سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة

رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة (السيرة النبوية الكاملة ، سيرة سيدنا محمد عليه آفضل الصلاة والسلام)

الإهداءات

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 07-22-2018, 05:28 PM   #1


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي الشمائل المحمدية





بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الاول )

الموضوع : أهمية دراسة السيرة وحكمها في الإسلام








الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ في دروسٍ سابقة تحدَّثنا عن التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وفي عشرين درساً تحدَّثنا عن عشرين تابعياً، حيث عُرضت جوانب من شخصياتهم، ومن مواقفهم، ومن سموِّهم، وقبلها كان الموضوع حول الخلفاء الراشدين، وقبل الخلفاء الراشدين كان الموضوع حول صحابة رسول الله.
والآن ننتقل إلى نوعٍ جديد من ألوان السيرة النبويَّة، ألا وهي شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وقبل كل شيء يمكن أن نتناول حياة النبي بحسب التسلسل الزمني، وهذا هو المنهج عند أكثر كُتَّاب السيرة، وهناك منهجٌ آخر، وهو أن نتناول من شخصية النبي جوانبه المتعدِّدة ؛ رحمته، وعلمه، وأخلاقه، وحلمه، وشجاعته، وعفوه، وما إلى ذلك، لذلك نبدأ الدرس الأول من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقبل أن ننتقل إلى شمائله واحدةً واحدة لابدَّ من مقدِّمةٍ دقيقةٍ حول وجوب دراسة سيرة النبي، ودراسة شمائله، وما الدليل على ذلك ؟
إخواننا الكرام ؛ ما من حركةٍ يتحرَّكها الإنسان إلا ولها حكمٌ شرعي ؛ إما أنها فرض، وإما أنها واجب، وإما أنها سُنَّة، وإما أنها مباحة، أو مكروهة كراهة تنزيهيَّة، أو كراهة تحريميَّة، وإما أنها حرام، فالمؤمن أيَّة حركةٍ يتحرَّكها ينبغي له أن يعرف حكم الشرع فيها، يا ترى قراءة سنة النبي، وسيرته، وحضور هذا المجلس، يا ترى مباح، أم واجب،أم مستحب، أم فرض ؟ وما الحكم الشرعي في معرفة سُنَّةِ النبي ؟
وإذا قلنا: سنة النبي، فيجب أن تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم له أقوال، وأفعال، وإقرار، فإذا حصل شيء أمامه، وبقي ساكتاً فهذا صحيح، لأن النبي مشرِّع، وسكوت النبي دليل إقراره لما يجري.
عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:

((طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتْ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ قَالَ وَمَا يُدْرِيكِ قُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ قَالَتْ وَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ذَاكِ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ))
( البخاري)
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أقواله، وأفعاله، وإقراره سُنَّة، فيا ترى معرفة سنة النبي في أقواله وأفعاله وإقراره، وصفاته، مجموع هذه الأشياء اسمها سُنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويا ترى الحكم الشرعي هل من المستحب أن نقرأها، أو أن نستمع إليها، أم أنه واجب، أم أنه فرض ؟ سأبيِّن لكم في هذا الدرس أن معرفة سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم بكل أنواعها من أقوالٍ، وأفعالٍ، وإقرارٍ، وصفات فرض عين.
الآن إذا قلنا: فرض، فما معنى الفرض ؟ أي يعاقب تاركه، ويثاب فاعله، والفرض له أدلَّة في القرآن الكريم، فما الدليل على أن معرفة سنة النبي فرض ؟ والفرض نوعان كما تعلمون ؛ فرض عين، وفرض كفاية، فلو فرضنا أنّ مؤمنين مسلمين في بلد يفتقرون جميعاً إلى اختصاص معيَّن، وتعلُّم هذا الاختصاص فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الكُل، فعلم المواريث فرض كفاية، يكفي الشام خمسة علماء مواريث، وعلم التجويد فرض كفاية ـ والتبحُّر في علم التجويد ـ لكن تلاوة القرآن تلاوةً صحيحة فرض عين، لقوله تعالى:
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً (4)﴾
( سورة المزمل )
﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾
( سورة البقرة: من الآية " 121 " )
لكن التبحُّر في علم التجويد فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الكُل، فالفرض له مرتبتان ؛ فرض كفاية وفرض عين، وستفاجؤون أن معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلَّم بكل أنواعها ؛ أقوال، وأفعال، وإقرار، وصفات فرض عينٍ على كل مسلم، والآن طالبوني بالدليل ؟ يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من الآية " 7 " )
واعلموا أن هذا الذي يدعوكم إلى طاعة الله هو رسول الله، يا ترى إذا قال الإنسان: هذا رسول الله، فهل انتهى العلم ؟ وهذا ليس علماً، هذه إشارة، وهذا تقليد، وثمة فرقٌ كبير بين التقليد وبين العلم، والله عزَّ وجل قال:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
( سورة محمد: من الآية " 19 " )
هل يكفي أن تردِّدها ؟ لا، لا يكفي، وهل يكفي أن تشهد أنه لا إله إلا الله، ولا تعلم فحواها ومضمونها ؟ لا يكفي، إذا قال الله عزَّ وجل:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
ينبغي أن يكون علمك يقينياً مع الدليل الإجمالي والتفصيلي، وبإمكانك أن تردَّ الشبهات، فما معنى العلم ؟ العالِم يعرف الحقيقة، ويعرف البرهان عليها، ويستطيع أن يردَّ الشبهات التي تُطرح فيها، فهذا العالم، وقياساً على:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾
يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من الآية " 7 " )
علم، والعلم يقتضي البحث، والدرس، والتأمُّل، والأدلَّة، والبراهين، والقدرة على رد الشبهات، وهناك آلاف الشبهات يطرحها أعداء الإسلام على النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذه الشبهات أنه مزواج يحب النساء، فهل عندك القدرة على أن ترد هذه الشبهة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟
لقد تزوَّج السيدة خديجة، وهي أكبر منه بخمسة عشرَ عاماً، وعاش معها ربع قرن، ولم يفكِّر في امرأةٍ أخرى، فلو أنه كان مزواجاً -كما يقولون - أو يحب النساء لاختار من أجمل فتيات قريش، وهو من أرومتها عليه الصلاة والسلام، إذاً قوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من الآية " 7 " )
وهذا دليل أن معرفة رسول الله فرض عين على كل مسلم، فيجب أن يحصل لك العلم، والعلم لا شك، ولا وهم، ولا ظن، ولا تقليد فيه، فعلاقةٌ بين شيئين مقطوعٌ بصحَّتها عليها دليل يطابق الواقع، فإن لم تطابق الواقع فهي الجَهل،و إن لم يكن عليها دليل فهي التقليد، وإن لم يكن مقطوعاً بها فهي الشك، والوهم، والظن، وهذا العلم، فإذاً لابدَّ من معرفة رسول الله معرفةً يقينيَّة، حيث إن كل خليَّةٍ في جسمك تؤمن أن هذا الإنسان رسول الله.
هناك افتراءات كثيرة كقولهم: هذا الإنسان عبقري، لا ليس عبقرياً، بل هو نبي ورسول، ذكي، لا، هو ذكي ولكن هذا الوصف لا يليق به، يليق به أنه رسول الله يوحى إليه، فالأجانب دائماً يريدون أن يخلعوا عن النبي صفة النبوَّة والرسالة، وأن يصبغوه بصفة الإصلاح ـ مصلح كبير، عبقري، شخصيَّة فذَّة ـ هذا كله لا نقبله، إنه عبدٌ من عباد الله سبق الخلق طُرًّا، وكان في قمة البشريَّة معرفةً، وطاعةً، وإنابةً وإقبالاً، فاصطفاه الله على علم، وجعله سيِّد الخلق، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))
( رواه مسلم )
الآن الدليل الآخر على أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين قوله تعالى:
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)﴾
( سورة المؤمنون )
هذا دليل ثانٍ، فالله عزَّ وجل يحضُّنا بهذه الصيغة، الأولى: واعلموا، فعل أمر، وكل فعل أمرٍ يقتضي الوجوب، أما الدليل الثاني:
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾
هناك حضٌ على معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام.
والدليل الثالث، يقول الله عزَّ وجل:
﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)﴾
( سورة التغابن )
فالنور الذي أنزلنا هو القرآن الكريم، إذاً الله عزَّ وجل يأمرنا أن نؤمن به، وأن نؤمن برسوله، وأن نؤمن بكتابه.
وشيء خطير أقوله لكم: العقل البشري ضمن إمكانيته أن يوصلك إلى الله، وإلى كتابه، وإلى رسوله، بالعقل ؛ أن تؤمن بالله من خلال هذا الكون الذي هو مظهرٌ لأسماء الله الحسنى، أن تؤمن بكتاب الله من خلال إعجازه ؛ الإعجاز العلمي، والبياني، والإخباري، والتشريعي، والتربوي، الإعجاز هو أكبر دليل على أن هذا الكلام كلام الله.
هناك إعجاز إخباري، وفي القرآن غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل، وإعجاز علمي، و سمَّاه العلماء: (السبق العلمي )، أي إن القرآن أشار إلى حقائق ما كان يعرفها أحدٌ إلى الآن، هذه الحقائق يستحيل على البشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يصلوا إليها، فأنت تؤمن بالقرآن من خلال الإعجاز، وتؤمن بالنبي من خلال القرآن، فالذي جاء بهذا القرآن المُعجز هو رسول الله، إذاً عندما قال ربنا:
﴿فَآَمِنُوا﴾
( سورة التغابن: من الآية " 8 " )
أي أنتم مؤهَّلون بعقولكم أن تؤمنوا بالله وكتابه ورسوله، وهذا دليل ثالث.
وعندنا دليل رابع:
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
( سورة هود: من الآية " 120 " )
فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما يقصُّ الله عليه من أنباء الرسل، جميع الرسل دونه، وهو في قمَّتهم، يثبتُ قلبه بأنبائهم، فكيف بقلوبنا إذا تُلِيَت عليها أنباء النبي عليه الصلاة والسلام؟
الدليل الخامس:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
( سورة سبأ: من الآية " 46 " )
إذاً الله عزَّ وجل يعظنا أن نجتمع، ونتدارس فحوى دعوة النبي.
الدليل الأول:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من الآية " 7 " )
والدليل الثاني:
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾
( سورة المؤمنون )
والدليل الثالث:
﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾
( سورة التغابن: من الآية " 8 " )
والدليل الرابع:
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
( سورة هود: من الآية " 120 " )
هذا أسلوب خبري.
والدليل الخامس:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
( سورة سبأ: من الآية " 46 " )
وهذا النبي عليه الصلاة والسلام رعاه الله عزَّ وجل رعايةً مباشرة..
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)﴾
( سورة الضحى )
وتولَّى الله تعليمه، وكل إنسان دخل جامعة، وتخرَّج منها يزهو بها، ويفتخر، ولاسيما إن كانت هذه الجامعة عريقة، ويقول لك: أنا خريج السوربون، فلان معه مثلاً بورد، وكل إنسان يزهو بجامعته التي علَّمته، بل ربَّما يزهو بالأساتذة الكبار الذين علَّموه، فإذا زها كل عالمٍ بأستاذٍ من بني البشر، ألا يحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يزهو بأن الله خالق الأكوان هو الذي علَّمه ؟
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)﴾
( سورة النجم )
ألا يحق لهذا النبي العظيم أن يزهو أنه أُمِّي ؟ والأميَّة في حقِّه كمال، لأن الله سبحانه وتعالى حجزه عن ثقافات العصر، وجعل علمه خالصاً من الله عزَّ وجل، فإذا تكلَّم لم ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، وعندما يدرس الإنسان كثيرًا، وتكون له ثقافة واسعة، يتكلَّم أحيانًا كلامًا فينزلق إلى عرض ثقافته، وقد تكون كلماته غير صحيحة، أو لم يتحقَّق منها، أو تفتقر إلى البُرهان، لكنه قرأها وهي طريفة، فالإنسان إذا أراد أن يتكلَّم من ثقافته فإنه يخطئ ويُصيب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كلُّ الذي قاله لأمَّته وحيٌ يوحى، ولهذا علماء الأصول قالوا: هناك وحيٌ متلو هو القرآن، ووحيٌ غير متلو هو السُنَّة.
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
( سورة العلق )
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)﴾
( سورة الأعلى )
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾
( سورة النساء )
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾
( سورة فصلت: من الآية " 6 " )
انظر إلى هذه الآيات كلِّها، فإنّ الله عزَّ وجل تولَّى رعايته، والعناية به، وتعليمه بشكلٍ مباشر، وهذا جانب من جوانب شخصية النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ))
( من صحيح البخاري عن أبي هريرة )
أي له من الله خاصيَّةٌ ليست لبني البشر، وهذا أول وجه، وعندنا خمس أدلَّة من الكتاب والسُنَّة، كلها تؤكِّد أن معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلَّم فرض عينٍ على كل مسلم.
وعندنا دليل من نوع آخر، وهو قاعدة أصوليَّة: ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، الوضوء فرض، والوضوء ليس صلاةً، ولكن لأن الصلاة لا تتم إلا به، والصلاة فرض، فالوضوء فرض، هذه قاعدة: ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والآن يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر: من الآية " 7 " )
فالأدلَّة الأولى أدلَّة مباشرة..
﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾
( سورة التغابن: من آية " 8 " )
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من آية " 7 " )
الأدلَّة الأولى أدلَّة غير مباشرة، إذا قال الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر: من الآية " 7 " )
كيف، نأتمر وكيف ننتهي إن لم نقف على أقوال النبي وأوامره ؟ وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 12 " )
كيف يكون النبي أسوةً حسنة إن لم نعرف هذه السيرة ؟ إذاً فنحن الآن مأمورون بشكلٍ غير مباشر بمعرفة أقواله، وأفعاله كي نطبِّق قوله تعالى:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر: من الآية " 7 " )
وكي نطبِّق قوله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
( سورة الأحزاب: من الآية " 12 " )
والآن بشكلٍ أوضح قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 13 " )
أي إن الله جعل علامة حبِّه اتباع نبيِّه، لأنه كَثُرَ مُدَّعو محبَّته، فطُولِبوا بالدليل..
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
أما كل الدعاوى التي تقول: إن فلانًا يحب الله، ولا يتبع سنة النبي، فهذه دعوى باطلة زائفة، وهذا نوعٌ من الدجل، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)﴾
( سورة الأعراف )
فربَط الهدى باتباعه، وربط محبَّته باتباعه، فاتباعه علامة الهدى، واتباعه علامة محبة الله عزَّ وجل.
وأصحاب النبي عليهم رضوان الله أقبلوا على النبي إقبالاً عجيباً، وتعلَّقوا بمحبَّته تعلُّقاً شديداً، بل إنهم كانوا حريصين حرصاً لا حدود له على تقليده في كل أفعاله، لذلك قالوا: " عادات السادات سادات العادات " أي أن أرقى عادة أن تقلِّد نبياً أو رسولاً، وعاداته، وأحواله، أطواره، في بيته، ومع إخوانه، وحتى العادات، لأنّ عادات السادات سادات العادات، فكيف بعادات سيِّد السادات النبي عليه الصلاة والسلام ؟
أيها الإخوة ؛ الوجه الأول هناك أمرٌ مباشر لمعرفة النبي، وهناك أمرٌ مباشر لاتباع النبي، واتباع النبي يقتضي معرفة سنته، ويقتضي معرفة سيرته.
وعندنا أمر ثالث، وقد يبدو لكم غريباً، أما فهو مألوف عندكم..
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
( سورة التوبة: من آية " 24 " )
هذا كلام خطير، لأنك مكلَّف أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك، وأبنائك، وزوجتك، وعشيرتك، والأموال، والبيوت، والتجارة، والمساكن، ولكننا نريد أن نكون واقعيين، فكيف تحب النبي أكثر من أهلك، وأولادك، وأهل بيتك، وآبائك، وأبنائك، وتجارتك، ومن دخلك الكبير، ومن بيتك الواسع، كيف تحب النبي أكثر من كل ذلك ؟
لذلك فالحقيقة لن تحب النبي أكثر من هذه الأشياء إلا إذا عرفته، أما إذا لم تعرفه فلن تحبه، وإذا أحببته باللسان، فالمعوَّل على ما في القلوب، وما يقوله اللسان لا قيمة له إطلاقاً، لذلك ربنا عزَّ وجل في أكثر الأحيان يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمُ﴾
عقب آيات الدعاء، أي إنه سميعٌ لأقوالكم، ولكنَّه عليمٌ بما تنطوي عليه القلوب، إذاً ما دام الله عزَّ وجل يأمرنا أن نحب النبي أكثر من آبائنا فكيف ذلك ؟
هذه المرأة الأنصاريَّة تبدو غريبة، فقد بحثت عن أبيها عقب معركة أُحُد، فإذا هو مقتول، ورأت ابنها مقتولاً، وأخاها مقتولاً، وزوجها مقتولاً، وتقول: " ما فعل رسول الله ؟ "، إلى أن وصلت إليه وأمسكت بطرف ثوبه وقالت:
(( يا رسول كل مصيبةٍ بعدك جلَل))
(تاريخ الطبري(2/74)، والسيرة النبوية لابن هشام(4/50) عن سعد بن أبي وقاص)
أي هيِّنة.
هذا الوضع يبدو لكم نادراً، وهذا هو الأصل في الإيمان ؛ أن تحب الله ورسوله أكثر من آبائك، وأبنائك، وزوجتك، وعشيرتك، وتجارتك، ومسكنك، وأموالك كلها، لكن كيف تحب النبي أكثر من هذه كلها ؟ لابدَّ من معرفته.
لو سألنا علماء النفس هذا السؤال: الإنسان من يحب ؟ من الذي يحبه ؟ لقالوا: الإنسان يحب الكمال والجمال والنوال.
أي إن الإنسان الأخلاقي محبوب، فالعفو محبوب، والكريم محبوب، والعدل محبوب، والإنسان يحب مكارم الأخلاق، وإنْ لم يكن له علاقةٌ مباشرة مع هذا الإنسان الكامل، فلو سمعت عن رجلٍ في أعلى درجات القوة، واستفزَّه إنسان، وعفا عنه، سوف تعجب من هذا الخُلُق ؟ فالإنسان يحب الكمال، ويحب الجمال، ويجب النوال، ولو أنّ إنسانًا دميمًا أعطاك ثمن بيت، وقال لك: اسكن في هذا البيت، يمكن أنك لن ترى أجمل منه، بل تحبه حباً لا حدود له، فما دام الإنسان يحب الكمال، ويحب الجمال، ويحب النوال فالنبي عليه الصلاة والسلام كمالٌ، على جمال، على نوال.
و َأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَ أجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشـاءُ
* * *

وهو بهيُّ الطلعة، يتلألأ وجهه نوراً، لكن ماذا فعل مع أمته ؟ أدخلهم في سعادةٍ لا تنتهي، أي إن خيره عمَّ الخلائق، وجعله الله رحمةً مهداة، ونعمةً مسجاة، وأرسله للعالمين قاطبةً، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجمع في شخصيَّته بين الكمال، والجمال، والنوال، فلذلك من أجل أن تحبَّه كما أمرك الله عزَّ وجل يجب أن تتعرَّف إلى كماله، وإلى أخلاقه، وشمائله، ويجب أن تكتشف مقدار الخير العميم الذي أصابك منه.
فالآن أنت مسلم، أي إن عقيدتك صحيحة، فهذا النبي الكريم عرَّفك بالله، وبالمنهج، وبالطريق الموصلة إلى الله عزَّ وجل، وبمكارم الأخلاق، فكان قدوة لك بالعفو، والرحمة، والصبر، والشجاعة، وبالبذل، والسخاء، فإذا كنتَ على شيء من الكمال، وعندك عقيدة صحيحة، وتصوُّر صحيح، ومنهج قويم، وشعور بالرضا، هذا كله من فضل النبي عليه الصلاة والسلام..
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾
( سورة النور: من الآية " 21 " )
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾
( سورة النساء )
إذاً أنت الآن مكلَّف أن تعرفه، ومكلَّف أن تتبعه، فينبغي أن تعرفه، لأنّ المحبَّة تحتاج إلى معرفة.
وهنا أمرٌ رابع، هؤلاء الذين لم يشاهدوا النبي، ولم يلتقوا معه، ولم يُتَح لهم أن يروه رأي العين، هؤلاء الذين سمعوا به، كيف يمكن أن يأخذوا الحد الأدنى من معرفته ؟ إذا قرؤوا سيرته، وأوصافه، وشمائله فكأنك تراه بعينك، فصارت معرفة سيرة النبي هي البديل من أن تراه بعينيك، أو أن تلتقي به.
هذه أيها الإخوة، بعض الأدلَّة التي يمكن أن تكون أدلَّةً قطعيَّةً تدفعنا إلى معرفة النبي، وفي الأخير دليل عملي، يقول الله عزَّ وجل يخاطب النبي:
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
( سورة التوبة: من الآية " 103 " )
وفي آية أخرى:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)﴾
( سورة الأحزاب )
فهاتان الآيتان تشيران إلى أنك إذا اتصلت بالنبي بأي نوعٍ من الاتصال ؛ بأنْ ذكرته، أو زُرت قبره، أو قرأت سُنَّته، أو قرأت شمائله، أو تصوُّرته، فأي نوعٍ من أنواع الاتصال يعود عليك بالسكينة والسرور..
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
( سورة التوبة: من الآية " 103 " )
فإذا ذكرته أفاض عليك من أنواره، وأفاض عليك من تجليَّاته..
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾
وقال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)﴾
( سورة الأحزاب )
فاجتمع عندنا خمسة وجوه لمعرفة شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، فرض عين، أي إنك إذا أتيت إلى مسجدٍ كي تتعرَّف إلى النبي فأنت ما زدت عن أن فعلت الفرض، ونحن يوجد عندنا خطأ كبير هو أن معظم المسلمين يتوهَّمون أن الفرائض هي فقط الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، غير أنّ كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وأنت أمام مئة ألف أمر في القرآن الكريم، فإذا كنت مؤمناً حقاً، قال لك:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الحجرات: من الآية " 7 " )
هذا دليل.
﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
( سورة التغابن: من الآية " 8 " )
ودليل ثانٍ.
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ﴾
( سورة المؤمنون: من الآية " 69 " )
ودليل ثالث.
﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
( سورة سبأ: من آية " 46 " )
طبعاً اسمحوا لنا لنصف درس فقط أن نتحدَّث عن شكل النبي ؛ عن لونه، عن وجهه، عن طوله، إنه شيء لطيف، ولأن العلماء قالوا: إذا رأيت النبي في الرؤيا الصالحة، ولم يكن على هذه الصفات فهذا ليس النبي، ومن شرط أن تكون رؤيتك للنبي رؤيةً حقيقيَّةً له أن تراه وفق الصفات التي وردت في السيرة، أمَّا أن يشاهد النبي أسمر طويلاً طولاً بائنًا، فهذا ليس النبي، إنه يتوهَّم ذلك، إذاً لابدَّ من معرفة شكل النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنِ الْبَرَاءِ يَقُولُ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ))
( رواه البخاري)
وعنه رضي الله عنه: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ـ كتفه بعيد ما بين المنكبين، أي عريض المنكبين ـ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
( رواه مسلم عن البراء )
وعن عليٍ رضي الله عنه أنه قال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ ضَخْمُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مُشْرَبٌ وَجْهُهُ حُمْرَةً طَوِيلُ الْمَسْرُبَةِ ضَخْمُ الْكَرَادِيسِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
(رواه الإمام أحمد)
وروى البيهقي وغيره أن رسول صلى الله عليه وسلَّم ليلة هاجر من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكرٍ وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن أُرَيْقِط الليثي، فمروا بخيمة أم معبد ـ عاتكة بنت خالد الخزاعيَّة ـ وكانت أم معبد امرأةً برزةً، أي جليلةً مسنَّة، جلدةً ـ أي قويَّة ـ تحتبي وتجلس بفناء الخيمة، فتطعم وتسقي من يمر بها، فسألوها: هل عندها لحمٌ أو لبن يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئاً من ذلك، وقالت: " والله لو كان عندنا شيءٌ ما أعوزناكم القِرى ـ أي ما أحوجناكم ـبل كنا نضيفكم ـ لو عندنا ما بعناكم، بل كنا نضيِّفكم ـ وإن القوم مرملون مسنتون ـ أي أصابتهم سنةٌ جدباء ـ "، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام فإذا شاةٌ في كِسر خيمتها ـ أي في جانب خيمتها ـ فقال: " ما هذه الشاة يا أم معبد؟ ". قالت: " شاةٌ خلَّفها الجهد عن الغنم " أي إنها هزيلة ضعيفة، فقال عليه الصلاة والسلام: " فهل بها من لبن ؟ "، فقالت: " هي أجهد ـأي أضعف ـ من ذلك ". فقال: " أتأذنين أن أحلبها؟". النبي بالهجرة كانوا جائعين، فقالت: " إن كان بها حلبٌ فاحلبها ". وفي رواية قالت: " نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها".
( من مجمع الزوائد: عن " حبيش بن خالد " )
فدعا النبي صلى الله عليه وسلَّم بالشاة ـ أي طلبها ـ فمسحها، وذكر اسم الله، ومسح ضرعها، وفي روايةٍ مسح ظهرها، وذكر اسم الله، ودعا بإناءٍ لها يُربِض الرهطَ، أي يشبع الجماعة.
فهذه الشاة الضعيفة الهزيلة درَّت، فحلب فيها ثجًّا، أي كميَّةً سائلةً غزيرةً، حتى ملأه ـ ملأ هذا الوعاء ـ فسقى أم معبد، بمن بدأ النبي ؟ بصاحبة الشاة، فسقى أم معبد، وسقى أصحابه فشربوا عللاً بعد نهلٍ، أول شربة والثانية، معنى هذا أنهم جائعون، حتى إذا رووا شرب صلى الله عليه وسلَّم آخرهم، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا))
(مسلم، والترمذي)
ثم حلب صلَّى الله عليه وسلم ثانيًا عوداً على بَدْءٍ فغادره، أي تركه عندها، وفي روايةٍ قال لها: " ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءكِ "، فما هذا الفهم ؟!! أسقاها أولاً، وترك لزوجها ثانياً، وسقى أصحابه، وشرب آخرهم.
قال: ثم ارتحلوا، فما لبثت إلا قليلاً حتى جاء زوجها أبو معبد، يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هُزْلى، فلما رأى اللبن عجب وقال: "من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوب في البيت، والشاء عاذب ؟ ـ أي ما ذهبت إلى المرعى ـ ". فقالت: " لا والله إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك، كان من حديثه كذا وكذا "، وفي روايةٍ: " كيت وكيت". فقال: " صِفِيِه يا أم معبد "، قالت:" رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثَجْلَة ـ الثجلة كبر البطن ـ ولم تزرِ به صعلة ـ أي صغر الرأس ـ قسيمٌ وسيم ـ أي يجمع من كل حسنٍ قسماً، وهو وسيم أي جميل ـ في عينيه دعجٌ ـ الدعج هو شدة سواد حدقة العين ـ وفي أشفاره وطفٌ ـ أي كثرة شعر الحاجبين والعينين ـ وفي صوته صحلٌ ـ أي بحَّةٌ محبَّبة، في بحَّة بالصوت جميلة جداً ـ أحور ـ أي شدة بياض العين وسوادها ـ أكحل ـ سوادٌ في أجفان العين خلقةً، كأنهم مكحَّلين ـ أزجُّ ـ أي دقيق طرف الحاجبين، حواجبه دقيقة ـ أقرن ـ أي متصلة ـ في عنقه سطعٌ ـ أي ارتفاع عنقه طويلة، وهذه صفة بالإنسان محبَّبة ـ وفي لحيته كثاثة ـ شعره كثيف ـ إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلَّم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، كلامه فصلٌ لا نزرٌ ولا هدرٌ، كأن منطقه خرزات نظمٍ ينحدِرن، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، ربعةٌ لا تشنأه عينٌ من طولٍ، ولا تقتحمه عينٌ من قصرٍ ـ لا هكذا ولا هكذا أي أنه معتدل ـ فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قداً، له رفقاء يحفُّون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفودٌ محشودٌ لا عابثٌ ولا مفنِّد ".
قال أبو معبد: " هذا والله صاحب قريش الذي تطلب - في أثناء الهجرة - ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً "، ثم هاجرت مع زوجها إلى النبي، وأسلما.
روى الإمام مسلم والترمذي عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ قُلْتُ لَهُ:
((أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ نَعَمْ كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ سَنَةَ مِائَةٍ وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
وفي رواية عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ قَالَ كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا))
(مسلم)
أي مكتمل ومعتدل في كل أوصافه، قصد، مقصَّداً.
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الناس وجهاً، وأنورهم محيَّا، اجتمعت كلمة الصحابة الذين وصفوه على أنه كان منير الوجه مشرق المُحَيَّا، فمن الصحابة من ضرب المثل لبهاء نوره، مثَّله بالشمس فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
((مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي جَبْهَتِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ))
(أحمد)
وقال الإمام الغزالي: " يقولون هو كما وصفه صاحبه أبو بكر: أمينٌ، مصطفى للخير، يدعو كضوء البدر زايله الظلام ".
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
((يَا بُنَيَّ لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً))
(رواه الدارمي)
وقال بعض أصحاب رسول الله: " كان فخماً مفخَّماً يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ".
على كلٍ فهو كما قال حسَّان بن ثابت:
و َأحْسَنُ مِنْكَ لم تَرَ قَطُّ عَيْني وَ أجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأَ مِنْ كُلّ عَيْــبٍ كَأنّكَ قَدْ خُلِقْتَ كمَا تَشـاءُ
***

إخواننا الكرام علَّمنا النبي اللهمَّ صلِّ عليه، أنك إذا وقفت أمام مرآة ورأيت وجهًا أولاً: سليم من العيوب، عينان، أذنان، أنف، فم، وجه، فكان النبي يقول كما في حديث ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي))
( أحمد)
وقال بعض الشعراء:
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديلٍ على قبر المجوسِ
* * *

أي إن الإنسان إذا كان جميل الصورة، من أجمل ما يكون، فعليه أن يتبع هذا الجمال بجمال الخُلُق، فإذا اجتمع جمال الخُلُق مع الخلق فهذا شيء رائع، والنبي عليه الصلاة والسلام كان من أجمل الناس، ومن أكثرهم وضاءةً، وإشراقاً، وتلألؤاً، ونوراً، وكانت أخلاقه في قمم الأخلاق.
ولا نريد أن نطيل عليكم في موضوع الأوصاف الظاهريَّة للنبي عليه الصلاة والسلام، والله عزَّ وجل خلقه بالكمال المطلق، لكن الذي يعنينا أن نتبع سُنَّته.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نصل إلى الحديث عن شمائله واحدةً واحِدةً بشكلٍ تفصيلي، والله سبحانه وتعالى الموفِّق.


والحمد لله رب العالمين




 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:05 AM   #2


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثانى )

الموضوع : نظافتة صلى الله علية وسلم








الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، والموضوع اليوم عن نظافته صلَّى الله عليه وسلَّم وأمره بالنظافة.
فقد كان صلى الله عليه وسلم أنظف خلق الله تعالى بدناً، وثوباً، وبيتاً، ومجلساً، فلقد كان بدنه الشريف نظيفاً وضيئاً ـ وضاءة النظافة ـ وكان كما وُصِف أنور المُتجرِّد، أي أن الأعضاء المجرَّدة من الثياب مُنيرة، وهذه الإنارة أسبابها كثرة النظافة، متألِّقة.
وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال:

((مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
وعن أبي قِرْصافة قال: ((ذهبت أنا وأمي وخالتي فأسلمن وبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصافحن، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي ورجعنا من عنده منصرفين قالت لي أمي وخالتي: يا بني ! ما رأينا مثل هذا الرجل، ولا أحسن منه وجها، ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما! ورأينا كأن النور يخرج من فيه ـ أي من فمه ـ ))
(من كنز العمال: عن " قرصافة " )
فهو صلى الله عليه وسلَّم أنظف خلق الله بدناً، وأنقاهم ثوباً، وكان صلى الله عليه وسلَّم يستاك حين خروجه من منزله، وحين دخوله.
وهذه صفة النبي في نظافة بدنه، وثيابه، وبيته، ومجلسه. والتألُّق الذي ورد في هذه الأحاديث تألُّق العناية، وتألُّق النظافة.
الآن سيكون الدرس من الآن حتى نهايته في التوجيهات النبويَّة التي وجَّه بها النبي أصحابه الكرام في شأن النظافة، لتروا معي أن النظافة جزءٌ من الدين، وأن النظافة لا تُجزَّأ، نظافة القلب، ونظافة السريرة، ونظافة النيَّة، ونظافة الهدف، ونظافة البدن، ونظافة الثياب، ونظافة المَجلس، ونظافة البيت، فالنظافة جزءٌ من الدين لا يتجزَّأ.
فقد روى الترمذي عن سعدٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ))
والأفنية ساحات الدور، فالإنسان النظيف يجذب الناس إليه، والمحل النظيف يجذب الزبائن إليه، والبيت النظيف مُريح، والثوب النظيف مريح، والنظافة شيء وفخامة الثياب شيءٌ آخر، فالأغنياء يشترون أغلى الثياب، ولكن الفقراء يستطيعون أن ينظِّفوا ثيابهم، فنظافة الثوب دليل التديُّن، أما ارتفاع ثمن الثوب فدليل الغنى، أما علامة تديُّنك الصحيح نظافة الثوب، وعلامة غناك ارتفاع ثمن الثوب، والذي يرفعك عند الله لا ثمن الثوب، ولكن نظافته.
وعن سليمان أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

