حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 09-04-2018, 08:40 AM   #1


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الاول )


الموضوع : عائشة بنت ابى بكر


خطبتها من النبى




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم حديث السيدة خولة بنت حكيم وهي تحدثنا عن خطبة السيدة عائشة للنبي :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس العاشر من دروس سيَر الصحابيِّات الجليلات رضوان الله عليهن أجمعين، ومع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الزوجة الثالثة، وهي من أحب الزوجات إلى قلبه الشريف؛ إنها السيدة عائشة رضي الله عنها .
أيها الأخوة الكرام, مر بنا من قبل أن خولة بنت حكيم، اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن يتزوَّج عائشة بنت أبي بكر، إن فَعَلَ هذا, تمتَّنت هذه الصلة بينه وبين أحب الخلق إليه؛ إنه سيدنا الصديق رضي الله عنه .

والحقيقة: أن الزواج يقرِّب، الزواج أحد أكبر وسائل التقارب بين الأسر، لأن علاقة النسب، وعلاقة الزواج، هي من أقدس العلاقات على الإطلاق, قال تعالى:

﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾
[سورة النساء الآية: 21]
﴿ميثاقاً غليظاً﴾
قالوا: هذا الميثاق الغليظ هو عقد الزواج الذي هو أقدس عقدٍ على الإطلاق.
الآن: ندع الحديث للسيدة خولة بنت حكيم تحدثنا عن هذه الخطبة.
تقول: (دخلت بيت أبي بكر, فوجدت أم رومان، -أي أم عائشة- فقلت لها: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ فقالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخطب له عائشة .
-فأقول لكم بصراحة: إذا سخَّر الله إنساناً ليكون شفيعاً بين زوجين، يدخل على قلب الأسرتين كل السرور، ففرحة من أفراح الدنيا الكبيرة أن الله سبحانه وتعالى سخَّر لابنتك شاباً مؤمناً، الشاب المؤمن إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها، من نِعَم الله الكبرى أن يمنحك الله زوجاً لابنتك من ذوي الخلق، من ذوي الحسب، من ذوي التديُّن الصحيح، هذه نعمةٌ كبرى .

لذلك كل من يُسهم في التوفيق بين زوجين، أو يسهم في إنشاء زواجٍ ميمون، مبارك ، إسلامي، له عند الله أجرٌ كبير, قال عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
فهذه الأسرة التي تقوم على التفاهم، والمودة، وإنجاب الأولاد، وتربية الأولاد, الذين يُرجى أن يكونوا الأولاد عناصر طيِّبة في المجتمع، كل هذا المشروع الضخم، في صحيفة من سعى بزواج الزوج بالزوجة .
مرة حدثني أخ فقال: نحن الآن خمسة وثمانون شخصاً، أساسهم زوج وزوجة، طبعاً أنجبوا أولاداً، وزوَّجوا أولادهم، كما أنجبوا بنات، وزوجوا بناتهم، الأولاد والبنات، وأولاد الأولاد، وأولاد البنات، وأصهار بنات الأولاد، وأصهار بنات البنات، عددهم خمسة وثمانون شخصاً, إذا كانت أسرةٌ صالحةٌ، أب راقٍ، تربية عالية، انضباط، التزام، النساء كلهن محجَّبات ، الأصهار كلهم ديِّنون, فمن بصحيفته كل هذا الخير؟ الذي كان له شفاعة حسنة بهذا الزواج, من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح))
لا تقل كما يقول الشياطين: امش بجنازة ولا تمش بزواج .
ورد بالأثر: أنه من مشى بتزويج رجلٍ بامرأةٍ, كان له بكل كلمةٍ قالها، وبكل خطوةٍ خطاها, عبادة سنةٍ قام ليلها، وصام نهارها, لا تزهد أن تكون شفيعاً بين زوجين، لا تزهد أن تسعى لإقناع زوجٍ بشابةٍ مؤمنة، لا تزهد أن تسعى بإقناع شابةٍ مؤمنةٍ بزوجٍ طاهر، لا تقل: ليس لي علاقة، الأفضل لي ألا أتدخل, هذا كلام الشيطان . ((الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ, وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ, خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ, وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
الحياة دار ابتلاء، اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله- .
قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخطب له عائشة, فقالت: وَدِدْتُ, -والله شيء جميل، سيد الخلق، فإذا الإنسان جاءه صهر دكتور، يظل يعيدها مليون مرة، صهرنا دكتور, خير إن شاء الله، صهرنا مهندس، صهرنا عنده معمل، انظر إلى الأب والأم إذا زوَّجوا ابنتهم من شخص مهم, فهذا شيء جدير بالتنويه والاهتمام، لا يفتؤون يتحدثون عن شهاداته، وعن علمه، وعن أخلاقه، وعن مستقبله المرتقب, إذاً: شيء كبير جداً أن يكون النبي صهراً لهذه الأسرة .

لذلك العلماء قالوا: طالب العلم كفؤٌ لأي فتاة, طالب العلم يعرف ما له وما عليه- .
قالت: وددت، انتظري أبا بكرٍ فإنه آتٍ, وجاء أبو بكر، فقلت له: يا أبا بكر, ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخطب له عائشة , -تصوروا ماذا قال؟- قال الصديق رضي الله عنه: وهل تصلح له؟ -رأى مقامه أكبر بكثير من أن تكون عائشة الصغيرة زوجته، إنما هي بنت أخيه- .
فرجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقلت له ما قال أبو بكر, فقال عليه الصلاة والسلام: ((ارْجِعِي إِلَيْهِ فَقُولِي لَهُ: أَنَا أَخُوكَ وَأَنْتَ أَخِي فِي الإِسْلامِ, وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي فَرَجَعَتْ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
فأتيت أبا بكرٍ فذكرت له ذلك، -فبرزت مشكلة ترفع مقام سيدنا الصديق للأوج- قال : انتظريني حتى أرجع .
قالت أم رومان توضِّح الموقف لخولة: إن المطعم بن عدي كان قد ذكر عائشة على ابنه زبير، ولا والله ما وعد أبو بكرٍ شيئاً قط فأخلف .
ذكر المطعم بن عدي أنه يرغب في أن يزوِّج ابنه زبير من عائشة، -سيدنا الصديق ما أقر ولا نفى، ولكن سكوته شبه وعد، فلا يقدر أن يبت في الأمر، للوفاء بالوعد، الزبير بن المُطعم بن عدي هل يوزن مع رسول الله؟ الوفاء والعهد هو الدين، فأنا أتصور أن سيدنا الصديق كاد يتمزَّق إن فاتته فرصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، أو لم يخطر في باله أبداً أن يخطب النبي عليه الصلاة والسلام ابنته عائشة, طبعاً كل أب إذا جاءه شاب جيد, وأعلن عن رغبته, فمن الممكن أن ترحب وبالترحيب يصير شبه وعد، لا يستطيع أن يقول: نعم للنبي, حتى يُنهي هذه المشكلة- فذهب من توِّه إلى المطعم بن عدي .
دخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم زبير، وكانت مشركةً، فقالت العجوز: يا بن أبي قحافة, لعلنا إن زوَّجنا ابننا من ابنتك, أن تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه .
-نحن عندنا مشكلة معك، نخاف أن نزوِّج ابننا من ابنتك, فتصبئه معك وتدخله في دينك، هذا كلام الزوجة, سيدنا الصديق لم يرد عليها إطلاقاً- بل التفت إلى زوجها المُطعم فقال: ما تقول هذه؟ هل حقاً تخاف إن زوَّجت ابنك ابنتي أن يدخل معي في الإسلام؟ فقال: إنها تقول كذلك, -أي أيدها، ووافقها، واعتمد قولها- .
فخرج أبو بكرٍ رضي الله عنه, وقد شعر بارتياحٍ لما أحلَّه الله من وعده، وعاد إلى بيته فقال لخولة: ادعِي لي رسول الله .
-يبدو أن هناك تقليداً في الحياة العربية أن الخاطب لا بد من أن يأتي إلى بيت المخطوبة هكذا، انظر إلى الموقف الأخلاقي: ((لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ, وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ))
[أخرجه أحمد عن أنس بن مالك في مسنده]
أنا قرأت عن الصحابيِّات الجليلات كثيراً، لكن لفت نظري إحدى الصحابيات، عندها خمسة أولاد، وقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، أيَّة امرأةٍ أتيح لها أن تكون أم المؤمنين فترفض؟ أية امرأةٍ يمكن أن تكون السيدة الأولى في المجتمع فترفض؟ .
قالت: يا رسول الله, عندي أولادٌ خمسة, أخاف إن رعيتُ مصالحهم أن أقصر في حقك ، وأخاف إن رعيتُك أن أقصِّر في حقِّهم، فأنا لا بدَّ ظالمة واعتذرت, فقال عليه الصلاة والسلام: ((يرحمك الله, إن خير نساء, ركبن أعجاز الإبل, صالح نساء قريش, أحناه على ولد في صغر, وأرعاه على بعل بذات يد))
[أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس في مسنده]
ما هذه المواقف؟ فسيدة يتاح لها أن تكون السيدة الأولى، يتاح لها أن تكون أم المؤمنين ، يتاح لها أن تكون زوجة رسول الله، فتحتار لا بد من أن أظلم زوجي أو أولادي، فأرادت أن ترعى أولادها، وقد فوَّتت حظها من أن تكون أمّ المؤمنين، هذه الجنة لمثل هؤلاء.
امرأة في الطريق رأت عالماً أزهرياً, قالت له: يا سيدي, أيحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عنا: ناقصات عقلٍ ودين؟ هذا العالم الأزهري فطن, قال لها: والله ما له حق ، لكن هذا الكلام ليس لكُنَّ، هذا الكلام للصحابيات, أما أنتن فلا عقل ولا دين .

شيء لا يصدَّق: لأنها رعت أولادها تنازع رسول الله دخول الجنة، لذلك أنا حينما أرى أماً تهتم بأولادها؛ بطعامهم، بصحتهم، بلباسهم، بترتيب غرفتهم، بمراعاة حاجتهم، بمراقبتهم، بالعناية بأخلاقهم, إلى أن يصبحوا شباباً من الدرجة الأولى، هذه أم في أعلى المقامات، لذلك الإسلام فيه صلاة, وحج, وصوم, وزكاة، وتكاليف كثيرة، لكن أعلى شيء في الإسلام ذروة سنام الإسلام، يعني أن أعلى نقطة في سنام الإسلام: الجهاد، يقول عليه الصلاة والسلام:

((انصرفي أيتها المرأة, وأعلمي من وراءك من النساء, أن حسن تبعل إحداكن لزوجها, وطلبها مرضاته, واتباعها موافقته, يعدل ذلك كله))
أي الجهاد في سبيل الله .
لا أعتقد أن امرأةً من بين ألف امرأةٍ تعي هذا الحديث، والنبي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحيٌ يوحى، وها أنا أضرب مثلاً ولا أعرف:
لو أن امرأةٍ, ثابرت على قيام الليل، وصلَّت ما شاء لها أن تصلي، وقرأت القرآن، واستغفرت، وذكرت الله، وفي الساعة السادسة صباحاً تعبت، فألقت رأسها على الوسادة لتنام، وأولادها ينبغي أن يستيقظوا بعد قليل، وأن يأكلوا، وأن يرتدوا ثيابهم، فأهملتهم, وقالت لهم: قوموا وحدكم، كلوا واشربوا, واذهبوا إلى مدارسكم، فأنا بالمقياس الديني الحقيقي أنّ هذه امرأةٌ ما عبدت ربها؛ لأنها أهملت أولادها .
ولو استيقظت قبل شروق الشمس بنصف ساعة، وصلت الفجر، واهتمت بأولادها، فهيَّأت لهم الطعام، وراقبت ارتداءهم ثيابهم، وراقبت أعمالهم، وأرسلتهم إلى المدرسة، وبعدها ألقت رأسها على الوسادة, فإنها عند الله أفضل ألف مرة من هذه التي عبدت وأهملت .

كل إنسان يعبد الله فيما أقامه، شيء خطير أقوله: كل إنسان ينبغي أن يعبد الله فيما أقامه، أقام هذه المرأة زوجةً, فأعلى عبادةً لها, أن ترعى حق زوجها وأولادها، أقامك غنياً, أرقى عبادةً لك أن تنفق هذا المال في سبيل الحق، أقامك قوياً, أقوى عبادةٍ لك, أن تنصف المظلوم، أقامك أميراً, عليك أن تعدل، أقامك عالماً, عليك أن تُلقي العلم بسخاء من دون تردد، كل إنسان ينبغي أن يعبد الله فيما أقامه الله .
فلو فرضنا مدير ناحية, يقوم الليل, ويذكر, ويقرأ القرآن، وأهمل عمله، لكان أولى له أن يسهر, ليحل مشكلات الناس، وأن ينصف بينهم، ويتابع قضاياهم، فهناك سارق، وهناك إنسان منحرف، وتلك عصابة فساد، إذا تتبَّع مهام عمله وأدَّاها على خير ما يكون، فهو يعبد الله، فيجب أن تعبد الله فيما أقامك .

يجب أن تعبده في الظرف الذي وضعك فيه؛ عندك ضيف، عبادة الله أن تُكرم هذا الضيف، تهيئ له منامه، طعامه، شرابه، الأب مريض؛ عبادة الله أن تمرِّض أباك، أن ترعاه، عندك ابن يحضّر للامتحان؛ عبادة الله أن تعتني بابنك أثناء الامتحان، عندك زوجة مريضة، يجب أن تعبد الله فيما أقامك, وفي الظرف الذي وضعك فيه، فأنت بذلك أديت المهمة على ما ينبغي- .
فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت خولة إلى الرسول الكريم فدعته، فجاء بيت صديقه أبي بكر، فأنكحه عائشة, وهي يومئذٍ بنت ست سنين أو سبع, -طبعاً لم يقع زواج لكن جرى عقد- وكان صداقها خمسمئة درهم .
ولا يذكر التاريخ عنها إذ ذاك, إلا أنها خطبت لزبير بن مطعم، وأبوها أبو بكر بن قحافة، وأمها أم رومان بنت عمير بن عامر من بني الحارث بن غنم بن كنان . إليكم النسب الذي كانت تحويه السيدة عائشة :
قال: (عُرفَ قومُ عائشة، وهم بنو تميم بالكرم، والشجاعة، والأمانة، وسداد الرأي، كما كانوا مضرب المثل في البر بنسائهم، والترفُّق بهن، وحسن معاملتهن) .
فهناك أسر عريقة, عندهم الزوجة مكرمة, الكنة شابة مكرمة، تعامل كبنت من بنات الأسرة، وهناك أسر خسيسة, تقسو في معاملة زوجة ابنها قسوةً لا حدود لها، وكأنها خادمة، وكأنها إنسانة أجيرة، فالإنسان كلما ارتقى، كلما ارتقت معاملته .

وهذه كلمة حق أقولها لكم: في الإسلام مقياس لو طبَّقه الناس لما وجدت أية مشكلة, عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، عامل زوجة ابنك، كما تحب أن تعامل ابنتك, هذا مقياس ، لا يخيب أبداً، أنا أذكر طرفة لكنها واقعة:
امرأة اشترى ابنها آلة كهربائية مريحة لزوجته، وهو يسكن مع أمه، فأقامت عليه النكير، أقامت الدنيا على رأسه، لماذا هذا الإسراف؟ لا يحق لهذه المرأة هذه الغسالة، وفي اليوم نفسه, اشترى صهرها لزوجته غسالة مشابهة، أثنت عليه: الله يرضى على فلان، ريّح لي ابنتي, أرأيتم إلى هذا التناقض؟ لو أن الإنسان خرج عارياً, وهذا أمر بشعٌ جداً، والله أهون من أن يتناقض كلامه وسلوكه .
مرة كنت في محل تجاري, شاب في الصف الثامن, بائع أقمشة، فحمله صاحب المحل أثواباّ؛ أول ثوب، وثاني ثوب، وثالث ثوب، ورابع ثوب, حتى لم يستطع الحمل، قال له : لا أقدر, قاله له: أنت شاب, فلا تقل لا أقدر, وبالوقت نفسه, حمل ابنه ثوباً واحداً, فقال له: احترس على ظهرك, أرأيت إلى هذه العنصرية, فقد خاف على ظهر ابنه من ثوب واحد، أما الأجير حمله ما علمتم .

وها أنذا أقول لكم هذه الكلمة: لن تكون مؤمناً إلا إذا عاملت الغريب كما تعامل ابنك، ولن تكون مؤمناً إلا إذا عاملت زوجة ابنك كما تعامل ابنتك, هذا هو الإيمان، أما تلك التفرقة فهي مرذولة حقاً، العالم الآن سيخرج من جلده من الأقوياء الذين يكيلون بمكيالين، تجد عندهم تساهلاً ما بعده تساهل، وقسوة ما بعدها قسوة, فأبشع شيء في الإنسان التناقض، والتناقض لا يحتمل, ولكنها شريعة الغاب .
سيدنا الصديق رضي الله عنه صدِّيق، والصديقية المرتبة التي تلي النبوة، رتبة الأنبياء أعلى شيء, رسول ، نبي ، ثم صديق، ولي, مؤمن، مسلم، ثم هناك خط أحمر، ثم يتلوه هلاك، إن سيد الأنبياء والمرسلين رسول الله، رسول، أولو العزم، رسل من غير أولي العزم، أنبياء، صديقون، أولياء، مؤمنون، مسلمون، هذه المراتب في الإسلام .
قالوا: سيدنا الصديق له شهرةٌ ذائعة في دماثة الخُلق، وحسن العشرة، وقد أجمع مؤرخو الإسلام على أنه كان أنسب قريشٍ لقريش، وأعلم الناس بها، وبما كان فيها من خيرٍ وشر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلقٍ معروف، يأتيه رجال قومه, ويحكّمونه في أمورهم لعلمه، وخبرته، وحسن مجالسته، ومن نعم الله الكُبرى عليك أن يكون الذين حولك على شاكلتك
أن يكون الذين يجالسونك يجانسونك, وأكبر عقاب يعاقب به الإنسان, أن يعيش بين أناسٍ دونه بكثير، هو في واد, وهم في واد، هو في مستوى، وهم في مستوى آخر.
أخواننا الكرام, لقد درسنا سيرة سيدنا الصديق في هذا المسجد، فشيء جميـل أن تتصوروا عظمة هذا الإنسان في تواضعه، أدبه، شوقه إلى الله، ورعه، يقول عليه الصلاة والسلام:
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر))
((ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر, قيل: فبكى أبو بكر, قال: يا رسول الله, وهل أنا ومالي إلا لك؟))
فإذا أردت أن تكون مؤمناً من الطراز الأول, اجعل هذا الصحابي الجليل قدوةً لك, كان يحلب الشياه لجيرانه، فلما تسلَّم الخلافة, ظن الجيران أنه لن يتابع هذه الخدمة، طُرق الباب، افتحي يا بنيتي, من الطارق؟ قالت لأمها: جاء حالب الشاة, بعد أن تسلَّم الخلافة .
سيدنا الصديق يمشي على قدميه, وهو خليفة المسلمين، وسيدنا أسامة بن زيد، عمره سبعة عشر عاماً, يركب الناقة، قال: ((والله يا خليفة رسول الله, لتركبن أو لأنزلن, قال: والله لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليَّ أن تُغبّر قدماي ساعةً في سبيل الله))
خاتمة القول :
أيها الأخوة, إن شاء الله سنتابع سيرة هذه الصحابية الجليلة، التي هي من أذكى نساء النبي، وقد روت عن رسول الله ألفي حديث، لو كانت رجلاً, لكانت من كبار العلماء، عالمةً، فقيهةً، راوية للحديث، وكانت من أحبِّ الزوجات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه السيدة المصون أيضاً, قدوةٌ لكل امرأةٍ, تطمح أن تكون ذات شأنٍ عند الله عز وجل .
الحديث عن زوجات النبي حديث ممتع، لأنه يتناول كمال النساء، والإنسان يشعر بسعادة, حينما يستمع إلى مواقف كاملة، ويشعر بالأسى والحزن, حينما يرى الإنسان يهبط, الخسة، والدناءة، والخيانة الزوجية، والتطاول على الزوج، وإهمال الأولاد، والبذاءة في اللسان، والقسوة في الكلام، والزينة لغير الزوج، وإهمال الزوج، فهذا واقع النساء، في الطرقات جميلة, لكن البيوت جحيم، الطرقات كل شيء فيها، أما السلف الصالح الطرقات خاوية, ولا شيء فيها مما يفسد الأخلاق إطلاقاً، أما البيوت فكانت جنَّات، الآن أصبحت البيوت جحيماً، لأن هذه المرأة التي تبرز مفاتنها, تعتدي على من في الطريق, وتسيء إلى علاقة الزوج بزوجته .


 
 توقيع : السعيد


التعديل الأخير تم بواسطة السعيد ; 09-04-2018 الساعة 08:51 AM

رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 08:44 AM   #2


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثانى )


الموضوع : عائشة بنت ابى بكر



هجرة الرسول ولحاقها بة بعد الهجرة

حمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . سؤال قد يرد :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الحادي عشر من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ومع أمهات المؤمنين، زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومع الزوجة الثالثة السيدة عائشة بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما .
أيها الأخوة الكرام, قد يسأل أحدكم: هذا الفارق الكبير في السن بين السيدة عائشة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, كيف تزوَّج النبي امرأةً في سن أمه, ثم كيف تزوج امرأةً في سن ابنته؟ الأمور التي لا يدلي الشرع فيها بحكمٍ ترجع إلى الأعراف .
فأنت إذا قلت: أنا أكلت اللحم, ماذا تقصد؟ لحم الضأن أو لحم البقر، لأنك إذا أكلت سمكاً تقول: أكلت سمكاً, فإذا إنسان حلف بالطلاق ألّا يأكل لحماً، فهل بإمكانه أن يأكل سمكاً؟ نعم بإمكانه، مع أن السمك لحم، لكن العرف هو أن اللحم هو لحم الضأن أو البقر, والسمك شيءٌ آخر، ففي الموضوعات التي لم يكن هناك حكمٌ شرعي, يعود الأمر إلى العرف .

هذا موضوع طويل في أصول الفقه، بابٌ كبير، فأحد المصادر التشريعية العرف, فهو الذي يحكم القضايا التي ليس فيها حكم شرعي .
لو أن في زواج الرسول صلى الله عليه وسلَّم من السيدة عائشة أيُّ مأخذٍ في أعراف العرب وقتها, لأُخِذ على النبي صلى الله عليه وسلَّم هذا الزواج، بل إن البيئة وقتها تسمح بأن تأخذ امرأةً في سن أمك، وتسمح بأن تأخذ امرأةً في سن ابنتك, ولكن السيدة عائشة لها دور كبير جداً في موضوع الفقه .
فقال بعض العلماء:
((إن ربع الأحكام الشرعيَّة عُلِم منها))
إن ربع الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها، فامرأة النبي، زوجة النبي، أم المؤمنين, لها دورٌ خطيرٌ جداً في الدعوة؛ لأنها يمكن أن تختص بالنساء، تعلمون أن النساء يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن، وأفضل إنسانة تعبِّر عن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، إذاً: لها دورٌ في الدعوة .

ويقول العلماء أيضاً: ما رأوا أحداً أعلم بمعاني القرآن, وأحكام الحلال والحرام, من السيدة عائشة، وما رأى العلماء أحداً أعلم بالفرائض, والطب, والشعر, والنسب, من السيدة عائشة, مع أنها صغيرة, إلا أنها كانت شيئاً نادراً في الذكاء، وشيئاً نادراً في الحفظ، وشيئاً نادراً في الوفاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً: فليعلم القارئ حقاً ويطمئن, أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلَّم قد اختارهنّ الله جلَّ جلاله له، لما سيكون لهن من دورٍ في الدعوة مستقبلاً .
فهذا الذي يفكر أن النبي تزوج زوجةً في سن ابنته، أو امرأةً في سن أمه، هذا لا يعرف من هو النبي, فالنبي عليه الصلاة والسلام بقي مع السيدة خديجة, وهي في سن أمه, ربع قرنٍ، وكان بإمكانه أن يتزوَّج أجمل فتيات مكة، فهو بعيدٌ جداً عن هذا الذي يفكِّر فيه أعداء الإسلام .
أيها الأخوة الكرام, السيدة عائشة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ألفي حديث ومئتين وعشرة أحاديث، وحفظت القرآن الكريم كلَّه في حياة النبي .
إذاً: من يقول: إن هناك فارقاً في السن, هذا الفارق في السن, كان مألوفاً في عصر النبي، ولو كان هناك مطعنٌ في هذا الموضوع, لما سكت أعداء النبي، ولجعلوا من هذه القضية قضيةً كبيرةً جداً . إليكم بعض الصفات التي كانت تتمتع بها السيدة عائشة كما ذكرها الذاكرون :
من صفات هذه الزوجة الطاهرة على صغر سنها: أنّها كانت ناميةً ذلك النمو السريع الذي تنموه نساء العرب، وكانت متوقِّدة الذهن، نيِّرة الفكر، شديدة الملاحظة، وهي وإن كانت صغيرة السن, لكنّها كبيرة العقل .
نحن تعلَّمنا في الجامعة أن للإنسان عمرين؛ عمر زمني، وعمر عقلي، وقد يبتعدان عن بعضهما، قد تجد إنساناً عمره الزمني عشر سنوات، أما عمره العقلي فخمسة عشر عاماً، وقد تجد إنساناً عمره الزمني عشرون عاماً؛ وعمره العقلي خمسة عشر عاماً، فالعقل لا ينمو مع نمو الجسم, بل له نموّه الخاص .

فالسيدة عائشة رضي الله عنها على صغر سنها, نمت نمواً سريعاً, وعلى صغر سنها, كانت متوقِّدة الذهن، نيرة الفكر، شديدة الملاحظة، فهي وإن كانت صغيرة السن, لكنها كبيرة العقل، أي لها دور في الدعوة الاًسلامية .
تروي كتب السيرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج امرأةً فيما بعد، قال لها ضرَّاتها: إذا التقيت بالنبي فقولي له: أعوذ بالله منك, فلما دخل عليها النبي, قالت: أعوذ بالله منك, فماذا قال لها؟ قال:
((الْحَقِي بِأَهْلِكِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
رفضها، هل يعقل أن تكون زوجة رسول الله بهذا الإدراك؟ فهي مبلِّغة عن رسول الله ، تبلِّغ عنه الشرع، شيءٌ خطيرٌ جداً أن تكون زوجة النبي عليه الصلاة والسلام محدودة التفكير، لأنها تنقل عنه، وربما نقلت عنه الشيء الذي ما أراده النبي عليه الصلاة والسلام .
إذاً: هناك حكمةٌ إلهيةٌ بالغة من أن الله سبحانه وتعالى هيَّأ لرسوله الكريم هذه الزوجة العاقلة، المتقدة في الذهن, والذكاء, والفطنة، كثيرة الملاحظة، ذات النفسيَّة الطيِّبة .
يقولون: ولو لم تكن السيدة عائشة رضي الله عنها في تلك السن التي صحبت بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهي السن التي يكون فيه الإنسان أفرغ بالاً، وأشد استعداداً لتلقي العلم، لما تهيَّأ لها ذلك .
فالعلم شيءٌ أساسيٌ في حياة المؤمن، والنبي عليه الصلاة والسلام كل شيءٍ يقوله ينبغي أن ينقل عنه، وأفضل امرأةٍ تنقل عنه زوجته، إذاً: فلنطمئن أنّ الله سبحانه وتعالى اختارها على علمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
أقوال العلماء التي جمعت عن هذه السيدة الجليلة :
قال الإمام الزُهري:
((لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء, لكان علم عائشة أفضل))
والحقيقة: أن الشيء الذي يدهش العقول، أو الشيء الذي يلفت النظر, أن تكون المرأة على درجة عالية جداً؛ من الفهم, والعلم, والفقه، فالمرأة عند الناس امرأة، لكن المرأة التي تتمتَّع بعقلٍ راجح، وإدراكٍ عميق، وفهمٍ دقيق، وحفظٍ شديد, هذه امرأةٌ نادرةٌ جداً، وامرأةٌ مؤهَّلةٌ لأن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
عطاء بن أبي رباح يقول: ((كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة))

والحقيقة: مِن مُتَع الحياة أن تعيش مع الذكي، ومن البلاء الشديد أن تعيش مع المحدود, تكاد تخرج من جلدك، سمعتم مرةً مني أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه, بينما كان يلقي درساً على أخوانه حول صلاة الفجر، وفيما قرأت كانت رجله تؤلمه، وبينه وبين تلاميذه مُباسطة، ليس هناك كلفة، ولعذرٍ فيه كان يمد رجله، دخل رجل طويل القامة، عريض المنكبين، حسن الهيئة، يرتدي عمامةً وجُبةً، وجلس في مجلس هذا الإمام العظيم .
فأبو حنيفة رضي الله عنه, ظنَّه عالماً كبيراً، فاستحيا منه ورفع رجله، أي أن بينه وبين أخوانه ليس هناك كلفة، أما هذا فضيف غريب لعلَّه ينتقده، فلما انتهى الدرس, سأله هذا الرجل: يا إمام, كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فقال له: عندئذٍ يمد أبو حنيفة رجله .
لذلك فأنا أرى أن من إكرام الله لرسول الله, أنه قيَّض له أصحاباً على مستوى عالٍ من الفطنة، والوفاء، والذكاء، والحُب، والتضحية، والإخلاص، وكلَّما ارتقى مقامك عند الله, هيَّأ الله لك أُناساً قريبين منك، كلَّما ارتقى مقامك عند الله, هيَّأ الله لك أُناساً يفهمون عليك، يفهمون عليك بالإشارة، يقدِّرون ما أنت فيه، يعرفون قدرك حق المعرفة، يعرفون أهدافك النبيلة .
وقال أبو موسى الأشعري: ((ما أشكل علينا أمرٌ, فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً))
وقال مسروق: ((رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأكابر يسألونها عن الفرائض))
وقال عروة: ((ما رأيت أحداً أعلم بفقهٍ ولا طبٍ ولا بشعرٍ من عائشة))
وقال أبو الزناد: ((ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدت فيه شعراً))
أيها الأخوة, أردت من هذه المقدمة أن تعلموا أن عائشة أم المؤمنين، اختارها الله عزَّ وجل لنبيِّه الكريم، لتكون زوجته, وأمينة سرِّه, وراويةً عنه . متى دخل النبي على السيدة عائشة ؟
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام عقد عليها, وهو في مكة قبل الهجرة، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، واستقبله الأنصار، وهم محيطون به، متقلِّدي سيوفهم ، وهنا حدِّث ولا حرج, عن سرور أهل المدينة، فكان يوم تحوِّله إليهم يوماً سعيداً، لم ُيرَوْا فرحين فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
فكلكم تحضرون عقود قران، وموالد بمناسبة ذكرى مولد الرسول عليه الصلاة والسلام، ونشيد طلع البدر علينا, يمكن ألا يكون واحد من الأخوة الحاضرين, إلّا سمعه مئات المرَّات, إن لم نقل أكثر .
والعبد الفقير لما كنت في المدينة المنورة في إحدى العُمرات، وقفت قبالة مسجد قِباء ، فهناك ميدان في وسطه نُصب تذكاري، مكتوب عليه: طلع البدر علينا، أيْ في هذا المكان, في مكان مسجد قباء، وقباء في ظاهر المدينة, خرج الأنصار من المدينة، ليستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وفي هذا المكان بالذات أنشدوا: طلع البدر علينا, كأنني أسمع هذا النشيد لأول مرة، وله وقعٌ في هذا المكان لا يوصف، في المكان الذي وقف فيه الأنصار, ينتظرون النبي عليه الصلاة والسلام، وحينما أطل عليهم, قالوا:
طلع البدر علينا من ثنيِّات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وفي الصحيحين: عن أبي بكرٍ رضي الله عنه في حديث الهجرة، قال: ((وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق, وعلى البيوت، والغِلمان, والخدم, يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله، وكان الأنصار قد اجتمعوا, فمشوا حول ناقته صلى الله عليه وسلَّم، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شُحَّاً على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً له، وكلَّما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار, دعوه إلى المنزل، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها مأمورة, فإنما أنزل حيث أنزلني الله, ونزلت في بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه))
ولقد كنت في تركيا قبل سنة تقريباً، وصلَّيت الجمعة في مسجد أبي أيوب الأنصاري في مدينة استانبول، هذا الصحابي الجليل أين مات؟ مات في أقصى الشمال، وله مسجدٌ والله منوَّر, تشعر فيه بروحانية عجيبة، فلما انتهت الصلاة, زرت مقام هذا الصحابي الجليل وقرأت الفاتحة، وتأثرت تأثراً كبيراً، ولكن الذي أدهشني أن كل زوَّار المقام, حينما يخرجون من هذا المقام, لا يديرون ظهورهم إليه، تأدُّباً معه، فهذا الصحابي الجليل الذي أكرمه الله بأن يكون مُضيف النبي عليه الصلاة والسلام، له قصصٌ رائعةٌ جداً .

