسان، وأنت رحمتك بعيالك بقدر إيمانك، هناك أباء يعيشون لأولادهم، وهناك أمهات يعشن لأولادهن، وأن أكبر شهادة ينالها الرجل والمرأة أولاده الصالحون، والولد استمرار والولد صدقة جارية .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:05 PM   #16


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثالث العاشر )


الموضوع : زينب بنت خزيمة



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
متى ولدت زينب بنت خزيمة, ومن كان زوجها السابق, ومتى تزوجها النبي, وكم مكثت في بيت النبي, وكم كان عمرها حينما توفيت ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثاني والعشرين من دروس الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومع أهل بيت النبي, زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين، ومع الزوجة الرزينة: زينب بنت خزيمة, العفيفة, الكريمة, التي كانت أم المساكين، لأنها كانت تطعمهم، وتتصدق عليهم .
هي زينب بنت خزيمة أم المؤمنين, زوج النبي عليه أتم الصلاة والتسليم، ولدت قبل البعثة في مكة بثلاث عشرة سنة، وكانت زوجة عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب الذي استشهد في غزوة بدر، فخطبها النبي عليه الصلاة والسلام بعد انقضاء عدتها إلى نفسه، فجعلت أمرها إليه، فتزوجها في رمضان سنة ثلاث من الهجرة بعد حفصة، أقامت عند النبي ثمانية أشهر، وتوفيت في شهر ربيع الآخر سنة أربع للهجرة، وعاشت ثلاثين سنة، رضي الله عنها وأرضاها .
أولاً: هناك تعليق على عمر الإنسان، هناك عمر مديد، وهناك عمر قصير، ثلاثون سنة، والحقيقة أن العمر الزمني هو أتفه أعمار الإنسان، ولا قيمة له إطلاقاً، هناك العمر الإيماني، هناك عمر ممتلئ بالأعمال الصالحة، النبي عليه الصلاة والسلام عاش ثلاثاً وستين عاماً، في هذه الأعوام أقسم الله جلّ جلاله بعمره، قال:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 72]
ما هذا العمر الذي حقق فيه نشر الخير، والعدل، والفضيلة، والسعادة, في كل أرجاء الدنيا؟ يعني الله عز وجل حينما يخاطب النبي يقول:
﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
[سورة الضحى الآية: 1-3]
إنّ الله جلّ جلاله يتودد إلى هذا النبي الكريم، ماذا فعل هذا الإنسان النبي؟ عاش ثلاثة وستين عاماً، فالإنسان يقاس عمره بعمله الصالح، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
أنا أتمنى على كل أخ أن يسأل هذا السؤال: ماذا قدمت للآخرة؟ أما أكلنا، وشربنا، وسكنا، وتزوجنا، وأنجبنا، وعملنا، وكسبنا الأموال، ثم غادرنا الدنيا, فهذا شأن الناس كلهم، هذا شأن الناس جميعاً في كل بقاع الأرض، أما ماذا قدمت، هل تركت علماً؟ هل تركت مشروعاً خيرياً؟ هل لك بصمات في الحياة الإسلامية؟ هل دعوت إلى الله؟ هل لك عمل طيب؟ هل لك حرفة أتقنتها، ونفعت بها المسلمين؟ هل ربيت أولاداً تربية صالحة؟ هل ربيت بناتك تربية إيمانية إسلامية؟ هل لك زوجة أخذت بيدها إلى الله عز وجل؟ ماذا فعلت؟ هذا السؤال يجب ألا يغيب عن أذهاننا جميعاً: ماذا قدمت للآخرة؟ .
فهذه عاشت ثلاثين عاماً، وعاشت مع رسول الله ثمانية أشهر، تذكرون أن سيدنا زيد الخير, لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام, رحب به, وقال:

((من الرجل؟ قال: أنا زيد الخيل، قال: بل أنت زيد الخير، قال له: والله يا زيد ما وصف لي رجل, فرأيته إلا رأيته دون ما وصف, إلا أنت يا زيد، لله درك، -أخذه إلى البيت، وقدم له وسادة, ليتكئ عليها، عمر إيمانه ساعة- قال: والله يا رسول الله, لا أتكئ بحضرتك، قال: يا رسول الله, أعطني ثلاثمئة فارس, لأغزو بهم الروم، قال له: لله درك يا زيد، أي رجل أنت, وغادر النبي إلى بلده، وفي الطريق توفي))
صحابي جليل بنواياه الطيبة، وبرغبته في نشر الحق, وصل إلى ما وصل إليه في ثلاثة أيام، هناك شيء يسمى حرق مراحل، الزمن لا قيمة له إطلاقاً، سحرة فرعون أناس جاؤوا ليبطلوا عمل سيدنا موسى، هم سحرة عندهم أساليب، وعندهم أنابيب مطاطية, فيها زئبق, وضعوها على سطح ساخن، فالزئبق تمدد, فتلونت هذه الأنابيب, كأنها أفاع تسعى، أما حينما ألقى عصاه, فإذا هي ثعبان مبين، هناك عرفوا أن هذا نبي، وليس بساحر, قال تعالى:
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾
[سورة طه الآية: 70-72]
يعني تصور فرعون، وما أدراك ما فرعون؟ فرعون الطاغية، فرعون البطاش, يقول له إنسان من أتباعه:
﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
[سورة طه الآية: 72-73]
أين المراحل؟ دقائق من سحرة إلى صديقين، أتفه أعمار الإنسان عمره الزمني، لكن أعظم أعماره عمره الإيماني المفعم بالأعمال الصالحة، وحجمك عند الله بحجم عملك الصالح، العمل الصالح الذي لا علاقة له بمصلحتك، ولا ببيتك، ولا بكسب مالك، ولا بمكانتك، هناك من يعمل عملاً خالصاً، هذا المرأة التي سقت الكلب في الصحراء لا تبتغي سمعة، ولا جاهاً، ولا مكانة، ولا خبراً ينشر، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((غفر الله لها))
لأنها سقت هذا الكلب، لأن عملها خالص لوجه الله .
الإخلاص شيء عظيم، أعمال قليلة مع الإخلاص أعظم من أعمال كثيرة من دون إخلاص، أقامت عند النبي ثمانية أشهر، وقد توفيت، وعاشت ثلاثين سنة رضي الله عنها وأرضاها .


لماذا لم يذكر كتب التاريخ عن هذه السيدة إلا القليل, وبماذا كانت تلقب ؟
أيها الأخوة, إلا أن الكتب فقيرة جداً بالحديث عن هذه الزوجة, لقصر مدة عيشها مع رسول الله، لكن هناك تعليق ثان: هذا سيدنا عمر رضي الله عنه, عملاق الإسلام, لما جاءه رسول أحد قواده في نهاوند, وقال له:
((مات خلق كثير أنت لا تعرفهم، ماذا قال سيدنا عمر؟ قال: وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم))
أيام إنسان يبتغي السمعة والشهرة والتألق، وأن يعلو نجمه في سماء الأدب أو العلم, هذا أيضاً من الدنيا، النبي عليه الصلاة والسلام وصف المؤمنين الصادقين, بأنهم أتقياء أخفياء, إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، فالإنسان إذا ما حصل نصيب من الشهرة, ليكن له عند الله شهرة .
دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم, فوقف له، ورحب به أشدّ الترحيب، وقال له :

((أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه، قال: أو مثلي؟ قال: نعم يا أخي، خامل في الأرض, عَلَم في السماء))
يمكن أن يكون الموظف الصغير، معه شهادة متواضعة، ودخله محدود، ويسكن في بيت صغير في طرف المدينة، ولا أحد يعرفه، لكن الله يعرفه، لأنه مخلص .
لم يمض على زواجه صلى الله عليه وسلم من حفصة إلا أشهر معدودة, حتى أرسل النبي إلى زينب بنت خزيمة, يخطبها إلى نفسه، وما أن يصل الخبر الجليل إلى زينب المهاجرة الصابرة التي أفجعها موت زوجها .
يعني بالتعبير اليومي كان النبي جبار الخواطر، في بعض الصفات ليست جميلة، كانت متأخرة في الجمال، زوجها استشهد في معركة أحد، فالنبي عليه الصلاة والسلام منحها هذا الشرف، وهي أرملة الآن .
وحينما خطبها النبي قالت له: إني جعلت أمر نفسي إليك، يعني وهبت نفسها للنبي، وهذا زيادة في التعبير عن بالغ الرضا والامتنان، وعن عميق السرور الذي غمر قلبها الوديع، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام .
أحياناً يبحث الإنسان عن شكل، عن قياسات، عن لون، لكن أحياناً الزوجة المؤمنة تملأ البيت سعادة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:

((من تزوج المرأة لجمالها, أذله الله، من تزوجها لحسبها, زاده الله دناءة، من تزوجها لمالها, أفقره الله، فعليك بذات الدين تربت يداك))
تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة، ولم تمكث عنده إلا أشهر، ثم توفيت رضي الله عنها .
أَقَلَّتْ كتب السيرة والتاريخ من ذكر أخبار أم المؤمنين زينب بنت خزيمة، ويعود السبب إلى ذلك الزمن اليسير الذي أقامت عند النبي عليه الصلاة والسلام .
في رواية لم تمكث إلا شهرين فقط، وفي رواية أخرى أنها أقامت عنده ثمانية أشهر، ولعلها أمضت هذه الفترة في المرض، والله تعالى أعلم .
إلا أن هذه الزوجة الطاهرة اسمها في كتب السيرة: أم المساكين، لكثرة معروفها، لعلكم ترزقون بضعفائكم، لعلكم تنصرون بفقرائكم، اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين .


وقفات أمام هذه القصص, وأمام هذه المشاهد القرآنية :
ورد في بعض الأحاديث:
((الحزانى في كنف الله، إن الله يحب كل قلب حزين، الحزانى معرضون للرحمة))
تجد الرجل ملء السمع والبصر، بلباس أنيق جداً، وشكل رائع جداً، بيته فخم، قال الله عز وجل:
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾
[سورة التوبة الآية: 55]
تجد بيته فخمًا، لكنه قطعة من الجحيم، وثمة بيت متواضع قطعة من الجنة .
هنا أذكر قصة من ثلاثين سنة، حيث دخلت إلى بيت, يمكن بالجادة الأولى من فوق، ليس فيه بلاط، كله إسمنت، أثاث بسيط لدرجة غير معقولة، بل هو أرخص أنواع الأثاث، والبيت نظيف، أنا شعرت أن هذا البيت فيه سعادة، فيه أنس، فيه تفاهم، فيه حب، طفل أنيق مرتب، جلست على الأرض متكئًا على وسادة من إسفنج، على بساط بسيط، ليس في البيت شيء، لكنه محفوف بالسرور والسعادة .
ومرة أخ من أخواننا الكرام، وهو طالب علم من بلد إسلامي بعيد, قال لي: هل من الممكن أن تزورنا في رمضان؟ فقلت له: حباً وكرامة، البيت متواضع إلى درجة غير معقولة أيضاً، آخر جادة، هناك سرور وتجليات، وشعور بالأنس لا يوصف .
اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني مع المساكين، ليس مع الفقراء، ليس مع المتخلفين عقلياً، لا, بل مع إنسان مفتقر إلى الله، من هو المسكين؟ المفتقر إلى الله، العبد لله، المتواضع، المحب لله ورسوله, هذا هو المسكين، طبعاً هناك جبابرة، وأقوياء، وطغاة، وهناك مساكين، الأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم، والأنبياء ملكوا القلوب بكمالهم، والناس جميعاً أتباع قوي أو نبي، أتباع القوي يقهرون، وأتباع النبي يتكاملون، سلاحهم كمالهم، وهؤلاء سلاحهم قوتهم .
أوضح مثل: اذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وقفْ أمامه، وانظر إلى الألوف المؤلفة، بالملايين من شتى بقاع الأرض، العرب أقلية، من إندونيسيا، من ماليزيا، من باكستان، من الهند، من الفلبين، من تركيا، ومن مصر، ومن بلادنا، كل هؤلاء يقفون أمام النبي بتواضع، وبكاء، وخشوع، ماذا فعل النبي؟ ماذا أعطاهم؟ ملك القلوب بكماله، بتواضعه، بمحبته لله، لذلك فإما أن تملك القلوب بكمالك، وإما أن تملك الرقاب بقوتك، وهنيئاً لمن ملك القلوب بكماله .
طبعاً ليس هناك تفاصيل عن أعمالها الصالحة، هي في التاريخ أمُّ المساكين، وقد قال عز وجل:

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
قد يدعى الإنسان إلى حفل من أعلى مستوى، وأحياناً يدعى إلى حفل متواضع جداً، أنا أقول لكم: تلبية حفلات الكبراء من الدنيا، وتلبية حفلات المؤمنين المتواضعة من عمل الآخرة، والنبي الكريم يقول:
((لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
لو دعاك إنسان إلى مكان بعيد بطرف المدينة إلى كأس شاي, فتذهب بنفس طيبة، بنفس صادقة، بنفس مخلصة، فالله عز وجل يكافئك، وأحيانا تدعى إلى حفل فخم جداً، لكن ليس هناك سرور، لأنه مصحوبٌ بالتباهي، والكبر، والغطرسة، والاستعلاء، لذلك المساكين هم المؤمنون، اللهم أحيني مسكيناً، المؤمنون المتواضعون المفتقرون إلى الله عز وجل, هؤلاء كن معهم، واصبر نفسك معهم، يأمر الله النبي:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
فإما أن تصبر نفسك مع المؤمنين، وإما أنك تريد زينة الحياة الدنيا, قال تعالى:
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
عيينة بن حصن الفزاري، وكان رئيس قومه، دخل على النبي الكريم, فوجد عنده سلمان الفارسي، وصهيبًا الرومي، وبلالا الحبشي، وغيرهم من ضعفاء الصحابة، وعليهم ثياب خلقة بالية، وقد عرقوا فيها، فقال عيينة:
((إن لنا شرفاً، فإذا دخلنا عليك, فأخرج هؤلاء، فإنهم يؤذوننا، واجعل لنا مجلساً، ولهم مجلساً، فنزل قوله تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
المؤمن له عند الله مكان كبير، ومقام عظيم, قال تعالى:
﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
أي لا تتجاوزهم، ولا تزدريهم, قال تعالى:
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
لا تطع من أعرض عن القرآن، واتبع هوى نفسه, قال تعالى:
﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
أي ضائعاً، هذه آية مهمة جداً:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
قد تأتي إلى المسجد، وتجلس على الأرض، وقد تتعب من الجلوس على الأرض، وقد تكون مدعواً إلى حفلة بالمجتمع المخملي كما يقولون، فتؤثر بيت الله ودرس علم على هذه الحفلة ، فأنت ممن تنطبق عليهم هذه الآية:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
[سورة الكهف الآية: 28]
ليس غريباً لمن يصحب النبي عليه الصلاة والسلام أن ينشأ على حب المساكين، والتقرب إليهم، والإحسان لهم .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:07 PM   #17


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الرابع العاشر )


الموضوع : ميمونة بنت الحارث



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هم أقرباء ميمونة بنت الحارث, ومتى تزوجها النبي, ومن وكلت في عقد زواجها, وهل روت عن النبي, وممن روى عنها؟
ننتقل إلى زوجة أخرى من زوجات النبي، وهو الدرس الثالث والعشرون، وموضوع اليوم: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة عبد الله بن عباس, وخالة خالد بن الوليد، وكان اسمها (برة), فسماها النبي (ميمونة) .
من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يعطي أجمل الأسماء، وكان يأمرنا أن نخاطب الإنسان بأحب الأسماء إليه، لأن ثمة أسماء ليس محببة كثيراً، فمعلم المدرسة, أو مدير في دائرة, من علامات نجاحه في عمله, يخاطب موظفيهم بأحب الأسماء إليهم، وهناك أسماء أحياناً تثير الضحك، له اسم، وله كنية، كنيته تثير الضحك، نناديه باسمه، اسمه يثير الضحك, نناديه بكنيته، هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم .
أحيانا بالعكس: اسم عدوان مثلاً، عدوان سلام، يا سيد سلام، نادِ الإنسان بأحب الأسماء إليه، وإذا ناديته باسمه وغضب, فقل له: الله عز وجل ما ذكر إنساناً بكنيته إلا أبا لهب، لأن اسمه عبد العزى، ولو أن الله عز جل قال: عبد العزى, لرأوه إلهاً، فالله عز وجل ذكره بكنيته فقط، أما أحبابه فقال: يا يحيى، يا زكريا، يا عيسى، إلا أن القرآن كله ليس فيه خطاب للنبي باسمه, إلا بألقابه النبوية والرسالة، يا أيها النبي، يا أيها الرسول، وقد ورد اسم محمد، ولكن في معرض الخبر، محمد رسول الله، أما كخطاب فهذا مما انفرد به النبي صلى الله عليه وسلم .
فميمونة بنت الحارث زوج النبي, تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع, لما اعتمر عمرة القضاء، وبنى بها عقب مرجعه من العمرة في مكان بين مكة والمدينة، وكان الذي تولى تزويجها العباس رضي الله عنه بتوكيل منها، وكان قد أرسل صلى الله عليه وسلم جعفراً ليخطبها له، فأذن للعباس فزوجها منه، روت عن النبي أحاديث كثيرة، روى عنها ابن أختها عبد الله بن عباس، وابن أختها الأخرى عبد الله بن شداد، وابن أختها عبد الرحمن بن السائب، وابن أختها الأخرى يزيد بن الصم، وآخرون كمولاها عطاء بن يسار ، وكريب مولى ابن عباس، وكثيرون .
ما الخبر الذي روجه المشركون في مكة, وماذا فعل النبي حينما علم بذلك, ومتى تم عقد بناء النبي على زوجه ميمونة ؟
كلكم يعلم أن في الحديبية, حينما منع المشركون رسول الله والمؤمنون من أن يؤدوا العمرة، واتفقوا على صلح الحديبية، على أن يرجعوا هذا العام، ويأتوا في العام التالي، فهذه العمرة سُمِّيت عمرة القضاء .
أحب أهل مكة أن يعزوا أنفسهم، فأخلوا مكة، وتركوها لرسول الله في العام المقبل، فأشاعوا وأذاعوا في أرجاء مكة, أن المسلمين يعانون عسرة وجهداً، دائماً الكافر يتلقى الأخبار السيئة للمؤمنين براحة، ويتلقى الأخبار الطيبة بانزعاج .
بالمناسبة يمكن أن يكون هذا مقياسًا كبيرًا لإيمانك، إذا أصاب أخاك المؤمن خيرٌ ارتحت له, فهذه علامة إيمانك، وإذا تضايقت فهي علامة النفاق، المنافق إن تصبك حسنة تسؤه، وإن تصبك سيئة يفرح بها، هذا المنافق .
فأنت انظر مع أخوانك، أخ لك أخذ شهادة عليا، صار دكتور، أتتضايق أم تفرح؟ أخوك تزوج، واشترى بيتًا، أو احتل منصباً رفيعاً، له مكانة، فهذا مكسب لك، نحن عندنا قاعدة: المؤمنون كلهم لواحد، والواحد للمجموع، كل مؤمن لمؤمن، والمؤمن للجميع .
وقف أهل مكة عند دار الندوة, لينظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أصحابه, كيف أصابهم الجهد، وأنهكتهم العسرة، هناك معلومات مبنية دائماً على التباعد, والأوهام, والأخطاء، معلومات سيئة جداً عن أحوال المؤمنين، فالمشركون أرادوا أن ينظروا إلى أوضاعهم الصعبة، وعلم النبي بالخبر, فقال لأصحابه الكرام:
((أرملوا بالبيت, ليرى المشركون قوتكم، ولما دخل صلى الله عليه وسلم اضطبع بردائه، -يعني أخرج كتفه اليمنى, هذا الاضطباع بالحج والعمرة- أخرج عرضه اليمنى، ثم قال: رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، وأخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه، فكان ذلك إظهاراً لقوتهم، وتكذيباً لإشاعات المشركين .
-هذا منه حكم شرعي، فأنت لا ينبغي أن تقف موقفَ ضعفٍ أمام كافر، لا ينبغي أن تتضعضع لإنسان كافر، وتتذلل أمامه، يجب أن تظهر بأعلى مظهر، لأن لله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، ابتغ الحوائج بعزة الأنفس، فإن الحوائج تجري بالمقادير، كافر بعيد عن الدين, رأى مؤمنًا يتذلل أمامه، يقول: هذا دين, نحن على حق، وليس هم، لأنك أنت حينما تذللت أمامه, ضعفت مركز الدين، أنت سفير للمؤمنين، لما تضعضعت أمامه, ضعضعت مركزك، وضعضعت مركز الدين أمامه، وفتنت الكافر، وأقنعته أننا أناس صغار, ضعفاء مسحوقون، وأنت قوي وفهمٌ، رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة .
أيها الأخوة, يمكن أن تشكو لمؤمن، فإن فعلت ذلك, فإنك تشتكي إلى الله، أما إذا اشتكيت لكافر, فكأنما اشتكيت على الله، أما أن تشكو الناس إلى الله, فهذا ضعف التوحيد، أما أن تشكو نفسك إلى الله, فهذا محض الإيمان- .
لما دخل النبي مكة, أمسك ابن رواحة خطام ناقة النبي، وقال:
خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إنـي مؤمن بقيـله أعرف حق الله في قبولـه
وأقام النبي عليه الصلاة والسلام في مكة ثلاث ليال بعد العمرة، وكان العباس قد زوجه ميمونة بمكة، وكان لها من العمر ست وعشرون عاماً، فعقد عليها بمكة بعد تحلله من عمرته، وبنى بها في طريق عودته إلى المدينة، وفي هذه العمرة نزل قوله تعالى:

﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾

[سورة الفتح الآية: 27]
-يقول كتاب السيرة: ما بقي أحد من المسلمين إلا وقد أيقن يومئذ أن يوم النصر الأكبر كاد قريباً وشيكاً، لأن بعد عمرة الحديبية عمرة القضاء، بعدها فتح مكة, قال تعالى:
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾
[سورة الفتح الآية: 1]
الناس في نشوة، هذه المعاني من العزة, والنصر, والفتح، وميمونة رضي الله عنها في نشوة سرورها، وفرحها، وابتهاجها بزواجها من رسول الله، ليست قضية زواج أن تكون امرأة زوجة رسول الله، شيء صعب أن يتصوره الإنسان .
أنا في الحج الماضي أمام قبر النبي, هذا أعظم إنسان في الكون، سيد الخلق، قمة المجتمع البشري كمالاً، وعلماً، وخلقاً، وأدباً، ومعرفة بالله، فكيف بامرأة تكون زوجته؟ .
بالمناسبة إذا كان لامرأة زوج مؤمن وضايقته, فلها عند الله عقاب أليم، لأن العلماء قالوا في قوله تعالى:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾

[سورة الأحزاب الآية:30]
ممكن أن تأتي زوجة النبي فاحشة؟ مستحيل، فما معنى الآية؟ العلماء قالوا: زوجة النبي لو أنه ضايقته قليلاً، أو قصرت في حقه، أو حملته ما لا يطيق، أو أنها طالبته بالدنيا, لكان هذا عند الله فاحشة .
السيدة خديجة أين وجه عظمتها؟ أنها كانت أكبر معين للنبي، كثير من النساء إذا أحب زوجها أن يؤلف كتابًا لا تريحه، النساء الجاهلات عداوات الكتاب، ثمة عداوة مستحكمة بينها وبين الكتاب، لا تسمح لزوجها أن يكون متألقاً .
أحيانا تجد مؤلفًا يقول: أهدي الكتاب لزوجتي، التي كانت السبب، إنها كانت أكبر عونٍ على كتابته، لأن التأليف يحتاج إلى صفاء، وهدوء، وتفرغ، فتسعى بكل جهدها إلى أن يكون زوجها في راحة، فلذلك الآية دقيقة:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾
[سورة الأحزاب الآية:30]
إذا أساءت إلى النبي قليلاً, فكأنما أتت الفاحشة، أمّا هنّ فمنزهات، هنّ العفيفات الطاهرات, منزهات عن أن يأتين الفاحشة، لكن الفاحشة في هذه الآية معناها: إذا أسأن إلى النبي, ولو إساءة طفيفة، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق:
((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك))
((سدوا علي كل خوخة إلا خوخة أبي بكر))
((وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر))
وعندما وصلت إلى المدينة, استقبلتها نساء النبي بالترحاب, والتهاني, والتبريكات))

مكة بلده الذي أُخرِج منه، وائتمر أهلها على قتله، وكادت له، وحاربته ثلاثة حروب صعبة، ثم أكرمه الله عز وجل، ودخل مكة منتصراً فاتحاً، العبرة بالنهاية، والعاقبة للمتقين، الأمور تدور، يصعد أناس، ويسقط أناس آخرون، وفي النهاية لا تستقر إلا على تكريم المؤمن.
ما هو الشرف الذي نالته السيدة ميمونة, وهل أذنت للسيدة عائشة في مطلبها, وهل كانت من المعمرات في الدنيا, ومتى توفيت, وأين دفنت؟
دخلت أم المؤمنين ميمونة بيت النبي، وقد اغتنمت من الدنيا نعمة الإيمان والإسلام, والشرف العظيم أن أصبحت زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت ميمونة تحظى بالقرب من رسول الله كثيراً، حتى إذا اشتد المرض برسول الله, نزل في بيتها، ثم استأذنتها عائشة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم, لينتقل إلى بيتها, ليمرض حيث أحب في بيت عائشة، فحينما مرض أول مرحلة كانت في بيت ميمونة، والمرحلة الثانية في بيت عائشة، ومقامه الشريف الآن هو بيت عائشة، مكان دفنه الآن هذا بيت عائشة، وهذه نعمة من أجلِّ النعم أن قبر النبي ثابت، وقبور الآخرين لعله هنا، هنا قبر سيدنا يحيى في الأموي، ليس هناك شيء ثابت، أما لكرامة النبي عند الله كان قبره ثابتًا، ليس فيه مشكلة إطلاقاً .
فلما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, عاشت ميمونة رضي الله عنها حياتها بعد النبي, في نشر سنته بين الصحابة والتابعين، حيث روى عنها كثير من الصحابة والتابعين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما رووا عن سائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وفي عام الواحد والخمسين, توفيت السيدة ميمونة، ولها ثمانون سنة .
عاشت زينب بنت خزيمة ثلاثين عاماً، وهذه عاشت ثمانين عاماً .
قال عطاء:
((توفيت ميمونة في المكان الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج هو وابن عباس إليها, فدفنوها في موضع قبتها, الذي كان فيه عرسها رضي الله عنها وأرضاها))
سكنت بمكان قريب البقيع في الحج، هذا البقيع كل الصحابة فيه، كبار الصحابة زوجات النبي، بنات النبي في هذه المقبرة، النبي عليه الصلاة والسلام ربى رجالاً أبطالا ونساءً .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:11 PM   #18


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( الخامس العاشر )


الموضوع : زينب الكبرى - 1





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مقدمة عامة :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والعشرين من سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ابنته البكر السيدة زينب الكبرى، كما توصف في كتب السيرة .