(( استاكوا، وتنظفوا، وأوتروا ؛ فإن الله عز وجل وتر يحب الوتر))
( من الجامع الصغير: عن " سليمان بن صرد " )
أي الدلك ثلاث مرَّات، والاستياك ثلاث مرَّات، والتنظيف ثلاث مرَّات، وغسيل الآنية ثلاث مرات.. ((استاكوا، وتنظفوا، وأوتروا ؛ فإن الله عز وجل وتر يحب الوتر))
( من الجامع الصغير: عن " سليمان بن صرد " )
فأحياناً أرى نفسي أميل إلى توسيع معنى النظافة، لأنه قد يكون الكافر نظيفًا فيقال: كل يوم يغتسل مرَّتين مثلاً، ولكن النظافة شعورك الداخلي، النظافة الداخليَّة ؛ نظافة السلوك، نظافة المبدأ، نظافة الأهداف، من غير علاقات شائنة، ولا أشياء تستحي بها، هذا واضح كالشمس.. ((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))
( ابن ماجه عن العرباض )
حملني على توسيع معنى النظافة ليشمل نظافة الهدف، ونظافة الباعث، ونظافة القلب، ونظافة السريرة، ونظافة العلاقات، حملني على هذا التوسيع هو أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
لو حملناه على المعنى الضيِّق لكنا مُحْرَجِين، لأن عندنا قاعدة في الحديث: السبب الصغير لا يؤدي إلى نتيجة كبيرة، ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
معنى ذلك أنّ النظافة شرطٌ لدخول الجنَّة، فهل يعقل أن تكون النظافة بمعناها الضيِّق ؟ نحن أحياناً نقول: فلان نظيف، ولا نقصد نظافة بدنه، ولا ثوبه، ولا بيته، ولا مجلسه، ولا دكَّانه، ولا مركبته، بل نقصد بالنظافة نظافة أخلاقه، وأهدافه شريفة، وعلاقاته كلها نظيفة واضحة، ليس ثمة أشياء يستحي بها.. ((لن يدخل الجنة إلا كل نظيف))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا فصَّل يحث على نظافة البدن، ونظافة الثوب، وهناك أحاديث تفصيليَّة تشير إلى النظافة بالمعاني الضيِّقة.
روى النسائي والإمام أحمد عن جابرٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
((عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ))
فغسل يوم الجمعة هذا واجبٌ على كل مسلم، ويوم الجمعة يوم عيد، أنا مُعجب ببعض الأُسَر الذين ينجزون أعمالهم يوم الخميس، فقد تجد بعض الأشخاص يقومون بالأعمال المتعبة، من التنظيف، وترتيب أركان البيت كله يوم الجمعة، هذا يوم عيد، وهذا يوم تحضر فيه صلاة الجمعة، وتجلس مع أهلك، فينبغي أن يكون هذا اليوم أجمل يوم في حياة المسلم، يوم تفرُّغ، ونظافة، وتألُّق، ويوم تزوُّد بالعلم، ويوم لقاء مع الأهل، فلذلك من صفات المسلم أنه يعتني عنايةً بالغةً بيوم الجمعة، ومن لوازم هذا اليوم أن تكون في أعلى درجات النظافة، فالحد الأدنى أن تغتسل يوم الجمعة، هذا الغُسل واجب ديني.. ((عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ))
( من سنن النسائي: عن " جابر " )
بالمناسبة أحد إخواننا الكرام أطلعني على نشرة من منظَّمة الصحَّة العالميَّة، ثلاثمئة مليون إنسان مصابون ـ قبل عامين في العالم كله ـ بأمراض أسبابها القذارة، وانتشار هذه الأمراض أقل ما يكون في العالَم الإسلامي بسبب الوضوء، والطهارة، والخِتان، وبسبب تنفيذ تعليمات النبي صلى الله عليه وسلَّم، والآن موضوع الإيدز، الشيء الذي يحيِّر العالم أن نِسَب هذا المرض أقل ما تكون في العالم الإسلامي، لأنه يعيش في ضوابط، والدين منهج.
روى مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
((عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ))
هذه كلُّها من الفطرة، والبراجم هي الأماكن التي بين الأظفار واللحم، فإذا بالغَ الإنسان في تنظيف البراجم، ففي الأعم الأغلب البراز يحمل الجراثيم، وهناك أمراض كثيرة تنتقل عن طريق البراز، فكيف تنتقل ؟ حينما ينظِّف الإنسان نفسه، ربما لا يبالغ في تنظيف أصابع يده، والمكان الذي يمكن أن يستقر فيه آثار البراز هو البراجم، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يبالغ في تنظيف البراجم وقايةً وطهارةً.
وقد وقَّت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة ألاّ تترك أكثر من أربعين ليلة، والسُنَّة كل أسبوع، ولكن في أحوال قاهرة، في سفر، أو عمل، أو انشغال يجب ألاّ تزيد عن أربعين يوماً، عندئذٍ يقع في الإثم، مع أن الأظافر لو أخَّرتها إلى أسبوعين لظهر أنك مهمل في تقليم الأظافر.
الآن من توجيهاته صلى الله عليه وسلَّم، حثُّه على التنظُّف من آثار الطعام والشراب، فقد روى الحكيم الترمذي عن عبد الله بن بُسْرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
((قصوا أظافيركم، وادفنوا قلاماتكم ـ القلامة الظفر المقصوص ـ ونقوا براجمكم، ونظفوا لثاتكم ـ اللثَّة ـ من الطعام، واستاكوا، ولا تدخلوا علي قحرا بخرا))
( من الجامع الصغير: عن " عبد الله بن بسر " )
قحراً أي بأسنان صفراء من شدة الإهمال، بخراً رائحة فم كريهة.
وروى الترمذي عن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
((بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ))
والوضوء هذا وضوء لغوي، وهناك وضوء شرعي، الوضوء الشرعي وضوء الصلاة، أما الوضوء اللغوي غسل اليدين والفَم، فالإنسان في أثناء النهار أمسك حاجة ملوَّثة، أمسك حذاءه بيده، أو صافح إنسانًا غير نظيف، أو وضع يده على مكان غير طاهر، فإذا أراد أن يأكل فعليه أن يغسل يديه غسلاً جيداً قبل الطعام وبعده، وأن يغسل فمه، هذا وضوء الطعام، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ))
( من سنن الترمذي " عن سلمان " )
ولا تنسوا أن أكثر الأمراض المعدية أسبابها عدم العناية بالنظافة. ولعلَّ أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فهموا من الوضوء الوضوءَ الشرعي، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالُوا أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ قَالَ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ))
( من سنن الترمذي)
المعنى بالوضوء هذا غسل اليدين والفم فقط، أما الوضوء الشرعي فهو وضوء الصلاة، أما للطعام فغسل اليدين غسلاً جيداً.
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو نعيم عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
((من كرامة المؤمن على الله تعالى نقاء ثوبه، ورضاه باليسير))
(الطبراني في الكبير عن ابن عمر)
وروى أبو نعيمٍ عن جابرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلَّم رأى رجلاً وسخة ثيابه فقال: ((أما وجد هذا شيئا ينقي به ثيابه ؟))
( من كشف الخفاء: عن " جابر " )
فعلى الإنسان أنْ يراقب ثيابه، فقد يكون فيها بقعة تثير الانتباه، وقد تكون جواربه غير مغسولة، أو أسنانه غير منظَّفة، فإذا دخل بيت الله عزَّ وجل، ودخل في الصلاة، كان أصحاب النبي يستاكون للصلاة، لأن هذا القرآن سيخرج من فمهم.
مرَّة قرأت أن الإمام مالك بن دينار - وكان من كبار العارفين بالله - كان يمشي في الطريق، فرأى إنساناً مخموراً قد أغمي عليه، والزبد حول شفتيه، ويقول: الله الله، فكَبُرَ عليه أن يخرج هذا الاسم العظيم من هذا الفم النَجِس، فما كان منه إلا أن غسل فمه، وهو في سكرةٍ، فلما أفاق قيل له: أتدري من غسل فمك ؟. قال: لا، قالوا: الإمام مالك بن دينار، فمن شدة تأثُّره وخجله تاب من توه توبةً نصوحا.
والإمام مالك فيما تروي الكتب أنه سمع وهو في المنام صوتاً يناديه ويقول:" يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا، فطهَّرنا قلبه من أجلك "، وفي صبيحة اليوم التالي ذهب الإمام مالك إلى المسجد فرأى رجلاً يصلي ويبكي، ولفت نظره شدَّةُ بكائه فقال:" يا هذا من أنت ؟ " فقال:" إن الذي هداني أخبرك بحالي، شاهدنا في هذه القصَّة أن الإنسان لا ينبغي أن يلفظ اسم الله تعالى من فمٍ غير نظيف.
عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَمَّتِهِ رُهْمٍ عَنْ عَمِّهَا عُبَيْدَةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ:
((قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا شَابٌّ مُتَأَزِّرٌ بِبُرْدَةٍ لِي مَلْحَاءَ أَجُرُّهَا فَأَدْرَكَنِي رَجُلٌ فَغَمَزَنِي بِمِخْصَرَةٍ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ أَمَا لَوْ رَفَعْتَ ثَوْبَكَ كَانَ أَبْقَى وَأَنْقَى فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ قَالَ وَإِنْ كَانَتْ بُرْدَةً مَلْحَاءَ أَمَا لَكَ فِي أُسْوَتِي فَنَظَرْتُ إِلَى إِزَارِهِ فَإِذَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَتَحْتَ الْعَضَلَةِ))
( من مسند الإمام أحمد )
فإنسان يمشي في المدينة وثيابه طويلة، يجرُّها على الطريق، يكنس بها الطريق، فقال له: " ارفع إزارك فإنه أنقى ـ أنظف ـ وأتقى ـ أي أكثر تواضعًا ـ وأبقى ـ لهذا الإزار من التلف ـ "، فقال: " إنما هي بردة ملحاء "، قال: " وإن كانت بردة ملحاء، أما لك في أسوتي؟، إنما هي بردةٌ ملحاء، أي مالها قيمة عندي، فقال عليه الصلاة والسلام: " أما لك في أسوتي ؟ "، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه عليه الصلاة والسلام.
ويقول عليه الصلاة والسلام في تنظيف البيوت والأفنية:
((فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُود))
( من سنن الترمذي: عن " ابن أبي حسَّان " )
ومن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلَّم في تنظيف المساجد ما رواه أبو داود والترمذي عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا))
( من سنن الترمذي)
فإذا رأى الإنسان قشَّة على أرض المسجد فوضعها في جيبه، هذا من العمل الصالح، وإنّ تنظيف المسجد عملٌ عظيم ورد في السُنَّة المطهَّرة.
كان في المسجد حصاة، هي إيذاء في المسجد، وأحيانا تقام حضرات فيأتون بسندويش، ويوزِّعون الحليب، فهذا بيت الله عزَّ وجل، أنا يؤلمني أن يُتخذ المسجد مكانًا للطعام، هو أرقى من ذلك، وأنا في العمرة الأخيرة لفتَ نظري أن الوضوء في المسجد الحرام أُلْغي، والوضوء والطهارة خارج بناء المسجد، لأن هذا المكان أقدس من أن تدخل إلى دورة مياه تغيِّر الوضوء، والوضوء خارج المسجد الحرام، وخارج المسجد النبوي الشريف، هذا تعظيم للمسجد.
وتميم الداري من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كان في الشام فاشترى قناديل لمسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما وصل إلى المدينة أمر غِلْمَانه فركَّبوا هذه القناديل، وأسرجها يوم الجمعة، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فرأى المسجد قد نوِّر فقال: " من فعل هذا ؟" فقالوا: تميم، فما كان عليه الصلاة والسلام إلا أن دعا وقال: " اللهمَّ نوِّر قلبه كما نوَّر بيتك"، وقال له:" لو أن عندي بنتًا لزوجتكها ". فقال أحد الصحابة: " عندي فتاة يا رسول الله أنا أزوِّجه إيَّاها "، فزوَّجه إيَّاها.
وستار الكعبة يُعطَّر دائماً، فإذا اقترب الإنسان من ستار الكعبة، ووضع يده على الملتزم يشم رائحة طيِّبة، وهذا من تعظيم شعائر الله عزَّ وجل، فكلَّما كان المسجد نظيفًا، فهذا شيء يدل على الإيمان، فإذا كان مهملاً دلَّ على ضعف الإيمان.
والشيء اللطيف في هذا الدرس عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ))
( من سنن الترمذي)
إنّ الإنسان يصلي قيام الليل في بيته، ويصلي السنة في بيته، ويصلي الفرض أحياناً مع أهله وأولاده، وكأن النبي أراد أن تكون أجمل غرفة، وقد تكون غرفة الضيوف فيها سجادة مريحة نصلي عليها، فهذا المكان في البيت سمَّاه النبي مسجدًا، وفي كل بيتٍ مسجدٌ لصلاة النوافل، وصلاة السنن، وصلاة الليل، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلَّم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظَّف وتطيَّب.
وعن سمرة بن جندب:
((أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ))
( من سنن الترمذي)
تحدَّثنا إذاً عن البيوت، وعن نظافة البدن، وعن نظافة الثوب، وعن نظافة الفم، وعن نظافة المسجد.
ويحث النبي صلى الله عليه وسلَّم على نظافة الطرق والساحات العامَّة، وينهى عن تلويثها، والآن ترى إنسان يركب مركبة مثلاً، ويأكل حاجة فيرميها من النافذة، ومثله من الموز كثير، ورمي هذه القشرة قد تسبِّب كسر إنسان، أليس كذلك ؟ وغير الكسر، شارع نظيف، فالإنسان يخجل أن يرمي ورقة في ساحة نظيفة، فلذلك المُسلم لا يؤذي الطرقات، ولا يؤذي الساحات العامَّة، وأحياناً يضعون براميل أو أماكن لوضع المهملات، فكأن الإنسان يحافظ على نظافة هذه البراميل، لا على نظافة الطرق،تجدها فارغة ولا يستعملها أحد، فكل شيء يلقى في الطريق. وأحياناً الإنسان يقوم بنزهة فيترك قشور الفواكه، والأكياس، وبقايا الطعام، ويمشي، وكل مكان جميل تجد فيه بقايا الطعام، وبقايا علب مفتوحة، إنه منظر بشع، فهذا المكان الجميل أيعقل أن يكون هكذا ؟.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))
أنتم تعرفون أن أكثر الحرائق في الغابات أساسها سجارة، ولقد حدَّثني أخ عن طائرة تقل أربعمئة وخمسين راكبًا في موسم الحج، تنطلق إلى شرق آسيا، وثمة حاج أراد أن يشرب الشاي الساخن مِن صُنعِه في الطائرة، فأشعل الغاز، ووضع إبريق الشاي، فاحترقت الطائرة، فلما حلَّق الطيار في الجو وجد حريقًا فأخبر المطار، والحريق عطَّل الدارات الكهربائيَّة في الطائرة، وهبط على أرض المطار، واحترقت الطائرة ولم ينجُ أحد، أربعمئة وخمسون راكبًا احترقوا، لأن هذا الحاج أراد أن يشرب كأسًا من الشاي في الطائرة، أمسلم هذا ؟.
فإيذاء الناس، والاستخفاف بالممتلكات العامَّة، وإيقاع الأذى من أجل كأس شاي، أو يشوي لحمًا فيحرق غابة، ويقول لك: كل احتراق الغابات - خمسة آلاف دونم - الآن جبال بأكملها محروقة أسبابها سوء انضباط، وجهل، فالمسلم يجب أن يكون أرقى إنسان.


والحمد لله رب العالمين










 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:08 AM   #3


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثالث )

الموضوع : تجملة صلى الله علية وسلم










الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وموضوع درس اليوم تجمُّله صلى الله عليه وسلَّم.
فكان صلى الله عليه وسلَّم يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، ويأمرهم أن يكونوا بمظهرٍ حسن، وهذا يعني نظافة البدن، ونظافة الثوب، وترجيل الشعر، وقصَّ الأظافر، وأناقة الثياب، هذا هو التجمُّل، وكل إنسان يتجمَّل بقدر إيمانه، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، فقد روى البيهقي أنه كانت له حُلَّةٌ يلبسها للعيدين والجمعة.
فبصراحة المؤمن الكامل له ثياب جديدة يرتديها في المناسبات، لأن المؤمن لا يمثل شخصه، بل يمثِّل هذا الدين الذي ينتمي إليه، فلا ينبغي أن يكون في ثيابه خطأ فاحش، ولا في ثيابه سبب للازدراء، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة، وثياب خاصَّة، الآن لابدَّ من ثياب في عقد قِران، وفي احتفال، وفي يوم العيد، وفي زيارة، وفي اجتماع، وفي مقابلة مع شخص، لأنك حينما تدخل على مجتمع، أو حينما تلتقي بإنسان، وأنت ساكت يقيِّمك من ثيابك، فإذا تكلَّمت نسي ثيابك، فإذا عاملته نسي كلامك.
مظهر، ثم كلام، ثم معاملة، والمعاملة تنسي الكلام، والكلام ينسي الهَيْكَل، فإنسان أنيق تكلَّم كلمات بذيئة لا قيمة لأناقته، أذكر مرَّة إنسانًا يرتدي ثياب جميلة، وتكلَّم كلامً بذيئًا، فقال له واحد من وجهاء الأحياء: " إما أن تحكي مثل لباسك، أو تلبس مثل كلامك "، فلا يتناسب كلامك مع لباسك، إما أن تتكلَّم مثل لباسك، فلباسك أنيق فتتكلَّم كلامًا أنيقًا، وإما تلبس لباسًا مبتذلاً مثل كلامك المبتذل، فالمؤمن يمثِّل هذا الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك))
(كتاب السنة للمروزي(28) عن يزيد بن مرثد)
فكل مؤمن صادق يشعر أنه يمثِّل هذا الدين، وسفير هذا الدين، واللِه الذي لا إله إلا هو ستحاسب من نظافة بدنك، ومن نظافة ثوبك، و من مواعيدك، ومن أمانتك، ومن دقة كلامك، سبحان الله ! المؤمن بالذات دائماً أعداء الدين يسلِّطون عليه الأضواء، فالأضواء الشديدة كلُّها مسلَّطة عليه، فإذا ارتكب صغيرةً أقاموا عليه القيامة، وأقاموا عليه النكير، فإذا أردت أن تكون سفيراً لهذا الدين فكن في المستوى اللائق، وقد ورد في الحديث القدسي: ((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه))
( من المأثور: عن " جبر بن عبد الله " )
قصَّة سأرويها لكم: كنت أصلي صلاة المغرب إماماً في جامع النابلسي، وسيارتي بالمنطقة الصناعيَّة أريد أن أذهب لأستلمها ـ كانت بالتصليح ـ فصلَّى وراءنا أخ صاحب سيارة عمومي، قلت له: أتوصلني إلى المنطقة الصناعيَّة ؟ وقد صليت به إمامًا، كمد، واضطرب وارتبك، ماذا ذهب إلى ظنِّه ؟ أنني لن أعطيه أجرة، فلما حُرِج أوصلني على مضض، فكان المبلغ سبع عشرة ليرة، فناولته خمسة وعشرين، فصغر، فإذا كنتَ رجل دين تركب من غير أجرة ؟ تعطي أقل من حق الناس ؟ هكذا هو أخذ الفكرة، فعندما أعطيته ثلث المبلغ زيادة صغر..: ((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك))
(كتاب السنة للمروزي(28)عن يزيد بن مرثد)
((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه))
( من المأثور: عن " جبر بن عبد الله " )
فأنت تمثِّل هذا الدين فكن سخيًّا، كريمًا، صادقًا، لأن كل الكلام لا قيمة له، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلَّم له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة، إذاً فواجب على كل واحد من إخواننا المؤمنين أن تكون له ثياب أنيقة، أنا لم أقل غالية، أنيقة، أي نظيفة، فإذا كان يلبس ثيابًا عاديَّة مكويَّة، نظيفة، فيها تناسب في الألوان، حتى إذا دُعي لعقد قران أو لاحتفال، قيل: فلان مؤمن، وثيابه مقبولة، فلا أطالبكم بثياب غالية الثمن، ولكن ثياب فيها شيء من الذوق، وشيء من النظافة.
تروي السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم خرج ذات يومٍ إلى إخوانه، فنظر في كوز الماء ـ لم يكن وقتها مرآة - أين نظر ؟ في كوز الماء إلى جمَّته، أي إلى شعره وهيئته، فشيء لطيف من الإنسان قبل أن يخرج أنْ يقف أمام المرآة، يا ترى شعره منتظَم، وثيابه منتظمة، فيها خطأ، أو فيها شيء، فهذا من السُنَّة، قالت: خرج ذات يومٍ إلى إخوانه فنظر في كوز الماء إلى جمَّته ـ أي إلى شعره وهيئته.
وقال عليه الصلاة و السلام:
((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
( من مسند أحمد: عن " عبد الله بن مسعود " )
((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيأ في نفسه))
أنا أحياناً واللهِ أعجب أنك كمسلم هل من الممكن أن تستقبل ضيفًا بالقميص الداخلي ـ الشيال ـ بالصيف ؟!! فهذه إهانة للضيف، وهذه ثياب مبتذلة لا يجوز أن تصلي بها، فكيف تستقبل بها الضيوف !! حتى في بيوت المسلمين من يقوم بالثوبين الداخليين فقط أمام أخواته البنات، أو أمام بناته، فهذا ليس من السنة في شيء.
فلذلك عندما نظر النبي في كوز الماء إلى لمَّته ـ أي إلى شعره ـ وإلى هيئته قال:
((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
و: ((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيَّأ في نفسه))
فعلى الإنسان أنْ يغسل، ويرجِّل شعره، ويضع عطرًا، ويتأنَّق بثيابه، ويجعل هندامه مقبولاً، وسأقول لكم كلمة: أحياناً الإنسان ينطلق في حديثه إذا كانت ثيابه جيِّدة، فإذا كان في ثيابه خطأ اضطرب في حديثه، لأنّ الثياب الأنيقة تعطي الإنسان ثقة بالنفس، ولو دعي إنسان إلى عقد قران، وكانت ثيابه غير جيِّدة، تجده مرتبكًا، ومضطربًا، ومنكمشًا، ومتطامِنًا، لا، أنت مؤمن.
والحقيقة هناك تعليق لطيف: الجمال في البساطة لا في التعقيد. وأحياناً تجد في الألوان تناسقًا، مع أن الشيء رخيص، والشيء الرخيص وفي ألوانه تناسق تجد فيه راحة نفسيَّة، فليس شرطاً أن ترتدي أغلى الثياب، إنما الشرط أن ترتدي ثياب مقبولة.
وكان إذا قدِم عليه وفدٌ لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وفَدَ عليه وفد كِنْدَة وعليه حُلَّةٌ يمانيَّة، وعلى أبي بكرٍ وعمر مثل ذلك.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم أن حُسْنَ السمت والزيِّ الحسن من شمائل الأنبياء وخصالهم الأصيلة.
وقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ))
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ قَالَ جَابِرٌ فَبَيْنَا أَنَا نَازِلٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى الظِّلِّ - أي شجرة ظلُّها وارف - قَالَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ إِلَى غِرَارَةٍ لَنَا - غرارةٍ ظرفٍ شديد العِدْلِ، أي محفظة - فَالْتَمَسْتُ فِيهَا شَيْئًا فَوَجَدْتُ فِيهَا جِرْوَ قِثَّاءٍ - أي خيار وقته - فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا قَالَ فَقُلْتُ خَرَجْنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ جَابِرٌ وَعِنْدَنَا صَاحِبٌ لَنَا نُجَهِّزُهُ يَذْهَبُ يَرْعَى ظَهْرَنَا - أي نجهِّز صاحب لنا ليرعى الغنم - قَالَ فَجَهَّزْتُهُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَذْهَبُ فِي الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ لَهُ قَدْ خَلَقَا قَالَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ ثَوْبَانِ فِي الْعَيْبَةِ كَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا قَالَ فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا قَالَ فَدَعَوْتُهُ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ وَلَّى يَذْهَبُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَهُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ قَالَ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))
( رواه مالك في الموطأ)
إلى أين يذهب ؟ إلى الجبال ليرعى الغنم، ومع ذلك ما رضي النبي له هذين الثوبين، ليس هناك لقاء، ولا احتفال، ولا عقد قران، ولا عيد، ولا جمعة، راٍع يذهب إلى الجبال ليرعى الأغنام، وعليه ثوبان خَلِقان، فلما نظر النبي إليه قال: " أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ ؟ فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العَيْبَة كسوته إيَّاهما ـ أي في البيت ـ قال: " فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا"، قال: فدعوته فلبسهما ثم ولَّى يذهب، فقال عليه الصلاة والسلام: " أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ ؟ ".
النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى للراعي، وهو يرعى الغنم في شعف الجبال، وليس معه أحد، لم يرض له هذه الثياب المبتذلة المهترئة، فكيف إذا كنت مع الناس وفي المدينة، ومع علية القوم كما يقولون ؟
درسنا اليوم التجمُّل، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمّل، ويأمر أصحابه بالتجمل، وكان له ثوب يلبسه في العيدين وفي الجمعة، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر علية قومه بذلك.
وعَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
((إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ))
( موطأ مالك)
قارئ القرآن من كمال قراءته أن يرتدي ثوباً أبيض، والحجاز بلادٌ حارة، واللون الأبيض يتناسب مع الطقس الحار، ولكن كأن النبي يقول: هذا الذي يقرأ القرآن عليه أن يتجمَّل.
وسيدنا عمر يقول:(إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم).
وهناك حديث:
((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله))
(مسند الشهاب للقضاعي(1192)عن عائشة)
وروى أبو نعيم في الحلية عن أبن عمر مرفوعاً: ((إن العبد آخذ عن الله تعالى أدبا حسنا، إذا وسع عليه وسع، وإذا أمسك عليه أمسك))
(البيهقي في شعب الإيمان(6591) عن ابن عمر)
لأن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وأوضحُ أثر في الثياب، وأحياناً الإنسان يرتدي ثوبًا جديدًا، وهذا من إكرام الله له، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دقَّت، وكان إذا ارتدى ثوبًا جديدًا، هناك دعاء خاص للثوب الجديد.
وروى الحاكم بإسناده عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس))
( من الجامع الصغير)
هذه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سافر الإنسان فيجب أن يأخذ معه إبرة، وخيطًا حتى إذا انقطع زره أصلح المشكلة، وأحياناً يسافر ببنطال واحد، ويمكن أن ينفتق البنطال، فيأخذ معه بنطالاً آخر احتياطًا، فدائماً فكر، إبرة، وخيط، وقميص احتياط، وهكذا كان النبي اللهم صلِّ عليه، لأنه مشرع.
وروى الطبراني والبيهقي، عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس ـ الهيئة القذرة، والهيئة المبتذلة،و الخنوع، والمسكنة، والتذلل، واليأس، يا حسرتي علينا، لماذا هذا التحسُّر ؟ أنت مؤمن، وتعرف ربك، ولك منهج، والله هو الرزاق، وهو الكريم، فالله يكره البؤس والتباؤس ـ ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
يكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف، اسأل لكن مرة واحدة، فالإلحاح ليس له فائدة، فإذا أراد أن يعطيك يعطيك من مرة واحدة، فإن لم يعطِك لا تبذل ماء وجهك، ولا تذل نفسك، ولا تهينها، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.. ((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))
سمعت قديماً قصة إنسان دخل بستانًا، وهو يتجول في أنحائه رأى شجرة من أرقى التفاح ؛ حجمًا، ولونًا، وخدًا أحمر، ورأى تفاحةً تلفت النظر، وصاحب البستان صديقه، قال: فهممت أن أقطفها لآكلها، فقلت: لا يجوز، ثم جلسنا إلى الطعام، وبعد الطعام جاء طبق التفاح، وفي مقدمة هذا الطبق تِلك التفاحة بالذات، فلما هممت أن آخذها قلت: لا يجوز، فما كان من صاحب الدعوة إلا أن أمسك هذه التفاحة، وقدمها إليّ، انظر إلى الإنسان، منعه حياؤه أن يقطفها، ثم وضعت على الطبق، فمنعه حياؤه أن يأخذها، حتى قدمت له ضيافة.
وأنا لي في هذا الموضوع تعليق لطيف ؛ فالرزق مقسوم، وهذه التفاحة في هذا البستان، بالشجرة الثالثة، في الغصن الرابع، والتفاحة السابعة، وهذه التفاحة لفلان، فطريقة وصول هذه التفاحة لفلان باختياره ؛ يمكن أن يسرقها وهي له، ويمكن أن يتسوَّلها وهي له، ويمكن أن يشتريها وهي له، ويمكن أن تقدَّم له ضيافة وهي له، ويمكن أن تهدى له وهي له، هدية، ضيافة، شراء، تسول، سرقة، فهذه باختيارك، أما هي لك، لذلك: اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك.
((إن الله يكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )
لذلك مرة سيدنا عمر رأى إنسانًا يطلب بإلحاح فقال له: (يا هذا لقد ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع منك)، ضيعت ماء وجهك، وكرامتك، وضيعت أثمن شيء تملكه.
إذاً القسم الأول من الدرس كان عليه الصلاة والسلام متجملاً، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، وكان له ثياب لا يرتديها إلا في أيام الجمعة والأعياد، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عليَّة قومه بذلك، وكان يقول:
((أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس))
( من الجامع الصغير: عن " سهل بن الحنظلية " )
والآن ننتقل إلى: حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق، لأن الدعوة أساسها المنطق، وأساسها الكلام الموزون، وأجمل ما في الرجل فصاحته، وأجمل ما في الآداب ضبط اللسان، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، فمن سمات المؤمن ضبط اللسان، يقول لك: عشت معه ثلاثين سنة، ولم أسمع كلمة بذيئة منه، فأحياناً من أجل أن نعظ الناس نتحدث عن الفجور في الطُرقات، وعن النساء، وبعض الدعاة يقول لك: العضو الفلاني ظاهر، والعضو الفلاني، هذا الكلام فيه إثارة، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ: ((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))
لم يقل: ساقها، لم يقل الكلمات الثانية، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتقي أعف الكلمات، حيث لا يخدش حياء المستمعين، وهذا أدب قرآني، قال لي أحدهم: ما حكم كذا ؟ ـ سلوك جنسي ـ قلت له: الله عز وجل قال:
﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾
( سورة المؤمنون )
فكل الانحرافات في هذه الكلمة، وهذه الكلمة لا تخدش حياء طفل..
﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
( سورة النساء: من الآية " 43 " )
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً﴾
( سورة الأعراف: من الآية " 189 " )
﴿تَغَشَّاهَا﴾
فأنت انظر إلى الآيات التي تشير إلى العلاقة الزوجية في القرآن، كلمات لطيفة ورائعة، كلمات لا تخدش الحياء، فأنت لا تتكلم بكلمات أمام أولادك، ولا أمام إخوانك، ولا أمام من هم صغار، كلمات تخجل، تصف العلاقات الزوجية، تتكلم كلام يستحيا منه، فهذا ليس من صفات المؤمن، أنا أقول لكم ملخصًا: الذي عنده مزح فاحش، هذا المزح الفاحش يقلل من إيمانه، هذا إذا لم يكن يعبر عن ضعف إيمانه أو عن انعدام إيمانه..
((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ))
( من سنن الترمذي: عن " عبد الله " )
والحقيقة تجد من رواد المساجد في أدب يلفت النظر بكل المصالح، والمعامل، والمحلات، فإذا التقى مؤمنًا، فليس عنده كلمة مغشوشة، ومزحة سافلة، لأنّ هذا يتنافى مع أخلاقه.
فكان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق، حسن الكلام، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب، وسبى الأرواح والعقول، وإذا تكلم خرج النور من بين ثناياه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ))
(الدارمي)
إنه كلام لطيف، كلام متصل وفيه سيولة، وبحة خفيفة، فكان النبي حلو المنطق.
وعن أبي قرصافة أنه قال: لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي، ورجعنا من عنده منصرفين، قالت لي أمي وخالتي:
((يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهاً ولا أنقى منه ثوباً، ولا ألين كلاماً، ورأينا كأن النور يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم))
(الطبراني في الكبير(2518)
الآن تجد البيوت كلها مرايا، وراء كل باب مرآة، وغرفة النوم فيها مرآة، والمدخل، فكان ينظر إلى جمته من الكوز من صفيحة ماء ساكنة، ومع ذلك كان متجملاً، ولم يكن عندهم قديماً حمام، وأنت تفتح الماء الساخن فينزل رأساً، ونحن الآن ننعم بشيء لا يتصوره الإنسان، ماء ساخن دائماً، تقريباً الحمام فيه ماء جار، وقد كانت الأمور بدائية، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات التجمل والنظافة، والأمور بدائية.
وكان عليه الصلاة والسلام أفصح خلق الله لساناً، وأوضحهم بياناً، أوتي جوامع الكلمة، وبدائع الحكم، وقوارع الزَجر، وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة، والوصايا المُبرمة، والمواعظ البليغة، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والأدلة الساطعة.
فأنت كمؤمن إذا أردت أن تكون داعية إلى الله، فرأس مالك المنطق، واللغة، والفصاحة، والنصوص، وأنا لا أعتقد مؤمنًا حريصًا على الدعوة إلى الله عزَّ وجل ولا يسجل ما سمع، سمع حكمة والله شيء جميل، لِمَ لَم تكتبها لتحفظها، فإذا أردت أن تحفظ فاكتب، ولمجرد أن تكتب فاحفظ، فالإنسان لما يهتم، فأنا أنصح كل إخوانها بوضع دفتر صغير في جيبه، أحياناً وهو يركب سيارة عامة سمعت تعليقًا، أو حكمة فسجِّلها، وكلَّما سجلت، وبوَّبت، وصنفت، فإذا قرأته فهذا كتاب بمكتبتك، انتهى العام الدراسي باع الكتب، فما هذا الكلام ؟ هذه مكتبة، كتاب قرأته احتفظ به، تصفحه من حين إلى آخر، قرأت كتاب اعمل تعليقات، اعمل حواشي، اعمل خطوطًا حينما تجعل الخطوط، والتعليقات، والحواشي تحفظ، فإذا حفظت ألقيت، هذا نص قرأته فأعجبك، فاحفظه، وأول لقاء تكلم فيه، على مرتين حفظته نهائياً.
فبصراحة إذا لم يكن للإنسان إمكانية أن يتكلم لفترة طويلة كلامًا منضبطًا ن ونصوصًا صحيحة دقيقة، كيف يدعو إلى الله ؟ هو بصراحة الحق مثل الشراب الثمين، واللغة مثل وعاء للحق، فهل من المعقول أن تقدم شرابًا ثمين في وعاء قذر ؟ هذا غير معقول، فالفصاحة وتعلم العربية جزء من الدين، فيجب أن يكون عندك قاموس في البيت، وكتاب نحو، يكون لك مرجع، في درس عربي أحضره معك.
نحن بعد أسبوع إن شاء الله ستعود دورة الدعاة، في درس اللغة العربية، وفي درس مصطلح حديث، ودرس أصول فقه، ودرس تاريخ الفقه، ودرس الفقه المُقارن، وعلوم القرآن، والعقيدة، وأصول الدعوة، بعد أسبوع إن شاء الله سنعود إلى التدريس في معهد الدعاة، فإذا كنتَ في درس اللغة العربية أحضره، وتعلموا العربية فإنها من الدين، وهذه لغتك، ولغة قرآنك، ولغة أمتك.
وجاء في المسند وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَقُولُ:

((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَتُجُوِّزَ بِي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ))
( رواه أحمد)
وفي حديثٍ آخر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا ـ أي الشريعة ـ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))
( أحمد)
المتهوكون هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكلام، فلا توجد فصاحة، والتقعر تشدق بالألفاظ، فكن فصيحً، وكن طبيعيًّا، وأتقن اللغة من دون تقعُّر، ومن دون تكلُّف، ومن دون تزمت.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي ))
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
(متفق عليه)
مرة جاءه وفد وسأله عن الصيام، فتكلم النبي لفصاحته بلغة أو بلهجة هذا الوفد، فلما سئل:" هل من أمبر أمصيام في أمسفر ؟ فقال: ليس من أمبر أمصيامٌ في أمسفر "،. أي ليس من البر الصيام في السفر، فكان يتكلم بلغة السائل، وهذا من فصاحته.
ومر معي حديث في الجامع الصغير:
((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))
(كشف الخفاء(2374) عن أبي سلمة الحمصي)
هذه لغة، النهاوش أي بالاحتيال، وروي مهاوش بالميم، والنهابر يذهب ماله في مهالك. ((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))
بجهات الجنوب، يقول أحدهم للآخر: أنطِه حقه، أي أعطه، فلما سأل واحد النبي اللهم صل عليه وهو عطية بن عروة السعدي الذي قال: حدثني أبي أن أباه أخبره قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم فخلفوني في رحالهم ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى من حوائجهم ثم قال: ((هل بقي منكم من أحد قالوا: نعم خلفناه في رحالنا، فأمرهم أن يبعثوا إلي، فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فلما رآني قال: ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئا، فإن اليد العليا هي المنطية، وإن اليد السفلى هي المنطاة، وإن مال الله تعالى لمسؤول، ومنطي))
قال: فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا.
( الحاكم في المستدرك(7930))
هذه القبيلة تلفظ العين نوناً، وهذه القبيلة موجودة، فبالجنوب، يقول له: أنطه، وليس أعطه حقه، أنطه حقه، فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الأقوام بلهجاتهم.
أما آدابه في الكلام فعَن عَائِشَةَ قَالَتْ:
((أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ))
(رواه مسلم)
كلمةً كلمة، والحديث فن، فهذه قدرة بالإنسان اسمه: المتحدث اللبق، كلمة كلمةً، ووضوح، وسهل ممتنع، وجمل متينة، وفكرة مع الدليل، ودليل مع الشاهد، وتطور، وموازنة، ومحور انتقال واحد، فكلما راعى الإنسان اللغة والمنهج والوضوح والدليل صار في انجذاب إلى اللغة.
وفي روايةٍ عن عائشة:
((إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهماً تفهمه القلوب))
(مسند أبي يعلى الموصلي(4393))
وأذكر أنني قد قلت لكم ذات مرة: في دبلوم التربية عندنا كان عشرون دكتورًا، نحن كنا مئتين وعشرين طالبًا، في بعض المواد خمسة طلاب، أو عشرة طلاب، أو عشرون طالبًا يحضرون هذه المادة، أو تلك، لكن أحد الأساتذة يحضر درسه مئتين وعشرين طالبًا، لا يغيب أحد، ونصفهم على الواقف، لأنه أوتي فصاحة ووضوحًا، ودقة، وعمقًا في الصياغة، وشاهدًا، حيث لو حضرت محاضرته فهمت الدرس، ولا تحتاج إلى أن تقرأه في الكتاب.
فإذا كان الإنسان حريصًا على نقل الحق للناس، كان حريصًا أيضاً على استيعاب أصول الحديث.
وكان كلامه فصلاً يفهمه كل من سمعه، وكلما ضعفت القدرة اللغوية عندك أصبح كلامك معقدًا، والتعقيد في الكلام دليل ضعف اللغة، أو دليل اضطراب في المعني، والمعاني المضطربة في نفس المتكلِّم أو ضعف اللغة يظهران بشكل تركيب معقَّد، ولكن المعاني الواضحة والفصاحة التي يتمتع بها المتكلم تجعل كلامه سهلاً واضحاً، وهذا الكلام سماه علماء البلاغة السهل الممتنع، فعجيب إذًا هذا الكلام، فهذا الكلام السهل الممتنع يظنه الضعيف بسذاجةٍ أنه يحسن مثله، وهو أبعد إليه من السماء، إنه السهل الممتنع.
وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:" كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ـ وضح في كلمات دقيقة مفصلة، أعادها مرة، ومرتين وثلاثا حتى تفهم عنه ـ وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلامٍ فصلٍ لا هذرٍ ولا نذرٍ ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به وكان صلى الله عليه وسلم يكره التنطع في الكلام والتكلف في فصاحته".
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ))
(الترمذي، وأبو داود)
فكل شيء له حد معتدل، أكثر تقعر.
ومن أروع ما قيل في النبي عليه الصلاة والسلام " كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يخل ولا يمل "، فأحياناً هناك إيجاز مخل، و إطناب ممل، فكان إذا خطب لا يخل ولا يمل.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
((كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا - معتدلة - وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا - أي وسطاً -))
( رواه مسلم )
صلاته معتدلة وخطبته معتدلة..
وكان عليه الصلاة والسلام لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلماتٌ يسيرة.
أنا معجب بهذا الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا رسول الله عظني ولا تطل "، فتلا عليه قوله تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)﴾
( سورة الزلزلة )
فقال له: " كفيت "، فقال النبي: " فقه الرجل ".
يا ترى المسلمون الآن يسمعون خطبًا أكثر من ثلاثين سنة، ويحضرون دروس العلم، ويسمعون أشرطة، ويقرؤون الكتب، والمجلات، يشاهدون الندوات، ومع ذلك إذا فحصت سلوكهم تجد فيهم خللاً كبيرًا، وهذا الأعرابي تكفيه آيةٌ واحدة ؟!
وروى الإمام أحمد وأبو داود عَن الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَالَ:
((وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ زُرْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَأَمَرَ بِنَا أَوْ أَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّأْنُ إِذْ ذَاكَ دُونٌ فَأَقَمْنَا بِهَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا))
هذا هو الصدق، التقى الإخلاص والتطبيق مع الكلام القليل البليغ، إنه أبلغ ألف مرة من كلام مُسهب بتفاصيل وجزئيات ولا يوجد تطبيق، لذلك قال سيدنا الصديق: (إيَّاك وكثرة الكلام، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا).
أي إذا تحدثت فتحدث في موضوع واحد مركز، وله مقدمة، وعرض، وتشقيق، مع أدلة، وشواهد، وقصة مؤكدة مع خاتمة، وانتهى الأمر.
وروى الطبراني والبزَّار عن جابر، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه كذلك رأيته أطلق اللسان وجهاً وأكثرهم ضحكاً وأحسنهم بشراً.
أي إنه رجل عادي، لطيف، مرح، صاحب طُرفة، يمزح مع أصحابه، طليق الوجه، كثير البِشر، هكذا كان عليه الصلاة والسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا وعظ أثَّر في قلوب السامعين، وطيَّب نفوسهم، حتى إنهم لتذرف دموعهم، وترق وتخشع قلوبهم، ويرتقي حالهم إلى المشاهدات والمعاينات.
فلقد كان مجلس النبي اللهم صلِّ عليه مجلس مشاهدة، وهذا الدليل، تعرفونه.
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
(رواه مسلم)
القصة لها تتمة، هذا الصديق الجليل، الصاحب الأول، سيد الصحابة قال له: " أنا كذلك يا أخي ـ تواضع ـ انطلق بنا إلى النبي ".
فلما انطلقا إلى النبي ذكر له حديث حنظلة: " نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى "، فأحياناً يكون الإنسان في مجلس علم مبسوطًا مرتاحًا، مشرق النفس، يأتي على البيت اعملوا لنا عشاء، تأخروا بالعشاء، أين الشاي، لماذا لم تقولوا لي، فيتشجارون، أين الحال ؟ كان في المسجد مبسوطًا مرتاحًا، فراح الحال كله، قال: " فإذا عافسنا الأهل ننسى، قال له: أنا كذلك يا أخي " فلما عرضا ذلك على النبي قال:
((إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا))
( من الجامع لأحكام القرآن: عن " محمد بن كعب " )
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ))
أي يا أخي الكريم إذا جلست في مجلس علم وشعرت أنك مسرور، مرتاح، في تجلٍّ، وطمأنينة، وسكينة، وكأنك في الجنة، فهذه علامة طيبة لك لأن هذا هو إكرام الله لك في بيته، ألم يقل النبي: ((إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عماراها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيتي ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر))
(فيض القدير، للمناوي(2/445))
فهذه السكينة، وهذا التجلي، وهذه الراحة النفسية، أنا أقول لكم: واللهِ سمعت هذا من إخوة كثيرين، يقولون لك: أنسى كل مشاكلي، وكل هموم الدنيا، وأرتاح، فخرجتُ من المسجد مبسوطًا، مسرورًا، فهذه مكافأة الله لك، وهذه ضيافته، كما أنك تزور إنسان فيقدم لك كأسًا من الشاي، وسُكَّرة، ويطعمك، أما ربنا عندما يحب أن يكرمك ماذا يفعل بك ؟ يلقي على قلبك السكينة..