فهو لم يستطع أن ينام في الدور الذي فوق رسول الله، فبيته طابقان، والنبي عليه الصلاة والسلام, رأى في الطابق الأرضي, أسهل لزوَّاره, ومن يأتيه، وسمح لأبي أيوب أن ينام في الطابق العلوي، من شدة أدب هذا الصحابي الجليل, لم يستطع أن ينام في الطابق الذي فوق رسول الله، وكان في حرجٍ شديد، ومرةً قدر الماء انكسر، فخاف أن ينزل على النبي قطرةُ ماء، فجاء باللحاف الذي لا يملك غيره في الشتاء، فوضعه فوق الماء، كي يمنع نزول الماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري, الذي حظي بضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
ولما استقر عليه الصلاة والسلام في المدينة، أين كانت عائشة؟ كانت في مكة، ولما يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يجب أن نعلم علماً دقيقاً: أن العقد على عائشة سبق الدخول بسنوات، فإذا قلنا: صغيرة، وبينها وبين النبي فرقٌ كبير، فإن العقد شيء والدخول شيءٌ آخر، عقد عليها بمكة، ولم يدخل بها إلا في المدينة، ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة, ليأتيا بمن خلَّف من أهله، وأرسل معهما عبد الله بن أريقط, يدلهما على الطريق، فقدما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة زوجِه، وأم أيمن حاضنته في صغره، وابنها أسامة بن زيد، وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاص بن الربيع، وخرج مع الجميع عبد الله بن أبي بكر بأم عائشة زوج أبيه، وأختيه عائشة وأسماء زوج الزبير بن العوام، وكانت حاملاً بابنها عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة، وصحبهم من مكة طلحة بن عُبيد الله .
وبعد أن استقر النبي بالمدينة، وانتهى ضجيج الهجرة، وانتهت المطاردة، أرسل هؤلاء الصحابة ليأتوا بأهله؛ أتوا بفاطمة، وأم كلثوم، وسودة، وأم أيمن، وابنها أسامة بن زيد ، أما زينب فمنعها زوجها من الهجرة .
والنبي عليه الصلاة والسلام يهيِّئ الدور لزوجته سودة, ولزوجته عائشة, ليستقبل فيها أهله .
وفي أيامنا هذه: تجد شخصاً عادياً جداً, يسألك عن مكان سكنى ابنته المخطوبة، أين ستسكنها؟ غرفةٌ صغيرةٌ جداً ملحقةٌ بالمسجد, هذه الغرفة بيت عائشة، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكانت هذه الغرفة الصغيرة التي لا تتسع لصلاته ونوم زوجته معاً، إما أن يصلي فتنزاح جانباً، وإما أن يناما معاً، أما أن يصلي هو وتنام هي, فالغرفة لا تتسع لهما، هذا بيت رسول الله .
وصلت هذه السيدة الجليلة إلى المدينة مع أمها أم رومان، وأختها أسماء، وأخيها عبد الله، واستقروا في دار الوالد الصديق رضي الله عنه، ولم تمضِ أشهر معدودات, حتى تكلَّم الصديق رضي الله عنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام في إتمام الزواج الذي عقده بمكة .
فالنبي عقد بمكة قبل سنوات من الهجرة، وبعد الهجرة بأمد طويل استقدم أهله، وبعد هذا الاستقدام, بقيت في بيت أبيها، فلما كلَّم الصديق رسول الله في شأن إتمام الزواج، سارع النبي عليه الصلاة والسلام، وسارعت نساء الأنصار إلى منزل الصديق, لتهيئة هذه العروس الشابَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم . ما هو الموقف الذي سجله التاريخ لأم عائشة ؟

أجمل موقف وقفته أم السيدة عائشة رضي الله عنها، حينما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلَّم، ومعها ابنتها العروس السيدة عائشة, بعد أن هُيئت له، دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو في دار أبي بكر, وقالت:

((يا رسول الله هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك))
وهذا أجمل دعاءٍ يُلقى في عقود القِران .
والزواج المبارك هو الذي يكون مبنياً على طاعة الله، وعلى تطبيق منهج رسول الله ، والله عزَّ وجل يلقي الحب بين الزوجين، والألفة والمودَّة، وينجب من هذين الزوجين الذرِّية الطيبة الصالحة، فالزواج شيء جميل جداً، والزواج له ثمرة؛ وثمرته أولاد أبرار، والإنسان حينما يموت ينقطع عمله، أما إن كان له ولد صالح، فهذا الولد الصالح ينفع الناس من بعده، وكل أعماله في صحيفة أبيه .

إليكم بنية البيت الذي أسكن النبي زوجه عائشة :
أيها الأخوة, وتنقضي ليلة الزفاف المباركة في دار أبي بكرٍ رضي الله عنه، ثم يتحوَّل النبي عليه الصلاة والسلام بأهله إلى البيت الجديد، ما كان هذا البيت سوى حجرةٍ من الحُجرات, التي شُيِّدت حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من اللبن, وسعف النخيل، وقد فُرش بحصير، ووضع فيه فراشٌ، وبعض ملحقاته، وأوانٍ بسيطة للشراب والطعام، وهذا كلُّ بيت رسول الله .
وفي هذا البيت المتواضع, بدأت حياة العروس الكريمة عائشة رضي الله عنها، وبدأت الحياة الزوجية الحافلة بالمكرُمات والخيرات، مكرُمات النبوة, وخيرات الرسالة .
وأنا أعلم أن هناك بيوتاً فخمةً جداً لكن لا سعادة فيها، وهناك بيوت متواضعة جداً فيها سعادة زوجية تامة، السعادة الزوجية أساسها طاعة الله، والشقاء الزوجي أساسه معصية الله عزَّ وجل .
الخاتمة :
أيها الأخوة, هذه العروس الصغيرة على صغر سنها, إلا أنها احتلَّت مكانها المرموق في بيت النبوة، وحياة رسول الله، وتاريخ الدعوة، والتاريخ الإسلامي .
الحقيقة التي لا ريب فيها: أنه يُشهد لهذه الزوجة, أنها كانت في أعلى مستوى من العلـم والمعرفة في شؤون الدين، وعلى جانبٍ عظيم من الدراية لأسرار الأحكام الشرعية، ولها منزلة رفيعة من التقوى والورع، بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية، لذلك فاعلم أخي الكريم: الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا, المرأة الصالحة .
وحينما قال الله عز وجل:

﴿رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
[سورة البقرة الآية: 201 ]
قال العلماء: حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة .
وأنا أرجو الله سبحانه وتعالى لكل أخوتنا الشباب، الذين لم يقدموا على الزواج بعد، فماذا يمنعهم أن يكون دعاؤهم لله عزَّ وجل: اللهمَّ ارزقنا زوجة صالحة, الزوجة الصالحة أحد أسباب النجاح في الحياة، فحينما تطلب امرأة صالحة، تتوافر فيها الشروط، تكون قد حققت أحد جوانب السعادة في حياتك الدنيا .
في درسٍ آخر إن شاء الله, ننتقل إلى هذه الزوجة الطاهرة مع ضرَّاتها، وكيف أن الحياة الزوجية جزءٌ من حياة الإنسان الطيبة؟ قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
[سورة النحل الآية: 97]
والمرأة الصالحة جزءٌ من الحياة الطيبة .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 08:47 AM   #3


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثالث )


الموضوع : السيدة سودة بنت زمعة






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لمحة عن حياة سودة بنت زمعة من حيث : إسلامها, هجرتها, وفاتها :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس التاسع من دروس الصحابيات الجليلات، مع أمهات المؤمنين، مع زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الثانية، التي كانت بعد خديجة وقبل عائشة، مع أم المؤمنين سودة بنت زُمعة، هذه الزوجة التي تزوَّجها النبي عليه الصلاة والسلام لحكمةٍ سوف نقف عليها من خلال سيرتها .

هذه الزوجة الطاهرة أسلمت بمكة قديماً، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة، وينبغي أن نتصور: ما معنى أن يترك الإنسان بلده التي ولد فيه؟ ما معنى أن يدع الإنسان مسقط رأسه ؛ لسببٍ بسيط، لمضايقةٍ يسيرة، لضغطٍ خفيف أم لشيءٍ لا يحتمل، شيءٍ لا يطاق؟ .
أيها الأخوة, الصحابة الكرام الذين أسلموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ذكوراً وإناثاً، في أول الدعوة الإسلامية, لهم عند الله مقامٌ كبير، لأنهم تحمَّلوا، وتحملوا الشيء الكثير ، حتى إن الهجرة إلى الحبشة, كانت متنفَّساً لهم, من شدة الضغط الذي تحمَّلوه .
لو أن أحدنا سأل نفسه هذا السؤال: هل تحمَّل واحد بالمليار مما تحمَّله الصحابة؟ تدخل إلى المسجد؛ تصلي، وتحضر درس علم، وتقرأ القرآن، وتعود إلى بيتك آمناً، تصلي قيام الليل إذا شئت، لا أحد يعترضك، تفعل في بيتك ما تشاء، لا أحد يأخذ عليك أنك مسلم، ماذا ذاق المسلمون في جنب ما ذاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟ .
أسلمت بمكة قديماً، وهاجرت هي وزوجها إلى الحبشة، ومات زوجها هناك، وقد ورد أنه ما عُبد الله في الأرض بأفضل من جبر الخواطر، الإنسان أحياناً يتزوج امرأةً لجمالها، وقد يتزوّجها لمالها، وقد يتزوجها لدينها، وقد يتزوجها جبراً لخاطرها .
هذه الزوجة الطاهرة روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحاديث كثيرة، وروى عنها ابن عباس، وتوفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب .

إليكم قصة زواجها من رسول الله عليه الصلاة والسلام :
فمن التي خطبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟ خطبتها خولة بنت حكيم، المرأة نفسُها التي خطبت السيدة خديجة لرسول الله .
يروي الإمام الطبري في تاريخه أنّ خولة بنت حكيم, قالت:

((يا رسول الله ألا تتزوج؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح))

أخواننا الكرام, الزواج جبر، فتاة، طاهرةٌ، عفيفةٌ, تنتظر زوجاً، تنتظر أن يطرق بابها خاطب، هكذا خلقها الله عزَّ وجل، جعل فيها دافع الأمومة, أقوى دافعٍ في الجنس البشري, دافع الأمومة, الفتاة أحياناً بخلاف ما تتصورون، طلبها للزواج ليس كطلب الزوج للزواج، شهوة الرجل حسيَّة, لكن المرأة رغبتها في الزواج أن تكون أماً، أن يخطبها خاطب، إذاً: هي مرغوبٌ فيها، إذاً: هي مطلوبة، لذلك:

((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح))
جميل جداً أن تتعرَّف إلى أخوانك، هذا الأخ عنده بنات، فإن رأيت شابًا مؤمناً مستقيماً، طاهراً عفيفاً، دللته على امرأةٍ طيبةٍ طاهرةٍ عفيفة, هذا أعظم عملٍ تفعله,
((من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح))
قال تعالى:
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً﴾
[سورة النساء الآية: 85]
قالت هذا الكلام بعد وفاة السيدة خديجة بثلاث سنوات، معنى ذلك النبي عاش وحيداً، والأزواج يعرفون؛ المرأة سكنٌ لزوجها، ومن أصعب الحالات أن يفقد الرجل زوجته، والنبي عليه الصلاة والسلام بموت السيدة خديجة فقد الدَعم الداخلي، وبموت عمِّه أبي طالب فَقَدَ الدَعم الخارجي، إذاً: ذاق النبي الوحدة، ذاق الوحشة، ذاق موت النصير، ذاق موت القريب، ذاق موت أحب الناس إليه .
((إن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، منزل ترحٍ لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى))
فقال عليه الصلاة والسلام:
((ومن؟ قالت: إن شئت بكراً, وإن شئت ثيِّباً، قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيِّب؟ قالت: سودة بنت زُمعة, قد آمنت بك، واتبعتك على ما أنت عليه .
-نقطة دقيقة: الإنسان يتزوج، هذه الزوجة أقرب الناس إليك، إن لم تكن على شاكلتك ، إن لم تؤمن بما تؤمن، إن لم توقِّر ما توقِّر، إن لم ترجو ما ترجو، إن لم تكن على الشكل الذي يرضيك، كيف تعيش معها؟ فهذا الذي يذهب إلى بلاد الغرب، ويقترن بامرأة راق له شكلُها، لكن أهلها طباعهم، عاداتهم، تقاليدهم، قيمهم، مبادئهم، ديانتهم، فكيف تستطيع العيش معها؟ .
فما من علاقة أقرب من الزوج إلى زوجته، يسمونها علاقة حميمة، أي أنها علاقة من أعلى درجات العلاقات، أيعقل أن تكون زوجتك على غير شاكلتك، تؤمن بما لا تؤمن، أو تكفر بما تؤمن، تحب ما لا تحب، ترضى بما لا يرضيك؟ مستحيل- .

قال: فاذهبي فاذكريها علي, -أي اخطبيها لي- .
فجاءت فدخلت بيت أبي بكر, قالت: ثم خرجت, فدخلت على سودة, فقالت: أي سودة, ماذا أدخل الله عليكِ من الخير والبركة؟


-فقياساً على ذلك إذا كان طالب العلم إنسانًا ملتزمًا، مؤمنًا يحب الله ورسوله، يخشى الله، يُرضي الله، يتحرَّى الدخل الحلال، إنفاقه حلال، جوارحه مضبوطة، هذا إذا خطب, ينبغي ألا يتردد في الموافقة عليه، هذا مكسبٌ كبير، طالب العلم كفءٌ لأيَّة فتاةٍ على الإطلاق- .


قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يخطبكِ عليه، فقالت: وددت، -أي تمنيت، أرأيت هذا الأدب أيضاً؟ في إنسان تعرض عليه شيء يتأبَّى، ومن الداخل يذوب شوقاً إليه، لكنه يتأبَّى لكبرٍ فيه- قالت: وددت, ادخلي على أبي, فاذكري له ذلك .
قالت: وهو شيخٌ كبير، فدخلت عليه، فحييته بتحية الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, أرسلني أخطب عليه سودة، قال: كفءٌ كريم .

-نقطة دقيقة: جاءته الرسالة، لو أن الناس يعلمون عنه شيئاً في الجاهلية قبل الإسلام لذكروه بصوتٍ عالٍ، الأنبياء معصومون قبل النبوة، لا يستطيع أحدٌ أن يتكلَّم عنهم كلمة-

قال : كفءٌ كريم، فماذا تقول صاحبته, أي مخطوبته؟ قالت: تحب ذلك، قال: ادعيها لي، فدُعيت له .
قال أبوها: أي سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب, أرسل يخطبكِ ، وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوِّجْكِهِ؟ قالت: نعم، قال: فادعيه لي، فدعته، فجاء فزوجه .

-طبعاً صاحب الحاجة هو الذي يأتي، هذا أدب أيضاً-
جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبيها، وخطبها منه، وتزوجها))
ما ذكره ابن كثير والإمام أحمد بشأن موضوع زواج السيدة سودة من رسول الله :
يروي الحافظ ابن كثير, والإمام أحمد في المسند, محاورةً جرت في هذا الموضوع، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ, يُقَالُ لَهَا: سَوْدَةُ, وَكَانَتْ مُصْبِيَةً,
-أي لها صبيان-
كَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَةٍ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ,
-هناك من يدَّعي، ومن يتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان مغرماً بالنساء، هذه امرأةٌ متقدمةٌ في السن، مُصْبِيَة-
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ, مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِيَّةِ إِلَيَّ, وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةَ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً,
-أي أن يمنعوا راحتك، خمسة أولاد، كان قدوةً عليه الصلاة والسلام، امرأةٌ مسنَّة يتزوجها، وعندها خمسة أولاد، هي نفسها خافت أن تزعج النبي عليه الصلاة والسلام، هي نفسها خافت أن يكون أولادها عبئاً على النبي عليه الصلاة والسلام-
قَالَ: فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ, قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُكِ اللَّهُ, إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ, صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ, وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ))
[أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس في مسنده]

فالإنسان إذا تقدَّم في السن تكثُر حاجاته، لذلك الزوجات الطاهرات المخلصات: هنَّ اللواتي يضاعفن من خدمة أزواجهن, إذا تقدَّمت بهم العمر، طبعاً حينما يكون شاباً يخدمنه خدمةً عالية، أما إذا تقدَّمت به السن ضعفت الخدمة، فقال عليه الصلاة والسلام:

((إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ, صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرٍ, وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدٍ))
[أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس في مسنده]
أي خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها .
هناك مشكلتان في بيوت المسلمين؛ الأولى أن الزوجة تعتني بزوجها عنايةً فائقة, وتهمل أولادها، تدعهم في الطُرقات، ثيابهم غير نظيفة، أعمالهم غير مرتَّبة، دراستهم متخلِّفة ، لكنها تعتني بزوجها, لأنه مصدر سعادتها، هذا مرض .
المرض الثاني: تعتني الزوجة بأولادها على حساب زوجها، تهمله, تهمل طعامه، وشرابه، وثيابه، كل همها لأولادها، هذا خطأ, وهذا خطأ، هذا تطرُّف وذاك تطرُّف، خير النساء من جمعت بين رعاية أولادها ورعاية زوجها، وقد لا تصدقون أن المرأة التي تحسن تبعُّل زوجها هذا العمل, يعدل الجهاد في سبيل الله، ولكن من هي هذه المرأة التي تتفهَّم هذا الحديث الصحيح الذي رواه النبي عليه الصلاة والسلام:

((انصرفي أيتها المرأة, وأعلمي من وراءك من النساء, أن حسن تبعل إحداكن لزوجها, وطلبها مرضاته, واتباعها موافقته, يعدل ذلك كله))
أي الجهاد في سبيل الله .

ما قاله كتاب السيرة عن خولة بنت حكيم :
كُتَّاب السيرة يقولون: خولة بنت حكيم, لم تكن تستطيع أن تكون جريئةً إلى هذا الحد، لأنها تدخَّلت في أخصَّ خصوصيَّات النبي عليه الصلاة والسلام، تدخَّلت في حياته الشخصيَّة، لولا أنها رأت من الوَحشة التي خيَّمت على بيت النبي, بوفاة الزوجة الصديقة العزيزة الغالية
بصراحة: الزوجة الصادقة، الوفيَّة، الصالحة, موتها يهدُّ أركان البيت، والزوج الصالح الوفي, موته يهدُّ أركان البيت، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذاق فقد الزوجة ثلاث سنوات، لأن الله جعله أسوةً حسنة, أذاقه كل شيء؛ أذاقه موت الولد، أذاقه فقد الزوجة، أذاقه زوجةً تكبره بخمسة عشر عاماً، أذاقه زوجةً صغيرة، أذاقه هجرةً من بلده إلى بلدٍ آخر، أذاقه موت أبيه، أذاقه موت أمه، حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 21]
لولا أن الله أذاقه كل شيء, لما كان أسوةً لنا في كل شيء، أذاقه الفقر:
((هل عندكم شيء؟ قالوا: لا, قال: فإني صائم))
أذاقه الغنى:
((لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله))
أذاقه القهر في الطائف:
((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي))
أذاقه النصر في فتح مكة:
((ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم, وابن عمٍ كريم, قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء))
النبي عليه الصلاة والسلام تحمَّل من قريش أشدَّ الأذى، ولا سيما بعد وفاة عمه أبي طالب، وبعد وفاة زوجته السيدة خديجة، الزوجة سكن .
أدركت هذه الصحابية الجليلة ما يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الشدائد والهموم، فأرادت أن تخفف عنه بعد ذلك بإيجاد أنيسٍ في بيته .
أخواننا الكرام, هناك تعليق لطيف، هذا الذي يستخف بزوجته، ويحلف عليها بالطلاق لأتفه الأسباب، أو يطردها من البيت، أو يعاملها معاملةً قاسية، أو يسب أباها وأمها، أو يهينها ، ماذا يفعل هذا الإنسان؟ يكفر بنعمة الزوجة, يكفر بأشد النعم لصوقاً بالزوج .
هذه المرأة التي تستخف بزوجها، يحلف عليها يمينًا فتنقضه، يأمرها فلا تطيعه، يهددها فتتحدَّاه، هذه امرأةٌ أيضاً تكفر بنعمة الزوج:

((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ, فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ))
[أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان في مسنده]


((لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها, وهي لا تستغني عنه))

((إني أكره المرأة تخرج من بيتها تشتكي على زوجها))
فالمرأة إذا رعت نعمة الزوج، والزوج إذا رعى نعمة الزوجة, كانت حياتهما سعيدة، لذلك أنا من خلال ما يُعرض علي من قضايا, ومشكلات بين الزوجين، أعجب أشدَّ العجب، يحلف عليها يميناً بالطلاق, ألاّ تزور أختها، لا يحلو لها إلا أن تكسر يمينه، وتتحدَّاه، وتزور أختها، تجلس عندها ساعة، وقع الطلاق، يتحرَّك الزوج من شيخٍ إلى شيخ من أجل فتوى، ماذا أفعل؟ .
لهذه الدرجة زوجك هينٌ عليكٍ، حلف عليكٍ ألاّ تزوري أختكِ، ماذا يمنع أن تنفذي أمره؟ ماذا يمنع أن تمتنعي عن زيارة أختكِ؟ الشيء العجيب بين كل مئة يمين طلاقٍ طلاقٌ مقيَّد غير مُطلق، أي يقول: إن فعلت كذا فأنتِ طالق، بين كل مئة طلاق تسعة وتسعين بالمئة من النساء اللواتي يحلف أزواجهن عليهن يمين طلاق ينقضنه، هذا كفرٌ بنعمة الزوج .
لماذا جعل الله الطلاق بيد الرجل؟ لأن المرأة عاطفيَّة، لسببٍ تافهٍ تطلب الطلاق، لكن الزوج يجب أن يفكِّر في الطلاق, بعد دراسة طويلة جداً، وبعد بحث .


انظر إلى هذه المعاملة الراقية التي كانت تتعامل بها السيدة سودة مع زوجها النبي :
تتم الخطبة، ويعقد الزواج، ويروي الطبري عن هذا الزواج الشيء الكثير، تُزَّف العروس الوقور إلى أحبِّ الناس إليها، لتخفِّف آلام الفُرقة عن نفسه الشريفة، ولتملأ بيته أُنساً بعد وحشة، ولتحمل معه بعض أعباء الحياة، ولتقوم ببعض ما كانت تقوم به الزوجة الراحلة العزيزة خديجة، لقد كانت أم المؤمنين سودة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة .
فالأمر قصير، الدُعابة، واللطف، والطُرفة، والوجه الطليق، والبسمة، والمرح في البيت مطلوب جداً، فهناك أب إذا دخل على أولاده وعلى أهله كان عندهم عيد؛ يهَللون، يفرحون، يتنافسون ليصلوا إليه، وهناك أبٌ إذا دخل البيت كان عبئاً على أهل البيت .

قال: كانت هذه السيدة, ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة، تسخِّر نفسها الراضية المرضية لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وإدخال السرور على نفسه الكريمة .

-الحقيقة: الملاحظ أن المرأة غير المنضبطة، أن المرأة غير الملتزمة، أن المرأة المُنقطعة عن الله، أسوأ ما عندها لزوجها؛ الكلام القاسي، والنظرة المتجفِّية، والهيئة التي لا ترضي، إهمال شأنه، إهمال ثيابه، إهمال زينتها، قسوة كلامها، إهمال شؤون زوجها، فإذا أرادت أن تلتقي بالآخرين؛ تلطَّفت، وتزيَّنت، وتعطَّرت، ولبست أحسن ثيابها، وكانت لطيفةً إلى أعلى درجة، هذه امرأةٌ لا يحبها الله عزَّ وجل، لأن أسوأ ما فيها لزوجها، وأحسن ما فيها لغير زوجها .
كانت هذه الزوجة الوفيَّة سودة، تحاول أن تدخل على قلب النبي صلى الله عليه وسلَّم السرور، فكانت تغتنم كل مناسبة لتضحكه وتسرَّه، لعلَّها بذلك تقدِّم بعض الواجبات التي أنيطت بالزوجات نحو أزواجهن وأرباب بيوتهن- .
من أمثلة ذلك: ما رواه ابن سعدٍ عن الأعمش عن إبراهيم, قال:

قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم: صلَّيت خلفك الليلة، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطُر الدم، يبدو أن النبي أطال الركوع, فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تضحكه بالشيء أحياناً))
انظر ما قال كتاب السيرة عن هذه السيدة :
قال بعض كُتَّاب السيرة: ربما كانت هذه الزوجة المسعدة لزوجها تمازحه بكلماتٍ، ويعظها بكلمات .
من ذلك ما رواه ابن المبارك أن سودة, قالت: يا رسول الله! إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون, حتى تأتينا أنت، فقال لها: لو تعلمين علم الموت يا بنت زمعة, لعلمت أنه أشد مما تقدرين عليه))
أي نوع من أنواع الدعابة، نوع من أنواع الطرافة بين الزوج وزوجته .
وقال بعض كُتَّاب السيرة: كانت رضي الله عنها مع حبها للمرح والمزاح, كريمة جوادة ، لا يأتيها مالٌ إلا سارعت بإنفاقه على أهل ذي الحاجة



فقد روي بسندٍ صحيح عن محمدِ بن سيرين, أن عمر بعث إلى سودة بغرارةٍ من دراهم, فقالت:

((ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارةٍ مثل التمر، ففرَّقتها))
أيها الأخوة, مما يؤثر عن هذه الزوجة الفاضلة، أنها كانت حريصةً كل الحرص على إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وتكريمه، فكانت إذا مازحته, لم تُقَلل ذلك من هيبتها له, وتوقيرها إياه شيئاً .
بالمناسبة: أنا لا أتمنى أن ترفع الكلفة بين الزوجين أبداً، إنْ رُفعت كلياً شقي الزوجان، لا بدَّ من حدٍ أدنى من الكلفة بين الزوجين، أما إذا رفعت الكلفة, واستباح كل طرفٍ أن يكثر المزاح مع الطرف الآخر, حيث يقلل من هيبته، كانت مشكلة .
والحقيقة: المزاح كالملح في الطعام، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالذي يمزح ينبغي أن يمسك بميزانٍ دقيقٍ جداً، إنه إن أكثر المزاح, فقد هيبته، وهناك مزاح يجرح، ومزاح فيه إهانة، ومزاح مؤلم، هناك مزاح، لكنه قليل ونادر؛ لا يؤذي أبداً، ولا يجرح، ولا يُهين، ولا يحجِّم، ولا يخجل، هذا هو المزاح المسموح به، هناك من يمزح مع زوجته بالانتقاص من شكلها، بإبراز عيوبها، بتكبير عيوبها، بالتعريض بأهلها، هذا ليس مزاحاً، بل هذا هدمٌ للعلاقات بين الزوجين .


إليكم حديث السيدة عائشة عن السيدة سودة :
في صفة لطيفة بهذه الزوجة، أنها كانت إذا أخطأت عادت سريعاً إلى صوابها، تقول السيدة عائشة:
((إذا أصابتها الحِدَّة, فاءت سريعاً, فتصلح نفسها مما نابها))
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
((مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ, أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ, مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ, قَالَتْ: فَلَمَّا كَبِرَتْ, جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ, قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
أي حينما تخطئ تسارع إلى الإصلاح .

ما الذي كان يسعد السيدة سودة, وما الذي فعلته حتى ترضي عنها رسول الله ؟
أيها الأخوة, هناك نقطة دقيقة جداً في هذا الزواج، كان رضاها برسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً, يغمرها سعادةً وهناءً، فلا تراها إلا وبهجة السرور تعلو وجهها الكريم، كان يسعدها أن ترى النبي صلى الله عليه وسلَّم, يبتسم من مشيتها المُتمايلة من ثِقل جسمها، فوق ما كان يأنس عليه الصلاة والسلام إلى ملاحة نفسها وخفة ظلها، حينما تسمعه عباراتٍ من مزاحها، فكانت إذا مشت أمامه, تمايلت يمنةً ويسرة، فكان عليه الصلاة والسلام يتبسَّم من مشيتها, وظلَّت هذه الزوجة الصالحة بهذه النفس الرضيَّة, تقوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم طيلة وجودها في مكة .
وبعد أن هاجر النبي إلى المدينة هاجرت هي أيضاً إليها، وبقيت هي الراعية لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة، إلى أن جاءت عائشة بنت أبي بكرٍ زوجةً للرسول وأُماً للمؤمنين .
طبعاً لمجرَّد أن تكون المرأة زوجةً لرسول الله، هذا شرفٌ عظيم، وهذا مقامٌ كريم، وهذه مرتبةٌ عالية, تتقطَّع دون بلوغها أعناق الطامحين، فشيء كبير جداً: أن تكون امرأةٌ أُم المؤمنين، أن تكون امرأةٌ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أيها الأخوة, لكن هذه المرأة المسنَّة الكبيرة، التي عندها خمسة صبية، كانت تعلم أنها لا تُرضي النبي بشكلها، لكنها ارتقت إلى مستوىً رفيع تطمح إليه، بحكمتها ولذكائها أفسحت للعروس الشابَّة, -السيدة عائشة- المكان الأول في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وحرصت أشد الحرص أن تتحرَّى مرضاة العروس الجديدة، وأن تقوم على خدمتها، وأن تسهر على راحتها .
أرأيت إلى هذا الوفاء؟ هذه حكمة، هي نالت مبتغاها من زواجها من النبي؛ أصبحت أم المؤمنين، أصبحت زوجة رسولٍ كريم، هذه الشابَّة التي تزوَّجها تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى عناية، اعتنت بها، وخدمتها، وأرشدتها، وعلَّمتها، وبيَّنت لها كي تُرضي رسول الله، وكي تُرضي عائشة رسول الله، وكي يرضى رسول الله عن سودة بهذه الخدمة .
ثم خصَّ عليه الصلاة والسلام كل زوجةٍ ببيتٍ خاص، ولمَّا وفدت زوجاتٌ أُخريات على بيوتات النبي فيهن حفصة، وزينب، وأم سلمة، وسواهن، لم تتردَّد أم المؤمنين سودة في إيثار عائشة بإخلاصها، ومودتها، وإن لم تظهر ضيقاً بتلك الزوجات .
تجد امرأة متقدِّمة في السن، لم تنجب أولاداً، زوجها محروم من الأولاد، فأراد زوجها أن يتزوج امرأةً تنجب له أولاداً، دون أن يضحي بها، دون أن يتخلَى عنها، هي في مكانتها الرفيعة العليَّة، هناك زوجاتٌ لا يرضَين بذلك، ويبتعدن عن أزواجهن، ويعشن وحدهن، هل هذا هو العقل؟ هذا موقف .
فقد دنا منها النبي عليه الصلاة والسلام، فبكت، قالت:

((يا رسول الله! هل غمصت عليَّ في الإسلام؟
-أي هل أخطأت في الإسلام؟-
قال: اللهمَّ لا، قالت: يا رسول الله! يومي لعائشة في رضاك،
-أي أنا أريد أن أبقى زوجةً لك، أريد أن أحظى هذا الشرف العظيم, ولا مأرب لي في الرجال, أريد أن أبقى معك لأنظر إلى وجهك-
فو الله ما بي ما تريد النساء, ولكني أحب أن يبعثني الله في نسائك يوم القيامة))
أي أنا كل مطلبي أن أنظر إليك، أن أكحِّل عيني بمرآك، وأن أكون زوجتك هكذا إلى يوم القيامة, لأحظى بهذا الشرف، فهي شعرت أنها عبء، وأنها تحول بينه وبين سعادته، وأنه تزوجها جبراً لخاطرها، وأنها مصبية, وحينما توهَّمت: أنها إذا تركت رسول الله, تسعده بتركها, ندمت، قالت: لا, أنا أبقى معك, ولكن يومي لعائشة .
والنبي بالعدل، كلكم يعلم أن التعدد من شروطه العدل التام بين الزوجات، العدل في الإنفاق، والعدل في السُكنى، والعدل في المبيت، أما حينما هي تسامح عن طيب خاطر, قالت : يومي لعائشة، وهكذا حافظت أم المؤمنين سودة على ودِّها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وعلى قُربها منه، وعلى صحبته في الدنيا والآخرة .


