حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاضُ الإعْجَازُ القُرْآنــي

رِيَاضُ الإعْجَازُ القُرْآنــي ( الاعجاز العلمي و البياني وتفسير الآيات والعلوم القرآنية)

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 11-04-2018, 06:47 AM   #21


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 164




من سورة الحجر



{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ

وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }


{ 9 }



{ إنا نحن نزلنا الذكر }

أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء

من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر،


{ وإنا له لحافظون }

أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله،

ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم،

وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله،

واستودعه فيه ثم في قلوب أمته،

وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص،

ومعانيه من التبديل،

فلا يحرف محرف معنى من معانيه

إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين،


وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين،

ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم،

ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم.



البرهان 165



من سورة الحجر




{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }

{ 99 }



{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي: الموت

أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات،

فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه،

فلم يزل دائبا في العبادة،

حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.



البرهان 166



من سورة النحل




{ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ *

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ *

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ *

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ *

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }


{ 17 - 23 }



لما ذكر تعالى ما خلقه من المخلوقات العظيمة،

وما أنعم به من النعم العميمة

ذكر أنه لا يشبهه أحد ولا كفء له ولا ند له

فقال: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ } جميع المخلوقات وهو الفعال لما يريد

{ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } شيئا لا قليلا ولا كثيرا،


{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }

فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها،

فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره

فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته.


وكما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم،

فلا تجعلوا له أندادا في عبادته بل أخلصوا له الدين،


{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ } عددا مجردا عن الشكر

{ لَا تُحْصُوهَا } فضلا عن كونكم تشكرونها،

فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات،

من جميع أصناف النعم مما يعرف العباد،

ومما لا يعرفون وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى،

{ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }

يرضى منكم باليسير من الشكر مع إنعامه الكثير.


وكما أن رحمته واسعة وجوده عميم ومغفرته شاملة للعباد

فعلمه محيط بهم، { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ }


بخلاف من عبد من دونه،

فإنهم { لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا } قليلا ولا كثيرا

{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ }

فكيف يخلقون شيئا مع افتقارهم في إيجادهم إلى الله تعالى؟"


ومع هذا ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء لا علم، ولا غيره

{ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا،

أفتتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين،

فتبا لعقول المشركين ما أضلها وأفسدها،

حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا،

وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال،

ولا شيء من الأفعال،

وبين الكامل من جميع الوجوه

الذي له كل صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها،

فله العلم المحيط بكل الأشياء والقدرة العامة

والرحمة الواسعة التي ملأت جميع العوالم،

والحمد والمجد والكبرياء والعظمة،

التي لا يقدر أحد من الخلق أن يحيط ببعض أوصافه،


ولهذا قال:

{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

وهو الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد.

فأهل الإيمان والعقول أجلته قلوبهم وعظمته،

وأحبته حبا عظيما،

وصرفوا له كل ما استطاعوا من القربات البدنية والمالية،

وأعمال القلوب وأعمال الجوارح،

وأثنوا عليه بأسمائه الحسنى وصفاته وأفعاله المقدسة،



{ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ }

لهذا الأمر العظيم الذي لا ينكره إلا أعظم الخلق جهلا وعنادا

وهو: توحيد الله

{ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } عن عبادته.


{ لَا جَرَمَ } أي: حقا لا بد

{ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } من الأعمال القبيحة


{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }

بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم من جنس عملهم



{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي

سيدخلون جهنم داخرين }


البرهان 167


من سورة النحل


{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ *

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ

وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَالَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ

قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * }

{ 26 - 27 }


{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ْ}

برسلهم واحتالوا بأنواع الحيل على رد ما جاءوهم به

وبنوا من مكرهم قصورا هائلة،

{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ْ}

أي: جاءها الأمر من أساسها وقاعدتها،

{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ْ}

فصار ما بنوه عذابا عذبوا به،

{ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ْ}

وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ويقيهم العذاب

فصار عذابهم فيما بنوه وأصَّلوه.

وهذا من أحسن الأمثال في إبطال الله مكر أعدائه.

فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم

وجعلوا لهم أصولا وقواعد من الباطل يرجعون إليها،

ويردون بها ما جاءت [ به] الرسل،

واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم،

فصار مكرهم وبالا عليهم، فصار تدبيرهم فيه تدميرهم،

وذلك لأن مكرهم سيئ

{ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ْ}


هذا في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى،


ولهذا قال: { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ}

أي: يفضحهم على رءوس الخلائق

ويبين لهم كذبهم وافتراءهم على الله.


{ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ }

أي: تحاربون وتعادون الله وحزبه لأجلهم

وتزعمون أنهم شركاء لله،

فإذا سألهم هذا السؤال

لم يكن لهم جواب إلا الإقرار بضلالهم، والاعتراف بعنادهم


فيقولون

{ ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }


{ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ْ}أي: العلماء الربانيون

{ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ ْ}أي: يوم القيامة

{ وَالسُّوءَ ْ} أي: العذاب { عَلَى الْكَافِرِينَ ْ}


وفي هذا فضيلة أهل العلم،

وأنهم الناطقون بالحق في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،

وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند خلقه.


البرهان 168



من سورة النحل

{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }

{ 35 }



أي: احتج المشركون على شركهم بمشيئة الله،

وأن الله لو شاء ما أشركوا، ولا حرموا شيئا من [الأنعام]

التي أحلها كالبحيرة والوصيلة والحام ونحوها من دونه،


وهذه حجة باطلة،

فإنها لو كانت حقا ما عاقب الله الذين من قبلهم

حيث أشركوا به فعاقبهم أشد العقاب.

فلو كان يحب ذلك منهم لما عذبهم،

وليس قصدهم بذلك إلا رد الحق الذي جاءت به الرسل،

وإلا فعندهم علم أنه لا حجة لهم على الله.


فإن الله أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم

وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم.

فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل،

هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة الإنسان على كل فعل يريده

من غير أن ينازعه منازع،

فجمعوا بين تكذيب الله وتكذيب رسله

وتكذيب الأمور العقلية والحسية،



{ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ْ}

أي: البين الظاهر الذي يصل إلى القلوب،

ولا يبقى لأحد على الله حجة،

فإذا بلغتهم الرسل أمر ربهم ونهيه،

واحتجوا عليهم بالقدر، فليس للرسل من الأمر شيء،

وإنما حسابهم على الله عز وجل.



البرهان 169


من سورة النحل



{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا

أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ

وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ}

{ 36 - 37 ْ}


يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم،

وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولا،

وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد،

وهو عبادة الله وحده لا شريك له


{ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ْ}

فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها قسمين،

{ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ْ} فاتبعوا المرسلين علما وعملا،


{ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ْ} فاتبع سبيل الغي.


{ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ْ} بأبدانكم وقلوبكم

{ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ْ}

فإنكم سترون من ذلك العجائب،

فلا تجدون مكذبا إلا كان عاقبته الهلاك.



{ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ ْ} وتبذل جهدك في ذلك

{ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ْ}

ولو فعل كل سبب لم يهده إلا الله،

{ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ْ}

ينصرونهم من عذاب الله ويقونهم بأسه.


البرهان 170




من سورة النحل



{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ

بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ *

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ

أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }


{ 38 - 40 }



يخبر تعالى عن المشركين المكذبين لرسوله أنهم

{ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ْ}

أي: حلفوا أيمانا مؤكدة مغلظة على تكذيب الله،

وأن الله لا يبعث الأموات،

ولا يقدر على إحيائهم بعد أن كانوا ترابا،


قال تعالى مكذبا لهم:

{ بَلَى ْ} سيبعثهم ويجمعهم ليوم لا ريب فيه

{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ْ} لا يخلفه ولا يغيره

{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ْ}

ومن جهلهم العظيم إنكارهم للبعث والجزاء،


ثم ذكر الحكمة في الجزاء والبعث فقال:

{ لِيُبَيِّنَ لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ْ}

من المسائل الكبار والصغار، فيبين حقائقها ويوضحها.



{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ }

حين يرون أعمالهم حسرات عليهم،

وما نفعتهم آلهتهم التي يدعون مع الله من شيء

لما جاء أمر ربك،

وحين يرون ما يعبدون حطبا لجهنم،

وتكور الشمس والقمر وتتناثر النجوم،

ويتضح لمن يعبدها أنها عبيد مسخرات،

وأنهن مفتقرات إلى الله في جميع الحالات،

وليس ذلك على الله بصعب ولا شديد

فإنه إذا أراد شيئا قال له:

كن فيكون،

من غير منازعة ولا امتناع،

بل يكون على طبق ما أراده وشاءه.