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة التوبة: من الآية " 26 " )
فهذه السكينة أثمن ما في الدين، وهذه الراحة النفسية، هذا الحال الطيب، قال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ))
فالنبي اللهم صلِّ عليه كان يرى ما لا يراه الآخرون، وكان يخطب على جذع نخلة، فلما صُنِع له منبر حنَّ الجذعُ إليه فأسكنه بيده، فهل لديك إمكانية أن تفهم على جذع نخلة ؟ كان عليه السلام يقول: ((إن حجرا كان يسلم عليَّ في الجاهلية إني لأعرفه الآن))
( من الجامع لأحكام القرآن )
دخل مرة لبستان رأى ناقةً، فحنت لما رأته، فقال: ((مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ ـ هذا الجمل ـ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))
( من سنن أبي داود: عن " عبد الله بن جعفر " )
فالجمل شكا له، والحجر سلَّم عليه، والنخلة حَنَّت إليه، وهذا فوق طاقتنا، فنحن مثل الجماد، جماد على جماد، فالنبي عليه الصلاة والسلام لشدة إقباله على الله، لشدة شفافية نفسه، فكان يرى ما لا يراه الآخرون.
إذاً الإنسان بالمسجد تصفو نفسه، ترق مشاعره، يرى ما لا يراه وهو في الطريق، وهو في البيع والشراء، هذا إكرام الله له.
وروى الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ:
((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))
( رواه الترمذي)
قال لي رجل بعيد عن جو المشايخ: أنا لست قابضًا أحدًا ـ يقصده من المشايخ ـ قال لي: مرة كنت بحمص دخلت مسجدًا متواضعًا، والخطيب تكلَّم، فصرت أبكي، قال لي: والله يا أستاذ ثلاثة أرباع الساعة، وأنا أبكي، قال لي: ما سر ذلك ؟ قلت له: لأن هذا الخطيب مخلص ومطبق، فالله أعطى لكلامه قوة تأثير، وهذا هو السر، فالدين ليس بحرفة، ويقول الإمام الشافعي ـودققوا في هذا الكلام ـ: (لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين)، لأنّ الدين لا يرتزق به، فالدين اتجاه، وموقف، فأنت تريد المال فاشتغل بالتجارة، أما دع الدين جانباً، دع الدين في العلياء، وفي السماء، ولا تجعله في الوحل، ولا تتخذه تجارة، ولا ترتزق بالدين لكي يبقى الدين عظيمًا، لكي لا يشك الناس في المتديِّنين، لذلك وعظنا النبي موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون.
وقال أسيد بن حضير: (لو أني أكون على أحوالٍ ثلاثة من أحوالي لكنت من أهل الجنة) ـ له ثلاثة أحوال لو بقي على أحد هذه الأحوال لكان من أهل الجنة ـ قال: (حين أقرأ القرآن، وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله)، أي إنه إذا قرأ القرآن يشعر بحال عظيم، وإذا استمع إلى القرآن يشعر كذلك، فبصراحة مؤمن لا يبكي إطلاقاً فقلبه مثل الصخر ؟! ولا يقشعر جلده !! ولا يجل قلبه ؟!
قال الحسن البصري: " إذا قرأت القرآن، أو صليت، أو ذكرت الله، ولم تشعر بشيء فهناك خلل خطير في إيمانك "، فلماذا إذا لاحظ شخص ذبابة تطير مع حركة عينه لا ينام الليل من خوفه ؟ يقول له الطبيب: بعد ثلاثة أشهر الموعد، ويقول له: حاضر، فالعين ليس معها لعب، ولماذا القلب إذا كان في الصلاة لم تشعر بشيء، وفي الذكر لم تشعر بشيء، وفي القرآن لم تشعر، معنى ذلك أن ثمة خللاً، والطريق المسدود، بل أنت محجوب بحجاب، والمعصية حجاب، فابحث أين توجد المعصية، وأين يوجد الخلل، وأين يوجد المال الحرام، وأين يوجد نظرة لا ترضي الله عزَّ وجل، أو علاقة اجتماعية مشبوهة، فانتبه، وما دام أنك محجوب فأنت في خلل خطير.
فقال: (حين أقرأ القرآن، وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ شهدت جنازة).
قال: (وكانت خطبه صلى الله عليه وسلم تؤثر في الجمادات).
آخر حديث من فصاحته صلى الله عليه وسلم، عن مالك بن دينار عن الحسن رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام ـ وهذا الكلام دققوا به ـ:
((ما من عبدٍ يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أراد بها))
قال: فكان مالك بن دينار إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم يقول: (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً).
فإذا تكلمت عن الله عزَّ وجل، فالله سيحاسبك ماذا قلت للناس ؟ أنت كذلك ؟ بماذا أمرتهم، فأتمرتَ بذلك ؟ عن ماذا نهيتهم ؟ فانتهيت عما نهيت عنه ؟ فكان مالك بن دينار كلما قرأ هذا الحديث يبكي يقول: (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً).
والنبي حذر قال:
((من تعلَّم صرف الكلام ليسبي قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً))
يمكن أن تكون ضمن الدين شهوات، وضمن الدعوة تكون الدنيا والحظوظ، فإذا تكلم الإنسان ونيته يجمع أنْ الناس، ويكون حوله ناس يعينونه، ويحلون له مشاكله، فهذه نية سيئة، فحتى في الدعوة إلى الله توجد مزالق خطيرة.. ((من تعلم صرف الكلام ليصرف وجوه الناس إليه فليتجهز إلى النار))
لذلك: ((يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل))
( من تفسير ابن كثير: عن " أبي هريرة " )


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:11 AM   #4


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الرابع )

الموضوع : ارجحية عقلة الشريف على سائر العقول






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع من دروس شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وموضوع درس اليوم أرجحيَّة عقله الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم على سائر العقول.
أيها الإخوة الكرام ؛ بادئ ذي بدء ما من نعمةٍ أعظم ولا أجل ينعم الله بها على عبده كنعمة العقل، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق، وبالمناسبة الإنسان أعقد كائن في الكون، وأرقى مخلوق، وهو المخلوق الأول، والمخلوق المكرَّم، والمخلوق المكلَّف، وأعقد ما فيه عقله، فمن نعمة الله العُظمى أن يمنح الله العبد عقلاً راجحاً..
((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً))
هذا العقل الراجح من لوازمه أن يعرف الله، ومن لوازمه أن يحب الله.
وهنا نقطة أحب أن أعالجها قبل أن أخوض في الموضوع، قد تجد إنسانًا يحمل شهادة عالية ولا يصلي، ويشرب الخمر، وقد يزني، فكيف نوفِّق بين رجاحة العقل، وبين طاعة الله عزَّ وجل ؟ هذا الموضوع بعض العلماء حلَّه على الشكل التالي: فرَّق بين العقل والذكاء، فالذكاء متعلِّق بالجُزئيات، وأما العقل فمتعلِّق بالكُليات، فالذي يعرف الله سبحانه وتعالى، ويعرف سر الحياة، ويعرف رسالة الإنسان في الحياة هو العاقل، أما الذي يختص باختصاص ضيِّق، ويبدع فيه، ويتفوَّق فهذا ذكي، فالذكاء صفةٌ متعلِّقةٌ بالجزئيات، فلانٌ ذكيٌ فيما هو فيه، ذكيٌ في اختصاصه، وقد يكون بعض المجرمين في أعلى درجات الذكاء، لأنهم يخطِّطون بشكلٍ عجيب، فهل هم عقلاء ؟ لا، إطلاقاً، فالعقل من خصائص المؤمن..
((أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبًّا))
وسوف ترون معي بعد قليل أنه ما من مخلوقٍ على وجه الأرض أعقل من رسول الله، لأن العقل هداه إلى الله، ولأن العقل هداه إلى أن يحبَّه، وإلى أن يُخلص له، وإلى أن يجعل حياته كلها في مرضاته، لذلك استحقَّ هذا المقام المحمود.
أيها الإخوة الكرام ؛ البطولة أن تأتي إلى الدنيا، وأن تستغل هذا العمر المحدود إلى أعلى درجة، فهناك أذكياء جمعوا أموالاً طائلة، وسكنوا بيوتاً فارهة، ثم جاء الأجل، وانتهت حياتهم، وكأنهم لم يكسبوا شيئاً، هل هم عقلاء ؟ لا والله، كانوا أذكياء ولم يكونوا عقلاء، أما هؤلاء الذين جاؤوا وغادروا، وعرفوا قيمة العمر، وعرفوا ربهم، ووضعوا كل طاقاتهم في خدمة هذا الهدف السامي، فلما دنا أجلهم كانوا من أسعد الناس.
أيها الأخ الكريم ؛ عقلك كل عقلك يظهر ساعة اللقاء مع الله، لذلك الناس لا يدخلون هذه الساعة الحرجة الخطيرة في حساباتهم أبداً، فإذا جاءت أين عقله ؟
إنّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة، نظر إليه أبو سفيان نظرةً عميقةً وقال: " ما أعقلك، وما أحكمك، وما أرحمك، وما أوصلك "، عقلٌ ما بعده عقل، ورحمةٌ ما بعدها رحمة، وحكمةٌ ما بعدها حكمة، إنه وفاءٌ لأقاربه ما بعده وفاء.
وأول شهادة من الله عزَّ وجل لأرجحية عقله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي قوله تعالى:
﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
( سورة القلم )
فهذه نعمةٌ عظمى، هذه الآية تذكِّرني بآيةٍ أخرى:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
( سورة هود )
إن المؤمن يعيش في رحمةٍ عُمِّيت على عامة الناس، ويعيش في سعادةٍ لا يعرفها عامة الناس، ويعيش في طمأنينةٍ لا يعرف معشارها عامة الناس، ويعيش في سكينةٍ يتجلَّى الله بها عليه لا يعرفها أهل الدنيا، ولذلك أحد العارفين يقول: " ماذا يصنع أعداء بي، بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة ".
وهو نفسه يقول: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا، وغادروها، ولم يعرفوا أجمل ما فيها، وهو القرب من الله عزَّ وجل ".
هذه الآية أيها الإخوة شهادة خالق الكون لنبيِّه الكريم بأنه كان في أعلى درجات العقل، حينما أنعم الله عليه بنعمة النبوُّة والرسالة.
يقول بعض العلماء: " إن الله تعالى لم يعطِ جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها، من العقل في جنب عقل محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم إلا كحبَّة رملٍ من جميع رمال الدنيا، وأن محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً ".
وكلَّما كبر عقلك ازداد قربك، وكلَّما كبر عقلك ازداد خوفك من الله، وكلَّما كبر عقلك ازداد حبَّك له، فكأن هناك مؤشِّرين يعملان معاً، رجاحة العقل تعني طاعة الله، وتعني محبَّة الله، وتعني الخوف من الله، وتعني الشَوْق إلى الله، فأنت امتحن عقلك بحالك وبعملك وبقلبك.
وأجمل ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام عندما أسلم سيدنا خالد بن الوليد، دخل سيدنا خالد على رسول الله فسلَّم عليه بالنبوَّة، قال له:" السلام عليك يا رسول الله "، خالد بن الوليد الذي انتزع منه راية النصر في أحد، من العمالقة، ومن القادة الكبار دخل عليه وقال: " السلام عليك يا رسول الله "، فقال عليه الصلاة والسلام: " تعالَ أقْبِل " فأقبل، فقال عليه الصلاة والسلام:
((الحمد الله الذي هداك، فقد كنتُ أرى لك عقلاً، ورجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير))
هذه إشارة من رسول الله إلى أن هذا الدين ينبغي أن يُقبل عليه العُقلاء، ومن لوازم العقل أن تقبل على هذا الدين، ومن لوازم الحُمق أن تبتعد عنه، فكان النبي يعجب من سيدنا خالد، إنه رجل عاقل، وأريب، وفَطِن ومع ذلك لماذا تأخَّر إسلامه ؟ قال له: ((عجبت لك يا خالد، أرى لك عقلاً وأرجو أن لا يسلمك إلا إلى خير، وقد أسلمك إلى الخير))
روى الطبراني عن قُرَّة بن هُبَيرة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال: " إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام: ((قد أفلح من رُزِقَ لبًّا))
العقل لُب، تصوُّر برتقالة بلا لُب، هناك أشخاص عندهم مهارة ينزعون اللُّب، ويرجعون القشرة إلى ما كانت عليه، فالإنسان يمسكها فإذا هي فارغة، فيصاب بخيبة الأمل، والإنسان عندما تعامله من أول كلمة تعرف أنه عاقل أم مجنون، فالنبي الكريم يقول: ((قد أفلح من رُزِقَ لُبّاً))
فقال قرَّة بن زبيرة: " يا رسول الله ألبسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما"، فكساه، فلما كان بالموقف في عرفات قال عليه الصلاة والسلام: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك ؟ "، ماذا قال له ؟ قال له: " يا رسول الله إنه كان لنا أربابٌ وربَّاتٌ نعبدهن من دون الله عزَّ وجل، فدعوناهنَّ فلم يجبن، وسألناهن فلم يعطين فجئناك فهدانا الله بك، فنحن نعبد الله ". فقال عليه الصلاة والسلام: (( قد أفلح من رُزِقَ لُبًّا ))
قال: " يا قرَّة أعد عليَّ مقالتك "، فأعاد عليه، فقال عليه الصلاة والسلام أمام الملأ: ((قد أفلح من رُزِق لباً، أي عقلاً راجحاً اهتدى به إلى الإسلام، وإلى فعل المأمورات، وترك المنهيات))
قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)﴾
( سورة الرعد )
أيها الإخوة الكرام ؛ قال الله تعالى:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾
( سورة يوسف )
فمن أجل أن تعقلوا، وكل هذا القرآن من أجل أن تعقل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله الحياء وحسن الخلق))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
ويُروى أن أعرابيًّا دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وبيَّن له النبي أوامر الإسلام ومناهيها، فخرج الأعرابي وأعلن إسلامه، فقال له قومه: " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " على الفطرة، وبالعقل، " بمَ عرفت أنه رسول الله ؟ " فقال الأعرابي: " ما أمر محمٌد بأمرٍ فقال العقل ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل ليته أمر به "، أي توافق الأمر والنهي مع العقل.
وأحد العلماء الأجلاَّء ألَّف كتاباً كبيراً حول ضرورة توافق العقل مع النقل، صريح المعقول لا يتعارض مع صحيح المنقول، ولا يمكن أن يتعارض العقل مع النقل، ولأن العقل مقياسٌ أودعه الله فينا والنقل كلامه، فهل يعقل أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل ؟ لقد أنزل على نبيِّه الكتاب وأودع فينا العقل، فالعقل مقياسٌ أودعه فينا، والكتاب وحيٌ أوحاه إلى النبي، فهذا من عنده وهذا من عنده، فالمعقول يتوافق مع المنقول، ولكنك لو رأيت تناقضاً بين العقل والنقل، فإنما هو تناقضٌ بين العقل وبين النقل غير الصحيح، أو بين النقل الصحيح وبين العقل الجامح، أما العقل المُطلق، العقل المتوازن فلا يمكن أن يتناقض مع النقل.
والحقيقة كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإيمان باليوم الآخر إيمان نقلي، أي إن الله أخبرنا أن هناك يومًا آخر، وإيمان من نوع السمعيات، أو الإخباريات، أو النقليات، ولكن وأنا أسألكم هذا السؤال: هل هناك دليل عقلي لا نقلي على اليوم الآخر ؟
بالمناسبة أنا حينما أرى الشيء أحكم على صانعه، هذا شيء أمامي ملموس مرئي مُشاهد، فالعقل يستطيع أن ينتقل من المحسوس إلى المجرَّد، ومن المُشاهد إلى الغائب، ومن الجزء إلى الكُل، فهذه مهمَّة العقل إطلاقاً، لكن اليوم الآخر ليس له آثار في الدنيا، الإيمان باليوم الآخر إيمان تصديقي محض، إيمان تصديقي بما أخبر الله به، ولكن ثمة سؤال: هل هناك دليلٌ عقلي لا نقلي على ذلك ؟ فلو أنّ إنسانًا ما قرأ القرآن، ولا التوراة، ولا الإنجيل، ولا استمع في حياته إلى خطبة، ولا إلى موعظة، ولا قرأ كتابًا إطلاقاً، هل يستطيع بعقله وحده أن يصل إلى أن هناك يومًا آخر ؟
بعض العلماء وأنا أعجبني هذا المثل، قال: لو فرضنا مسرحيَّة، وأول فصل مُثِّل، ثم أُرخي الستار، لِمَ لم يخرج روَّاد هذه المسرحيَّة من المَسرح ؟ لأن القصَّة لم تنتهِ بعد، والعقدة لم تنحلّ، فهناك بداية وعقدة ونهاية، والعقدة لم تُحل.
اسمعوا الآن إلى هذه المحاكمة العقليَّة حول اليوم الآخر، أدرك عبد المطلب حقيقة الآخرة بعقله، ذلك أنه قال يوماً: " ما من ظالمٍ يشتدَّ ظلمه إلا انتقم الله منه قبل أن يموت " فقيل له: " فلان جار وطغى "، فقال: "انتقم الله منه يوم كذا وكذا، فقيل له: فلان، فقال: " انتقم الله منه يوم كذا وكذا " فقيل له: " فلان جار وطغى ولم يصبه شيء "، ففكَّر طويلاً ثم قال: " إذاً لابدَّ من يومٍ آخر ينتقم الله منه ".
في الدنيا قوي وضعيف، وغني وفقير، وظالم ومظلوم، إنسان يعيش عمرًا قصيرًا، وإنسان يعيش عمرًا مديدًا، وقد يموت الظالم قبل أن ينتقم الله منه، وهكذا، أليس هناك يوم تسوَّى فيه الحسابات ؟ ويؤخذ حق المظلوم من الظالم ؟ وحق الضعيف من القوي ؟و حق الفقير من الغني ؟ فما دام فلان جاء إلى الدنيا وطغى وبغى ولم يعاقب إذاً لابدَّ من يومٍ آخر.
إخواننا الكرام ؛ هناك مقولة لطيفة: عظمة الخلق تدل على عظمة التصرُّف، وكمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، ودائمًا هناك انسجام بين كمال الخلق وكمال التصرُّف، فمثلاً: شركة تصنع كمبيوترات، لو أنت اشتريت كمبيوترًا فمن غير المعقول أن تأخذ المبلغ منك وتضعه في الخزينة، وتقول لك: الله يعوِّضك، دون أن تعطيك إيصالات، أو إشعار استلام، أو إشعار قبض، فشركة تصنع كمبيوترات فلابدَّ من نظام دقيق في المحاسبة يتناسب مع دقة الصنعة.
فالمقولة: كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف، فالكون فيه كمال بالخلق، إذاً خالقه لابدَّ من أن يكون كامل التصرُّف، فإذا كان هناك قوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وغني وفقير، وصحيح ومريض، ومعمِّر وقصير العمر، ويأتي الموت فينهي كل شيء، صار هذا ظلًام شديدًا، فلابدَّ من يومٍ آخر تسوَّى فيه الحسابات.
لكن الكفَّار ماذا يقولون ؟ يقولون:
﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
( سورة الملك )
والآية دقيقة، إنّ الإنسان أحياناً إما أن يأكل طبخًا جاهزًا وإما أن يطبخ بيده، فأنت إذا استمعت للحق تستمع له جاهزًا، وإذا أردت أن تتأمَّل وتفكِّر تصل إلى النتائج نفسها..
﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)﴾
( سورة الملك )
فلابدَّ أن تسمع، ولابدَّ أن تعقل، والأكمل أن تجمع بينهما، والحسن البصري يقول:" أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ".
( من أحاديث الإحياء: عن " أبي أمامة " )
فالإنسان يستحق السعادة العظمى عندما استخدم عقله، ويستحق الشقاء الأبدي عندما عطَّل عقله، بك أعطي وبك آخذ.
" أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك آخذ وبك أعطي ".
وأحب العقول إلى الله تعالى عقل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.
فأحدنا لو جلس مع إنسان مثقَّف يرتاح، فينطلق معه في الحديث، باستيعاب، وتقدير، لكن لو جلست مع إنسان ضعيف التفكير، ضعيف الثقافة، جامد، محدود يقول لك: قعدت نصف ساعة خرجت روحي، والنبي ما عاش في عصر فيه ثقافة، بل جاء إلى أُناس صخور على صخور، في جهل، وعصبيَّة، وجمود، وضيق أفق، عبدوا صنماً من التمر فلما جاعوا أكلوه ـ أكلت ودٌ ربَّها ـ أفهذا إنسان ؟ ينحتون أحجاراً ثم يعبدونها من دون الله، يقول أحدهم: " من كان أفضل مني فليضرب رجلي " يقوم إنسان فيضرب رجله، فتنشب حرب لمدة عشر سنوات، إنه أفق ضيَّق، وعصبيات، وعدوانية، وفوضى في الأخلاق، فامرأة تتزوَّج عشر رجال ثم تحدِّد هذا المولود لهذا الرجل، هكذا مزاجياً، ورجل يقول لامرأته: اذهبي إلا فلان فاستبضعي منه، ولا مانع عنده أنْ يلتقي معها لقاء زوجيًّا حتى تحمل منه بمحض اختياره.
إنها الفوضى في العلاقات الزوجيَّة ما بعدها فوضى، وربا ما بعده ربا، وقهر ما بعده قهر، ووأد بنات، وظُلم شديد، وأفق ضيِّق، وثقافة ضعيفة، وجهل، وعصبيات، وأكمل الخلق جاء مع هؤلاء.
أنا أقول لكم هذه الكلمة: أن تعيش مع الأذكياء فأنت في متعة بالغة، أن تعيش مع أصحاب الثقافات العالية كذلك، لكن أن تعيش مع أناس محدودين، ضيقي الأفق، لا يفهمون، ولا يعقلون، سريعي الاتهام والظن، إنّ الحياة مع هؤلاء جحيم لا يُطاق، وأكمل الخلق كان مع أناسٍ هذا حالهم، فكيف صبر عليهم ؟ وكيف تحمَّل غِلْظَتهم ؟ وكيف تحمَّل جفوتهم ؟ يمسكه الأعرابي من ثوبه اليماني ويشدُّه حتى يؤثِّر على صفحة عنقه ويقول: " يا محمَّد أعطني من مال الله، فهذا ليس مالك ولا مال أبيك " وهو قمَّة المجتمع، فيبتسم النبي ويقول له: " صدق إنه مال الله أعطوه "، فكيف تحمَّل هؤلاء ؟ وكيف ليَّن عقولهم ؟ وقلوبهم ؟ وألَّف قلوبهم ؟ وحبَّبهم به ؟ فهذا الشيء يحتاج إلى منتهى العقل، فقد يكون إنسان من عامة المؤمنين إذا ناقش إنسانًا آخر نصف ساعة، وما فهم عليه، تجده يقول له: اذهب عني ليس فيك خير، ييأس منه رأساً، فالنبي لم ييأس.
يقولون: إن حصينًا والد عمران الذي يعبد سبعة أصنامٍ في الأرض، ويرى أنها آلهة، كان معظَّماً في قريش، فجاؤوا إليه وقالوا له: " كلِّم لنا هذا الرجل ـ أي محمداً صلى الله عليه وسلَّم ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبُّهم "، وجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي، فقال عليه الصلاة والسلام ـ إنسان يعبد سبعة أصنام جاؤوا به إلى النبي ـ فقال عليه الصلاة والسلام: " أوسعوا للشيخ " وهو حصين نفسه، فقال حصين: " ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ " الآن أن يقول رسول الله، أما كان يخاطب بضمير المُفرد، الآن إنسان جالس وراء طاولة إذا قلت له: أنت، يقول لك غداً: أنا ؟ يجب أن تقول: أنتم قلتم لنا، إن لم تخاطبه بالجمع يطردك، أليس كذلك ؟ رسول الله قيل له: " ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم ؟ "، فقال عليه الصلاة والسلام مؤنساً: " يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟، قال: " سبعاً في الأرض وواحداً في السماء "، أي ثمانية، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا مسَّك الضر من تدعو ؟ "، فقال حصين: " أدعو الذي في السماء "، قال: " فإذا هلك المال من تدعو؟ " قال: " أدعو الذي في السماء " قال عليه الصلاة والسلام: " فيستجيب لك وحده وتشركهم معه ؟ هذا الكلام معقول ؟ هو الذي يستجيب لك وتجعلهم آلهةً معه في الأرض ؟ " أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك ؟ فقال حصين: " لا واحدة من هاتين "، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا حصين أسلم تسلم " فقال:" إني لي قوماً وعشيرةً ماذا أقول ؟ " هذه مشكلته رؤساء الأديان، ماذا أفعل بحالي ؟ هذه مشكلتهم، فقال: " قل اللهمَّ أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني " فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم.
فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه ويديه ورجليه أمام النبي، فلما رأى النبي هذا بكى وقال: " بكيت من صنيع عمران، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرفعة ".
عندما دخل حصين على النبي كان ابنه موجودًا، قال: ما قام له ولم يلتفت له، لأنه كافر، فلما أسلم قام فقبَّل رأسه ويديه ورجليه فبكى النبي، ما هذه النقلة الكبيرة ؟
هذا يذكِّرني عندما قال سيدنا عمر: " دخل عمير عند رسول الله والخنزير أحب إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحب إليَّ من بعض أولادي "، انظر لهذا التبدُّل السريع.
معلومكم في قصَّة تعرفونها كلكم عندما قال له إنسان: " ائذن لي بالزنا "، والصحابة قاموا إليه، الآن انظر إلى المنطق، وإلى الحجَّة، أنت عندما تخاطب عقل الإنسان بهدوء، وتعطيه الحجَّة القويَّة وتحاصره فتفلح معه، فالقضيَّة ليست بالصياح، ولا بالضجيج، ولا بارتفاع الصوت، إنَّ الحجَّة تقارع الحجَّة، قال له: " ائذن لي بالزنا "، فالصحابة ضجوا وقاموا إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا " قال: " يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك ؟ ". تصور والدته، فقال: " لا ". قال: " كذلك الناس يكرهون، قال: أترضى أن يزني الناس بابنتك ؟ "، قال: " لا " فقال: " كذلك الناس يكرهون ". فقال: " يا رسول الله أُشْهِدُكَ أني تبت من الزنا ".
وفي رواية تقول: " دخلت على رسول الله وما من شيءٍ أحب إلي من الزنا، وخرجت من عنده وما شيءٌ أبغض إليَّ من الزنا " بالمنطق، في رواية أطول قال له: " لأمك، لابنتك، لأختك، لعمَّتك، لخالتك، ولا الناس يريدونه لبناتهم "، فالداعية الصادق يقدِّم حجَّة قويَّة.
اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وكادت أن تنشب فتنة كبيرة، فماذا فعل النبي ؟ جاء برداء ووضع الحجر بيده الشريفة في الرداء، وأمر كل رأس قبيلة يحمل طرف من الرداء، أليس هذا عقلاً راجحاً ؟.
عليه الصلاة والسلام، لقد كان في أعلى درجات الحنكة القياديَّة، فأمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّم السريانيَّة، وأمر بعض أصحابه أن يتعلَّم العبرانيَّة حتى يأمن مكر هؤلاء، فما كان يقبل من مترجم غير مسلم يترجم له، فأمر أصحابه يتعلَّموا هذه اللغات حتى إذا جاءه كتاب بالسريانية أو بالعبرية كان يكلِّف الصحابي يترجمه له، لئلا يحتال عليه هؤلاء الأعداء.
إنّ تقصي المعلومات في الحرب عمل مهم، والمعلومات الآن هي أخطر شيء، والآن عصر ثورة المعلومات، فكان في بعض المعارك، روى الإمام أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ))
وكان الأمر كذلك.
هذه حنكة قياديَّة رائعة، فيجب أن تعرف حجم عدوَّك قبل أن تخوض المعركة، فكلمة كثير كلمة عامة.
عندما أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة الخندق، ودخل وجلس، وأمره أن لا يحدث شيئاً حتى تأتيننا، وفي رواية " اذهب وأتني بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني " فهذا جلس، فشعر أبو سفيان أن هناك أشخاصًا غرباء يستمعون، فقال: " كلٌ منكم يتفقَّد صاحبه "، فكان سريع البديهة ـ سيدنا حذيفة ـ أمسك بيد جاره وقال له: " من أنت ؟"، فقال له: " أنا فلان " لو تأخَّر لاكتشف أمره.
إخواننا الكرام ؛ استقر بنفوس الناس أن المؤمن درويش، يقول لك: على البركة، لا يدقِّق، هذا كله كلام غلط، المؤمن الصادق في أعلى درجات الكياسة.

((المؤمن كيس فطن حذر))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾
( سورة النساء: من آية " 71 " )
هذا المفهوم الساذج أن المؤمن درويش، لا يدقِّق، ليس لديه هذا الفهم الزائد و، يتعب عليه، فهذه كلها مفاهيم جاءتنا من العصور المتخلِّفة، عصور الانحطاط..
((المؤمن كيس فطن حذر))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
هل هناك أعلى من هذا الذكاء ؟ تدخل معسكر العدو، وتجلس بينهم، وتستمع إلى مقولة قائدهم، وحينما يشعر القائد أن هناك من يستمع ويقول: " تفقَّدوا أصحابكم "، فيبادر ويمسك بيد جاره ويقول له: " من أنت ؟ ".
والقصَّة التي تعرفونها أيضاً من أروع القصص، التي تبيّن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلَّم، فنعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه قال: " إني أسلمت ـ أسلم في أدق الظروف ـ وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله". فقال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنت فينا رجلٌ واحد "، والمعركة بين جيشين، والأحزاب تحزَّبت، عشرة آلاف مقاتل لم تجتمع في تاريخ الجزيرة العربيَّة، جاءت كلها لترمي النبي وأصحابه عن قوسٍ واحدة، وحتى إن بعض من كان مع النبي قال: " أيعدنا صاحبكم ـ لم يقل رسول الله ـ بأن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ "، فقد اعتقد بعض الناس أن الإسلام انتهى، هو قضية ساعات وينتهي..
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)﴾
( سورة الأحزاب )
بعضهم قال: " ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً "، وفي هذا الموقف الحرج، وفي هذه الساعات الحرجة جاء نعيم بن مسعود وقال له: " أنا أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت ". فالنبي نظر فقال له: "إنما أنت فينا رجل واحد فخِّذل عنا إن استطعت، إن الحرب خدعة، فاذهب فشتِّت جموع العدو وألقِ بينهم بدهائك "، إنسان واحد قد ينهي معركة !! ولكن مع إخلاص وذكاء، فخرج حتى أتى بني قريظة وهم طائفة اليهود، وكان لهم نديماً فقال: " قد عرفتم ودي إياكم وخاصَّةً ما بيني وبينكم "، قالوا: " صدقت لست عندنا بمتَّهم "، فقال لهم:" إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ـ أي ليسوا مثلكم ـ البلد بلدكم، به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، ولا تقدرون أن تتحوَّلوا منه إلى غيره، وإنهم جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزةً أصابوها ـ أي فرصة ـ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينهم، ولا طاقة لكم بمحمد إذا خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقةً لكم، على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوا".
إنه كلام منطقي: أنتم هذا بلدكم، وهذه دياركم، وهذه أموالكم، وهذه حصونكم، وهذه بساتينكم، والآن تحالفتم مع قريش وغطفان، وهم بلادهم غير هذه البلاد، ونساؤهم هناك، وأموالهم هناك، فإن فازوا فازوا، وإن لم يفوزا عادوا إلى بلادهم وتركوكم لمحمد، ولا قِبَل لكم بمحمد اللهمَّ صلِّ عليه، فلا تقاتلوا مع قريش حتى تأخذوا منهم الرهائن.
ثم أتى قريشاً وقال لأبي سفيان ومن معه: " قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغي أمراً رأيته حقاً عليَّ أن أبلغكموه، نصحاً لكم فاكتموه عني"، قالوا: نفعل، قال نعيم: " إن اليهود ندموا على ما صنعوا وأرسلوا إلى محمدٍ إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالاً تضرب أعناقهم كرهائن، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم محمد نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون إليكم الرهائن فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ".
ثم إن نعيماً أتى غطفان فقال: " إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني، أي بل أنا مصدقٌ عندكم "، فقالوا: صدقت وما أنت عندنا بمتهم، فقال: " فاكتموا عني " قالوا: نفعل. فقال لهم مثلما قال لقريش.
وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى اليهود من بني قريظة عكرمة في نفرٍ من القبيلتين: " إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، ونفرغ ما بيننا وبينه ".

فأرسلوا إليهم: " إن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث فيه ـ أي في السبت ـ بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا بمقاتلين معكم حتى تعطونا من رجالكم يكونون بأيدنا ثقةً لنا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل، ولا طاقة لنا به ".
فهذا إنسان واحد، وبذكاء بارع أوقع بين الفريقين، وجعلهم يتهمون بعضهم بعضاً.
فقالت قريش وغطفان: " والله إن الذي حدثكم به نعيم لحق "، فأرسلوا إلى بني قريظة: " إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً "، فأبوا عليهم وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الرياح في ليالٍ شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم.
((المؤمن كيس فطن حذر))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
فإنسان واحد أسلم في ظرف من أصعب الظروف التي مرَّت بها الدعوة الإسلاميَّة، وكانت على وشك الانهيار، وأوشك أن تتلاشى، عن طريق هذا الإنسان الحذر، الكيس، الفطن، المخلص الذي استلهم الله عزَّ وجل أنقذ الله هذه الدعوة.
أيها الإخوة الكرام ؛ كان عليه الصلاة والسلام يُرْهِبُ عدوَّه، والحرب خدعة، فمن هذه الأساليب الذكيَّة ورد أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لما توجَّه لفتح مكَّة، وانتهى إلى ممر الظهران، أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارٍ لتراها قريش، وتَرْهَبَ من كثرتها، حتى قال أبو سفيان ومن معه حين رأوا من بعيد: " لكأنها نيران عرفة "، أي في كثرتها، وكان ذلك مما ألقى الخوف في قلوبهم، كما أمر عمَّه العبَّاس أن يجلس أبا سفيان على الطريق عند مضيق خطم الجبل، ليشاهد جيوش المسلمين وكتائبهم حين تمرُّ عليه، ثم جعلت تمر عليه كتيبةً كتيبة، فجعل أبو سفيان يقول للعبَّاس: " من هذه الكتيبة يا عباس ؟ "، وطفق العباس يخبره عن تلك الكتائب واحدةً واحدة، وذلك مما حمل أبو سفيان على التطامن والاستسلام.
فما من أسلوبٍ حديثٍ في كسب المعركة إلا والنبي عليه الصلاة والسلام انتبه إليه، واستخدمه في أروع ما يستخدم القائد الحكيم الأساليب الذكيَّة العاقلة.
ولنا إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي، ودائماً وأبداً كما قلت لكم:
((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
تعرّف إلى رجاحة عقلك من طاعتك لله ومن حبك له، وإذا رأيت نفسك في طاعة الله فهذا دليل رجاحة العقل.
وأقول لكم مرَّةً ثانية: الفرق بين العقل والذكاء هو أن الذكاء متعلِّق بالجزئيات، بينما العقل متعلِّق بالكليات، فقد يكون المرء ذكياً وليس عاقلاً، وقد يكون عاقلاً وليس ذكاؤه في المستوى العالي، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ))
( من سنن الدارمي: عن " مسروق " )
أي لمجرَّد أن تخشى الله فأنت عالِم، أي عرفت أن لك رباً، وأن له منهجاً، وأن عليك أن تطيعه، فمعرفة هذا الشيء دليل رجاحة العقل.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع هذا الموضوع عن رجاحة عقل النبي.