خاتمة الدرس :
أيها الأخوة, فالعقل بالمرأة شيء رائع جداً، امرأة حكيمة عاقلة، تعرف حدودها، تعرف حجمها، تعرف إمكاناتها، لا تكن عبئاً على زوجها، همها إرضاء زوجها، همها إدخال السرور على قلبه، هكذا كانت السيدة سودة بنت زُمعة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وجعلها قدوةً لنساء المسلمين .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 08:56 AM   #4


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الرابع )


الموضوع : عائشة بنت ابى بكر







غيرتها من ضرائرها وغيرتهن منها




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم الحديث عن موضوع الغيرة :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثاني عشر من سير الصحابيِّات الجليلات، ومع أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهنَّ أجمعين، ومع الدرس الثالث من دروس السيدة عائشة رضي الله عنها.
لقد احتلَّت السيدة عائشة رضي الله عنها مكانةً كبيرةً في بيت النبي، مما جعل أنظـار الصحابة تتجه بإعجابٍ, وإكبارٍ, واحترامٍ, وإجلالٍ, نحو بيت أم المؤمنين السيدة عائشة، لما خصَّها الله تعالى من الفضائل والمُكرُمات, مما أثار غيرة ضرائرها, أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين .

ما الغيرة؟ خصيصة في النفس البشريَّة, أودعت فيها, لصالح النفس، الإنسان إذا كانت الغيرة التي في نفسه تدفعه إلى الفضائل، وهي في الأصل حياديَّة، يمكن أن تدفعك إلى أن تنافس أخاك في شأن الآخرة، أو يمكن أن تدفعك الغيرة إلى أن تنافسه في شأن الدنيا، إذا نافسته في شأن الآخرة كانت غيرةً محمودة، وإن نافسته في شأن الدنيا كانت غيرة مذمومة، هي حياديَّة يمكن أن تستخدمها سلماً ترقى به، أو دركاتٍ تهوي بها .
فالغيرة أمر فطري في كل إنسان، هي في النساء أوضح، لكن لها حالات طبيعيَّة, ولها حالات مرضيَّة، الحالات الطبيعيَّة لصالح الإنسان، كم من إنسانٍ حفظ كتاب الله, لأنه أصابته الغيرة من حافظٍ آخر، كم من إنسان سلك طريق الإيمان, لأنه أصابته الغيرة من قريبٍ، أو صديقٍ، أو جارٍ, تفوَّق عليه في الإيمان .
أنا أضرب لكم مثلاً واضحاً جداً: كنت أُدعى كل عام لميتمٍ من أشهر مياتم دمشق، هذا الميتم إدارته تدعو كبار أغنياء الشام، ويقام حفل عشاء في رمضان، وتلقى الكلمات تحث هؤلاء الأغنياء على البذل والتضحية، كنت أكلَّف كل عام بأن ألقي كلمة أحث بها الأخوة المؤمنين، الذين امتنَّ الله عليهم بوفرة المال .
طبعاً حينما نفتح باب التبرُّعات يقول فلان: أنا أدفع مئة ألف, يقول زميله: أنا أدفع مئتين في ربع ساعةٍ أو أقل, يجتمع ستة أو سبعة ملايين، وفي العام الماضي ارتأت إدارة الحفل أن توزع على الأخوة المدعوين استمارة ورقية، كل واحد يكتب كم يتبرَّع من دون إعلام, فكان المبلغ ثمانمئة ألف، فالفرق واضح جداً، والإنسان أحياناً يندفع للعمل الصالح بدافع الغيرة، هذه غيرة لصالح الإنسان .
أنا أؤكد لكم: أنه ما من واحد من الأخوة الحاضرين، إلا اندفع إلى عملٍ صالح، أو إلى طاعةٍ لله، أو إلى إقبالٍ على الله، أو إلى تفوقٍ في العلم, بدافع غيرةٍ أصابته من أخٍ قريبٍ له، صديقٍ، جار، فالغيرة خصيصة من خصائص النفس البشرية حيادية, إن استخدمتها في أمر الآخرة, كانت سلَّماً ترقى به، وإن استخدمتها في أمر الدنيا, كانت دركاتٍ تهوي بها، فإذا غرت من أخيك في جمع المال، ونافسته في جمع المال، وضيَّعت دينك وآخرتك, كانت هذه الغيرة في غير موضعها, قال تعالى:
﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد﴾
[سورة البلد الآية: 6-7]
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
[سورة الزخرف الآية: 32]

يجمعون المال بدافع الغيرة من بعضهم بعضاً، فكل خاصةٍ في الإنسان، كل خاصةٍ على الإطلاق هي حياديَّة، يمكن أن توظِّفها في الحق, ويمكن أن توظفها في الباطل، يمكن أن توظفها في أمر الآخرة فترقى، ويمكن أن توظِّفها في أمر الدنيا فتهلك .
إذاً: الغيرة موجودة بكل إنسان، أما إذا انصبَّت في شأن الدنيا أصبحت حسداً، وإن انصبَّت على أمر الآخرة كانت غبطةً، قد تجد إنساناً تفوَّق عليك, فتغبطه وتسعى سعيه، تغبطه وتقتفي أثره، تغبطه وتنافسه، هذه منافسة محمودة, قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
[سورة المطففين الآية: 26]
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
[سورة الصافات الآية: 61]
المرأة تغار، ولو أنها كانت لا تغار, لسقطت من عين زوجها، لماذا يحبها زوجها؟ لأنها تغار عليه، لا تحتمل أن يميل إلى امرأةٍ أخرى، هذه خاصَّة، الأزواج أحياناً يتألَّمون من غيرة زوجاتهم، أما لو تصوروا العكس, أنه ذهب، وسهر، وخالط، ولم تتكلَّم ولا كلمة، يشعر أنها لا تحبه، وقد تخرج من قلبه، فالغيرة صفةٌ متمكنة في بني الإنسان, وهي في النساء أوضح، فلها وضعٌ طبيعي, ولها وضعٌ مرضي .
الوضع المرضي أن امرأةً تعرف زوجها؛ مؤمناً، مستقيماً، لا يحيد لا يمنةً ولا يسرةً, ومع ذلك إذا اتصلت به امرأةٌ على الهاتف, لا يقر لها قرار، هذه غيرة مرضيَّة ينبغي أن تُعالج لتبرأ منها .
المكانة التي احتلتها السيدة عائشة في قلب النبي :
أيها الأخوة, حينما جاءت هذه السيدة الفاضلة إلى بيت النبي في المدينـة، الصحابة الكرام عرفوا أنها بنت السيد الصديق رضي الله عنه، وهو من أحب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت شابةً ذكيةً، على مستوى رفيعٍ جداً من العقل والفهم، اتجهت أنظار الصحابة إلى هذا البيت الثالث, بيت السيدة عائشة .
أمهات المؤمنين وقعن في الغيرة، وهذا الشيء من طبيعة المرأة، والنبي عليه الصلاة والسلام عبَّر عن هذه الحقيقة, فقال:
((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ, فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ))
[أخرجه أبو داود عن السيدة عائشة في سننه]

أنت مكلَّف أن تعدل بين الزوجات، هذا العدل التام، أما العدل المُطلق ليس في وسعــك، ولا في طاقتك، ولن تستطيعه .
في صحيح البخاري يروي لنا هشامٌ عن أبيه رضي الله عنه, قال:
((كان الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة .
-فهي زوجة جديدة, أدخلت على قلب النبي السرور، بعد أن ماتت زوجته الوفيَّة السيدة خديجة، وجاءت من مكة إلى المدينة، وسكنت في غرفةٍ من غُرف المسجد، فصارت الأنظار تتجه إلى هذا البيت- فقال:
فكان الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة, فقلن: يا أم سلمة, والله إن الناس يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري النبي صلى الله عليه وسلَّم, أن يأمر الناس أن يُهدوا إليه, حيث ما كان، أو حيث ما دار .
-أنا أقول لكم هذه الكلمة: الإنسان لأنه بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، فإذا انتصر على نفسه يرقى .
نساء النبي عليه الصلاة والسلام كل منهن امرأةٌ مستقيمة، لكنها تحكمها خصائص النساء .
مرَّة أهدت السيدة صفيَّة, أهدت إلى النبي طبق طعامٍ طيِّب، السيدة عائشة ما تمكَّنت أن تخفي غيرتها، فأمسكت الطبق وكسرته، فالنبي عرف طبيعة المرأة فورد عنه:
((غضبت أمكم, غضبت أمكم))
فأحياناً الإنسان لا ينبغي أن يُطالب زوجته أن تكون مثله, هو رجل، وله إدراكٌ واسع ، وله طبيعةٌ خاصة، وهي لها طبيعة خاصة, هكذا فطرها الله عليها- .
فذكرت أم سلمة ذلك للنبي، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي, ذكرت له ذلك, فأعرض عني، فلما كانت الثالثة ذكرت له, فقال: يا أم سلمة, لا تؤذيني في عائشة .
-وهنا في نقطة دقيقة، الله عزَّ وجل قال: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾
[سورة النساء الآية: 32]
في الكون عدلٌ مطلق، وربنا حكمته مطلقة، وأفعاله كلها حكيمة، فأنت إذا رأيت أن الله سبحانه وتعالى أعطى إنساناً شيئاً, ينبغي ألّا تحقد وألا تحسد, لكن لك أن تغبط، ولك أن تسير في الطريق الذي سار فيه, صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم لاتسألَنَّ عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حـدِّ الأدب

يا أم سلمة, لا تؤذيني في عائشة, فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي, وأنا في لحاف امرأةٍ منكن غيرها)) فيبدو أن هذه الزوجة الطاهرة, كانت من أقرب الزوجات إلى الله عزَّ وجل، ومن أعلمهن بكتاب الله .
فقد تجد شخصاً اجتهد, وبذل وقته, وماله, وجهده في سبيل الله، والله عزَّ وجل رفع ذكره، أعلى شأنه، أنت ينبغي أن تسلك سبيله لا أن تحسده، ينبغي أن تسلك سبيله لا أن تحاول أن تنتقص منه، لا أن تحاول أن تسفِّه آراءه، إن رأيت في إنسان ميزة, فقل: إن الله يعطي من يشاء، فقف على حد الأدب .
ثم إن أمهات المؤمنين حاولن محاولةً ثانية مع السيدة فاطمة رضي الله عنها، أن تكلِّم أباها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، فلم تُجدِ محاولتها شيئاً .
فقد روى مسلمٌ في صحيحه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلَّم, قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلَّم فاطمة بنت رسول الله إلى رسول الله، فاستأذنت عليه وهو مضطجعٌ، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله, إن أزواجك أرسلنني إليك, يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة, وأنا ساكتة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلَّم: أي بنيَّة! ألستِ تحبين ما أحب؟.
-طبعاً، فلا يمكن إلا أن يعدل النبي بين زوجاته، لأن النبي مرةً قال له أعرابي: اعدل يا محمد, فقال له النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟))
[أخرجه البخاري عن أبي سعيد في الصحيح]
لكن الله عزَّ وجل ما كلَّفنا فوق ما نطيق، الإنسان صاحب الفطنة، وصاحب الأدب الجَم، وصاحب الخُلق الرفيع، هذا تميل إليه دون أن تشعر، هذه سنة الله في خلقه, جبلت النفوس على حب من أحسن إليها, وبغض من أساء إليها .
مثلاً: شخص دائماً ينتقدك، يحاول أن يعارضك، يحاول أن يطعن في تصرفاتك، فهل ينتظر منك أن توده مودة عالية؟ بينما إنسان آخر أديب جداً، لطيف جداً، في خدمتك دائماً، فشيء من طبيعة البشر أن تميل إلى هذا المحسن الأديب الذي يتحرَّى راحتك، والإنسان الثاني الذي يتهجَّم عليك, فنفسك تنفر منه بشكل طبيعي، لذلك فالنفس لها قوانين، أنت كإنسان مكلَّف أن تعدل العدل التام، أما العدل المطلق, فهذا لا تستطيعه لا أنت ولا غيرك، لأن النفوس جبلت على حب الكمال، على حب الجمال، على حب النوال .

الإنسان يحب الجمال, والكمال, والنوال، الذي يعطيك تحبه، والذي تـراه كاملاً تحبه ، والذي منحه الله شكلاً جميلاً تحبه .
فأحياناً يكون شخص عنده ابن له تألُّق، تجد الأب يميل إليه أكثر من أخوته، لكنه مكلَّف أن يعطي أولاده بالسواء، مكلَّف أن يمنحهم العطف بالسواء، لأن هذا القلب بيد الله عزَّ وجل، وقد عبَّر عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام:
((اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ, فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ))
[أخرجه أبو داود عن السيدة عائشة في سننه]
أي بنيَّة! ألستِ تحبين ما أحب؟ قالت: بلا, قال: فأحبي هذه, -أي عائشة .
فأنا أقف عند هذه النقطة قليلاً؛ مثلاً: شاب له أب، هذا الشاب يتهجّم على أبيه، يبدو سوء أدب من هذا الشاب، ومحاسبة شديدة، وعدم احترام، وابن ثانٍ في غاية الأدب، والإخلاص، والاحترام، والتلبية، أينتظر الأول الأقل أدباً، والأقل خدمةً من الأب, أن يحبه محبة رائعة؟ هذا الشيء مضحك، الأب إنسان ويميل إلى حيث يرى الفضل، والأدب، والعطف، والرحمة، والخدمة، فأنت لا تطالب الناس أن يحبوك محبةً لا تساوي عملك .

وهذا إنسان بعقله قصور، الذي ينتظر من الناس أن يمحضوه حبهم، وإخلاصهم، وتفانيهم, وهو يسيء إليهم، هذا شيء مستحيل، هذه طبيعة النفس البشريَّة، إن أردت أن تنعقد حولك القلوب فأحسن إليهم، والإنسان الكامل يملك القلوب، بينما الإنسان القوي يملك الرقاب، وشتَّان بين أن تملك القلوب وبين أن تملك الرقاب، بونٌ شاسع بين الحالتين .
فمثلاً: زوج قاسٍ، يحب نفسه، أينتظر من زوجته أن تموت في حبه؟ لا لن تموت في حبك، ولن تهتمَّ بك، إن لم تهتم بها فلن تهتم بك، إن لم ترع حقوقها فلن ترعى حقوقك، فكن واقعياً، كن منطقياً- .
فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فرجعت إلى أزواج النبي, فأخبرتهن بالذي قاله، وبالذي قال لها النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقلن لها: ما نراكِ أغنيتِ عنا من شيء، فارجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم, فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة, فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً .
-النبي يتصرف بالعدل المطلق، بالعدل التام بين زوجاته, لكن أين قلبه يميل؟ هذه لا يملكها أحد- .
ثم أرسلن زينب بنت جحشِ زوج النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكانت تضاهي عائشة عند رسول الله في الحظوة والمنزلة، فتكلَّمت في ذلك, فلم تُجْدِ في كلامها شيئاً, ثم قال عليه الصلاة والسلام معلناً مكانة زوجه عائشة: ((إنها ابنة أبي بكر))
أرأيتم إلى هذا الوفاء؟ فالإنسان أحياناً يتألَّم أشد الألم حينما يمحض كل إخلاصه، وكل حبه، وكل خدمته لإنسان, ثم ينسى له هذا الإنسان ذلك كله، أما النبي فهو أوفى الأوفياء ، ما من إنسان أعطى النبي عليه الصلاة والسلام كل اهتمامه كسيدنا الصديق، وهذه ابنته، فلأنها بنت أبي بكر لها عند النبي حظوةٌ خاصَّة .
ما هو السبب الذي دفع ضرائر عائشة للغيرة منها, وهل كانت تغار عائشة منهن, وما هي العبرة من وجود مشكلات في بيت النبي ؟
أيها الأخوة, السيدة عائشة أيضاً تغار من أمهات المؤمنين، كانت أمهات المؤمنين يغرن على رسول الله من عائشة، وكانت عائشة بينهن أشدهن غيرةً عليه منهن، وعذرها أنها أول من تفتَّح قلبها لحب النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد خديجة، حيث كانت خطبتها بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، وأنها أصغرهنَّ سناً، وما تزوَّج عليه الصلاة والسلام بِكراً غيرها, فلديها أسباب لِتزهو على ضرَّاتها؛ أصغرهن سناً، وبنت أحب الخلق إليه، وكانت الوحيدة بينهن بِكراً من بين أزواج النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا الدرس له معنى، بكل بيت مشكلة، والنبي بشر, قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
[سورة الكهف الآية: 110]
طرق رجل باب سيدنا عمر, ليشكو له زوجته، فسمع صياحاً، فولَّى هارباً، سيدنا عمر سمع الباب يطرق, ثم توقَّف الطرق, فخرج فرأى أعرابياً، فدعاه, رجع، لمَ طرقت وانصرفت ؟ قال له: جئتك أشكو مما أنت منه تشكو .
أخواننا الكرام, إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح, فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء .

الدنيا مركَّبة على المشكلات، مركبة على بعض النقص رحمةً بالإنسان، تصور لو أن الدنيا جاءتك كما تريد, لكرهت لقاء الله، لكن ما الذي يدعونا إلى أن نشتاق إلى لقاء الله عزَّ وجل؟ فالدنيا المتعبة التي لا تستقيم لإنسان إطلاقاً، إن جاءت من جهة, تذهب من جهة، إن منحت المال, فليس عندك من الأولاد, ما يستأهلون هذا المال، وإن جاءك الأولاد الأبرار قد لا تجد المال الكافي لهم، وإن حظيت بزوجةٍ صالحةٍ لا تُنجب، وإن أنجبت قد يكون أولادها على غير ما تريد، وإن كان الأولاد على ما تريد, هناك علَّةٌ في الصحة، فما من إنسان اكتملت دنياه، ولو أنها اكتملت, لكره الناس لقاء الله عزَّ وجل، فأحد الأسباب في أن الإنسان يتمنى لقاء الله أن الدنيا متعبة .
رأى النبي عليه الصلاة والسلام جنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه, فقالوا: ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: أما العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها, والعبد الفاجر يستريح منه؛ العباد, والبلاد, والشجر, والدواب))
[أخرجه النسائي عن أبي قتادة في سننه]
ليس في الدنيا شيء أثمن على الإطلاق من أن يموت أحدنا على الإيمان، وينجو من فتنة الدنيا, فتنة المال، فتنة النساء، فتنة العلاقات الاجتماعية، فتنٌ لا تعدُّ ولا تحصى، فكما ورد في الحديث القدسي:
((وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن, وأنا أحب أن أرحمه, إلا ابتليته بكل سيئةٍ كان عملها؛ سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبةً في ماله, أو ولده, حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء, شدَّدت عليه سكرات الموت, حتى يلقاني كيوم ولدته أمه))
ولقد كانت الغيرة تنتاب عائشة إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلَّم سيتزوج بعدها، ها هي تغار من زواج النبي من حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تضيق بيوم سودة التي كانت زوجة النبي الكريم في مكة، فلما علمت بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوَّج حفصة, سكتت على مضضٍ وغيرة، واحتارت ماذا تفعل؟ إذ كانت تعلم مكانة أبيها عمر عند النبي، فهو بعد أبي بكر في المنزلة والحظوة عنده صلى الله عليه وسلَّم, فجاءت حفصة لتكون ضرّة أخرى .
هناك نقطة دقيقة جداً: لو لم تحدث مشكلات في بيت النبي، كيف يكون قدوةً لنا؟ لو لم يكن أية مشكلة في بيته إطلاقاً, فلأمر يلتبس عندنا؛ الغيرة مشكلة، تنافس زوجاته مشكلة، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام سارت حياته في البيت بشكلٍ مثاليٍ مُطلق، كيف يقف الموقف الكامل من مشكلةٍ تنشأ في بيت المسلمين؟ إذاً: النبي مشرِّع .
أوضح مثل على ذلك: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ من اثْنَتينِ فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَينِ: أَقُصِرَتْ الصَّلاَةُ أَمَّ نَسِيتَ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو اليَدَينِ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثنَتينِ أُخرَيَينِ, ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثلَ سُجودِهِ أَوْ أَطولَ, ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ, ثُمَّ سَجَدَ مِثلَ سُجودِهِ أَوْ أَطولَ))
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة في سننه]
لولا أن الله أنساني كي أصلي الظهر ركعتين، كيف أسن لكم سجود السهو؟ إذاً: ما يحصل في بيت النبي من مشكلات مخرج لنا من مشكلاتنا، فالله عزَّ وجل قال: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾
[سورة التحريم الآية: 4]
هذا شيء ثابت بالقرآن, قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 32]
والنبي خيَّر زوجاته بين أن يخترنه أو يخترن الدنيا, قال تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 28]
معنى ذلك: أن القرآن أثبت أن هناك مشكلات في بيت النبي، وإزاء هذه المشكلات, وقف النبي منها موقفاً كاملاً، قدوةً لنا نحن المؤمنين .
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام بعد محاولاتٍ كثيرة من زوجاته الطاهرات، وما نشب بينهنَّ من غيرة، أخذ موقفاً حازماً فاعتزل نساءه كلَّهن .
مضى شهرٌ بأكمله في شغلٍ عنهن، وهن في شغلٍ به، فمنهن من روَّعها الهجر، ومنهنَّ من كانت ترقبه في عُزلته، دون أن تجرؤ واحدةٍ منهنَّ أن تخاطبه في أمرها، حتى إذا استكمل الهجر شهراً بتمامه, عاد عليه الصلاة والسلام إلى نسائه مكتفياً بتأديبهن بذلك الإنذار ، لئلا يعُدن إلى مثل ما فعلت بعض أزواجه .
فهذه المنافسة بين زوجاته الطاهرات، وهذه الغيرة الحادة، هذا مما يضعف صفاء النبي عليه الصلاة والسلام، فاتخذ هذا الموقف، وتركهن جميعاً شهراً بأكمله، فلما انتهى الشهر, بدأ ببيت عائشة فدخله، واستقبلته في عتابٍ رقيق، قالت:
((يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, قلت كلمةً لم ألقيِ لها بالاً, فغضبت علي .

-هذا يفيدنا لو أنّ إنساناً نشب خلاف بينه وبين زوجته, يعوِّد نفسه أن يكون لطيفاً، وتعوِّد الزوجة نفسها أن تعتذر، والاعتذار أحياناً يذيب المشكلة
انظر لهذا الموقف: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, قلت كلمةً لم ألقي لها بالاً فغضبت علي, ثم أقبل على أهله, -وهي مستطردة في قولها- أقسمتَ أن تهجرنا شهراً, ولمَّا يمض منه غير تسعٍ وعشرين, تقول هذا مداعبةً له، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم, الشهر يكون تسعةً وعشرين))
[أخرجه البخاري عن أم سلمة في الصحيح]
فمن اللطف أن يكون هناك كلام لطيف جداً بين الزوجين، مداعبة بالقول، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بسَّاماً ضحاكاً، كان إذا دخل البيت واحد من أهل البيت، يقول عن النساء: ((فإنهن المؤنسات الغاليات))
فأنا أرى أن من أعقل الرجال الذي عنده مودة، ولطف، ونفس هنيَّة، وأن تكون كلمات معسولة من الزوج, ومن الزوجة، والعمر لا يحتمل خصومات طويلة .
طبعاً: كان الحديث عن المشكلات التي جرت في بيت النبي وهو حديثٌ يطول، لكن النبي بشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
وأنا أعتقد أن الإنسان المؤمن الموفَّق هو الذي يؤتى الحكمة في معاملة زوجته، يسعد بها وتسعد به، العمر قصير لا يحتمل خصومات مديدة، فالنبي أدَّبهُنَّ شهراً، لكن تجد إنساناً يؤدِّب أهله سنة، سنتين، ثلاثة، لكنّه أدبهُنَّ شهراً, وانتهى الأمر .
وأنا أتمنى على كل زوج أن يضع حداً للخصومة، إذا كانت هناك مشكلة, وعلى أثرها خرجت من البيت، فينبغي أن تعود، وكأن شيئاً لم يكن، هذه وصيَّة ثمينة جداً، عوِّد نفسك عليها.
أما هذا الامتداد بالخصومة؛ أسبوعاً وأسبوعين، وشهراً وشهرين، وسنة وسنتين، وكل واحد راكب رأسه، وكل واحد متعنِّت، فشقيت وأشقيت، مهما كنت أنت الأقوى, شقيتَ مع زوجتك .
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان قدوةً لنا في حسن معاشرته زوجاته، وكما قلت لكم من قبل: آياتٌ كريمةٌ وكثيرةٌ تبيِّن أن النبي عليه الصلاة والسلام عانى من الزوجات، والمرأة امرأة, ولها طبيعةٌ خاصة، تغار أشد الغيرة، وتحرص على الدنيا أشد الحرص، وتريد أن يكون زوجها لها، فما من زوج إلّا إذا زار أهله، فإذا قدَّم هديَّة لأهله, تنشأ مشكلة؛ لأن هذا الزوج لها وحدها، أما هو فله أم، وله أخوات، وله أخوة، هذه مشكلات تعالج بالحكمة، تعالج بالعدل، تعالج باللين، بالموعظة الحسنة، أما المواقف العنيفة؛ رأساً طلَّق، رأساً ضرب، والضرب أحياناً يترك ندبة في النفس لا تندمل أبداً .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادم .





 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 08:59 AM   #5


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الرابع )


الموضوع : عائشة بنت ابى بكر



حادثة الافك




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هو هدف المنافقين في اتهام زوجة النبي عائشة بالفاحشة ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثالث عشر من دروس سير الصحابيَّات الجليلات رضوان الله عليهن أجمعين، ومع زوجات النبي أمهات المؤمنين، ومع السيدة عائشة رضي الله عنها، ننتقل اليوم إلى حديث الإفك .
أيها الأخوة, حديث الإفك من أخطر ما واجه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الأهوال والصعاب, فالمنافقون كانوا يقصدون من ورائه إلى محاربة النبي صلى الله عليه وسلَّم بإساءة سمعته .
أنت أحياناً تحارب إنساناً عن طريق مقاومته، وأحياناً تحارب إنساناً عن طريق تشويــه سمعته، فحديث الإفك بشكلٍ أو بآخر محاولةٌ من المنافقين لتشويه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام، ومع تشويه سمعة النبي, القصد البعيد تشويه هذا الدين الحنيف .