أيها الأخوة الكرام، فإذا خص الله عز وجل مؤمنًا بالبنات فقط, فلا ينبغي أن يتألم, لأن البنت ريحانة، وكما كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءته فاطمة, ضمها وشمها وقال:

((ريحانة أشمها, وعلى الله رزقها))
وأي بيت من بيوتكم إذا كان فيه بنت, فلربما كانت سبباً لدخول أبيها الجنة .
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ, كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ, وَأَطْعَمَهُنَّ, وَسَقَاهُنَّ, وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ, كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه]
إنه كلام النبي، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، بنت واحدة إذا أحسنت تربيتها, عرفتها بربها، عرفتها دينها، ربيتها على الخلق، والعفاف، والحشمة، والتستر، بينت لها أحكام الشرع، فأنت في الطريق إلى الجنة .

كان عليه الصلاة والسلام أبا البنات، قد يقول قائل: ما الحكمة في أن الله عز وجل لم يرزقه ذكوراً كبروا وأعانوه على الدعوة؟ .
النبي عليه الصلاة والسلام أراده الله أن يعتمد عليه وحده؛ لأن الأب أحياناً يعتمد على ابنه، ولكن النبي ليس هناك أب وأم يدلان عليه بفضليهما، نشأ يتيماً، وليس له ابن ذكر يعينه على متاعب الحياة, قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾
[سورة الضحى الآية: 6-8]
فلم يعيش للنبي صلى الله عليه وسلم من أولاده ولا ذكر واحد، بل جميعهم ماتوا صغاراً.

بالمناسبة أخواننا الكرام، الذي يعاني أن أولاده جميعاً إناث, فله في النبي أسوة حسنة، الذي يعاني من أب صعب, فله في سيدنا إبراهيم أسوة حسنة، الذي يعاني من ابن سيء, فله في سيدنا نوح أسوة حسنة، والمرأة التي تعاني من زوج, لها في السيدة آسيا أسوة حسنة، والزوج الذي يعاني من زوجته, له في سيدنا لوط أسوة حسنة، فالله عز وجل جعل في الأنبياء والمرسلين نماذج، فأي نموذجاً تعاني منه, لك في بعض الأنبياء والمرسلين أسوة حسنة، هذه الأسوة تملأ قلبك رضى عن الله عز وجل .

يقول بعض كاتبات السيرة: لكأن الله جل جلاله أراد أن يعتمد الرجل الذي يصطفيه نبياً على احتمال أبوة الإناث، أبو البنات عليه عبء ثقيل، وكان صلى الله عليه وسلم في أبوته لبنات أربع, قدوة صالحة للمؤمنين, ورسالته التي أعزت الأنوثة، وقررت لها من الحقوق ما لا تطمح إلى مثله نساء العصر الحديث .
أنا سمعت من أخ صادق, يعمل في مركز في أمريكا, أن أربع أستاذات جامعيات منه انتدبن، وزرن الشرق الأوسط، زرن سوريا، ومصر، والمملكة العربية السعودية، فيما أذكر ليدرسن حالة المرأة المسلمة التي يتوهمون أنها مضطهدة، ويتوهمون أنها لم تنل حقوقها، فطفن في هذه البلاد طولاً وعرضاً، وشمالاً وجنوباً، ثم فوجئن أنه ما من امرأة في العالم مكرمة كما هي المرأة المسلمة .
الشيء الذي لا يُصدق: أن هؤلاء النسوة الأربع، الأستاذات في الجامعة, اللواتي أتين ليتفحصن حال المرأة المسلمة, أسلمن جميعاً، وعدن إلى بلدهن مسلمات .
المرأة الآن في أمريكا, إن لم تعمل ثماني ساعات وساعتين قيادة سيارة عمل, ربما تموت من الجوع, أما أية امرأة من نساء المؤمنين, سيدة منزل، تعيش في بحبوحة، وفي راحة ، وفي تكريم، وكأنها ملكة في مملكة صغيرة .
إليكم الحديث عن زينب بنت النبي من حيث سيرتها الذاتية مجملة :
البنت الأولى؛ السيدة زينب الكبرى، هي زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أسلمت وهاجرت قبل الإسلام، زوجها أبوها قبل الإسلام بست سنين، طبعاً تزوجها ابن خالتها أبو العاص، فولدت له أمامة التي تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وولدت له علي بن أبي العاص، ومات صبياً .
وعن أم سلمة, زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, أرسل إليها أبو العاص بن الربيع, أن خذي أماناً من أبيك فخرجت, فأطلت رأسها من باب حجرتها، والنبي في المسجد يصلي الصبح بالناس، فقالت:
((أيها الناس، إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه من الصلاة, قال:
((يا أيها الناس, إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه, ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم))
هذه ومضة من سيرة هذه الصحابية الجليلة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد حين سوف نطلع على ملابساتها .
قبِلَ النبي وأصحابه جيرتها، وأجاروا أبا العاص زوجها، وأعطوه بضاعته، وسوف ترون بعد قليل, هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو العاص, حينما كان بيده أموال أهل مكة، لو أسلم لصارت كل هذه الأموال غنيمة للمسلمين، ولكنه أبى أن يبدأ إسلامه باغتصاب أموال الناس، ولهذه القصة تفاصيل تأتي بعدها .
أيها الأخوة، حينما أجاب النبي عليه الصلاة والسلام ابنته إلى طلبها, سألت أباها أيضاً أن يرد عليه متاعه، وأمرها ألاّ يقربها ما دام مشركاً، لأنه طلقها منه، طبعاً طلقها منه، وأرسلها إلى أبيها في المدينة، وكان في تجارة إلى الشام، عاد من الشام إلى مكة، ومعه تجارة عريضة، فألقت سرية من سرايا النبي القبض عليه، وساقته مع البضائع إلى المدينة، فأجارته زينب، وهي مطلقته، وقَبِلَ النبي طلبها، وقال: ((يا بنيتي لا يصل إليك، لأنه لا يحل لك))
عاد أبو العاص إلى مكة، وأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم رجع مسلماً مهاجراً، فرد عليه النبي زوجته بذاك النكاح الأول .
طبعاً القصة لها تفاصيل نأخذها بعد قليل . إليكم الحديث عن زينب من حيث: زواجها, أولادها, مكانتها عند أبيها :
يقول كتاب السيرة: لقد كان لزينب في نفس أبيها محمد صلى الله عليه وسلم أثر كبير، فكان يحبها كثيراً، لكونها ولده البكر التي أطلت على زوجين حبيبين كريمين، فأضفت عليهما معالم الأبوة والأمومة .
رأتها خديجة ثمرةً يانعة من شجرة مباركة طيبة، إنها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم, الزوج العظيم، الذي لم تعلم الدنيا مثيلاً له خُلقاً وأدباً، فرعتها أحسن رعاية .
أنا أقول لكم: مُتاح لكم تصلوا إلى أعلى درجات الجنة من خلال البيت فقط، اعتنِ بأولادك، اعتنِ بهم، متن علاقتك بأهل البيت، ربِّهم تربية صالحة، اجعل هذه الأسرة بوتقة، كل أفراد الأسرة ينصهرون بها .
أنا بصراحة أكبر كل أسرة متماسكة، وأتألم أشد الألم من أسرة متفككة, من أسرة متقاطعة، متدابرة، متنافسة، وإنّ أحد أكبر أسباب سعادة الإنسان أسرته المتماسكة، فشبت زينب على كريم الخلق .

بصراحة مرة ثانية: إذا أراد أحدكم أن يتزوج, اختر الأهل قبل الفتاة، لأن الفتاة نسخة صادقة عن أهلها، في أي بيت نشأت؟ هل هذا البيت بيت علم؟ هل هذا البيت بيت خلق؟ هل هذا البيت بيت نظام؟ هل هذا البيت بيت حياء؟ هل هذا البيت بيت ملائكي أم بيت شيطاني؟ هل أفراد هذا البيت متفاهمون, متماسكون, متعاونون؟ هل هناك قيم تحكم هذا البيت؟ فقبل أن تعجبك فتاة في الطريق, ابحث عن البيت الذي نشأت فيه، وهذا من سعادة الشاب الذي يقبل على الزواج .
حتى إذا شبت على كريم الخلق، وبلغت مبلغ الفتيات, الطاهرات, النقيات، كان لها في حساب هذه الأم العظيمة ما تراه لابنتها الشابة .

مضى زمن يسير على بلوغ زينب مبلغ النساء، وقد ورد في الأثر: ((أن ثلاثة لا ينبغي أن تتأخر؛ الأيم إذا جاء من يخطبها، والصلاة إذا حضر وقتها، والميت إذا مات))
فتقدم أبو العاص ابن خالتها لخطبتها, النبي عليه الصلاة والسلام وافق على هذا الصهر، قال: ((إنه نعم الصهر الكفء))
هذا وفاء منه صلى الله عليه وسلم، طبعاً بعد حين شارك المشركين في بعض الغزوات، وقع أسيراً، فلما استعرض النبي الأسرى, وقعت عينه على صهره، فقال: ((والله ما ذممناه صهراً))
والآن جاء ليقاتل، وهو مشرك .
طبعاً الزواج تم قبل البعثة، ابن خالتها كفء لها، أما بعد البعثة فتلكأ في إسلامه، وأبى أن يسلم، فطلقها النبي منه، وكانت بعض الغزوات, فشارك في هذه الغزوة، ووقع أسيراً، استعرض النبي الأسرى, فرآه أمامه، قال: ((والله ما ذممناه صهراً))
مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أعجب به، ووافق عليه، إلا أن النبي قرر أن للفتاة الحق أن تختار زوجها، فاستأذنها، فقال: ((أي بنيتي زينب، إن ابن خالتك أبا العاص بن الربيع جاء لخطبتك، فما كان منها إلا أن سكتت إعلاناً منها على القبول))

النبي سيد الخلق, حينما خُطبت ابنته استأذنها، فلذلك أيّ أب يجبر ابنته على الزواج، وهي كارهة، أو غاضبة، فهذا الزواج لا يقع، لأن موافقة الفتاة أحد شروط الزواج، لذلك كلكم يرى في عقود القران، يقف كاتب المحكمة، ويذهب إلى الغرفة الثانية, ليسمع بأذنه موافقة الفتاة على تزويجها من الشاب الخاطب .
تمت الخطبة، وأذيع الخبر في مكة، فما كان من أهلها إلا أن باركوا هذه الخطبة بالثناء العاطر، والمدح الجميل للخاطب والمخطوبة, ولأهلهما، وبادر شباب قريش يغبطون أبا العاص بهذه القرابة الكريمة من محمد صلى الله عليه وسلم، الذي سيصبح له صهراً صالحاً، ويكون والد زوجته عماً كريماً .
العم أب، والذي يقول دائماً، وقد قيل: لك آباء ثلاثة؛ أب أنجبك، وأب زوّجك، وأب دلَّك على الله، الأب الذي أنجب أبوك النسبي، والأب الذي زوجك هو والد زوجتك، رعاها إلى أن أصبحت بهذا السن، هذا أب، فكل شاب يسيء إلى عمه يتنكر لمبادئ الأخلاق .
لك أب أنجبك، وأب زوجك، وأب دلك على الله، طبعاً الأب الأول ينتهي فضله بنهاية الحياة، والأب الثاني ينتهي فضله بنهاية الزواج، أما الأب الذي دلك على الله دلّك على الجنة، فما دمت في الجنة ففضله مستمر، لذلك الإنسان عليه أن يسعى للدعوة إلى الله، فالخير الذي يأتي من الدعوة إلى الله لا يعلمه إلا الله .
ويتم عقد الزواج، ويستعد أهل الزوج لاستقبال الزوجة الكريمة, ويحين موعد الزواج، وتردد في أرجاء مكة أصداء العرس، وتُنحر الذبائح، وتُقام الولائم فرحة وبهجة بهذا الزواج المبارك .
ترون أنتم بأعينكم أن الزواج مشروع، لذلك يعلنه الناس، ويطلقون أبواق سياراتهم ، أما العلاقة المشبوهة فهذه وصمة عار في حق الإنسان .