والحمد لله رب العالمين



 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:13 AM   #5


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الخامس )

الموضوع : ارجحية عقلة الشريف










الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الخامس من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نمضي في الحديث عن شمائله، أذكر أنّنا قد عالجنا في الدرس الماضي موضوع رجاحة عقله، ووعدتكم أنْ أتابع الموضوع، وقبل أن نمضي في الحديث عن رجاحة عقل النبي صلى الله عليه وسلم أريد أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة لأنها محور الدرس.
كيف أن السُبحة عبارة عن مجموعة حبَّات، فيها خيطٌ ينظمها جميعاً، وقد لا يرى الخيط، لكنه موجود، فالإنسان حينما يوفَّق في فهم نص أو فهم موضوع، ويضع يده على المحور الذي ينظم حبات العقد كلها، فمن رجاحة عقل النبي أنه كان يحسن انتقاء معاونيه، والإنسان فرد، لكن مَن الذين يتصلون بالمجتمع ؟ المعاونون، يرسل منهم رسولاً إلى ملك، ويُعيِّن قائدًا على جيش، فهؤلاء الذين كان يختارهم النبي عليه الصلاة والسلام، كان يختارهم بعناية فائقة، وكان يختارهم من بين نخبةٍ عالية المستوى من أصحابه.
لذلك فالإنسان إذا أساء اختيار معاونيه هَلَك، وإذا أحسن اختيار معاونيه نجح، فمحور الدرس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار قواد الجيوش، وكيف كان يختار رسله إلى الملوك، وكيف كان يختار في المهمات الخاصة نخبةً عاليةً من أصحابه الكرام.
فالإنسان كما تعلمون - أيها الإخوة - قويٌ بإخوانه، وضعيفٌ بإخوانه، فلو كان الذين حولـه ضعافًا، متكاسلين، ضعافَ التفكير، ضعاف العزائم، لهم أهدافٌ لا تتناسب مع عظمة هذه الدعوة، فالدعوة تَسْقُط.
فالنبي عليه الصلاة والسلام ينتقي لخوض المعارك العنيفة أكفأ الرجال من الأبطال، بحسب الاستعداد والمناسبة، ثم يتبين للصحابة الكرام، دقة نظره صلى الله عليه وسلم في تعيين ذلك الرجل الذي انتقاه، ففي يوم خيبر حدَّثَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:
((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقِيلَ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))
(رواه البخاري)
فلموقعة خيبر اختار سيدنا عليًّا، وكان غائبًا، وفي رواية البيهقي والطبراني عن عليٍ كرم الله وجهه قال: " فما رمدت ولا صُدِعَت منذ أن مسحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وفي روايةٍ أخرى، وكان علي رضي الله عنه يلبس القباء المحشوَّة الثخينة في شدة الحر فلا يبالي، ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي، فسئل عن ذلك، فأجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له يوم خيبر، إذاً اختار لهذه المعركة البطلَ المناسب.
مرةً بحث عن إنسان لمهمة، فعرض عليه أصحابه اسم رجل من صحابته، فقال بلطف وأدب: " ليس هناك " أي ليس في مستوى هذه المهمة، فكان يعرف أقدار الرجال، ويعرف قُدرات الرجال، ويعرف طاقات الرجال، ويعرف خصائص الرجال، ويعرف الميزات التي يتمتَّع بها الرجال، وكان ينتقي لكل مهمةٍ أعلى رجل من أصحابه، تتوافق خصائصه مع هذه المهمة.
قالوا: يوم أحد اشتدت المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ "، فقام إليه رجال منهم الزبير بن العوام، فطلبه ثلاث مرات، كل ذلك يُعرض عنه النبي، حتى قام إليه أبو دُجانة، فقال: " وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به وجه العدو حتى ينحني " ـ السيف ـ وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يختال ويتبختر في مِشيته قال: " إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في هذا الموطن فهو يحبها الله عزَّ وجل))
لذلك قالوا: " التكبر على المتكبر صدقة " إن الله يبغض هذه المشية ؛ مشية التكبُّر إلا في هذا الموطن، فالإنسان أمام الكفار ليس له حق أنْ يتواضع، ولا أنْ يتطامن، ولا يتدروش، بل يجب أن يتعالى، لأنّ المتكبر على المتكبر صدقة، والحكمة أن تريهم قوةً، أن تريهم ثقةً بالنفس، أن تريهم شرفاً، ولكنْ يجب مع المؤمن أنْ تتواضع، فإنَّ الله عزَّ وجل وصف المؤمنين فقال:
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ﴾
( سورة المائدة: من آية " 54 " )
بين المؤمنين ليس ثمَّة تكلُّف، ولكن مع الكفار ينبغي أن تظهر بمظهر القوة، ومظهر الشرف، ومظهر الاستعلاء، فكان أبو دجانة إذا مشى يتبختر في مشيته، فقال عليه الصلاة والسلام موضحاً: ((إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن يحبها))
إخواننا الكرام في نقطة دقيقة ؛ نستفيد منها جميعاً في كل موضوعات السيرة، إنْ فعل النبيُّ شيئًا وهو المشرِّع، فمعنى(مُشَرِّع)أنَّ هذا الشيء يقاس عليه ألفُ شيء، يعني مثلاً: لما رأى صحابيين ومعه زوجته صفية، ماذا فعل النبي ؟ قال:
((عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ))
( البخاري عن صفية )
فهذه حادثة واحدة، لكنك من الممكن أن تقيس عليها مليون حادثة، لأن النبي مشرع، وهذه فعلها تشريعاً، فلو كنت تحاسب إنسانًا فبيِّن له، وأنت في المحل التجاري فدخلت امرأة، وقلت لها: أهلاً وسهلاً، نحن مشتاقون لكِ، وكانت أختك، قل لمَن يتواجد: هذه أختي، بيِّن له أنّ هذه المرأةَ أختك، دخلتَ إلى محلك ليلاً ؛ ساعة الثانيةَ عشرة، فقل للحارس: أنا داخل لآخذ سندًا، عندي غداً صباحاً باكراً سفر، بيِّن له، لكي لا يقول: لماذا جاء الساعة الثانية عشر ليلاً إلى المحل ؟ قد يقول في نفسه: لعل خلافًا وقع مع شريكه، فجاء ليختلس ويسرق.
فما دام النبي مشرِّعًا، ففِعلُه يُقاس عليه، ولو كان غير مشرع فهي مجرَّد حادثة وقعت، وربَّما لا تقع مرة ثانية، لكنه ما دام مشرعًا فالحادثة التي وقعت معه قد تقيس عليها آلاف الحوادث، إذاً لما قال: " هذه زوجتي صفية "، فأنت يجب ألاّ تسمح لتصرف من تصرفاتك يثير الشبهات، يقول سيدنا علي: " لا تضع نفسك موقع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك "، فالذي يضع نفسه موضع التهمة يجب أن يتحمل لوم الناس له، والتشهير به، لأنه هو المذنب.
كأن تكون في محل تجاري، ولا أحد معك، وخطر في بالك أن تصرف مئة ليرة من الدرج، وضعتَ المئة ليرة، وأخذتها صرفًا، فدخل صاحب المحل، فوجدك تأخذ من الدرج، ولكن لم يرَك وأنت تضع المئة ليرة، هذه قضية فيها شبهة، ليس لك حق أن تفتح الدرج إطلاق، ولو كنت أنقى من ماء الثلج، "لا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك"، هذه قاعدة، فلما قال النبي: "هذه زوجتي صفية"، فقد علمنا أن نقيس عليها آلاف الحوادث، فدائماً وضِّحْ للآخرين.
أنت مسافر، وكَّلتَ أخا زوجتك أنْ يزور بيتَك في أثناء غيابك، ليتفقد أخته، ولك جيران في الطابق نفسه، بلِّغهُم أنك مسافر، فإذا رأوا رجلاً دخل بيتك في غيابك، فهل سيقولون: هذا أخوها أم يتهمونها بشخص آخر ؟ وبعد عدة سفرات ترى نفسك مفضوحًا، بيِّن ووضِّحْ، فهذه القصة يجب أن تقيس عليها ألف قصة، لأنّ النبي مشرِّع.
ومن تشريعه:
((إن الله يبغض هذه المشية إلا في هذا الموطن))
معنى ذلك أنك إذا كنت مدعوًّا فكُن أنيقًا، إذا كانت ثيابك موضِعَ انتقاد وأنت مسلم، فقد استخذيت، يجب أن تظهر بمظهر الأناقة، ويجب أن تأتي في الموعد تماماً، ويجب أن تتكلم بثقة، ويجب ألاّ تظهر ضعفك أمام كافر، دائماً أظهر قوتك، وكما تعلمون سابقا أنّ الإنسان إذا اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، أما إذا اشتكى إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، فلا تبثَّ همَّك لغير المؤمن، فأخذ أبو دجانة عصابةٍ له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: " أخرج عصابة الموت "، فخرج وهو يقول شعرًا فاسمعوه:
أنا الذي عاهدني خليلي.. .. ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
***

الكيول: أي في مؤخِّرة الصفوف.
فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، قال الزبير: وكان في المشركين رجلٌ لا يدع لنا جريحاً إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين، أي تبادلا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بترسه فعضَّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل عنها، وقال: أكرمت سيف رسول الله عن أن أضرب به امرأة، وصل إلى هند بنت عتبة، وكاد يقتلها بضربة سيف، وتذكر أن هذا السيف سيف رسول الله، فأكرمه عن أن يضرب به امرأة.
فالنبي الكريم انتقى لمعركة خيبر سيدنا عليًّا، وفي أُحُد حينما اشتد الأمر على المسلمين اختار أبا دجانة ليضرب بسيفه.
وبعدُ ؛ فالنبي الكريم من رجاحة عقله أنه إذا أرسل رسلاً إلى الملوك، يختارهم من أعلى المستويات، فالعلاء بن الحضرمي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى، ومعه كتابٌ يدعوه إلى الإسلام، فلما قدم عليه قال له - اسمعوا كلام الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي لما التقى بالمنذر بن ساوى، أحد الملوك ومعه كتاب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له الرسول: " يا منذر إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة.. "، فالإنسان يكون له في الدنيا شأن، وهذا واللهِ جميل، لكن بطولته أن يستمر هذا الشأن إلى الآخرة ـ قال له: " إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة " ـ أي إذا كان عقلك لم تسلطه على أمور الآخرة، وعلى أمور الكليات في الحياة، ففي الدنيا أنتَ صاحب عقل راجح، ولكنّك في الآخرة صاحب عقل غير راجح ـ "إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، فكان هذا المنذر بن ساوى مجوسيًا، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة "، سأعيد مرة ثانية ما قال هذا الرسول الذكي العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى قال له:
" يا منذر إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة ـ أي يجب أن يهديك عقلك إلى الإسلام، فلو لم يهدك إلى الإسلام لصغُر عقلك في الآخرة ـ إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكريمٌ للعرب، ولا عُلِمَ عند أهل الكتاب أنهم ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاّ تصدقه ؟! ولمن لا يخون ألاّ تأمنه ؟! ولمن لا يخلف ألاّ تثق به ؟! فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به ما نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص في عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر ـ تصرفاته حكيمة، عفوه في مكانه، عقابه في مكانه، صلته في مكانها، عطاؤه في مكانه، أمره في مكانه، نهيه في مكانه ـ والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه، إذ كل ذلك منه على أمية أهل العقل وفكر أهل النظر".
فقال له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة ".
واللهِ الذي لا إله إلا هو لقد وقفتُ عند هذه الكلمة ملياً، معناها كل مبدأ أرضي له نفع دنيوي، تَجَمُّع، البوذية تَجَمُّع، فإذا انضم الإنسان إلى تجمع أرضي ليس له علاقة بالسماء ففيه نفع، وبالطبع الفرد ضعيف وهو وحيد ـ يقول لك: هذا فلان ماسوني، فإذا انضم لمجموع له ميزات، له عطاءات، له حماية، له دعم، فليس الحق أن تنضم إلى تجَمُّع، بل الحق أن تنضم إلى دين، لأن الدين يسعدك في الدنيا والآخرة، أما الانضمام إلى أي تجمُّع، والتجمع مصلحي، هدفه تحقيق مصالح جماعة، فكل مجموعة أشخاص يشكِّلون جماعة، فإذا انضم الإنسانُ لهم كانت له ميزات، بدءاً من النادي وانتهاءً بالأحزاب الكبيرة، فكلٌّ منها تجمع أرضي أساسه المصلحة.
لذلك يقول الملك: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي، دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا ـ المجوسية للدنيا دون الآخرة ـ فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت ـ والله كلام طيب ـ ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله ـ أي دخل في الإسلام ـ وعجبت اليوم ممن يرده ".
طبعاً العرض كان رائعًا: إنك عظيم العقل، فلا تصغرن في الآخرة، هذه المجوسية شر دين، ينكحون مما يستحيا منه، يأكلون مما يتكرم عن أكله، يعبدون في الدنيا ناراً تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم العقل ولا الرأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا ألاَّ تصدقه، ولمن لا يخون ألاّ تأمنه، ولمن لا يخلف ألاّ تثق به، فإن كان هذا كذلك فهو النبي الأمي الذي واللهِ لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، وما نهى عنه أمر به.. إلخ
يقول له المنذر: " قد نظرت في هذا الذي بين يدي من دين المجوسية فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دينٍ فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمسِ ممن يقبله - أيْ يدخل فيه -، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظَّم رسوله وسأنظر ". أي فيما أصنع من الذهاب إلى هذا الرسول أو مكاتبته، لا في أنه يسلم أو لا يسلم، فإن قوله: عجبت اليوم ممن يرده اعترافٌ بأنّه دين حقٍ، كما في شرح هذا النص.
هذا رسولٌ قد أرسله النبي إلى ملك، وعرض هذا العرض، وكان هذا جواب الملك.
وعندنا رسول آخر اسمه المهاجر بن أبي أمية المخزومي، شقيق أم سلمة أم المؤمنين، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث ابن عبد فُلالٍ أحد ملوك حِمْيَر، فلما قدم عليه المهاجر قال له: " يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه المصطفى نفسه، فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدراً، وإذا نظرت في غَلَبَةِ الملوك فانظر في غالب الملوك ـ الذي يغلبهم ويقهرهم، اتقِ غالب الملوك، ولا تنظر إلى غلبة الملوك ـ وإذا سرك يومك فخف غَدَك، وقد كان قبلك ملوكٌ ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلاً وأملوا بعيداً وتزودوا قليلاً، فمنهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النِقَمُ، وأنا أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك أحد، وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس شيءٌ أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربًّا يميت الحي، ويحي الميت ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ".
هؤلاء الرسل الذين بعث بهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك كانوا في مستوى المهمة، إذاً أحد أكبر مهام القائد أن يختار للمهمات الصعبة أكفأ من حوله، أجل أن يختار أكفأ من حوله، وأقدر من حوله على أن يقوم بالمهمة خيرَ قيام، وهكذا فعل النبي في الحرب، وفي السلم، في الدعوة الداخلية وفي الدعوة الخارجية.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس))
( من الجامع الصغير: عن سعيد بن المسيب)
فالذي عنده قدرة أن يتودد إلى الناس، يتقرب منهم، يلين الكلام معهم، يعفو عنهم، يغفر خطيئتهم، يسامحهم، يدلهم على الله عزَّ وجل، يتقرب منهم، هذا أعظم عمل يأمرك العقل به، فكان عليه الصلاة والسلام يداري السُفهاء والحمقى، ليكُفَّ من غائلتهم وشرهم، وليستميلهم ويجلب قلوبهم نحو السداد والرشاد، ففي الصحيح عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ قَالَ أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ))
وفي رواية: ((فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا - أأضربه، أأسبُّه - إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ))
( من صحيح البخاري)
أي إذا داريتَ إنسانًا تكون عاقلاً، لكنه هو شر الناس، ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ))
عندنا حكم فقهي، إذا كان الإنسان من عادته السُكر، ثم صحا، وقتل، وضرب، وآذى، وفَتَن الناس، فإذا رأيته سكران فدعه سكران، لأن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها، شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، وخيرُ الناس المؤمن الودود، أما هذا الذي يُتقَّى مخافة شره، فهو إنسان شرير، بل هو شرُّ الناس، شيء جميل، لما رآه النبي الكريم قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما دخل تَطَلَّقَ وجهه، وألان له الكلام وانبسط له، السيدة عائشة عجبت ما هذا ؟ فكأنَّ النبيّ ذو وجهين، قالت له: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم انطلقت في وجهه، وانبسطت إليه فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة متى عهدتِني فحاشاً، إن شرَّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة مَن تركه الناس اتقاء شره، وفي روايةٍ: "اتقاء فحشه"، إذا كان كلامُ الشخصِ بذيئًا، ويتكلم في العورات، ثمَّ داريتَه فأنت حكيم، أما لو استفززته فإنه يتكلم بالفحشاء على الفور.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقابل هذا الأحمق بغلظةٍ وفحشٍ، بل ألان له القول، وسلك معه مسلك المداراة.
إخواننا الكرام، يقول العلماء: هذا الحديث أصلٌ في المداراة، وفرَّق العلماء بين المداراة المطلوبة وبين المداهنة المذمومة، المداراة بذل الدنيا لصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأما المداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا. فنحن مِن الممكن أن نداريَ، ولكن لا يمكن أن نداهن، قال تعالى:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
( سورة القلم )
فأنتَ مثلاً لم تصلِّ لكي لا يعرف الناس أنك تصلي، خير إن شاء الله ؟ هذه اسمها مداهنة، قد ضيعت دينك من أجل مكسب دنيوي، جلست في مطعم ووُضِع الخمرُ على المائدة، وأنت لم تعترض من أجل الحفاظ على مكسب دنيوي، فالإنسان حينما يضيِّع دينه من أجل الدنيا هذه هي المداهنة، أما حينما يبذل دنياه من أجل دينه فما اسمها ؟ هذه مداراة، من الممكن أن تنفق على إنسان مبلغًا، وأن تقدم له هدية، فتستميل قلبه، وتليِّن قلبه، وتقنعه لحضور درس مثلاً، تقنعه أن يسمع منك، أكرمته، أطعمته، قدَّمت له هدية هذه مداراة، فرأس العقل بعد الإيمان مداراة الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((بعثت بمداراة الناس))
( من المأثور: عن " جابر بن عبد الله " )
لو قال: بعثت لمداراة الناس، لصار الهدف المداراة، أما بعثت بمداراة الناس، الباء للاستعانة، أي إنك تستعين على هدايتهم بمداراتهم، فنحن مطلوب منا أن نداري الناس، ونعينهم، نصغي لهم، نقدِّم لهم هدية، نخدمهم لكي نستميل قلوبهم، لكي يصغوا لنا، هذا مطلوب ؛ أما أنْ نضحي بديننا، نضحي بصلواتنا، نضحي باستقامتنا إرضاءً لهم، فهذه مداهنة.
الإمام القَسْطَلاَّني يقول: " المداراة مستحسنة، وليست مباحة "، أيْ مستحبة، وقال عليه الصلاة والسلام عن عائشة:
((إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض))
( من المأثور: عن " السيدة عائشة " )
أي إن كنتَ مسلمًا متمسكًا بدينك فلا تكن فظًّا، ولا تكن قطعة معدنية حادة الأطراف، كن ليِّنًا، فمِن يومين سألني أخ سؤالاً: هل مِن السنة أن يُحلق شعرُ المولود ؟ فاختلف مع زوجته، هي تشبثت ألاَّ يحلق شعره، فتدخل الأب، وكبر الأمر، وكاد الأمر يفضي إلى فراق، تساهل قليلاً، فالقضية ثانوية، تساهل فيها، جاء العمُّ، وقصَّ بضع شعرات، وقال له: لقد حلقنا الشعر، لكنه يريد بالموسى، فالإنسان يكون ليِّنًا، ولا سيما بالأمور الثانوية، فنحن عندنا أساسيات، في الأساسيات لا تلِن، أما في الثانويات فكن متساهلاً، إذا كان من ورائها مشكلة كبيرة.
فالمداهنة كما قلت قبل قليل: بذل الدين لصلاح الدنيا، وهي مذمومة، وقد نزّه اللهُ تعالى نبيَّه عنها، فقال:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
( سورة القلم )
فكان النبي عليه الصلاة والسلام يداري، ولا يداهن.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر القوم يتألَّفهم بذلك"، إذا كان الإنسان شريرًا، فظًّا غليظًا، جبارًا، وهو جارك في البناية، فقل له: السلام عليكم. لعله يلين قلبه، فلا تضع له العقدة، لأنه هو أقوى منك بهذا الأسلوب، واستمِلْ قلبه بابتسامة، وبسلام حار، فكان عليه الصلاة والسلام يقبل بوجهه على شر لقوم يتألفهم بذلك.
ومن أعظم الأدلة على كمال عقله الشريف صلى الله عليه وسلم سعةُ علومه، فقد أفاض اللهُ عليه العلوم العظمى، والمعارف الكبرى، وأراه الآيات، وأيَّده بالبينات، وصَدَّقه بالمعجزات، وجمع له جميع أنواع الوحي الإلهي، وذلك لا يقوم به، ولا يقدر على تحمُّله إلا من خصَّه الله تعالى بأعظم قلبٍ، وأوسع عقلٍ.
أي إنه صلى الله عليه وسلمه سيد العلماء، تجد إنسانًا يأخذ ثلاثين حديثًا يشرحها، ويستنبط منها بعض الأحكام، ويحضِّر رسالة دكتوراه، ثم صار اسمه: الدكتور فلان، فماذا فعل ؟ فَهِمَ ثلاثين حديثًا، وتعمق فيها.

يا أيها الأميُّ حسبُك رتبةً في العلم أن دانتْ لك العلماءُ
* * *

في العلم هو سيِّد العلماء، والله عزَّ وجل يقول: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
(سورة النجم: 5)
فإذا افتخر الإنسان بمعلميه، فالنبي يفتخر أن الذي علمه هو الله عزَّ وجل، وهذه نقطة دقيقة متعلقة بأميته صلى الله عليه وسلم، فأمِّيتُه في حقه كمال، فهو أمِّيٌّ، أي لا يقرأ ولا يكتب، فالأمِّيةُ في حقه كمال، وفي حقنا نقص، في حقه كمال لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعل كلامه من الوحي خالصاً دون امتزاج بالثقافات الأرضية، فلو كان مثقفًا ثقافة عالية، وجاءه الوحي وتكلم، لكان كلما قال حديثًا يُسأل: هذا من عندك أم من الوحي ؟ هذا من ثقافتك أم من الوحي ؟ قال الله عز وجل:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
( سورة النجم )
حتى الحديث الشريف فإنّه وحي، لكنه غير متلو، علماء الأصول فرَّقوا بين الوحي المتلو وبين الوحي غير المتلو، فالمتلو هو القرآن، وغير المتلو هو الحديث الشريف.
أيها الإخوة الكرام ؛ في نهاية هذا الدرس أذكر لكم هذه الحقائق: اعلَمْ أنّ موضع التكاليف الشرعية هو العقل، فإذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب، هذا تعرفونه جميعاً، لكن لهذه المقولة استدلال خطير، التكاليف الشرعية منوطة بالعقل، فإذا أخذ الله العقل أسقط التكاليف، فما معنى ذلك ؟ معنى ذلك أن التكاليف معقولة، ولو لم تكن معقولة لما أنيطت بالعقل، فقد أناطها الله بالعقل، فمن فَقَدَ عقله فقَدْ أُعْفِيَ من التكاليف، إذاً التكاليف معقولة، لذلك قامت حرب بين العقل والكنيسة في العصور الحديثة، ونحن بريئون من هذه المعركة، ديننا متطابق مع العقل تطابقًا تامًّا، أما في بعض الديانات المنحرفة فهناك مفارقة حادّة بين العقل وبين هذه الديانة، فالمثقف رفض هذا الدين لأنه مناقض للعقل، فالمستغربون من شبابنا يرفضون الدين ويعتزون بالعلم، افتراضًا منهم أن الدين مناقض للعلم، وهذا الشيء غير واقع في الإسلام إطلاقاً.
الشيء الثاني ؛ لو كانت الأوامر والنواهي والقضايا في الإسلام غير معقولة لكان التكليف بها تكليفاً بما لا يطاق، ولو أنّ الإسلام كلفنا بأشياء غير معقولة لأصبح التكليف لا يطاق، فمثلاً في الديانة البوذية إذا مات الرجل يُحرَق ولا يدفن، وتحرق معه امرأته، وامرأته لا علّة بها، ولكن ما دام زوجها قد مات فيجب أن تموت معه حرقا، هذا تكليف غير معقول.
والبقرة ممنوع ذبحها، وأكبر قطيع بقر في العالم موجود في الهند، فتدخل البقر إلى بعض محلات الفاكهة وتأكل أغلى الفاكهة، وصاحب المحل مسرور من أعماقه، لأن الإله دخل، وأكل عنده، وبعض الهنود يضعون روث البقر في غرف الضيوف، ويتعطَّرون ببول البقر، فإذا كانت التكاليف غير معقولة فهي منبوذة طبعاً، فلو أن الله عزَّ وجل كلفنا بأشياء غير معقولة لكان هذا التكليف لا يطاق، لكن لا شيء كلفنا الله به إلا وهو معقول.
لو أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بأشياء غير معقولة، والكفار كانوا ينتظرون منه غلطة واحدة، ولَمَا سكتوا، وتكلموا، ورفعوا أصواتهم، ونقدوا النبي، وفنّدوا أقواله، وشهّروا به، فلو أن الدعوة الإسلامية فيها خلل صغير، ولو كان الذي جاء به النبي الكريم مناقضًا للعقول، لكان الكفار في زمنه أولَ من ردّوا عليه ذلك، ولكانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به النبي، إن جميع العقلاء والحكماء في زمنه شهدوا بأحقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا جعفر رضي الله عنه لما دخل على النجاشي وقال له:

((إنا كنا قوماً أهل جاهلية ؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان))
(أحمد)
قال النجاشي بعد ذلك: " مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه النبيّ الذي نجده في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيت هذا النبي حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه ".
(أحمد)
وفي رواية للطبراني::لآتيته حتى أقبِّل نعليه".
أكثم بن صيفي بعث رجلين من قومه لمقابلةِ النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك حين بلغه مخرج النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيا النبي فقالا له: " نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ " أكثم بن صيفي من وجهاء الجاهلية، لما بلغته بعثةُ النبي أرسل وفدًا من رجلين، وسألاه هذه الأسئلة الثلاثة: من أنت ؟ وما أنت ؟ وبم جئت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
(( أما من أنا ؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله، جئتكم بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾))
( سورة النحل )
فقالا: " ردد علينا هذا القول ". فردده عليهم حتى حفظاه، فأتينا أكثم فقالا له: " أبى أن يرفع نسبه، فسألناه عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، وسطاً في مُضَر، وقد رمى إلينا بكلمات قد حفظناها "، فلما سمعهن أكثم قال: " إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً ".
الملخص: أن جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو المعقول المحكم، لذا استسلم له أهل الأفكار والعقول، ولا يمكن أن يكون في ما جاء به النبي تناقضاتٍ عقلية، أو مُحالاتٍ فكرية أصلاً، وقد أتى بعظائم الحكمة التي تعجز عنها العقول البشرية، كما تعجز استيعاب جميع أسرارها لضعف عقولنا، كما تضعف الأبصار عن التحديق في قرص الشمس والإحاطة بنورها.
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذان الدرسان عن أرجحية عقل النبي، وأروع شيء في الإسلام على الإطلاق أن ديننا دين معقول، دين يتطابق مع العقل مئةً في المئة، والمنقول يتفق مع المعقول، وفي هذا راحةٌ نفسية لا تعدلها راحة، والإنسان كلما نما عقله كلما ازدادت طاعته لله.
((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
ولا تنسوا قول رسول الله لسيدنا خالد حينما أسلم قال له: (( يا خالد أرى لك عقلاً))
أي لماذا تأخرت ؟ كان المنتظر منك أن تؤمن قبل غيرك لأنك أعقل من غيرك، فعلامة عقلك سرعة إيمانك، وطاعتك لله عزَّ وجل.

والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:15 AM   #6


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السادس )