المعركة بين الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديَّة، فكل واحد له ولاء, أهل الإيمان يوالون المؤمنين، وأهل الفسق والفجور يوالون بعضهم بعضاً، فينبغي أن يعرف الإنسان هو مع من؟ هذا الذي يوالي المؤمنين, ويتبرَّأ من الكفار والمنافقين، مؤمنٌ ورب الكعبة, أما الذي له ولاءٌ لغير المؤمنين, هذا في إيمانه ضعف .
لذلك: فالمنافقون أرادوا أن يشوِّهوا هذا الدين, عن طريق تشويه سمعة النبي عليه الصلاة والسلام من خلال اتهام زوجته بالفاحشة .
متى جاء حديث الإفك؟ بعد أن قال عبد الله بن أُبَيّ بن سلول للنبي وأصحابه: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل, يقصد الأعز هو ومن معه، والأذل يقصد به النبي عليه الصلاة والسلام والمهاجرين .
أيها الأخوة, قال هذا المنافق رئيس المنافقين: ماذا فعلتم بأنفسكم؛ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالك؟ أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم, لتحوَّلوا إلى غير بلادكم .
عملية تهجير، فالهدف البعيد جداً من حديث الإفك, تهجير المهاجرين إلى بلادٍ أخرى ، عن طريق تشويه سمعة الدين، من خلال تشويه سمعة النبي، من خلال اتهام زوجته الطاهرة بالفاحشة, قال تعالى:

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً﴾
[سورة الطارق الآية: 15-16]
فماذا يعنينا من هذا الموضوع؟ أنت كمؤمن وطِّن نفسك أن هناك من يناوئك، هناك من يطعن في نزاهتك، هناك من يريد أن يشوِّه سمعتك، الدنيا دار ابتلاء وليست دار جزاء، والإنسان يرقى على قدر ما يُبتلى به .
إليكم خبر حادثة اﻹفك كما ورد في كتب الصحاح :

أيها الأخوة الكرام, خبر حديث الإفك ورد في الصحاح، تقول السيدة عائشة رضوان الله عليها:

((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا أراد سفراً, أقرع بين نسائه، فأيَّتهن خرج سهمها, خرج بها معه، فلمَّا كانت غزوة بني المصطلق, أقرع بين نسائه كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن, فخرج بي رسول الله .
-هناك حكمةٌ بالغة من اصطحاب الزوجة في السفر, يعرفها المتزوجون، النبي عليه الصلاة والسلام في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، وفي صفاته مشرِّع، فكان إذا أراد سفراً, حتى ولو كان السفر غزوةً, أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، صحبها معه- .
قالت السيدة عائشة: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكُلن العُلَق, -والعلق ما فيه بلغةٌ من الطعام، أي طعامهن قليل، إذاً: أوزانهن خفيفة- لم يهبجن اللحم فيثقلن, -أي أن نساء الصحابة كنَّ نحيلات- وكنت إذا رُحِّل بعيري, جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحِّلون هودجي في بعيري يحملونني، فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه على ظهر البعير، فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير, فينطلقون بي .
-كلام واضح؛ كان هناك هودج تجلس فيه، يرفعه رجلان، يضعانه فوق ظهر الجمل، يربطانه، ثم يأخذان بخطام البعير، ويقودان هذا البعير في مسيرة الجيش- .
قالت السيدة عائشة: فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلَّم من سفره، وجَّه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة، نزل منزلاً فبات فيه بعض الليل، ثم أذَّن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس, خرجت لبعض حاجتي .
-ذكرت هذا من قبل: أن هناك عشرات الاحتمالات التي كان من الممكن ألّا يقع حديث الإفك.
أريد أن أعلمكم أن الأحداث التي وقعت في عهد النبي أحداثٌ مقصودةٌ لذاتها، لم يقع حدثٌ صدفةً، بل كل حدث مركَّز مقصود لذاته، ليقف النبي الموقف الكامل، فيكون موقفه تشريعاً- .
فقالت هذه السيدة الجليلة: ثم أذَّن في الناس بالرحيل، فلما ارتحل الناس, خرجتُ لبعض حاجتي، وفي عنقي عقدٌ لي .
-لو أنها لم تشعر بحاجةٍ إلى قضاء الحاجة لما خرجت، ولم يكن حديث الإفك, قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
[سورة النور الآية: 11]
قالت: خرجت لبعض حاجتي, وفي عنقي عقدٌ لي، فلما فرغت، انسل من عنقي ولا أدري, -انقطع خيط العقد, فوقع في الأرض، لو كان الخيط ثخيناً أو متيناً لما انقطع، لو لم ينقطع هذا الخيط, لما كان حديث الإفك، لو لم تشعر بحاجةٍ إلى قضاء الحاجة, لما كان حديث الإفك- فلما رجعتُ إلى الرحل, ذهبتُ ألتمسه في عنقي, فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل, فرجعت ألتمسه حتى وجدته، وجاؤوا خلاف القوم الذين كانوا يرحِّلون لي البعير، فأخذوا الهودج, وهم يظنون أني فيه, كما كنت أصنع .
-وزنها خفيف جداً لم ينتبهوا، فلو انتبهوا لما كان حديث الإفك, لو أنها تبحث عن العقد في مكانٍ قريب, لما كان حديث الإفك، لو أنهم رأوا شخصاً من بعيد, لتفقَّدوها وذهبوا إليها, ولما كان حديث الإفك، معنى ذلك الحدث مقصود لذاته .
أحياناً تقع معك مشكلة؛ لو لم أسافر لما كانت، لو لم أسلك هذا الطريق لما كانت، لو لم أركب هذه المركبة لما كانت، لو لم تظهر لي حاجة للسفر لما كانت, فلذلك:

((لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ, وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ, حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ, وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))
[أخرجه أحمد في مسنده]

شيءٌ مريحٌ جداً أن تقول: إذا شاء الله أمراً فعله,

((فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]

أي أنك أيها الأخ حينما تكون مؤمناً, تلغي من قاموسك كلمة (لو)، فكأنها غير موجودة، الشدة النفسيَّة تأتي من الندم؛ فلا ندمَ، ولا تمنيَ، ولا حسرةَ، ولا حزنَ، كل هذه المعاني غير موجودة، فهذا حديث مهم جداً، أحياناً التعليم عن طريق الأفعال أقوى من الأقوال ، لغة العمل أبلغ من لغة القول .
كان من الممكن ألا يقع هذا الحديث، لأكثر من عشرين سبب، لكن الأحداث التي وقعت في عهد النبي, أحداثٌ مقصودةٌ لذاتها لتكون تشريعاً، ولتكون السيدة عائشة قدوةً لكل امرأةٍ في الأرض أصيبت بسمعتها- .
قالت: فأخذوا الهودج, وهم يظنون أني فيه كما أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أني فيه، ورجعتُ إلى العسكر, وما فيه داعٍ ولا مجيب، قد انطلق الناس.
-معنى ذلك: أنها ابتعدت، فلما رجعت مكان الهودج, رأت الناس قد ارتحلوا، لا سميع ولا مجيب, ولا قريب- .
قالت: فتلففت بجلبابي, ثم اضطجعتُ في مكاني الذي ذهبت إليه، وعرفت أن قد لو افتقدوني رجعوا إلي, فو الله إني لمضطجعة, إذ مرَّ بي صفوان بن المعطَّل السُلَمِيّ .
-أنا أريد أن أزيد من قناعة الأخ الكريم؛ أن كل شيءٍ وقع أراده الله, لحكمةٍ بالغةٍ بالغة: يجب أن تعلموا علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كل شيءٍ أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلِّقةٌ بالخير المطلق .
هذا الصحابي الجليل مرَّ بها, وكانت مضطجعةً, قد تلففتْ بجلبابها في مكانها الـذي تركوها فيه، وقد كان تخلَّف عن العسكر لبعض حاجته .
نشأت له حاجة, فتخلَّف عن العسكر، فلو لم تنشأ له حاجة, لما تخلَّف عن العسكر, ولما كان حديث الإفك، لو لم يتأخر, لافتقدوها بعد حين، رجعوا إلى المكان فوجدوها, فحملوها وانطلقوا، فلم يكن هناك حديث إفك- .
قالت: فلم يبت مع الناس في العسكر، فلما رأى سوادي, -لم يُر منها شيء، ملفَّفةً بجلبابها- أقبل حتى وقف عليَّ فعرفني, وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, أظعينة رسول الله؟ وأنا متلفِّفةٌ بثيابي، قال: فما خلفكِ رحمك الله؟ قالت: فما كلَّمته ثم قرَّب البعير حتى أركبني، حتى قال لي: اركبي رحمك الله واستأخر عني، قالت: فركبت, وجاء فأخذ برأس البعير, فانطلق بي سريعاً, يطلب الناس .
-هل يستطيع هذا الصحابي الجليل أن يفعل غير هذا الذي فعل؟ صحابي جليل يرى أم المؤمنين، يرى زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، يرى ظعينة رسول الله متخلِّفةً عن الركب وحدها، متلفِّفةً بثيابها، هل يستطيع أن يتركها ويمضي؟ مستحيل- .
قالت: فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا ، طلع الرجل يقودني، فقال: أهل الإفك ما قالوا؟ -رأوا زوجة رسول الله على بعير صفوان بن المعطَّل السلَمي- فارتجَّ العسكر، فو الله ما أعلم بشيءٍ من ذلك، ثم قدمنا المدينة, فلم أمكث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني شيءٌ من ذلك، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وإلى أبويَّ، ولا يذكران لي من ذلك قليلاً ولا كثيراً .
-فلماذا لم يذكر النبي لها قليلاً ولا كثيراً, ولا أباها ولا أمها؟ لثقتهم الكبيرة بأنها طاهرة، فأصعب شيء أن تتهم إنساناً بريئاً، شيءٌ لا يحتمل، ظلمٌ شديد أن تفتري على إنسانٍ افتراءً لا أصل له- .
قالت: إلّا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعض لطفه بي، إن كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك, فأنكرت منه، كان إذا دخل عليّ, وأمي تمرِّضني, قال: كيف تيكم, ولا يزيد على ذلك؟ أما من قبل كان إذا دخـل عليَّ وأنا مريضة, يقول: كيف عويش ؟ .
-عويش من ألفاظ التحبُّب لاسم عائشة، فهناك أسماء يُتحبب بها بتعديلها، تصغيرها، أو اختصارها، أو ترخيمها، كان عليه الصلاة والسلام يقول: كيف عويش؟ أما الآن يقول: كيف تيكم؟- .
قالت: أنكرت منه ذلك، حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني, فقلت له: يا رسول الله, لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرَّضتني، قال: لا عليك اذهبي إن شئتِ, فانتقلت إلى أمي, ولا أعلم بشيءٍ مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضعٍ وعشرين ليلة .
قالت: وكنا قوماً عرباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكُنُف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، وإنما كنا نخرج في فُسَح المدينة، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلةٍ في حوائجهن ، فخرجت لبعض حاجتي, ومعي أم مسطحٍ بنت رهمٍ بن المطلب، وكانت أمها بنت صخرٍ بن عامرٍ خالة أبي بكر .
قالت: فو الله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها, -أي في كسائها- فقالت: تعس مسطح .
-الآن أول خبر يصل إلى عائشة، هيَ ماذا رأت؟ رأت النبي يجافيها، ولكن ليس جفاء مطلقاً بل جفاء نسبياً، كيف عويش؟ سابقاً، كيف تيكم؟ فالإنسان الحسَّاس الذي عنده مشاعر رقيقة, يشعر بأدق التغيُّرات، فاستأذنت النبي أن تنتقل إلى بيت أهلها فأذن لها، وهي في طريق قضاء حاجتها, قالت لها هذه المرأة: تعس مسطح- .
قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجلٍ من المهاجرين قد شهد بدراً, -هي لا تعلم ماذا حدث؟
صحابي جليل رأى أم المؤمنين في الطريق، أركبها على جمله، وقادها إلى الركب-.
قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتي بالذي كان من قول أهل الإفك .
-اتهمت بالفاحشة مع صفوان بن المعطَّل السلَمي, يمكن أن يُلغى حديث الإفك، ولكن الله أراده، دليلٌ هذا قولُ الله عزَّ وجل:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
[سورة النور الآية: 11]
قس على هذا أيها الأخ الكريم، قس على هذا الحديث أنه إذا أصابك شيءٌ تكرهه، اقرأ قوله تعالى:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 216]
الله عزَّ وجل لطيفٌ لما يشاء؛ فالله عزَّ وجل ينقل الإنسان من حال إلى حال، من مستوى إلى مستوى، من منزلة إلى منزلة، من مقام إلى مقام، يؤدِّب، يهذِّب، يشجِّع، يقوي، يعين، يعطي خبرات عميقة، ما الإنسان الناضج؟ مجموعة خبرات، كل خبرة تعني أن فيها مأساة، هناك مشكلة، وهناك خبرة مؤلمة ألمَّت به .
مرَّة قال سيدنا موسى بالمناجاة: يا رب لا تُبقِ لي عدواً، قال: يا موسى هذه ليست لي, ليست لله عزَّ وجل، أليس هناك أعداءٌ لله عزَّ وجل، فوطِّن نفسك أنك لا تجد إنساناً إلا وله أعداء، لأن معركة الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديَّة، إن كنتَ مع أهل الحق فأهل الكفر والفسوق يعادونك، وإن كنت مع أهل الإيمان فأهل الكفر يعادونك- .
قالت: وقد كان هذا؟! -استفهام إنكاري- قالت: نعم, والله لقد كان, -هذا الذي حصل.
هذه الكلمة التي ألقيت على مسامع السيدة عائشة كأنها قنبلة- قالت: فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدِّع كبدي .

-فأصعب شيءٍ على المرأة الشريفة الطاهرة أن تتهم بشرفها، أصعب شيءٍ على الإطلاق, أن تتهم المرأة العفيفة الطاهرة بشرفها- .
قالت: وقلتِ لأمي: هل علمت أمي بهذا الخبر, يغفر الله لكِ, تحدث الناس بما تحدثوا به، وبلغك ما بلغك, ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً, قالت: أي بنيتي! خفِّضي الشأن, فو الله قلَّما كانت امرأةٌ حسناء عند رجلٍ يحبها، لها ضرائر, إلا أكثرن عليها .
-أي هذا شيءٌ طبيعي، معنى ذلك أن هناك حسداً، أحياناً الإنسان يُحسد، فالحسود يلقي بالتهم جزافاً, ليشفي صدره من محسوده- .
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في الناس يخطبهم, ولا أعلم بذلك, ثم قال:
أيها الناس ما بال رجالٍ يؤذونني في أهلي, ويقولون عليهن غير الحق، والله ما علمت منهن إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجلٍ, -أي صفوان بن المعطَّل السلَمي- والله ما علمت منه إلا خيراً، وما دخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي .
-تألَّم النبي عليه الصلاة والسلام، لقد آذوه أشد الأذى، آذوه في عرضه- .
قالت: وكان قد كَبُرَ ذلك عند عبد الله بن أبي سلول في رجالٍ من الخزرج مع الذي قال مسطح .
-أي صار في أناس من الصحابة تألموا أشد الألم لهذا الحديث، وأناسٌ آخرون تساهلوا قليلاً، ومنافقون كُثُر شمتوا، وفرحوا، وأحبوا أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا- .
قالت: ثم دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وعندي أبوايَ، وعندي امرأةٌ من الأنصار، وأنا أبكي وهي تبكي معي، فجلس وحمِدَ الله وأثنى علي, ثم قال: يا عائشة, إنه قد كان ما بلغك من قول الناس, فاتقي الله، إن كنتِ اقترفتِ سوءاً مما يقول الناس, فتوبي إلى الله, فإن الله يقبل التوبة عن عباده .
قالت: فو الله ما هو إلا أن قال ذلك, تقلَّص دمعي, حتى ما أحس منه شيئاً، وانتظرت أبويَّ أن يجيبا رسول الله، فلم يتكلَّما .
قالت: وايم الله لأنا كنت أحقَر في نفسي، وأصغر شأناً من أن ينزِّل الله عزَّ وجل فيَّ قرآناً, يُقرأ به في المساجد, ويصلَّى به، ولكنني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في نومه شيئاً, يكذب الله به عني, لما يعلم من براءتي، أو يُخبر خبراً، فأما قرآنٌ ينزل فيَّ, فو الله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك .
-تصوَّرتْ أن الله يبرِّئها بمنام يراه النبي عليه الصلاة والسلام، بطريقة أو بأخرى، أما أن ينزل وحي، قرآن يُتلى إلى يوم القيامة في براءة هذه السيدة المصون, قالت: والله كنت أحقر في نفسي من أن ينزل قرآنٌ فيَّ- .
قالت: فلما لم أرَ أبويَّ يتكلَّمان, قلت: ألا تجيبان رسول الله؟ فقالا لي: والله ما ندري بماذا نجيبه؟ .
-شيء مسكت، تهمة كبيرة جداً لامرأةٍ طاهرةٍ عفيفة، زوجها رسول الله، أبوها أبو بكر، أمها أم رومان، قِمم، والتهمة كبيرة، فأية امرأةٍ إلى يوم القيامة, اتُهمت كما اتهمت السيدة عائشة, ففي هذه السيدة المصون أسوةٌ حسنة- .
قالت: وايم الله ما أعلم أهل بيتٍ دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكرٍ في تلك الأيام.
-الحياة فيها متاعب كثيرة، فأحياناً هناك متاعب لا يعلمها إلا الله تصيب الإنسان, إن أشد الناس بلاءً؛ الأنبياء، ثم الأمثل, فالأمثل .
الإنسان يُبتلى على قدر إيمانه، فإن كان قوي الإيمان اشتد بلاؤه، وهذا البلاء يرفع درجاته عند الله عزَّ وجل- .

فلما قال لها النبي الكريم: يا عائشة, إنه قد كان ما بلغك من قول الناس, فاتقي الله ، وإن كنتِ اقترفتِ سوءاً مما يقول الناس, فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده .
قالت: فو الله ما هو إلا أن قال ذلك, حتى تقلَّص دمعي، هنا استعبرت فبكيت، ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبداً، والله لئن أقررت بما يقول الناس, والله يعلم أني بريئةٌ منه, تصدقونني عندئذٍ، لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما تقولون, لا تصدقونني .
قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره، ولكنني أقول كما قال أبو يوسف: فصبرٌ جميل, والله المستعان على ما تصفون .
-أخواننا الكرام, كنت أقول لكم دائماً: الحُزن خلاَّق، المصائب أحياناً تصنع الرجال وتصنع النساء، المصائب مِحَك، الإنسان حينما يمرُّ بظروف صعبة, يصبح رجلاً بالمعنى الكبير، والمرأة حين تمرُّ بظروف صعبة تصبح أماً كبيرةً, قال تعالى:

﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 18]
قالت: والله ما برح رسول الله مجلسه, حتى تغشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه، فسُجي بثوبه، ووضعت وسادةٍ من أدمٍ تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت, فو الله ما فزِعت كثيراً ولا باليت، وقد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبوايَ فو الذي نفس عائشة بيده ما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, حتى ظننت أن نفسيهما ستخرجان فَرَقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قاله الناس .
-هي مطمئنة لأنها بريئة، أما أبوها وأمها في قلقٍ شديدٍ جداً، فلربما يُثَبِّتُ الوحي ما قاله الناس- .
قالت: ثم سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فجلس, وإنه ليتحدر منه مثل الجُمان في يومٍ شاتٍ، فجعل يمسح العرق عن جبينه, ويقول: أبشري يا عائشة, لقد أنزل الله براءتك .
-الإنسان أحياناً كثيرة ما له إلا الله، سمعت كلمة من أحد الأخوة, يقول: الحمد لله على وجود الله، الله يعلم الحقيقة، إذا كان قلبك سليماً، وإذا كنت مستقيماً، وإذا كنت بريئاً, فلا تخشَ أحداً، الله عزَّ وجل سوف يبرِّئك- .
قالت: فقلت: بحمد الله وذنبكم, ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عزَّ وجل من القرآن فيَّ .
-لدينا تعليق على هذه الرواية-: أن السيدة أم رومان لما نزلت براءة السيدة عائشة قالت لابنتها السيدة عائشة: يا بنيتي, قومي إلى رسول الله فاشكريه, قالت: والله لا أقوم إلا لله, فتبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: عرفت الحق لأهله))


.

الآيات التي نزلت بشأن براءة أم المؤمنين من التهمة التي لصقت بها :

أيها الأخوة, آيات براءة الصديقة بنت الصديق، الطاهرة المؤمنة, قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
[سورة النور الآية: 11]
بيَّنتُ لكم من قبل أن التوحيد لا يُلغي المسؤوليَّة، إذا عزوتَ هذا إلى الله, فليس معنـى ذلك أن الذي روَّج هذا الحديث لن يُحاسب, قال تعالى:
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
[سورة النور الآية: 11]
يقول الله عزَّ وجل:
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾
[سورة النور الآية: 12]

علامة الإيمان أن تُحسن الظن بأخوانك, قال تعالى:

﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
[سورة النور الآية: 12-14]

أيها الأخوة, رضي الله عن هذه السيدة الحصينة العفيفة التي امتحنها الله عزَّ وجل في أعز ما تملك، وصبرت، واحتسبت، فأنزل الله براءتها .


ماذا نستنبط من هذه القصة ؟

أيها الأخوة, يمكن أن يستنبط من هذه القصَّة: أن الله هو الحق، وأنه لا بدَّ من أن يحقَّ الحق، فإن كنت واثقاً من براءتك واستقامتك, فالله سبحانه وتعالى يتولَّى الدفاع عنك, ولكن إيَّاك أن تجلس مجلساً فيه مظنة اتهامٍ لك، وتلوم الناس إذا اتهموك، لا تضع نفسك موضع التهمة, وتلوم الناس إذا اتهموك، كان عليه الصلاة والسلام يمشي مع زوجته صفيَّة فرأى صحابيين جليلين, قال:

((هذه زوجتي صفيَّة))
تعلَّم من هذه الواقعة: أن تكون واضحاً إلى أبعد الحدود، وقد قيل: البيان يطرد الشيطان .
عوِّد نفسك أن تفعل شيئاً, لا يمكن أن يفسَّر إلا تفسيراً واحداً، الشيء الذي يمكن أن يفسَّر تفسيرين, ابتعد عنه، وإذا تلبَّست به؛ وضِّح قصدك ومرادك، فلو أن الناس اتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما قال:

((هذه زوجتي صفيَّة))
لقطعوا كل لسانٍ يريد اتهاماً للآخرين, فمثلاً: إنسان مسافر، يوكِّل أخا زوجته أن يتفقَّد أخته، هناك جيران يرون أن جارهم قد سافر، وأن شاباً يدخل على بيته في غيبته، ماذا يقولون؟ قد يتهمونك، يجب أن تُعلم جيرانك أنك مسافر، وأنك وكَّلت أخا زوجتك أن يتفقَّد شؤونها، وضِّح .
فلو أنك دخلت لمحل صديقك، والمحل فارغ، والصديق غائب، إذ ذهبَ لبعض شأنه وقال لك: انتظرن, معك خمسمئة ليرة, أردت أن تفكَّها، فتحت الدرج ووضعتها, وأخذت خمس مئات، وقد دخل صديقك، لا تبق ساكتاً, بل قل له: سأصرف الخمسمائة, والأولى ألّا تفعلها في غيبته، لو نقص صندوقه خمسمئة، يأتي الشيطان بوسوسته: رأيت صديقي يمد يده إلى الدرج, عوِّد نفسك ألّا تفعل شيئاً له تفسيران، عوِّد نفسك أن توضِّح، أن تبيِّن، البيان يطرد الشيطان .
مرَّة أذكر حادثة وقعت في محل تجاري، صاحب المحل معروف بالصلاح، وبالمحل غرفة داخليَّة, وعنده تاجر من حلب, تاجر له قيمته, وله زيه الديني، جاءت امرأةٌ، رحَّب بها صاحب المحل ترحيباً أكثر من كونها زبونة تشتري، أنا من حسن ظني بأخي وصديقي, قلت: لعلَّها أخته, الشيخ الحلبي تغيَّر لونه، فقلت له: لعلها أخته, فلما ذهبت سألته, فقال: هي أختي, فيجب أن يبلِّغ .
أما أن تضع نفسك موضع التُهمة, ثم تلوم الناس إذا اتهموك، هذا ليس من الدين في شيء, هناك علاقات الجوار، والعلاقات الأسريَّة، والعلاقات مع الشركاء، دائماً وضِّح ، وبيِّن ، ودقِّق، وإلا هناك أشخاص يلوكون سمعتك دون أن تشعر، وهناك فتن قد تجري في المدينة يروِّج لها المنافقون، وهذا الحديث درسٌ بليغٌ للمؤمنين .
أول استنباط: إذا أراد الله شيئاً وقع .
الاستنباط الثاني: إذا كنت على حق، فالله عزَّ وجل سوف يتولَّى تبرئتك .
الاستنباط الثالث: لا ينبغي أن تضع نفسك موضع التهمة، ثم تلوم الناس إذا اتهموك .




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 09:02 AM   #6


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الخامس )


الموضوع : عائشة بنت ابى بكر



ورعها وزهدها و مكانتها العلمية




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما كتب في كتاب حلية الأولياء عن السيدة عائشة :
أيها الأخوة الكرام, مع سير الصحابيّات الجليلات رضوان الله عليهنَّ أجمعين، ومع سير زوجات النبي صلى الله عليه وسلَّم، ونحن في سيرة السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد وصلنا إلى فصلٍ عن ورعها وتقواها .
أيها الأخوة, عَقَدَ الحافظ أبو نُعيم ترجمةً لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في كتابه (حِلية الأولياء)، قال في مستهلِّ هذا الكتاب: إن عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الأولياء .
ولكن يجب أن تعلموا, أن كل واحدٍ منكم يجب أن يكون ولياً، لأن تعريف الولاية في القرآن الكريم:

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾
[سورة يونس الآية: 62-63]

تعريفٌ بسيطٌ، جامعٌ, مانع، كل من عرف الله، واتقى أن يعصيه, فهو وليٌ لله، وأعظم ثمرة ينالها وليُّ الله, قال تعالى:

﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة يونس الآية: 62]
الماضي مغطَّى ولا هم يحزنون، والمستقبل مغطى لا خوفٌ عليهم, قال تعالى:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة يونس الآية: 62]

الماضي مغطى بعدم الحزن على ما فاتك من الدنيا، والمستقبل مغطَّى بعدم الخوف، والإنسان دائماً يحزن على ما مضى, ويخاف مما سيأتي، الآية الكريمة:

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
[سورة طه الآية: 123]
لا يضل عقله, ولا تشقى نفسه, قال تعالى:
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 38]
أعظم ثمار الإيمان: ألّا يضل عقلك، وألّا تشقى نفسك، وألّا تندم على ما فات، وألّا تخشى مما هو آت, قال تعالى:
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة يونس الآية: 62]
ابتغوا الرفعة عند الله، لا يليق بك أيها الإنسان أن تكون لغير الله، يجب أن تكون محسوباً على الله لا على عبد الله، أجل على الله، أنت وليُّ الله، يجب أن تكون علاقتك بالله طيبةٌ جداً، يجب أن تكون قريباً من الله .
السيدة عائشة كما قال عنها الحافظ أبو نُعيم: والصديقة بنت الصديق، والعتيقة بنت العتيق، وحبيبة الحبيب، وأليفَهُ القريب، سيد المرسلين، والمبرَّأة من العيوب، والمعرَّاة من ارتياب القلوب، كانت للدنيا قالية، وعن سرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية، المبرَّأة في الكتاب, هذه أوصافٌ جامعة مانعة للسيدة عائشة رضي الله عنها .
أيها الأخوة الكرام, هذا الدرس يعطينا حقيقةً خطيرة: أن المرأة كالرجل، يمكن أن تصل إلى أعلى المراتب في الإيمان، ويمكن أن تكون قمةً في معرفة الله، والسيدة عائشة من هذا القبيل، المرأة كالرجل تماماً مساويةٌ له في التكليف, والتشريف, والمسؤوليَّة .

ما قيل عن حب النبي لعائشة وما قيل عنها :
كان أحد الصحابة إذا حدَّث عن عائشة يقول:
((حدَّثتني الصديقة بنت الصديق، وحبيبة حبيب الله))
فالإنسان يحب الرفعة، يحب الكمال، هل تعلم أنه ما من مرتبةٍ علـى الإطلاق أعلى من أن تكون مع الله، أن تكون حبيب الله، أن تكون وليَّ الله، أن تكون مقرَّباً إلى الله، أن تكون في عين الله، أن تكون مصافياً لله, هذه مرتبةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها .
قال أنسٌ رضي الله عنه:

((أول حبٍ كان في الإسلام حب النبي صلى الله عليه وســلَّم لعائشة رضي الله عنها))

فيجب أن تعلم أنه ما من شيء أودعه الله عزَّ وجل في الإنسان إلا جعل له قناة نظيفة، فأن تحب زوجتك هذا مما يرضي الله، علاقتك بالأنثى بالعصر الحالي مليون علاقة محرَّمة، مليون علاقة مشبوهة، مليون علاقة آثمة، مليون علاقة تحجبك عن الله, إلا علاقة الزواج؛ هذه علاقةٌ يرضى الله عنها، هذه علاقة كلَّما تمتَّنت اقتربتَ من الله .
كانت هذه السيدة الجليلة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام:

((كيف حبك لي؟ فكان عليه الصلاة والسلام يقول: كعقدة الحبل, فكنت أقول من حينٍ إلى آخر: يا رسول الله, كيف العقدة؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: على حالها))
إذاً: أن تمتِّن علاقتك بزوجتك فهذا من منهج الله، أن ترحمها هذا من منهج الله، أن تحبها هذا من منهج الله .

ولعلَّ الله سبحانه وتعالى حينما أعطى المرأة هذا الشكل المحبَّب، وهذه الوداعة، وهذا اللطف، وهذه الرقَّة, أراد منك أن تحبها الحب الذي يرضى الله عنك، الحب الذي يثمر أولاداً أطهاراً، الحب الذي يؤسِّس أسرةً، فالحب يتوهَّمه الناس فقط عند الكفار، فقط عند الفَسَقَة، الحب بأعلى مستوياته في رحاب الإيمان، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحب السيدة عائشة حباً شديداً، وهو أول حبٍ في الإسلام, حب مشروع, الإنسان حينما يبحث عن الحرام يشعر بالكآبة، يشعر بالخزي والعار .
امرأةٌ تعمل في الفن في فرنسا سألوها: ما شعوركِ وأنتِ على خشبة المسرح؟ قالت: شعور الخزي والعار، وهذا شعور كل أنثى تعرض مفاتنها على الجمهور، إن الحب يجب أن يبقى بين الزوجين, وفي غرفٍ مغلَّقة .
هذا الحب المشروع في الإسلام بينك وبين زوجتك، وكلما تمتَّنت العلاقة بينكما رضي الله عنكما .
هذه المرأة الصحابيَّة الجليلة التي كان ولدها على وشك الموت، فجاء زوجها في المساء، سألها عن حال الولد, فقالت:

((يا أبا طلحة إنه في أهدأ حال, وعنت أنه قد مات, لأنه هادئ، تزيَّنت له، وأصاب منها، وفي الصباح قالت له: لو أن الجيران أعاروك عاريةً ثـم استرجعوها منك، أتغضب؟ قال: لا, قالت: هكذا فعل الله معنا, أعطانا هذا الغلام ثم استردَّه, ثم ذكر أبو طلحة هذا الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام:
((بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا))
[أخرجه أحمد في مسنده]
وقد تروي الكتب أنه تزوج, وأنجب عشرةً من الحُفَّاظ، هما أنجبا ولداً, وهذا الولد أنجب عشرة حفاظٍ لكتاب الله .
إذاً: ما من شيء أودعه الله عزَّ وجل في الإنسان إلا جعل له قناة نظيفة، في الإسلام ليس هناك حرمان، لكن أقدس حب أن تحب زوجتك .
مرَّة كنا في الجامعة أحد الأساتذة الكبار, أحيل إلى التقاعد، أقيمت له حفلةٌ كبيرةٌ جداً لوداعه, أنا أذكر أنه بعد أن سمع كلمات التكريم والوداع, قام وقال هذه الكلمة، قال: كل إنسانٍ لا يشعر بحاجةٍ إلى أن يُحِب، كما أنه لا يشعر بحاجةٍ إلى أن يُحَب، ليس من بني البشر .

إذا كنت من بني البشر, يجب أن تشعر بحاجةٍ إلى أن تُحِب، وينبغي أن تشعر بحاجةٍ إلى أن تُحَب، ماذا نحب؟ نحب زوجاتنا، ونحب أولادنا, ونحب أعمالنا، ونحب الحقيقة ، وأعلى أنواع الحب: أن تحب الله جل جلاله، أي هذا أعلى حب، أي حبِ آخر يتناقص، أي حبٍ آخر ينقطع بالموت، لكن حب الله جلَّ جلاله أبديٌ سرمدي .
وتعليق سريع: الحب الذي ينشأ في الحرام يتناقص، والحب الذي ينشأ في رحاب الإيمان يتنامى، فإذا كنت مؤمناً فحبك لأهلك يتنامى .

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما لأم المؤمنين:

((كنتِ أحبَّ نساء النبي صلى الله عليـه وسلَّم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يحب إلا طيِّباً .
-أي أن مقام النبي عليه الصلاة والسلام ماذا يليق به أن يحب؟ أيحب امرأةً لجمالها فقط؟ بل أن يحبها لكمالها، ولعلمها، ولخلقها، ولمحبتها لله عزَّ وجل، حب النبي مؤشِّر كبير جداً، هل يعقل أن يحب النبي إلا طيباً؟- .
وقال: هلكت قِلادتكِ بالأبواء, فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يلتقطها، وبعدها لم يجد ماءً للوضوء, فأنزل الله عزَّ وجل:

﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾
[سورة النساء الآية: 43]
-وهذه الآية التي سمحت للمسلم بالتيمم- قال: كان بسببك وبركتك ما أنزل الله تعالى لهذه الأمة من الرخصة, وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، فليس مسجدٍ يُذكر الله فيه إلا وشأنك يتلى فيه آناء الله وأطراف النهار .
-فهل من السهولة أن يذكر الله في كتابه الكريم، الذي نقرؤه متعبدين إلى أبد الآبدين, أن يذكر فيه اسم صحابي، أو أن ينوِّه القرآن بامرأةٍ في القرآن الكريم؟ .
قد يقول أحدكم: أي صحابي ذُكر اسمه في القرآن الكريم؟ صحابي واحد هو سيدنا زيد، لكن لماذا ذُكر اسمه؟ لأنه كان متبنَّى النبي عليه الصلاة والسلام، واسمه زيد بن محمد، فلما أراد الله عزَّ وجل أن يبطل هذه العادة, عادة التبني, وبدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام، فخسر هذا الاسم زيد بن محمد، فعوَّضه الله خيراً من هذا, حين ذكر اسمه في القرآن، في كتاب الله يتلى إلى يوم القيامة، اسمه في القرآن الكريم, قال تعالى:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
قالت: يا بن عباس, دعني منك, ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نَسياً منسيا))

معنى ذلك: أن المخلص لا يلتفت إلى مديح الناس، ومديح الناس لا يملأ قلبه، المخلص يريد الله عزَّ وجل، أن يكون الله راضياً عنه، أما الناس فلا يعبأ كثيراً بمدحهم وبتوقيرهم .