البرهان 171


من سورة النحل








{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ *

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ *

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ْ}


{ 45 - 47 ْ}



هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي،

من أن يأخذهم بالعذاب على غرَّة وهم لا يشعرون،

إما أن يأخذهم العذاب من فوقهم،

أو من أسفل منهم بالخسف وغيره،

وإما في حال تقلُّبهم وشغلهم وعدم خطور العذاب ببالهم،

وإما في حال تخوفهم من العذاب،

فليسوا بمعجزين لله في حالة من هذه الأحوال،

بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده .



ولكنه رءوف رحيم لا يعاجل العاصين بالعقوبة،

بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم وهم يؤذونه ويؤذون أولياءه،

ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة،

ويدعوهم إلى الإقلاع من السيئات التي تضرهم،

ويعدهم بذلك أفضل الكرامات،

ومغفرة ما صدر منهم من الذنوب،


فليستح المجرم من ربه


أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع اللحظات

ومعاصيه صاعدة إلى ربه في كل الأوقات،

وليعلم أن الله يمهل ولا يهمل

وأنه إذا أخذ العاصي أخذه أخذ عزيز مقتدر،

فليتب إليه، وليرجع في جميع أموره إليه فإنه رءوف رحيم.


فالبدار البدار إلى رحمته الواسعة وبره العميم

وسلوك الطرق الموصلة إلى فضل الرب الرحيم،

ألا وهي تقواه والعمل بما يحبه ويرضاه.


البرهان 172


من سورة النحل



{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ

عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ *

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ *

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

{ 48 - 50 ْ}



يقول تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا ْ}

أي: الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله،

{ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ْ}

أي: إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها،

{ عَن الْيَمِينِ ْ} وعن { الشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ْ}

أي: كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلاله،

{ وَهُمْ دَاخِرُونَ ْ}

أي: ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر،

ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده.



{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ْ}

من الحيوانات الناطقة والصامتة،

{ وَالْمَلَائِكَةِ ْ} الكرام

خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم

ولهذا قال: { وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ْ}

أي: عن عبادته على كثرتهم وعظمة أخلاقهم وقوتهم


كما قال تعالى:

{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ

وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ْ}


{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ }

لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله،

مدحهم بالخوف من الله

الذي هو فوقهم بالذات والقهر، وكمال الأوصاف،

فهم أذلاء تحت قهره.


{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

أي: مهما أمرهم الله تعالى امتثلوا لأمره، طوعا واختيارا،



وسجود المخلوقات لله تعالى قسمان:

سجود اضطرار ودلالة على ما له من صفات الكمال،

وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر

وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره،


وسجود اختيار

يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملائكة وغيرهم [من المخلوقات].


البرهان 173




من سورة النحل



{ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ

إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ *

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا

أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ *

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ

ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ

إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ *

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }


{ 51 - 55 ْ}


يأمر تعالى بعبادته وحده لا شريك له،

ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية

فقال: { لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ }

أي: تجعلون له شريكا في إلهيته،

وهو { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

متوحد في الأوصاف العظيمة متفرد بالأفعال كلها.

فكما أنه الواحد في ذاته وأسمائه ونعوته وأفعاله،

فلتوحِّدوه في عبادته،


ولهذا قال: { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }

أي: خافوني وامتثلوا أمري، واجتنبوا نهيي

من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات،

فإنها كلها لله تعالى مملوكة.



{ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا }

أي: الدين والعبادة والذل في جميع الأوقات لله وحده

على الخلق أن يخلصوه لله وينصبغوا بعبوديته.


{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } من أهل الأرض أو أهل السماوات

فإنهم لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا،

والله المنفرد بالعطاء والإحسان


{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ } ظاهرة وباطنة

{ فَمِنَ اللَّهِ } لا أحد يشركه فيها،

{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } من فقر ومرض وشدة


{ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي: تضجون بالدعاء والتضرع

لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو،


فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف ما تكرهون،

هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده.

ولكن كثيرا من الناس يظلمون أنفسهم،

ويجحدون نعمة الله عليهم إذا نجاهم من الشدة

فصاروا في حال الرخاء أشركوا به بعض مخلوقاته الفقيرة،


ولهذا قال:

{ ِليَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ }

أي: أعطيناهم حيث نجيناهم من الشدة، وخلصناهم من المشقة،

{ فَتَمَتَّعُوا } في دنياكم قليلا

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة كفركم.










 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-04-2018, 02:22 PM   #22


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 174




من سورة النحل



{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ

تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ *

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ *

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ

أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ

أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

{ 56 - 60 }



يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم وافترائهم على الله الكذب،

وأنهم يجعلون لأصنامهم

التي لا تعلم ولا تنفع ولا تضر -

نصيبا مما رزقهم الله وأنعم به عليهم،

فاستعانوا برزقه على الشرك به،

وتقربوا به إلى أصنام منحوتة،



كما قال تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا

فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا

فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } الآية،


{ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }

وقال: { ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ *

وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.



{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ }

حيث قالوا عن الملائكة العباد المقربين: إنهم بنات الله

{ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ }

أي: لأنفسهم الذكور حتى إنهم يكرهون البنات كراهة شديدة،

فكان أحدهم { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا }

من الغم الذي أصابه

{ وَهُوَ كَظِيمٌ } أي: كاظم على الحزن والأسف إذا بشِّر بأنثى،

وحتى إنه يفتضح عند أبناء جنسه

ويتوارى منهم من سوء ما بشر به.


ثم يعمل فكره ورأيه الفاسد فيما يصنع بتلك البنت التي بشّر بها

{ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } أي: يتركها من غير قتل على إهانة وذل

{ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ }

أي: يدفنها وهي حية وهو الوأد الذي ذم الله به المشركين،


{ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }

إذ وصفوا الله بما لا يليق بجلاله من نسبة الولد إليه.

ثم لم يكفهم هذا حتى نسبوا له أردأ القسمين،

وهو الإناث اللاتي يأنفون بأنفسهم عنها ويكرهونها،

فكيف ينسبونها لله تعالى؟! فبئس الحكم حكمهم.


ولما كان هذا من أمثال السوء التي نسبها إليه أعداؤه المشركون،

قال تعالى: { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ }

أي: المثل الناقص والعيب التام،



{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى }

وهو كل صفة كمال وكل كمال في الوجود فالله أحق به،

من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه،

وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه،

وهو التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والمعرفة.


{ وَهُوَ الْعَزِيزُ }

الذي قهر جميع الأشياء وانقادت له المخلوقات بأسرها،

{ الْحَكِيمُ }

الذي يضع الأشياء مواضعها

فلا يأمر ولا يفعل إلا ما يحمد عليه ويثنى على كماله فيه.



البرهان 175



من سورة النحل




{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ

وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى

لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وأَنَّهُم مُفْرَطُونَ *

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ

فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ

فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم }

{ 62 - 63 }



يخبر تعالى أن المشركين { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ }

من البنات، ومن الأوصاف القبيحة وهو الشرك

بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات

التي هي عبيد لله،

فكما أنهم يكرهون، ولا يرضون أن يكون عبيدهم

-وهم مخلوقون من جنسهم-

شركاء لهم فيما رزقهم الله

فكيف يجعلون له شركاء من عبيده ؟"


{ وَ } هم مع هذه الإساءة العظيمة

{ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى }

أي: أن لهم الحالة الحسنة في الدنيا والآخرة،

رد عليهم بقوله: { لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ }

مقدمون إليها ماكثون فيها غير خارجين منها أبدا.


بيَّن تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم

أنه ليس هو أول رسول كُذِّب فقال [تعالى]:

{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ }

رسلا يدعونهم إلى التوحيد،


{ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ }

فكذبوا الرسل، وزعموا أن ما هم عليه هو الحق

المنجي من كل مكروه

وأن ما دعت إليه الرسل فهو بخلاف ذلك،

فلما زين لهم الشيطان أعمالهم،

صار وليهم في الدنيا، فأطاعوه واتبعوه وتولوه.


{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي

وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }


{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

في الآخرة حيث تولوا عن ولاية الرحمن،

ورضوا بولاية الشيطان فاستحقوا لذلك عذاب الهوان.