الموضوع : سعة علمة










الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس السادس من دروس شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنهينا في الدرس الماضي رجاحة عقله صلى الله عليه وسلَّم، وها نحن ننتقل إلى سعة علمه عليه الصلاة والسلام..
فقد كان عليه الصلاة والسلام واسع العلم، عظيم الفهم، أفاض الله تعالى على يده العلوم النافعة الكثيرة، والمعارف العالية الوفيرة، وقد أعلن الله سبحانه وتعالى بسعة علمه فقال الله عزَّ وجل:
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(113)﴾
( سورة النساء )
فأي عالمٍ من علماء الأرض قد يتيه بعلمه، ويفتخر بأساتذته، ويزهو بجامعته، ويختال بمؤلَّفاته، لكنّ النبي يكفيه فخراً أن الله جلَّ جلاله هو الذي علَّمه..
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
( سورة النجم )
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾
( سورة النساء )
أيها الإخوة ؛ موضوع الكرامات يتحدَّث الناس عنها كثيراً، فإذا رأوا أن أحداً من المؤمنين خُرِقَت له بعض العادات عُدَّت هذه كرامة، ولكن غاب عن أذهان معظم المسلمين أن أعظم كرامةٍ على الإطلاق هي كرامة العِلم، وكرامة العلم لا تحتاج إلى خرقٍ للعادات..
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾
وفي الأثر: " ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه ".
والقيمة الوحيدة التي جعلها الله أساس الترجيح بين خلقه هي قيمة العلم، قال:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
( سورة الزمر: من آية " 9 " )
والشيء الوحيد الذي طُلِبَ من النبي أن يدعو بالاستزادة منه هو العلم..
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)﴾
( سورة طه )
المرجِّح الوحيد هو العلم، والدعاء الوحيد بالزيادة هو العلم..
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)﴾
لذلك حينما تعلَم الحقيقة العظمى، حينما تصل إلى الله، حينما تتعرَّف إلى منهجه، حينما تكون على هذا المنهج - دقِّق فيما سأقول - فقد حُزتَ النعمة المطلقة، والدليل:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾
( سورة الفاتحة )
إذا وصلت إلى الصراط المستقيم، والنهج القويم فقد وصلت إلى النعمة المطلقة، لذلك فأعظمُ إنسان بلغ أعلى مرتبةٍ في العلم هو النبي عليه الصلاة والسلام. ويمكن أن نقول: إن حظَّك من العلم ليتناسب مع مكانتك عند الله عزَّ وجل، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن نفسه: ((إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا))
( من صحيح البخاري: عن " عائشة " )
ما قال هذا مفتخراً ولكن قال هذا مبيِّناً: ((إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا))
لذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
أي لو طبَّقت توجيهات النبي لَنِلتَ أعلى مرتبة، وأعلى حظ، ووصلت إلى أعلى درجة، وبلغت أعلى نجاح، لأن تعليمات النبي وسنته عليه الصلاة والسلام تتناسب مع علمه الشريف، فإذا توهَّمت أن صالحك في مجانبةِ السنَّة فهذا هو الجهل بعينه، بل كلُّ صالِحك، وكل نجاحك في الدنيا والآخرة في اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
وبعد ؛ فهذه نقطة دقيقة أرجو أن أوفَّق في شرحها وتوضيحها، جاء في الصحيحين - واللفظ لمسلم - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
((سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، وفي روايةٍ:" إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا "، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي قَالَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))
وفي روايةٍ: ((إِلاَّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا))
( متفق عليه عن أنس بن مالك )
فالسؤال الآن: لماذا غضب النبي عليه الصلاة والسلام من كثرة الأسئلة ؟
الجواب: العلم في الإسلام ليس هدفاً بذاته، إنما هو وسيلة، فإذا جعلت العلم وحده هدفاً، وأكثرت المسألة، وأغرقت في التفاصيل، وفي الجُزئيَّات، وجعلت همَّك وحده أنْ تشحذ عقلك بالمعارف، ويبدو أن العمل أقل من العلم، عندئذٍ وقعت في انحراف، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليه يقرؤون الآيات العشر، ولا ينتقلون إلى غيرها حتى يطبِّقوها.
فمغزى هذا الحديث أنّ الإنسان إذا زاد علمه عن عمله فقد أخطأ، أما إذا طلب العلم، ولم يعمل به فقد نافق، فليس القصدُ أن تعلم دقائق الأشياء ولا التفاصيل، لكن القصد أن تعمل بما علمت، وأن تضع يدك على جوهر الدين لا على تفصيلاته، وكثيرٌ أولئك الذين يمضون كل حياتهم في تفاصيل، وأعمالهم لا ترقى إلى مستوى علمهم، لذلك هؤلاء تاهوا عن الصراط المستقيم، وهؤلاء تركوا الأَوْلى، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أكثر عليه أصحابه المسألة غضب، ورأى أن الإنسان إذا طبَّق آيةً واحدة تطبيقاً صحيحاً سعد بها أيما سعادة.
وهذا الأعرابي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام: " عظني ولا تطل "، فتلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)﴾
( سورة الزلزلة )
فقال هذا الأعرابي: " قد كُفيت يا رسول الله "، فقال عليه الصلاة والسلام: " فقُه الرجل".
أنا أريد من هذا النَص الذي يبدو غريباً لكم، أن ينصرف الناس إلى العمل لا إلى القول، أن يزيد عملك على قولك، أن تكون فعَّالاً لا قوَّالاً، أن تُعْنَى بحقيقة الدين لا بقشوره، أن تعنى بالتطبيق لا بالسفسطة، أن تنطلق إلى الله عزَّ وجل من خلال طاعته، لا أن تتفنَّن في تشقيق المسائل، وتخريج النصوص، والتنطُّع والتقَعُّر، والعمل لا يرقى إلى مستوى العلم، هذه النقطة التي يبدو أن النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد لأصحابه أن يطلبوا العلم لذات العلم، بل ينبغي أن تطلب العلم للعمل، أن يكون العلم وسيلةً، وليس هدفاً، فقال:
((سَلُونِي، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ))
فيبدو أن النبي غضب، والصحابة الكرام سكتوا وخافوا، وكل واحدٍ منهم لفَّ رأسه بثوبه وصار يبكي، قال أحدهم: " يا نبيَّ الله من أبي ؟ ". قال: "أَبُوكَ حُذَافَةُ "، فقال عمر بن الخطَّاب وكأنه فَهِمَ قصدَ النبي عليه الصلاة والسلام: " رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه ومسلَّم رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن ". فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِنِّي صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَرَأَيْتُهُمَا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ))
( من صحيح مسلم: عن " أنس بن مالك " )
على كلٍ كما قلت في أول الدرس: العلم هو القيمة الوحيدة المرجِّحة، والعلم هو الشيء الوحيد الذي طُلِب من النبي أن يزداد منه.
كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ في الليل يدعو ؟ فبماذا كان يدعو ؟ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ:
((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ))
(رواه أبو داود)
في دعاء منتصف الليل، في دعاء قيام الليل: ((اللهمَّ زدني علماً))
وينسب إلى النبي دعاءٌ، بعضهم يضعِّف نسبته إليه:
(( لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً))
وأُثر عن النبي صلى الله عليه وسلَّم دعاءٌ آخر، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
وأنا بهذا دائماً أدعوه، وهذا من فضل الله تعالى علينا: " اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ".
أيها الإخوة الكرام ؛ قال بعضهم: الوجوه التي يمكن أن تكون وجوهاً لعلوم النبي عليه الصلاة والسلام هي " القرآن الكريم "، أي إن فَهْم النبي لكتاب الله يُعَدُّ أعلى فهمٍ على الإطلاق، والذي يدعو للعجب أن يأتي إنسانٌ بعد ألفٍ وخمسمئة عام، ويقرأ في القرآن قراءة معاصرة، ويبتدع معاني ما خطرت على بال إنسانٍ في هذه السنوات الألف والخمسمئة، ولم يذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك هذا محض افتراءٍ على القرآن الكريم، فأنْ تفهم كلام الله فهماً ما ورد لا في سنةٍ، ولا في قول صحابيٍ، ولا في قول تابعيٍّ، ولا على لسان عالمٍ عامل مسلمٍ مخلص، فهذا هُراء وافتراء، قال عليه الصلاة والسلام:
((لا تجتمع أمتي على خطأ))
أي أن تحوِّر كلام الله كي يغطي كل انحرافات العصر، وكي يغطي كل سلوك العصر الإباحي، وهذا السلوك يغطَّى بكلام الله عزَّ وجل، وتؤوَّل الآيات تأويلاً ما أنزل الله به من سلطان، هذا الفهم ليس فهماً معاصراً، لكنه فهمٌ قاصر.
على كلٍّ إليكم مراحل الوحي الذي أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكلكم يعلم قصّته، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أول شيءٍ بُدئ فيه بالوحي الرؤيا الصادقة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء - الخلوة مع الله - وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على خلوةٍ يوميَّة ولو ساعة، وأو نصف ساعة، أو ربع ساعة، أن يعيننا على خلوةٍ يوميَّة نذكر الله فيها، أو نفكِّر في آيات الله، أو نتلو كلام الله، أو ندعو الله، أو نستغفره، أو نسبِّحه، أو نوحِّده، أو نكبِّره، أو نحمده.
هذه الخلوة جاءت بعد الرؤيا الصادقة، إذًا أول مرحلةٍ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حِراء فيتحنَّث فيه، وهو التعبُّد، يتحنَّث الليالي ذوات العدد.
حينما كنا في أداء فريضة الحج، فمِن فضل الله علينا، نظرت إلى الطريق المؤدي إلى غار حِراء، يحتاج إلى ساعتين من السير الشاق، والجبل صعودٌ كلُّه، وليس هناك طريق معبَّد، كان عليه الصلاة والسلام يمضي فيه الليالي ذوات العدد، المكان موحش، لكن كم كان أُنس النبي بالله عزَّ وجل، حتى غلب أنسه بالله على وحشة المكان ؟ يبقى وحده الليالي ذوات العدد، فالإنسان أحياناً يأنس بأخيه الإنسان، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يأنس بربه، فكان يمضي في غار حراء الليالي ذوات العدد، وكان إذا جلس في غار حراء ؛ هكذا قيل لي: يمكن أن يرى الكعبة منه، فهو مطل على الكعبة، لأن الجبل شاهق- جبل النور - في قمَّته تقريباً مغارة لها فتحات عجيبة، إحدى فتحاتها تطل على الكعبة المشرَّفة، فكان عليه الصلاة والسلام يمضي في هذا الغار - غار حراء -الليالي ذوات العدد.
وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون لكلٍ منا غارٌ صغير كغار حراء، مثلاً غرفته في البيت، أو غرفة الضيوف أحياناً، أو مكانٌ لا يدخل عليه أحد، فيقرأ القرآن، يفكِّر في خالق السماوات والأرض، يذكر الله عزَّ وجل، يسبِّح الله، ويفكر في خلق السماوات والأرض، هكذا.
جاءه الوحي وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال له: اقرأ، والنبي أمي لا يقرأ، والأميَّة في حق النبي كمال، لأن الله سبحانه وتعالى ما سمح له أن يتزوَّد بثقافات عصره، لأنه لو سمح له أن يتزوَّد بثقافات عصره، ثم جاء الوحي لاختلط وحي السماء مع ثقافات الأرض، فإذا تكلَّم سأله أصحابه كل يوم، وكل ساعة: يا رسول الله هذا الكلام من أين ؟ أمِن وحي السماء، أم من ثقافة العصر ؟ لذلك شاء الله عزَّ وجل أنْ تكون حكمته في أنْ ينحِّي عن النبي كل ثقافة العصر، وأن يجعل كلامه وحياً من عند الله عزَّ وجل..
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
( سورة النجم )
لكي لا نتوهَّم أن موضوع الوحي موضوع خيال، أو منام، أو أنّه عليه الصلاة و السلام كان نائمًا حالما، لا هذا ولا ذاك، بل إنّ جبريلَ عليه السلام عندما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ((اقْرَأْ "، فقال: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي - أي ضغط علي - حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ))
( من صحيح البخاري: عن: السيدة عائشة " )
كأن سيدنا جبريل لا يطالب النبي أن يقرأ من ثقافات الأرض، أراده أن يقرأ باسم الله عزَّ وجل الذي يعبده، أن يقرأ باسم الله الذي يمضي الليالي ذوات العدد في مناجاته، اقرأ باسم ربِّك، أخذني فغطَّني ـ أي ضمني ـ حتى بلغ مني الجهد، لئلا يتوهَّم متوهِّمٌ أن الوحي منام، أو أن الوحي رؤيا، بل الوحي وحي حقًّا، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات اليقظة، وفي أعلى درجات الوعي، وفي أعلى درجات التنبُّه، والدليل أن جبريل عليه السلام أخذه، وضمَّه حتى بلغ منه الجهد، المرَّة الأولى والثانية والثالثة.
يخطر في بالي الآن عندما قال الله جلَّ جلاله لسيدنا موسى في المناجاة:
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾
( سورة طه )
َمن الذي يسأل ؟ الله يسأل، فهل الله لا يعلم ؟ فالسؤال عندنا في البلاغة لطلب العلم لشيءٍ تجهله، الإله يسأل، قال العلماء: " الله جلَّ جلاله لفت نظر سيدنا موسى إلى أنّ هذه العصا بعد قليل ستكون أفعى ؛ ثعباناً مبيناً، ليكون هذا واضحاً في ذهنه، فالله سبحانه يهيِّئه حتى تكون المفاجأة أقلَّ وطأة.
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾
انظر إليها..
﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ﴾
تأكُّد، ليتأكَّد أنها عصاهُ، وبعد حين سوف تغدو ثعباناً مبيناً، فقال:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
( سورة العلق )
هذه أول آيات أُنزلت على النبي عليه الصلاة والسلام - اقرأ - فمِن فضل الله علينا أن ديننا دين علم، دين قراءة، دين حقيقة، دين عقل، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال له جبريل: اقرأ، قال: " ما أنا بقارئ "، أي أن النبي أراد أن يقول: أنا أُمِّي، أنا لا أقرأ ولا أكتب، فجاء الكلام: اقرأ باسم ربِّك.
وهذه الآية الكريمة تبيِّن حالَه بوضوح، قال تعالى:
﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16)﴾
( سورة يونس )
لبث النبي في قومه عمراً مديداً قبل أن ينزَّل عليه الوحي، فلو أن الوحي من عنده لجاء به في وقت مبكِّر.
والآية الثانية كذلك تؤكِّد أُمِّيته صلى الله عليه و سلم، قال تعالى:
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾
( سورة العنكبوت )
وكان بعض أعدائه يدَّعي أن هذا القرآن إنما تعلَّمه النبي من غلامٍ في قريش، مولىً من موالي العجم، فقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103)﴾
( سورة النحل )
غلام من الموالي أعجمي، افترى المفترون على النبي أن هذا الغلام الأعجمي هو الذي علَّم القرآن للنبي، فجاء الجواب:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103)﴾
لذلك بعضهم يفسِّر قوله تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
( سورة الرحمن )
أي الرحمن علَّم النبي القرآن، علَّمه القرآن، علَّمه بيان معاني القرآن، علمه تلاوته نصاً وروحاً، علَّمه حِكَمَهُ، علَّمه معارفه، علَّمه أسراره، علَّمه إشاراته، علَّمه خصائصه..
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾
( سورة الأعلى )
إنّ النبي لا ينسى إلا أن يشاء الله له أن ينسى، وإذا نسي النبي فلحكمةٍ تشريعيَّة، وقد صلَّى النبي بأصحابه الظهر ركعتين في غير سفر ولا عذر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ قَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالَ أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّر ثُمَّ سَلَّمَ ))
(متفق عليه)
نُسِّيت ركعتين كي أسن لكم سجود السهو، فأتى بركعتين أُخريين، وسجد للسهو..
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾
( سورة الأعلى )
أي إذا شاء الله لك أن تنسى فأنت تنسى لتشرِّع، أما الأصل فإنّك لا تنسى..
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾
( سورة القيامة )
أي إنّ الله عزَّ وجل تولَّى أن يحفظ النبيُّ القرآنَ، وأن يعلم معانيه وتفصيلاته وأحكامَه، وأن يعلم كل شيءٍ متعلِّقٌ به، من دون أن يقلق بنسيانٍ، أو بخطأٍ، أو بسهوٍ..
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)﴾
( سورة الأعلى )
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾
حتى لا يتوهَّم أحدكم أن هذه الميزات جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن تكون لغير النبي، وهذا مستحيل، لأن الله سبحانه وتعالى اصطفى النبيَّ من كل خلقه، اصطفاه لصدقٍ فيه، واصطفاه لحبٍ، وشوقٍ، ومعرفةٍ، وطاعةٍ، وكل هذه الميزات أهَّلته لأن يوحى إليه، ولأن يكون القرآن في صدره واضحاً لفظاً ومعنى.
قد يسأل أحدكم: ألم يفسِّر النبيُّ القرآنَ ؟ الجواب: السنة المطهَّرة كلُّها تفسيرٌ للقرآن الكريم، لكن أحياناً هناك آيات كونيَّة لم يرِدْ فيها تفسير، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة كأنّ الله سبحانه وتعالى مَنَعَ النبيَّ عليه الصلاة والسلام من أن يفسِّر الآيات الكونيَّة، لأنه لو فسَّرها تفسيراً مبسَّطاً يتناسب مع مفهوم العصر لأنكرنا نحن عليه هذا التفسير، ولو فسَّرها تفسيراً يتناسب مع التقدُّم العلمي والحقيقة المطلقة لأنكر أصحابه هذا التفسير، لذلك تُرِكت هذه الآيات لكل عصرٍ كي تُفهم وفق مقياس العصر، وهذه الآيات الكونيَّة التي لم يرِد في تفسيرها نصٌ، هي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، هي السبق العلمي للقرآن الكريم.
وفي كتاب لأحد العلماء، يبيِّن الأحاديث التي ذكرها النبي، وكيف استنبطها من كتاب الله ؟ حتى إنّ هذا العالم يقول: " إن أعلى علمٍ على الإطلاق أن تكتشف هذا الحديث الذي قاله النبي من أَيَّة آيَةٍ استنبطه ؟ "، طبعاً الكتاب فيه بعض الشواهد، لكن أنْ تكتشف كل حديثٍ قاله النبي من أيَّة آيةٍ استنبطه فهذا شيء من أرقى العلوم، لقد كان فهمُ النبي عليه الصلاة والسلام لكتاب الله أعلى فهمٍ على الإطلاق.
وبعد ؛ فها نحن ننتقل إلى مرحلة ثانية ؛ فقد كان سلوكه صلى الله عليه وسلم تجسيداً لفهمه، أي إن أعظم تفسيرٍ لكلام الله أن تقرأ سُنة رسول الله، وأعظم تفسيرٍ عمليٍ لكتاب الله أن تقرأ سيرة رسول الله، فسُنته القولية بيانٌ، وسنته العمليَّة تطبيقٌ.
مثلاً عندما قال الله عزَّ وجل:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
( سورة النصر )
ماذا قال عليه الصلاة والسلام عن هذه السورة ؟ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ))
(أحمد)
هكذا فهِم، فهِم أنه قد انتهت رسالته، قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغُمَّة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وما يقي عليه إلا أن يقبضه اللهُ إليه، قال: ((نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي))
لذلك ففي آخر أيامه، وآخر الأشهر التي عاشها النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر كلامه أنْ يقول كما روتْ عَنْه عَائِشَةُ قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا قَالَ جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ))
( رواه مسلم )
قال له:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
( سورة النصر )
فكان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية يقول دائماً: ((سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))
( من صحيح مسلم: عن " السيدة عائشة " )
كان عليه الصلاة والسلام يصف القرآن بأنه حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس فيه الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.
وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: " من أراد علم الأولين والآخرين فليتلُ القرآن "، أي إن أول وجه من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه فهِم كلام الله فهماً دَقيقاً دقيقاً، فهِم كل شيءٍ في كلام الله، وكما قلت قبل قليل: يعدُّ فهمُ النبي لكلام الله أعلى فهمٍ على الإطلاق، إذاً بيانه تفسيرٌ حقيقيٌ لكلام الله، وسيرته تجسيدٌ عمليٌّ لفهمه لكلام الله.
سيدنا علي كرَّم الله وجهه يقول: " لو تكلَّمت لكم على سورة الفاتحة لأوقرت سبعين جملاً "، سبعين جملاً محمَّلاً كتب عن الفاتحة وحدها، في وفي قول آخر: " جُمِع القرآن في الفاتحة، وجمعت الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين "، ودروس مدارج السالكين التي أكرمنا الله بها في هذا المسجد، كانت واحدًا وأربعين درسًا على ما أعتقد، فكل الكتاب ؛ مدارك السالكين في مراتب إياك نعبد وإياك نستعين، " جُمِع القرآن في الفاتحة، وجمعت الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين "، سيدنا علي يقول: "لو تكلَّمت لكم على سورة الفاتحة لأوقرت سبعين جملاً "، فما ظنُّك بعلوم رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟، طبعاً يكفينا قول الله عزَّ وجل:
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾
( سورة لقمان: من آية " 27 " )
لو أن كل أشجار الأرض أقلام، ولو أن بحار الأرض سبعة أمثال، وهذه الأقلام تكتُب من هذه البحار ما نفدت كلمات الله.
لذلك عندما قال ربنا عزَّ وجل..
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾
( سورة المائدة: من آية " 3 " )
هذا القرآن الكريم كاملٌ وتام، عدد القضايا التي عالجها القرآن تامة، وطريقة المعالجة كاملة، هذا التشريع يغطي كل حاجات البشر إلى يوم القيامة، فإن لم تجد في الإسلام تشريعاً يغطي حاجةً فهذا من تقصير المجتهدين، ما من شيءٍ نحتاجه في التشريع إلا وهناك آيةٌ أشارت إليه، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ.
الوجه الأول أن أحد أكبر فقرات العلم الذي أكرمه الله بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم العلمُ بكتاب الله.
وبعد ؛ إليكم استنباطاً مهِمًّا أيها الإخوة ؛ أعلى علم يمكن أنْ تصل إليه أنْ تفهم كلام الله، أي إنك إذا وفِّقتَ إلى فهمِ كلام الله، وفهم دقائق الآيات، فهم المعاني الصحيحة، والأبعاد العميقة لكلمات الله عزَّ وجل فهذا أعظم عطاءٍ على الإطلاق، لأنه عطاء النبي عليه الصلاة والسلام.
أمّا الوجه الآخر، ونكتفي بهذا الوجه الثاني لأن هناك خمسة أو ستة أوجه، والوجه الآخر من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام الحكمة التي أنزلها الله عليه. الدليل:
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
( سورة النساء: من آية " 113 " )
الكتاب القرآن، تكلَّمنا عنه قبل قليل، فما الحكمة ؟
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)﴾
( سورة الأحزاب )
الحكمة كما قال الإمام الشافعي: " هي السنة الظاهرة في أفعاله، وأقواله، وأحواله، وإقراره "، الحكمة سنة النبي قولاً، وفعلاً، وحالاً، وإقراراً.
قال العلماء: " سميت السنة النبويَّة حكمة لأن الحكمة تشتمل على سداد القول، وصواب العمل، هكذا عُلِّمنا سابقاً، الفرق بين الفلسفة والحكمة، قد تكون فيلسوفًا دارسًا، ولك نظريات في الفلسفة، لكنك لست حكيماً ما لم تطبِّق مبادئك، كلمة الحكمة تعني جانبًا نظريًا وجانبًا عمليًا، لذلك التعريف دقيق، الحكمة تشتمل على سداد القول وصواب العمل ـ وإيقاع ذلك في مواقعه، ووضعه في مواضعه، ولاشكَّ أن أقواله عليه الصلاة والسلام، وأفعاله، وأحواله، وإقراره هي عين الحكمة ".
إذاً الوجه الثاني من وجوه علوم النبي عليه الصلاة والسلام بعد القرآن الحكمةُ.
الآيات:
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
( سورة النساء: من آية " 113 " )
العلماء قالوا: الحكمة هي السُنَّة، لكن هذه الحكمة أُوحِيت إليه عليه الصلاة و السلام وحيًا، قال تعالى:
﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
أي إنّ سُنَّة النبي أوحيت إليه وحياً، لذلك يقول علماء الأصول: " سنة النبي وحيٌ غير متلو، والقرآن وحيٌ متلو "، والدليل:
﴿وَمَا يَنْطِقُ﴾
( سورة النجم: من آية " 3 " )
لو قلنا: وما يتلو عن الهوى، معنى هذا أنّ القرآن وحي وحده، لكن..
فأيُّ نطقٍ نطقه النبي فهو وحيٌ من الله عزَّ وجل..
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
فالذي ينطق به النبي قرآنٌ متلو، أو سنةٌ غير متلوَّة.
والحديث الذي يؤكِّد هذا، رواه أبو داود عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ))
(رواه أبو داود)
المراد بمثله، معه السنة أيضًا كما ذكر جمهور العلماء.
وهذه بعض الأدلَّة ؛ ورد في الصحيحين واللفظ للبخاري، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ قِيلَ وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ قَالَ زَهْرَةُ الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا - أي عرفنا - أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ قَالَ أَنَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ قَالَ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ - أي إن الدابة إذا رعت كثيراً فملأت بطنها ربَّما تموت من شدة الأكل، أو تمرض - إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرَةِ - أي إذا أكلت أكلاً معتدلاً وحشيشاً يانعاً - أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ))
(متفق عليه)
صحابي سأل، ورسول الله جاءه الوحي فقال: " أين السائل ؟ " قلت: " أنا " فأجابه: أي إنّ الخير لا يأتي إلا بالخير، فكيف يأتي الخير بالشر ؟ بالإسراف، الدنيا خضرةٌ نضرة، فإذا أكل الإنسان كالدابة، وأكل ثم شرب، ثم أكل، وأكل، وأكل فإنه يموت أو يمرض، أما إذا أكل باعتدال، فهذا الطعام يقوِّيه، وهذا المعنى، من أخذه بحقه ـ المال ـ ووضعه في حقِّه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع، فهل هذا الحديث واضح ؟.
من أخذ المال بحقه ـ من مصادر مشروعة ـ وأنفقه في حقه كان المال نعمةً له، أعانه على دينه ودنياه، لكن من أحب المال حباً جماً ـ أحبه لذاته ـ فأخذ منه حلالاً أو حراماً، وأنفقه في حله وفي غير حلِّه أهلك نفسه، فهل يا ترى المال أتى بالشر ؟ لا، فالشر أتى من سوء استخدام المال، الشر لا يأتي من الخير، لكن الخير إذا لم تستخدمه وفق منهج الله أصبح شراً، هذا المعنى.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ:
((إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالْأُخْرَى فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَ خَيْرٌ هُوَ ثَلَاثًا إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ ـ أي يقتل الدابَّة، أو يمرضها ـ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ ـ هذه الدابَّة ـ كُلَّمَا أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
(متفق عليه)
استدل علماءٌ كثيرون بهذا الحديث على أن الحديث النبوي هو نزل بالوحي من عند الله عزَّ وجل.
شيءٌ آخر ؛ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ كَانَ يَقُولُ لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالطِّيبِ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ:
((أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ))
( رواه البخاري )
هذا دليل ثانٍ على أن السنة أيضاً جاءت النبي بالوحي.
أيها الإخوة ؛ لنا وقفةٌ ثانية مع علم النبي عليه الصلاة والسلام، والوقفة الثانية يجب أن نقفها بتأنٍّ شديد، لأنّ موضوعها الحديث عن المغيَّبات، وعن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لكن قبل أن نختم الدرس، أسوق لكم بأنّه عليه الصلاة والسلام أحياناً كان يكشف عن خبايا النفوس، لا بذاته، ولكن بإعلام الله له.
روى الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: " رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يمشي، والناس يطؤون عقبه ـ يمشون على أثره من شدة حبهم به، أي يمشون وراءه ـ فقال أبو سفيان في نفسه: " لو عاودت هذا الرجل في القتال، وجمعت له جمعاً ـ يحدِّث نفسه، أي لو عاودت هذا الرجل في القتال، أقاتله مرَّة ثانية، وجمعت له " فجاء عليه الصلاة والسلام حتى ضرب في صدر أبي سفيان تحبُّباً، وقال له: " إذاً نخزيك "، فقال أبو سفيان: "أتوب إلى الله وأستغفر الله، ما أيقنت أنك نبي إلا الساعة، إني كنت لأحدِّث نفسي بذلك ".
أبو سفيان كان يحدِّث نفسه بعدما مشي خلف النبي، قال: والله إني أنوي أنْ أعمل له مشكلة ثانية، أجمعُ الناس عليه وأحاربه، فضرب النبي عليه الصلاة و السلام على صدره، وقال: " إذاً نخزيك "، فقال أبو سفيان: " أتوب إلى الله وأستغفر الله، ما أيقنت أنك نبي إلا الساعة، إني كنت لأحدِّث نفسي بذلك ".
وهذه قصَّة أخرى دقيقة، فقد روى ابن هشام وغيره أن فضالة بن عمير همَّ أن يقتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا من النبي قال له عليه الصلاة والسلام: " أفضالة - أيْ يا فضالة - " فقال: " نعم يا رسول الله "، قال: " ماذا كنت تحدِّث به نفسك ؟ "، قال: " لا شيء، كنت أذكر الله "، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال له: "استغفر الله - أي مما حدَّثت به نفسك وقولك لا شيء -، ثم وضع رسول الله يده على صدر فضالة، فسكن قلبه ـ أي ثبت فيه الإسلام ـ فكان فضالة يقول: " والله ما رفع النبي يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إليَّ منه ".
يحدِّث نفسه بقتله، فقال له: " يا فضالة ماذا كنت تحدِّث به نفسك ؟ ". قال: " أذكر الله". فضحك النبي، شتَّان بين ما يحدِّث نفسه وبين ما قال، طبعاً هذه من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، أكرمه الله بأن أطلعه على بعض الخبايا.
والقصَّة التي تعرفونها جميعاً، وقد ذكرتُها كثيراً، عمير بن وهب عندما التقى مع صفوان بن أميَّة وقال له: " والله لولا ديون ركبتني، وأولادٌ أخشى عليهم العنت، لذهبت إلى محمدٍ وقتلته وأرحتكم منه "، فصفوان استغل هذه البادرة فقال له: " ديونك علي بلغت ما بلغت وأولادك أولادي ما امتد بهم العمر فاذهب لما أردت ".
فلما ذهب إلى المدينة وقد سقى سيفه سُمًّا، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقاده من حمالة سيفه إلى النبي، وقال: "هذا عدو الله جاء يريد شراً "، فالنبي الكريم قال له: " دعه يا عمر، ابتعد عنه، تقدَّم يا عمير، اجلس، وسلِّم "، قال له: "عمت صباحاً "، قال له: " قل السلام عليكم " قال: " لست بعيداً بعهد الجاهليَّة "، قال له: " ما الذي جاء بك إلينا ؟ " قال له: "جئت أفدي ابني من الأسر ". قال له: " وهذا السيف التي على عاتقك ؟ " قال له: " قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ ". قال له: " أما قلت لصفوان كذا وكذا وكذَا "، فوقف، وقال: " أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله ".
هذه من خصوصيات النبي، أن الله سبحانه وتعالى أطلعه على خبايا النفوس ـ طبعاً ليس دائماً ولكن أحياناً، وثمَّةَ أحوال ما أطلعه الله سبحانه عليها، فقد جاء وفد من إحدى القبائل، وطلب علماء وقُرَّاء، ولبَّى له النبي طلبه، وقتلوهم في الطريق، وكانوا سبعين قارئًا، معنى هذا أنّه إذا عرف خبايا النفوس فليس بذاته، بل بإطلاع الله له.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:18 AM   #7


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السابع )

الموضوع : خلقة العظيم - وانك لعلى خلق عظيم








الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وننتقل اليوم إلى خُلقه العظيم، بعد أن تحدثنا عن كمال عقله، وعن كمال علمه.
أيها الإخوة الكرام ؛ الأصل في هذا الموضوع قول الله عزَّ وجل في سورة القلم:
﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه، فرأوا في الطريق إنساناً مجنوناً، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه سؤال العارف فقال: ((من هذا ؟ قالوا: مجنون، قال: لا، هذا مبتلى، المجنون من عصى الله))
أي إن العقل السليم يجب أن يهدي صاحبه إلى معرفة الله، وإلى طاعته، ويمكن أن تمتحن عقلك امتحاناً دقيقاً، فكلما هداك إلى الله كان عقلك أرجح، لذلك ورد في الحديث الشريف: ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
هنا نقف أمام مشكلة محيِّرة، قد تجد إنسانًا يحمل أعلى شهادة ؛ بورد مثلاً، متفوقًا في اختصاصه تفوقًا مذهلاً، أحد فلتات العصر في اختصاصه كما يقال ؛ في الآداب، في العلوم، في الفيزياء، في الرياضيات، وتراه لم يعرف ربه، وهو غارقٌ في المعاصي، وقد يشرب الخمر، ولا يصلي، فكيف توفق بين هذه الظاهرة، وبين أن الدين هو العقل، وأنه من لا عقل له لا دين له؟
هذه المشكلة أشار إليها بعض العلماء إشارة لطيفة، فميَّز بين العقل والذكاء، وقال: "الذكاء يتعلق بالجُزئيات، والعقل يتعلق بالكليات ".
ما كل ذكيٍ عاقلاً، ولا يسمَّى الإنسان عاقلاً إلا إذا عرف الله، لا يسمى الإنسان عاقلاً إلا إذا أدرك كليَّات الحياة، لماذا أنت في الحياة ؟ لذلك لا تؤخذ بإنسانٍ متفوق في اختصاصه وهو يعصي الله، هذا لا يسمى عاقلاً، بل يسمى ذكياً، والله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغةٍ أرادها جعل أحطَّ الحيوانات من أذكى الحيوانات، الحيوانات التي تعيش في المجاري هي من أذكى الحيوانات، وهناك دراسات تؤكِّد أنها تتمتع بذكاء يندر مثيله من بين الحيوانات، فالذكاء وحده ليس قيمةً يعتدُّ بها في ميزان المكارم.
إذاً النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
( سورة القلم )
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
( سورة هود )
يجب أن تشعر أيها الأخ الكريم بنعمة الله عليك، فإذا تفضَّل الله عليك بمعرفته، وطاعته، إذَا تكوّنتْ لديك فكرة صحيحة عن خالق الكون، وصار عندك فكرة صحيحة عن منهجه، ففي الأعم الأغلب عندئذٍ أنت مستقيم على منهج الله عزَّ وجل، فلا تأكل مالاً حرامًا، ولا تعتدي على أعراض الناس، بل تعرف حدك فتقف عنده، وهذه نعمةٌ عُظمى، بل هذه النعمة المطلقة المُطلقة..
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾
( سورة الفاتحة )
المغضوب عليهم هم الذين عرفوا وعصوا، والضالون لم يعرفوا، ولم يطيعوا، والذين أنعم الله عليهم هم الذين عرفوا ربهم، وأطاعوه..
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 71 " )
فالبطولة ألاّ يتأثر الإنسانُ بكلام الآخرين..
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)﴾
( سورة يوسف )
فعامة الناس ؛ تائه، ضال، شارد، جاهل، لا يعلم، فالناس يعظمون أرباب الأموال، يعظِّمون الأغنياء، الأقوياء، يعظمون من أوتوا حظوظاً من الدنيا كبيرة، ولكنهم قد لا يأبهون لمؤمن خشع قلبه، واستنار عقله، وضبط سلوكه.
طبعاً موطن الثقل، أو موطن الشاهد في هذه الآية:
﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾
( سورة القلم )
على صبرك على هؤلاء، وعلى دعوتك إليهم، أجر غير مقطوع.
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
اسمحوا لي أيها الإخوة أن أقول لكم: الدين بمجمله خلقٌ حسن، و هناك أحاديث كثيرة صحيحة تزيد عن خمسين حديثًا، تؤكِّد أن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً، وأن أكمل المسلمين إسلاماً أحسنهم خلقاً، وأن الخلق الحسن ذهب بالخير كله، وأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب النار الثلج، الخلق الحسن هو الدين.
السبب أنّ الإنسان أيها الإخوة مخلوقٌ لحياةٍ أبدية، ثمن هذه الحياة الأبدية أن ينهى النفس عن الهوى، والخلق الحسن هو ضبطٌ للهوى..
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)﴾
( سورة الليل )
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾
( سورة النازعات )
الشجاعة معاكسة لميل حب السلامة، السخاء معاكس لميل حب المال، أداء العبادات يتناقض مع راحة الجسم، فلو أردت أن تعدد تكاليف الدين لوجدت أن الدين كله عملية ضبط للنزوات والأهواء، فكلما كان ضبطك أشد كان مقامك أعلى عند الله عزَّ وجل.
فحقيقة الدين تتوافق مع الفطرة، ولكنها تتناقض مع الطبع، الجسم يحب الراحة، والتكليف أن تصلي، الجسم يحب أن يقبض ذوات الخمسمائة من الليرات، والتكليف أن تدفع، الجسم يحب أن يتسلَّى، ويلهو بأحاديث الناس وقصصهم، والتكليف أن تسكت، الجسم يحب أن ينظر إلى المحرَّمات، والتكليف أن تغض البصر.
فالخلُق الحسنُ ضبط للنزوات، ضبط للشهوات، ضبط للأهواء، فإذا أردت أن تلخص الدين كله، فالدين خلُق حسَن، والإنسان الذي لا دينَ له يأكل ما يريد، يتكلم ما يشاء، يذهب إلى حيث يشاء، يعطي نفسه كل أهوائها، الدين إنسان منضبط، وغير الدين إنسان متفلت.
قلت يومًا في خطبة جمعة: الناس رجلان ؛ موصول منضبط محسن، ومقطوع متفلت مسيء، ولن تجد إنساناً ثالثاً، على الرغم من أن هناك تقسيمات كثيرة كثيرة كثيرة، يقول لك: الشمال والجنوب، والشرق والغرب، والعنصر الآري والعنصر السامي، والسود والبيض والملونون، والدول المتخلفة، والنامية، والمتقدمة، والشعوب ذات البنية الخاصة، وصنفوا الشعوب تصنيفات عديدة، فهناك أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء، ومثقفون وغير مثقفين، كل هذه التقسيمات تنتهي يوم القيامة إلى فريقين ؛ إنسان أول:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)﴾
( سورة الليل )
وإنسانٌ آخر:
﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)﴾
( سورة الليل )
إنسانٌ أول:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾
( سورة النازعات )
وإنسان آخر: ((وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ))
(رواه الترمذي)
إنّها عملية فرز في صنفين، قلت هذا مفصلاً في درسٍ سابق: إنّ الناس مؤمن وكافر، مشرك وموحِّد، منضبط ومتفلت، محسن ومسيء، مستقيم ومنحرف، مخلص وخائن، مقسط وظالم.
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
أي إنّ وصف ربنا عزَّ وجل جامع مانع، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن أعظم الخطباء على الإطلاق ؟ نعم ؟ أما إنّه كان أعظم المحدثين ؟ فنَعَمْ، ما كان أعظم العلماء ؟ نعم، وأعظم القادة، وأعظم المتكلمين، لكن الله حينما وصفه فبماذا وصفه؟:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
وصفه الوصف الذي يرفعه، فإذا أوتي شخصٌ مقدرة كلامية، أو ذاكرة قوية، أو محاكمة جيدة، قد يتفوق، ولكنه لا يرقى عند الله إلا بخلقه العظيم، ولو تتبعت ما في السنة النبوية الشريفة لوجدت أن الخير كله في الخُلُق العظيم.
وقد ذكرت لكم كثيراً أن هذه الآية:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
(على) تفيد الاستعلاء والتمكُّن، أي إنّ النبي عليه الصلاة والسلام متمكن من خلقه العظيم، لكن بعض الذين أحياناً يتخلَّقون بأخلاق جيِّدة فبعدَ بعد صراع، وبعد انتصار على أمرٍ صغير، يقول لك: عانيت معاناة شديدة، ثم انتصرت على نفسي، أما النبي عليه الصلاة والسلام فخُلُقُه العظيم يعني أنه متمكن.
هذا وصف عام..
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
( سورة القلم )
وبعد، فما هو إذًا هذا الخلُق ؟
إذا دخلنا في التفاصيل، ما هو هذا الخلق ؟ فعَنِ الْحَسَنِ قَالَ سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ))
(رواه مسلم، وأحمد، واللفظ له)
فالقضية سهلة، وأرجو الله سبحانه وتعالى إذا قرأنا القرآن أن نقيس أنفسنا بآياته دائماً، فمثلاً أين أنتَ من قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾
( سورة الأنفال )
أين أنت من هذه الآية ؟
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾
( سورة البقرة )
أين أنت من هذه الآية ؟
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)﴾
( سورة المؤمنون )
ثمّ أين أنت من هذه الآية ؟
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً(64)﴾
( سورة الفرقان )
هذا الذي أرجوه من الله عزَّ وجل، إذا قرأت القرآن أن تسأل هذا السؤال الدائم: أين أنا من معاني هذه الآية ؟ أنا مع من ؟
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾
( سورة البقرة: من آية " 222 " )
هل أنت من التوابين ؟
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)﴾
( سورة التوبة )
إن الله يحب الصادقين، إذا قرأت القرآن دائماً اسأل نفسك: أين أنت من هذه الآيات ؟ النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت السيدة عائشة ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ))
(رواه مسلم، وأحمد، واللفظ له)
يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
فمثلاً أنت زوج، متى تغضب في البيت ؟ إذا لم يكن الأكل جاهزاً، أما إذا كان خروج ابنتك لا يرضي الله عزَّ وجل فأنت متساهل، والتساهل شديد، ففي أمور خروج بناتك، وأمور إقامة الحدود، وأمور إقامة الشرع تتساهل، ولكنْ في موضوع الطعام والشراب تغضب، الأكمل أن تغضب إذا انتهكت حرمةٌ من حرمات الله عزَّ وجل، لذلك يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وما الذي يغضبك كفي عملك ؟ إنْ لم يدفع لك إنسانٌ تغضب !! فهذه علاقة غير صحيحة، وكذلك قد يكون لديك علاقة ربوية ولا تغضب لها ‍‍! متى يكون خلقُك القرآن ؟ إذا غضبت لغضب القرآن، و رضيت لرضاه.
ومرةً ثانية، إذا قرأت القرآن فاسأل نفسك هذا السؤال دائماً: أين أنا من هذه الآية ؟ أنا مع من ؟
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾
( سورة الشورى )
أنت مع من ؟
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
( سورة النحل )
أنت مع من ؟ كلما قرأت آيةً صنِّف نفسك مع إحدى فقراتها.
وروى ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:
((كان أحسن الناس خلقاً، كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً، ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ثم قالت: اقرأ:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾
إلى عشر آيات، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله))

كأن درسنا اليوم اقرأ القرآن، ودائماً وازن بين أخلاقك والوصف القرآني للمؤمنين، فإذا تطابقا فهذه نعمة الله العظمى، إذا كان الفارق بسيطًا فحاوِلْ أن تقلِّل من هذا الفارق، إلى أن تطابق أخلاقك مع وصف القرآن الكريم لأخلاق المؤمنين.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

((ما كان أحدٌ أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ))
فلذلك أنزل الله تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
لبيك، تواضعٌ مع الناس لا تصده أبراج عاجية، ولا تمنعه حواجز شكلية، ما دعاه أحدٌ من الناس أو من أصحابه أو من أهل بيته إلا قال: لبيك، فلذلك أنزل الله تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
أحياناً يدعوك فقير فيجب أن تلبي، ويدعوك إنسان ضعيف الشأن في المجتمع فيجب أن تلبي، فكلما كنت متواضعًا مع الناس ؛ مع فقرائهم، مع مساكينهم، مع الطبقة الدنيا من المجتمع، تألَف وتؤْلَف، تعطي وتأخذ، فأنت على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وفي كل مرةٍ يردُّ عليه النبي ويقول: " لبيك لبيك "، أحياناً الإنسان يُقرع جرسُ بيتِه، فينتظر قليلاً، يتجاهله صاحب البيت، يتوضأ، لكنه عليه الصلاة والسلام نودِيَ، ثلاث مرات، وفي كل مرة يقول له: " لبيك لبيك، لبيك لبيك، لبيك لبيك ".
إخواننا الكرام ؛ دققوا في هذه الفكرة: إذا سمح الله عزَّ وجل لك أن تكون في خدمة عباده، فيجب أن تقوم بهذا العمل على أتمِّ وجه، وإذا طلب الإنسان من الله عزَّ وجل أن يكون باباً له، فعليه أن يكون مع الناس بأعلى درجات التواضع والخدمة، لأنه كما قال بعض الصالحين: " يا رب، لا يطيب الليل إلا بمنجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك ".
أي إنّ أساس الدين أنّ هذا الخالق العظيم خلقك، ولم تكن شيئاً مذكوراً، فأنعم عليك بنعمة الإيجاد، ثم أنعم عليك بنعمة الإمداد، وأخيرًا عليك بنعمة الهدى والرشاد، وأنت لا تملك إلا أن تخدم عباده اعترافاً بهذا الفضل، فأساس الدين خدمة الخلق تقرباً للحق، ولا تميز بين عبدٍ وعبد، كلهم عبادٌ لله عزَّ وجل، ولا سيما أنك إذا خدمت غير المسلمين، ورأوا من كمالك، ومن رحمتك، ومن اهتمامك، ربما جلبتَهم إلى هذا الدين، وإذا أسأت إليهم نفَّرتهم عن هذا الدين.
وروى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ))
أما أحسن الناس وجهاً ليس المقصود به الجمال المادي، المقصود أن الإنسان إذا صفت سريرته ظهر هذا الصفاء في وجهه، تنظر إلى وجهه فترتاح له، قد يكون ملوَّنًا، لكنك تشعر أنّ فيه صفاء، تشعر أنّ فيه روحانية، وفيه تألق، فيه نور، لا أقصد أبداً جمال الصورة المادية، أقصد أنك إذا نظرت إلى مؤمن رأيت في وجهه نوراً، رأيت في وجهه صفاءً، رأيت في وجهه تألُّقاً، هذا التألق وذاك الصفاء وهذا النور انعكاس لصفاء نفسه، ونورانيَّة قلبه، وكمال خلقه، هذا معنى كونِ النبي عليه الصلاة والسلام أحسنَ الناس وجهاً، وأحسنهم خلقًا، ويضاف إلى ذلك أن وجه النبي عليه الصلاة والسلام كان كالبدر، كان من أجمل الوجوه، إضافة إلى النورانية، وإلى التألُّق والصفاء، كان من أجمل الوجوه خَلْقًا.
وأحسن منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساءُ
خلقت مبرَّأً من كل عيبٍ... كأنك قد خلقت كما تشاءُ
* * *