هناك مرض نفسي يصيب بعض الناس, وهو استجداء المديح, أي إذا أنت لم تمدحه فإنه يذكّرك بشيء من أجل أن تمدحه، إذا أنت لم تثنِ عليه يلفت نظرك لشيء، فإذا كان قد دعاك إلى طعام يسألك: أما أحببت الأكل؟ لتقول له: أعوذ بالله أكل ممتاز، الله يعطيك العافية, أو يسألك مثلاً: كيف كانت هذه المحاضرة؟ كيف وجدت هذا الدرس؟ ما رأيك بهذا الكتاب؟ إذا أنت لم تثنِ عليه, فقد يواجهك بمشكلة، هذا مرض اسمه: استجداء المديح .
أما الإنسان إذا كان مخلصاً لله عزَّ وجل, فإنه فوق هذا بكثير، دعك يا بن عباس من هذه التزكية, فو الله لوددت أني كنت نسياً منسيا .

فالإنسان يحب أشياء ثلاثة؛ يحب بقاء وجوده: عن طريق الطعام والشراب، ويحب بقاء نوعه: عن طريق الزواج, ويحب بقاء ذكره: عن طريق تأكيد الذات، فكل واحد من بني البشر هكذا فُطِر؛ يحب أن يبقى ذكره، يحب أن يؤكِّد ذاته، يحب أن يكون له أهميةٌ كبيرة، لكن هذه الأشياء الثلاثة يمكن أن تحقق في الخير، فإذا قرأت القرآن، وتعلَّمت القرآن، وعلَّمت القرآن، واقتربت من الواحد الديَّان, يرفع الله ذِكرك, قال تعالى:

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
[سورة الشرح الآية: 1-4]
وكل مؤمن له من هذه الآية نصيب, قال تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾
[سورة الشرح الآية: 4]

أنت بالطعام والشراب تحافظ على وجودك، وبالزواج تحافظ على نوعك، وبالعمل الصالح، ومعرفة الله، والاستقامة على أمره, يرفع الله لك ذكرك بين الناس، دون أن يكون هذا الرفع بطريقٍ غير مشروع .
عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت:

((رأيتك يا رسول الله واضعاً يدك على معرِفة فرسٍ, -أي على عرف الفرس- وأنت قائمٌ تكلِّم دِحْيَةَ الكَلبي, فقال عليه الصلاة والسلام: أوقد رأيته؟ قالت: نعم, قال : فإنه جبريل وهو يقرئكِ السلام .
-أحياناً إنسان يمدحه عِلية القوم, فيزهو بهذا المديح، وأحياناً يمدحه الساقطون والساقطات، وهذا مديحٌ لا قيمة له، فالعبرة من الذي يمدحك؟ من الذي أنت عنده كبير؟ من الذي ترقى عنده؟ المؤمن له عند الله مقعد صدق, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[سورة القمر الآية: 54-55]
فلما قال لها: وهو يقرئك السلام, قالت: وعليه السلام, ورحمة الله, وجزاه الله خيراً من زائر، فنعم الصاحب, ونعم الداخل))
ماذا عن زهد عائشة وإنفاقها في سبيل الله ؟
أما زهد هذه السيدة الجليلة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: فعن القاسم بن محمد قال:
((كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, تصوم حتى يزلقها الصوم))
أي يجهدها.
وعن ابن المنكدر, عن أم ذَرَّ, وكانت صاحبة عائشة، قالت:

((بعث إليها بمالٍ أراه ثمانين أو مئة ألفٍ, فدعت بطبقٍ، وهي يومئذٍ صائمة, فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهمٌ واحد .

-أهل بيت النبي على شاكلة النبي، أهل بيت النبي جزءٌ من الدعوة، فالناس لا يصدقونك إذا كنت أنت في واد, وأهلك في وادٍ آخر, ولم تهتم بتربيتهم، أهل بيت النبي جزءٌ من الدعــوة، وهناك سؤال كبير: إذا لم تستطع أن تربي أهلك, هذا المنهج غير واقعي، وإن كان بالإمكان أن تفعل فلم تفعل, فأنت مقصِّر، فما جوابك؟ ما من جواب، لذلك:

﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 33 ]
تولَّى الله بنفسه تطهير أهل بيت النبي, لأنهم جزءٌ من الدعوة، أنت متى تثق بإنسان؟ إن رأيته في حياته الخاصة مستقيماً، إن رأيته يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول، فإذا لم تكن هناك مسافة أبداً بين القول والعمل ترقى بذلك، لذلك يعد أهل بيت النبي جزءاً من الدعوة إلى الله، إذا كان هناك تقصير أو خلل, فالدعوة عرجت -.
فلما أمست قالت: يا جارية أين فطوري؟ فجاءتها بخبزٍ وزيت، مئة ألف وزَّعتها وهي صائمة، ولم تبقِ منها شيئاً، فجاءت بخبزٍ وزيت، قالت لها أم ذر: أما استطعت مما قسمت اليوم, أن تشتري لنا لحماً بدرهمٍ, نفطر عليه؟))

قال تعالى:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
[سورة الحشر الآية: 9]
وقال عروة:
((لقد رأيت عائشة رضي الله عنها تقسم سبعين ألفاً, وإنها لترقع جيب دِرعها))
النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((يا عائشة, إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي, فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ, وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ, وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وعن عروة أيضاً:
((أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله عنها بمئة ألفٍ، فو الله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرَّقتها، قالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهمٍ لحماً, قالت: لو قلتِ قبل أن أفرِّقها لفعلت))
هذا من زهد هذه السيدة, طبعاً من النادر أن ترى امرأةً زاهدة، بل إن شأن النساء أن يحمِلن أزواجهن على ما لا يطيقون، لذلك حين قال الله عزَّ وجل:
﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ﴾
[سورة التغابن الآية: 14]
قال علماء التفسير: هذه عداوة مآل وليست عداوة حال, بمعنى أن الرجل حينما يأتيه ملك الموت، ويستحق العذاب على ما أكل من أموالٍ حرام، وأن زوجته كانت هي السبب, دفعته إلى أكل المال الحرام، عندئذٍ تنشأ عداوةٌ متأخِّرة بينه وبين زوجته، لولاها لما كان في النار، لذلك: أعظم النساء بركةً على زوجها أقلَّهنً مؤنةً .
أعظم امرأةٍ هي التي لا تكلِّف زوجها ما لا يطيق، لا تحمله على معصية، لا تحمله أن يجهد في كسب الرِزق، لا تحمله على أن يأكل مالاً حراماً، هذه هي المرأة الصالحة، لا التي تضغط على زوجها, حتى يهيِّئ لها مسكناً فخماً، وأثاثاً راقياً تتباهى به، وزوجها يتقلَّب في النار، لا .

زوجة طلبت من زوجها بعض الأشياء الغالية, فقال لها: أيتها المرأة إن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض, لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أن أضحي بهنَّ من أجلك .
المؤمن لا يستجيب لطلبٍ يغضب الله، أو يبعده عن الله .
عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: أهدى معاوية لعائشة ثياباً وورِقاً,أي فضةً, وأشياء توضع في أسطوانتها, الأسطوانة خزانة الثياب, فلما خرجت عائشة, نظرت إليه فبكت, ثم قالت: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يكن يجد هذا، ثم فرّقته ولم يبقَ منه شيء, وعندها ضيف، فلما أفطرت، وكانت تصوم من بعد رسول الله، أفطرت على خبزٍ وزيت، فقالت المرأة: يا أم المؤمنين, لو أمرتِ بدرهمٍ من الذي أهدي إليكِ, فاشتري لنا به لحماً فنأكله ، فقالت عائشة رضي الله عنها: كلي فو الله ما بقي عندنا منه شيء, هكذا إنفاقها، وهكذا زهدها .
فالنساء في زماننا, يبالغن في تزيين البيت، فيأتي ملك الموت، فيذهبن إلى الآخرة صَفِرات اليدين .

مكانتها العلمية :
روى هشام بن عروة عن أبيه, قال:
((ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن، ولا بفريضةٍ، ولا بحلالٍ وحرام، ولا بشعرٍ، ولا بحديثٍ، ولا بنسبٍ, من عائشة رضي الله عنها))

كانت متفوقةً في هذه العلوم، والحقيقة بيني وبينكم: ليس في المرأة شيءٌ أروع من أن تكون عالمة، جمعت المَجد من كــل أطرافه، هي محبَّبة، ومؤنسة، وغالية، ورقيقة، فإذا كانت عالمة، فقيهة، تحفظ كتاب الله، تعرف الحق من الباطل، الحلال من الحرام، الخير من الشر، ما ينبغي وما لا ينبغي، تربي أولادها تربيةً راقية، لذلك إذا علَّمت فتاةً علَّمت أسرةً .
فأنا لا أكتمكم أن في جامعنا عدداً كبيراً من أخوةٍ كرام, سبب هدايتهم زوجاتهم اللواتي عرفن الله قبل الزواج، فحملن أزواجهن على طاعة الله، وهذه نعمةٌ كبرى، وليس في المرأة شيءٌ أبشع من الجَهل، وليس شيءٌ في المرأة أبشع من أن تتباهى بما عندها، وما عند زوجها، وتكسر قلب أقرانها، وتستعلي عليهنَّ, شيطانة ولو أنها تدَّعي أنها مسلمة.
كان عروة يقول:

(( يا أماه, كيف أعجب من فقهك؛ إنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابنة أبي بكر؟!))
أي لا يليق بالإنسان أن يكون هو عالم وزوجته جاهلة، هو في أعلى درجة من العلم ، وزوجته في أدنى درجة من الجهل .
حدثني أخ فقال لي: رجل عنده مكتبة قيمة جداً، وعنده كتاب نادر، رجوناه رجاءً حاراً أن نستعيره منه ليلةً واحدة, فلم يرضَ أبداً, أقسم بالله بعد موته, أنه رأى الكتاب في حاوية القمامة .
أحياناً تجد الزوج متعلِّماً, وعنده مكتبة قيِّمة، وله زوجة لا ترى هذه الكتب إلا عبئاً, يجب أن يلقى في سلة المهملات, جاهلة، فالحقيقة الرائعة: أن الإنسان جميل أن يكون له زوجة، وتكون زوجته رفيقته، وإذا كان هو متعلِّماً، ويطلب العلم الشرعي، وزوجته كذلك، تصبح إضافةً إلى أنها زوجته, فهي رفيقته .

فأنت لاحظ نفسك، تجلس مع أخ مؤمن ساعتين, أو ثلاثاً, أو أربعاً, أو خمساً, فلا تمل منه، لماذا؟ لأنه على شاكلتك, يقدِّر ما تقدِّر، يحب ما تحب، يعظِّم ما تعظِّم، يكره ما تكره ، بينكما انسجام، ومن الممكن أن تجلس مع إنسان عشر ساعات, ولا تمل من حديثه، إذا كان على شاكلتك، وكان في مستوى ثقافتك، في مستوى إيمانك، في مستوى تفكيرك، في مستوى قيَمك، ولكن إنساناً آخر قد لا تستطيع أن تحدثه كلمة واحدة، قد لا تستطيع أن تجلس معه ولا ربع ساعة، فما من قواسم مشتركة بينكما .
فالإنسان إذا تزوج، فهذه الزوجة يعرفها كلياً بعد حين، انتهت أيام الخطبة، ويمكن أن تكون المكالمة ثلاث ساعات حين الخطبة، لكن بعد سنتين انتهى كل هذا، فإن لم تكن هذه الزوجة على شاكلة زوجها، فلن تكون محببةً إليه، لذلك اهتم أيها المؤمن بتعليم زوجتك العلم الشرعي، كي تغدو رفيقةً لك, فضلاً عن أنها زوجةً لك، كما أنها عالمة .
وقد عجب منها بعض الصحابة حينما علموا أنها كانت عالمةً بالطب .
قالت:

((إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يسقم في آخر عمره, فكانت تقدم عليه الوفود من كل وجهٍ، فتنعت له, -أي تصف له الأدوية- فكنت أعالجه، فمن ثمَّ علمت أساليب الطب))
فكانت بارعةً بالطب .
وقال أبو موسى:

((ما أشكل علينا أمرٌ, فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً))
وقال بعض العلماء:
((لو اجتمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل))

فالنبي اللهمَّ صلِّ عليه, علَّمنا أن نقدِّر زوجاتنا، هل تصدِّقون أنه استشار أم سلمة في موقفٍ عصيب في صلح الحديبية, وأشارت عليه أن يتحلَّل هو من إحرامه, وأن يحلق، فيقلِّده الصحابة عندئذ؟ وهذا الذي حصل، لذلك قال تعالى في معرض ذكر النساء:

﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾
[ سورة الطلاق الآية: 6]
تناصحوا ليأمر كلٌ منكم الطرف الآخر بما هو خير، أي تأمرها وتأمرك، تنصحها وتنصحك .
وقال أبو الزناد:

((ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك؟ قال: روايتي من عائشة))
وقال عطاء بن رباح:
((كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامَّة))
وقال مسروق:
((رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر, يسألونها عن الفرائض))
من خصوصيات السيدة عائشة :
ما الأمور التي امتازت بها عائشة رضي الله عنها؟ .
قالت عائشة:

((فضِّلت بعشرٍ، فذكرت من هذه العشر؛ مجيء جبريل بصوتها, -أي أن جبريل جاء بصوتها, لأن صوتها يؤنس رسول الله صلى الله عليه وسلَّم- ولم ينكح بكراً, ولا امرأة, أبواها مهاجران غيري, وأنزل الله براءتي من السماء، وكان عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الوحي وهو معي، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه, وقُبض بين سَحْري ونحري في بيتي, وفي ليلتي، ودفن في بيتي))
هذا مما اختصت به هذه السيدة الجليلة .

من افتراءات أعداء الإسلام في التاريخ :
نحن في تاريخنا الإسلامي موقعة اسمها: موقعة الجمل, والسيدة عائشة كانت طرفاً فيها، وهناك أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، هناك افتراءاتٌ عديدة، هناك مبالغاتٌ سخيفة، لكن فيْصل هذا الموضوع ما ورد:
أن قتلة عثمان رضي الله عنه خافوا أن يتفق عليٌ رضي الله عنه مع طلحة والزبيـــر وعائشة على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة، فَظَنَّوا أن علياً حمل عليه ، فحملوا دفاعاً عن أنفسهم، فظن عليٌ أنهم حملوا عليه، فحمل دفاعاً عن نفسه .
هذان السطران لهما قيمةٌ كبيرة جداً في التاريخ، وهذا يحدث دائماً بين فريقين، يأتي فريق ثالث يضرب هؤلاء ويضرب هؤلاء، يظن هؤلاء أن هؤلاء حملوا عليهم، فيدافعوا عن أنفسهم، ويظن هؤلاء أن هؤلاء حملوا عليهم، فيدافعوا عن أنفسهم, والفريقان بريئون جداً من نيَّة القتل ونية الفتنة، وهذا الذي حدث، معركة الجمل حجمها صغيرٌ جداً، أعداء الإسلام كبَّروها جداً، وأضافوا عليها ما ليس منها، أرادوا تشويه سمعة المسلمين .

أي جرى سوء تفاهم، والأطراف كلهم اجتهدوا، والمجتهد له أجرٌ إذا أخطأ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا .
معركة الجمل وقعت, ولكن حجمها الحقيقي أقل بألف مرة من حجمها الذي في الكُتُب، لأن أعداء الدين يريدون أن يشوِّهوا سمعة الصدر الأول من الإسلام، وهذه الحقيقة, قال تعالى:

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 7]
اسألوا علماء التاريخ، اسألوا المحققين، اسألوا المُنصفين، اسألوا الذين محَّصوا هـذه الروايات، أكثرها مبالغٌ فيه, وما أنزل الله به من سلطان .
كان عليٌ كرَّم الله وجهه يوقِّر أم المؤمنين عائشة، ويجلُّها، وكان دائماً يُذِّكر بمقامها السامي الكريم .
وقد قال عمَّار بن ياسر: سمعت علياً كرَّم الله وجهه يقول على المنبر: إنها لزوجة نبينا صلى الله عليه وسلَّم في الدنيا والآخرة, ويعني عائشة, وكانت عائشة تجلُّ علياً وتوقِّره.
وكل ما كان بين الصحابة من الخلاف, لم يكن سبباً للعداوة، والكراهية، والبغضاء فيما بينهم، بل كانت نتيجة اجتهاداتٍ قد أعذر الله بعضهم بعضاً، رضي الله تعالى عنهم جميعاً, وحشرنا في زمرتهم .
لا يليق بممرِّض أن يقيِّم طبيبين كبيرين, اختلفا في وجهات النظر، لا يليق بجنديٍ غِر أن يقيَّم قائدي جيشين, اختلفا في وجهات النظر، فنحن لسنا أهلاً أن نقيِّم الفريقين، قال عليه الصلاة والسلام: إذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا .
موقعة الجمل حجمها صغيرٌ جداً جداً، بالغ بها أعداء الإسلام، ضخَّموها تضخيماً غير معقول، وأصل هذا التضخيم أن فريقاً ثالثاً لعب دور الفتنة .
أنا سمعت عن حرب أهليَّة -انتهت والحمد لله- في بلد مجاور سنوات طويلة، كلَّما وقِّعت هدنةٌ بين الفريقين, جاء فريق ثالث وضرب الفريقين، فتشتعل وهكذا، فهذا أسلوب قذر وقديم، فريقٌ ثالث ليس في صالحه أن يتفق الفريقان، فكلَّما عُقدت هدنةٌ بينهما ضرب الأول وضرب الثاني، يظن الأول أن الثاني نقض العهد فيحمل عليه، والأول كذلك .
فإذا أردت أن تعطي تفسيراً دقيقاً جامعاً مانعاً لهذه الموقعة: فهذا هو حجمها، فريقٌ منحرفٌ هجينٌ, أراد أن يوقع الفتنة بين الفريقين، والإنسان محاسبٌ على نيَّته، واجتهاده إذا أخطأ فيه, فله أجر .

الخاتمة :
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله, ننتقل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 09:05 AM   #7


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( السادس )


الموضوع :حفصة بنت سيدنا عمر ابن الخطاب


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
متى ولدت السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب, ومتى تزوجها النبي, وعمن روت, ومتى توفيت؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الرابع عشر من دروس سير الصحابيَّات الجليلات رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، ومع أهل بيت النبي، ومع نساء النبي، ومع الزوجة الرابعة، من زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطَّاب .
هي صوامةٌ, قوَّامة, لوامة، وارثة الصحيفة الجامعة لكتاب الله عزَّ وجل، أودعت في بيتها، هي حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، ولدت قبل البعثة بخمسة أعوام، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد ثلاث سنوات من الهجرة، بعد عائشة، وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أبيها، وروى عنها أخوها عبد الله بن عمر أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال:
((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي))
وأهل بيت النبي جزءٌ من الدعوة، فلذلك الزوجة التي اختارها الله, لتكون زوجة رسول الله, هذه ستنقل عنه، وكلام النبي شرع، النبي مشرعٌ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، فأخطر إنسانٍ في حياته, هو الذي يروي عنه، لأن الذي يُروى عنه شرع نتعبد الله به إلى يوم القيامة .
فلذلك حينما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام امرأةً، وقد قيل لها إذا دخل عليكِ قولي: أعوذ بالله منك، -لم تستعمل عقلها، لم تفكر فيما تقول- فلما دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: أعوذ بالله منك, قال:
((الْحَقِي بِأَهْلِكِ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
لماذا؟ لأنها ستروي عنه، أين عقلها؟ أين إدراكها؟ أين حكمتها؟ أيقال للنبي عليه الصلاة والسلام أعوذ بالله منك؟ فلذلك زوجات النبي ينبغي أن يكُن في أعلى مستوى، لأنهن سينقلن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله, ويتحدثن عن أفعاله, وعن إقراره، وهذا كله شرعٌ نعبد الله به .
فهذه حفصة رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب عملاق الإسلام، توفيت أول ما بويع معاوية بالخلافة، أي ولادتها قبل البعثة بخمس سنوات، ووفاتها عند بيعة معاوية بن أبي سفيان .
من هو زوجها السابق, وكيف كانت وفاته, وما هي الغزوات التي شهدها هذا الصحابي, وكم كان عمر السيدة حفصة حينما توفي زوجها الأول؟
أيها الأخوة, كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تزوجها بعد انقضاء عدتها، من زوجها المهاجر خُنيس بن حذافة السهمي، الذي توفي من آثار جراحةٍ, أصابته يوم أُحد، وكان رضي الله عنه من السابقين في الإسلام، هاجر إلى أرض الحبشة, فراراً بدينه، وعاد إلى المدينة، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأييداً له ونصراً، هذا زوج حفصة السابق .
الحقيقة هذه الصحابية الجليلة, كانت زوجةً صالحة، ولا تنسوا أن الدنيا كلها متاع, وخير متاعها المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها سرَّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك، ودودةٌ ستِّيرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام .
فكانت حفصة زوجةٌ صالحةً للصحابي الجليل، وأن تكون الزوجة صالحة يكفيها هذا لدخول الجنة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((انصرفي أيتها المرأة, وأعلمي من وراءك من النساء, أن حسن تبعل إحداكن لزوجها, وطلبها مرضاته, واتباعها موافقته, يعدل ذلك كله))
والجهاد كما تعلمون ذروة سنام الإسلام، فالمرأة التي تتعهد أمر زوجها وأولادها, هي امرأةٌ تستحق دخول الجنة، ودين المرأة يسير, إذا صلَّت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، وحفظت نفسها، دخلت جنة ربها .
هذا خُنيس رضي الله عنه من أصحاب الهجرتين، هاجر إلى الحبشة كما قلت قبل قليل فراراً بدينه، وهاجر إلى المدينة نصرةً لنبيِّه عليه الصلاة والسلام، شهد بدراً، وهؤلاء الذين شهدوا بدراً, النبي عليه الصلاة ولسلام أثنى عليهم ثناءً كبيراً:
((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))
[أخرجه البخاري عن علي في الصحيح]
لأنهم نصروا هذا الدين، الإنسان أحياناً إما أن يستفيد من الدين، وإما أن يُفيد الدين، إما أن يكون محمولاً، وإما أن يكون حاملاً، إما أن يكون إيجابياً، وإما أن يكون سلبياً، إما أن يأخذ، وإما أن يعطي، هؤلاء الذين يعطون؛ من وقتهم، وجهدهم، ومالهم، وأرواحهم، هؤلاء لهم حسابٌ آخر، هؤلاء الذين يحملون، هؤلاء الذي يفتحون، هؤلاء الذين يُعطون كل ما آتاهم الله عز وجل في سبيل نصر هذا الدين، هؤلاء ليسوا سواءً مع المنتفعين، فهذا الصحابي الجليل شهد بدراً, قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾
[سورة آل عمران الآية: 123]
ضعاف، ليس عندهم سلاح، ولا مال، ولا تجمُّعات، لأنهم افتقروا إلى الله عز وجل نصرهم، ثم شهد أحداً، فأصابته جراحةٌ, توفي على أثرها، وترك من ورائه زوجةً, هي حفصة بنت عمر, شابةٌ في ريعان الشباب، فترمَّلت ولها عشرون عاماً .

كيف كانت حالة سيدنا عمر حينما توفي زوج ابنته, وماذا فعل حينما تطاولت الأيام على ابنته ولم يأتها خاطب, وما هي البشرى التي زفت لسيدنا عمر ولابنته ؟

أيها الأخوة, تألم عمر أشد الألم، الإنسان لا يعرف مكانة الولد ذكراً كان أو أثنى إلا إذا كان أباً، والله سبحانه وتعالى كأنني أتصور أنه أرادنا أن نعرفه من خلال نظام الأبوَّة، ما هذا الأب؟ كله رحمة، كله حرص، كله عطف، كله اهتمام بأولاده، فالأب أب، لما توفي زوجها وترمَّلت تألم أشد الألم، اسأل الآباء: ما الذي يسعدهم؟ أن يروا أولادهم بخير، لو أعطيته ملء الدنيا ذهباً لا يساوي أن يكون ابنه قرة عينٍ له .
أحياناً الإنسان يرى أولاده بخير على استقامة، يرى بناته بخير على تفاهم مع أزواجهم، هذه الدنيا كلها للأب، لذلك ربنا عز وجل جعل مكافأة الأب الذي يربي أولاده مكافأةً عجالةً قبل مكافأة الآخرة, قال تعالى:
﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾
[سورة الفرقان الآية: 74]
فأحياناً أقول لبعض الآباء: هذا ابنك الصالح، والله إن أموال الدنيا كلها لا تعدله، لأنها سيخلفك من بعدك، وكل أعماله في صحيفتك .
لذلك الإنسان عليه أن يعتني بأولاده عناية لا حدود لها، لأنهم استمرار له، وأنا أذَكِّر الشباب، أنا أقف وقفة متأنية، كل إنسان أحياناً يتفاعل مع الحياة، في نهاية المطاف, يستنبط حقائق ، يستنبط حكم، يستنبط أشياء مهمة جداً، لو شققت على صدره, يقول لك: لا أتمنى إلا شيئاً واحداً أن أعود شاباً لأستفيد من هذه الخبرات .
الآن إذا شاب في مقتبل عمره, سمع من رجل خلاصة تجاربه هذه الحقائق، شيء ثمين جداً, معاناة أربعين سنة, تقدم لك في كلمة، هذه الحكمة، تجارب إنسانية مكثَّفة جداً، تستفيد منها، فما أروع الشاب الذي يستفيد من خبرة الشيوخ، وما أروع الشيخ الذي فيه توقُّد حماس الشباب، الشاب والشيخ يتكاملان، أعني بالشيخ الكبير بالسن، هذا الكبير في السن, يملك حكم، خبرات، عارك الحياة، وتفاعل مع الحياة، واستنبط حقائق، هي كلمات، تضغط في كلمات، لكنها تعبر عن تجارب سنوات وسنوات، فالشاب الموفق، إن استمع من إنسان مخلص، أي أنه خبر الحياة, وخبر حقائق الأمور، افعل كذا ولا تفعل .
أنا أقول لكم: الشاب إذا كان أقبل على الزواج، لا شيء يسعده في الدنيا, كأن تكون زوجته وأولاده قرة عين الله، وهذا يحتاج إلى جهد كبير .
سيدنا عمر تألَّم أشد الألم، لأن ابنته في ريعان الشباب ترمَّلت, ولها عشرون عاماً, وأوجعه أن يرى ملامح الترمُّل تغتال شبابه .
النبي أذاقه الله كل شيء، أذاقه تطليق بناته، أذاقه موت الولد، أذاقه الهجرة، فسيدنا عمر أذاقه الله ترمل ابنته، وأصبح يشعر بانقباضٍ في نفسه, كلما رأى ابنته الشابة, تعاني من عُزلة الترمل، لأن هذه المرأة وهذا الرجل صمما على الزواج، الزوج يسكن إلى زوجته، والزوجة تسكن إلى زوجها، يتألفان، يأنسان ببعضهما، فلذلك تألم سيدنا عمر، وهي التي كانت في حياة زوجها, تنعُم بالسعادة الزوجية .

بالمناسبة هناك من يتوهَّم أن السعادة الزوجية بالمال، المودة التي بين الزوجين سبب السعادة الزوجية، لو أطعمها أخشن الطعام، لو أسكنها بأصغر بيت، العبرة أن تكون هناك المودة والحب، مع الحب يغدو الطعام الخشن طيباً، ومع الحب يغدو البيت الضيق واسعاً، ومع النَكَد والبُغض, يغدو البيت الكبير كوخاً, والطعام الطيب خشناً .
أخذ يفكِّر بعد انقضاء عدتها في أمرها؛ من سيكون زوجاً لابنته؟ الآن معظم الآباء يقلقهم شيءٌ واحد، أن يكون أبنائهم وبناتهم في حالة طيبة، فسعيهم لتزويج بناتهم، وتزويج أولادهم, هذا عمل طيِّب، وكنت أقول لكم: الأبوة الصالحة سبب للجنة، والبنوة الصالحة سبب للجنة، والأمومة الصالحة سبب للجنة .
ومرت الأيام متتابعة، وما من خاطبٍ لها، أحياناً الإنسان ابنته، سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرون، واحد وعشرون، اثنان وعشرون، أربعة وعشرون، ستة وعشرون, ولا يوجد ولا خاطب، يصير هناك قلق شديد، قد يتوهم أنها فاتها قطار الزواج، ثم يأتي زوجٌ يجبر كسرها, ويسكن روعها, ويملأها سعادةً، فالإنسان ليستسلم لأمر الله عز وجل ولا يلِج.
مرت الأيام متتابعة, وما من خاطبٍ لها، وهو غير عالمٍ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذت من اهتمامه، فأسر إلى أبي بكر الصديق أنه يريد أن يُخَطِّبَها، على علاقةٍ متينةٍ جداً، كل الأخ بالمسجد له أخ قريب منه كثير، قريب من عقليته، من أخلاقه، من قيمه، من متانة إيمانه، وأنا أتمنى على كل أخ في المسجد, أن يؤاخي أخاً في لله، يتفقده، يعاونه، يسأله، يستشيره، يأخذ بيده، يعاونه أحياناً، الأخ في الله أثمن شيءٍ في الوجود، والمؤمن لا يعيش وحده في الحياة .
علماء النفس يقولون: إذا الإنسان تكلم عن همه يرتاح، أحد أنواع المعالجات يجلس عالم النفس، أو الطبيب النفسي إلى المريض, يقول: حدثني, لمجرد أن يتكلَّم المريض يرتاح، فالبوح, هذا يسمى بوح, إذا الإنسان يثق بشخص, وشكا له همه، وضع سليم جداً, حتى إنه قيل: من اشتكى إلى مؤمنٍ, فكأنما اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافرٍ, فكأنما اشتكى على الله, إذا الإنسان له صديق حميم، مخلص، واعي، كتوم، وبثه مشكلته يرتاح .
في شيء ثاني: الإنسان إذا عانى من مشكلة, هو تحت ضغط شديد، هذا الضغط الشديد يحجب عنه الرؤية الصحيحة، لو شكا همه لأخ مؤمن، هذا الأخ المؤمن لا يخضع لهذا الضغط الشديد، رؤيته صحيحة، فقد يشير عليك موقفاً لا تعرفه أنت، قد يشير عليك موقف غاب عن ذهنك، لذلك الله عز وجل أمر النبي وهو سيد الخلق أن يشاور أصحابه, قال تعالى:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 159]
أنا أقول: أن كل أخٍ من أخواننا, أتمنى عليه أن يصطفي من أخوانه واحداً, يثق بإخلاصه، ورجاحة عقله، وحكمته، وليبثًّه شكواه، أحياناً تأتي نصيحة رائعة جداً، يأتي رأي سديد ، يأتي توجيه ما خطر في باله إطلاقاً، لذلك الجماعة رحمة والفرقة عذاب،
((فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِد,ِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَد))
[أخرجه أحمد في مسنده]
إن أنت استشرت الرجال استعرت عقولهم، إنسان عنده عقل راجح، حكمة بالغة، خبرات متراكمة بالحياة, اسأله، والعباقرة دائماً, والموفقون في حياتهم, يستشيرون، استشر، فلذلك ورد عن النبي الكريم أنه:
((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار))