البرهان 176



من سورة النحل


{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ *

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ

وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا

هَلْ يَسْتَوُونَ

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ

وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

{ 73 - 76 }


يخبر تعالى عن جهل المشركين وظلمهم

أنهم يعبدون من دونه آلهة اتخذوها شركاء لله،

والحال أنهم لا يملكون لهم رزقا من السماوات والأرض،

فلا ينـزلون مطرا،

ولا رزقا ولا ينبتون من نبات الأرض شيئا،

ولا يملكون مثقال ذرة في السماوات والأرض

ولا يستطيعون لو أرادوا،

فإن غير المالك للشيء ربما كان له قوة واقتدار على ما ينفع من يتصل به،

وهؤلاء لا يملكون ولا يقدرون.


فهذه صفة آلهتهم كيف جعلوها مع الله،

وشبهوها بمالك الأرض والسماوات

الذي له الملك كله والحمد كله والقوة كلها؟"



ولهذا قال: { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ }

المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه

{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }

فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم

وأن نسمع ما ضربه العليم من الأمثال


فلهذا ضرب تعالى مثلين له ولمن يعبد من دونه،


أحدهما عبد مملوك أي:

رقيق لا يملك نفسه ولا يملك من المال والدنيا شيئا،

والثاني حرٌّ غنيٌّ

قد رزقه الله منه رزقا حسنا من جميع أصناف المال

وهو كريم محب للإحسان، فهو ينفق منه سرا وجهرا،

هل يستوي هذا وذاك؟!

لا يستويان مع أنهما مخلوقان،




فإذا كانا لا يستويان،

فكيف يستوي المخلوق العبد

الذي ليس له ملك ولا قدرة ولا استطاعة،

بل هو فقير من جميع الوجوه

بالرب الخالق المالك لجميع الممالك

القادر على كل شيء؟"



ولهذا حمد نفسه واختص بالحمد بأنواعه فقال:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ }

فكأنه قيل:

إذا كان الأمر كذلك فلم سوَّى المشركون آلهتهم بالله؟

قال: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }

فلو علموا حقيقة العلم لم يتجرؤوا على الشرك العظيم.



والمثل الثاني مثل { رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } لا يسمع ولا ينطق

و { لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } لا قليل ولا كثير

{ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ }

أي: يخدمه مولاه، ولا يستطيع هو أن يخدم نفسه

فهو ناقص من كل وجه،

فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم،

فأقواله عدل وأفعاله مستقيمة،


فكما أنهما لا يستويان

فلا يستوي من عبد من دون الله وهو لا يقدر على شيء من مصالحه،

فلولا قيام الله بها لم يستطع شيئا منها،

ولا يكون كفوا وندا

لمن لا يقول إلا الحق،

ولا يفعل إلا ما يحمد عليه.





البرهان 177



من سورة النحل




{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ 77 }



أي: هو تعالى المنفرد بغيب السماوات والأرض،

فلا يعلم الخفايا والبواطن والأسرار إلا هو،

ومن ذلك علم الساعة فلا يدري أحد متى تأتي إلا الله،

فإذا جاءت وتجلت لم تكن

{ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }

من ذلك فيقوم الناس من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم

وتفوت الفرص لمن يريد الإمهال،


{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فلا يستغرب على قدرته الشاملة إحياؤه للموتى.

البرهان 178




من سورة النحل



{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا

ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ

وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ *

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ

قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ *

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

{ 84 - 87 }


يخبر تعالى عن حال الذين كفروا في يوم القيامة

وأنه لا يقبل لهم عذر ولا يرفع عنهم العقاب

وأن شركاءهم تـتبرأ منهم

ويقرون على أنفسهم بالكفر والافتراء على الله


فقال: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا }

يشهد عليهم بأعمالهم وماذا أجابوا به الداعي إلى الهدى

وذلك الشهيد الذي يبعثه الله أزكى الشهداء وأعدلهم

وهم الرسل الذين إذا شهدوا تم عليهم الحكم.


فـ { لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } في الاعتذار

لأن اعتذارهم بعد ما علم يقينا بطلان ما هم عليه،

اعتذار كاذب لا يفيدهم شيئا،

وإن طلبوا أيضا الرجوع إلى الدنيا ليستدركوا

لم يجابوا ولم يعتبوا،


بل يبادرهم العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم

من غير إنظار ولا إمهال من حين يرونه

لأنهم لا حساب عليهم لأنهم لا حسنات لهم

وإنما تعد أعمالهم وتحصى ويوقفون عليها ويقرون بها ويفتضحون.



{ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ }

يوم القيامة وعلموا بطلانها ولم يمكنهم الإنكار.


{ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ }

ليس عندها نفع ولا شفع،

فنوَّهوا بأنفسهم ببطلانها، وكفروا بها،

وبدت البغضاء والعداوة بينهم وبينها،


{ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ }

أي: ردت عليهم شركاؤهم قولهم،

فقالت لهم: { إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ }

حيث جعلتمونا شركاء لله ،

وعبدتمونا معه فلم نأمركم بذلك،

ولا زعمنا أن فينا استحقاقا للألوهية فاللوم عليكم.


فحينئذ استسلموا لله

وخضعوا لحكمه

وعلموا أنهم مستحقون للعذاب.


{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

فدخلوا النار وقد امتلأت قلوبهم من مقت أنفسهم

ومن حمد ربهم وأنه لم يعاقبهم إلا بما كسبوا.



البرهان 179




من سورة النحل



{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ

مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ

وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }


{ 98 - 100 }


أي: فإذا أردت القراءة لكتاب الله الذي هو أشرف الكتب وأجلها

وفيه صلاح القلوب والعلوم الكثيرة

فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد

عند شروعه في الأمور الفاضلة،

فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها.


فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله،

والاستعاذة به من شره،


فيقول القارئ: { أعوذ بالله من الشيطان الرجيم }

متدبرا لمعناها، معتمدا بقلبه على الله في صرفه عنه،

مجتهدا في دفع وساوسه وأفكاره الرديئة

مجتهدا على السبب الأقوى في دفعه،

وهو التحلي بحلية الإيمان والتوكل.



فإن الشيطان { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي: تسلط

{ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ } وحده لا شريك له

{ يَتَوَكَّلُونَ } فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه

شر الشيطان ولا يبق له عليهم سبيل.



{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ } أي: تسلطه

{ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } أي: يجعلونه لهم وليا،

وذلك بتخليهم عن ولاية الله،

ودخولهم في طاعة الشيطان،

وانضمامهم لحزبه،

فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم،

فأزَّهم إلى المعاصي أزًّا وقادهم إلى النار قَوْدًا.





البرهان 180


من سورة النحل



{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ

وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ

وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ *

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ

وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ *

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

{ 106 - 109 }



يخبر تعالى عن شناعة حال { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ }

فعمى بعد ما أبصر ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى،

وشرح صدره بالكفر راضيا به مطمئنا

أن لهم الغضب الشديد من الرب الرحيم

الذي إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وغضب عليهم كل شيء،


{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: في غاية الشدة مع أنه دائم أبدا.



و { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ }

حيث ارتدوا على أدبارهم طمعا في شيء من حطام الدنيا،

ورغبة فيه وزهدا في خير الآخرة،

فلما اختاروا الكفر على الإيمان منعهم الله الهداية فلم يهدهم

لأن الكفر وصفهم، فطبع على قلوبهم فلا يدخلها خير،

وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا ينفذ منها ما ينفعهم

ويصل إلى قلوبهم.


فشملتهم الغفلة وأحاط بهم الخذلان،

وحرموا رحمة الله التي وسعت كل شيء،

وذلك أنها أتتهم فردوها، وعرضت عليهم فلم يقبلوها.


{ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }

الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة

وفاتهم النعيم المقيم وحصلوا على العذاب الأليم.



وهذا بخلاف من أكره على الكفر وأجبر عليه،

وقلبه مطمئن بالإيمان؛ راغب فيه

فإنه لا حرج عليه ولا إثم،

ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها.


ودل ذلك على أن كلام المكره على الطلاق أو العتاق

أو البيع أو الشراء أو سائر العقود أنه لا عبرة به،

ولا يترتب عليه حكم شرعي،

لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها

فغيرها من باب أولى وأحرى.



البرهان 181


من سورة الإسراء


{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ

أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي ‎وَكِيلًا *

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }




{ 2 -3 }



كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما

لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع

ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين،


ولهذا قال هنا: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } الذي هو التوراة

{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ }

يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق.


{ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا }

أي: وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك

ليعبدوا الله وحده وينيبوا إليه

ويتخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم

ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين

الذين لا يملكون شيئا ولا ينفعونهم بشيء.