لي صديق طرق بابه فجراً، فتح الباب, رأى شبه سلة, فيها طفل وُلد لتوه، لا يوجد أحد، أخذ هذا الطفل إلى دار التوليد، وضع في الحاضنة, ذكر لي هذه القصة، قلت: سبحان الله ، لو كان هذا الطفل من زواج شرعي, لفرح الأهل، ويقيمون الولائم، وتأتي التهاني، وتأتي الهدايا، لأنه جاء من طريق مشروع، أما الطفل اللقيط فإنه يكون ثمرة لجريمة الزنا .
لذلك كم يوجد في الحاويات من أطفال ولدوا لتوهم؟ هذه الظاهرة تنتشر في بعض البلاد، لأن الزواج غير شرعي، ماذا يُفعل بهذا الطفل؟ يُلقى في الحاوية، أما الطفل الذي يأتي من أم وأب, فيوضع في أجمل مكان بالغرفة، في سرير، وفي عناية فائقة .
وفي بيت الزوجية, تحل زينب مكرمة معززة، ويهنأ لها العيش في ظل زواج فاضل كريم .
أحياناً الإنسان يطلب زوجة مؤمنة، فضل الإيمان على الجمال، فيها جمال، ولكن أقل مما كان يتمنى، يقول: أنا آثرت الدين، ألم يقل النبي الكريم: ((فعليك بذات الدين تربت يداك))
الكلام جيد، إلا أنه أحياناً يتبرم, وأحياناً يسمعها كلمات قاسية جداً .
أنا أقول لهذا الزوج: لو أبقيتها عند أهلها معززة مكرمة خير لك من أن تقول: أنا بطل، وسآخذ امرأة صالحة، هذه عند أهلها معززة مكرمة، أما حينما جئت بها إلى بيتك، وأسمعتها كلمات قاسية، فإن لم تكن أهلاً للزواج من فتاة مؤمنة, قد يكون شكلها أقل مما تتمنى، أنت لا تصلح لهذا العمل البطولي، فإذا آثر الإنسان دين فتاة, فينبغي أن لا يتكلم كلمة واحدة طوال حياته، ليكون أجره عند الله عظيماً.
طبعاً أبو العاص, فاز بهذه الزوجة الصالحة الكريمة، وفاز بالسعادة الزوجية التي وجدها في زينب، فكان كلما آن الأوان للسفر, يشتد عليه الفراق، حتى كان كثيراً ما ينشد في سفره, وهو بعيداً عنها, صدق القائل: ذكرت زينب لما ورقـت أرم فقلت سقيا لشخص يسكن الحرم
بنت الأمين جزاها الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي عـلــم

لقد منَّ الله على أبي العاص بولدين، الأول علي بن أبي العاص، والثاني أمامة بنت أبي العاص، وهي التي قد تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها . ما موقف زينب من دعوة أبيها, وما موقف زوجها من هذه الدعوة ؟
الآن دخلنا في تفاصيل حياة السيدة زينب الكبرى بنت النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كانت تعلم زينب أنه سيكون لأبيها محمد صلى الله عليه وسلم شأن عظيم، من أين؟ علمت هذا من أخلاقه، من صفائه، من رحمته، من وفائه، من كرمه، لأنها ترى من أبيها من الصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، والصفاء النادر، والسمت الحسن الذي يختفي وراءه ينبوع الحكمة المتفجرة على لسانه الصادق، وقوله الحق، وعمله الصالح، وأمانته الفذة، ونهجه المستقيم، حتى غدا بين رجال قريش, بل والعرب من خلفهم, غدا الرجل الأمثل، والأكمل والأعظم، فلا تسمع بصفة حميدة إلا وجدتها في أبيها، ولا بخلق كريم، أو سجية حسنة, إلا وقد عرفتها في أبيها, من حين وعت عليه أباً, يحنو عليها ويرعاها، هذا الخلق يؤهل أباها ليكون شخصاً عظيماً، لذلك لم تُفاجأ زينب بخبر الوحي .

ذات صباح سعت زينب مبكرة إلى بيت أبيها, لأن أبا العاص كان على سفر، فالتقت عند الباب بأمها, عائدة من زيارة عاجلة لابن عمها ورقة بن نوفل، ولم يسبق لزينب أن رأت أمها على مثل هذه الحالة المضطربة، واللهفة, والاهتمام, والاشتغال، وقد راعها أن قد مرت بها, فلم تكد تراها، بل اندفعت لا تلوي على شيء نحو مخدع زوجها, حيث تلبثت .
هناك فترة غير قصيرة قبل أن تخرج إلى بناتها، وقد عاودها هدوءها، وأصغت زينب إلى أمها، وهي تحدثها حديثاً عجباً عن نزول الوحي على أبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يتعبد بغار حراء، فأخذت بما سمعت, حتى لم تحر جواباً، ذلك أن الأمر كان من الخطر والجلال, حيث قصر عقلها عن إدراكه، وأعياها أن تبلغ مداه، ولبثت زينب في مكانها ساكتة واجمة, حتى ردها إلى يقظتها, صوت أختها فاطمة .
تقول فاطمة:
((أو ما يسرك يا أختي أنك بنت نبي هذه الأمة؟ أجابت: أجل والله يا فاطمة ، وأي فتاة لا يزيدها ذلك الشرف الذي ما بعده شرف، لكنه الذي سمعت، وسمعت من قول خالي ورقة, قال: ليُكَذَّبَنّ أبي، وليُؤذَيَنّ أبي، وليُخرَجَّن أبي، وليقاتلنّ أبي .
-لما التجأت السيدة خديجة إلى ابن عمها ورقة, تحدثه بما جرى للنبي من نزول الوحي، قال لها:
((ليكذبن، وليؤذين، وليخرجن، وليقاتلن))
فكرت فاطمة ملياً، وقد عزَّ عليها أن يُؤذى أبوها، ثم رفعت وجهها، وقالت لأختها: هو والله كما قالت أمي لأبي: الله يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا بن العم، واثبت, فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق .
-الآن ما علاقتنا بهذا النص؟ الواحد منكم إذا كان صادقاً, عفيفاً, أميناً, يؤدي عباداته كاملة، وأنا أقول لكم بالقياس المتواضع: والله لا يخزيك الله أبداً .

إذا كنت مع الله صادقاً, أميناً, عفيفاً، تتحرى الحلال، تضبط أعضاءك، تضبط حواسك، تضبط بيتك، إذا كنت شاباً مستقيماً أبشر، فو الله ما يخزيك الله أبداً, هذا علاقتنا بهذا النص- .
وابتسمت زينب، وكذلك فعلت فاطمة، وإن أحست كلتاهما أن لهذا الأمر ما بعده، وعاد زوجها أبو العاص، وملأ سمعه شائعات المشركين, قد تناقلتها الركبان, عن ظهور محمد بن عبد الله بدين جديد .
أخذ ابنته زينب أن محمداً نبي، رجع من السفر, فسمع بالنبوة والوحي, فاستقبلته وأخبرته بالنبأ اليقين، ولكنه خيب أملها, حين ردد مزاعم المشركين، وقفت أمامه قبل أن يتم كلامه, وقالت: والله ما كنت لأكذب أبي، وإنه والله لكما, عرفت أنت وقومك, إنه صادق أمين، أيْ أنّ أبي نبي، صارت مشكلة بينها وبين زوجها .
ثم قالت: والله إني قد آمنت بما جاء وأسلمت، وكذلك آمنت أمي وأخواتي، وعلي بن عم أبي، وأبو بكر، وأسلم من قومك ابن عمك عثمان، وابن خالك الزبير بن العوام بن خويلد، وكما آمن به وصدقه ابن خالك ورقة بن نوفل، الذي توفاه الله منذ عهد قريب، فليس لك إلا أن تؤمن وتسلم، فلم يجبها بشيء، ثم خرج من بيتها, وتوجه إلى الكعبة .
ولما عاد قال لها: لقيت أباك اليوم في الكعبة، ودعاني إلى الإسلام، ثم لم يزد، وكانت ملامح وجهه من الوجوم، وترنح صوته ما يغني زينب عن سؤاله: بمَ أجبته؟ -يعني هل أسلمت؟ لم تسأله؟ وضعه يبين أنه لم يسلم- .
وقد قال لها ذات يوم, وهي تدعوه إلى الإيمان والإسلام: والله ما أبوك عندي بمتهم، وليس أحب إلي من أن أسلك معه يا حبيبة في شعب واحد، ولكنني أكره أن يُقال: إن زوجك خذل قومه، وكفر بآبائه إرضاء لامرأته .
-أخذها عصبية- وتمثل بموقف أبي طالب، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم عنده أحب إليه من والده, لم يساوره في صدقه أدنى ريب، فتندت عيناها بالدموع حزناً عليه، وإن كانت لترجو اليوم الذي يخلع عن كاهله, رجز الجاهلية وشركها)) إنّ من سعادة الإنسان, أن يكون هو مؤمناً، وأن تكون زوجته مؤمنة، ومن سعادة المؤمنة, أن تكون هي مؤمنة، وأن يكون زوجها مؤمناً، ولهذه القصة تتمة إن شاء الله, نأخذها في درس قادم .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:14 PM   #19


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( السادس العاشر )


الموضوع : زينب الكبرى - 2






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
ما هي الأحداث التي جرت للنبي بعد وفاة زوجته وعمه
ماذا صنع النبي, ولماذا لم تهاجر زينب مع أخوتها إلى دار الهجرة ؟

أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع الصحابية الجليلة؛ السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
في عام الحزن: هلكت السيدة خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلَّم، كُتَّاب السيرة سمّوا هذا العام: عام الحزن، والحزن خصائص الحياة الدنيا, ((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقبى))

الحزن خلاَّق، الحزن يفجِّر الطاقات، الحزن يكشف القيَم، الحزانى في كنف الله, ((إن الله تعالى يحب كل قلب حزين))
الإنسان إذا قرأ قوله تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 155-157]
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 155-157]
أيها الأخوة, الإنسان بالحُزن يُكشف معدِنه، بالحزن يظهر إيمانه، بالحزن ينكشف صبره ، بالحزن تتفجَّر طاقاته، بالحزن يتقرَّب من ربه .
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، هو قدوةٌ لنا، في عامٍ واحد؛ توفِّيت زوجته السيدة خديجة، السيدة خديجة عاشت معه خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة سنة قبل البعثة، وعشر سنوات بعد البعثة، كانت خلالها المرأة الطاهرة النقية، الزوجة الوفية المخلصة، التي بذلت في سبيل الدعوة كل غالٍ ورخيص، بذلت كل ما تملك؛ من ثروةٍ مادية، ومكانةٍ اجتماعية، وهيبةٍ معنوية، وشرفٍ شامخ، وعزٍ وبذخ، كانت من خلال كل ذلك, تقدم للنبي عليه الصلاة والسلام العطاء كل العطاء من قلبها ونفسها, وهي راضية .
السيدة خديجة مثال الزوجة التي تقف وراء زوجها معاونةً، داعمةً، صابرةً، لذلك عليه الصلاة والسلام وفاءً منه لها, حينما فتح مكة قال:
((انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة))
ونصب على قبرها لواء النصر، لأنها لم تكحِّل عينيها بفرحة النصر، فحينما نصب هذا اللواء على قبرها، ونصب خيمة إلى جانب قبرها إشعاراً بأن لها فضلاً على هذه الدعوة، قال تعالى:﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
[سورة النصر الآية: 1-3]
لما هلك أبو طالب, نالت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، وبالغ في إيذاء النبي، فدخل عليه الصلاة والسلام بيته، فقامت إليه إحدى بناته وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول لها: ((لا تبكِ يا بنية فإن الله مانع أباكِ))
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما نالت مني قريشاً شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب))
النبي قدوة, ذاق الفقر، دخل بيته, فقال: ((هل عندكم شيء؟ فقالوا: لا, ولا شيء, قال: فإني صائم))

ذاق الغنى؛ ((لمن هذا الوادي من الغنم يا رسول الله؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: والله هو لك))
ذاق النصر في فتح مكة، دخلها مطأطئ الرأس, متواضعاً لله عزَّ وجل، ذاق القهر في الطائف, ((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي))
ذاق المرض، ذاق الصحة، ذاق موت الولد, ((إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
[أخرجه البخاري عن أنس في الصحيح]
وذاق موت الزوجة، وذاق تطليق البنات، طُلِّقت بنتاه مبالغةً في إيذائه، وذاق الهجرة، وذاق المرض، وذاق الإخراج من بلده، كل شيءٍ ذاقه، ووقف الموقف الكامل من كل الظروف الصعبة التي مرَّ بها، لذلك كان قدوةً لنا وأسوةً، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما تتم السنة إلا به فهو سنة، وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 21]
معرفة سيرة النبي العملية فرض عينٍ، لنحقق هذا الأمر بأن يكون النبي أسوةٌ حسنة .