الاستخارة لله، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، عوِّد نفسك أستخير الله، وأستشير أصحاب الخبرة من المؤمنين قبل أن أُقدم على أي عمل .
ولما تطاولت الأيام عليه, وابنته الشابة الأيم التي يؤلمها الترمُّل عرضها، نحن في حياتنا عار كبير, أنْ يعرض الإنسان ابنته على الزواج، مع أن سيدنا شعيب, قال لسيدنا موسى:
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾
[سورة القصص الآية: 27]
فهذا من السنة، لكن عاداتنا لا تسمح بذلك، عادتنا عار أن تعرض ابنتك على شاب، مباشرةً يتوهَّم أنها كاسدة، أو فيها عيب، أو فيها مشكلة، قال تعالى:
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾
[سورة القصص الآية: 27]
فنشأ من تفاعل الإسلام مع التقاليد والعادات والأمم الأخرى، نشأ عادات وتقاليد جديدة ليست من الإسلام في شيء، فمثلاً: ما قولكم أن تقول امرأةٌ لزوجها: افعل ما تشاء، ولكن إياك أن تتزوج عليَّ؟ تسمح له بالزنا، ولا تقبل أن يكون لها ضرة، هل هذه مسلمة بالمعنى الدقيق؟.
مرة استمعت إلى برنامج يسألون عالمة في مصر عن رأيها في التعدد، وهي امرأة، قالت: ليس لي رأيٌ في هذا إطلاقاً، لأن الله سمح به، هذا أقوى جواب .
ولما تطاولت الأيام عليه، وعلى ابنته الشابة المترملة, عرضها على أبي بكر، فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان, فقال: (بدا لي اليوم ألا أتزوج)، فوجد عليهما, أي حمل عليهما بنفسه، وشكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, عرضت ابنتي على أبي بكر فرفض، وعلى عثمان فرفض، فقال النبي الكريم:
((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هو خيرٌ من حفصة))
وهو لا يدري ما يعنيه قول النبي, ثم خطبها النبي عليه الصلاة والسلام، فزوجه عمر رضي الله عنه ابنته حفصة، ونال شرف مصاهرة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يرى أنه قد قارب المنزلة التي بلغها أبو بكر، أبو بكر زوجه ابنته، وعمر زوجه ابنته، وهذا شرف لا يدانيه شرف، أن الإنسان يكون صهرًا للنبي، أو يكون النبي صهره .
تحققت فرحة عمر وابنته حفصة، وبارك الصحابة يد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وهي تمتد لتكرِّم عمر بن الخطاب بشرف المصاهرة منه عليه الصلاة والسلام، ومسحت حفصة آلام الترمُّل، وجبر الله كسرها .
ما سبب إعراض أبي بكر عن زواج حفصة, وهل اعتذر لعمر بشأن ذلك, وماذا نستنبط من هذا الموقف ؟
الآن لقي عمر أبا بكر، تعودوا مهما بدا لك الشيء غير معقول، وفي إساءة، التمس لأخيك عذراً، فلما التقى سيدنا عمر بسيدنا أبي بكر, اعتذر أبو بكرٍ, وقال:
((لا تجد عليه يا أبا حفصة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر حفصة، فلم أكن لأُفشي سره، ولو تركها لتزوجتها))
لماذا لم يجبه؟ لأن الرسول ذكر حفصة أمامه، خاف الأمر لا يتم، فظل ساكتاً، غير معقول أن يطلبها، قال له: أَكَدَ .
هذا الشيء مهم، إذا أنت حملت على أخيك, التمس له عذر، هو موقفه الصحيح, يبين لك، سيدنا عمر عرض ابنته على سيدنا الصديق لم يجبه، فتألم، سيدنا الصديق سمع من النبي أنه يريد الزواج من حفصة، لكن النبي أسر له سر، هذا السر لا يفشى، وأخطر شيء في خطبة، أخفوا الخطبة, وأعلنوا النكاح، هذه السنة، فسكت سيدنا الصديق, إذا أجابه خان رسول الله، وإذا أفشى سر النبي, أخطأ خطأ كبير، فسكت، كم من مرة الإنسان يحمل على أخيه, ولو عرف الحقيقة, لذاب خجلاً منه، لذلك النبي علمنا:
((التمس لأخيك عذراً، ولو سبعين مرة))
سبعين مرة التمس له عذر، مرة قلت لكم: أن سيدنا رسول الله قبل معركة بدر, قال:
((لا تقتلوا عمي العباس))
فالعباس بمكة، مشرك، صحابي جليل, فكر ملياً، هذا عمه، لأنه تعصب, فقال: أحدنا يقتل أباه وأخاه, وينهانا عن قتل عمه .
طبعاً أنا ذكرت قصة في خطبة قبل أسبوعين, أن سيدنا العباس خلاف ما يتوهَّم البعض، سيدنا العباس كان مسلماً، وكان عين النبي، والدليل: لما الحجاج بن علاق السلمي أشاع في مكة أن سيدنا محمد أُسر، وسيؤتى به إلى مكة ليقتل, شلت حركته، وأرسل إلى الحجاج قائلاً: إن الله أجل وأكرم من أن يكون هذا الخبر صحيحاً .
هذا يؤكد إسلامه, وهو في مكة، فلما كُشفت الحقيقة، سيدنا العباس مسلم، وكان عين النبي في مكة، فلو أن النبي قال: إنه أسلم, لا تقتلوه، فبذلك كشفه, وانتهى دوره، لو العباس لم يشارك قريش في المعركة، كشف نفسه, وانتهى دوره، لو النبي سكت, قتل، لا بد من أن يقول النبي:
((لا تقتلوا عمي العباس))
من دون أي تفصيل، التمس له عذر .
يقول هذا الصحابي الجليل: والله بقيت عشر سنوات, وأنا أتصدق, رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله .
أعيدها مرة ثانية: أحياناً تسيء الظن بأخيك، ثم تنكشف الحقيقة، تذوب كالشمعة خجلاً من الله، هو في أعلى درجة من الكمال، وأنت لا تعرف، فلا تتسرع .

قصص نقتبس منها العبر :

فقد سمعت قصة: أب عنده خمسة بنات، يبدو في واحدة لا تصلح أن تكون زوجة, شكلها أقل مما ينبغي بكثير، فكأن الأب والأم خططوا أن هذه لكبرتهم، ولم يتورعوا أن يقولوا لها هذا الكلام، وعندها أربع أخوات متزوجات، هذه الأخت مستحيل أحد يخطبها، ثم جاءها خاطب بزَّ كل الأصهار؛ غنى، وأدب، ودين، وأكرمها إكراماً منقطع النظير .
فالإنسان أحياناً يقشعر جلده من حكمة الله عز وجل، هذه الكسيرة جبرها الله عزوجل، ورد:
((أنا مع المنكسرة قلوبهم))
((الحزانى في كنف الله))
((إن الله يحب كل قلب حزين))
((الحزانى معرضون للرحمة))
إذا كنت حزينًا فإن الله معك، إذا كنت مظلومًا فإن الله معك، إذا كان بين زوجين، بين شريكين، بين صديقين شيء, فالله مع المظلوم، ومع الصادق، ومع البريء، مع سليم الصدر، وليس مع الطرف الآخر، فهذه الفتاة التي لم يتوقع أبوها إطلاقاً أن يأتيها من يتزوجها لدمامةٍ صارخةٍ في شكلها، وقد تركت لتخدم أمها وأباها، في المستقبل جاءها أفضل من كل أزواج أخواتها، قال: كن لِما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، سيدنا موسى قال:
﴿إِنِّي آَنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾
[سورة طه الآية: 10]
ذهب ليأتي بقبسٍ من النار, فناجاه الله عز وجل، لا تعلم أنت أين الخير؟ قد يأتيك الخير كله من جهة لا تعجبك، وقد يأتيك الشر كله من جهةٍ هي ملء السمع والبصر .
أنا أقول مُطمئنًا الأزواج جميعاً: زواجك أخطر حدث بحياتك، وقد اختيرت لك الزوجة بعناية فائقة من الله عز وجل، وهذه هدية الله لك، ودائماً وأبداً تلقَّى هذه الهدية بالقبول، فلعل الله سبحانه وتعالى, يهبك منك الخير الكثير .
إنسان دخل على زوجته ما أعجبته أبداً, فهام على وجهه في المدينة عشرين عاماً, من شدة الألم، عاد بعد هذه المدة، وصلى في المسجد، فرأى درس علم, وآلاف مؤلفة متحلقين حول شاب، سأل عنه: قال: هذا مالك بن أنس، الأب اسمه أنس، هو ابنه من هذه المرأة التي لم تعجبه ، هي حينما رأته تألَّم منها, قالت: يا أبا فلان, قد يكون الخير كامناً في الشر، أي إذا رأيتني شراً قد يكون الخير كامناً فيه، أنت عليك أن تستقيم, وعلى الله الباقي, هو يختار لك أفضل شيء, قال تعالى:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 216]
خطب أحدُهم فتاة, فرآها رائعة، بعد العرس, وجد أن رِجلا أطول من رِجل، لبست ثياب طويلة، والحذاء متفاوت، مفصَّل خصوصي فلم يظهر شيء، والثياب فضفاضة طويلة، فوافق، بعد ما اكتشف الأهل, أنها عرجاء, أقاموا النكير، فهذا الشاب قال: واللهِ لا أطلِّقها، أنا رضيت بها ، وأسكت الجميع، والله سمعت أن الله آتاه رزقاً يفوق حد الخيال، وهو من أسعد الناس بها .
الحياة الزوجية لها أسرار، لها صفات ظاهرة, وفيها حقائق، الصفات الظاهرة؛ المنزل الواسع، الدخل الكبير، الشكل الرائع، هذه الصفات الظاهرة لكن فيها أسرار, إذا كان هذا البيت رحماني، سلوك الزوج والزوجة فيما يرضي الله, يبتغيان وجه الله عز وجل، الله عز وجل يتجلى برحمته على هذا البيت, فإذا هو جنة على وجه الأرض، والصفات متواضعة جداً، وأحياناً الصفات رائعة جداً, لكنها جحيم .
كم كان عدد زوجات النبي حينما دخلت حفصة على بيته المبارك, وما هو موقف السيدة عائشة من هذا الزواج؟
حظيت هذه الزوجة الطيبة الطاهرة بالشرف الرفيع الذي حظيت بها سابقتها عائشة بنت أبي بكر الصديق، وتبوَّأت المنزلة الكريمة بين أمهات المؤمنين، وأي شرفٍ أعظم من هذا الشرف, أن تكون زوجة سيد الخلق، دخلت حفصة بيت النبي ثالثة الزوجات في بيوته عليه الصلاة والسلام، فقد جاءت بعد سودة، وعائشة، الثالثة من الأحياء الآن، أما الرابعة بمجموع الزوجات؛ السيدة خديجة، سودة، عائشة، حفصة .
السيدة سودة رحبت بها راضية، لا تنافسها، تحدثنا عن السيدة سودة، أما عائشة فحارت ماذا تصنع مع هذه الزوجة الشابة؟ هذه منافسة, أحياناً الإنسان لا يتألم من شخص لا ينافسه، المشكلة مع من ينافسه، فالسيدة عائشة بنت أبي بكر شابة، والسيدة حفصة بنت عمر شابة، وهذه الغيرة أودعها الله في النساء لصالح الأزواج .
وقد يقول قائل: لمَ لم تكن زوجات النبي كالدمى في البيت؟ لكانوا أراحوه ، مثل هذه الدمى ، ولا مشكلة، ولا طلب، ولا سؤال، ولا غيرة، ولا مؤامرة، لكن شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون بيت النبي كبيت أي مسلم، فيه مشكلات، ليقف موقف الكامل ليعلمنا .
فالآن في عندنا مشكلة؛ هناك زوجتان شابتان، إحداهما بنت أبي بكر, والثانية بنت عمر ، يتنافسان على حب النبي عليه الصلاة والسلام, وعلى امتلاك قلبه .
عائشة سكتت أمام هذا الزواج المفاجئ، من أين أتت هذه الزوجة الآن؟ فشيء صعب، ملكت قلب النبي، فأتت أخرى ونافستها، وهي التي كانت تضيق بيوم ضرتها سودة التي ما اكترثت لها كثيراً، كيف يكون الحال اليوم حينما تقتطع حفصة من أيامها مع رسول الله ثلثها؟.
في واحد جاءت امرأته إلى سيدنا عمر, قالت له:
((يا أمير المؤمنين, إن زوجي صوامٌ قوَّام، يظهر أنه ما انتبه لها, قال: بارك الله لكِ في زوجك، ما شاء الله, فقال له سيدنا علي: إنها تشكو زوجها, قال له: هكذا فهمت، إذاً: اقض بينهما))
سيدنا علي, لو أن إنسان أخذ أربعة، لها حق يوم واحد من الأربعة، فهذا المستغرق في طاعة الله وعبادته, من حقه ثلاثة أيام لله، ويوم لهذه الزوجة، فحكم لها يوماً من أربعة أيام، فهو حكم رائع جداً .

ما هو سبب هذا الود المتقارب بين عائشة وحفصة, وماذا فعل سيدنا عمر حينما علم بذلك ؟
أيها الأخوة, ثم تضاءلت غيرة عائشة من حفصة, لما رأت النساء يتوافدن على بيت النبي, زوجاتٍ أخريات؛ زينب، وأم سلمة، جويرية، وصفية, فلما كثرت الضرات, خفَّت عليها مشكلتها من حفصة .
زواج النبي له حكمة كبيرة جداً؛ هو أبعد ما يكون عن رغبته في المرأة، لكنه ألَّف قلب عمر من زواجه من حفصة، ألف قلوب أصحابه الكبار، وألف القبائل، وألف الأطراف الأخرى، فزواجه زواج مصلحة عليه الصلاة والسلام .
لكن عائشة صافتها الود، حدث غريب، أن ضرتين متنافستين يتفقان، سيدنا عمر تنبَّه، تنبه لهذا التقارب غير المألوف بين المرأة وضرتها، وجد مؤامرة السيدة عائشة والسيدة حفصة على وفاق، وعلى وئام، في محبة، وتعاون, على خلاف المألوف، فلما شَمَّ عمر من تقاربهما أن من ورائه ما يشبه أن يكون حلفاً داخلياً تجاه تزايد زوجات رسول الله، أخذ عمر يحذر ابنته من مسايرة صاحبتها، وليس لها مثل حظها من حب رسول الله، ولا من مكانتها في قلبه .
فسيدنا عمر أدرك أن السيدة عائشة بنت أحب الناس إليه، انظر إلى تواضع سيدنا عمر ، لم يخطر في باله أن ينافس سيدنا الصديق، قال لها مرة:
((يا حفصة, أين أنتِ من عائشة، وأين أبوكِ من أبيها؟))
لا أنتِ مثلها، ولا أنا مثل سيدنا الصديق، فأنتِ لستِ بمستواها، لو أنك تآمرتِ أو اتفقت معها على شيء, قد يرضى الله عنها, ويغضب عليكِ، أنت لستِ بمستواها، قال لها:
((يا حفصة, أين أنتِ من عائشة، وأين أبوكِ من أبيها؟))
لماذا زجر سيدنا عمر ابنته حفصة وعلا صوته عليها ؟
سمع سيدنا عمر يوماً من زوجته, أن ابنته حفصة, تراجع رسول الله بالكلام, أي ترد, فمضى إليها غاضباً، فما إن دخل عليها، سألها عما قد سمع عنها، وهي صادقة, أجابته بأنه قد حصل، فعلا صوته عليها وزجرها، وقال لها:
((تعلمين أني أحذركِ عقوبة الله، وغضب رسوله يا بُنية، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، وحب رسول الله إياها، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لولا أنا لطلقك))
أي أبقاك عنده من أجلي .
هذه الزوجة, كانت صاحبة جرأة أدبية، جريئة، ومتكلمة، وفصيحة، ولو كانت بين يدي رسول الله، فكلكم يعلم أنه مرفوعة الكلفة بين الزوجين, لا يوجد حواجز إطلاقاً، فالواحد منا يكون خارج بيته له مكانته وشأنه, لكن في البيت هو أحد أفراد الأسرة، العلاقات الحميمة بين الزوجين تذيب الحواجز الضخمة، في مودة، وفي طمع، وفي أيام كلمة زائدة أحياناً، فالنبي لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر, لما كان سيد البشر .
روى ابن سعدٍ في الطبقات من حديث الحديبية وبيعة الرضوان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عند حفصة أصحابه الذين بايعوه تحت الشجرة، فقال:
((لا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا
[أخرجه مسلم في الصحيح]
-ألم يقل الله:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾
[سورة الفتح الآية: 18]
فقالت حفصة: بلى, يا رسول الله! فانتهرها، فتلت عليه الآية الكريمة:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
[سورة مريم الآية: 71]
سيدخل الذين بايعوا النبي تحت الشجرة، فقال عليه الصلاة والسلام:
﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً﴾
[سورة مريم الآية: 72]
فهي مناقشة لطيفة جداً، لا يكن الرجل جمادًا، ذكر النبي الحقيقة, فقالت له: لكن في آية:

﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
[سورة مريم الآية:71]
طبعاً تعلمون أن ورود النار غير دخولها، بحكمةٍ أرادها الله كل مؤمن يمشي على الصراط، ويرى النار، ويرى مكانه في النار, لو لم يكن مؤمناً، كي تتضاعف سعادته في الجنة، لكن لا يتأثَّر، ولا بوهجها، هذا معنى:

﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾
[سورة مريم الآية: 71]
فذكرت هذه الآية, فرد عليها النبي، سيدنا عمر, عد هذه مراجعة، هذا تطاول .

إليكم سبب نزول هذه الآية من سورة التحريم :
حادثة أخرى حصلت مع حفصة, كانت سبباً في طلاقها طلاقاً رجعياً، طلقة واحدة، الحقيقة: أن الطلقة الواحدة:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
[سورة الطلاق الآية: 2]
قال العلماء: هذه الآية سياقها في سورة الطلاق، من اتقى الله في تطليق امرأته, جعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها، فالنبي أدبها بطلقة واحدة، هي عندها جرأة أدبية، لأنها أفشت سر رسول الله، أفشت سراً استكتمها إياه رسول الله .
إحدى النساء في الجاهلية, لها وصية رائعة لابنتها، قالت: يا بنيتي, لا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، إنكِ إن أفشيتِ سره أوغرتِ صدره .
القصة: أن النبي عليها الصلاة والسلام, خلا مرة بمارية القبطية في بيت حفصة، تألَّمت حفصة أشد الألم من هذه الضرة، لم يتزوجها بعد، فمارية جاءته هدية من المقوقس، وبكت أمامه ، فلما بكت أراد النبي أن يسترضيها, فقال:
((ألا ترضين أن أحرمها على نفسي فلا أقربها؟ قالت : بلى، فحرمها على نفسه، وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد))
جاءته مارية من عند المقوقس هديةً له، فلما رأتها حفصة, بكت منها غيرةً, حرمها على نفسه، إرضاءً لها، وتطيباً لقلبها، وقال لها:
((لا تذكري ذلك لأحد، فرضيت حفصة بذلك، وسعدت ليلتها بقرب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا أصبحت الغداة, لم تستطع كتمان هذا السر، فنبَّأت بها عائشة، وقالت لها: البارحة جاء عندي النبي صلى الله عليه وسلم، وبكيت أمامه فحرمها على نفسه، فأنزل الله قوله الكريم, معلماً ومرشداً، وهادياً ومؤدباً, لحفصة خاصة, وللنساء عامة:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾
[سورة التحريم الآية: 3]
لم تقدِّر حفصة رضي الله عنها, وهي تذيع السر لعائشة, عواقب هذا الإفشاء، فيقال, ليس على التأكيد: إنه طلقها طلاقاً رجعياً, طلقة واحدة تأديباً لها، بلغ ذلك عمر، كما تروي الرواية, حسا التراب على وجهه من شدة ألمه، اسود وجهه أمام رسول الله، وقال: وما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، -هو اعتبر نفسه, حقق مكسبًا كبيرًا جداً, بتزويج ابنته من رسول الله، فصار النبي صهره- .
فنزل جبريل عليه السلام من الغدِ على النبي عليه الصلاة والسلام, فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً بعمر))
لمكانة عمر عند الله .
وفي رواية أخرى, أن جبريل قال:
((أرجع حفصة, فإنها صوامةٌ قوامة، وإنها زوجتك في الجنة))
غيرة المرأة جزء من طبيعتها، فإذا الإنسان شعر بالبرد, هل نؤاخذه؟ طبيعي، الدنيا شتاء، والجو بارد جداً، فبرد، إذا شعر بالحر, هل نؤاخذه؟ غيرة المرأة طبيعيٌ جداً، شعورها بالبرد والحر كغيرتها .

ماذا فعل النبي مع أهل بيته بعد هذه الحادثة, وهل الخبر الذي شاع بأن النبي طلق زوجاته صحيح, وما هو الحوار الذي جرى بين النبي وعمر؟
بعد هذا الحادث, اعتزل النبي نساءه شهرًا، وأدَّبهن، وشاع الخبر أن النبي طلق نساءه، ولم يكن أحد من الصحابة, يجرؤ على الكلام معه في ذلك، حتى إن عمر استأذن عدة مرات ليدخل عليه، فلم يؤذن له، فذهب مسرعاً إلى بيت ابنته حفصة, فوجدها تبكي، فقال :(لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقكِ، إنه كان قد طلقكِ مرة، ثم راجعكِ من أجلي، فإن كان طلقكِ مرة أخرى, لا أكلمك أبداً، هكذا ورد في السيرة .
ثم ذهب ثالثةً يستأذن النبي، فأذن له، فدخل عمر والنبي متكئٌ على حصير, قد أثر في جنبه, فقال:
((يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فرفع النبي رأسه إلي، وقال: لا، فقلت: الله أكبر ، -النبي له مهابة كبيرة جداً، فالصحابة الكبار هؤلاء أقرب الناس إليه:
((أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس))
ومع ذلك لم يجرؤ أحدٌ أن يسأله- قال سيدنا عمر من شدة فرحه, قال: لو رأيتنا يا رسول الله, وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة, وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا, يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً, فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني, فقالت: ما تنكر أن أراجعك, فو الله إن أزواج النبي ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؟ فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله، إذاً: هي قد هلكت، هذا كلام سيدنا عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تبسَّم النبي لهذا القول، وأعجبه، فقلت: يا رسول الله, قد دخلت على حفصة, فقلت لها: لا يغرنَّك أن كانت جاريتك, أي عائشة, لأنها كانت أصغر منها, هي أوسم وأحب إلى النبي منكِ ، فتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية, فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ أي أجلس، فقال: نعم، فجلست, فرفعت رأسي في البيت، والله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر، فقال: رسول الله ينام على الحصير, -البيت فارغ، فراش غرفة، والله لا أعتقد أن هذا مبالغة، يمكن أن تكون مساحته مترًا في مترين، ولا فراش فيه .
لما دخل سيدنا عدي عنده, قال:
((أعطاني وسادةٍ من أدمٍ محشوةً ليفاً, وقال: اجلس عليها ، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها, وجلس هو على الأرض))
أي أن في بيته لا يوجد إلا وسادة واحدة- .
قال له: رسول الله ينام على الحصير, وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير, فاستوى النبي جالساً, وقال: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
-وفي رواية:
((إنها نبوةٌ وليست ملكاً))
وفي رواية:
((أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا؟))
فقلت: استغفر لي يا رسول الله))

هذا الحوار الحميم بين النبي وبين سيدنا عمر .
وكان عليه الصلاة والسلام: أقسم ألا يدخل عليهن شهراً, من شدة ما وجده عليهن, حتى عاتبها الله عز وجل:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
[سورة التحريم الآية: 4]
المقصود عائشة وحفصة, قال تعالى:
﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
[سورة التحريم الآية: 4]
هذه الآية لها معنى عميق، أي أن أي إنسان فكر يعمل شيء ضد الدين، ليعرف من هو الطرف الآخر؟ .
طبعاً ثم جاءت الآية:
﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾
[سورة التحريم الآية: 5]
ملخص هذه القصة :
ملخص هذه القصة: أن الذي جرى في بيت النبي, يجري في بيوت المؤمنين، والنبي وقف الموقف الكامل، لاحظتم؛ في شدة، وفي لين، وفي رحمة، وفي عطف، وفي حكمة، وفي منافسة شريفة، وفي طباع أنثوية طبيعية، هذا كله نتعلَّمه في بيت النبي عليه الصلاة والسلام .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا, وأن يلهمنا الخير .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 09:07 AM   #8


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( السابع )


الموضوع : هند بنت ابى امية ام سلمة



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هي أم سلمة, ومتى تزوجها النبي, وكم كان عمرها, ومتى توفيت ؟
أيها الأخوة الكرام, لازلنا مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن، ولازلنا من زوجات النبي الطاهرات، واليوم مع أم المؤمنين هند بنت أبي أميَّة -أم سلمة- الطاهرة، المعمِّرة، المهاجرة، التي كانت تعدُّ من فقهاء الصحابيات .
هي أم سلمة هند بنت أميَّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مُرَّة المخزومية, السيدة المحجَّبة الطاهرة، بنت عم خالد بن الوليد - سيف الله- وبنت عم أبي جهل بن هشام - عدو الله- وشتَّان بين الاثنين، كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلَّم عند أخيه من الرضاعة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الرجل الصالح .
تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام سنة أربعٍ من الهجرة، وكانت من أجمل النساء، وأشرفهن نسباً، وأوفرهن عقلاً، كان عمرها قريباً من خمسٍ وثلاثين سنة، ولدت في مكة قبل البعثة بنحو سبع عشرة سنة، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، فتوفِّيت سنة إحدى وستين من الهجرة، وعاشت نحواً من تسعين سنة .

هذه حظوظ؛ إنسان يعمِّر طويلاً، إنسان يوهب جمالاً أخَّاذاً، إنسان يوهب عقلاً راجحاً، إنسان يعطى صحةً جيدةً، إنسان يعطى مالاً وفيراً, هذه حظوظ الدنيا .
ولكن قبل أن أتابع الحديث عن حظوظ الدنيا, يجب أن نعلم أن كل إنسان من دون استثناء ممتحنٌ امتحانين، ممتحنٌ فيما وهبه الله، وممتحنٌ فيما حرمه الله، وبإمكانه أن ينجح في كلا الامتحانين، ممتحن فيما أُعطيت، وممتحن فيما سُلِبَ منك .
فالمرأة التي برعت في جمالها ممتحنةٌ بجمالها، والتي نصيبها من الجمال قليل ممتحنةٌ بنصيبها القليل، والإنسان الذي أوتي مالاً وفيراً ممتحنٌ بهذا المال الوفير، والذي أوتي مالاً قليلاً ممتحنٌ بهذا المال القليل، والذي أوتي قوةً ممتحنٌ بقوته، والذي أوتي ضعفاً ممتحنٌ بضعفه، يجب أن نعلم علم اليقين أنك ممتحنٌ دائماً؛ ممتحنٌ فيما آتاك، وممتحنٌ فيما حُرمت منه.

والحياة الدنيا قصيرة، وتمضي كلمح البصر، فالذي نجح في امتحان الضعف, سعد في الجنة إلى أبد الآبدين، والذي رسب في امتحان القوة, شقي في جهنم إلى أبد الآبدين .
والمرأة التي نجحت في امتحان الدمامة, سعدت إلى أبد الآبدين، وأبدلت جمالاً أخَّاذاً، والتي رسبت في امتحان الجمال, شقيت إلى أبد الآبدين، فهذه الدنيا لا تعني شيئاً، محدودةٌ قصيرة، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، العبرة أن تنجح في الامتحان .
قد ينجح الفقير؛ فيصبر، ويتعفف، ويتجمَّل، ويشكر الله على ما قدَّر عليه، وتمضي السنوات سريعاً, وينتقل إلى الدار الآخرة، فإذا هو في جنةٍ عرضها السموات والأرض, ينعم بها إلى أبد الآبدين, والذي أوتي الملايين المُمَلْيَنة، ورسب في امتحان الغنى، تمضي السنوات سريعةً، وما هي إلا لحظاتٌ حتى يجد نفسه تحت أطباق الثرى، وقد استحق العذاب إلى أبد الآبدين .
وقد ينجح الغني في الغنى، وقد يسقط الفقير في الفقر, وقد تنجح الجميلة في الجمال، وقد تسقط الدميمة في الدمامة، وقد ينجح الذكي في الذكاء، ويسقط الغبي في الغباء، أنت ممتحنٌ مرتين؛ ممتحنٌ فيما أعطيت، وممتحنٌ فيما سًلب منك .
كان أبوها أحد أجواد العرب، وكان يلقَّب بزاد الراكب، فلا يسافر معه أحدٌ من الناس إلا كفاه مؤنته وأغناه .
أنا أريد أن أستنبط حقائق أنتفع بها: أم سلمة رضي الله عنها صحابيةٌ جليلة، وأمٌ للمؤمنين عظيمة، وزوجةٌ نفسية، عاقلةً, ذكيةٌ, جميلة، مضت إلى ربها، لها عند الله مكانة، لا يرفعها مدحنا ولا يخفضها ذمنا، ولكن نحن ما علاقتنا بهذا الكلام؟ ما نصيبنا من هذه القصَّة؟.
نصيبنا أنك ممتحنٌ مرتين، ممتحنٌ فيما أُعطيت، وممتحنٌ فيما سُلب منك، وبإمكانك أن تنجح في كلا الامتحانين، والدنيا سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، والعبرة بالجنَّة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

أم سلمة كم هجرة هاجرت في سبيل الله, ولماذا هاجرت, ومن أول من هاجر إلى الحبشة من النساء ؟

أم سلمة رضي الله عنها, هاجرت في سبيل الله هجرتين، نحن عشنا في زمن المرأة لا تشارك الرجل في العمل الطيِّب، وفي الإيمان، وفي الانتماء إلى دين عظيم، وفي الدفاع عن هذا الدين، كأنها من سَقَطِ المتاع عند حال المسلمين في التخلُّف، المسلمون حينما تخلّفوا كانت المرأة من سقط المتاع، أما هي في الإسلام بطلة، هي في الإسلام مساويةٌ للرجل تماماً؛ في التكليف والتشريف والمسؤوليَّة .
فامرأةٌ تهاجر من مكة المكرَّمة إلى الحبشة، وتهاجر من مكة المكرَّمة إلى المدينة، لماذا تهاجر؟ لأنها أبت أن تخضع لضغط الكفار، هي أول من هاجر إلى الحبشة من النساء، قال تعالى :

﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 195]

إنها امرأةٌ ذات شرفٍ في أهلها، وذات نسبٍ طيبٍ، ومنبتٍ كريم في قومها، وهي ابنة أحد كُرَماء العرب وأجودهم .
فأنا أنصح أنك إذا أقدمت على الزواج، لا ينبغي أن تخطب الفتاة, بل ينبغي أن تخطب أهلها، في أي بيتٍ نشأت؟ من الذي ربَّاها؟ ما القيَم التي استقتها حينما كانت طفلة؟ ما العلم الذي أحاط بها؟ هذا شيءٌ مهمٌ جداً .
تجود هذه المرأة العظيمة بنفسها في سبيل إيمانها وإسلامها، فتخرج مهاجرةً فراراً بدينها .

أخواننا الكرام, بحكم الحياة المعاصرة؛ الحياة سهلة، السفر سهل، طائرات، سيَّارات، قطارات، السفر متعة الآن، لكن ربما لا ننتبه إلى أن السفر قديماً كان مظنَّة هلاك، كيف إذا الإنسان دخل الحرب الآن، احتمال أن يموت بالمئة خمسين، كما يقال: يضع روحه على كفه، والسفر قديماً كان مظنة هلاك، تصور إنسان يركب ناقةً، وينطلق من المدينة المنوَّرة إلى البصرة، يبقى شهرين في الطريق وحده على الناقة، وفي الطريق قُطَّاع طُرق، وجوع شديد، وفقد الماء، ووحوش ضارية، ووحشة شديدة، السفر عند الأقدمين مظنَّة هلاك، فأجرُ المرأة حينما تسافر فراراً بدينها, حينما كان السفر مظنة هلاك, غير أجرها وقت أصبح السفر متعةً من متع الحياة، فلذلك هذه المرأة جادت بنفسها في سبيل إيمانها وإسلامها، فخرجت مهاجرة فراراً بدينها إلى الحبشة، وتتعرَّض لمشاق السفر، وكُربة الغربة.
قال ابن هشام: كان أول من خرج من المسلمين إلى الحبشة مهاجراً من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وولدت له بأرض الحبشة زينب بنت أبي سلمة .