{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ }

أي: يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح،

{ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا }

ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام

بقيامه بشكر الله واتصافه بذلك

والحث لذريته أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه،

وأن يتذكروا نعمة الله عليهم

إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم.












 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-04-2018, 02:27 PM   #23


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد







البرهان 182

من سورة الإسراء


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا*

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }

{ 13 - 15 }


وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه،

أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره،

فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله.


{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا }

فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره

ويقال له: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد:

حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.


{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ

وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }


أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد،

ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر،

والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا

حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.


وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى

فإن الله تعالى لا يعذبه.


واستدل بهذه الآية

على أن أهل الفترات وأطفال المشركين لا يعذبهم الله

حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم.


البرهان 183


من سورة الإسراء


{ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ

فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا }

{ 22 }



أي: لا تعتقد أن أحدا من المخلوقين يستحق شيئا من العبادة

ولا تشرك بالله أحدا منهم

فإن ذلك داع للذم والخذلان،

فالله وملائكته ورسله قد نهوا عن الشرك

وذموا من عمله أشد الذم

ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة والأوصاف المقبوحة

ما كان به متعاطيه أشنع الخلق وصفا وأقبحهم نعتا.


وله من الخذلان في أمر دينه ودنياه

بحسب ما تركه من التعلق بربه،


فمن تعلق بغيره فهو مخذول

قد وكل إلى من تعلق به

ولا أحد من الخلق ينفع أحدا إلا بإذن الله،

كما أن من جعل مع الله إلها آخر له الذم والخذلان،


فمن وحده وأخلص دينه لله

وتعلق به دون غيره

فإنه محمود معان في جميع أحواله.





البرهان 184




من سورة الإسراء






{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ... }


{ 23 }



لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال:

{ وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا

{ أَنْ لَا تَعْبُدُوا }

أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات.


{ إِلَّا إِيَّاهُ }

لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال،

وله من تلك الصفة أعظمها

على وجه لا يشبهه أحد من خلقه،

وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة

الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور


فهو المتفرد بذلك كله

وغيره ليس له من ذلك شيء.



البرهان 185




من سورة الإسراء




{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا *

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا *

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا *

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ

إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }


{ 41-44 }



يخبر تعالى أنه صرف لعباده في هذا القرآن أي:

نوع الأحكام ووضحها وأكثر من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه،

ووعظ وذكر لأجل أن يتذكروا ما ينفعهم فيسلكوه وما يضرهم فيدعوه.


ولكن أبى أكثر الناس إلا نفورا عن آيات الله

لبغضهم للحق ومحبتهم ما كانوا عليه من الباطل

حتى تعصبوا لباطلهم ولم يعيروا آيات الله لهم سمعا

ولا ألقوا لها بالا.



ومن أعظم ما صرف فيه الآيات والأدلة التوحيد

الذي هو أصل الأصول،

فأمر به ونهى عن ضده

وأقام عليه من الحجج العقلية والنقلية شيئا كثيرا

بحيث من أصغى إلى بعضها لا تدع في قلبه شكا ولا ريبا.



ومن الأدلة على ذلك هذا الدليل العقلي الذي ذكره هنا فقال:

{ قُلْ } للمشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر:

{ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ }

أي: على موجب زعمهم وافترائهم


{ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا }

أي: لاتخذوا سبيلا إلى الله بعبادته والإنابة إليه

والتقرب وابتغاء الوسيلة،

فكيف يجعل العبد الفقير الذي يرى شدة افتقاره لعبودية ربه

إلها مع الله؟!

هل هذا إلا من أظلم الظلم وأسفه السفه؟".



فعلى هذا المعنى تكون هذه الآية كقوله تعالى:

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }


وكقوله تعالى:

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ

قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ }



ويحتمل أن المعنى في قوله:


{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا }

أي: لطلبوا السبيل وسعوا في مغالبة الله تعالى،

فإما أن يعلوا عليه فيكون من علا وقهر هو الرب الإله،

فأما وقد علموا أنهم يقرون أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله

مقهورة مغلوبة ليس لها من الأمر شيء

فلم اتخذوها وهي بهذه الحال؟


فيكون هذا كقوله تعالى:

{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ

إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }



{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } أي: تقدس وتنـزه وعلت أوصافه

{ عَمَّا يَقُولُونَ } من الشرك به واتخاذ الأنداد معه

{ عُلُوًّا كَبِيرًا } فعلا قدره وعظم وجلت كبرياؤه التي لا تقادر

أن يكون معه آلهة

فقد ضل من قال ذلك ضلالا مبينا وظلم ظلما كبيرا.



لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة

وصغرت لدى كبريائه السماوات السبع ومن فيهن

والأرضون السبع ومن فيهن

{ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة

والسماوات مطويات بيمينه }


وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي فقرا ذاتيا

لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات.


هذا الفقر بجميع وجوهه فقر من جهة الخلق والرزق والتدبير،

وفقر من جهة الاضطرار إلى أن يكون معبودهم ومحبوبهم

الذي إليه يتقربون وإليه في كل حال يفزعون،



ولهذا قال:

{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ }

من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت

{ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال ولسان المقال.

{ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }

أي: تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم

بل يحيط بها علام الغيوب.



{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }

حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قولا

تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال

ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه

ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم،

فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض

ولما ترك على ظهرها من دابة.



البرهان 186





من سورة الإسراء






{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ

وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا *

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ... }

{ 46-47 }



{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }

أي: أغطية وأغشية لا يفقهون معها القرآن

بل يسمعونه سماعا تقوم به عليهم الحجة،

{ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما عن سماعه،


{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآن }

داعيا لتوحيده ناهيا عن الشرك به.

{ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا }

من شدة بغضهم له ومحبتهم لما هم عليه من الباطل،


كما قال تعالى:

{ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ

اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }



{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ }

أي: إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن

لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة

يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به،

وليس استماعهم لأجل الاسترشاد وقبول الحق

وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه،

ومن كان بهذه الحالة لم يفده الاستماع شيئا .




البرهان 187


من سورة الإسراء



{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ

فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا *

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

{ 56-57 }



يقول تعالى:

{ قُلْ } للمشركين بالله الذين اتخذوا من دونه أندادا

يعبدونهم كما يعبدون الله ويدعونهم كما يدعونه

ملزما لهم بتصحيح ما زعموه واعتقدوه إن كانوا صادقين:


{ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } آلهة من دون الله فانظروا

هل ينفعونكم أو يدفعون عنكم الضر،

فإنهم لا { يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ }

من مرض أو فقر أو شدة ونحو ذلك فلا يدفعونه بالكلية،

{ وَلَا } يملكون أيضا تحويله من شخص إلى آخر

من شدة إلى ما دونها.


فإذا كانوا بهذه الصفة فلأي شيء تدعونهم من دون الله؟

فإنهم لا كمال لهم ولا فعال نافعة،

فاتخاذهم آلهة نقص في الدين والعقل وسفه في الرأي.



ومن العجب


أن السفه عند الاعتياد والممارسة وتلقيه عن الآباء الضالين بالقبول

يراه صاحبه هو الرأي: السديد والعقل المفيد.


ويرى إخلاص الدين لله الواحد الأحد الكامل

المنعم بجميع النعم الظاهرة والباطنة

هو السفه والأمر المتعجب منه كما قال المشركون:

{ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }


ثم أخبر أيضا أن الذين يعبدونهم من دون الله في شغل شاغل عنهم

باهتمامهم بالافتقار إلى الله وابتغاء الوسيلة إليه

فقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } من الأنبياء والصالحين والملائكة

{ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }

أي: يتنافسون في القرب من ربهم

ويبذلون ما يقدرون عليه من الأعمال الصالحة

المقربة إلى الله تعالى وإلى رحمته،

ويخافون عذابه فيجتنبون كل ما يوصل إلى العذاب.


{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

أي: هو الذي ينبغي شدة الحذر منه والتوقي من أسبابه.



وهذه الأمور الثلاثة الخوف والرجاء والمحبة

التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده

هي الأصل والمادة في كل خير.


فمن تمت له تمت له أموره

وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور.


وعلامة المحبة


ما ذكره الله أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله

وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله

والنصح فيها وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها،

فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك فهو كاذب.