أصبحت زينب رضي الله عنها ذات يومٍ، ومكَّة من أدناها إلى أقصاها, تتحدث عن مطاردة قريشٍ لأبيها النبي عليه الصلاة والسلام، وولاء البنت لأبيها معروف عند كل أب .
النبي عليه الصلاة والسلام ترك مكة مهاجراً إلى يثرب، وليس معه سوى صاحبه الصديق أبي بكرٍ رضي الله عنه، زينب كانت مضطربة؛ خائفةً على أبيها أياماً وأياماً، حتى جاءها خبر وصوله إلى يثرب، فزال عنها كربُها، وسرًّت بسلامة أبيها صلى الله عليه وسلَّم، ووصوله إلى دار مأمنه في الهجرة .
ولم تمضِ إلا أشهرٌ معدودات حتى أرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى أختيها فاطمة وأم كلثوم من يحملها إليه في دار الهجرة
وكانت رقيَّة قد هاجرت كذلك من قبل، وبقيت زينب وحدها في مكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع الذي لم يسلم، إذ لم يكن الإسلام قد فرَّق بينهما, أي لم ينزل الحكم الشرعي الذي يفرِّق بين الزوجة المسلمة والزوج الكافر, فبقيت في مكة, وقد غادرها الأهل، وتنتظر وقت اللحاق بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة .
هل حققت قريش مرادها من النبي في استئصاله من دار الهجرة, وهل كان أبو العاص من جملة الأسرى الذين كانوا بين يدي النبي, وبماذا عهد له النبي؟
أيها الأخوة, لمَّا علمت زينت لما حصل لأبي سفيان، وتعرُّض قافلته من قِبَل الصحابة، ورأت قريشٌ أن تقاتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة حتى خرجت قريشٌ بخيلها وخُيلائها، تقصد النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ناويةً استئصالهم من دار هجرتهم, غير أن قريش لم تصل إلى قصدها، وذاقت كؤوس المنايا في بدر، وكانت بدر تلطيخاً لها في الوحل، وأعزَّ الله الإيمان والإسلام، وخذل أهل الكفر, والشرك, والطغيان، وانتقل خبر الانتصار العظيم قبل وصول الفلول المنهزمة إلى مكة .
طبعاً فرحت زينب فرحاً شديداً بانتصار أبيها النبي وأصحابه، حتى قامت لله عزَّ وجل شاكرةً لهذا النصر المؤزَّر .
حين جاءت فلول الجيش مهزومةً، علمت أن زوجها كان من جملة الأسرى, تصور زينب في مكة، غافلها زوجها، وانضمَّ إلى جيشه, ليحارب النبي وهو عمه، وقع أسيراً، وقد كنت ذكرت لكم من قبل أن النبي عليه الصلاة والسلام, حينما استعرض الأسرى، مرَّ به، فقال عليه الصلاة والسلام وفاءً منه بحق القرابة، قال:
((والله ما ذممناه صهراً))

هو الآن مقاتل ومشرك، أما كزوج ما ذممناه، الدليل أن زوجي ابنتيه اللذين طلَّقا زوجتيهما، أبو العاص لم يفعل ما فعلاه، وأبى أن يطلِّق زوجته، مع أنه جاءه ضغطٌ شديد, ليطلِّق زوجته نكايةً بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يفعل .
أنا سمعت قصة: أنه ذات مرَّة في الجاهلية, جاء أبو جهل إلى بيت النبي قبل البعثة, فسأل ابنته فاطمة: أين أبوكِ؟ قالت: لا أدري، فلطمها، بلغ أبا سفيان ذلك, فحمل فاطمة رضي الله عنها، واقتصَّ من أبي جهلٍ إكراماً لها, فلما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحدث, رفع يديه إلى السماء, وقال: ((يا رب لا تنسها لأبي سفيان))
النبي كان وفي إلى درجة مذهلة، في أحد الصحابة نزع عن كتفه ريشة، رفع النبي يديه عليه الصلاة والسلام, وقال: ((جزاك الله خيراً))

فأجمل صفة بالإنسان الوفاء, صدق القائل: أعلِّمه الرماية كل يـومٍ فلما اشتدَّ ساعده رمانـي
وكم علَّمته نظم القوافي فلما قال قافيةً هجانــي
أجمل صفة في النبي عليه الصلاة والسلام الوفاء، هذا الذي ارتكب معه خيانةً عُظمى، خيانة عُظمى في كل المقاييس؛ القديمة, والحديثة، والدينية, والوطنيَّة، حاطب بن أبي بلتعة, أرسل كتابًا إلى قريش: ((أن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، -خيانة عُظمى- فلما قال له سيدنا عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر, إنه شهد بدراً، -لم ينسَ له شهود بدر- وقال: تعال يا حاطب, لمَ فعلت هذا؟ قال: والله يا رسول الله, ما كفرت ولا ارتددت، كنت لصيقاً في قريش، أردت أن أجعل من هذا, أن يكون هذا يداً لي بيضاء عندهم, أحمي بها أولادي وأهلي ومالي، فقال عليه الصلاة والسلام:
((إني صدقته فصدِّقوه, ولا تقولوا فيه إلا خيراً))
وفاء النبي عليه الصلاة والسلام شيء لا يوصف، وفاؤه لمن أرضعته، وفاؤه لمن ربَّته، وفاؤه لكل من ساهم, وقدَّم له شيء، فالله عزَّ وجل يقول:﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 237]
فأسوأ صفة في الإنسان اللؤم، اللؤم أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه، لذلك: يا رب لا تجعل حوائجنا إلا إليك .
طبعاً يبدو أن أهل أبي العاص بن الربيع أغنياء، لكن زينت تحب زوجها، وزوجها لم يُسلم بعد، فهذا الحب بين الزوجين هو من خلق الله, قال تعالى:﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
[سورة الروم الآية: 21]
الحب بين الزوجين من خلق الله, قال تعالى:﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
[سورة الروم الآية: 21]

زوجها مأسور عند أبيها، وأهل زوجها أغنياء, مستعدون أن يقدِّموا أعلى فديةٍ لإنقاذ ابنهم، ماذا فعلت زينب مع زوجها الذي لم يرضَ أن يسلم، وبقي على كفره؟ أرادت أن تلقِّنه درساً إيجابياً لا درساً سلبياً، درساً يحرِّك مشاعره، أرسلت في فدائه بشيءٍ ثمينٍ جداً؛ قلادةٍ قدَّمها النبي عليه الصلاة والسلام لأمها خديجة يوم عُرسها، وخديجة قدَّمت هذه القلادة لابنتها زينب، وزينب أرسلت هذه القلادة لأبيها, كي تكون فداءً لزوجها .

النبي عليه الصلاة والسلام, تفقَّد الأسرى واحداً وَاحداً، وإذا به يصادف صهره أبا العاص، فينظر إليه النبي عليه الصلاة والسلام نظرة الرفق والأسى عليه .
فالعم أب؛ لك أبٌ أنجبك، ولك أبٌ زوجك، ولك أبٌ دلَّك على الله, الأب الذي أنجبك هو الأب النَسَبي، أما الأب الذي زوجك؛ أي أن هذه الزوجة ربَّاها لك عمك ثمانية عشرَ عاماً، كم مرة عالجها؟ وكم مرة سهر من أجلها؟ وكم مرة اعتنى بها؟ وكم مرة دفعها إليها الدراهم؟ وكم مرة جاء لها بكل حاجاتها؟ وبعد أن نضجت، وأصبحت فتاةً ملء السمع والبصر، يتنكَّر الزوج لعمِّه, والله هذا منتهى اللؤم، عمك أي والد زوجتك, والدك من بعض المعاني .
فلما استعرض النبي الأسرى فإذا بصهره بين الأسرى، فطأطأ أبو العاص رأسه حياءً وخجلاً، وهو لا يدري ما هو صانعٌ فيه، وقال:
((والله ما ذممناه صهراً))
روى أبو إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في فداء أبي العاص بن الربيع بمالٍ، وبعثت فيه بقلادةٍ لها, كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، قالت: فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام رقَّ لها رِقَّةً شديدةً وبكى, وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا, وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا, فَقَالُوا: نَعَمْ))
[أخرجه أبو داود في سننه]
أي إذا شئتم, ترك أمر ابنته لأصحابه، ترك أمر فداء صهره لأصحابه، هذا منتهى التواضع، منتهى الشعور أنه واحدٌ من أصحابه، والرأي رأي الجميع، قال: ((إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا, وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا, قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه, وردوا عليه الذي لها))
وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ عليه عهداً أن يُخَلِّي سبيل زينب إليه, لأنه هو كافر بقي على كفره، ونزل التشريع أنه لا يجوز لامرأةٍ مسلمة أن تكون تحت كافر, أخذ عليه العهد أن يخلي سبيل زينب إليه .
من هما الصحابيان اللذان كلفهما النبي أن يصحبا زينب إليه, ومن أوصلها إليهما, وماذا جرى معها في طريقها إليهما, وماذا فعل النبي حينما علم بذلك, وهل سر النبي بمجيئها إليه ؟
أيها الأخوة, ولمَّا خرج أبو العاص إلى مكة, وفَّى بعهده، وخلَّى سبيل زوجته لتهاجر إلى أبيها، َكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَوْ وَعَدَهُ, أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ, وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ, فَقَالَ: ((كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ, حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَاهَا, حَتَّى تَأْتِيَا بِهَا))
فخرجا مكانهما بعد بدرٍ بشهر، فلما قدم أبو العاص مكة, أمرها باللحوق بأبيها وفاءً لعهده, كان أخلاقيًا، إنه مشرك، لكنه أخلاقي .
فلما فرغت بنت رسول الله من جهازها, قدَّم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها، كلَّفوا أخا زوجها أن يأخذها من بيتها إلى بعد ثمانية أميال من مكة، لتذهب مع الصحابيين إلى رسول الله، قدَّما لها بعيراً ركبته، وأخذ أخ زوجه قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها على هودجٍ لها، وأخذت زينب, تنظر إلى جبال مكة وهضابها مودعةً لها، ولعلَّها لا تعود إليها أبداً.

النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أيام الربيع, جاء رجل من مكة, وصف له جبال مكة الخضراء في الربيع، فبكى النبي شوقاً لمكة, وقال:
((يا أُصَيل لا تشوقنا))
في الحجة الأخيرة, كان ثمة أمطار كثيرة، أنا أول مرة أرى جبال مكة خضراء، والطريق بين مكة والمدينة أخضر، طبعاً كان الحج في أيام الربيع عقب موسم أمطار جيد، فالبلاد في الربيع جميلة جداً, صدق القائل:
دنيا معاشٍ للورى حتى إذا حلَّ الربيع فإنما هي منظرٌ
فالنبي انهمرت دمعةٌ على خذه, وقال: ((يا أُصَيل لا تشوقنا))
الهجرة صعبة، إذا الإنسان ترك بلده, واقتلع من جذوره، عندما خرج النبي من مكة, قال: ((اللّهُمَّ إِنَّكَ أخْرَجْتَني مِنْ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ, فَأَسْكِنِّ في أَحَبِّ الْبِلاَدِ إلَيْك))
فقالوا: مكة أحب البلاد إلى النبي، والمدينة أحب البلاد إلى الله .
ما الذي حصل؟ ودَّعت جبال مكة، وكانت ترجو أن يخرج معها زوجها مسلماً مهاجراً إلى الله تعالى ورسوله، ولكن خيَّب رجاءها، وما أرادت أن تَمُنَّ عليه في سعيها عند أبيها بإطلاق سراحه .
هناك امرأة إذا كانت أغنى من زوجها قليلاً, تقول له: لولاي ما صرت، إذا كان ساكنًا في بيتها تقول له: هذا بيتي، أنت ليس لك بيت، المرأة غير المؤمنة, لو تفوَّقت على زوجها قليلاً, لملأت سمعه مِنَّةً وكلاماً لا يُحتمل، فمع أنها هي السبب في إطلاق سراحه، وقدَّمت قِلادتها الثمينة ، وأطلق النبي سراحه إكراماً لابنته، ولم تمنَّ عليه، وبقي مشركاً، كانت تتمنَّى أن تذهب إلى المدينة مع زوجها، ليلتئم الشمل .
يبدو أن أهل مكة, علموا أن بنت رسول الله, ستلتحق بأبيها، وعقب معركة بدر، والدماء لا تزال ساخنة، والجراح عميقة، والألم شديد, فخرجوا في طلبها، حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبَّار بن الأسود، فروَّعها بالرمح, وهي في هودجها، وكانت حاملاً, فلما ريعت, طرحت ذا بطنها, وبرك حموها كنانة، ونثر كنانته، ثم قال:
والله لا يدنو مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهماً، فتباعد الناس عنه, وأتى أبو سفيان، وكان حكيماً في جُلَّةٍ من قريش, فقال: ((أيها الرجل, كفَّ عناَّ نبلك حتى نُكَلِّمك، فكفَّ، فقال أبو سفيان: إنك لم تصب, -أي ما أصبت في هذا العمل- خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانيةً، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانيةً على رؤوس الناس من بين أظهرنا, أن ذلك ذلٌ أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن هذا منا ضعفٌ ووهنٌ، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها حاجة، وما لنا من ثأرٍ نثأره منها، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدَّث الناس أن قد رددناها، فَسُلَّها سراً، وألحقها بأبيها، ففعل .
أقامت ليالي حتى إذا هدأت الأصوات، خرج بها ليلاً, حتى أسلماها لزيد بن حارثة وصاحبه، فقدما على النبي صلى الله عليه وسلَّم .
ولما وصلت زينت إلى أبيها رسول الله, استقبلها استقبالاً حاراً، وهتف الناس بهجةً بوصولها بسلام، وما إن استراحت من عناء السفر, أَخبرت أباها بما فعلها الرهط من قريش معها, -وفي روايةٍ:
((أنها أصيبت بجرحٍ من رمحه فنزفت وألقت حملها))
أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سريَّةً, لمعاقبة هبَّار وصاحبه، وتقيم زينب بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، وأَنِسَت بأخواتها في المدينة)) . إليكم قصة إسلام أبي العاص زوج زينب بنت النبي :
أيها الأخوة, حتى كان العام السادس من الهجرة إلى أن وقع أبو العاص في أسر الصحابة, بعد أن تعرَّضت قافلته بسبعين ومئة من الصحابة، فأخذوا قافلته، وأسروا أناساً كثيرين منهم أبو العاص، فجاؤوا بهم إلى المدينة .
أبو العاص له تجارة من الشام إلى مكة، خرج مئة وسبعون من الصحابة الكرام, طبعاً في حالة حرب بينهما, أسروا هذه القافلة، وأخذوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أبا العاص فر منهم، واستجار بزوجته زينب .
طبعاً دخلت زينب، أطلَّت برأسها من إحدى حُجَر النبي على أصحاب رسول الله, وفيهم النبي يصلي فيهم، وقالت:
((إني أجرت أبا العاص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا أسمع معكم -ليس هناك اتفاق بينهم- والنبي عليه الصلاة والسلام أمضى جوار ابنته زينب لأبي العاص .
-الصحابة أقنعوه, إذا أسلمت, هذه القافلة الكبيرة جداً, تصبح غنائم حرب، هي لقريش، الأموال أموال استثمار, إن صحَّ التعبير, فهذه أموال قريش- فقالوا: إذا أسلمت تنقلب هذه البضاعة كلها غنائم، -فقال أبو العاص كلمة رائعة- قال: والله ما أبدأ إسلامي بهذا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا الرجل منا قد علمتم أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك, وإن أبيتم, فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم, فأنتم أحق به, فقالوا: يا رسول الله, بل نرده عليه، فردوه عليه .
حتى إن الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشَنَّةِ, -وهو السقاء البالي- رجعت له كل أمواله، ثم حمل هذا إلى مكة, فأدى إلى كل ذي حقٍ حقه, ومن كان أبضع معه بضاعةً, أعطاه بضاعته، والذي أعطاه بضاعةً أعطاه بضاعةً, ثم قال: يا معشر قريش, هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا, فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: إذاً: فأنا أشهد أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله .
-متى وقَّت إسلامه؟ بعد أن ردَّ الأموال إلى أصحابها, أعلن إسلامه، لمَ أعلن إسلامه؟ لأنه تلَّقى من عمه معاملة طيبة جداً- .
قال: والله ما منعني من أن أسلم, وأنا عنده, إلا مخافة أن تظنوا, إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أدَّها الله إليكم, وفرغت منها, أسلمت .
ثم خرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك سنة سبعٍ، فاستقبله عليه الصلاة والسلام استقبال المهاجرين إلى الله تعالى ورسوله، وردَّ عليه صلى الله عليه وسلَّم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئاً من شرطٍ أو غيره, -هي زوجته وهو زوجها, وانتهى الأمر .
قصَّة مؤثرة جداً، فيها أحكام، فيها كمال، فيها وفاء، فيها رحمة, فيها إحسان، فيها عواطف زوجيَّة، فيها عواطف أسرية، فيها موقف عم, موقف أب، موقف زوج، موقف زوجة-.
وبهذا تحقَّق للسيدة زينب رجاؤها بإسلام زوجها أبو العاص بن الربيع، ويعود الحبيبان الكريمان إلى الحياة الزوجيَّة الآمنة المطمئنة، ويجتمع الشمل بعد فراقٍ طويل))
لذلك قالوا: ((مِنْ أَفْضَلِ الشَّفَاعَةِ أَنْ يُشَفَّعَ بَيْنَ الاثْنَيْنِ فِي النِّكَاحِ))