أصغ السمع لأم سلمة وهي تروي لنا قصة هجرتها إلى الحبشة :
أم سلمة تروي حديث هجرتها إلى الحبشة, قالت: خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، ثم إنهما قدَّما هدايا إلى النجاشي فقبلها, طبعاً حينما سافرت أم سلمة إلى الحبشة مع أبي سلمة، وعلمت قريشٌ بهذه الهجرة، أرسلت من يوغر صدر النجاشي على هؤلاء المهاجرين، فقالوا:
((أيها الملك, إنه قد ضوى إلى بلدك غلمانٌ سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك, فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم, لتردَّهم إليهم، فهم أبصر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه .
قالت: ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فدعاهم، فلما جاؤوا قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحدٍ من هذه المِلَل؟ -هؤلاء الرجلان؛ أحدهما عمرو بن العاص، وكان من دهاة العرب- .
قالت أم سلمة: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه .
-الإنسان إذا كان إيمانه قوياً, يؤتى طلاقة لسان، يؤتى فصاحةً، يؤتى قوة حجةٍ، يؤتى موقفاً متماسكاً، هذا من بركات الإيمان، والإنسان حينما تنحرف خطواته نحو الشهوات؛ تضعف شخصيته، وينهار من الداخل، ويسقط في يده- .
فسيدنا جعفر بن أبي طالب قال: أيها الملك, كنا قوماً أهل جاهليَّة؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً, نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده, ونوحِّده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده، وأن لا نشرك به شيئاً, فعدى علينا قومنا فعذَّبونا، وفتنونا عن ديننا، وقهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، فخرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظْلَم عندك، كلامٌ ما بعده كلام .
قال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ .
قال جعفر: نعم .
قال: فاقرأه علي .
قالت: فقرأ عليه صدراً من سورة مريم .
قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضلَّ لحيته، وبكت أساقفته حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون، -هكذا تروي أم سلمة رضي الله عنها حديث الحبشة الطويل، كما أخرجه الإمام أحمد في المسند، وهو موجود بشكل مطوَّل في كتب السيرة- .
ثم عادا إليه في اليوم التالي وقالا له: إنهما يقولان في عيسى بن مريم كلاماً تنكره, ثم استدعاهم مرة ثانية، وقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ تلا عليه الآيات الكريمة، فسُرَّ النجاشي .
ثم إن المهاجرين إلى الحبشة, بلغهم أن أهل مكة أسلموا جميعاً, -خبر غير صحيح- حتى أقبلوا فرحين مسرورين، تركوا الحبشة، وعادوا إلى مكة بناءً على هذا الخبر السار، فلما دنوا من مكة, بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة, كان باطلاً لا أساس له، فلم يدخل منهم أحدٌ مكة إلا بجوار مشرك، أو مُسْتَخْفٍ عن أعين المشركين .
وتعود أم سلمة رضي الله عنها مع زوجها إلى مكة مستخفيةً عن أنظار الظالمين، وتمضي معه فيها أيام الصبر، والمصابرة في سبيل الله))
فأحياناً الإنسان قد يعاني بعض المتاعب بسبب إيمانه، قد يعاني بعض المتاعب بسبب إسلامه، قد يعاني بعض المتاعب بسبب استقامته، قد يعاني بعض المتاعب بسبب ورعه، هناك من يعجب فيقول: هو أطاع الله، فلماذا عانى من هذه المتاعب؟ ما الجواب؟ .
كان يبيع الخمر، فترك بيع الخمر، فانخفض الدخل إلى الرُبع، لماذا هكذا؟ الإنسان يتوهَّم أحياناً أنه حينما ترك بيع الخمر تضاعفت غلَّته، لو أنه وقف هذا الموقف الصُلب، قوَّاه الله عزَّ وجل، فلماذا يفعل الله بعباده المؤمنين الذين آثروا طاعته، وآثروا رضوانه، لماذا يعذَّبون أحياناً؟ لماذا يتحملون الشدائد أحياناً؟ .
الجواب بسيط جداً: نحن في زمن ابتلاء، الله جل جلاله يريد أن يجعلنا ندفع ثمن طاعته؛ ليكون هذا الثمن وسام شرفٍ لنا يوم القيامة، كان من الممكن إنسان يبيع الخمر، فلما تاب عن بيع الخمر، في اليوم نفسه تُضَاعف غلَّته، عندئذٍ لم يدفع ثمن هذه الطاعة، ولا شعر بلذَّتها، ولا شعر أنه آثر طاعة الله عزَّ وجل، ولا شعر أنه آثر رضوان الله عزَّ وجل، لكن بعد حين, يفتح الله له من الخير ما شاء، لا بدَّ من فترة تدفع ثمن طاعتك .
فتصور أصحاب النبي عليهم رضوان الله عليهم، جاؤوا إلى الحياة الدنيا، رأوا رسول الله فآمنوا به، والله عزَّ وجل قادر على أن يجعل كل أعداء هذا الدين في قارة ثانية، كل أعداء الدين حصراً؛ أبو جهل، أبو لهب، كل إنسان يعارض هذا الدين وُلِدَ في أمريكا، في العالَم الجديد، والنبي نشأ، جاءته الرسالة، حوله أصحابه، آمنوا به وأحبوه، لا معارك، ولا مشكلات، ولا هجرة، ولا شيء، فأين ثمن الجنة؟ .

أنا تأكيدي على هذه النقطة: حينما تعاني بعض المتاعب لأنك مستقيم، حينما ترفض هذا العمل، وهذا العمل، وهذا العمل، أعمال فيها شبهات، فيها دخل حرام، وربما لا تجد عملاً ، ولا تجد في جيبك درهماً واحداً، ما الحكمة من ذلك؟ أقول لك: هذا امتحان لا يطول، لكن لا بدَّ منه، هذا امتحانٌ من أجل أن تدفع ثمن طاعتك، هذه الضائقة الماديَّة التي تعاني منها, لأنك رفضت كل هذه الدخول المشبوهة، هذا وسام شرفٍ لك يوم القيامة، بها تدخل الجنة، بها تستحق الجنة، فأنت لا تمنع نفسك من أن تنال وسام شرف طاعة الله عزَّ وجل .
أحياناً الإنسان يطيع الله عزَّ وجل وكل من حوله يهزؤون منه، يصبح أضحوكة، يعلِّقون عليه تعليقات سخيفة، يغضّون من شأنه، يطعنون بعقله, لأنه أطاع الله عزَّ وجل، وقد يبلغه ذلك، وقد يتألَّم أشد الألم، لماذا سمح الله لهم أن يفعلوا هذا معه؟ هو الله جل جلاله يحمله على أن يدفع ثمن طاعته، إذا دفع ثمن طاعته، كانت سبب دخوله الجنة، ووسام شرفٍ له يوم القيامة .
أردت من هذا التعليق أن نفهم, لماذا عانى أصحاب النبي ما عانوا؟ الآن إذا واحد من أخواننا الحاضرين درس، وعانى من الدراسة ما عانى، وسهر إلى أنصاف الليالي، ونام على الكتاب، وراجع الكُتب، ولخَّص الكتب، وذاكر أصدقاءه بالكتب، ودخل امتحانات صعبة، ومرَّة نجح، ومرَّة ما نجح، إلى أن نال أعلى شهادة، لأنه بذل فيها جهداً كبيراً، ووقتاً مديداً، وعرقاً مُتَصبباً، يسعد بهذه الشهادة إلى آخر حياته، ويقول مترنِّماً: هذه الشهادة ما أخذتها إلا بشق الأنفس، وما نلت هذه الدرجة العلميَّة, إلا بعد جهدٍ جهيد، وكدٍ مضني، يسعد .

لو أعطوه شهادة فخريَّة مثلاً، لو أعطي الأسئلة، ونال درجاتٍ عالية، ولم يبذل جهداً إطلاقاً، والله هو أول من يحتقر نفسه، فكلَّما سمعت، أو قرأت، أو شاهدت، أو عاينت أن إنساناً, لأنه أطاع الله, يعاني من أزمة مالية، لأنه أطاع الله, يعاني من أزمة اجتماعيَّة، لأنه أطاع الله, يعاني أزمة نفسيَّة، لأنه أطاع الله, ضاقت به السُبُل، هو الله جلَّ جلاله, يحمله على دفع ثمن الجنة بهذه الطريقة، بعد حين يفرِّج عنه .
لو أن أحدكم قال لي: هذا الكلام ما دليله في القرآن؟ الجواب أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾
[سورة التوبة الآية: 28]
حينما مُنِعَ المشركون أن يدخلوا مكة المكرَّمة، بارت تجارة مكة، ولم يعد هناك سياحة، وقلَّ كثيراً رواج البضاعة, قال تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾
[سورة التوبة الآية: 28]
معنى هذا؛ أنه لا بدَّ أن يحمل الله هؤلاء الذين نفَّذوا أمر الله على دفع ثمن طاعتهم، لكن إلى حين, قال تعالى:
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾
[سورة التوبة الآية: 28]
فإذا جاءتك متاعب بسبب استقامتك، بسبب طاعتك، بسبب اتجاهك الصحيح، بسبب وضوحك، بسبب تمسُّكك بالقيَم الصحيحة، بسبب خوفك من الله، إذا ركلت بقدمك الثروة الطائلة، والمكانة العليَّة، والأشياء الثمينة ورعاً وخوفاً، فهذا وسام شرفٍ تضعه على صدرك يوم القيامة، هذا تفسير ما عانى منه الصحابة الكرام في عهد رسول الله، وبعد عهد رسول الله ، هؤلاء الصحابة الكرام حملوا الإسلام، ونحن الإسلام يحملنا.
هذه قصة أم سلمة في هجرتها إلى الحبشة .


قصة هجرتها إلى المدينة :
أيها الأخوة, أما هجرتها إلى المدينة فشيءٌ لا يصدَّق، تقول أم سلمة:
((لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة, رحَّل بعيراً له، وحملني، وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجالٌ من بني المغيرة قاموا إليه, فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها, -بنو المغيرة من؟ قوم أم سلمة- أرأيت صاحبتنا هذه لا نتركك تسير بها في البلاد, -ممنوعة من المغادرة- ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد, -من هم بنو عبد الأسد؟ قومه- وأهووا إلى سلمة, أخذوا سلمة, وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها, ما دمتم قد أخذتم هذه المرأة من زوجها, ومعها ابنها، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق بنو عبد الأسد, ورهط أبي سلمة، وحبسني بني المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة، ففرِّق بيني وبين زوجي وابني, فكنت أخرج كل غداةٍ, أجلس بالأبطح, فما أزال أبكي حتى أمسي، سبعاً أو قريبها, حتى مرَّ بي رجل من بني عمي، فرأى ما في وجهي من البكاء ، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة, فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ابنها؟ فقالا: الحقِي بزوجك إن شئتِ, وردَّ عليَّ بنو عبد الأسد عند ذلك, -أي أعطوها ابنها-, فرحَّلت بعيري .
-امرأة وحدها تركب بعيراً، ومعها ابنها، تنطلق من مكة إلى المدينة، الآن خمس ساعات، أما وقتها اثنا عشر يوماً، ليلا ونهارًا، وفي الصحراء، والذي ذهب من مكة إلى المدينة بالسيارة, يعرف ما معنى أن تمشي امرأةٌ وحدها على بعير أربعمئة وثمانين كيلو متر تقريباً؟- .
فرحَّلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي من أحدٍ من خَلق الله، فكنت أبلُغ من لقيت، حتى إذا كنت بالتنعيم, لقيت عثمان بن طلحة، أخا بني عبد الدار, فقال: أين ذاهبةٌ يا بنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معكِ أحد؟ فقلت: لا والله إلا الله، وابني هذا .
-انظر الشوق إلى رسول الله، الحقيقة الخروج غير مشروع، بالأحكام الفقهيَّة غير مشروع، لكن هذا الأمر في بداية الإسلام، امرأةٌ آمنت برسول الله، والنبي في المدينة، وأصحابه في المدينة، وزوجها في المدينة، فأرادت أن تخاطر- .
فقال: والله ما لكِ من منزلٍ, فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب أراه أكرم منه .
-الآن دقق في قول النبي الكريم:

((خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح]
خاطب النبي رجلاً قال له:
((أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ))
[أخرجه مسلم عن عروة بن الزبير في الصحيح]
إذا نزل المنزل أناخ بي، ثم تنحَّى إلى شجرةٍ بعيدة، فاضطَجع تحتها، فإذا دنا الرواح, قام إلى بعيري, فقدَّمه إلي ورحَّله، ثم استأخر بعيداً كي أركبه، فإذا ركبت، واستويت على بعيري, أتى فأخذ بخطامه, فقادني حتى نزلت .
قالت: فلم يزل يصنع بي ذلك, حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قريةٍ .
-أحياناً في بعض الزيارات إلى المدينة, نركب السيارة، ويؤشِّر عدَّادها إلى مئةٍ وخمسين، أو إلى مئةٍ وثمانين، ونقول: ما أطول هذا الطريق؟ ساعاتٌ كثيرة، أما إذا سرنا على سرعة مئة، لا بدَّ من ست ساعات كي تصل إليها، وقد تجد هذه الساعات الست, تعني ستة شهور، فكيف بامرأةٍ تركب بعيرها، وتسير من مكة إلى المدينة، مسافة قريباً من خمسمئة كيلو متر؟- .
فلم يزل يصنع بي هذا, حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عبد عوف بقباء قال: إن زوجكِ في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلاً بها .
فيستقبل أبو سلمة أم سلمة وابنها معه بكل بهجةٍ وسرور، وتلتقي الأسرة المهاجرة بعد تفرُّق وتشتُّت وأهوال، ويلتئم شمل أسرة أبي سلمة في المدينة بكل طمأنينةٍ وأمان، وتحيا فيها الحياة الطيبة المباركة كأعز أسرةٍ وأكرمها))


.

إليكم قصة وفاة أبي سلمة, والحديث الذي جرى بينه وبين زوجه في اللحظات الأخيرة من حياته :
أيها الأخوة, ولما استقرَّت أسرة أبو سلمة في المدينة, عكفت زوجته على رعاية صغارها وتربيتهم ، وتفرَّغ أبو سلمة للدعوة إلى الله تعالى في المدينة، وللجهاد مع رسول الله, دفاعاً عن هذا الدين العظيم .
وعندما خرج النبي الكريم في غزوة ذي العشيرة، وهي الغزوة التي وادع فيها بني مُدلج، اختار عليه الصلاة والسلام من بين أصحابه أبا سلمة, فاستعمله على المدينة, وشهد أبو سلمة غزوة بدرٍ، وكان أحد جند الإسلام الأولين كما كان في مكة أحد السابقين، وينال بهذا شرفاً على شرف، ثم يشهد أُحُدًا، ويبلي فيه بلاءً عظيماً، إلى أن رمي بسهمٍ في عضده، مكث بعد ذلك يداويه, حتى ظنَّ أنه قد التأم، وبرئ من جرحه .
ثم إنَّه نفَّذ أمراً للنبي عليه الصلاة والسلام، فأرسله النبي على رأس سريةٍ، فأحاط بهم في إسفار الفجر على غير أُهْبَةٍ منهم لتوقّع هجومٍ، وقاد معركةً ظافرةً، ثم قفل راجعاً إلى المدينة, يصحبه النصر ورايات بهجته، والغنائم التي ظفر بها، وقد أعاد بعض ما فات على المسلمين يوم أُحد، ما فاتهم من هيبةٍ ورهبة .
رجع أبو سلمة إلى المدينة، انفض جرحه الذي أصابه إلى أحد، فأخلد إلى فراشه, تمرِّضه أم سلمة، إلى أن حضره الأجل، فدعت له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فجاءه وهو على فراش الموت، وبقي إلى جانبه, يدعو له الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء على ما أبلى في سبيله، ويمضي أبو سلمة إلى جوار الله عزَّ وجل، وقلبه يخفق بدعواتٍ إلى الله، بأن يخلِف عنه في أهله خيراً، فقد قال عند وفاته:

((اللهمَّ اخلفن في أهلي بخير))
روى ابن سعدٍ عن أم سلمة أنها قالت لأبي سلمة:
((بلغني أنه ليس امرأةٌ يموت زوجها, وهو من أهل الجنة، ثم لم تتزوج, إلا جمع الله بينهما في الجنة, فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي, وألا أتزوج بعدك, فقال: أتطيعينني؟ قالت: نعم, قال: إذا متُّ تزوجي، اللهمَّ ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني لا يحزنها ولا يؤذيها))

في تعليق لطيف لمؤلِّف الكتاب، يقول: من هذه المحاورة التي جرت بين الزوجين, تستخلص إدراكين مختلفين كل الاختلاف من حيث المضمون، ومتفقين معاً من حيث الهدف، أما الاختلاف, فإن الأول يتَّجه نحو التيتُّم على الزوج الراحل، والترمُّل من بعده أمد الحياة، وأن الثاني يتجه نحو محو الآثار بعد انقضاء العدَّة, بالزواج من رجل, يأمل أن يكون خيراً منه .
الزوج الصالح يرى أن سعادته تتحقَّق في هناءة زوجته في دنياه، وبعد مماته، فإن كان هناؤها يتحقَّق بالزواج برجلٍ صالحٍ بعده فذلك غايته، وهذا ما كان يأمله أبو سلمة, أن تحيا من بعده حياةً طيبةً كريمة، وقد حقَّق الله تعالى له أمله، ما الذي حصل؟ .
قالت: فلما مات, قلت: من خيرٌ من أبي سلمة؟ لا أحد، فزوجها في نظرها أعلى رجل ، أبو سلمة كان بطل، النبي ولاه على المدينة، رسول الله يوليه على المدينة في غيبته، أي أنه نائب رسول الله، قال لها: تزوجي بعدي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها، ولا يؤذيها, هو أراد لها الهناء، وهي أرادت له الوفاء، أرأيتم إلى هذا؟! .
لي صديق زار شخص معه مرض في قلبه، الرجل اشترى بيت وزيَّنه، واعتنى فيه عناية كبيرة جداً، إلى درجة أنه أصبح ملفِت النظر، فلما شعر أنه على وشك الموت، وأن هذه الزوجة ربما بعد أن يموت تتزوج رجلاً، فيأتي هذا الرجل ليستمتع بهذا البيت الفخم الجميل دون أن يبذل جهداً في تحصيله، فبثَّ شكواه إلى صديقه، قال له: أخشى ما أخشاه أنني إذا مت أن هذه المرأة, وقد سبَّها, أن تتزوج من بعدي، فيأتي رجل غريب ينعم بهذا البيت، هو في حال، وهي في حال .
هذا زواج أهل الدنيا؛ زواج دناءة، زواج حسد، زواج بغضاء، زواج أثرة لا مؤاثرة ؛ أما هذا الزواج, فهي تعاهده على ألا تتزوج من بعده، وهو يقول لها: تزوجي بعدي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني .


إلى درس آخر إن شاء الله :
أيها الأخوة, فما لبثت أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فذكر الخطبة إلى ابنها، فقالت:
((أردُّ على رسول الله، أو أتقدم عليه بعيالي، وكانت ذات أولادٍ من أبي سلمة))
فهذه قصة إن شاء الله نرجئها إلى درسٍ قادم؛ كيف تمَّ الزواج بينها وبين النبي عليه الصلاة والسلام, وهي من أعقل زوجات النبي، وقد أشارت عليه يوم الحديبية إشارةً استجاب لها النبي، وقد وقف النبي موقفاً كاملاً حينما أصغى إلى نصيحة زوجته، قال تعالى:
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾
[سورة الطلاق الآية: 6]
فهذا الذي يستشير زوجته أحياناً، يجد منها بعض الآراء الصائبة، أنت لست ملزم أن تطبِّق رأيها دائماً، أما إذا سألتها قد تجد في رأيها صواباً أحياناً، لا تكن متعنِّتاً، هذا الذي قال: خالفهن دائماً، هذا كلام غير صحيح، ولا أصل له .
فالنبي استجاب لنصيحة أم سلمة يوم الحديبية، ولنا مع هذه الصحابية الجليلة التي هي أم المؤمنين، وهي من أعقل نساء النبي، ومن أكثرهن فقهاً، ومن أقربهن إلى نفس النبي، لنا متابعةٌ لهذه القصة إن شاء الله .

نقطة مهمة جداً :
أريد أن أصل إلى أن هذا الرجل المشرك, الذي قادها وحدها في الصحراء اثني عشرَ يوماً، وكان في أعلى درجات العفَّة، كان يبتعد كثيراً كي تنزل، ثم يقرِّب الجمل, ويبتعد كثيراً كي تصعد، هذه الشهامة, وهذه المروءة، لذلك ماذا قال النبي؟ قال:
((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))
الحقيقة يجب أن نستفيد من هذه القصَّة، وأن نجعل منها قدوةً، فعنترة الشاعر الجاهلي قال:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جار تي حتى يواري جارتي مأواها
الآن يستعملون المناظير المقرِّبة، أليس كذلك؟ هذا وضع الجاهلية الجديد، لذلك:
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
[سورة مريم الآية: 59]
وقد لقي المسلمون ذلك الغي .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 09:11 AM   #9


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثامن )


الموضوع : زينب بنت جحش


الحكمة من زواجها والغاء عادة التبنى



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
السيرة الذاتية لزينب بنت جحش :
أيها الأخوة المؤمنون, مع سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله عنهن أجمعين، ومع أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش .
هي زينب بنت جحشٍ أم المؤمنين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب, عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت في مكة قبل البعثة بسبع عشرة سنة، وكانت من المهاجرات الأوَل ، وأسلمت قديماً، هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة, كلمة المولى من أندر الألفاظ في اللغة، ففي اللغة العربية هناك أسماء لها معنيان متعاكسان، فالمولى هو السيد والعبد معاً، تقول: يا مولاي، تخاطب الله عز وجل، وقد تخاطب عبداً عندك, فتقول له: يا مولاي، فالمولى هو السيد والعبد .
كانت عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلقها، وتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام بنَص القرآن الكريم، الزوجة الوحيدة التي أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوَّجها، وبسببها نزلت آية الحجاب، وقد نزل فيها قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها من العمر خمس وثلاثون سنة .
أما الروايات التالفة، الساقطة، المُزوَّرة، المفتراة, التي وردت في بعض التفاسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الطريق، فرأى باباً مفتوحاً، فنظر إلى داخله، فإذا امرأةٌ حسناء, تغتسل عاريةً، وشعرها وصل إلى أسفل ظهرها، فوقعت في نفسه، فهذه روايةٌ من وضع الزنادقة، لا أصل لها، روايةٌ ساقطةٌ تالفة، إن قرأتموها في كتابٍ, اعتمد على رواياتٍ تالفة, فانبذوا هذه الرواية .
كانت هذه الزوجة الكريمة، أول نسائه صلى الله عليه وسلم وفاةً بعده، صلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها .

لماذا أمر الله نبيه أن يتزوج زوجة متبناه, وما هي علة تحريم التبني ؟
أما قصة زواجها من زيد وطلاقها فكما وردت في كتب السيرة، قال تعالى:
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]

فالله عز وجل أمر النبي أن يتزوَّج زينب زوجة متبنَّاه، فأبطل الله عز وجل بها عادةً جاهليةً، وهي عادة التبني، كان الرجل يتبنى طفلاً، وينسبه إليه، وهو ليس ابنه، هذا الابن أجنبيٌ في هذا البيت، وبحسب الفطرة البشرية الأخ في البيت لا يشتهي أخته، والأب في البيت لا يشتهي ابنته، أما لو تبنى رجل فتاةً صغيرة، وكبرت هذه الفتاة، فهي عند صاحب البيت مشتهاة .
لو تبنى رجلٌ طفلاً صغيراً، ثم شب هذا الطفل، وفي البيت فتاةٌ في ريعان الصبا، ربما وقعت الفاحشة داخل البيت, دون أن يعلم أحد، لأن الطفل المتبنى، أو الطفلة المتبنَّاة، إذا شبَّت، وكبُرت، وأينعت، ليست من أحد أفراد الأسرة, إنها امرأةٌ غريبة، وإن هذا الابن شابٌ غريب، ربما وقعت الفاحشة في البيت .
لذلك أراد الله جل جلاله من خلال هذه القصة، أن يبطل عادةً جاهليةً هي عادة التبني ، وقد دفع النبي عليه الصلاة والسلام ثمن إبطال هذه العادة دفع غالياً، لأنه شيءٌ مألوف، شيءٌ دخل في صميم العادات والتقاليد، كيف يتزوَّج الإنسان زوجة ابنه المتبنى؟ شيءٌ لا يحتمل، وهذا معنى قول الله عز وجل:

﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
من أمثلة القرآن على تحريم عادة التبني :
كان زيد بن حارثة مولىً لخديجة رضي الله عنها، فلما تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهبته له، صار زيد غلاماً لرسول الله .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

((أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ, حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
أصبح اسمه: زيد بن حارثة، وقد علم أبوه أنه عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأتاه هو وأخوه كعب لفدائه، كان غلامًا عند خديجة، فلما تزوج بها النبي وهبته إياه، فهو عنده، فلما علم أبوه وعمه أن زيداً عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم، جاؤوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالا:
((يا بن عبد المطلب، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه, فقال عليه الصلاة والسلام: ادعوه فخيروه، فإن اختاركم, فهو لكم بغير فداء, وإن اختارني, فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداءً .
-هل في الأرض كلها شاب أو صبي, يؤثر رجلاً على أبيه وعمه، أو على أبيه وأمه؟ ماذا تلقَّى من محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ من معاملة طيبة، من إكرام بالغ، من رحمة واسعة ، من لطف بالغ، حتى آثر النبي على أمه وأبيه؟!- .

قال: فدعاه, فقال: هل تعرف هؤلاء؟ -لعلهما ادعيا أنهما أقرباؤه- قال: نعم, هذا أبي، وهذا عمي, فقال عليه الصلاة والسلام: فأنا من قد علمت, ورأيت صحبتي لك, فاخترني أو اخترهما, فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم, -عندئذٍ كاد أبوه ينفجر- فقال: ويحك يا زيد, أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك, وعمك, وأهل بيتك ؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً .
-أيها الأخوة, الإنسان أحياناً يتساءل، النبي عليه الصلاة والسلام عنده زيد، وهو غلامه، ويعلم أن له أباً، وأماً، وأهلاً، وهو سيد الخلق، هو أكمل خلق الله، فكيف يسمح النبي لنفسه أن يبقي عنده زيد؟ .
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام يعرف من هو؟ يعرف أن رحمته أكبر من رحمة أبيه وأمه، يعرف أن السعادة كلها عنده، يعرف أن خير الدنيا والآخرة في صحبته، ما تركه عنده قسراً، والدليل: لما جاء أبوه وعمه, يدفعان مالاً وفيراً ليفتديانه, اختار زيد رسول الله، إذاً: هو واثقٌ من نفسه، واثق أن صحبة زيد لرسول الله أفضل له من كل شيء؛ من أمه وأبيه-.
فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الموقف الوفي، -والنبي عليه الصلاة السلام سيد الأوفياء- أخرجه إلى الحِجر, -إلى حجر إسماعيل- أمسكه بيده, وقال : اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه .
فلما رأى ذلك أبوه وعمه, طابت أنفسهما وانصرفا))


.
ومن هذه اللحظة: دعي زيد بن محمد، حتى جاء الإسلام، وجاءت البعثة؛ بعثة النبي العدنان، صار اسمه زيد بن محمد، وليس في القرآن الكريم كله اسم صحابيٍ إلا زيد، لأنه خسر نسبه إلى النبي بعد أن أبطل الله عادة التبني، كان اسمه بين كل الصحابة زيد بن محمد، فلما أبطل الله عادة التبنّي، عوَّضه خيراً من هذا الاسم، فجعل اسمه في القرآن الكريم:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
لم يرد في القرآن كله اسم صحابيٍ إلا زيد .
إليكم قصة زواج زينب من زيد وطلاقها منه :
أما قصة زواجه من زينب فقد حكتها زينب نفسها، قالت:
((خطبني عدة رجالٍ من قريش، فأرسلت أختي إلى رسول الله أستشيره .
فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين هي ممن يعلمها كتاب الله وسنة نبيها؟.
قالت: ومن هو يا رسول الله؟ .
فقال عليه الصلاة والسلام: زيد بن حارثة .
قال: فغضبت أختها غضباً شديداً .
قالت: يا رسول الله! أتزوج ابنة عمتك مولاك؟ .
-ليس هناك تناسب، وهذه العادة الجاهلية سارية المفعول حتى الآن، زينب من قريش، وقريش من أعظم قبائل العرب، تسكن في مكة، وهي سيدة القبائل، وهي بنت عمَّته، يزوجها لعبدٍ أسود؟! يزوجها لمولاه؟! .
حينما داس بدويٌ من فزاره إزار جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة, ضربه ضربةً هشمت أنفه، فشكاه إلى عمر رضي الله عنه، قال له:

أرضِ الفتى لا بد من إرضائه ما زال ظفرك عالقاً بدمائه
أو يهشمن الآن أنـــــفك وتنــــال ما فعلته كفك

جبلة ملك الغساسنة، قال:
كيف ذاك يا أمير، هو س وقةٌ، وأنــا عرشٌ وتاج؟
كيف ترضى أن يخر النجم أرضًا؟

قال له:
نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديداً
وتساوى الناس أحراراً لديناً وعبيداً

قيَم جديدة، قيم الجاهلية تحت الأقدام, قال:
كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عنــــدك أقوى وأعز
أنا مرتـــــــدٌ إذا أكرهتني

قال:
عنق المرتد بالســيف تحز عالمٌ نبنيـــه، كل صدعٍ فيه
بشبا السيف يداوى وأعز الن اس بالعبد بالصعـلوك تساوى

زيد من أرومة قريش، وهو عبدٌ أسود، هذه قيمٌ جاهلية، سيدنا عمر خرج, وهو خليفة المسلمين، إلى ظاهر المدينة, لاستقبال سيدنا بلال الحبشي .
سيدنا الصديق وضع يده في إبط بلال, وقال:

((هذا أخي حقاً))
كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله, إذا ذكروا سيدنا الصديق, قالوا:
((هو سيدنا وأعتق سيدنا))
يعنون بلالاً، هذا هو الإسلام .
عبد؛ أبيض، أسود، ملون، هذه قيمٌ جاهليةٌ تحت الأقدام- .
النبي عليه الصلاة والسلام قال لابنة عمته زينب, قال: أزوجك زيد بن حارثة .
أختها غضبت وقالت: يا رسول الله! أتزوج ابنة عمتك مولاك؟! .