البرهان 188



من سورة الإسراء




{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ

ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ

فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ

وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا *

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا *

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ

ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا }

{67-69 }



ومن رحمته الدالة على أنه وحده المعبود دون ما سواه

أنهم إذا مسهم الضر في البحر فخافوا من الهلاك لتراكم الأمواج

ضل عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في حال الرخاء

من الأحياء والأموات،


فكأنهم لم يكونوا يدعونهم في وقت من الأوقات

لعلمهم أنهم ضعفاء عاجزون عن كشف الضر

وصرخوا بدعوة فاطر الأرض والسماوات

الذي تستغيث به في شدائدها جميع المخلوقات

وأخلصوا له الدعاء والتضرع في هذه الحال.


فلما كشف الله عنهم الضر ونجاهم إلى البر

ونسوا ما كانوا يدعون إليه من قبل وأشركوا به

من لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع

وأعرضوا عن الإخلاص لربهم ومليكهم،



وهذا من جهل الإنسان وكفره فإن الإنسان كفور للنعم،

إلا من هدى الله فمن عليه بالعقل السليم واهتدى إلى الصراط المستقيم،

فإنه يعلم أن الذي يكشف الشدائد وينجي من الأهوال

هو الذي يستحق أن يفرد وتخلص له سائر الأعمال

في الشدة والرخاء واليسر والعسر.



وأما من خذل ووكل إلى عقله الضعيف

فإنه لم يلحظ وقت الشدة

إلا مصلحته الحاضرة وإنجاءه في تلك الحال.


فلما حصلت له النجاة وزالت عنه المشقة

ظن بجهله أنه قد أعجز الله

ولم يخطر بقلبه شيء من العواقب الدنيوية

فضلا عن أمور الآخرة.



ولهذا ذكرهم الله بقوله:

{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا }

أي: فهو على كل شيء قدير

إن شاء أنزل عليكم عذابا من أسفل منكم بالخسف

أو من فوقكم بالحاصب

وهو العذاب الذي يحصبهم فيصبحوا هالكين،

فلا تظنوا أن الهلاك لا يكون إلا في البحر.



وإن ظننتم ذلك فأنتم آمنون من { أَنْ يُعِيدَكُمْ } في البحر

{ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ }

أي: ريحا شديدة جدا تقصف ما أتت عليه.


{ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا }

أي: تبعة ومطالبة فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة.


البرهان 189



من سورة الإسراء




{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ

فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا }


{ 84 }



أي: { قُلْ كُلٌّ } من الناس

{ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي: على ما يليق به من الأحوال،

إن كان من الصفوة الأبرار،

لم يشاكلهم إلا عملهم لرب العالمين.


ومن كان من غيرهم من المخذولين،

لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين،

ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم.


{ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا }

فيعلم من يصلح للهداية فيهديه

ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه.


البرهان 190


من سورة الإسراء





{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ

لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ

وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

{ 88 }


وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع على صحة ما جاء به الرسول وصدقه،

حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله،

وأخبر أنهم لا يأتون بمثله،

ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.



ووقع كما أخبر الله،


فإن دواعي أعدائه المكذبين به متوفرة على رد ما جاء به

بأي: وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة،

فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه.


فعلم بذلك،

أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا،

وعجزوا عن معارضته.



وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه،

الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة

ولا كلام ولا كمال إلا من ربه،

أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات،

المطلع على سائر الخفيات،

الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم،

الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا،

والأشجار كلها أقلام،

لنفذ المداد، وفنيت الأقلام،

ولم تنفد كلمات الله.


فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلاً لله في أوصافه

فكلامه من أوصافه،

التي لا يماثله فيها أحد،

فليس كمثله شيء، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله

تبارك وتعالى.


فتبًا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق،

وزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم افتراه على الله

واختلقه من نفسه.


البرهان 191


من سورة الإسراء





{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ

أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا *

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ

وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }


{ 110-111 }




بقول تعالى لعباده: { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ } أي: أيهما شئتم.

{ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

أي: ليس له اسم غير حسن، حتى ينهى عن دعائه به،

أي: اسم دعوتموه به، حصل به المقصود،

والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب، مما يناسب ذلك الاسم.


{ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي: قراءتك

{ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فإن في كل من الأمرين محذورًا.

أما الجهر، فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه،

وسبوا من جاء به.


وأما المخافتة، فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء

{ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ } أي: بين الجهر والإخفات

{ سَبِيلًا } أي: تتوسط فيما بينهما.


{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ }

له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه،

المنزه عن كل آفة ونقص.


{ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }

بل الملك كله لله الواحد القهار،

فالعالم العلوي والسفلي كلهم مملوكون لله،

ليس لأحد من الملك شيء.


{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ }

أي: لا يتولى أحدًا من خلقه ليتعزز به ويعاونه،

فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات،

في الأرض ولا في السماوات،

ولكنه يتخذ أولياء إحسانًا منه إليهم ورحمة بهم

{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }



{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }

أي: عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة،

وبالثناء عليه، بأسمائه الحسنى،

وبتحميده بأفعاله المقدسة،

وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له،

وإخلاص الدين كله له.











 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 07:22 AM   #24


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 192




من سورة الكهف



{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى *

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً

لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }

{ 13-15 }


{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ }

وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة،

{ آمَنُوا } بالله وحده لا شريك له من دون قومهم،

فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى،

أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى،

الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح،

كما قال تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }


{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم،

وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة،

وهذا من لطفه تعالى بهم وبره،

أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات، والطمأنينة.


{ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: الذي خلقنا ورزقنا، ودبرنا وربانا، هو خالق السماوات والأرض،

المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة،

لا تلك الأوثان والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق،

ولا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا،

فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية،

ولهذا قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي: من سائر المخلوقات


{ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي: إن دعونا معه آلهة،

بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة إلا له

{ شَطَطًا } أي: ميلا عظيما عن الحق، وطريقا بعيدة عن الصواب،

فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية،

والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل،

وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم،

وزيادة الهدى من الله لهم.


{ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً }

لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى،

والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم، من اتخاذ الآلهة من دون الله،

فمقتوهم وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم،

بل في غاية الجهل والضلال


فقالوا: { لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بحجة وبرهان،

على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك،

وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه،

وهذا أعظم الظلم،

ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }



البرهان 193




من سورة الكهف



{ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ

وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا

إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا

رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ

قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }

{ 21 }


يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف،

وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما،

وأمروه بالاستخفاء والإخفاء،

فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم،

وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله المشاهدة بالعيان،

على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد،

بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم،

فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك،

فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين،

وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم،

ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.


و { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } الله أعلم بحالهم ومآلهم،

وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر:


{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }

أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم،

وهذه الحالة محظورة،

نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها،

ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها،

فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم،

وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا،

بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم،

وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.


وفي هذه القصة،


دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها.

وأن من حرص على العافية عافاه الله

ومن أوى إلى الله آواه الله، وجعله هداية لغيره،

ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته،

كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب

{ وما عند الله خير للأبرار }



البرهان 194



من سورة الكهف



{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا *

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ

وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ

وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }

{ 23-24 }


هذا النهي كغيره،

وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صلى الله عليه وسلم،

فإن الخطاب عام للمكلفين،


فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة،


{ إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله،

وذلك لما فيه من المحذور،

وهو: الكلام على الغيب المستقبل،

الذي لا يدري هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟


وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا،

وذلك محذور محظور،

لأن المشيئة كلها لله

{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }



ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله،

وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه،

ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة،

أمره الله أن يستثني بعد ذلك إذا ذكر،

ليحصل المطلوب، ويدفع المحذور،


ويؤخذ من عموم قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }

الأمر بذكر الله عند النسيان ،

فإنه يزيله ويذكر العبد ما سها عنه،

وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله،

أن يذكر ربه ولا يكونن من الغافلين،


ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة،

وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله،

أمره الله أن يقول:

{ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا }

فأمره أن يدعو الله ويرجوه،

ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.

وحري بعبد تكون هذه حاله،

ثم يبذل جهده ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد،

أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه،

وأن يسدده في جميع أموره.


البرهان 195



من سورة الكهف



{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ....}

{ 29 }


أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي:

قد تبين الهدى من الضلال، والرشد من الغي،

وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة،

وذلك بما بينه الله على لسان رسوله،

فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.


{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }

أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين،

بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه،

وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر،

فمن آمن فقد وفق للصواب،

ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان،


كما قال تعالى

{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }


وليس في قوله:

{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }

الإذن في كلا الأمرين،

وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام،

كما ليس فيها ترك قتال الكافرين.