وأنا أقول لكم: لا يقل عن هذا العمل, أن تشفع بين اثنين في نكاح، وأن توفِّق بين زوجين بينهما مشكلة، بينهما قطيعة، بينهما بغضاء، بينهما عداوة، إذا وفَّقت بين الزوجين أسعدتهما ، وأسعدت أولادهما، لذلك هذا الذي ينسحب من كل عمل صالح, إنسان ما عرف سرَّ وجوده .
مرَّة قلت لكم: أحد أخواننا الكرام, شكا زوجته إلى أخيها، فقال له: طلِّقها, كلمة واحدة، الله عزَّ وجل قال:﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾
[سورة النساء الآية: 35]
إنّ الله عزَّ وجل يريد الإصلاح، يريد التوفيق, لذلك الآية الكريمة الدقيقة:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
[سورة الأنفال الآية: 1]
المؤمن أحد أهم أعماله؛ أنه يصلح دائماً بين المتخاصمين، ولاسيما إذا كانا زوجين .
كم هي مدة الفترة التي عاشها أبو العاص مع زوجته زينب بعد إسلامه ؟
أيها الأخوة, وبعد مضي عامٍ واحد من اجتماع شمل الزوجين اللذين جمع بينهما الإسلام والإيمان, والهجرة, كان الرحيل المهيب، فقد توفِّيت زينب، بعدما عاش زوجها معها عاماً واحدًا .
أيها الأخوة, ثمة عمر قصير، لكنه غني، وهناك عمر طويل، لكنه فقير، هناك علماء أجلاء عاشوا أقل من خمسين سنة، الذي فتح الصين، وأوصل الإسلام إلى هناك, مات في السادسة والثلاثين، والشافعي مات دون الخمسين، والإمام النووي مات دون الخمسين، أي في السابعة والأربعين، ولكنه ترك أعمالاً, لا يعلمها إلا الله، فالعبرة بغنى العمر لا بامتداده، وأثمن عمر على الإطلاق عمر النبي، لذلك أقسم الله جلَّ جلاله بهذا العمر, فقال:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 72]
والإنسان كلَّما ازداد إيمانه، وأجرى الله على يديه الخير, يزداد عمره قيمةً، وكل إنسان له عمر، العبرة بمحتوى العمر لا بامتداده، الامتداد ليس له قيمة أبداً، أتفه شيءٍ في العمر امتداده، وأثمن شيءٍ في العمر مضمونه؛ ماذا فعل؟ .
سيدنا الصديق, يعد المؤسس الثاني لهذا الدين العظيم، فقد ارتدَّت العرب بعد وفاة النبي، من الذي ثبَّت كيان هذا الدين؟ سيدنا الصديق .
سيدنا عمر فتوحاته في مصر والشام، فكل إنسان ماذا ترك؟ هذا سؤال كبير، اسأل نفسك هذا السؤال: ماذا قدَّمت للإسلام؟ قدمت علمُا، قدمت عملاً، قدمت مشروعًا خيريًا، قدمت منهجًا، أصلحت ذات البين، حللت مشكلة لمسلمين، ماذا قدمت؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح .
فالسيدة زينب, أسرعت في إيمانها بأبيها، وتمنَّت من كل قلبها, لو آمن معها زوجها
ولكن الله في النهاية, حقَّق لها هذا الأمل، وهذا معنى ثانٍ، واقعك الآن سيء, لك طموحات ما تحقَّقت، من يدريك أن الله سبحانه وتعالى يمكن في المستقبل أن يحقق لك طموحك؟ كانت أعلى أمنية لها, أن ترى زوجها في المدينة معها، جاءت وحدها إلى المدينة، زوجها أرجع الأموال لأصحابها، ثم أعلن إسلامه، والتحق بزوجته، فحقَّق الله لها حلمها .
الشيء الثاني: الأخلاقي لا تستطيع أن تأسره إلا بالأخلاق، فالنبي عرف أن هذا الإنسان أخلاقي، لكنَّه مشرك، أثنى عليه لما كان أسيراً، أطلقه من إساره، قَبل إجارة ابنته له، ثم ردَّ له أمواله، هذه الأعمال الطيِّبة تراكمت حتى حملته على أن يُسلم .
فأحياناً ألف عمل ذكي, مخلص, حكيم, تشد إنسانًا لك، تصرُّف واحد أحمق يبعده عنك، الإنسان أحياناً يخسر أخاه بكلمة، ويربحه بجهد كبير، بجهد دؤوب، وبأعمال متلاحقة يربحه، ويخسره بكلمة .
فالإنسان يكون دقيقًا في كلامه، دقيقًا في معاملته، يدرس كل تصرفاته، وإلا يخسر أصدقاءه بثمن قليل .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يلهمنا الخير .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:17 PM   #20


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( السابع العاشر )


الموضوع : رقية ذات الهجرتين



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
لمحة قصيرة عن سيرة رقية بنت النبي :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سير الصحابيات الجليلات ، ومع بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابية الجليلة رُقية ذات الهجرتين .
هي رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ولدت بعد زينب، وأسلمت مع أمها خديجة وأخواتها، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة أولاً، وإلى المدينة المنورة ثانياً، من تزوجها؟
تزوجها عُتبة بن أبي لهب، فلما أنزلت آية:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1]
قال أبوه له:
((رأسي من رأسك حرام, إن لم تطلِّق ابنته، ففارقها قبل الدخول .
-فقد ذاق النبي صلى الله عليه وسلم مأساة تطليق البنت، طلاق المرأة كسرها، وكسرٌ لأبيها وأمها، النبي عليه الصلاة والسلام حينما جعله الله أسوةٌ حسنة للمؤمنين إلى نهاية الدوران، كان كاملاً في كل موقف، ذاق ألم فقد الولد، ذاق ألم تطليق البنت، ذاق ألم أن يفشو في المدينة حديثٌ لا يليق بالسيدة عائشة زوجة رسول الله، ذاق ذلك، ذاق الفقر، وذاق الغنى، وذاق القهر، وذاق النصر، وذاق الصحة، وذاق المرض، كل شيءٍ أذاقه الله عز وجل، ووقف الموقف الكامل، ليكون عليه الصلاة والسلام أسوةً حسنة- .
فقال له أبو لهب: رأسي من رأسك حرام, إن لم تطلق ابنته فطلقها، -من تزوجها بعد عُتبة بن أبي لهب؟ عثمان بن عفان, قال تعالى:
﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 38]
أحياناً يقع ظلمٌ بين الزوجين، الله سبحانه وتعالى يغني كلاً من سعته، بل إن الطرف المظلوم هو المكرَّم عند الله عز وجل، اجعل نصيبك الله في كل شيء، كن في طاعته، واجعل نصيبك رضوان الله عز وجل، وأنت الفائز، والعاقبة لك، على كلٍ آية:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1]
فيها إعجاز، أبو لهب حي يرزق، وجاءت الآية تقول:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1]
وهو ذكي، أعملَ عقله، لو أنه ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية ، وقال له: أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله، نفاقاً لو قالها، لأبطل هذه الآية، هناك أبلغ من ذلك، يقول الله عز وجل:
﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 142]

هؤلاء وصفوا بأنهم سفهاء، وأنهم سيقولون هذا, وعقولهم في رؤوسهم، لو أنهم سكتوا لأبطلوا هذه الآية، أبو لهب يحتاج إلى أن يذهب، وأن يعلن إسلامه، ليبطل هذه الآية، هؤلاء لو سكتوا، وإنّ الله عز وجل إرادته طليقة، بيده كل شيء، لو أعطاك الاختيار، قادرٌ أن يسلبه منك في أيَّة لحظة,
((إن الله تعالى إذا أحب إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبَّه))
لا ينفعك مع الله ذكاؤك، ولا عقلك، ولا حسن تدبيرك، يؤتى الحذِر من مأمنه، ينفعك مع الله استقامتك، ينفعك مع الله توبتك، ينفعك مع الله إنابتك، هذا الذي ينفعك، لو كنت أذكى الأذكياء وأراد الله أن يؤدِّبك، سلب منك العقل .

لذلك هناك أشخاصٌ, يتميزون بالذكاء، يرتكبون حماقاتٍ ما بعدها حماقات، اعتدوا بذكائهم, فحجب الله عنهم ذكاءهم، اعتدوا بقوتهم, فحجب الله عنهم قوتهم، اعتدوا بمالهم, حجب الله عنهم طريقة الانتفاع بمالهم- .
فارقها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها عثمان بن عفان، وولدت له عبد الله، وبه كان يُكَنَّى ، وبلغ ست سنين، ثم توفي، وتوفيت رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدرٍ، وكانت قد أصابتها الحصبة))

وأجل الإنسان بيد الله، لا يدري متى يأتيه؟ .

إليكم هجرتها إلى الحبشة مع زوجها عثمان بن عفان, والعبر التي يمكن أن نستفيدها من هذه الهجرة ؟
أيها الأخوة, الآن ندخل في موضوع الهجرة الأولى: لقد كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة, رخصةً من الله تعالى للمستضعفين في مكة، من المسلمين الذي أوذوا، واضطهدوا من أجل إسلامهم .
قال ابن إسحاق:
((لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه .
-ماذا يستنبط من هذا الأمر؟ يستنبط من هذا الأمر رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، هو في مَنَعَة، مكانته في بني هاشم، وعمه أبو طالب، تمنعه من أن ينال بأذى، لكن رحمته بأصحابه، وحرصه عليهم، وشفقته عليهم، حملته على أن يعطيهم هذه الرخصة .
أنبِّه إلى نقطة دقيقة، أرجو أن تكون واضحة: الإنسان يحب أن يكون الناس كلهم حوله، هذه شهوة، لذلك سمح لهم أن يغادروا مكة، وأن يعيشوا في بلاد الحبشة، وهم بعيدون عنه، طبعاً تبعد عنه خدماتهم, وولاؤهم, ومحبتهم، لكن رحمته صلى الله عليه وسلم كانت غالبةً .
شيءٌ آخر: أحياناً إنسان يغرر بإنسان، وهو في مكان أمين، هذا منتهى اللؤم، أن تورِّط إنسان, وأن تضعه في مكان تصعب الحياة فيه، وأنت معافى في مكان مرتاح فيه، النبي عليه الصلاة والسلام كان في المعمعة، وكان وسط المعركة، وكان في بؤرة المتاعب، ونجَّا أصحابه من هذه المتاعب, هناك من يفعل العكس، هو في مأمن، هو في بحبوحة، هو في مكان مريح، هو في وسائل الحياة المريحة، والذين غرر بهم, يعانون من الآلام ما لا يطاق، أهذا هو الوفاء؟ أهذه هي الرحمة؟ .