وقالت زينب: وجاءتني فأعلمتني، فغضبت أشد من غضبها, فقلت: أشد من قولها، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
-اسمحوا لي أن أقول لكم: هناك درجة في الإيمان إذا وضعت قضيةً, قضى بها القرآن، أو قضى بها النبي العدنان، إذا وضعتها على بساط البحث, فأنت لست مؤمناً .
شيءٌ بت به الشرع، شيءٌ محرمٌ بنص القرآن الكريم، شيءٌ حلالٌ بنص القرآن الكريم، إن أردت أنت أن تحلل أو تحرم، ولم تقبل حكم الله عزَّ وجل فلست مؤمناً, قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
قالت: فأرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فقلت: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، افعل يا رسول الله ما رأيت، فزوجني رسول الله زيد .
-الموقف لطيف، المؤمن إذا غلط تجده يدعو: أنا أستغفرك يا رب، يا رب سامحني, أنا تبت إليك .
بالمناسبة خصوص السبب شيء، والعموم؛ عموم القصد شيءٌ آخر، لعل هذه الآية نزلت في زينب، ولكن الآية نصَّها عام، فأي مؤمنٍ وضع قضيةً, قطع بها الشرع على بساط البحث, ليس مؤمناً, قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
في ندوة أذيعت على الهواء مباشرة، سُئلت عالمةٌ كبيرة في مصر عن رأيها في التعدد, قالت: ما كان لي أن أدلي برأيي، وقد سمح الله به, هذا المؤمن .
لكن يبدو أن زينب ليست معصومة، ما تحمَّلت أن يكون زيدٌ زوجها، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ﴾
فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ, جَاءَ زَيْدٌ يَشْكُو, فَهَمَّ بِطَلَاقِهَا, فَاسْتَأْمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ, وَاتَّقِ اللَّهَ))

[أخرجه الترمذي في سننه]
تألم زيد، فأراد أن يطلقها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَك، فقال زيد: أنا أطلقها، قالت: فطلقني، فلما انقضت عدتي, لم أعلم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرني، لأن الآية الكريمة:
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
فالنبي تنفيذاً لأمر الله عز وجل ذكرها، وتزوج النبي امرأة زيدٍ بعده، وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه, من أن الذي يتبنَّى غيره يصير ابنه، لا .
فالعوام يقولون أحياناً: إن شاء الله مثل أخي، لا هذا ليس أخاكِ، فهذا أجنبي، وهذا قد يشتهيكِ، وهذا قد تزله قدمه معكِ، وقد يغريكِ، هذا كلام باطل ليس له أصل .
فكان زواجه من امرأة متبنَّاه بعد طلاقها, وانتهاء عدتها، تأكيداً لإبطال التبنِّي الذي ساد الجاهلية، لذلك قال الله تعالى:

﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 4]
الولد الذي يُتَبَنَّى ليس ابناً، إذا وجد الرجل لقيطًا, ماذا يفعل؟ يمكن أنْ يكون في البيت ، لكن ليس ابنه، فهو لقيط، يمكن أنْ يرعاه، ويقدم له كل مساعدة، يطببه، يعلمه، أما إذا بلغ, فلا بدَّ أن يعزله عن أهل البيت، فلا تمنع الآية العمل الصالح، أن تأخذ طفلا يتيما بلا أب ولا أم فترعاه، هذا موضوع ثان، أما أن يكون هذا المتبنى ابناً فهو ليس ابنك .
إليكم هذا الخبر الذي ورد في طبقات ابن سعد :
وفي خبر تزويجها عند ابن سعدٍ:
((فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة، إذ أخذته غشيةٌ فسري عنه، وهو يبتسم، ويقول: من يذهب إلى زينب ويبشِّرها، وتلا قوله تعالى:
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد, لما يبلغنا من جمالها))
أصابتها الغيرة, وأخرى هي أعظم وأشرف، ما صنع لها؛ زوجها الله من السماء .
فهي المرأة الوحيدة التي زوَّجها الله عز وجل، وكانت تقول مفتخرةً:

((لقد زوجكم أولياؤكم, وزوجني رب العزة))
وقالت عنها عائشة:
((يرحم الله زينب, لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها, ونطق بها القرآن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا))
فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنَّة، وأول زوجاته لحوقاً به زينب .

ماذا نستنبط من هذه الآيات ؟
الآن نريد أن نستشف الحكم الشرعي المستنبط من هذه القصة، قال تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 4]
فمثلاً هذا كأس ماء، لو أنك قلت شيئاً آخر، يبقى ماءً لا يتغير شيء، تغيير الاسم لا يغير حقيقة الشيء، قال تعالى:
﴿ومَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 4-5]
الآية الثانية:
﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 37]
فقد كان النبي بهذا مشرعاً، أمره الله عز وجل، وفي هذا الأمر إحراجٌ شديدٌ له صلى الله عليه وسلم .
فنحن الآن نرتدي ثيابًا جميعاً، لا يقبل ولا يعقل أنْ يمشي الإنسان بلا ثياب, خرج عن التقاليد والعادات، والذوق العام، فالقيم راسخة، والتقاليد راسخة، والأعراف راسخة، وهذا المتبنَّى ابن، وهذه زوجته، أن يقول الله عز وجل لنبيه المرسل: تزوج ابنة متبنَّاك، شيء فوق طاقة الاحتمال, ولكن النبي كان مشرعاً بهذا .
إذاً: نزلت هذه الآيات الكريمة لإبطال حكم التبنِّي، الذي ساد شيوعه في الجاهلية وصدر الإسلام .
كما نزل قوله تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]
وثمة حكمة ثانية: لحكمةٍ بالغةٍ بالغة لم يكن من ذرية النبي من الأحياء ولدٌ ذكر؛ لئلا يقول: أنا وريث النبوة، محمدٌ أبي، لئلا تقع منازعات، لئلا تقع خصومات، لئلا يكون قدوةً غير صالحةٍ لأتباع النبي عليهم رضوان الله، لئلا تنشأ مشكلة, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]
لا حقيقةً، ولا تبنِّياً أبداً, قال تعالى:
﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]

ولحكمة بالغةٍ والله أعلم: أن أباه وأمه توفِّيا قبل أن يُبعث، لو أن أباه حي يرزق، فسيقول: هذا ابني، أنا ربيته، هذه تربيتي، لا، هذه تربية الله عز وجل، لو أن أمه حيةٌ ترزق لقالت: هذه تربيتي، أنا ربيته هكذا، ليس له أبٌ ولا أمٌ، ولا ولدٌ ذكرٌ من بعده، لأن الله سبحانه وتعالى اصطنعه لنفسه, قال تعالى:

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾
[سورة طه الآية: 41]
لأن الله سبحانه وتعالى اصطفاه ليكون سيد الخلق, وحبيب الحق، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]

طبعاً بعد هذه الحادثة, هناك نهيٌ قطعي عن أن يقال: زيد بن محمد، اسمه زيد بن حارثة .
قال كُتَّاب السيرة: إنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولدٌ ذكرٌ, حتى بلغ الحُلُم، فجميع أولاده الذكور, ماتوا جميعاً صغارًا إلا بناته, فقد عِشْنَ وتزوَّجن، ومات له ثلاث بناتٍ منهن في حياته؛ هي زينب، ورقية، وأم كلثوم، وأما فاطمة فماتت بعده بستة أشهر، وأما أولاده الذكور الذين ماتوا, وهم صغار هم؛ القاسم, والطَيِّب، والطاهر، وهم من خديجة، وإبراهيم, وهو من ماريا القبطية .
إذن أذاقه الله موت الولد في حياته :

((إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُون))
[أخرجه البخاري في الصحيح]

من هذا يتبيَّن: أن الله لم يشأ أن يكون لرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أبا أحدٍ من الرجال، لما خصه سبحانه وتعالى بخاتم الأنبياء والمرسلين، ولئلا يدعي أحدٌ من بعده من أبنائه وراثة النبوة بداعي النبوة، لذلك حرم الله تحريماً قدرياً وشرعياً أن يكون للنبي عليه الصلاة والسلام ولدٌ من بعده، أو أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أباً لأحدٍ من الرجال, قال تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]
سمَّاه العلماء: تحريم تشريعي, وتحريم قدري، أي أن الله عز وجل ما سمح لأحد أولاده أن يبلُغ الحُلم في حياته، ماتوا صغاراً، تحريم قدري، وتحريم شرعي, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 40]
وقال علماء السيرة: ولتأكيد إبطال حكم التبني عموماً للناس وخصوصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، زوَّجه الله تعالى زوجة زيدٍ الذي كان قد تبنَّاه، وذلك أن الله قد حرم على الآباء زوجات أبنائهم، والولد المتبنَّى ليس بابنٍ على الحقيقة .
فنحن من يستطيع أن يتزوج زوجة ابنه؟ مستحيل، فلما أمر الله النبي أن يتزوج زوجة زيد، هذا إعلان صارخ أن زيدًا ليس ابنه، بدليل أن الله أمر النبي بزواجه من زوجة زيد، ولو كان ابنه, لكان مستحيلا أن يتم هذا الزواج .

الوليمة التي قدمها النبي في زواجه من زينب :
كانت هذه السيدة المصون زينب, تفتخر أمام ضرَّاتها، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ, وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
وكانت وليمة العرس حافلة؛ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاةً، وأمر صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك, أن يدعو الناس إلى الوليمة, فترادفوا أفواجاً أفواجاً, يأكل فوجٌ فيخرج، ثم يدخل فوجٌ آخر، حتى أكلوا كلهم، وجلس جماعةٌ منهم يتحدَّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله جالسٌ، فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام, أي أنهم فرغوا من الطعام، والصحابة مستأنسون، استمروا في جلوسهم, وحديثهم مع النبي, فقال الله عز وجل في هذا الموطن:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
فالإنسان أحياناً يستأنس, لكن هذا الذي تستأنس به مَجهود، مُتعب، أمضى ساعاتٍ طويلة في العمل المُضني، أنت مستأنس, أما هو متعب، فلا بد أن يلاحظ ذلك، فالإنسان الكامل ظله خفيف، هؤلاء مع رسول الله, وهو سيد الخلق، فاستأنسوا، وكان في حرج، والبيت ضيِّق، وزينب في مكان صعب، فلذلك قال تعالى:
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
الخاتمة :
أيها الأخوة الكرام, موضوعٌ آخر متعلقٌ بهذه السيدة الكريمة زينب، فبمناسبة هذه القصة, نزلت آية الحجاب، وهذا موضوع الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
ولو أردنا أن نستنبط من هذه القصة بعض المواعظ: أن أي كلمة يقولها العوام: أن فلانة كأختي، أو فلان كأخي، فهذا مرفوضٌ شرعاً، ومرفوضٌ واقعاً، ومرفوضٌ عقلاً، الإنسان بفطرته السليمة؛ لا يشتهي أخته، ولا يشتهي أمه، ولا يشتهي ابنته، أما إذا تبنى طفل ، فهذا الطفل إذا كبر, فهو أجنبي, يشتهي من في البيت من النساء، لذلك مفسدة عظيمة جدًا أن ينشأ أجنبيٌ في بيت، ويعامل كأنه أحد أفراد البيت، وكل أنواع الفساد الأسري, أساسه هذا, لذلك استأصل الله عز وجل هذه العادة وأبطلها، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كُلِّف بهذا, حينما تزوَّج زوجة متبنَّاه سيدنا زيد .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 09:14 AM   #10


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( التاسع )


الموضوع : جويرة بنت الحارث



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
>متى ولدت جويرية بنت الحارث, ومن هو زوجها, ومن هم الذين رووا عنها من أحاديث
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثامن عشر من دروس سير الصحابيات رضوان الله عليهن أجمعين، ومع أمهات المؤمنين، ومع السيدة جويرية بنت الحارث، قال ابن عباس: كان اسم جويرية: برّة, فسماها النبي صلى الله عليه وسلم جويرية، ولدت قبل البعثة بنحو ثلاثة أعوام تقريباً، تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهي ابنة عشرين سنة في سنة خمس للهجرة، أو سنة ست على اختلاف بين المؤرخين، وكان أبوها الحارث سيداً مطاعاً، قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وروى عنها عبد الله بن عباس، وعبيد بن السابق، وأبو أيوب، ومجاهد، وعبد الله ابن شداد أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما هي الأسباب التي دفعت النبي إلى الزواج من السيدة جويرية بنت الحارث ؟
تعود أسباب زواج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السيدة جويرية إلى غزوة بني المصطلق، وتسمى بغزوة المريسيع، فقد ذكر ابن إسحاق وبعض علماء التفسير, أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي عليه المحققون أنها كانت في العام الخامس للهجرة، كما ذكرت قبل قليل على اختلاف بين المؤرخين .
سببها:

((بلغ النبي صلى الله عليه وسلم من أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بهم, خرج إليهم حتى لقيهم على ماء, يقال له: المريسيع، فتزاحم الناس واقتتلوا, فهزم الله بني المصطلق .
-ماذا نستنتج؟ المسلمون في أيام ضعفهم, كانت حركاتهم ردودَ أفعال، أما المسلمون في قوتهم, فحركاتهم أفعال، وشتان بين أنه كلما اعتدى عليك أحد؛ تتحرك, تستنكر, تشجب, تتألم تشكو, وبين أن تبدأ أنت خصمك، من الذي ينتصر دائماً؟ هو الذي يفرض على خصمه الوقت والزمان للمعركة، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يستعيد المسلمون قوتهم, كي يتحركوا بفعل لا برد فعل، وثمة فرق كبير بين أن تتحرك بفعل، وبين أن تتحرك برد فعل، فالنبي عليه الصلاة والسلام شعر أن بني المصطلق تتجمع، وتتهيَّأُ، وتكيد له، فماذا فعل؟- بدأهم- وقالوا في شؤون الحرب: إن الهجوم أفضل وسائل الدفاع، أيْ أن تبدأ أنت، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
[سورة الأنفال الآية:60]
(ما استطعتم) كما يقول المفسرون: تفيد استنفاد الجهد، لا بذل بعض الجهد .
الشيء الدقيق: أن الله سبحانه وتعالى حينما يرى من عباده المؤمنين أنهم أعدوا العدة، وآمنوا به، وأنه هو الفعال، والفرق بين إمكاناتهم وإمكانات عدوهم يغطيه الله عز وجل، إلا أن الشيء الذي يجب أن نقوله: إن الإعداد، واقتناء السلاح, هدفه القرآني ليس أن تستعمله، بل أن ترهب به، قال تعالى:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾
[سورة الأنفال الآية:60]
الآن الدول النووية هل تستخدم السلاح؟ أبداً، لكنها مرغوبة الجانب، السلاح في نظر القرآن, يجب أن تتملكه, كي تكون مرهوب الجانب، وكي تتحرك بفعل لا برد فعل، فالمسلمون حينما يضعفون يتحركون دائماً بردود أفعال، أما حينما كانوا في أوج قوتهم، وفي أوج نصر الله لهم, تحركوا بأفعال، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
[سورة الحج الآية: 40]
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة غافر الآية: 51]
والآية الدقيقة جداً هي:
﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾
[سورة الصافات الآية: 173]
إن لم تغلب, فابحث في مصداقية جنديتك لله، إن لم تغلب, فأنت لست جندياً لله، لو كنت جندياً لله, لا يمكن أن تغلب، بل إن بعض العلماء يقول: إن الذي يدعو إلى الله، ولا ينجح في دعوته، ويعزو ذلك إلى ظروف صعبة، وإلى قوى تعادي الحق, ليس له بها أن يقابلها، نقول: أنت تكذب، واللهُ تعالى يقول:
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
[سورة غافر الآية: 51]
فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبدأهم ما داموا قد أعدوا، وتمنَّعوا، وتهيَّؤوا، وكادوا، وائتمروا، وقد كانت هذه الغزوة بعد ما استقر أمر الإسلام في المدينة، وتوفرت لأبنائه أسباب القوة, فتحرك اليهود والمنافقون على حد سواء على مناوءة الإسلام، ونبيه، ودعوته, بأسلوب المكر والخداع، وهذا حالهم من قديم .
-أيها الأخوة, يلفت النظر أن الإنسان أحياناً حينما يكون ضعيفاً لا أحد يحسده، ولا أحد يكيد له، أما إذا قوي، وارتفع شأنه، وصلب عوده، ومكنه الله عز وجل, عندئذ يكثر حساده، ويكثر أعداؤه حسداً .
وأنا أقول دائماً: هناك ثلاثة أنواع من الاختلاف؛ هنالك اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات، هذا الاختلاف يحل بالمعلومات الصحيحة، وهناك اختلاف سببه الحسد والبغي، قال تعالى:

﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
[سورة آل عمران الآية: 19]
والاختلاف الثالث اختلاف محمود، اختلاف التنافس ضمن مجموعة المؤمنين، أراد مؤمن أن يتفوق في تفسير القرآن، وآخر في الحديث، وثالث في الفقه، وغيره في الدعوة إلى الله ، وغيره في التسليك إلى الله، ومؤمن في أعمال البر، ومؤمن في علم الفرائض، ومؤمن في علم التجويد، هذا تنافس حميد .
عندنا تنافس طبيعي, لا يذم ولا يمدح، أساسه نقص المعلومات، وهناك اختلاف أساسه الحسد والغي، واختلاف أساسه المنافسة الشريفة، فالأول لا يمدح ولا يذم، والثاني مذموم، والثالث حميد .
لذلك لما قوي شأن المسلمين كاد المنافقون، وتعاونوا مع اليهود، فلما هزم اليهود التحق المنافقون بالمسلمين، لأنهم مع القوي دائماً، المنافق غير المؤمن، ليس له مبدأ، مصلحته هي المبدأ، إلهه هو الهوى، فأينما تميل الكفة, يميل معها دائماً- .
ثم ظهر ذلك جلياً في غزوة بني المصطلق، فإن الأنباء أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه القبيلة تجمع له، وتستعد لقتاله، فسارع النبي، وسارع المسلمون, ليطفؤوا الفتنة قبل اندلاعها، وخرج النبي هذه المرة مع المنافقين, الذين لم يعتادوا الخروج معه قبلاً، واغتروا بانتصاراته وغنائمه, ليصيبوا من ذلك سمعة ومالاً، -أين الغنائم؟ إن كانت مع المؤمنين فهم مع المؤمنين .
الآن هناك نمط شائع؛ إنسان اختلف مع إنسان، كيف تحل هذه المشكلة؟ اختلف معه على بيت مستأجر، هذا الطرف الثاني مستأجر، والقانون يحميه، يقول لك: أريد الشرع، يريد حكم الله، وحالك أنت لست منفذاً شيئاً من حكم الله عز وجل، والآن يريد حكم الله، ترك القانون، ولجأ إلى العلماء .
تأتي قضية ثانية ليس له في الشرع نصيب منها، والقانون معه، نحن دولة لنا أنظمة، وقوانين، ومحاكم، وأنا أريد المحكمة، لماذا مرة المحكمة، ومرة الشرع؟ هو يبحث عن مصلحته ، يبحث عن أهوائه، يبحث عن مكاسبه، فهذا الذي يحكم الشرع تارة، والقانون تارة, ليس مع هذا ، ولا مع ذاك، ولكن مع مصلحته، وهذا أساساً مكشوف- .
حينما وصل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام إلى بني المصطلق, أمر عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم، فإن أسلموا فهم منّا، ونحن منهم، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وانتهى الأمر، فنادى عمر فيهم, قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله, تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ولو قالوها بألسنتهم .
أبى الفريقان، وتراموا، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه, فحملوا عليهم حملة رجل واحد, فلم يفلت من المشركين أحد، إذ وقعوا أسرى بعد ما قتل منهم عشرة أشخاص، ولم يستشهد من المسلمين إلا رجل واحد قتل خطأ، وسقطت القبيلة بما تملك في أيدي المسلمين، -وهنا التعليق: رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن يعامل المهزومين بإحسان .
المؤمن دائماً قدوته النبي، قلبه مليء بالرحمة لكل الخلق، بل إنه يستمد هذا من أن الله سبحانه وتعالى لا يغضب على عباده العصاة والكفار، بل يغضب من عملهم، فإذا رجعوا كانوا أحبابه .
كنت أقول هذا دائماً: دخل عمير بن وهب على النبي، وقد جاء ليقتله، وسيفه على عاتقه ، وقد شعر عمر بن الخطاب أنه جاء يريد شراً، أدخله على النبي بعد أن قيده بحمالة سيفه، وقال :

((يا رسول الله! هذا عدو الله عمير بن وهب, جاء يريد شراً، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: يا عمر أطلقه، وابتعد عنه، -والقصة معروفة- وأسلم عمير، وخرج من عند النبي، -ماذا يقول عمر هنا؟- دخل عمير على رسول الله، والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده، وهو أحب إليّ من بعض أولادي))
ليس هناك عند المسلم عداوة دائمة، ولا عداوة شخصية، هناك عداوة عمل، يكره من الكافر كفره، يكره من المنافق نفاقه، يكره من العاصي معصيته، يكره من المنحرف انحرافه، يكره من المنغمس في الملذات, انغماسه في الملذات، ولا شيء آخر، أساساً إذا رجع العبد إلى الله, نادى منادٍ في السموات والأرض, أن هنؤوا فلاناً, فقد اصطلح مع الله، بل إن كل واحد منكم, حينما يتوب إلى الله توبة نصوحاً, يشعره الله عز وجل، ويلقي في روعه, أنه قد عفا عنه، ولا شيء بينك وبين الله إلا الودّ والحب .
فهؤلاء عباد الله هزمهم، ماذا فعل النبي؟ أراد أن يرحمهم، وكانت هذه سنته صلى الله عليه وسلم في أعدائه المنكسرين، لكن لو لاحظنا الحروب الحديثة إذا انتصرت دولة على دولة تسحقها، وتذلها، خمسمائة طفل يموتون كل عام في العراق، لا يرحمونهم، الحروب الحديثة حروب تشقي، حروب إبادة، حروب تنطلق من قلب كالصخر، أما الحروب الإسلامية فتنطلق من رحمة، النبي انتصر عليهم، ولكن أراد أن يرحمهم- .
قال ابن هشام: لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش دفع جويرية إلى رجل من الأنصار، وأمره بالاحتفاظ بها, لكونها بنت سيد قومها، وكان هذا قبل توزيع الغنائم، وقدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة, فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، أبوها سيد قومه, أخذها ليجلب قومه، فلما كان بالعقيق, نظر أبوها إلى الإبل التي جاء بها, ليفدي ابنته, فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد, لقد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال عليه الصلاة والسلام: أين البعيران اللذان غيبتهما في العقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي فعلته لا يعلمه أحد إلا الله .
في الطريق غيب ناقتين، أعجبه منهما سمنهما, فغيبهما في بعض الشعب، وجاء النبي بقطيع من الإبل، وقال: هذه فداء ابنتي، أسلم أبوها فوراً، وقال: أشهد ألا إله إلا الله, وأنك رسول الله، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله، أسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل البعيرين فجاء بهما .
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير, عن عمه عروة بن الزبير, عن خالته عائشة, قالت: لما قسم النبي عليه الصلاة والسلام سبايا بني المصطلق, وقعت جويرية بالسهم لحارث بن قيس بن شماس، أو لابن عم لها, فكاتبته على نفسها, دائماً ابنة سيد القوم لها عزة وكرامة، فكاتبته أن تعطيه شيئاً من المال على أن يعتقها، فأتت رسول الله, تستعينه في كتابتها، فلو تعينني على أن أدفع المال لهذا الذي كنت نصيبه لعله يعتقني .
قالت عائشة: فلما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم, قلت:

((يا رسول الله, جويرية بنت الحارث سيد قومه، قالت: يا رسول الله, قد أصابني من البلايا ما لا يخفى عنك، وكاتبتي على نفسي, فأعني على كتابي، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أنها هذه المرأة بنت سيد قومها الحارث, الذي جمع الجموع لقتاله, تسترحمه وتستنجد بها, -للتخلص من الرق والعبودية, حفاظاً على كرامته، وكرامة أبيها، وقومها، وهو الرؤوف الرحيم، وأنه لا بدّ أن يستجيب لأمرها ، ويلبي طلبها .
وقد فعل هذا ببنت حاتم الطائي، جاءت مع السبايا, فلما استعرضهم النبي وقفت, فقالت:

((يا رسول الله, لقد هلك الوالد، وغاب الوافد، وأنا بنت حاتم الطائي, فأطلقني، سألها: ومن الوافد؟ قالت: عدي، قال: الفارّ من الله ورسوله، وتركها .
في اليوم الثاني قالت له كما قالت في اليوم الأول، وسألها ثانية: من هو الوافد؟ قالت: عدي، قال: الفارّ من الله ورسوله .
في اليوم الثالث سكتت، أشار إليها سيدنا علي أن تسأله ثالثة، فلما سمع منها النبي قالت: أنا بنت حاتم الطائي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، أطلق سراحها وأكرمها, حتى أقنعت أخاها أن يلتحق بالنبي .
-الذي يلفت نظري أن النبي عليه الصلاة والسلام ينقلب أعداؤه الألداء بلقاء واحد إلى أحباب- قالت: الحق بهذا الرجل إن يكن نبياً, تكن من أتباعه، وإن يكن ملكاً تنل منه، وتبع عدي نبي الله، وصار من أصحاب رسول الله))

طبعاً رسول الله كان بإمكانه أن يطلق سراحها، أن يطلقها بلا فداء، وهو ضامن، -ماذا فعل؟- فقال عليه الصلاة والسلام: أو خير من ذلك، أتحبين شيئاً خيرًا من ذلك؟ قالت: ماذا؟ قال: أؤدي عنك كتابك، وأتزوجك، قالت: نعم، ففعل ذلك .
فبلغ الناس أنه قد تزوجها فقالوا: أصهار رسول الله عندنا، أطلقوا سراحهم جميعاً، لذلك قالوا: أعتق الله بها مئة من أهل بيت قومها، فما كانت امرأة مباركة على قومها كهذه المرأة))


هذا الذي يغيب عن بعض المستشرقين أن النبي عليه الصلاة والسلام يتزوج تأليفاً للقلوب، يتزوج لمصلحة إيمانية راجحة، يتزوج لمصلحة إن صحّ التعبير دعوية كبيرة .
في رواية ثانية رواها الذهبي في سير أعلام النبلاء, يقول:

((إن النبي عليه الصلاة والسلام سبى جويرية، فجاء أبوها, فقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، وإن ابنتي لا يسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك, فخلِّ سبيلها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أريت إن خيرتها أليس قد أحسنت؟ فقال أبوها: بلى، فلما سألها قالت: اخترت الله ورسوله))
هذا ماذا يذكرنا؟ لما جاء والد سيدنا زيد ليفديه من الرق، قال له: هناك أفضل، خيِّره، فإن أرادكم لا أريد عليه شيئًا، فلما خيروه, اختار الله ورسوله .
الآن دقق، ما هذه المعاملة التي تلقاها سيدنا زيد حتى اختار النبي, وفضله على أبيه, وعمه, وأمه, وهذه ماذا لقيت من النبي عليه الصلاة والسلام, حتى اختارته على أن تعود إلى أبيها وأمها؟ .
ما هي العبادات الشعائرية التي كانت تمارسها السيدة جويرية وتجتهد فيها, ومتى توفيت, ومن صلى عليها يوم وفاتها, وكم كان عمرها ؟
أيها الأخوة, عاشت جويرية في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أم المؤمنين، وهذا منصب رفيع، في كل الدول يقال: السيدة الأولى، زوجة الملك تعد السيدة الأولى، فهذه كانت أسيرة، لكنها بنت سيد قومها، فتزوجها النبي، وتألف قلب قومها، وأطلق سراحهم جميعاً، وأسلموا جميعاً، هذه حكمته صلى الله عليه وسلم .
هذه الصحابية الجليلة كانت خير مثل, يحتذى في رعايتها لزوجها، وحسن عشرتها معه ، لقد كانت كثيرة الاجتهاد بالعبادة لله تعالى .
الحقيقة: للنبي قول رائع قال:

((إن الله اختارني واختار لي أصحابي))
ويقاس على ذلك: واختار له زوجاته، فهذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين, كانت كثيرة الاجتهاد بالعبادة, والإكثار من ذكر الله تعالى، والصوم، وفعل الخيرات، ففي صحيح البخاري, في كتاب الصوم, عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا, قالت:
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَهِيَ صَائِمَةٌ, فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا, قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا, قَالَتْ: لَا, قَالَ: فَأَفْطِرِي))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
هذا حكم شرعي، لا يجوز أن تفرد يوم الجمعة بالصيام، لأنه يوم عيد، وعندنا حكم ثان ، يوم الجمعة ليس لتدبير أمور المنزل، والتنظيف، وغسل الملابس، وتنظيف الفرش, لا، يوم الجمعة, يوم عيد، فيجب أن تفرح به، يجب أن تحتفل به، يجب أن تجلس مع أهلك وأولادك، يجب أن تكون معهم لتأنس بهم، يوم راحة من العمل، لذلك أنا أتمنى على كل أخ كريم يحل مشكلاته الأسبوعية يوم الخميس، أما يوم الجمعة فليبق لأهله، وأولاده، ولطاعة ربه، هذا هو الأكمل، فالنبي رفض أن تصوم جويرية يوم الجمعة وحده .
لا تنسوا أن كلمة رضي الله عن أصحاب رسول الله, هذا رضى تقريري، وهناك رضا دعائي، نقول: الإمام الغزالي رضي الله عنه، الإمام الشافعي رضي الله عنه، هذا رضى دعائي، أما رضاء الله عز وجل عن أصحاب رسوله الكرام, فهو رضا تقريري، لقد رضي الله عن المؤمنين، فامرأة من أسيرة إلى السيدة الأولى، من أسيرة إلى أم المؤمنين، من أسيرة إلى راوية الحديث عن رسول الله .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ, قَالَتْ:

((أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً, وَأَنَا أُسَبِّحُ, ثُمَّ انْطَلَقَ لِحَاجَةٍ, ثُمَّ رَجَعَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ, فَقَالَ: مَا زِلْتِ قَاعِدَةً, قُلْتُ: نَعَمْ, فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ لَوْ عُدِلْنَ بِهِنَّ عَدَلَتْهُنَّ, أَوْ لَوْ وُزِنَّ بِهِنَّ وَزَنَتْهُنَّ, يَعْنِي بِجَمِيعِ مَا سَبَّحَتْ, سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[أخرجه أحمد في السند]
هذا من أذكار النبي عليه الصلاة والسلام، أراد عليه الصلاة والسلام أن يدلها على الأفضل، فأوصاها بهذا الذكر الجميل .
عاشت جويرية أم المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم راضية مرضية إلى أن استقر الأمر لمعاوية ابن أبي سفيان، توفيت في المدينة بعد منتصف القرن الأول من الهجرة, سنة ست وخمسين على الأرجح، وصلى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل: توفيت سنة خمسين, وهي بنت خمس وستين, والله تعالى أعلم .

الخاتمة :
أيها الأخوة, حينما ندرس سيرة الصحابيات الجليلات, نريد أن نجعل من هؤلاء النسوة الطاهرات قدوة لنا، ولبناتنا، ولنسائنا، لذلك لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((أدبوا أولادكم على حب نبيكم، وحب آل بيته))
كيف تؤدب أولادك على حب آل البيت؟ بأن تروي لهم سيرة أصحاب رسول الله، وسير أهل بيته، ليكن هؤلاء النسوة الطاهرات قدوة لبناتنا، وإلا فهناك قدوة من نوع آخر، والعياذ بالله، انحلال، تفلت، خيانة، تبذل، كشف للعورات، لا مبالاة، سقوط، فإن لم نجعل من الصحابيات الجليلات قدوة لبناتنا, اتخذنا قدوة من نوع آخر .
فمن مهمات الأب: أن يربي أولاده على حب النبي، وحب آل بيته، والابن لا ينشأ على حب آل البيت إلا إذا استمع إلى قصص هؤلاء النسوة اللواتي هنّ قمم بين النساء في معرفة الله، وطاعته، ومحبته، والحفاظ على مودة الزوج, ورعاية حق الزوج والأولاد .
أرجو الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الجليلات, الصحابيات, سيرة


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من قصص الصحابيات رضي الله عنهن السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 46 08-26-2020 01:39 PM
سيرة الائمة الاربعة السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 12 05-28-2019 02:51 AM
نبذة عن شجرة الدر منال نور الهدى رِيَاض ضَوْءُ المَعرِفَة و التَارِيخ العربِي والعَالمِي 8 12-20-2016 04:38 PM
فندق عبارة عن عش فوق شجرة في غابة بالسويد محمد العتابي رِيَاض إبْنُ بَطُوطَة لِسْيَاحَة والسَفَر 7 09-26-2014 05:39 PM
شجرة تنتج 40 نوعا من الفاكهة محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 5 08-05-2014 02:07 PM


الساعة الآن 11:18 AM