البرهان 196


من سورة الكهف





{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ

وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا *

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ

فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }

{ 51-52 }


يقول تعالى: ما أشهدت الشياطين [وهؤلاء المضلين]،

خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي:

ما أحضرتهم ذلك، ولا شاورتهم عليه،

فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟!

بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير هو الله،

خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته،

فكيف يجعل له شركاء من الشياطين،

يوالون ويطاعون، كما يطاع الله،

وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟!


ولهذا قال: { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }

أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون،

أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير،

لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم،

فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.



ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا،

وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال،

وحكم بجهل صاحبه وسفهه،

أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة،

وأن الله يقول لهم: { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم

أي: على موجب زعمكم الفاسد،

وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء،

أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد،

{ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ }

لأن الحكم والملك يومئذ لله،

لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.


{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي: بين المشركين وشركائهم

{ مَوْبِقًا } أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض،

ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم،

وكفرهم بهم، وتبريهم منهم،


كما قال تعالى

{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً

وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }





البرهان 197


من سورة الكهف


{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا

أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ

إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ْ}

{ 102 ْ}



وهذا برهان وبيان، لبطلان دعوى المشركين الكافرين،

الذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء شركاء لله ،

يعبدونهم ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء،

ينجونهم من عذاب الله، وينيلونهم ثوابه،

وهم قد كفروا بالله وبرسله.


يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار

المتقرر بطلانه في العقول:

{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ْ}

أي: لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله معاديا لله أبدا،

فإن الأولياء موافقون لله في محبته ورضاه، وسخطه وبغضه،


فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا

ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ْ}


فمن زعم أنه يتخذ ولي الله وليا له، وهو معاد لله، فهو كاذب،


ويحتمل -وهو الظاهر- أن المعنى:

أفحسب الكفار بالله، المنابذون لرسله،

أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم،

وينفعونهم من دون الله، ويدفعون عنهم الأذى؟


هذا حسبان باطل، وظن فاسد،

فإن جميع المخلوقين، ليس بيدهم من النفع والضر شيء،


ويكون هذا، كقوله تعالى:


{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ

فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ْ}

{ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ْ}

ونحو ذلك من الآيات

التي يذكر الله فيها أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه،

ضال خائب الرجاء، غير نائل لبعض مقصوده.



{ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ْ}

أي ضيافة وقرى، فبئس النزل نزلهم،

وبئست جهنم، ضيافتهم.

البرهان 198


من سورة الكهف


{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا *

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ

فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا *

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا

وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا }

{ 103-106 ْ}


أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-:

هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟


{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ}

أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل،

يحسبون أنهم محسنون في صنعه،

فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة،

وأنها محادة لله ورسله ومعاداة؟"


فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم،

فـ { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟

ألا ذلك هو الخسران المبين ْ}


{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ْ}

أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية،

الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.


{ فَحَبِطَتْ ْ} بسبب ذلك

{ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ْ}

لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات،

والنظر في الراجح منها والمرجوح،

وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها وهو الإيمان،


كما قال تعالى

{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ْ}


لكن تعد أعمالهم وتحصى، ويقررون بها،

ويخزون بها على رءوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها،



ولهذا قال: { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ْ} أي: حبوط أعمالهم،

وأنه لا يقام لهم يوم القيامة، { وَزْنًا ْ}

لحقارتهم وخستهم، بكفرهم بآيات الله،

واتخاذهم آياته ورسله، هزوا يستهزئون بها، ويسخرون منها،


مع أن الواجب في آيات الله ورسله،

الإيمان التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام،

وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم،

وتعسوا، وانتكسوا في العذاب.



البرهان 199



من سورة الكهف



{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا *

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ْ}


{ 107-108 ْ}


أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم،

وشمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، وأعماله،

أصوله، وفروعه الظاهرة، والباطنة،

فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -

لهم جنات الفردوس.


يحتمل أن المراد بجنات الفردوس،

أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها،

وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح،

والأنبياء والمقربون.



ويحتمل أن يراد بها،


جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان،

من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله،



وهذا أولى المعنيين لعمومه،

ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس،

ولأن الفردوس يطلق على البستان المحتوي على الكرم،

أو الأشجار الملتفة،

وهذا صادق على جميع الجنة،


فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح،

وأي: ضيافة أجل وأكبر، وأعظم من هذه الضيافة،

المحتوية على كل نعيم، للقلوب، والأرواح، والأبدان،

وفيها ما تشتهيه الأنفس. وتلذ الأعين، من المنازل الأنيقة،

والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة،.

والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية،

والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة،

والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة،


وأعلى ذلك وأفضله وأجله،

التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه،

الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم،

وسماع كلام الرءوف الرحيم،

فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها"،

وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق،

أو تخطر على القلوب،



فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم،

لطارت إليها قلوبهم بالأشواق،

ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق،

ولساروا إليها زرافات ووحدانا،

ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية،

ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة،

يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة،


ولكن الغفلة شملت،

والإيمان ضعف،

والعلم قل،

والإرادة نفذت فكان، ما كان،

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا ْ} هذا هو تمام النعيم،

إن فيها النعيم الكامل، ومن تمامه أنه لا ينقطع

{ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ْ} أي: تحولا ولا انتقالا،

لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم،

ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.


البرهان 200


من سورة الكهف




{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي

لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي

وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ْ}


{ 109 ْ}


أي: قل لهم مخبرا عن عظمة الباري، وسعة صفاته،

وأنها لا يحيط العباد بشيء منها:


{ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ ْ} أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم

{ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ْ}أي: وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها،

من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام،

{ لَنَفِدَ الْبَحْرُ ْ}وتكسرت الأقلام

{ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ْ}وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد.



وفي الآية الأخرى

{ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام

والبحر يمده من بعده سبعة أبحر

ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ْ}



وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان،

لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية،

وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة،

ولا لها حد ولا منتهى،

فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب

فالله فوق ذلك،

وهكذا سائر صفات الله تعالى،

كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته،



فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين،

أهل السماوات وأهل الأرض،

لكان بالنسبة إلى علم العظيم،

أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر،

فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته،

ذلك بأن الله له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة،

وأن إلى ربك المنتهى.





البرهان 201


من سورة الكهف




{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ

فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا

وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }

{ 110 ْ}




أي: { قُلْ } يا محمد للكفار وغيرهم:

{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }

أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك،

ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله،


{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } عبد من عبيد ربي،



{ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه الله إلي،

الذي أجله الإخبار لكم: أنما إلهكم إله واحد،

أي: لا شريك له،

ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره،

وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه،

وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه.



ولهذا قال: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا }

وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب،


{ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }

أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى،

فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة،

هو الذي ينال ما يرجو ويطلب،

وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه،

وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.


























 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 07:28 AM   #25


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد







البرهان 202

من سورة مريم




{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا *

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ

وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا }

{ 29 - 33 }



فلما أشارت إليهم بتكليمه، تعجبوا من ذلك وقالوا:


{ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ْ}

لأن ذلك لم تجر به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك السن. .


فحينئذ قال عيسى عليه السلام، وهو في المهد صبي:

{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ْ}

فخاطبهم بوصفه بالعبودية،

وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلها، أو ابنا للإله،

تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله

{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ْ} ومدعون موافقته.


{ آتَانِيَ الْكِتَابَ ْ} أي: قضى أن يؤتيني الكتب

{ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ْ} فأخبرهم بأنه عبد الله، وأن الله علمه الكتاب،

وجعله من جملة أنبيائه، فهذا من كماله لنفسه،


ثم ذكر تكميله لغيره فقال: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ْ}

أي: في أي: مكان، وأي: زمان،

فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر،

والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل من جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه.


{ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ْ}

أي: أوصاني بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة،

وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة،

مدة حياتي، أي: فأنا ممتثل لوصية ربي، عامل عليها، منفذ لها،

ووصاني أيضا، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان،

وأقوم بما ينبغي له، لشرفها وفضلها، ولكونها والدة لها حق الولادة وتوابعها.


{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا ْ} أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده

{ شَقِيًّا ْ} في دنياي أو أخراي،

فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا،

متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.