هو في معمعة المشكلات، وقد أرسل أصحابه إلى الحبشة ليرتاحوا من العذاب، من الاضطهاد، من التنكيل، وهو عليه الصلاة والسلام لا يقدر أن يمنعهم، هو أيضاً ضعيف، لماذا كان ضعيفاً عليه الصلاة والسلام؟ لمَ لمْ يجعله الله ملكاً؟ فإذا أعطى أمر، ملايين مملينة تنفذ هذا الأمر، جعله ضعيفاً، حينما جاء بالرسالة، يستطيع أحد الناس أن يتهمه, ويقول: هذا ساحر, وقالوا: ساحر ، وقالوا: مجنون, قال تعالى:
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾
[سورة القلم الآية: 2]
وقالوا : كاهن, وقالوا: مصاب بمرض يحتاج إلى طبيب، وقالوا: شاعر، والذين قالوا عنه: مجنون، وساحر، وكاهن، وشاعر، ناموا في بيوتهم مرتاحين، ما أحد تعرض لهم بالأذى، لأنه كان ضعيفاً، والحكمة في كونِ النبي ضعيفاً, ليكون الإيمان به حقيقةً، إيمانًا تحت الضغط، ليكون الإيمان به ثميناً، أما إذا كان الإنسان قويًا, فأنت بالطبع تعلن ولاءك له خوفاً منه، وتعلن ولاءك له طمعاً فيما عنده، أما إذا كان ضعيفًا, لم يكن قادراً على أن يحمي نفسه، ولا أصحابه، فإذا آمنت به، فإيمانك صحيحٌ مئةً في المئة، لا تعتريه شائبة، لأنك لا ترجوه ولا تخافه, قال تعالى:
﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى﴾
[سورة الأنعام الآية: 50 ]
﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾
[سورة الجن الآية: 21 ]
أحبه أصحابه، تعلَّقوا به، فدوه بأرواحهم، وأموالهم، وأولادهم، ويقول لهم كل يوم:
﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾
[سورة الجن الآية: 21]
الأبلغ من ذلك, قال تعالى:
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً﴾
[سورة الأعراف الآية: 188]
ويقول لهم:
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 50]
﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾
[سورة الأعراف الآية: 188]
إنسان يقول للناس, قال تعالى:
﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً﴾
[سورة الجن الآية: 21]
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 50]
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾
[سورة الزمر الآية: 13]
والناس يتعلَّقون به، هذا هو الإيمان الصحيح، الإنسان أحياناً يميل لكي يؤمن بقوي، والقوي عنده أشياء كثيرة, يعطيك إيَّاها، يعطيك أمناً أحياناً، يقول لك: أنا من جماعة فلان، فتمشي بالعرض، يعطيك أمناً، يعطيك مالاً، يعطيك شأناً، أما حينما تؤمن بإنسان مغمور, لا يعرفه أحد، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، معنى هذا: أن إيمانك به صحيح، إيمانك به صادق، فهذا الذي يمكن أن يقال في هذا المقام:
((لو خرجتم إلى أرض الحبشة, فإن بها ملكاً, لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدقٍ, حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه))
فأكثر الذين يجتمع الناس حولهم، لا يحبون أن يغادرهم أحد، كلما كثُر سوادهم علا شأنهم، وكلما كثُر أتباعهم تمكَّنت مكانتهم، فلذلك هؤلاء الذين يحبون أن يجتمع الناس حولهم، لا يوافقون على أن يغادرهم أحد، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقلبه كقلب الأم، رحمته بأصحابه جعلته يسمح لهم أن يغادروا مكة إلى الحبشة، ويعيشون بعيدين عنه- .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة, مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله تعالى بدينهم، فكانت أول هجرةٍ في الإسلام، وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، ومعه زوجته رُقية، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعظيم شأن الهجرة عند الله تعالى، أنزل فيها قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾
[سورة النساء الآية: 97-99]
أيها الأخوة, وقعت الفُرقة بين رُقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين عُتبة بن أبي جهل ذلك قبل الدخول عليها للسبب الذي ذكر، تقدَّم عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطبها، وينال شرف المصاهرة العزيزة، ويتقبَّل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الخاطب الكريم، الذي كان أول من أسلم على يدي أبي بكر الصديق، ويزداد هذا الصحابي الجليل شرفاً على شرف حينما يكون صهراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

قيل: لم ير زوجان قط أجمل ولا أبهى من رُقية وعثمان، كانا زوجين سعيدين، غير أن فرحة العروسين لم تكتمل، -لماذا؟- لأن عشيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه, حينما علمت أنه آمن بمحمد قاطعته، وحينما علمت أنه تزوَّج ابنته, ازدادت عداءً له، -وهذا شأن الحق والباطل إلى يوم القيامة، معركةٌ أزليةٌ أبدية بين الحق والباطل، أساسها الولاء، أهل الحق يوالون الحق، وأهل الباطل يوالون الباطل، فهذا الإنسان له مكانة عليَّة في قومه، فلما آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام, خسر من حوله، وهذا امتحان .

في صحابي جليل اسمه: مصعب بن عمير، كان ابناً مدللاً لأسرةٍ سريةٍ جداً في مكة، فكانت حياته خيالية؛ يأكل أطيب الطعام، ويرتدي أجمل الثياب، وله مكانة، وله مال، فهو شاب، وله وسامة، وله أناقة في ثيابه، حياته ناعمةٌ جداً، فلما أسلم, قاطعه أهله، وحرموه كل شيء، هذه محنة، هذا امتحان .
أنت طالب جنة عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين، لا يمكن من أن تمتحن، لا بدَّ أن تمتحن، الامتحان أساسي، وطِّنوا أنفسكم، كلما كان طلبكم أعلى كان الامتحان محققاً، أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ قال: لن تمكن قبل أن تبتلى, قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 142]
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
[سورة العنكبوت الآية: 2]
سلعة الله غالية، ومن طلبها بثمنٍ بخسٍ حُرم منها، عليك أن تؤدِّي الثمن- .
سيدنا عثمان حينما أسلم, خرج عن مشورة عشيرته، لذلك حقد عليه رجال عشيرته ونساؤها، وأخذوا يدبِّرون الكيد له ولزوجته، وحقدت قريش عليه، وأخذت موقفاً عدائياً منه، لأنه هجر دين قومه، وباع من حوله بدينه .

لمَّا أخذت قريش في إعداد الأذى لكل من أسلم، وتقرب من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، تشاور المسلمون فيما يتخذونه من تدابير شتَّى، لمواجهة حملات هؤلاء الأعداء، التي تستهدف تعذيب من أسلم أشد العذاب، فقد كان بلال يوضع على الرمل المُحرق، يوضع الحجر فوق صدره، ويقول: أحد أحد، -لذلك ما كان ثمة متنفَّس، وما كان في طريق للخلاص إلا الهجرة- .
أيها الأخوة, استجاب المسلمون لرغبة النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة إلى الحبشة ، وتسلل عددٌ منهم من مكة صوب الساحل، كي تقلَّهم سفينتان كانتا متجهتين صوب الجنوب، لو أن أهل قريش علموا بهجرة هؤلاء لمنعوهم، حتى مغادرة البلد تحتاج إلى موافقة، فكان هناك صعوبة كبيرة في التسلل إلى الحبشة دون أن يعترضهم معترض .
أول من ركب في هاتين السفينتين: سيدنا عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وامرأته سهلة، والزبير، ومصعب، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة، وامرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى .

المرأة في الإسلام لها شأن كبير، هي كالرجل تماماً، من حيث التكليف، والتشريف، والمسؤولية، فهذا الذي يتوهَّم أن المرأة دونه بكثير، هذه نظرة جاهلية، الصحابيات الجليلات كُن عوناً لأزواجهن على طاعة الله- .
أمّر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، -وهذا هو التنظيم الدقيق في الحياة الاجتماعية، التنظيم حضارة,
((إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم))
أي نزهة, ليس فيها أمير, تقع فيها مشكلات لا تنتهي، كل واحد له مزاج، كل واحد له رأي، فحتى في الحج, إذا لم تكن فيه قيادة حكيمة للفوج، تنشأ مشكلات لا تنتهي، هذا النظام الذي أمر به النبي:
((إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم))
أمره نافذ- ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المهاجرون منفردين أو مع أهليهم، حتى اجتمعوا بأرض الحبشة بضعةً وثمانين مهاجراً، عدا أبنائهم الصغار الذين خرجوا معهم أو ولدوا هناك، بضعةٌ وثمانون مسلماً, تركوا مكة المكرمة، وفيهم كبار الصحابة))

هو أنك مع الله, في بلدك، في بلدٍ بعيد، في بلدٍ قريب، في بلدٍ بارد، في بلدٍ حار، في قريةٍ صغيرةٍ، في مدينةٍ كبيرة، في بلادٍ جميلة، في بلادٍ غير جميلة، الله معك، وهذا من عظمة الإسلام,
((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
لكن أضع بين أيديكم بعض الحالات:
امرأةٌ محجبة في بلد، فإذا ركبت الطائرة، وغادرت هذا البلد إلى بلدٍ آخر، خلعت الحجاب ، وسافرت بأبهى زينة، أهذا إيمان؟ أبداً، هذا سلوك اجتماعي فقط، يوم كانت في بلدها، كانت مقهورةً بالنظام الاجتماعي، تخاف على سلامتها، تتحجَّب، فإذا ركبت الطائرة, هي في الطائرة, تخلع كل ثيابها، وتبدو في أجمل ثياب، لا قيمة لهذا الحجاب إطلاقاً .

أي شيءٍ تفعله، فإذا سمحت لك فرصةً, تتخلى منه, فهو قهر، هو ضغط، المؤمن يعبد الله أينما كان، أينما ذهب، كقول أحد العلماء:
((بستاني في صدري, ماذا يفعل أحد أعدائي بي؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟))
تجد المؤمن مستقيمًا في بلده، وفي السفر، وبالطريق، وفي الطائرة يتغيَّر، وثمة إنسان تحت ضغط, إذا رفع عنه الضغط, تفلَّت، إذًا: فهذا الذي يفعله في بلده ليس ديناً، إنما هو قهر .
لذلك أنا أتمنى على كل أخواننا الكرام ألا يلجؤوا مع أولادهم إلى القمع، أعرف رجلا والله لا أزكِّي على الله أحداً، لكن أعلمه صالحاً، لكن ما سلك مع بناته سلوك الإقناع والتعليم، سلك معهن سلوك الإجبار، أجبرهن على الحجاب، فلما توفي, خرجن سافراتٍ, كاسياتٍ, عاريات، فالبطولة أن تربي أولادك بطريقةٍ, لو غبت عنهم، لو غادرت الدنيا إلى الآخرة, أن يبقوا على العهد.
أعرف صديقًا لي, توفي بحادث، وله دعوةٌ في بيته طيبة، توفي بحادث، وترك زوجةً وثلاثة أولاد، الزوجة تركها في العشرين من عمرها، مضى على موته، أو هذا الحادث عشرون عامًا، وما تغير شيء في البيت, مما كان على عهده، له التزامه، انضباط البيت، لا يوجد اختلاط، لا توجد أجهزة لهو، البيت هوَ هو، إنسان يموت، ويخلف زوجة في العشرين وأولاد، ونظام البيت نظام إسلامي, لا يتغير فيه شيءٌ إطلاقاً، هذه البطولة، البطولة أن تدع أثراً يطبق بعد غيبتك .