بالمناسبة في حياة كل واحدٍ منا ثلاث شخصيات ؛ شخصيةٌ يكونها هو، وشخصيةٌ يكره أن يكونها، شخصيةٌ يتمنَّى أن يكونها، قل لي ما الشخصية التي تتمنى أن تكونها أَقُلْ لك من أنت ؟ أحياناً إنسان ينظر إلى تاجر كبير، مكاتب فخمة، سيارات، أجهزة، صفقات كبيرة، عنده موظفون كُثُر، أحلامه تنصب على هذا النموذج، وقد يكون الإنسان في جامعة، وفي وظيفة متواضعة يرى أستاذًا ذا كرسي مثلاً، يداوم ساعتين أو نحوهما، له مكتب فخم، والطلاب حوله، وله مؤلفات، فهذا هو الشخصية التي يتمنى أن يكونها هذا الشخص مثلها.
أما المؤمن وأقول لكم هذا الكلام بدقة بالغة، المؤمن لا يتمنى إلا أن يكون على أثر هذا النبي العظيم، وإذا دخل بيته وعمل عملاً، فليتساءل: يا ترى هل كان النبي يفعل هذا ؟ إذا عَامَلَ أخًا، يا ترى أهكذا علمنا النبي ؟ دائماً يقيس سلوكه بسلوك النبي، لأن الشخصية الأولى التي يتمنى أن يكونها المؤمن أن يكون على منهج النبي عليه الصلاة والسلام.
قال الرواة: " فهو عليه الصلاة والسلام أجمل خلق الله خَلْقاً وأكملهم خلُقاً، بل هو فيّاض المكارم والكمالات ".
في مسند أحمد وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ))
(أحمد)
وفي رواية أخرى: ((إنما بعثت معلماً، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))
هذا حديث خطير، وهذه اللام لام التعليل، أي أن علة بعثته صلى الله عليه وسلم، غرس القيم الخُلقية في المجتمع البشري، معنى ذلك أنّ العلم في الإسلام وسيلة وليس غاية، فإذا انحرف الإنسان ظن أن العلم وحده هو كل شيء، فيحقق، يمحص، يدرُس، يحفظ، يؤلِّف إلى أن يغدو أحد أقطاب زمانه، لكن ليس لديه أيّ استقامة في سلوكه، أو ليس لديه أيّ عمل صالح، وليس عنده قلب متألق بحبِّ الله عزَّ وجل، فلم يعرف جوهر الدين، وأنّ جوهر الدين الخلقُ العظيم، لأنه ثمن جنة الله عزَّ وجل إلى أبد الآبدين.
وروى الإمام مالك في الموطأ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ))
الإمام أحمد في مسنده: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ))
لكنَّ رواية الإمام مالك في الموطأ: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))
قال الإمام الجنيد: " إنما كان خلقه عظيماً لأنه لم يكن له همةٌ سوى الله تعالى "، تحليل دقيق، إذا كانت للإنسان مطامح دنيوية، مآرب دنيوية، يتخلق بأخلاق تتناسب مع هذه المطامح، ويقول لك: دبَّرت نفسي، ألف قلبة ولا غلبة، إذا كانت مطامح الإنسان دنيوية، يتخلق بأخلاق تناسب هذه المطامح، أما إذا كان الإنسان ليس له همةٌ إلا الله سبحانه، فهذا هو الهمُّ العظيم، وهذا التوجُّه الكبير له خلقٌ يناسبه، أمّا الشخص المادي فلا تهمه سمعته، بل يهمه أن يحصِّل أكبر مبلغ ممكن بأقل جهد ممكن.
إنّ الإنسان الذي همُّه الله، همه تقريب الناس من الله، همه الدعوة إلى الله، همه تحبيب الناس بهذا الدين، تجد أخلاقه تتناسب مع هذا الهم، يتواضع لهذا الهدف الكبير، يتطامن لهذا الهدف السامي، يرحم الناس لهذا الهدف، يعفو عنهم لهذا الهدف، يعطيهم لهذا الهدف، يبذل من وقته وجهده وماله لهذا الهدف، صار البذل، والعطاء، والكرم، والرحمة، والتساهل، والعفو، والحلم، أخلاقَ مَن كان همُّه الله.
من كان همُّه الربحَ تجده حريصًا، يحاسب، يتشدد، الذي همه الدعوة إلى الله عزَّ وجل يتخلق بأخلاق تتناسب مع هذا الهم العظيم مِن دون أنْ يشعر، لذلك فالإمام الجنيد قال: " إنما كان خلقه عظيماً لأنه لم يكن له همٌ سوى الله تعالى ".
في قول آخر: "إنّ النبي عليه الصلاة والسلام جمع مكارم الأخلاق التي جاءت بها الأنبياء قبله "، كل المكارم الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء قبله جمعها النبي صلى الله عليه وسلم وزاد عليها.
والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 159 " )
الآيات القرآنية أحياناً لها وجوه عديدة، فحينما أودع الله في قلب النبي هذه الرحمة، من نتائج هذه الرحمة اللين مع عباد الله، الرحمة تساوي اللين، والقسوة تساوي الغلظة، الرحمة أساسها الاتصال بالله، اتصال، رحمة، لين، انقطاع، قسوة، فظاظة، وهذه الآية قانون:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾
بسبب الرحمة التي في قلبك لنت لهم، هذه الآية لنا نحن المؤمنين، كلما حصلت على مزيد رحمة من الله عزَّ وجل لانَ قلبك للناس، فترحمهم، وتعفو عنهم، وتأخذ بيدهم،و تتجاوز عن أخطائهم، وتتمنى لهم السعادة، بسبب هذه الرحمة التي استقرَّت في قلبك عن طريق الاتصال بالله عزَّ وجل لنتَ لهم، ولو لم تكن في قلبك هذه الرحمة لكنت قاسياً معهم، فإذا كنت قاسياً معهم نفروا منك، انفضوا عنك، آية دقيقة ؛ اتصال، رحمة، جذب، انقطاع، قسوة، نفور، إذا أردت أن يجتمع الناس حولك فارحمهم، تواضع لهم، تجاوز عن سيِّئاتهم، خذ بيدهم، أعطهم، ابذل لهم من وقتك، من جهدك، من علمك، إذا أردت أن ينفض الناس من حولك كن قاسياً معهم، هذه الآية قانون:
﴿فَبِمَا﴾
الباء سببية، بسبب الرحمة التي استقرت في قلبك لنت لهم، ولو لم تستقر هذه الرحمة في قلبك لقسوت عليهم، فإذا قسوت عليهم لكنت..
﴿كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
هذا معنى أوّل، أمّا المعنى الثاني: فأنت على أنك نبيٍ، وعلى أنك مرسل، وعلى أنت معصوم، وعلى أنك يوحى إليك، وعلى أنك مؤيدٌ بالمعجزات، مع كل هذه الميزات..
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
فإذا لم يكن الإنسان معصوماً، ولا يوحى إليه، وليس مؤيداً بالمعجزات، ولا هو نبي ولا هو رسول، وكان فظًّا وغليظًا مع الناس، فهذا الذي جمع كل هذه الصفات، لكن ينفضّ الناس مِن حوله، وينبذونه.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
لو لم تكن للإنسان أيّة ميزة، وكان فظًّا وغليظًا، فهذا ما أنزل الله به من سلطان.
لكن كان عليه الصلاة والسلام، ليِّن الجانب، سهل الخلق، حسن المعاشرة مع الأهل والأصحاب وسائر الناس، يعطي جليسه حظاً كبيراً من الانبساط والملاطفة وحسن المقابلة.
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كَانَ إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((... أَجْوَدُ النَّاسِ كَفَّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ...))
أيها الإخوة ؛ أرجوكم ألاَّ تظنوا أن هذا وصفٌ للنبي فقط، بل هذا هدف لنا جميعاً، فإذا قرأت أن النبي كان أصدق الناس لهجةً، يجب عليك ألاّ تكذب أبداً، لا تقل: عندي أولاد، وأنا مضطر، هكذا مصلحتي، فالله هو الرزاق، لا تصغر نفسك، فالصادق كبير موَقَّر، وأكبر مطبٍّ يقع فيه المسلمون كلما قرأ عن صفات رسول الله يقول: هذا نبي، من قال لك: إنك لست مأموراً أن تكون على شاكلته ؟ " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ".
ما هو جهاد النفس والهوى ؟ التوفيق المستمر دائماً بين أخلاقك، وأخلاق النبي، هذا جهاد النفس والهوى، فكان أجود الناس صدراً، وأصدقهم لهجةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً.
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
((لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا))
((يا داود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جُبِلتْ على حب من أحسن إليه))
لا تقدر كداعية أنْ تستقطب الناس، وأنْ تجمع الناس إلا بالخلق الحسن، لا بالعلم، العلم ضروري، وشرط لازم لكنه غير كافٍ، ومتى يصغي الناس إليك ؟ إذا أُعجِبوا بأخلاقك، عندئذٍ يصغون إليك، فأنت قبل أن تلقي العلم على الناس و تعلِّمهم عليك أن تكون ذا خلقٍ حسن، فأحياناً الإنسان تكون أخلاقه غير مكتملة، فينصح والدَه مثلاً، فوالدُه يقسو عليه، أما لو أنّ الأب رأى ابنه في كمال، ومع هذا الكمال قدّم نصيحة أديبة لأَصبحت مقبولة، لا تقدر أن تؤثر بالآخرين إلا بالخلق الحسن، ولا تستطيع أن تجعل الناس يصغون إلى كلامك إلا إذا أحسنت إليهم.
قالوا: ومن لطفه صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يقابل أحداً بما يكره، هناك أناس تجد عندهم شدّة في مواجهة الناس على أخطائهم، يقول مثلاً: أنت كاذب، فهذه ثقيلة، أما لو قلت: كأن ليس هناك دقة في وصفك، فهذه كذلك ككلمة كذَّاب، ولكنها ألطف، أو تقول: أنا أظن الأمر خلاف ذلك، ويغلب على ظني أن الأمر خلاف ذلك، معناها كذاب، لكنها ملطفة كثيراً، فالإنسان أحياناً كلما ارتقت نفسه ينتقي أجمل العبارات، والله عزَّ وجل قال:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)﴾
( سورة فصلت )
كلمة " أحسن " اسم تفضيل، وأنتَ أيها المسلم عليك أنْ تتنقي أجمل العبارات، ومن لطفه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يقابل أحدًا بما يكره.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ))
(رواه البخاري)
فالسلف الصالح كانوا يقولون عند معاتبتهم شخصًا: اللهم ارضَ عليه، فلان أغضبني، سامَحَه الله، تجد كلمات أحياناً من امرأة أمية، لكن ليس عندها كلمة قاسية، حتى لو أنها عتبت على ابنها، حتى لو أنها غضبت عليه: الله يسامحه، الله يبعث له الهناء، واللهِ الكلام اللطيف جميل، " ماله تربت جبينه"، اللهم صلِّ عليه، والحقيقة أن الإنسان بالكلام الطيب تلين له القلوب، والفرقُ بين الذي يحسن والذي يسيء الكلمةُ الطيبة، النبي قال: ((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ))
( البخاري: عن " أبي هريرة " )
يمكن ألاّ تشعر بهذه القيمة أمام أندادك، أحياناً يكون صاحب محل عنده صانعون، مدير مؤسسة عنده موظفون، مدير مدرسة عنده مدرسون، مدير مستشفى عنده ممرضون مثلاً، لا تعرف قيمة الكلمة الطيبة إلا القمّة، أحياناً مدير مستشفى رأى ممرضًا أو آذنًا: كيف الصحة يا بني، إن شاء الله أنت مرتاح ؟ يظل شهرًا ذائبة نفسُه، لم يكلفك شيئًا، شعر أنك أب له، فالكلمة الطيبة من معلم لتلميذ، من طبيب إلى مريض، من مدير إلى موظف، من أب إلى ابن، أحياناً يكون عندك خادم، أو بجوارك إنسان ضعيف، الكلمة الطيبة لكلٍّ منهما صدقة.
ذات مرة كنتُ قد ذكرت لكم عن قريب لي كان في العربية السعودية يعمل في التدريس، قال لي: عندنا فراشون - أي خَدَم، وبلُغَتِنا أذَنة، هؤلاء يأتون من دول بعيدة، وراتبهم أحدهم خمسمئة ريال بالشهر، ويعملون أشق الأعمال، هذا الفراش ليس تابعاً للمدرسة، بل هو تابع لشركة تنظيفات، وهناك شركات للتنظيف عندها موظفون يأتون من بلاد آسيا الجنوبية الشرقية -فهؤلاء الذين ينظفون المدرسة، لهوانهم على مَن في المدرسة من مدرِّسين، ومن طلاب لا يسلِّمون عليهم أبداً، كأنهم ليسوا من بني البشر، فأحدهم كان ينظِّف غرفة المدرسين، وزميل مدرس، صب كأس الشاي ليشربها، فقرع جرس الدرس، يبدو أن هناك دقة بالغة، فما أحبَّ أن يتأخر، فقال للفراش: تفضل، وليس هذا مبادرة منه، لكن قرع الجرس، وكان قد صبَّ كأس الشاي، هذا الذي أخذ كأس الشاي وشربها، هذا العمل فعل في نفسه فعل السحر، أنّ المدرِّسَ ضيَّفه كأس شاي.
ففي اليوم التالي قال له: ما الذي حملك على أن تفعل هذا ؟ قال له: أنا مسلم، وأنت أخ في الإنسانية، وأنا عندي درس، ثم جرى بينهما صار حوار، فهذا الفراش تبيَّن أنّه يحمل ماجستير في الكيمياء، أحضروه إلى البيت، وأتوا له بقاموس دائرة معارف باللغة الأجنبية فقرأ فيه بطلاقة، سألوه أدقَّ الأسئلة، فكان كلامه صحيحًا، وتحاوروا معه، وبعد خمسة أو ست جلسات أسلم، وأسلم من معه ممن حوله.
كأس شاي تقدِّمه لإنسان بتواضع وبأدب فتغيِّر منهج إنسان !! فمَا أبْعدَ المسلم عن مستوى رسالته، هذه القصة أرويها لأن الكلمة الطيبة صدقة، كما قال عليه الصلاة و السلام.
حدثني أخ من إخواننا، واللهِ لا أرويها فخراً، قال لي: اشتريتُ بيتًا بمدينة دوما، ولنا جار كلما شعَر أنّي بالبيت أنقل الأغراض يُحضر لنا إبريقًا من الشاي، مرتين، وقد أعانه في نقل الأغراض، قال له: والله أنا شاكر لك، لكن لا يوجد معرفة سابقة، فقال له: أنا أذهب إلى المسجد، وأنت معنا فيه، وقد كان لا ينتبه إليه، قال له: كيف جئت إلى المسجد ؟ فقال: واللهِ جرَّني شخصٌ جرًّا، والأستاذ سلَّم عليّ باحترام فأحببتُه، هذا سلام باهتمام فقط، فقلت: يا رب سلام باهتمام فقط ربط إنسانًا بمسجد ؟! وأنا لا أذكر القصة، إلا أنّه قال لي: هذا جارنا، فقلت له: أهلاً وسهلاً، الله يعطيك العافية، عينك عليه، لم يكلفني غير الكلمات، لكن اهتمامك بالأشخاص مردودُه كبير، فالكلمة الطيبة صدقة، والسلام بحرارة تكسب بهما صديقًا مؤمنًا، فإذًا لا تضنَّ بابتسامة، ولا بسلام حار، ولا بمصافحة، لا بسؤال عن الصحة، لا بتعزية، لا بمواساة، بعيادة مريض، كلها تنمي العلاقات، وتجعل المسلمين كتلة واحدة، أخوك مرض يجب أن تزوره، تزوج يجب أن تهديه هدية ولو كانت بسيطة، بعشرين ليرة، لا أقول هدية ثمينة، لكن لها اعتبارها، فيها معنى المودة، تهادوا تحابُّوا، ممكن أن تقدِّم له شيئًا لا يذكر، هذه إمكانيتُك، ليس لك عنده، ولكنها عربون مودة.
على ذكر الكلمة الطيبة صدقة، إذا دخلت البيت، فقل: السلام عليكم، كان الصحابة إذا سار اثنان منهم معًا، وفرّقت بينهما شجرة بعد أن يلتقيا مرة ثانية، يقول أحدُهما للآخر: السلام عليكم، نكون مع بعضنا ثم ندخل إلى السيارة، السلام عليكم، واللهِ شيء جميل، فمتى دخل بيتَه فليقل: السلام عليكم، جلس فليقل: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ليسِّلم، يقول الشيطان لمَن معه: ليس لكم هنا مبيت، وإنْ سمَّى صاحبُ البيت قال الشيطانُ: ليس لكم عشاء، فإنْ لم يسلم قال: أدركتم المبيت، فإنْ لم يسمِّ قال الشيطانُ: أدركتم العشاء، فكل الليل خلافات و مشاجرات، أما لو قال: السلام عليكم لذهب الشيطان مهزومًا مخذولاً، فالكلمة الطيبة صدقة، كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس لطفاً.
روى أبو نعيم في الدلائل عن أنسٍ رضي الله عن قال:
((كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس لطفاً، والله ما كان يمتنع في غداةٍ من عبدٍ ولا أمةٍ تأتيه بالماء، فيغسل وجهه بالماء وذراعيه، وما سأله سائلٌ قط إلا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحدٌ يده قط، إلا ناوله إياها، فلا ينزع صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منه))
كان إذا صافح لا يسحب يدَه حتى يسحب الذي صافحه يدَه، وإذا ويُقبِل على محدِّثُه حتى ينصرف عنه محدِّثُه، هذه خلقه عليه الصلاة و السلام.
***
ننتقل إلى انبساطه صلى الله عليه وسلم مع الأهل وذوي القُربى، فروى مسلم في صحيحه عن سعدٍ بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه أنه قال:
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كريم العشرة مع زوجاته وسائر أهله، يلاطفهنّ ويمازحهنّ، ويعاملهنّ بالود والإحسان))
الإنسان العظيم خارج بيته عظيم، أما في بيته فواحد من أهل بيته، كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً، فإذا كان الإنسان روحُه مرِحة مع أهل بيته، ومع أولاده، فهذه علامة نجاحه في زواجه، أهلك أقرب الناس إليك، ما الذي يمنعك أن تكون مرحًا معهم ؟ اسمع من طُرفهم في مدرستهم، أنت حِّدثهم عن طرفًة لطيفة، كن لطيفًا، داعبهم، لاعبهم، تكلم معهم كلامًا طيبًا، كان عليه الصلاة والسلام كريم العشرة مع زوجاته وسائر أهله، يلاطفهن ويمازحهن، ويعاملهن بالود والإحسان.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ))
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ))
( رواه الترمذي )
وعن عباسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم خََيركم للنساء))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا))
( رواه الترمذي )
يبدو من خلال هذه الأحاديث التي تؤكِّد أن علامةَ الخُلق الحسن الخلُقُ الحسن في البيت، والسبب أن الإنسان خارج البيت مراقَب، من زملائه، ممن دونه، من مرؤوسيه، من عامة الناس، والإنسان بحكم فطرته حريص على سمعته، فحرصه على سمعته، وعلى انتزاع تقدير الآخرين يدفعه لملاحظة نفسه و سلوكه، قلت لكم في درس سابق: إن الإنسان بحاجةٍ ماسة إلى التقدير، بأنْ يقدِّره الآخرون، هذه حاجة اجتماعية عند الإنسان. فلهذه الحاجة الاجتماعية، ولتقدير الآخرين تجده خارج البيت لطيفًا، فيعتذر إنْ أخطأ، يحاول أنْ يعمل عملاً جيدًا، لكن أين المكان الذي ليس فيه رقابة ؟ البيت، ففي البيت لا رقيبَ إلا الله عزَّ وجل، لذلك قال عليه الصلاة والسلامِ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ))
( من سنن الترمذي: عن " عائشة " )
وقال: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا))
(الترمذي)
واللهِ ؛ الذي أرجوه لكم أن تكون بيوتكم جنة، يكون بيته صغيرًا لكنه جنة، الأكل خشن لكنه في الجنة، ليس هناك فخامة لكن يشعر أنّه في الجنة، فالجنة لا تأتي من الأثاث الفخم، ولا من الأقواس، ولا من الثريات، ولا من البراد المليء بالحاجات، لا، فالجنة مودة بينك وبين زوجتك، مودة، حب، رحمة، احترام متبادل، مشاعر مشتركة، هذه هي الجنة، فمِنَ الممكن أن يكون لك بيت متواضع، صغير، أثاثه بسيط، والأكل خشن، ولكن المودة موجودة بين الزوجين، والله عزَّ وجل يقول:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
( سورة الروم: من آية " 21 " )
هذا تصميم الله عزَّ وجل، هذا المخطط الإلهي، هذا الأصل في الزواج المودة والرحمة، فأعجز إنسان من عجز أن يكون سعيداً في بيته، هناك ظروف صعبة خارج البيت، هناك قُوى لا تملكها، قد تكون موظفًا، ولك رئيس صعب في الوظيفة، إنْ أحسنتَ لم يقبل، وإن أسأتَ لم يغفر، إن رأى خيراً كتَمَه، وإن رأى شراً أذاعه، سيئ، أما بيتك فهو مملكتك، فالإنسان إذا لم يكن مرتاحاً خارج البيت فلا أقلَّ من أن يكون داخل البيت مرتاحًا، لأنه لو توافرت السعادة داخل البيت، لامتصَّتْ كلَّ المتاعب خارجه، أما في الداخل فجحيم، وفي الخارج جحيم، والله إنها لحياةٌ لا تطاق، أنا أدعو إخواننا الكرام بقدر الإمكان، وبحسب السُّنة أنْ يجعل بيته جنة، بالتسامح مرة، وبالعطف مرة، وبالنصيحة مرة، وبالخدمة مرة.
وروى ابن سعدٍ عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ؟ تكلمي لنا عنه ضمن بيته، ففي الخارج معروف هو رسول الله، ولكننا نريد أخلاقه في وسط البيت ؟ قالت:
((كان ألين الناس بساماً ضحاكاً لم يُر ماداً رجليه بين أصحابه وذلك لعظيم أدبه وكمال وقاره))
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ - أي صغيرة - لَمْ أَحْمِلْ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ - فالمعنى أي أنها كانت جلد وعظم - فَقَالَ لِلنَّاسِ تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ ـ سمنت قليلاً -وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَقَالَ لِلنَّاسِ تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ هَذِهِ بِتِلْكَ * أي تعادلا، "هذه بتلك))
(رواه أحمد)
هذه لها معنى كبير، نزل إلى مستواها وكانت جارية، هذا النبي العظيم، سيد الخلق، حبيب الحق، جاءه القرآن، حمل عبء الرسالة، فلا أحدَ أعظم منه في العالَم، أعظم شخص أنيطت به أكبر رسالة، ومع ذلك عنده زوجة صغيرة جارية، قال: تعالَيْ أسابقك، فما الذي يمنعك أنْ تكون مرحًا في البيت، لطيفًا، صاحبَ دعابة، صاحبَ نكتة، بسَّامًا، ضحَّاكًا، تتساهل ؟ هذا ممَّا يجعلك أسعد الناس، وهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام يعين أهله في الأمور البيتية، وهذه أيضاً نحن مقصرون فيها، كان يعين أهله في الأمور البيتية، لكنْ بعض الناس يرى إذا أراد أنْ يحقِّق رجولته فيجب ألاّ يتحرك أيَّة حركة في البيت، بينما النبي على عظمته كان يعين أهله في الأمور بيته.
وروى البخاري عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ:
((مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ))
وفي هذا تنبيه للأمة أن يسيروا على هذا الكمال، ولا يكونوا من جبابرة الرجال، خاصةً مع الأهل والعيال.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً في مناسباتٍ متعددة، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ))
أنا والله أشعر أيها الإخوة إذا كان الإنسان مع أهله - ولا زلنا بصدد معالجة موضوع الأهل - يعيش في مودة، في حب، فالله يرزقك، والله يفرح بهذين العبدين، لأن الشغب، والشقاق والخصومات تفكِّك الحياة الزوجية و، تصرف الإنسان عن صلاته، وإنْ صلاّها صلاَّها متوتِّرَ النفس، ودائماً في حالة هياج وغضب، لذلك قال: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ))
وفي سنن الترمذي وابن ماجة حَدَّثَنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَّرَ، وَوَعَظَ فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً فَقَالَ: ((أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا))
فالنبي يوصيك بهن، فإذا كنتَ تحبُّ شخصًا كثيرا، فقدْ يكون في دائرة عملك مديرٌ مهم، وعندك موظف دونك، وقال لك: هذا عينك عليه، هذا وصيتي عندك، واللهِ تعتنِي به عناية بالغة، فكرامةً لعينِ المدير تكرم مرج عيون، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أوصاك بالنساء، هذه امرأة ضعيفة، قد تكون مزعجة، لكنك أنت أعلى منها، أنت أوسع منها، بطولتك ليست مع امرأة متفوقة في الكمال، بطولتك مع امرأة مزعجة، وباحتوائك وامتصاصك لانفعالاتها وحركاتها الهوجاء تعبِّر عن كمالك.
وإن شاء الله نتابع حديث الشمائل النبوية، فهذا الموضوع مهمٌّ، والنبي عليه الصلاة والسلام مهمَّتُه الكبرى في كونُه القدوةَ لنا، وهذا الوضع الكامل، دائماً نحن نوازن بين واقعنا وبين هذا النبي العظيم، بهذا الخلق الكريم، ونحاول أنْ نقلد، نحاول أنْ نتقدم، ونحاول أنْ نوفِّق سلوكنا مع سلوك النبي عليه الصلاة والسلام.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:21 AM   #8


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثامن )

الموضوع : إنبساطه مع أهله وذوي القربى ، مباسطته مع زواره







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثامن من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، في الدرس الماضي وصلنا إلى انبساطه صلى الله عليه وسلَّم مع أهله وذوي القربى، وتحدَّثنا عن كريم عشرته، وحسن معاملته مع زوجاته وسائر أهله، بقيت نقطة..
فقد روى الشيخان والترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:

((جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا قَالَتْ الْأُولَى زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ قَالَتْ الثَّانِيَةُ زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ - أنْ أفقِده - إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ - أيْ عيوبه الظاهرة والباطنة - قَالَتْ الثَّالِثَةُ زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ قَالَتْ الرَّابِعَةُ زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ - أي مكة - لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ قَالَتْ الْخَامِسَةُ زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ قَالَتْ السَّادِسَةُ زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ قَالَتْ السَّابِعَةُ زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ قَالَتْ الثَّامِنَةُ زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ قَالَتْ التَّاسِعَةُ زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِ قَالَتْ الْعَاشِرَةُ زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ قَالَتْ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ عُكُومُهَا رَدَاحٌ وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا قَالَتْ خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِّيًّا وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا وَقَالَ كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ قَالَتْ فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ قَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ))
الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم على علو مقامه، وعلى رفعة شأنه، وعلى أنه مشغولٌ بعظائم الأمور، وعلى أنه يحمل أكبر رسالةٍ على الإطلاق، ومع أن شغله الشاغل نشر الحق في الأرض، كل هذه المهام الصعبة التي يتحمَّلها، وكل هذه الهموم الكبيرة التي تملأ قلبه، وكل هذه الأهداف البعيدة التي يسعى إليها، وكل هذه الرحمة التي في قلبه على البشر، كل هذا لم يمنعه أن يصغي إلى السيدة عائشة وهي تحدِّثه عن قصةٍ سمعتها تتعلَّق بالحياة الجاهليَّة، فماذا نستنبط من هذا ؟
نستنبط أنّ أحدَ مفردات الأخلاق، وأنّ إحدَى كمالات النبي عليه الصلاة والسلام حسنُ إصغائه، فأنت تأتي إلى البيت، لا شك أن الزوجة عندها لك حديثٌ طويل، معظم هذا الحديث قد لا يعنيك، وربما لا تعبأ بتفصيلاته، وقد لا ترى أنه حديثٌ يليق بك، لكن الكمال أن تستمع، والكمال أن تصغي.
قد يأتي ابنك من المدرسة، فيحدثك عن خلافٍ نشب مع رفيقه، وكيف أن زميله هذا شكاه إلى المعلِّم، وكيف أن المعلِّم عاقبه ظُلماً، وكيف وكيف...، حديث طويل، وقد يبكِ، وينفعل، ويحدِّثك، فأنت كمؤمن ماذا عليك أن تفعل اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ عليك أن تصغي، الإصغاء كمال.
الإنسان أحياناً يكون في حالة ضيق شديد، يكون في ألم شديد، يعاني من مشكلة، أربعة أخماس شفائه منها البوح، أن يبوح بها، لذلك الآن الأطباء النفسيون يستمعون إلى المريض بهدوءٍ جم، وبهدوءٍ بالغ، وأدبٍ متواضع حتى يبوح المريض بكل ما في نفسه، والمؤمن أحد جوانب كماله الإصغاء، والاستماع، وحسن التلِّقي، والاهتمام، وليس واحد من المؤمنين إلا وله زوجة، وله أولاد، وله أصدقاء، له إخوة صغار، إخوة كبار قد يحدِّثونه حديثاً لا يعنيه، لا يتعلَّق بمشاغله الكبيرة، ولكن الأدب يقتضي أن يصغي، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به.
قصَّةٌ طويلةٌ جداً روتها السيدة عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكل امرأة تحدَّثت عن زوجها حديثاً بليغاً، دقيقاً، واقعياً ثم قال عليه الصلاة والسلام، وقد انتقى من هذه القصَّة الطويلة خبرَ إحدى الزوجات التي أثنت على زوجها ثناءً كبيراً، وهو أبو زرع، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ))
أي أنه انتقى أرقى النماذج وقال: أنا لعلّي لكِ كأبي زرع لأم زرع، وفي رواية تقول إنها قالت: " بل أنت خيرٌ من أبي زرع ".
حديث بين النبي وزوجته في البيت، أحياناً هناك رغبةٌ جامحة أن نتعرَّف إلى هؤلاء العظماء، ماذا يفعلون في البيت ؟ ماذا يتكلَّمون ؟ بماذا ينشغلون ؟ ما اهتماماتهم في البيت ؟ كيف يعاملون أهل البيت ؟ هذه صورةٌ واقعيةٌ من حياة النبي عليه الصلاة والسلام وهو في بيته، السيدة عائشة روت له قصَّةً طويلةً، منتزعةً من الحياة الجاهليَّة عن نساءٍ كثر تحدَّثن عن أزواجهن حديثاً واقعياً، وقد استنبط العلماء الأحكام التالية:
قال العلماء: " نُدِبَ حُسن المعاشرة للأهل، وندب السمر معهن"، أي عليك في وقت من أوقاتك أن تجلس مع زوجتك وتسمع لها، تحدثها، تمزح معها مزاحًا شرعيًا، تصغي إلى همومها، إلى مشكلاتها، تحدثك عن أهلها ؛ عن أخواتها، عن والدتها، إصغاؤك لزوجتك اتباعٌ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، إصغاؤك لأولادك الصغار وهم يتحدَّثون عن همومهم لك اتباعٌ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فاقتدوا بهذا الخُلُق.
إذاً نُدِب حسنُ المعاشرة للأهل، وندب السمر معهن، كملاطفة الزوجة، وإيناس الضيف، قال: " ويجوز ذكر الشخص المجهول عند المتكلِّم والسامع بما يكره " هل هذه غيبة ؟ الجواب: لا، لماذا ليس غيبةً ؟ من هم هؤلاء الرجال ؟ فما ذكرنا أسماءهم، مَن هنَّ هؤلاء النسوة ؟ ما ذكرنا أسماءهن، يجوز ذكر ـ كما قال العلماء ـ المجهول عند المتكلِّم والسامع بما يكره، فإنه ليس بغيبةٍ، وغاية الأمر أن عائشة رضي الله عنها ذكرت نساءً مجهولات، ذكرت بعضهن عيوب أزواجٍ مجهولين، لا يُعرفون بأعيانهم ولا بأسمائهم، ومثل هذا لا يعد غيبة.
مثلاً: هناك رجل فعل هذا مع زوجته، فليست هذه غيبة، هناك امرأةٌ فعلت كذا مع زوجها، ليسه هذه غيبة ما لم يُذكر شخصٌ بعينه.
لكن أيها الإخوة دقِّقوا فيما سأقوله الآن ؛ لو أنك ذكرت رجلاً نكرةً، لكن ذكرت أنه يسكن في المكان الفلاني، يعمل في العمل الفلاني، تزوج قبل شهر، والسامع يعرف مَن هذا الذي تزوَّج قبل شهر، ويسكن في المكان الفلاني، ويعمل العمل الفلاني، فأنت بذلك قد أعطيت بعض القرائن التي تشير إليه، هذه غيبةٌ وربِّ الكعبة، فأية قرائن تعطيها لاسمٍ مجهول حيث يغدو هذا المجهول معلوماً، هذه غيبةٌ ورب الكعبة، فإذا قلت: رجل يحمل الشهادة الفلانية، يسكن في المكان الفلاني، يعمل في المكان الفلاني، فأنت بهذا عرَّفته وانتهى الأمر، ولو لم تذكر اسمه فهذه غيبةٌ ولا شك.
وأيضاً العلماء استنبطوا من هذه القصَّة أنه يجوز الحديث عن الأمم الماضية، والأجيال البائدة، وضرب الأمثال بهم، لأن في سيرهم عبرةً واستبصاراً للناس.
وهناك شيء آخر ؛ أحياناً تكون هناك موضوعات جادة، دراسة جادة، موضوع فقهي، موضوع في التفسير، موضوع في الحديث، فإذا قيلتْ طرفة ترطِّب الجو، تجدِّد النشاط، ترسم على الوجوه ابتسامة، فهذا من لوازم التعليم، فهذا حكم آخر، فلك أن تذكر طرفةً لطيفةً تريح المستمعين، تجدِّد نشاطهم، تعطيهم القوة على متابعة المحاضرة، هذا حكمٌ آخر يدلّ على أمر مباح.
يروى عن القاضي عياض: " أن التحدث بمِلَحِ الأخبار، وطُرف الحكايات تسليةٌ للنفس، وجلاءٌ للقلب ".
وقال سيدنا عليٌ كرَّم الله وجهه: " سلَّوا هذه النفوس ساعةً بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد "، عظماء العالم عندهم روح مرحة، الروح المرحة، والطرفة اللطيفة، والفكاهة المنضبطة، هذا يجذب المستمع، ويجدِّد النشاط، فأنا أقترح على إخواننا الكرام إذا كنت في البيت فلا تكن جاداً إلى درجة المَقْت، كن ليِّناً، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، اروِ بعضَ الطُرف، ابتسمْ، اذكرْ الأسماء متحبِّباً، انظر نظرة عطف، هذا الذي يقيم الودَّ في البيت، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، آباءٌ كثيرون يقولون: يا أخي افتح البراد فإنه مليء، أهلك يريدون ابتسامتك، البراد مليء كثَّر اللهُ خيرك، لكن أهلك يريدون ابتسامتك، طلاقة وجهك، الكلمة اللطيفة، السلام، السؤال عن الصحة، التعطُّف، التحبُّب، التودُّد، هذا الذي يريده الآخرون منك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ))
( من الجامع الصغير )
قال عليه الصلاة والسلام: ((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
ابتسامتك في وجه أخيك صدقة، طلاقة الوجه صدقة، هكذا، وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ - وفي رواية تسع سنين- فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ))
هذه رواية لسيدنا أنس الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلَّم عشر سنين.
وفي رواية أبي نعيم قال أنس:
((فما سبني صلى الله عليه وسلَّم قط، ولا ضربني قط، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمر في أمرٍ فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه أحدٌ من أهلي قال: دعوه لو قُدِّر شيءٌ لكان))
عشر سنوات، أحياناً يكون عمال في محل تجاري، يغلط هذا الصانع غلطة طفيفة فَيَسُبُّ أباه الذي خلَّفه، والذي عرَّفه عليه، وإنْ كان طفلاً مسكينًا يشعر أنه سيسحق سحقًا، هكذا بعض أرباب العمل، أما المؤمن فإنّه يتخلَّق بأخلاق النبي، حلم جمٌّ وتسامح.
(( كاد الحليم أن يكون نبيا ))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
((الحلم سيِّد الأخلاق))
أحياناً يسمع الصانع كلمات تجرح، لو أنك جرحته بالسكين لكان أهون عليه من هذه الكلمات القاسية التي تحقِّره بها، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تحمِّروا الوجوه))
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يواجه أحداً بما يكره، وإذا أراد أن يصلح من عيوب أصحابه صعد المنبر وقال: ((ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا))
عمم القول، هذا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.
من أدبه الرفيع صلى الله عليه وسلَّم مع من يحدِّثه، كان صلى الله عليه وسلَّم يصغي كل الإصغاء إلى من يحدِّثه أو يسأله، ويُقبِل عليه ويلاطفه، فكثيراً من الآباء يكون مشغولاً، القضية تشغل باله، يحدِّثه ابنه كثيراً، فلو سئل: ماذا حكيت ؟ فيجيب: والله ما انتبهت، تحدِّثه زوجته فلا يصغي إليها، عدم الإصغاء يجرح المتكلِّم.
روى أبو داود عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي أراد أن يهمس بأذنه، أي يكلِّمه سراً فينحي النبي رأسه عنه أبداً، ما فعلها ولا مرَّةً واحدة، إنسان قرَّب فمه إلى أذن النبي ليسرَّ إليه سراً ما فعل النبي في حياته كلها أن ابتعد عن هذا المتكلم -فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ))
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ فَقَالَ: ((... أَحْسِنُوا الْمَلَأَ - أي أحسنوا أخلاقكم - كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْتُ لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...))
ما قولكم ؟ ذهب شيخ مع إخوانه لأداء فريضة الحج، صعدوا كلهم إلى الحافلة، ونسوا الشيخَ يقف على الطريق، فأحياناً لا تجد أدبًا، ((يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا عَطِشْنَا فَقَالَ لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي قَالَ وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسِنُوا الْمَلَأَ كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْتُ لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
(صحيح مسلم عن أبي قتادة)
علِّم نفسك إذا كنت مع مجموعة أنْ تكون عطوفًا كالأب، فكثيرًا ما لاحظت في نُزهات يقوم بها بعض الإخوة الكرام، فيوضع الطعام على المائدة، المجموع عشرة، والموجود سبعة يبدؤون بالطعام، وثلاثة في خدمة هؤلاء، لكنه يعجبني ألاّ نأكل لقمةً واحدة إلى أنْ يجتمع الكل على المائدة، وكبير القوم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، هكذا السنة، أنا لاحظت هذه الملاحظة بشكل واضح، وهي منتشرة بكثرة، اثنان أو ثلاثة لم يجلسوا بعد إلى الأكل، والكل بدأ يأكل، فالأكمل ألاّ نأكل حتى نستكمل العدد، أين فلان ؟ يحضر الماء، نحن في انتظاره، أين فلان ؟ يأتي بالخبز، نحن في انتظاره، فإذا جلسوا جميعاً عندئذٍ نأكل، هكذا السنة.
وعن عمرو بن العاص قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم ـ إنسان شرير ـ يتألَّفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني من خير القوم، فقلت: يا رسول الله أنا خيرٌ أم أبو بكر ؟ قال: أبو بكر، قلت: يا رسول الله: أنا خيرٌ أم عمر ؟ قال: عمر، قلت: يا رسول الله أنا خيرٌ أم عثمان ؟ قال: عثمان، فلما سألت النبي صلى الله عليه وسلَّم عَنْ عليٍّ صدَّ عني، فوددْتُ أني لم أكن سألته))
لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾
( سورة المائدة: من آية " 101 " )
فأحياناً إنسان يريد أن يسأل عن شيءٍ، والجواب قد يسوؤه، فالأكمل ألاّ يسأل، ولهذه الآية معنى آخر ؛ الله عزَّ وجل أمر بأشياء، ونهى عن أشياء، وسكت عن أشياء، هذا الذي سكت عنه لم يسكت عنه نسياناً، لا والله، لكن الحكمة التي تستنبط من سكوت الشارع الحكيم عن بعض الأشياء لا تقلُّ عن حكمة التشريع نفسها.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث بعثاً قال:
((تألَّفوا الناس))
أي إنّ المؤمن مألفة، يألف ويؤلف، وكان عليه الصلاة والسلام أطلقَ الناس وجهًا، وأكثرهم تبسُّماً، وأحسنهم بشراً.
الابتسامة أيها الأخ الكريم لا تكلِّفك شيئاً، لكنها تفعل فعل السحر في نفوس مَن هم دونك ؛ فلو أنّ مدير مدرسة، أو مدير مستشفى، أو مدير معمل، أو صاحب متجر عنده موظَّفون فدخل مبتسمًا، وقال: السلام عليكم، كيف حالكم؟ هذه الكلمات الخفيفة اللطيفة تفعل فعلَ السِّحر، فإياك أن تضنَّ بها على مَن هم معك، تجدِّد نشاطهم، تبعث فيهم الهمَّة.
وروى البزَّار بإسنادٍ حسن عن جابر رضي الله عنه قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ضحكاً، وأحسنهم بشراً))
عوِّد نفسك الابتسامة دائماً، ترحيب شديد، سلام حار، سؤال عن الصحة، عن الأهل، يخطر في بالي أحياناً إنسان جاء من مكان بعيد، كيف الحال ؟ الحمد لله، كيف الأمطار عندكم ؟ الحمد لله، الأهل بخير إن شاء الله ؟ الكلمة الطيبة صدقة، فالنبي الكريم إذا جاءه الوحي، أو وعظ قوماً قلت: نذير قومٍ، هو نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ضحكاً، وأحسنهم بشراً.
تقول السيدة عائشة حينما سُئلت: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا خلا في بيته ؟ قالت:
((كان ألين الناس، بسَّاماً، ضحَّاكاً، لم يُر قطُّ ماداً رجليه بين أصحابه))
هذا الدرس لا لأخذ العلم، ولكن للتطبيق العملي، هذه الدروس كلُّها قيمتها في التطبيق، أمّا كمعلومات فهي لا تقدِّم ولا تؤخِّر، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى مقام عند الله، ولا يزيده رفعةً أن نتحدَّث عن شمائله، ولا يقلِّل من قدره أو ينتقص أن نسكت عن شمائله، ولكن إذا درسناها، وذكرناها، وذكَّرنا بها فمن أجل أن تكون مطبَّقةً في حياتنا.
إخواننا الكرام ؛ بيتُ المؤمن ينبغي أن يكون قطعةً من الجنَّة، ولو كان بيتاً صغيراً، ولو كان الطعام خشناً، ولو كان اللباس رخيصاً، ولو كان الموقع ليس فخماً، السعادة لا تأتيك من الخارج، لكنها تنبُع من الداخل، من داخلك تنبع السعادة، من إيمانك بالله، من إرادتك أن تُدْخِلَ على قلب من حولك السرور، إذا أردت ذلك كنت أنت أسعد الناس، إذا أردت أن تسعد فأسْعِد الناس.
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال:
((السلام عليك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله، ثم أتى آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته))
ماذا يستنبط من هذا الحديث ؟ يستنبط.. ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾
( سورة النساء: من آية " 86 " )
هكذا علَّمنا النبي، السلام عليكم، عليكم السلام ورحمة الله، أحياناً إخوان كثيرون على الهاتف يقولون: السلام عليكم ورحمة الله، ينبغي أن أقول لهم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هكذا.. ((أَفْشُوا السَّلامَ تَسْلَمُوا))
( من مسند أحمد: عن " البراء بن عازب " )
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ جَاءَ عَمَّارٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ))
( من سنن الترمذي: عن " علي " )
فهل شيء قليل أن يكون حولك أحباب، وكل إنسان تعطيه حقه، وتعطيه قدره، وتعرف ميزاته، وتعرف تفوُّقه، وتعرف جوانب عظمته، وتعرف بطولاته، وتعرف لكل إنسان قدْرَه، هكذا السُنة، ((مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ))
( من سنن الترمذي: عن " علي " )
سيدنا عمر: (( لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر ))
( من الجامع الصغير: عن " عصمة بن مالك " )
سيدنا الصديق: ((ما ساءني قط، فاعرفوا له ذلك))
سيدنا سعد: ((ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي))
(من صحيح البخاري: عن " عبد الله بن شداد " )
سيدنا معاذ: ((والله إني لأحبك))
( من أحاديث الإحياء: عن " معاذ " )
سيدنا خالد: ((سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
سيدنا أبو عبيدة: ((أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ))
( من صحيح البخاري: عن " حذيفة " )
سيدنا الزبير: ((حواري هذه الأمة))
ذات مرَّةٍ قلت لكم: دخل المسجدَ رجلٌ وكان النبي قد بدأ بالصلاة، فخاف هذا الصحابي أن تفوته الركعة مع رسول الله فأحدث في المسجد جَلَبَةً وضجيجًا ليدرك الركعة، فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي بكرة " )
علَّمنا إذا أردت أن تنتقد أحداً ممن معك في العمل، ذكِّره أولاً بنواحيه الإيجابيَّة، بعدئذٍ حاول أن توجِّهه الوجهةَ الصحيحة.
وعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ قَالَتْ:
((إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام تَمْشِي لَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ))
(رواه البخاري)
وهناك رواية قرأتها قبل حين: ((كان عليه الصلاة والسلام يقف لابنته فاطمة إذا دخلت عليه))
الودُّ الذي بين النبي وبين أهله يفوق حدَّ التصور، فأنت إذا قلَّدت النبي، كما لو دخلتْ عليك ابنتك المتزوِّجة مع زوجها فنهضت واقفاً، وقلت: أهلاً ببنيَّتي الحبيبة، وصافحتها، وأجلستها، وسألتها عن صحَّتها، وعن أولادها، وعن زوجها، وكيف حالها، هذا عمل عظيم، شددتها إليك، ألَّفت قلبها، جبرت خاطرها، أكرمتها، هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَنْ الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى...))
وٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جِئْتُهُ ((مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ))
( من سنن الترمذي: عن " عكرمة بن أبي جهل " )
وعَنْ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ: ((مَنْ هَذِهِ قُلْتُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ...))
(رواه مسلم)
السلام اللطيف، أن تناديه باسمه، أو بأحب الأسماء إليه، أو بصفته، أو بما يحبه من الكُنى هذا من السنة.
وأخذ الإمام أحمد من حديث أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يلقى الرجل فيقول:
((يا فلان كيف أنت ؟ فيقول: بخيرٍ أحمد الله. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلَّم: جعلك الله بخير))
كيف حالك يا فلان ؟ كيف أهلك ؟ كيف أولادك ؟ كيف عملك ؟ هل أنت بخير ؟ هل تشكو شيئاً، قل لي ؟ هكذا المؤمن.
وروى أبو يعلى بإسنادٍ حسن عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
((كيف أصبحت ؟، قال: بخيرٍ من قومٍ لم يعودوا مريضاً ولم يشهدوا جنازةً))
أيْ أنا من قومٍ لم يعودوا مريضاً ولم يشهدوا جنازةً، أنا بخير.
وأخذ الطبراني بإسنادٍ حسن عن ابن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام لرجل:

((كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلَّم: ذلك الذي أردته منك))
واحد ـ هكذا تروي بعض الكُتب ـ سأله النبي عن حاله وكان فقيرًا فقال له: حالي كما تراني، الأول قال له: " كيف حالك يا فلان "، قال: بخيرٍ والحمد لله، أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " ذلك الذي أردته منك "، فإذا قلت: الحمد لله، لو كنت مُتعبًا، لو كنت تعاني مشكلة، لو كنت تعاني من مرض، هذا شيء عظيم، تقول: الحمد لله على كل شيء، وعلى كل حال، كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءت الأمور وفق ما يريد يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ))
( من سنن ابن ماجة: عن " السيدة عائشة " )
وإذا جاءت الأمور على خلاف ما يريد كان يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ))
( من سنن ابن ماجة: عن " السيدة عائشة " )
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم كريم كل قوم، هكذا علَّمنا.. ((أنزلوا الناس منازلهم))
( من الجامع الصغير: عن " السيدة عائشة " )
((أكرموا عزيز قومٍ ذل، وغنيٍ افتقر، وعالِمٍ ضاع بين الجهَّال))
كان عليه الصلاة والسلام يكرم كريم كل قوم ويقول: ((إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ))
( من سنن ابن ماجة: عن " ابن عمر " )
إنسان كان له عمل معيَّن، كان له شأن، كان غنيًا فافتقر، الإنسان مطلوب منه أنْ يحترمه احترام زائدًا، هكذا علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلَّم.
روى الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه قال:
((لمَّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلَّم أتيته فقال: ما جاء بك ؟ قلت: جئت لأسلم، فألقى إليَّ كساءه، وقال: إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
من شدة فرح النبي اللهمَّ صلِّ عليه ألقى إلي كساءه.
وفي رواية البزَّار:
((أتيت النبي صلى الله عليه وسلَّم فبسط إليَّ رداءه وقال: اجلس على هذا، فقلت: أكرمك الله كما أكرمتني))
وروى الحاكم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلَّم دخل بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى غُصَّ المجلس بأهله وامتلأ، فجاء جرير البجلي فلم يجد مكاناً، فقعد عند الباب، فنزع النبي صلى الله عليه وسلَّم رداءه وألقاه إليه.. "
وهنا ملاحظة، كريم قوم لم يجد مكانًا، جلس عند الباب، فالنبي وهو يحدِّث أصحابه انتبه، فخلع رداءه، وألقاه إليه، وقال:
((اجلس عليه ))
ما هذه الأخلاق ؟
فأخذه جرير، هل جلس عليه ؟ أخذه جرير فألقاه على وجهه وجعل يقبِّله ويبكي، ورمى به إلى النبي وقال:
((ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي صلى الله عليه وسلَّم يميناً وشمالاً، وقال: إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
خلع رداءه وألقاه إليه وقال: ((اجلس عليه))
فأخذ هذا الرجل الكريم البجلي الرداء ووضعه على وجهه، وقبَّله، وجعل يبكي ويقول: ((ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله كما أكرمتني))
وعن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم ألقى إليه وسادةً، فقال عدي: ((أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فسادا))
ليس في بيت النبي إلا وسادة واحدة، ألقاها لعدي وقال: ((اجلس عليها))
قلت: بل أنت، قال: " بل أنت "، فجلست عليها وجلس هو على الأرض، وأسلم عدي بن حاتم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
أحياناً، هكذا أنا أعرف في مجال التربية والتعليم، كان مدرِّس معنا عُيِّن مديرَ تربية سابقاً، كما كان سابقاً مدير ثانويَّة، والكمال يقتضي أن تعامله معاملة خاصَّة، ((أكرموا عزيز قومٍ))
وقد تواجه إنسانًا كان غنيًا وافتقر، فالمفروض أنْ تعامله على أعلى درجة وصل لها، ولو تركها.
وعن عبد الرحمن بن عبدٍ قال:
((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلَّم في مئة رجل من قومي، فذكر حديثاً فيه أن النبي أكرمه، وأجلسه، وكساه رداءه، ودفع إليه عصاه، وأنه أسلم، فقال رجل من جلسائه: " يا رسول الله إنا نراك أكرمت هذا الرجل ؟ " فقال: " إن هذا شريف قومه، إذا أتاكم شريف قومٍ فأكرموه))
تعلَّموا أيها الإخوة، ((إذا أتاكم شريف قومٍ فأكرموه))
وفي حديث آخر: ((إذا كانت عندك كريمة قومٍ فأكرمها))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
امرأة كبيرة في السن لها شأن في أهلها أكرمها.
وعن شهاب بن عبَّاد أنه سمع بعض وفد عبد قيس يقولون: " قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ دقّقوا في هذه القصَّة ـ فاشتد فرحهم ـ أي الصحابة ـ فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، وفد عبد قيس جاؤوا النبي ليسلموا، والصحابة الكرام اشتد فرحهم، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، فرحَّب بنا النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا لنا، ثم نظر إلينا، وقال:
((من سيدكم وزعيمكم ؟ ))
فأشرنا جميعاً إلى المنذر بن عائد، فقال عليه الصلاة والسلام: " أهذا الأشَج "، قلنا: نعم يا رسول الله.
فتخلَّف بعض القوم، فعقل رواحلهم وضمَّ متاعهم، ثم أخرج عيبته ـ أي ما يوضع فيه المتاع ـ فألقى عنه ثياب السفر، ولبس من صالح ثيابه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلَّم وقد بسط النبي رجله واتَّكأ، فلما دنا منه الأشج أوسع القوم له وقالوا: "هاهنا يا أشج " فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم، واستوى قاعداً وقبض رجله: " هاهنا يا أشج ". فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فرحَّب به وألطفه، وسأله عن بلاده، وسمَّى له صلى الله عليه وسلَّم قرية قريةً وغير ذلك من قرى هَجَر، فقال الأشج: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء بلادنا منا ".
فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إني وطئت بلادكم وفُتِح لي فيها ))
ثم أقبل عليه الصلاة والسلام على الأنصار فقال: (( يا معشر الأنصار أكرموا إخوانكم فإنهم أشباهكم في الإسلام، أشبه شيءٍ أشعاراً وأبشاراً، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين ـ أي ولم يكونوا مصابين بمصيبة ـ إذ أبى قومٌ أن يسلموا حتى قُتلوا ))
قال: فلما أصبحوا قال عليه الصلاة والسلام: (( كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم ؟ وضيافتهم إيَّاكم ؟ ))
قالوا: خير إخوان، ألانوا فرشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلِّموننا كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسُنة نبينا صلى الله عليه وسلَّم، فعجِب النبيُّ وفرح لمَا حدث.
في هذه القصَّة أدق نقطة وهي: قال عليه الصلاة والسلام:
(( هؤلاء إخوانكم إنهم أشباهكم في الإسلام، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين ))
لا مكرهين ولا أنّهم أسلموا عقب مصيبة، بل هم في قوتهم، وصحَّتهم، وشدَّتهم، واختيارهم أسلموا، معنى ذلك أنّ الإسلام الذي يكون عن مبادرةٍ منك، لا عن قهرٍ، ولا عن خوفٍ، ولا عن مصيبةٍ، ولا بعد شبح مصيبةٍ، ولا بعد قلقٍ، هذا إسلام له وزنه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هكذا أخلاقه مع أصحابه، ومع الوفود بالترحيب، التكريم، ويعرف كل قوم مَن رئيسُهم، مَن زعيمُهم، مَن سيِّدُهم، له معاملة خاصَّة.
وسوف نتابع هذا الموضع إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ذو شجون، والحديث عن أخلاقه يبعث في النفس السعادة والسرور، كيف لا ؟ فإذا ذُكر الصالحون تتنزَّل الرحمة، فكيف إذا ذُكر سيِّد الصالحين، وسيد الأنبياء والمرسلين ؟ هذه أخلاقه. قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 31 " )


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:25 AM   #9


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( التاسع )

الموضوع : مباسطته لجلسائه وتوسعه معهم - النهي عن كثرة المزاح







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
صفات العظماء :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصاله الحميدة، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى موضوع مباسطته صلى الله عليه وسلم لجلسائه واتساعه لهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام ينبسط لجلسائه انبساط الانطلاق الشرعي المباح.
قبل أن أمضي في الحديث عن هذه الخصلة الشريفة، هناك أشخاصٌ مرنون، أينما حلوا وأينما جلسوا يأنَسون ويؤنسون، يألفون ويؤلفون، ينبسطون مع من حولهم، لا تشعر أنهم غرباء، لا تحس بفوقية في سلوكهم، ولا انزواءٍ في تصرفاتهم، ولا عنجهية في حركاتهم وسكناتهم، تحس أنهم منك وأنت منهم، هذه صفات العظماء، الأُلفة، الأنس، قد تشعر إذا كنت في مستوى أخلاقي رفيع أن هذا الإنسان العظيم قريبٌ منك، و إن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أثر عنه أنه ما من صحابيٍ عامله إلا شعر بأنه أقرب الناس إليه.
وإذا أردت أيها الأخ الكريم أن تنشر الحق، وأن تدعو إلى الله، وأن يكثر الخير منك ينبغي أن تقلِّد هذه الصفة الرفيعة في رسول الله، ينبغي أن تأنس بالناس وأن يأنسوا بك، أن تحبهم وأن يحبوك، أن تتواضع لهم كي يتواضعوا لك، أن تشعرهم بأنك قريبٌ منهم، تتفهم مشكلاتهم، تتألم لآلامهم، تفرح لفرحهم، يعنيك ما يعنيهم.

المؤمن يألف و يؤلف :
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصحابه يبسط إليهم رداءه، ويطلق لهم وجهه دون أن يشعرهم أنه نبيٌ عظيم، وأن بينه وبينهم مسافاتٍ شاسعة، هذا الشعور لم يكن عند أصحاب رسول الله مهما بالغوا في أدبهم معه، إلا أنهم يشعرون أنهم قريبون منه، وقريبٌ منهم، هذا كلام عام، لكن لو أردنا التفاصيل كيف؟
أنت رجل دين، داعية، متفهم لكتاب الله، ولسنة رسوله، هدفك نبيل، جلست مع أُناسٍ تحدثوا عن بناء البيوت، قد تشعر بالانقباض، قد تنصرف عنهم وعن حديثهم، قد تشتغل بشيء، تفتح كتاباً، فهذا التصرف بمَ يشعرهم؟ أنك فوقهم، وأنك في مستوى رفيع فوق مستواهم، هذا يبعدهم عنك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ شاركهم في هذا الحديث، إذا تحدثوا في التجارة مثلاً، استمع إليهم وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، و إذا تحدثوا عن الأمطار، استمع إليهم وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، و إذا تحدثوا عن مشكلاتٍ يعانيها المجتمع، استمع إليها وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، فالتفاصيل التي تؤكد هذا الخلق الرفيع هو أن تشارك الناس في الحديث، هناك أناسٌ ضيقو الأفق إذا طرح موضوع مباح ولا أقول: محرَّم، إن طُرح موضوع مباح ابتعدوا عن هذا الموضوع، وظهر اشمئزازهم منه، وظهر ترفعهم عن الخوض فيه، حتى أشعروا الحاضرين أنهم في برجٍ عاجي وهؤلاء في الحضيض، هذا السلوك ليس كاملاً، هذا السلوك لا يؤلف القلوب ولا يجمع النفوس، كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ مباحٍ من أمر الدنيا، شاركهم في الحديث تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لخواطرهم، وإيناساً لهم.
فعن خارجة بن زيد أن نفراً دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا:

((حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلاَقِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الوحي بَعَثَ إِلَىَّ فَأَتَيْتُهُ فَأَكْتُبُ الوحي ـ سيدنا زيد كان من كُتَّاب الوحي ـ وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا ))
[البيهقي عن خارجة بن زيد]
أؤكد على أنك إذا أردت أن تدعو إلى الله، و أن تنشر الخير، و أن تؤلف القلوب، عليك أن تشعر الحاضرين أنك واحدٌ منهم ولست فوقهم، وأنه يعنيك ما يعنيهم، يسرك ما يسرهم، يؤلمك ما يؤلمهم، تهتم لما يهتمون به، فلا أدل على هذا الخلق الرفيع من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشارك في الحديث المطروح إذا كان مباحاً: ((...وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا))
[البيهقي عن خارجة بن زيد]
وقد تجد داعيةً صغيراً ليس على شيء، فإذا خاض من حوله في موضوع مباح مَطَّ شفتيه وازورّ عنهم، وأشعرهم أنه فوق هذا المستوى بكثير، ليس هذا من خلق المؤمن الذي يألف ويؤلف، هذه نقطةٌ أولى أيها الأخوة. التكلف و التصنع يبعدان الإنسان عن الآخرين :
وروى الإمام أحمد عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ:
((أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ قَلِيلَ الضَّحِكِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ))
[ أحمد عَنْ سِمَاكٍ]
بشر متواضع، أحياناً مدرس يدرس أخطر مادة، وهو في مستوى رفيعٍ جداً، وطالب يعلق تعليقاً مضحكاً، فالطلاب يضحكون، فما الذي يمنع هذا الأستاذ الجليل أن يضحك معهم لهذه الطرفة؟ إذا ضحك معهم أو تبسم معهم كان قريباً منهم وأشعرهم أنه منهم، وكان واقعياً وطبيعياً، أما إذا ازورّ عنهم وترفع عن هذه الطرفة، فقد أشعرهم أنه فوقهم وأنهم دونه بكثير، ألا تحب أن تألف وتؤلف؟ ألا تحب أن تؤنس من حولك؟ هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم. ((...وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ))
[ أحمد عَنْ سِمَاكٍ]
فلا شيء يبعدك عن المجتمع كالتصنُّع والتكلُّف، ولا شيء يدنيك من الناس ويجعل حبك في قلوبهم كأن تكون واحداً منهم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته فهو واحدٌ من أهل بيته. النبي كان طبيعياً لا تكلف عنده و لا تصنع :
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
((لم يَكن أَصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتحزِقِينَ - أي متقبضين - ولا مُتماوتِين - حانيًا رأسه، متطامنًا، منكمشًا، متمسكناً، فهذا متماوت و دائماً منقبض النفس و عابس الوجه - ..... فَإِذا أُريدَ أحدٌ مِنهم عَلى شَيءٍ مِن أَمر الله دَارت حَماليقُ عَينيهِ كَأنه مجنُونٌ))
[ الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن]
إنسان طبيعي لطيف، يأنس، ويُؤنس، يألف ويُؤلف، فإذا أريد منه شيءٌ جللٌ عظيم انطلق إليه كأنه بطل.
لا زلت أركز على نقطة واحدة من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان طبيعياً، لا تكلف عنده و لا تصنع، فهو عفوي، بسيط، يألف و يُؤلف، يستمع، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ذكروا أمر الدنيا يذكرها معهم، ذكروا أمر الآخرة يذكرها معهم، ذكروا شيئاً من حطام الدنيا المباح يذكره معهم.
العاقل يشعر من حوله أنه واحد منهم :
وروى الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
((جَالَسْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ))
[الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ]
أي إذا كانت لأحدكم مكانة دينية، وقام بنزهة مع أصدقائه، ينبغي أن يبدو وكأنه واحدٌ منهم، أن يعنيه ما يعنيهم، أن يضحك مما يضحكون، أن يشعرهم أنه واحدٌ منهم، هذا خلق رفيع، و هذا ذكرني بموقفٍ عظيم لسيدنا الصديق رضي الله عنه و أنتم تعرفون القصة ولا شك:
فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ـ بصفاء، بانشراح، بسمو ـ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ـ عدنا إلى البيت وانغمسنا في أمور الحياة، شؤون البيت، شؤون العمل - فَنَسِينَا كَثِيرًا - هذا الحال الطيب نفقده - قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا - ما هذا التواضع؟! - فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ]
إنسان يشكو لك همه، يشكو لك زوجته، يشكو لك أولاده، يشكو لك ضيق ذات يده، يشكو لك صعوبةً في عمله، أنت كإنسان راقٍ فماذا عليك أن تقول؟ لا، أنا عكسك، أنا التي عندي ما شاء الله امرأة نادرة الأخلاق، لا تقل كذلك، بل قل له: معظم النساء كذلك، طيب خاطره، أشعره أنها قضية عامة، قضية يعاني منها كل الأزواج، أشعره أن هذا الابن ليس شاذاً هكذا معظم الأبناء، هذه مشكلة عامة، طيِّب قلبه، لا تجعل نفسك فوقه، لا تنفرد بميزات ليست عنده، ليس هذا من خُلق المؤمن، ألِّف، لا تجعلهُ يشعر بالوحشة والانفراد. * * *
مزاحه صلى الله عليه وسلم مع جلسائه :
والآن ننتقل إلى موضوع آخر من موضوعات شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو مزاحه صلى الله عليه وسلم مع جلسائه وإدخال المسرَّة عليهم، كان عليه الصلاة والسلام يمزح مع أصحابه لإدخال السرور عليهم.
سمعت مرةً أن أحد علماء الشام الكبار - الشيخ بدر الدين هذا شيخ الشيوخ - كان يمشي في الطريق، وكان حاد الذكاء، فطناً، فالتفت فجأةً نحو اليمين فإذا أحد تلاميذه يضحك، قال له: ما الذي يضحكك؟ فالتلميذ نظر إلى جورب الشيخ، جورب الشيخ نزل، فقال الشيخ: الحمد لله الذي أنزل هذا الجورب وأدخل على قلبك السرور، فما ألطف هذا الكلام!! أنت لا ترقى عند الله عزَّ وجل إلا إذا أشعرت الناس أنك واحد منهم، وأنك تحبهم، وترعى مشاعرهم، وتتألف قلوبهم.

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
يروون بالتاريخ عن أحد كبار القواد الذين فتحوا قارة بأكملها، مرة تفقد أحد حراسة فرآه نائماً، حارس ونائم!! فأمسك سلاحه بيده ووقف مكانه، هذا الحارس شبع من النوم ثم فتح عينيه فإذا هذا القائد العظيم يقف في الحراسة مكان هذا الجندي وسلاحه بيده. المؤمن طليق مبتسم محبّب :
كن قريباً من الناس، كن طبيعياً، لا تكن متكلفاً، لا تستخدم أساليب الكهنوت، لا تجعل بينك وبين الناس هوةً كبيرة، لا تشعرهم أنك فوقهم بكثير، أشعرهم أنك واحدٌ منهم، أذكر لكم أنني قرأت مرة تقديماً لكتاب عن شمائل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: " يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدَّست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زكَّيت سيادة العقل وأنهيت غريزة القطيع - الشاهد - يا من هيأك التفوق لتكون واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع "، هذا ملخص هذه الخصلة الرائعة في رسول الله، هو متفوِّق بحيث إنه بإمكانه أن يعيش فوق الجميع لكنه لم يعش إلا بين الجميع كواحدٍ منهم.
فكان عليه الصلاة والسلام يمزح لإدخال السرور على قلوب أصحابه، لو ترك الطلاقة مع أصحابه، ولزم العبوس والانقباض لألزم أصحابه بهذا الخُلُق، وكذلك التابعون، و لصار ديننا دين حُزانى، شخص سألني: فلان؟ قلت له: نعم، قال: هذا أخذ خاطر.
هو دائماً عابس، دائماً مكتئب، أخذ خاطر، المؤمن طليق، مبتسم، محبَّب، قال: لو أنه ترك الطلاقة في وجهه، والانبساط في خلقه، ولزم العبوس والانقباض، لألزم أصحابه بهذا الخُلق، وكذلك التابعون، فأصبح هذا الدين دين انقباضٍ، ودين اكتئابٍ، ودين عبوسٍ، وديناً ينفر منه الناس.

النبي لطيف مع أصحابه و يحمل رسالة عظيمة :
لكن بالمقابل روى الإمام البخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( لست من ددٍ ولا الدُد مني...))
[البخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن أنس بن مالك]
دد أي لست محباً للضحك والمزاح واللهو والعبث، طبعاً النبي كان يمزح، وكان طليق الوجه، وكان منبسط الأسارير، و لكن لا يعني هذا أنه كان مغرماً بالضحك، لا يعني هذا أنه كان يسرف لإضحاك أصحابه، لا فهو جادٌ ويحمل هموم أمته، ويحمل رسالة كبيرة، إلا أنه ُيدخل على قلوب أصحابه السرور بهذا المزاح اللطيف.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لست من الباطل ولا الباطل مني))
[ الجامع الصغير عن أنس ]
هو يحمل رسالة، ويسعى نحو هدفٍ جليل عظيم، لكن لا بأس من أن يكون لطيفاً يمزح مع أصحابه، يدخل على قلوبهم السرور. تحبب النبي للأطفال :
وفي الصحيحين عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
طفل صغير أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام كُنية، يا أبا عمير، كان معه عصفور صغير اسمه النغير، قال: ((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
تصور إنساناً يتربَّع على قمة المجتمع، نبوة على ملك، على عظمة، على علم، على وقار، على هيبة، مع الوحي والإعجاز، ومع ذلك يتحبب لطفلٍ صغير، سماه أبا عمير، يقول له: ((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
قل لي، واستنبط بعض العلماء من هذا الحديث أحكاماً كثيرة. تهادوا تحابوا :
وروى الترمذي أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، كان يُهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام هديةً من البادية - يسكن بالبادية فيأتي بشيء من الحليب، أو شيء من السمن، أو شيء من الصوف - كان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم هديةً من البادية. والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( تَهَادَوْا))
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
والتهادي تبادل الهدايا، وكان عليه الصلاة والسلام يجهزه إذا أراد أن يخرج إلى البادية.
أنت جئتنا بهذا السمن، خذ هذا قماش مثلاً، إذا كان الإنسان له صديق من أهل الريف الكرام، وجاءه بهديةٍ مما ينتج الريف، وأنت تسكن في المدينة، قد يشتهي أولاده الحلوى، قدِّم له علبة حلوى مما تشتهر به المُدن، هو يألف هذا الحليب واللبن والسمن، وهذه الحلوى لا يألفها ليست عندهم، إذا قدَّم لك هديةً من البادية، قدم له هدية من الحاضرة، هكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عليه الصلاة والسلام يقول:
((إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه))
[الجامع الصغير عن أنس ]
هو يجهزنا بمنتجات من البادية، ونحن نجهزه بمنتجات من المدينة. الرجل لا يقيّم بشكله بل بجوهره :
كان عليه الصلاة والسلام يحبه، وكان زاهرٌ رجلاً دميماً، وكان عليه الصلاة والسلام دائماً ينظر إلى الحقائق، إلى الجوهر، الرجل لا يقيّم بشكله، فكان يحبه، ويداعبه، ويمازحه، ويهديه، وكان يقول:
((إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه))
[الجامع الصغير عن أنس ]
وكان دميماً، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام يوماً وهو يبيع متاعه في السوق. ((أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ - إلى هذه الدرجة المداعبة، كان اللهم صلِّ عليه طبيعياً، احتضنه من خلفه وهو لا يبصره - فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا - لا أحد يشتريني - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
وفي قول آخر: ((لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
أنت غالٍ كثيراً عند الله، المؤمن يشعر أن الله يحبه، قد يكون بالمستوى الاجتماعي ضارب آلة كاتبة، وقد يكون حاجباً، وقد تكون قلامة ظفره تساوي عن الله مليون إنسان من علية القوم، هو حاجب و لكنه يخاف الله، ويطيع الله، ويشكر الله، ويقدِّم من ذات نفسه لله، ويشتاق إلى الله عزَّ وجل، حاجب قد تعدل قلامة ظفره مليون إنسان من علية القوم التائهين الشاردين، هكذا ورد، ابتغوا الرفعة عند الله، قال له: ((... مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا - لا أحد يشتريني - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
هذه العلاقة العفوية الطبيعية أساسها الحب، أساسها المداعبة، أساسها تبادل الهدايا. مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه :
وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ:
((أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ ـ في خيمة صغيرةٍ - فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ وَقَالَ ادْخُلْ فَقُلْتُ أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ رآها خيمة صغير جداً لعله يداعب النبي - قَالَ كُلُّكَ فَدَخَلْتُ))
[سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ ]
هنا نقف عند نقطة جديدة: كان عليه الصلاة و السلام يمزح مع أصحابه لكن هناك أشخاصاً لا يسمحون لأحدٍ أن يمزح معهم، لو تجرأ أحد ومزح معهم لأقاموا عليه النكير وعنَّفوه، هذا الصحابي الجليل مزح مع النبي، قال: ((أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ كُلُّكَ فَدَخَلْتُ))
[البخاري عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ]
مزاح لطيف، مهذب، أديب، ومن جملة ما ورد في مزاحه صلى الله عليه وسلم، ما ورد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي -أي يطلب أن يحمله على دابة - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ))
[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]
النبي عليه الصلاة والسلام بدأ يمزح مع هذا الصحابي الجليل.
وجاءت امرأةٌ فقالت: "يا رسول الله احملني على بعير؟ فقال: احملها على ابن بعير. قالت: وماذا أصنع به؟ وما يحملني يا رسول؟ قال: وهل يجيء البعير إلا ببعير؟"
أيضاً أُثر أنه كان يمزح مع أصحابه ولا يمزح إلا حقاً، أما هذه المرأة العجوز التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله ادعُ الله أن يدخلني الجنة؟ قال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز. فولت وذهبت وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول:
﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾
[ سورة الواقعة : 35-37 ]
القصد أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤنس أصحابه، يطيب نفوسهم، يدخل على قلوبهم السرور والمِزاح هذه وظيفته في الحياة، تأليف القلوب، تلطيف الجو، تطييب القلوب، إدخال الفرح على قلب جليسك الذي تحادثه و يحادثك. مزاح أصحاب النبي مع بعضهم :
وقد ورد في الأثر أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتمازحون فيما بينهم، فإذا جاءت الحقائق كانوا هم الرجال، أحياناً تجد في حياة الإنسان فصولاً متباينة، بينما تراه متواضعاً، ليِّن الجانب، رقيق الحاشية، يألف ويؤلف، فجأةً تجده كالأسد الهَصور؛ تجده شديداً، ومقداماً، وشجاعاً. قد تقول: والله شيء غريب، من هذا اللطف الشديد وهذه الوداعة التي لا حدود لها إلى هذه الشدة والقوة؟ هكذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله كانوا يتمازحون، فإذا كانت الحقائق؛ هناك غزوة، هناك أمر جلل، كانوا هم الرجال.
التوفيق بين مزاح النبي وبين نهيه عن المِزاح :
لكن هذا الكلام يدعونا إلى التساؤل: كيف يقول عليه الصلاة والسلام فيما ورد عن الترمذي في كتب الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدَةً فَتُخْلِفَهُ))
[الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]
كيف نوفق بين مزاحه صلى الله عليه وسلم وبين هذا النهي الصريح الواضح عن المِزاح؟ العلماء قالوا: هذا النهي محمولٌ على الإفراط في المزاح، فمن جعل المزاح شغله الشاغل فقد أسرف وتجاوز الحد، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن الإفراط في المزاح، ويبيِّن أن كثرة المزاح تُقَسِّي القلب، بل إن كثرة المزاح تورث العداوة، والأذى، والحقد، وجراءة الصغير على الكبير.
فالمعلم، والمدرس، وصاحب المنصب القيادي إذا مزح مزحاً لطيفاً وقليلاً يؤلف القلوب، أما إذا كثر مزاحه قلّت هيبته، وتجرأ عليه من هم دونه، مَنْ مزح استخف به، كثرة المزاح تُذهب الهيبة، كثرة المزاح تقسِّي القلب، تورث العداوة والبغضاء والحقد، وجرأة الصغير على الكبير.
وقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: " من كثر مزاحه قلَّت هيبته، ومن مزح استخفَّ به"، والتفسير: من أكثر من المزاح، أو من مزح مزاحاً فيه أذىً، أو فيه تحقير لشخصٍ ما، أو لفئةٍ ما، ذهبت هيبته، و لربما لحقه الأذى، فهناك مزاح يسبب أذى و يلحق بصاحبه الضرر.
النهي عن المزاح المؤذي :
روى أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا))
[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
كإخفاء حاجة ثمينة، نقل خبر كاذب مفجع، هذا ليس مزاحاً، هذا مزاح فيه أذى، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا المزاح، فأي مزاح يسبب صدمة للشخص هذا مزاح محرَّم. ((لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا))
[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: ((حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا))
[أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى]
ويوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين، فنعس - أراد أن ينام أو غلبه النوم - فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا المزاح يؤذي، إنه مزاح يخيف، و مزاح يحرج.
وروي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلاً أخذ نعل رجلٍ فغيَّبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم))
[الطبراني عن عامر بن ربيعة]
أحياناً يذهب شباب إلى المسبح أو إلى البحر، و يكون بينهم واحد من الذين يخافون السباحة، يدفعونه إلى لجة الماء دفعاً، فيصيح ويبكي، هذا ليس مزاحاً، كل مزاح يسبب صدمة هذا مزاح منهي عنه: ((لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم))
[الطبراني عن عامر بن ربيعة]
الملخص أن المزاح مندوبٌ إليه بين الأخوة والأصدقاء بما لا أذىً فيه، ولا ضرر، ولا قذف، ولا غيبة، ولا شَيْن في عرضٍ أو دين، ولا استخفافٍ بأحدٍ منهم. امزح مع أصدقائك وإخوانك وأهلك، من دون أذى، ولا ضرر، ولا قذف، ولا غيبة، ولا شَيْن لا في عرضٍ ولا في دين، ولا استخفافٍ بأحد، فإذا خلا المزاح من هذه الشروط أو من هذه النواقص كان مزاحاً مباحاً بل مندوباً إليه. مزاح الرجل مع أهله مطلوبٌ ومحبوب :
قال: أما مزاح الرجل مع أهله وملاطفته بأنواع الملاطفة فمطلوبٌ ومحبوب وهو من أخلاق النبيين، "قالت السيدة عائشة له: أتحبني؟ قال: نعم كعقدة الحبل عقدة لا تفك، فكانت هذه الزوجة الطاهرة السيدة عائشة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام من حينٍ إلى آخر تقول: " كيف العقدة؟ يقول: على حالها".
فالزوج عندما يمزح مع زوجته مزاحاً لطيفاً فهذا مما يؤلف القلوب، أحياناً تبذل من الجُهد فوق ما تطيق إرضاءً لزوجها، لأنه يطيِّب قلبها ويثني عليها ويشعرها أنها شريكته في الحياة.
مزاح الرجل مع أهله وأولاده، وملاطفتهم بأنواع الملاطفة مطلوبٌ ومحبوب، وهو من أخلاق النبيين.
أنا حقاً أرجو اللهَ من خلال هذه الدروس أن يكون بيت كلٍ منكم جنة، السرور بالبيت ليس له علاقة بمساحة البيت، ولا بفخامة الأثاث، وليس له علاقة بنوع الطعام، لكن له علاقة بارتفاع مستوى الإيمان، ممكن أن يكون كل بيتٍ من بيوت المسلمين قطعةً من الجنة، لأنه ليس فيها أجهزة لهو، فالبيت ملائكي، يُتلى فيه القرآن، تقام فيه الصلوات، يتحَدَّث فيه بكتاب الله وبسنة رسوله، ومع ذلك فالزوج يمزح مع أهله ويطيب قلبهم ويؤنسهم، وأولاده كذلك.
يقول سيدنا عمر وهذا قولٌ قد يبدو غريباً: " ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي - الصبي يحب المرح دائماً - فإذا التمس ما عنده وجد رجلاً".
بالحق هو رجل، إذا انتهكت حرمات الله شيء مخيف، يغضب، لكن إذا لم تكن معصية، و لا مخالفة قال: "ينبغي أن يكون الرجل في بيته مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده -من حزم، من إرادة، من ورع، من تصميم- قال: وجد رجلاً".
لذلك قرأت كلمة أعجبتني هي: المؤمن الحق طفلٌ كبير. كيف؟ لأن الطفل عنده صفاء، و لديه براءة و طيب، لا يحقد، لاحظ أحياناً الأب يعاقب ابنه، بعد دقيقة يبتسم له الابن لأنه لا حقد عنده، الآن ضربه، بعد دقيقة واحدة تجده أقبل على أبيه ورمى نفسه في أحضانه، فهذا يعني أنه لا يعرف الحقد، بل عنده صفاء نفسي، و عنده ذاتية، و عنده عفو، لذلك قالوا: المؤمن طفلٌ كبير. طفل من حيث الصفاء، طفل من حيث العفوية، طفل من حيث العفو، طفل من حيث الذاتيَّة، يعبر عن ذاته، لا يقلد الطفل أحداً، لكنه رجل من حيث المروءة، من حيث الشهامة، من حيث العقل، من حيث الورع، من حيث الدين، هذا كلام سيدنا عمر و هو عميق جداً، و ينبغي أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده من حزمٍ وعزمٍ وتصميمٍ وقرارٍ حازم وجد رجلاً.