فلما تم له الكمال، ومحامد الخصال قال:

{ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ْ}

أي: من فضل ربي وكرمه، حصلت لي السلامة يوم ولادتي، ويوم موتي، ويوم بعثي،

من الشر والشيطان والعقوبة،

وذلك يقتضي سلامته من الأهوال، ودار الفجار، وأنه من أهل دار السلام،


فهذه معجزة عظيمة، وبرهان باهر،

على أنه رسول الله، وعبد الله حقا.




البرهان 203

من سورة مريم



{ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ

إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ

هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
{ 34 - 36 }



أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات، عيسى بن مريم،

من غير شك ولا مرية، بل قول الحق، وكلام الله،

الذي لا أصدق منه قيلا، ولا أحسن منه حديثا،

فهذا الخبر اليقيني، عن عيسى عليه السلام،

وما قيل فيه مما يخالف هذا، فإنه مقطوع ببطلانه،

وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به،


ولهذا قال: { الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي: يشكون فيمارون بشكهم،

ويجادلون بخرصهم،

فمن قائل عنه: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة،

تعالى الله عن إفكهم وتقولهم علوا كبيرا.


فــ { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ } أي: ما ينبغي ولا يليق،

لأن ذلك من الأمور المستحيلة،

لأنه الغني الحميد، المالك لجميع الممالك،

فكيف يتخذ من عباده ومماليكه، ولدا؟!


{ سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس عن الولد والنقص،

{ إِذَا قَضَى أَمْرًا } أي: من الأمور الصغار والكبار،

لم يمتنع عليه ولم يستصعب

{ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي،

فكيف يكون له ولد؟"

.وإذا كان إذا أراد شيئا قال له:

{ كُن فَيَكُونُ } فكيف يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!.


ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره،

فقال: { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ }

الذي خلقنا، وصورنا، ونفذ فينا تدبيره، وصرفنا تقديره.


{ فَاعْبُدُوهُ } أي: أخلصوا له العبادة، واجتهدوا في الإنابة،

وفي هذا الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية،

والاستدلال بالأول على الثاني،

ولهذا قال: { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }

أي: طريق معتدل، موصل إلى الله،

لكونه طريق الرسل وأتباعهم،

وما عدا هذا، فإنه من طرق الغي والضلال.



البرهان 204

من سورة مريم




{ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ

وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ *

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ْ}
{ 39 - 40 }


الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب، والإخبار بصفاته،

وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد، يوم الحسرة حين يقضى الأمر،

فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد،

ويسألون عن أعمالهم،

فمن آمن بالله، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى بعدها،

ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاوة لا سعادة بعدها،

وخسر نفسه وأهله،

فحينئذ يتحسر، ويندم ندامة تتقطع منها القلوب، وتنصدع منها الأفئدة،


وأي: حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته،

واستحقاق سخطه والنار،

على وجه لا يتمكن من الرجوع، ليستأنف العمل،

ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا؟!

فهذا قدامهم، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم

لا يخطر بقلوبهم، ولو خطر فعلى سبيل الغفلة،

قد عمتهم الغفلة، وشملتهم السكرة،

فهم لا يؤمنون بالله، ولا يتبعون رسله،

قد ألهتهم دنياهم،

وحالت بينهم وبين الإيمان شهواتهم المنقضية الفانية.


فالدنيا وما فيها، من أولها إلى آخرها،

ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها،

وسيرث الله الأرض ومن عليها، ويرجعهم إليه،

فيجازيهم بما عملوا فيها، وما خسروا فيها أو ربحوا،

فمن فعل خيرا فليحمد الله،

ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه.



البرهان 205

من سورة مريم




{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا *

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ

مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ

فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *

يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ

إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا *

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ

فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا *

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا *

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَأَدْعُو رَبِّي

عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا *

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا *

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }

{ 41 - 50 ْ}



{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ْ}

جمع الله له بين الصديقية والنبوة.

فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله،

المصدق بكل ما أمر بالتصديق به،

وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه،

الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل،

وإبراهيم عليه السلام، هو أفضل الأنبياء كلهم

بعد محمد صلى الله عليه وسلم،

وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة،

وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب،

وهو الذي دعا الخلق إلى الله،

وصبر على ما ناله من العذاب العظيم،

فدعا القريب والبعيد،


واجتهد في دعوة أبيه، مهما أمكنه،

وذكر الله مراجعته إياه، فقال:

{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ْ} مهجنا له عبادة الأوثان:


{ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ْ}

أي: لم تعبد أصناما، ناقصة في ذاتها،

وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر،

ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا،

بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع،

ولا تقدر على شيء من الدفع،


فهذا برهان جلي


دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله

مستقبح عقلا وشرعا.


ودل بتنبيهه وإشارته،

أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال،

الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه،

ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو،

وهو الله تعالى.



{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ْ}

أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك، وإن عندك ما ليس عندي،

بل قد أعطاني الله من العلم ما لم يعطك،

والمقصود من هذا قوله: { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ْ}

أي: مستقيما معتدلا، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له،

وطاعته في جميع الأحوال،


وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى،

فإنه لم يقل: " يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل "

أو " ليس عندك من العلم شيء "

وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما،

وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك،

فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.


{ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ْ}

لأن من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان،


كما قال تعالى:

{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ}


{ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ْ}

فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان.

وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن،

إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها،

كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته،



ولهذا قال: { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ْ}

أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان


{ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ْ} أي: في الدنيا والآخرة،

فتنزل بمنازله الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة،


فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل،

فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي،

وأنك إن أطعتني، اهتديت إلى صراط مستقيم،

ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار،

ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله،

وأنه يكون وليا للشيطان،



فلم ينجع هذا الدعاء بذلك الشقي،

وأجاب بجواب جاهل وقال:

{ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ْ}

فتبجح بآلهته [التي هي] من الحجر والأصنام،

ولام إبراهيم عن رغبته عنها،

وهذا من الجهل المفرط، والكفر الوخيم،

يتمدح بعبادة الأوثان، ويدعو إليها.


{ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ْ} أي: عن شتم آلهتي، ودعوتي إلى عبادة الله

{ لَأَرْجُمَنَّكَ ْ} أي: قتلا بالحجارة

{ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ْ} أي: لا تكلمني زمانا طويلا،


فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين،

ولم يشتمه، بل صبر، ولم يقابل أباه بما يكره،


وقال: { سَلَامٌ عَلَيْكَ ْ}

أي: ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره،

{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ}

أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة،

بأن يهديك للإسلام، الذي تحصل به المغفرة،

فــ { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ْ} أي: رحيما رءوفا بحالي، معتنيا بي،

فلم يزل يستغفر الله له رجاء أن يهديه الله،

فلما تبين له أنه عدو لله، وأنه لا يفيد فيه شيئا،

ترك الاستغفار له، وتبرأ منه.



وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم،

فمن اتباع ملته، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله،

بطريق العلم والحكمة واللين والسهولة،

والانتقال من مرتبة إلى مرتبة والصبر على ذلك،

وعدم السآمة منه،

والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل،

ومقابلة ذلك بالصفح والعفو،

بل بالإحسان القولي والفعلي.



فلما أيس من قومه وأبيه قال:

{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} أي: أنتم وأصنامكم

{ وَأَدْعُو رَبِّي ْ} وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة


{ عَسَى أن لا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ْ}

أي: عسى الله أن يسعدني بإجابة دعائي، وقبول أعمالي،

وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم، فاتبعوا أهواءهم،

فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون،


أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه،

ويعتزل الشر وأهله.



ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه،

من أشق شيء على النفس، لأمور كثيرة معروفة،


ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر،

وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه،


واعتزل إبراهيم قومه، قال الله في حقه:

{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا ْ}

من إسحاق ويعقوب

{ جَعَلْنَا نَبِيًّا ْ} فحصل له هبة هؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس،

الذين خصهم الله بوحيه، واختارهم لرسالته،

واصطفاهم من العالمين.


{ وَوَهَبْنَا لَهُمْ ْ} أي: لإبراهيم وابنيه

{ مِنْ رَحْمَتِنَا ْ} وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة،

من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة،

والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون.


{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }

وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم،

لأن الله وعد كل محسن، أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه،

وهؤلاء من أئمة المحسنين،

فنشر الله الثناء الحسن الصادق غير الكاذب،

العالي غير الخفي،

فذكرهم ملأ الخافقين،

والثناء عليهم ومحبتهم، امتلأت بها القلوب، وفاضت بها الألسنة،

فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين،

ولا تزال أذكارهم في سائر العصور متجددة،

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،

والله ذو الفضل العظيم.