أما إن أطاعك من حولك في حضورك، وعصوك في غيابك, هذه ليست طاعة, الذي يخاف من قوتك, هذا لا يحبك، وهذا ليس مطيعاً لك، بل هو يحب نفسه، أطاعك لسلامة نفسه، أطاعك حباً بذاته، أما العبرة أن تطاع عن قناعة، لذلك:
((علموا ولا تعنفوا, فإن المعلم خيرٌ من المعنف))
حاول أن تُقنع، لا أن تقمع، حاول أن تقنع، لا أن تُجبر، سيد المرسلين، سيد الخلق, قال له:
﴿لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾
[سورة الأنعام الآية: 66 ]
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾
[سورة هود الآية: 86]
﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 272]
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾
[سورة القصص الآية: 56]
الله عز وجل بين له, قال تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾
[سورة البقرة الآية: 256]

فبطولتك في تربية أولادك أن تقنعهم، لا أن تقمعهم، أن تأخذ بيدهم إلى الله، لا أن تجبرهم على شيءٍ ليسوا قانعين فيه .
رجل حضر درسًا أو درسي علم، فوجد الحجاب حقًّا، فألزم زوجته بالحجاب دون أن يقنعها، إما أن تضعي على رأسكِ هذا المنديل أو أطلقكِ، فهو له مكان عمل في بلد بعيد، يقول: هي في الطريق من دمشق إلى بيروت، وهي تبكي، لأنها وضعت الحجاب قهراً .
رجل حكيم نصحه أن تعود إلى ما كانت عليه، وأن يقنعها بالحجاب خلال ستة أشهر، وهذا الذي حدث، أقنعها، عاملها أطيب معاملة، بيَّن لها عظمة الشرع، بين لها ما عند الله من عطاء كبير إذا هي أطاعت ربها عز وجل، بين لها أن المرأة تؤذي من حولها إذا أظهرت مفاتنها ، إذا هي تطلب الحجاب منه طواعيةً، هذه البطولة أن تحمل من حولك على أن يختاروا طاعة الله ، لا أن تكرههم على طاعة الله، أن تقنعهم، أن تبيِّن لهم، حتى يختاروا هم طاعة الله، إذا اختاروا هم طاعة الله, ارتقوا بهذا الاختيار, أما إذا أكرهتهم لم تنفعهم، بل كرَّهتهم في الدين .
ومن الناس من يجبر أبناءه على الصلاة، فتجد هذا الابن يصلي، لكنه يكره الصلاة كما يكره الموت، أما إذا تلطَّف به، وشجَّعه، وكافأه، وأقنعه، فإذا صلى هذا الابن, فهذه صلاة جيدة جداً ، هذه صلاة ناتجة عن قناعته، فلذلك أقنع ولا تقمع، بيِّن ولا تكره
علِّم ولا تعنِّف .
هناك نقطة ثانية في الموضوع دقيقة جداً: هي أن الإنسان ولِد في مكان، وهذا المكان محبَّب له جداً، والدليل:
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾
[سورة النساء الآية: 66]
كل واحد بلده محبَّب له، مسقط رأسه محبَّب إليه، لكن الإنسان مخلوق للجنة، فإذا منعه بلده أن يطيع الله عزَّ وجل, ماذا عليه أن يفعل؟ يجب أن يغادر إلى بلدٍ, يطيع الله فيه، لأنك أنت مخلوق لعبادة الله، والدليل:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
[سورة الذاريات الآية: 56]
علَّة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله، فإذا كنت في مكان، وحيل بينك وبين عبادة الله, وجب عليك أن تغادره إلى مكانٍ, تعبد الله فيه، مكان فيه ذل، وفيه قهر، المكان الذي تعبد الله فيه هو الجنة، والمكان الذي تُقهر فيه هو جهنم، فلذلك آية الهجرة دقيقة جداً، لكن والعياذ بالله الآن هناك هجرة في سبيل الشيطان، الناس يهاجرون من بلدٍ يقيمون فيه شعائر الإسلام، فيه دروس العلم، وشعائر الدين، وفيه روحانية، ومع ذلك فهناك مَن يَدَعْ كل هذه الميزات, من أجل الدرهم والدينار .

حدَّثني أخ كريم, كان في بلد في أوروبا، قال لي: دخلت إلى مسجد في فرانكفورت لأصلي، على مقربةٍ منه حديقة، أنا ظننتها حديقة عادية كأي حديقة، فلما وصل إلى هذه الحديقة، فإذا بالناس كما خلقهم الله، من دون شيء، رجالاً، ونساءً, وأولاداً، ويمارسون كل الفواحش علانيةً.
فأنت في بلد فيه بقية حياء، فيه بقية خجل، فيه بقية دين، فيه ترابط أسري، لذلك المصيبة الكبيرة, أن تهاجر من بلدٍ, تقام فيه شعائر الدين إلى بلدٍ متفلِّت، هذه هجرةٌ عكسيَّة، هجرةٌ في سبيل الشيطان .
حدثني أخ أقام في بلد أجنبي، قال لي: حينما عدت إلى دمشق، وسمعت الأذان, اقشعرَّ جلدي، هذه نعمة الأذان, لا يعرفها إلا من فَقَدَها، المقت، الكُفر، الحانات، الملاهي، دور سينما، نساء متفلِّتات، دور بغاء، هذه بلاد الغرب، نحن عندنا هنا مساجد، كل مئة متر مسجد، دروس صباحاً، وظهراً، ومساءً، نحن في نعمة كبيرة جداً, لا يعرفها إلا من فقدها، هذه النعمة نعمة مجالس العلم, هذه نعمةٌ عظيمة .
فالمسلمون في الحبشة, قاموا بواجباتهم الدينيَّة، ودعوا إلى الله، صار في دعوة هناك أيضاً، والدليل: أن النجاشي ملك الحبشة, أسلم ممن أسلم، وصلَّى النبي عليه صلاة الغائب، يُعد النجاشي من التابعين، لم ير رسول الله، لكنه يعد تابعياً جليلاً، والنبي صلَّى عليه صلاة الغائب، وحينما قدِمَ وفد النجاشي, خدمهم النبي بنفسه، ما هذا الإكرام؟ بنفسه ، نكفيك ذلك، قال:
((لا أحب أن أكافئهم كما أكرموا أصحابي))
أيها الأخوة, هذه الهجرة إلى الحبشة هجرةٌ مباركة، فأنت بحاجة أحياناً إلى جو مريح تعبد الله فيه، الاضطراب الشديد، والفتن، والخصومات، والقمع، هذا جو متوتِّر, لا يعينك على معرفة الله، فلذلك أحياناً يختار الله عزَّ وجل لبعض المؤمنين مكانًا بعيدًا عن المدينة، فالإنسان بحاجة إلى خلوة مع الله
فالنبي كان يخلو مع ربه الليالي ذوات العدد، أما أنت كمؤمن فمكلَّف أن يكون لك خلوة مع الله عزَّ وجل، فهؤلاء الصحابة الكبار الذين عاشوا في بلاد الحبشة، في ظل ملكها، وفي دعةٍ وراحة، هؤلاء بنوا إيمانهم .
وبالمناسبة أخواننا الكرام, شباب ومتزوجون، الإنسان قبل الزواج، فيما قبل الزواج, هناك ميزات لا يعلمها إلا المتزوج, أنت خفيف، لا يوجد معك أحد، ليس هناك ارتباط، ممكن تصلي، تقرأ قرآن، تحضر دروس علم، تتفوَّق بالدين، وقت بناء الإيمان، لكن الزواج كما ورد:
(( مجبنةٌ مبخلةٌ مشغلة))
فإذا واحد قبل أن يتزوج ليستغل هذه الفرصة:
((اغتنم خمسا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))
فكل سن له جمال، ما قبل الزواج أنت متفرِّغ، يمكن أنْ تسهر، تقرأ، تدرس، لا يوجد إنسان يسألك: أين أنت؟ أما المتزوج: أين أنت إلى الآن؟ أين ذاهب؟ لا تذهب إلى هذا الدرس، اقعد، عندك عقبات، أما الأعزب فهو طليق, يحضر كل دروس العلم، لا أحد يحاسبه أساساً، أما عندما يتزوج فيجب أن يوفِّق بين حقوق الزوجة وبين حقوق الله عزَّ وجل .
ما الخبر الذي فوجئ به عثمان وزوجه رقية حينما وصلا إلى مكة, ومتى هاجرت رقية مع زوجها إلى المدينة, ولم لم يحضر عثمان غزوة بدر, وما الخبر الذي فوجئ به النبي بعد عودته من بدر؟
أخواننا الكرام, توهَّم بعض الصحابة الكرام، وهم في بلاد الحبشة, أن قريش رجعتْ إلى رشدها، وأنها تقبلَّت هذا الدين العظيم، فكان هذا الوهم دافعاً لبعض أصحاب رسول الله أن يعودوا إلى مكة، من هؤلاء سيدنا عثمان، وابنة النبي عليه الصلاة والسلام رقيَّة، استقلا سفينةً، وعادا بها إلى مكة، فإذا الحقيقة عكس ذلك، كان أصحاب النبي المستضعفون, يذوقون ألوان العذاب على يد كفار قريش .
عادت رقيَّة رضي الله عنها مع زوجها عثمان إلى مكة، وفوجئا بهذه الحقيقة المُرَّة، ثم فوجئت أن أمها خديجة قد توفَّاها الله عزَّ وجل، فلاذت بأبيها، ورأت ما يفعله كفار قريش من تنكيلٍ بأصحاب رسول الله، ثم أذن الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة المنورة .
هاجرت رقيَّة مع زوجها عثمان إلى المدينة، وفي المدينة وضعت ابنها عبد الله بن عثمان, عندما وضعت ابنها عبد الله بن عثمان في المدينة, أُصيبت بمرض الحصبة، فأقام زوجها عثمان رضي الله عنه إلى جانبها يمرِّضها ويرعاها, ولمَّا استنفر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه لغزوة بدر .
-الآن في غزوة، في جهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، وسيدنا عثمان زوجته مريضة ، أمره النبي أن يبقى إلى جانب زوجته، تمريض الزوجة من خلال هذه الحادثة, يعدل الجهاد في سبيل الله، أرأيت إلى العلاقات الأسريَّة ما أقواها في الإسلام؟ .
الشيء الأغرب: أن سيدنا عثمان لم يشهد هذه الغزوة، غزوة مشرَّفة، أعزَّ الله بها الإسلام والمسلمين، وانتصروا فيها، وقد فات عثمان رضي الله عنه شرف هذه الغزوة- فلما وُزِّعت الغنائم, عُد له سهمٌ كما لو كان مشاركاً في هذه الغزوة، -أرأيتم إلى العمل الطيب؟ هو يمرِّض زوجته في المدينة، وعُدَّ عند رسول الله من المجاهدين، لذلك عندما قال النبي لامرأةٍ:
((انصرفي أيتها المرأة, وأعلمي من ورائك من النساء, أن حسن تبعل إحداكن لزوجها, وطلبها مرضاته, واتباعها موافقته, يعدل ذلك كله))
وبالمقابل حسن رعاية الزوج لزوجته, يعدل الجهاد في سبيل الله، عُدَّ مع المجاهدين، ونال نصيب الغنائم كما لو كان مجاهداً- .

ثم عاد النبي عليه الصلاة والسلام من معركة بدر منتصراً عزيزاً، ففوجئ بوفاة ابنته رقيَّة، لذلك حينما أُخبر بوفاتها رضي الله عنها بكى، ودمعت عيناه الشريفتان على فراقها، ثم ذهب مع ابنته فاطمة, لزيارة قبر ابنته رقيَّة، فقعدت فاطمة بقرب القبر تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عن عينيها بطرف ثوبه، يخفف من أحزانها، طبعاً هذه ابنته، ولا بدَّ أن يزور قبرها، وأن يدعو لها، لكن هذه القصة ذكرتني بقصة ثانية:
امرأةٌ في أدنى درجة اجتماعيَّة, كانت تقمُّ المسجد، أي تنظفه, أي بحسب السلم الاجتماعي هذه مرتبة دنيا، وقد يكون هذا العامل في التنظيفات مستقيمًا، قد يكون أرقى عند الله من إنسان له شأن كبير، الأمور عند الله بمقياس آخر، بمقياس الإخلاص، بمقياس الاستقامة، فهذه المرأة التي تقُم المسجد ماتت، لضعف شأنها، ولهوانها على الناس, رأوا أنه لا ينبغي أن يُخبر النبي بموتها، فالصحابة الكرام اجتهدوا أن هذه المرأة التي تقُم المسجد, ليس لها أي دور، ليست من المكانة حيث إن النبي يبلَّغ عن وفاتها، ما بُلِّغ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
((أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً, كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ, يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ, وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ, فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ, فَقَالَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ, قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ, قَالَ: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ, فَأَتَى قَبْرَهُ, فَصَلَّى عَلَيْهِ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
خجلوا، فذهب إلى قبرها، ودعا لها، فليست ابنته فقط، ذهب إلى امرأة, تقم المسجد فقط ، وهي في المرتبة الدنيا في السُلَّم الاجتماعي، فالقضية قضية مبادئ، قضية قيَم، قضية مشاعر .

أيها الأخوة, فالإنسان ينبغي أن يعلم علم اليقين: أن هذا الدين العظيم ما وصل إلى أطراف الدنيا إلا بهذه القيَم، وحينما فُهم الدين عبادات، وصلوات، ورقص أحياناً، وغناء أحياناً، ومظاهر، والدين في واد، وحياة الناس في واد، عندئذٍ أصبحت كلمة المسلمين ليست هي العُليا، رفرفت راياتهم في الخافقين, حينما فهموا الدين قيَماً، أما حينما فهموه طقوس، الآن الدين طقوس، أي أن فلان يصلي, إنه صاحب دين، أما أمين غير أمين، صادق غير صادق، مقياس الدين عند الناس أنه يصلي فقط، أما مقياس الدين عند الله عزَّ وجل، أو عند رسول الله، اسمعوا هذا الحديث:
((هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ, قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي, مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ, وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا, وَقَذَفَ هَذَا, وَأَكَلَ مَالَ هَذَا, فَيُقْعَدُ, فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا, أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ, فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
هذا هو الفهم الصحيح للدين، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الجليلات, الصحابيات, سيرة


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من قصص الصحابيات رضي الله عنهن السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 46 08-26-2020 01:39 PM
سيرة الائمة الاربعة السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 12 05-28-2019 02:51 AM
نبذة عن شجرة الدر منال نور الهدى رِيَاض ضَوْءُ المَعرِفَة و التَارِيخ العربِي والعَالمِي 8 12-20-2016 04:38 PM
فندق عبارة عن عش فوق شجرة في غابة بالسويد محمد العتابي رِيَاض إبْنُ بَطُوطَة لِسْيَاحَة والسَفَر 7 09-26-2014 05:39 PM
شجرة تنتج 40 نوعا من الفاكهة محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 5 08-05-2014 02:07 PM


الساعة الآن 06:35 AM