* * *
تبسم النبي في وجه أصحابه حينما يلقاهم :
بقي موضوعٍ قصيرٌ جداً، كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتبسم في وجوه أصحابه حينما يلقاهم، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ))
[متفق عليه عن جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
ما معنى ما حجبني؟ أي ما اضطرني أن أسأل حاجباً كي أدخل عليه، مفتوح بابه. ((مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ))
[متفق عليه عن جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
وروى الإمام أحمد عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: ((كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثًا تَبَسَّمَ فَقُلْتُ لَا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّكَ أَيْ أَحْمَقُ – تضحك دائماً - فَقَالَ مَا رَأَيْتُ أَوْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا إِلَّا تَبَسَّمَ))
[أحمد عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ]
فكان أبو الدرداء إذا حدث حديثاً تبسم اتَّباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عود نفسك الابتسامة والمؤانسة، وأقرب الناس إليك أهلك، خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي. النبي قدوة و مثل لنا :
مرة ثانية: أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس عن شمائل النبي، ولاسيما عن مزاحه مع أهله وإخوانه، وعن مؤانسته وملاطفته وتواضعه وعفويته، أن يكون هذا الدرس مترجَماً سلوكاً في بيوتكم، و أن ينطلق أحدكم إلى بيته و يدخل على قلب أهله السرور.
ومرة ثانية وثالثة، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، يقول لك أحدهم: البراد مليءْ. دعه خواء وابتسم، فأحياناً الإنسان يأنس باللطف والمودة أضعاف ما يأنس بالطعام والشراب واللباس، إذاً أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس مطبقاً في حياتكم، وأن تغدو بيوتكم قطعاً من الجنة، لأنه ورد في الأثر: " جنة المؤمن داره".
المؤمن بيتيٌّ، أما غير المؤمن فسوقي، أين هو؟ بالمقهى، أين هو؟ بالنادي، أين هو؟ يسهر بالفندق. أما المؤمن فجنته داره، فإذا جعل الإنسان من داره واحة يستريح بها من عناء العمل، ومن تعب النهار، استأنف اليوم التالي العمل بنشاط، وهكذا كانت أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الأخوة المعلومات بصراحة ليس لها قيمة إطلاقاً، المعلومات ليس لها قيمة إطلاقاً كمعلومات، أما المعلومات فقيمتها بالسلوك والتطبيق، لو قرأت هذا الكتاب ألف مرة، وحفظته كلمةً كلمة، وأتقنت أحاديثه، وتخريجها، وتفاصحت على الناس به، ولم تكن بساماً ضحاكاً إذا دخلت بيتك، فلن تنتفع به إطلاقاً، الابن يحتاج إلى تأليف قلبِهِ، يحتاج إلى أب مازح، أب ودود، لكن كل شيء بقدر، و أقول لكم في نهاية هذا الدرس: " المزاح كالمِلح في الطعام، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده " النبي نهى عن المزاح، نهى عن مزاح يؤذي، نهى عن كثرة المزاح، نهى عن الإفراط في المزاح، نهى عن مزاحٍ يخجل، يحرج، يصدم، فالمزاح كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده.
وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نتابع موضوع شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فهو القدوة التي أمُرنا أن نقتدي به، وهو المثل الذي أمرنا أن نسير في أثره، وهو القدوة والمثل والأسوة لقول الله عزَّ وجل:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[ سورة الأحزاب: 21]




والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:27 AM   #10


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( العاشر )

الموضوع : صفاتة : ملاطفته للصبيان ومؤانسته لهم




الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .من إحسانه عليه السلام محبته للصغار :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس العاشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عنوان ملاطفته صلى الله عليه وسلَّم للصبيان ، وملاعبته لهم , فليس عجباً أن تكون هناك علاقةٌ بين عظمة الإنسان , وبين لطفه وإيناسه للضعفاء والصغار .
فقد روى الإمام أحمد بإسنادٍ حسن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ :

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُفُّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ ـ أي يصف الصبيان على نَسق ـ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
[ أخرجه الإمام أحمد في مسنده ]
على عظمة النبي ، وعلى علو مكانته كان ينفق وقتاً في ملاعبة الصبيان ، يصفُّهم على نسق ويقول لهم : (( مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
من علو شأن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان مؤنساً للصغار . يصفُّ عبد الله ، وعُبيد الله ، وكثيّر بني العباس ثم يقول : (( مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ ))
vوفي زوائد ابن حبان عن أنسٍ رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزور الأنصار ))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ]
هناك من يتوهَّم أنك إذا زرت عامة الناس قلَّت قيمتك ، الأمر عكس ذلك ، إذا زرت علية القوم كان هذا من الدنيا ، لقول الله عزَّ وجل : ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة الكهف الآية : 28 ]
إذا زار الإنسان الأقوياء والأغنياء ، وأكل من الطعام ما لذَّ وطاب ، واستمع إلى أحاديثهم ، وشعر أنه قريبٌ منهم هذا من الدنيا ، لكنك إذا زرت الضعاف الفقراء ، وملأت قلوبهم فرحاً هذا من العمل الصالح .
فعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ : (( لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ ))
[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]
وروى البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( رأيت بعينيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أخذ بيديه جميعاً ، بكفي الحسن أو الحسين ـ أمسكه من كفيه ـ وقدميه على قدم رسول الله ـ جعل قدمي الحسن أو الحسين على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ارق ـ أي اصعد ـ قال : فرقي الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قبَّله النبي عليه الصلاة والسلام وقال: اللهمَّ أحبّه فإني أحبه ))
يمسك النبي بكلتا يديه الحسن أو الحسين ، ويضع قدمي الحسن أو الحسين على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وينهضه ويقول : ارقَ ، فيرقى إلى أن يضع قدميه على صدره صلى الله عليه وسلَّم ، فيقبله النبي عليه الصلاة والسلام ويقول : (( اللهمَّ أحبَّه فإني أحبه ))
إخواننا الكرام ؛ أقول لكم هذه الحقيقة : الأب المسلم ، المؤمن ، الصادق إذا دخل إلى البيت يكون عند أولاده عيد ، العيد بدخوله لا بخروجه ، الأب الظالم ، القاسي ، البخيل العيد عند خروجه ، إذا خرج من البيت تنفَّس أولاده الصُعَدَاء ، إذا سافر كانوا أسعد الناس ، أما المؤمن فوجوده في البيت مُسعد .

فكرة أخرى نحتاجها : الأب المؤمن لا ينتظر أولاده وفاته ، لكن الأب البخيل القاسي ينتظر أولاده وفاته بفارغ الصبر ، بل إنه من المُفارقات أنه إذا أصابه مرض وجيِء بالطبيب ، وسُئل الطبيب عن صحة أبيهم ، فإذا قال الطبيب : حالته جيدة ، ليس ثمة خطر ، تجدهم يتألَّمون ، هم لا يريدون هذا ، فأنت كأب بيدك أن تجعل وجودك مٌسعداً في البيت ؛ بلطفك ، وإيناسك ، وحلمك ، وصبرك ، ورقَّة كلامك ، وإنفاقك ، واللهُ الرزَّاق ، ما من إنسان ينفق نفقة على أهل بيته ، وعلى أولاده بنيّة التقرُّب إلى الله ، و بنية تأليف القلوب ، و بنية تمتين العلاقات إلا ويعوضها الله عليه .
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا قَدِم من سفرٍ تلقي بالصبيان من أهل بيته ، وإنه قدم مرَّةً من سفره فسبق بي إليه ، فحملني بين يديه ، ثم جيْءَ بأحد ابني فاطمة رضي الله عنها إما الحسن وإما الحسين فأردفه خلفه ، فدخلنا المدينة ثلاثةً على دابَّة ))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ]
النبي إذا كان في أهله فهو واحدٌ منهم ؛ تواضع ، إيناس ، لطف ، قُرب ، مداعبة ، مباسطة ، هكذا كان النبي .
أيها الإخوة ؛ وما الغاية من تقرير هذه الحقائق ، وإيراد هذه النصوص إلا أن تترجم في حياتكم البيتية ، كل واحد منكم بإمكانه أن يجعل بيته قطعةً من الجنَّة إذا قلَّد النبي فقط تقليداً ، فقلِّدْ النبي يكن بيتك قطعةً من الجنة ، ادخل سلِّم ، ابتسم ، صافح ، قبِّل أولادك واحداً وَاحداً ، احملهم إذا كانوا صغاراً ، اسألهم عن أحوالهم ، أطعمهم بيدك ، فالإنسان عبد الإحسان .
و قبل أن ننتقل إلى الموضوع الآخر تذكَّرت أن النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا قُدِّمت له فاكهةٌ لأول مرَّة ـ في موسمها ـ كان يقبِّلها شكراً لله عزَّ وجل ، وكان يعطيها لأصغر طفلٍ في المجلس ، لأن الطفل يحب الفاكهة , ولا يعرف أنها غالية الثمن ، يريد أن يأكل هذه الفاكهة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت إذا قدمت له فاكهةٌ لأول مرَّة في موسمها قبَّلها وقدَّمها لأصغر صبي . إعدل بين أطفالك :
ويا أيها الإخوة الكرام ؛ أحياناً يكون بين أولادك طفل أجمل من إخوته ، وقد يكون أذكى ، وقد يكون أشد حكمة من إخوته ، هل تظن أن بطولتك أن تأخذ هذا الطفل الجميل ، أو هذا الطفل الذكي فتحمله وتقبِّله ؟ لا والله ، البطولة أن تعامل الجميع كما تعامل هذا ، هذه تحتاج إلى إرادة ، فأحياناً الأب ينسى ، و يهتم بواحد أو باثنين ، فتكون محبته ، وملاطفته ، وإكرامه ، وعطاؤه لواحد أو لاثنين ، لأنه قد يكون أذكى ، أو قد يكون أقرب لقلب أبيه ، أو قد يكون طليق اللسان أكثر من إخوته ، لكن هذا الذي أقل درجة من أخيه يُهمل ، فإذا أُهمل انعقد في قلبه الحقد على أخيه .
فأحياناً بطولتك كمؤمن لا أن تحمل الطفل الجميل الصغير تقبله وتداعبه ، بل عليك أن تعامل الإخوة الآخرين مثله تماماً ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نعدل بين أولادنا حتى في القُبَل ، فكيف بالحاجات ؟ إذا اشتريت حاجات فلتوزعها بالتساوي تماماً ، إذا أكرمتهم فبالتساوي تماماً ، والأكمل إذا كبر أولادك أن تعطيهم بالتساوي ، أحياناً ، أكثر الأسر يسمحون لأكبر ولد أو أكبر فتاة تأخذ كل ما عند أهلها ، أمَّن له أبوه بيتاً , وعملاً , وما زال هناك أربعة أولاد ، هذا عمل ليس فيه عدل ، يجب أن تعطي بالتساوي ، و اعلم أنك لا ترقى عند الله إلا إذا ساويت بين أولادك .

عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا قَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ]
أروع ما في الإيمان العدل بين أولادك وبين بناتك ، والله كَمْ من فترة اتصلت بي امرأةٌ على الهاتف ، واشتكت لي أن أباها خصَّ كل أخٍ من إخوتها ببيت ، أو دُكَّان ولم يخُصَّها بشيء، فهي متألِّمةٌ من أبيها أشدَّ الألم .
أقول لكم : إذا كان بعض الإخوة الكرام من المسلمين يعدلون بين أولادهم ويهملون بناتهم فهؤلاء وقعوا في الظلم ، وكلكم يعلم أن الإنسان يعبد الله ستين عاماً ثم لا يعدل بين أولاده في الوصيَّة ، أو يحرم ولا يحرم ، ويغيِّر شرع الله عزَّ وجل إلا وجبت له النار ، فأنا أدعوكم و القضية خطيرة ، وهذا توجيه النبي، و منهج الدين ، أدعوكم إلى العدل التام بين الأولاد وبين البنات وفق منهج الله عزَّ وجل ، ما دمت ستحاسب حتى في القُبَل ، فما قولك ببيتٍ خصصته لفلان ، وحرمت منه فلاناً ؟ في القُبل ستحاسب ، و الأبوَّة مسؤوليَّة . كن صبوراً ومعلم لأهل بيتك :
ننتقل إلى كمال لطفه صلى الله عليه وسلَّم ، وشدة اهتمامه لمن يسأله عن أمور الدين من الرجال والنساء .
روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال :
(( بينما نحن جلوسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلَّم في المسجد دخل رجلٌ على جملٍ ، فأناخه في المسجد ، ثم عقله ثم قال لهم ))
الآن أيها الإخوة ؛ استنبطوا ما شاء لكم أن تستنبطوا ـ (( قال : أيكم محمد ))
النبي سيد الخلق ، حبيب الحق ، الذي يوحى إليه ، سيد ولد آدم مع أصحابه والداخل عليهم لم يعرفه من هو ، معنى هذا ليس له كرسي خاص ، ولا جلسة خاصَّة ، ولا متكأ خاص ـ (( قال : أيُّكم محمد ؟ ))
والنبي صلى الله عليه وسلَّم بين ظهرانيهم ، معهم ـ (( فقلنا لهذا الرجل : هذا الرجل الأبيض , فقال له الرجل : ابن عبد المطلب أنت ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : قد أجبتك نعم . فقال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام : إني سائلك فمشددٌ عليك في المسألة ، فلا تجد عليّ في نفسك ـ أي لا تغضب بل تحمل ـ وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم يحفُّه بلطفه وقال له : سل عما بدا لك ، فقال : أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلِّهم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اللهمَّ نعم ))
وفي رواية مسلم : (( قال الرجل : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب الجبال وجعل فيها ما جعل آلله أرسلك ؟ قال : اللهمَّ نعم ))
في رواية البخاري : (( قال الرجل : أُنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي ـ أو أن نصلي ، في رواية أخرى ـ الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال : اللهمَّ نعم . قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال : اللهمَّ نعم . قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ قال : اللهمَّ نعم ))
وفي رواية مسلم وسأله عن الحج أيضاً ، ثم قال الرجل : (( آمنت بما جئت به ، وأنا رسول مَن ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ))
برقَّةٍ ، و حلم ، و سَعَة صدر ، و تلطُّف ، و رحمة ، قال له : (( إني سائلك ومشدِّدٌ عليك ))
قال له : (( سل ما بدا لك ))
فالداعية لا ينبغي أن يضيق ذرعاً بمن يسأله ، وطِّن نفسك على أن تُسأل أي سؤال ، إن كنت عالماً حقاً يجب أن تصبر على السائل .
قال عليه الصلاة والسلام : (( تواضعوا لمن تعلِّمون ))
[ من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " ]
وقصَّةٌ أخرى تؤكد سَعة صدر النبي صلى الله عليه وسلم و صبره ، أسماء بنت يزيد رضي الله عنها وصفت بأنها كانت من ذوات العقل والدين ، هذه القصة تؤكد أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف وفي التشريف ، هذه المرأة ذات العقل والدين ، روي عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : (( إني رسول مَن ورائي من جماعة نساء المسلمين ، كلهن يقُلن بقولي ، وعلى مثل رأيي ـ أي أنها تمثل جماعة المسلمات ـ إن الله بعثك للرجال والنساء ، فآمنا بك واتبعناك ، ونحن معشر النساء مقصوراتٌ مخدرات ـ مقصورات أي محجبات في البيوت ، مخدرات في الخدر ـ نحن محجبات ، قواعد بيوت ، وإن الرجال فضلوا بالجمعات ، وشهود الجنائز والجهاد ، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وربَّينا أولادهم ، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ ـ أُعيد : أنت أرسلت إلى الرجال والنساء ، ونحن آمنا بك واتبعناك ، الرجال فضلوا علينا بشهود الجُمع والجماعات والجنائز والجهاد ، إذا خرجوا للجهاد حفظنا أموالهم وربينا أولادهم ، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ ـ فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه فقال : هل سمعتم مقالة امرأةٍ أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ فقالوا : بلى يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : انصرفي يا أسماء ، وأعلمي من ورائكِ من النساء أن حُسن تبعُّل إحداكن لزوجها ، وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرتِ للرجال ))
لا ينطق عن الهوى ، فالإنسان أحياناً يجامل ، فإذا سئل إنسان سؤالاً من قبل امرأة يجاملها ، لعله يقول : أنتِ أفضل من الرجال . أما النبي فهو مشرِّع . فمجاملة ، و مبالغة ، و إرضاء ، و محاباة ، هذه كلها لا تليق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، أسمعوا هذا لزوجاتكم : (( انصرفي يا أسماء وأعلمي مَن وراءكٍ من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ـ أي أن تكون زوجةً صالحةً تقوم على شؤون زوجها وأولادها - وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته ، يعدل كل ما ذكرت للرجال - فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر ، استبشاراً بما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
لا زلنا في الموضوع نفسه ، وقد روي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال : (( جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك ، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال ، فإن يصيبوا أجروا ، وإن قتلوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون ، ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فمالنا من ذلك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أبلغي من لقيتِ من النساء أن طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك ـ لكن الشيء المؤلم أنه قال ـ : وقليلٌ منكن من يفعله ))
[ أخرجه البزار في مسنده ]
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لو تعلم المرأة حق الزوج ما قعدت ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]
فالمؤمن يربي ابنته على هذه الأخلاق ، فإذا زوَّجها كانت زوجةً صالحةً .
وروى البزار هكذا مختصراً والطبراني من حديثٍ فقال في آخره :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : (( ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت : إني رسول النساء إليك ، وما منهن علمت أو لم تعلم إلا وهي تهوى مخرجي إليك ، الله رب الرجال والنساء وإلههن ، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء ، كتب الله الجهاد على الرجال فإن أصابوا أجروا ، وإن استشهدوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون ، فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : طاعة أزواجهن والمعرفة بحقوقهن ، وقليلٌ منكن من يفعله ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]
فاللهَ نسأل أن يلهمنا جميعاً أن نربي بناتنا على هذه الأخلاق ، عندما تشرب البنت من أمها وأبيها وأهلها هذه التوجيهات ، فإذا زوِّجت كانت امرأةً صالحة ، ولا يوجد أي مانع إطلاقاً أن تنقل هذا الدرس لزوجتك ، أو أن تنقل لها شريطه ، لأنه إذا عرفت المرأة أن جهادها في خدمة زوجها وأولادها ، وأن هذا العمل يعدل الجهاد في سبيل الله ، انطلقت إلى خدمة زوجها وأولادها من منطلقٍ كبير ، هي لا تُرضي زوجها فقط ، بل ترضي ربها من خلال خدمة زوجها . أحسن لمن أحسن لك :
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم .
روى البيهقي في الدلائل وابن إسحاق عن أبي قتادة أنه قال :
(( وفَد وفدُ النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه ، فقال له أصحابه : يا رسول الله نكفيك ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم ))
فأحياناً عندما تقدم خدمات بنفسك لإنسان له فضلٌ عليك ، فهذا الشيء رائع جداً ، زرت إنساناً في بلد وبالغ في إكرامك ، فلما جاء ينبغي أن يراك في المطار ، ينبغي أن تأخذه إلى بيتك ، ينبغي أن تحمل أمتعته بنفسك ، هذا من كرم الضيافة ، ومن حسن الاستقبال ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخدم وفد النجاشي بنفسه ، فلما قال أصحابه : يا رسول الله نحن نكفيك ـ أي نكفيك القيام بضيافتهم ـ قال عليه الصلاة والسلام إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وأنا أحب أن أكافئهم .
ومن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، من شمائله العظيمة مقابلته للإحسان بأجمل الإحسان .
إخواننا الكرام ؛ وطِّن نفسك على أن إنساناً ما إذا قدم لك خدمةً ينبغي أن تراه ديناً عليك إلى الأبد وألا تنسى فضله ما حييت ، ووطن نفسك أيضاً على أنك إذا أسديت إلى إنسانٍ معروفاً يجب أن تنساه ، تحتاج إلى ذاكرتين ، ذاكرةً نسَّاءة ، وذاكرة ذاكرة ، فأعمالك الطيبة يجب أن تنساها ، لكنها عند الله محفوظة و لا تخف ، محفوظة وسوف يضاعفها لك أضعافاً كثيرة ، أما إذا أُسدي إليك معروفٌ ينبغي ألا تنساه أبداً .

ورد عن عمر بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال :
(( استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي طلب ماءً ليشرب منه ـ فأتيته بقدحٍ فيه ماء كانت فيه شعرةٌ فأخذتها ـ أي أزلتها من القدح ، ما هذا المعروف ؟ قدم له كأس ماء فوجد فيه شعرة ، أزاحها من القدح ـ فقال عليه الصلاة والسلام مقابلاً لصنعه الجميل : اللهم جَمِّله ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]
قال الرواي : فرأيت عُمَراً وهو ابن تسعين سنة وليس في لحيته شعرةٌ بيضاء ، سحب شعرةً من كأس ماءٍ قدَّمها للنبي ، فقال : (( اللهم جَمِّله ))
أحياناً تقدم خدمات تلو الخدمات ، تقدم معونات تلو المعونات ، ثم يُجحد هذا كله ، ويُنسى ، وكما قال الشاعر : أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
وقد علمته نظم القواف ي فلما قال قافيةً هجانـي
أعلِّمه الفتوة كل حيـن فلما طرَّ شاربه جفاني
* * *

هذا من اللؤم ، و المؤمن لا ينسى الجميل الذي يسدى إليه ، لا ينساه طوال العمر .
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، فسقطت على لحيته ريشة ، فابتدر أبو أيوب فأخذها ، فقال عليه الصلاة والسلام : نزع الله عنك ما تكره ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]
لم ينس إنساناً التقط ريشة ، و الحقيقة أنا أذكر لكم أعمالاً بسيطة جداً، ومثالُها : واحد نزع ريشة عن لحية النبي ، فأحياناً تجد خيطاً فانزعه من على صديقك أو أخيك المؤمن ، وهو يجب أن يقول لك : شكراً جزاك الله خيراً ، وأحياناً يكون على الكتف شيء من الغبار فيميطه ، فقل له : تفضَّلت جزاك الله خيراً . فما قولك فيما فوق ذلك ؟
الموضوع ريشة وشعرة فما قولك فيما فوق ذلك ؟ اعتنيت بإنسان ، وأمضيت معه الساعات الطويلة ، استقبلته في بيتك أياماً عديدة ، قدمت له مساعدة ، خدمته ، و زوجته ، أكرمته ، اعتنيت به ، هذا المعروف أينسى ؟
" البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، اعمل ما شئت كما تدين تدان " .
روى مسلمٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : (( كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ـ أي ماء وضوئه ـ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))
أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ، ماذا رأى النبي خدمة هذا الصحابي له ؟ رآها ضريبةً عليه أن يؤديها ، أو ديناً عليه أن يفيه ؟ فإذا كان إنسان واحد بالأرض يُخدم بلا مقابل ، فهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك رأى خدمته ديناً يجب أن يؤدى ، وكلٌّ منا إنسان عادي ، فإذا إنسان خدمك ، عاونك ، يسَّر لك عملك ، بذل وقتاً من أجلك ، شد رجليه معك ، قدم لك هدية ، قدم لك حاجة ، اعتنى بابنك ، يسَّر لك أمرك ، ألا ينبغي أن تكافئه على صنيعه هذا ؟ (( سَلْ ))
أي اطلب ما تحتاجه في مقابلة خدمتك لي ـ فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال عليه الصلاة والسلام : أو غير ذلك ـ أحياناً تخدم إنساناً خدمة يسلفك مبلغاً من المال كبيراً ، يقول لك الشخص : ادع لي ، أي الله يوفقك ، مجرد كلمة ، مقابل أن سلفك مالاً فلا تقتصر على الدعاء له فقط ، بل قدم له خدمة أيضاً ، أول كلمة : الله يجزيك الخير ، الله يوفقك ، روح الله يوفقك ، هل هذا هو الشيء المناسب ؟ لا ترضى أن تدعو له فقط ، و لكن ما دام قد قدم لك شيئاً ثميناً ، فيجب عليك أن تقدم له شيئاً ثميناً . هل عندكم دليل على ذلك في السنة ؟
عن الحكم بن عمير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فإن لم تجدوا فادعوا له ))
[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ]
هذا إذا لم تقدر .
أما إذا قدرت : (( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه ))
فإن لم تجدوا فادعوا له ، أشخاص كثيرون يقول أحدهم لك : لا أريد شيئاً ادعُ لي فقط . هذا كلام طيِّب لكن لا تقبل أن تكتفي بالدعاء له ، فقال النبي : أو غير ذلك , أي اسأل عن غير ذلك . فقال ربيعة هو ذاك يا رسول الله ، لا أسألك غيره ، عندئذٍ قال عليه الصلاة والسلام فأعني على نفسك بكثرة السجود .
أذكر لكم مثلاً يقرِّب هذا المعنى ، ملك له ابن , قال ابنه : أريد سيارة ، فأعطاها له ، أريد يختًا ، هذا يخت ، طائرة خاصة ، هذه طائرة ، أريد قصراً ، هذا قصر . ملك عنده ويعطي ، أما إذا طلب منه : ضعني رئيس جامعة ، فهذه لا ، فهذه بحسب اجتهادك ، هذا الطلب يحتاج جهداً منك ، ائتني بدكتوراه لأجعلك رئيس هذه الجامعة ، أيُّ طلب مادي يقدمه له أبوه ، لكن ربيعة طلب مرافقته في الجنة ، فماذا قال له النبي : أهِّل نفسك ، أعني على ذلك بكثرة السجود لله عزَّ وجل " ، فالإنسان لا يرقى عند الله إلا بجهدٍ حقيقي .
في رواية أخرى عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : (( كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ أَقُولُ لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةٌ - من شدة محبته ، من شدة تعلُّقه بالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد النبي أن يصرفه يبقى على عتبة باب بيت النبي ، يتسمع ماذا يقول النبي في الليل ، من صلوات ، وتهجُّد ، ودعاء - فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حَتَّى أَمَلَّ فَأَرْجِعَ أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي - والنبي يتهجد ويدعو ، ويسبح ـ ويستغفر ـ فَأَرْقُدَ قَالَ فَقَالَ لِي يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ قَالَ فَقُلْتُ أَنْظُرُ فِي أَمْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أُعْلِمُكَ ذَلِكَ قَالَ فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأْتِينِي قَالَ فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ قَالَ فَجِئْتُ فَقَالَ مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَشْفَعَ لِي إِلَى رَبِّكَ فَيُعْتِقَنِي مِنْ النَّارِ قَالَ فَقَالَ مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ قَالَ فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ سَلْنِي أُعْطِكَ وَكُنْتَ مِنْ اللَّهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ نَظَرْتُ فِي أَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأْتِينِي فَقُلْتُ أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخِرَتِي قَالَ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ لِي إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ))
[ أحمد ]
المقامات العُليا عند الله لا تنال بالوسائط ؛ بل تنال بالأعمال ، تنال بالجهود ، تنال بالجهاد ، تنال بالعزائم ، تنال بالإنفاق . من سنة رسول الله أن تسأل عن أخيك :
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الترمذي وغيره عن هند بن أبي هالة في حديثه يصف النبي صلى الله عليه وسلم وفيه :
(( كان عليه الصلاة والسلام يتفقَّد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ))
[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]
معنى يسأل الناس عما في الناس : أي يسألهم عن أحوالهم كلها ، عن أحوالهم المعيشية ، عن الأمطار في بلدهم ، عن المواسم الزراعية ، فإذا أنت التقيت بأخيك ، اسأله عن أولاده ، فمن الأدب ، من المحبة أن تسأل عن أولاده ، وعن أهله ، وعن عمله ، وعن تجارته ، وعن صحته، وعن أحواله كلها .
و هذه ملاحظة أحب أن أذكرها لكم ، قبل أسبوعين أو أكثر أخٌ كريم يسكن في طرف المدينة ، غاب عن الدروس شهرين تقريباً ، لما رأيته سألته عن أحواله ؟ فقال لي : والله كنت مريضاً . فقلت له : والله ما كان عندي علم ، ولو علمت لأتيتك زائراً عائداً ، فقال لي : والله يا أستاذ ما زارني أحد ، أنا تألَّمت أشد الألم ، وأنا أقول لكم دائماً أتمنى على الله أن يؤاخي كل منكم واحداً ، ألا تستطيع أن تختار من بين إخوانك في المسجد واحداً ، تتفقده ويتفقدك ، تسأل عنه ويسأل عنك ، تتفقد أحواله المعيشية ، ويتفقد أحوالك كذلك ، تسأل عن غيابه ، ويسأل عن غيابك ، تسأله عن أحواله النفسية مع الله ، و هو يفعل كذلك أيضاً .
ألا تستطيع أن تؤاخي واحداً والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتآخى اثنين اثنين ؟ ألا تريد أن تكون وفق سنة النبي ؟ ألا تريد أن تكون أخاً مؤمناً ؟ فما أجملها أن يأتيني أخو هذا الأخ الكريم ، أخوه في الله ، ويقول لي : فلان مريض ، أنا والله لا أقصر ، إذا ذهبت إليه زائراً ، وقدمت له هديةً متواضعة ، فماذا تفعل هذه الهدية وتلك الزيارة في نفسه أمام زوجته و أمام أولاده ؟ إنها شيء ثمين جداً .
أخوك مرض ، أخوك سافر ، له مشكلة ، عليه قضية ، يعاني من أزمة مالية ، تفقده فقط ، اسأل عنه ، بصراحة صعب على الإنسان أن يحفظ ثلاثة آلاف شخص أو أربعة آلاف ، شيء فوق طاقة البشر ، لماذا فلان لم يأت اليوم ؟ لكنّ واحداً لواحد أمر سهل ، فمن الصعب علي أن أحفظ ثلاثة آلاف ، وأسأل عن فلان أتى لم يأت اليوم وأتفقده ، هذا شيء فوق طاقتي ، لكن هناك أشخاص لشدة اهتمامهم بالدرس ، وتواجدهم الشديد فلو غاب أحدهم عن درس أو درسين أشعر بغيابه ، لكن بقية الإخوة الكرام ، ينبغي أن يتآخوا اثنين اثنين ، وأنا أطلب منكم ذلك .
سألت رجلا : من أخوك في الله ؟ والله لو قال لي : لم أؤاخ أحداً فهذا سآلم منه ، لأنها سنة ، هذا الذي قال لي : والله يا أستاذ شهرين ما طرق بابي أحد ، وأنا مريض ، وهذا له زملاء ، و له جيران من إخوان المسجد لم يبلغوني ، ولم يعرفوا بمرضه ، ولم يزوروه فهذا يحزّ في نفسي.
طلب رسمي : أطلب إليكم على كل واحد منكم أن يختار أخاً يؤاخيه يتفقده ، و يزوره ، يسأل عنه ، عن صحته ، عن أولاده ، عن دوامه ، عن أهله ، فأحياناً يعاني الإنسان من مشكلة كبيرة جداً ، وهذه تحل بمبلغ بسيط لا يملكه ، فماذا يفعل ؟ فهل يلجأ إلى الغرباء أم إلى المقربين؟

لذلك روى أبو يعلى بإسنادٍ فيه ضعفٍ عن أنسٍ رضي الله عنه :
(( أن النبي صلى الله عله وسلم كان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيامٍ سأل عنه ))
[ أخرجه أبو يعلى ]

أخ زارني ذات مرة في فترة العيد ، فلم يجدني ، وضع بطاقة ، أنا أعرفه بالشكل و لا أعرف اسمه , فلما أعلمني أنه زارني ووضع بطاقة ، ربطت بين الاسم وبين الشكل ، بعد حين افتقدته ، البطاقة عندي في البيت فيها رقم هاتفِهِ ، اتصلت به ، صدقوني أيها الإخوة ؛ قال لي : " والله لن أنسى هذا الاتصال ما حييت ، وبعد هذا الاتصال لن أغيب عن درسٍ واحد ، كان الاتصال كبيراً جداً عندي ، ماذا كلفني ذلك ؟ مجرد اتصال ، الحياة أساسها تعاون ، محبة ، أنت لما تتفقد إخوانك ، فقد أصبحت عنصراً بأسرة ، لم يعد موضوع جماعة ، فأصبحنا جميعاً أسرة ، هذا الذي أريده منكم .
فأتألم عندما واحد منكم يمرض ، ويمضى شهر أو شهران ، ولم يزره أحد ، فهذا خلاف السنة . (( مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ ))
[ من مسند أحمد : عن " الحكم بن ثوبان " ]
(( يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ))
[ من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " ]
أنا والله لا أقصر ، وبحسب الإمكانات فلا يمرض أخ إلا أبادر إلى زيارته ، وأحاول آخذ أن معي هدية ولو كانت متواضعة ، عوِّد نفسك أن تزور إخوانك ، أن تتفقدهم ، أن تقدِّم لهم الهدايا ، هذا مما يمتِّن العلاقات ، إذا كان الشيخ له دور في إلقاء العلم ، فأنت لك دور في تثبيت هذا الأخ ، دورك من نوع آخر ، دورك دور مثبِّت ، أحياناً للملابس صباغ ، ولها مثبت للصباغ ، فالأخ الكريم دوره مع إخوانه دور مثبت . (( كان عليه الصلاة والسلام إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيامٍ سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده ))
[ من الجامع الصغير : عن " أنس " ]
هذه السُنَّة .
مرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام , أعتقد في غزوة تبوك , عن بعض أصحابه , فأحدهم غمز أنه شغله بستانه ، فقال صحابيٌ آخر : (( لا والله يا رسول الله لا نعلم عليه إلا خيراً ، لقد تخلَّف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك ))
فإذا غاب أخ ، فلا نلومه بقولنا : لا يسأل عن الدروس ، لا تقل هذا الكلام ، أحسن الظن بأخيك ، وإذا سألنا عن أخ : فلان لم نره الجمعة , فلا تكن إجابتك :
" عامل سيران يا سيدي ".
هذا سوء ظن ، لعله مريض .
قال : (( واللهِ ما علمنا عنه إلا خيراً ، لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو علموا أنك تلقى عدواً ، ما تخلفوا عنك ))
من صفاته عليه السلام حفظه للود :
ننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حفظه للود واحتفاظه بالعهد .
أخرج البخاري في صحيحه في باب حسن العهد من الإيمان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
(( مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ - ماتت - قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا - أي يثني عليها خيراً - وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ ))
لا يفتأ يذكر خديجة ، وقد ماتت خديجة ، فالآن إذا تزوج أحد امرأة بعد زوجته وذكرها فيقال : الله أراحنا منها ، هكذا يقول بعض الأزواج ، لكن حسن العهد من الإيمان .
وروى الحاكم والبيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( جاءت عجوزٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : كيف أنت ؟ كيف حالكم ؟ كيف أصبحتم ؟ قالت : بخير ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله تُقْبِلُ على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : يا عائشة إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، إكراماً لخديجة ، وأن حسن العهد من الإيمان ))
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي الطفيل قال : (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة ، وأنا يومئذ غلامٌ أحمل عضو البعير ، فأتته امرأةٌ فبسط لها رداءه ، قلت : من هذه ؟ قيل : هذه أمه التي أرضعته ))
أي هي حليمة السعدية رضي الله عنها ، مد لها رداءه .
وروى أبو داود عَنْ عُمَرَ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ : (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ - أي زوج حليمة السعدية ، أبوه من الرضاعة - فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ))
فأصبح لا فراغ عنده ، أمه ، وأبوه ، وأخوه ، وكان يُجلّهم رسول الله بعد أن جاءه الوحي و حمل الرسالة .
ومن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور أصحابه ، كما قلت قبل قليل ، وقد يتوهم المتوهم أن زيارة الكبير لمن هو دونه مما يقلل شأنه , لا بل العكس هو الصحيح ، كان عليه الصلاة والسلام يكثر زيارة الأنصار خاصةً وعامةً ، كان إذا زار خاصةً أتى الرجل في منزله ، وإذا زار عامةً أتى المسجد .
وروى الترمذي والنسائي ، عن أنسٍ رضي الله عنه قال : (( كان عليه الصلاة والسلام يزور الأنصار ، ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ))
وجاء في الأدب المفرد للبخاري ، في باب من زار قوماً فطعم عندهم ، ثم أسند إلى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيتٍ من الأنصار فطعم عندهم طعاماً ، فلما خرج أمر بمكانٍ من البيت ، فنضح له على بساط فصلى عليه ودعا لهم .
فإذا زرت أشخاصاً وأطعموك فادع لهم و قل : اللهم بارك هذا البيت وبارك أهله ، وزد فيه الخير ، وقل أكل طعامكم الأبرار وصلَّت عليكم الملائكة الأخيار ، وذكركم الله فيمن عنده ، شيء جميل جداً ، أن تدعو لأهل البيت بالبركة وبالخير.
وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : (( زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ , قَالَ فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا - بصوت منخفض - فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَوُضِعَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ أَوْ قَالَ نَاوَلُوهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ وَوَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ ثُمَّ أَصَابَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ قَالَ فَانْصَرَفْتُ ))
وعند أبي داود عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : (( زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا قَالَ قَيْسٌ فَقُلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَرْهُ يُكْثِرُ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنْ السَّلَامِ قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ ثُمَّ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ قَالَ فَانْصَرَفْتُ))
[ أخرجه أبو داود ]
أحياناً يكون الإنسان قد أتي من السفر ، يستقبله صاحبه ، شيء جميل جداً ثم يدعوه إلى حمام ، و الإنسان إذا اغتسل يتنشط على أثر تعب ، الصحابي الجليل أمر بغسل ليتبرد النبي ، إذا إنسان دعا آخر و استضافه ، يجب أن يدعوه إلى حمام ، إلى استلقاء ، إلى تغيير ثيابه ، هذه مبالغة بالإكرام ، فسيدنا سعد أعد للنبي ماءً ليغتسل فيه ويتبرد . (( فاغتسل النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم ناوله ملحفةً مصبوغةً بزعفران وورس ، فاشتمل بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ))
إخواننا الكرام ؛ من أكرم أخاه فكأنما أكرم ربه ، ولا سيما المسافر ، فالإنسان في حضرِهِ له بيت ، له غرفة نوم ، له مطبخ ، حمام ، يتكئ ، يرتاح ، يغير ثيابه ، يستلقي ، لكن إذا سافر فهو في أمس الحاجة إلى إكرام ، إلى بمبالغة بالإكرام ، هكذا فعل سيدنا سعد بن عبادة . (( ثم أصاب من الطعام ، فلما أراد النبي عليه الصلاة والسلام الانصراف قرَّب إليه سعد حماراً ))
دابة ـ
تجد أحياناً شخصاً يزور شخصاً آخر ، ويملك سيارتين أو ثلاثاً أمام الباب ، والدنيا مطر وبرد يقول له : مع السلامة ، لا يا أخي ، بل أوصِلْه إذا كان ضيفك غاليًا عزيزاً عليك ، أوصِله ، هذه تحسب عند الله ، لك أجر كبير ـ (( قرَّب إليه الدابة ، وضع عليها قطيفةً ، فقال سعد : يا قيس ـ يخاطب ابنه ـ اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قيس : قال لي النبي الكريم : اركب ، فأبيت ، فقال : إما أن تركب وإما أن تنصرف ))
ليس هناك حاجة ، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يستهلك جهد الآخرين بلا سبب ، أو بلا فائدة ، الوقت ثمين ـ (( قال له : اركب معي ، فإن لم تركب فانصرف ، قال : فانصرفت ))
وفي رواية أخرى : (( أرسل سعد ابنه قيساً مع رسول الله ليرد الحمار . فقال عليه الصلاة والسلام : احمله ـ أي ضعه على الدابة ، أي أمامي على الدابة ـ فقال : سعد سبحان الله أتحمله أمامك ؟ فقال : نعم هو أحق بصدر الدابة ، فقال سعد : هو لك يا رسول الله قال : إذاً احمله خلفي ))
قال : فانظر إلى كمال لطفه صلى الله عليه وسلم ، وحسن معاشرته ، ورعايته للحقوق ، وإعطائه كل ذي حقٍ حقه .
و نرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادم .

والحمد لله رب العالمين



 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المحمدية, الشمائل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 2 )
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشمائل المحمدية - إنبساطه مع أهله وذوي القربى ، مباسطته مع زواره آفراح رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 12 04-16-2021 06:03 PM
من معالم الرحمة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 8 07-14-2014 05:14 AM
عموم الرسالة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 06-10-2014 01:04 AM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 11:12 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.