البرهان 206


من سورة مريم

{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ

لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ

وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا *

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }

{ 64 - 65 }


استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام

مرة في نزوله إليه فقال له:

" لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه، وتوحشا لفراقه،

وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل:


{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي: ليس لنا من الأمر شيء،

إن أمرنا، ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا،

كما قال عنهم:

{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

فنحن عبيد مأمورون،


{ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ }

أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة، في الزمان والمكان،

فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون،

فيبقى الأمر دائرا بين:

" هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟


ولهذا قال: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }

أي: لم يكن لينساك ويهملك،

كما قال تعالى: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }

بل لم يزل معتنيا بأمورك،

مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجميلة.

أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد،

فلا يحزنك ذلك ولا يهمك،

واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه.

ثم علل إحاطة علمه، وعدم نسيانه،

بأنه { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

فربوبيته للسماوات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله،

ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل،

برهان قاطع على علمه الشامل،

فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله،

وهو: عبادته وحده لا شريك له،


{ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ }

أي: اصبر نفسك عليها وجاهدها،

وقم عليها أتم القيام وأكملها بحسب قدرتك،

وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات،


كما قال تعالى:

{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ

زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

إلى أن قال:

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } الآية.


{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }

أي: هل تعلم لله مساميا ومشابها ومماثلا من المخلوقين.

وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل.

أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها،

لأنه الرب، وغيره مربوب،

الخالق، وغيره مخلوق،

الغني من جميع الوجوه،

وغيره فقير بالذات من كل وجه،

الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه،

وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إلا ما أعطاه الله تعالى،

فهذا برهان قاطع على

أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية،

وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل،
فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار لها،

وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والأسماء الحسنى.



البرهان 207



من سورة مريم




{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا *

كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ

وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا }
{ 81 - 82 }




قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره ( 1 ):

{ وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً }

يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم

أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة { عزاً }

يعتزون بها ويستنصرونها


ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال:

{كلا سيكفرون بعبادتهم} أي يوم القيامة

{ويكونون عليهم ضداً} أي بخلاف ما ظنوا فيهم


كما قال تعالى:

{ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة

وهم عن دعائهم غافلون *

وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء

وكانوا بعبادتهم كافرين }

وقرأ أبو نهيك { كل سيكفرون بعبادتهم }.


وقال السدي: {كلا سيكفرون بعبادتهم} أي بعبادة الأوثان.

وقوله: {ويكونون عليهم ضداً} أي بخلاف ما رجوا منهم.


وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

{ويكونون عليهم ضداً} قال: أعواناً.


قال مجاهد: عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم.


وقال العوفي عن ابن عباس

{ ويكونون عليهم ضداً }, قال: قرناء.


وقال قتادة: قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً, ويكفر بعضهم ببعض.

وقال السدي {ويكونون عليهم ضداً} قال:

الخصماء الأشداء في الخصومة,

وقال الضحاك {ويكونون عليهم ضداً} قال: أعداء.

وقال ابن زيد: الضد البلاء,

وقال عكرمة: الضد الحسرة.



البرهان 208


من سورة مريم


{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }

{ 88 - 95 }


وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين،

الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا،

كقول النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله،

والمشركين: الملائكة بنات الله،

تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.


{ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } أي: عظيما وخيما.


من عظيم أمره أنه { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ } على عظمتها وصلابتها

{ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي: من هذا القول

{ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ } منه، أي: تتصدع وتنفطر

{ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } أي: تندك الجبال.


{ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ }

أي: من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات،

أن يكون منها ما ذكر.


والحال أنه: { مَا يَنْبَغِي } أي: لا يليق ولا يكون

{ لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا }

وذلك لأن اتخاذه الولد، يدل على نقصه واحتياجه،

وهو الغني الحميد.

والولد أيضا، من جنس والده،

والله تعالى
لا شبيه له ولا مثل ولا سمي.


{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }

أي: ذليلا منقادا، غير متعاص ولا ممتنع،

الملائكة، والإنس، والجن وغيرهم،

الجميع مماليك، متصرف فيهم،

ليس لهم من الملك شيء، ولا من التدبير شيء،

فكيف يكون له ولد،

وهذا شأنه وعظمة ملكه؟".


{ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا }

أي: لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم، أهل السماوات والأرض،

وأحصاهم وأحصى أعمالهم،

فلا يضل ولا ينسى، ولا تخفى عليه خافية.


{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }

أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله،

فيجازيه الله ويوفيه حسابه،

إن خيرا فخير، وإن شرا فشر،


كما قال تعالى:

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }


البرهان 209


من سورة طه



{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه *

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى *

تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا *

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
{ 1 - 8 }



{ طه } من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثير من السور،

وليست اسما للنبي صلى الله عليه وسلم.


{ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }

أي: ليس المقصود بالوحي، وإنزال القرآن عليك، وشرع الشريعة،

لتشقى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين،

وتعجز عنه قوى العاملين.

وإنما الوحي والقرآن والشرع، شرعه الرحيم الرحمن،

وجعله موصلا للسعادة والفلاح والفوز، وسهله غاية التسهيل

، ويسر كل طرقه وأبوابه، وجعله غذاء للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان،

فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان،

لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة،


ولهذا قال:

{ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى }

إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى،

فيتذكر ما فيه من الترغيب إلى أجل المطالب، فيعمل بذلك،

ومن الترهيب عن الشقاء والخسران، فيرهب منه،

ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة،

التي كان مستقرا في عقله حسنها مجملا،

فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله،


ولهذا سماه الله { تَذْكِرَةً } والتذكرة لشيء كان موجودا،

إلا أن صاحبه غافل عنه، أو غير مستحضر لتفصيله،

وخص بالتذكرة { مَن يَخْشَى } لأن غيره لا ينتفع به،

وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار،

ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة؟

هذا ما لا يكون،


{ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى*

الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى }


ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم،

وأنه تنـزيل خالق الأرض والسماوات، المدبر لجميع المخلوقات،

أي: فاقبلوا تنـزيله بغاية الإذعان والمحبة والتسليم، وعظموه نهاية التعظيم.


وكثيرا ما يقرن بين الخلق والأمر، كما في هذه الآية،

وكما في قوله: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ }

وفي قوله:

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ }

وذلك أنه الخالق الآمر الناهي،

فكما أنه لا خالق سواه،

فليس على الخلق إلزام ولا أمر ولا نهي إلا من خالقهم،

وأيضا فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني،

وأمره فيه التدبير الشرعي الديني،

فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة، فلم يخلق شيئا عبثا،

فكذلك لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو عدل وحكمة وإحسان.

فلما بين أنه الخالق المدبر، الآمر الناهي،


أخبر عن عظمته وكبريائه، فقال:

{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ }

الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها،

{ اسْتَوَى }

استواء يليق بجلاله، ويناسب عظمته وجماله،

فاستوى على العرش، واحتوى على الملك.


{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }

من ملك وإنسي وجني، وحيوان، وجماد، ونبات،

{ وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي: الأرض،

فالجميع ملك لله تعالى، عبيد مدبرون،

مسخرون تحت قضائه وتدبيره،

ليس لهم من الملك شيء،

ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.


{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي

{ وَأَخْفَى } من السر، الذي في القلب، ولم ينطق به.

أو السر: ما خطر على القلب.

{ وأخفى } ما لم يخطر. يعلم تعالى أنه يخطر في وقته، وعلى صفته،


المعنى: أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء،

دقيقها، وجليلها، خفيها، وظاهرها،

فسواء جهرت بقولك أو أسررته،

فالكل سواء، بالنسبة لعلمه تعالى.


فلما قرر كماله المطلق، بعموم خلقه،

وعموم أمره ونهيه، وعموم رحمته،

وسعة عظمته، وعلوه على عرشه،

وعموم ملكه، وعموم علمه،

نتج من ذلك، أنه المستحق للعبادة،

وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة،

وعبادة غيره باطلة،


فقال:

{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

أي: لا معبود بحق، ولا مألوه بالحب والذل،

والخوف والرجاء، والمحبة والإنابة والدعاء، إلا هو.


{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

أي: له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى،

من حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح،

فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد،


ومن حسنها أنها ليست أعلاما محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف،


ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة،

وأن له من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها،


ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها،

لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها،

ويحب من يحبها، ويحب من يحفظها،

ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها،


قال تعالى:

{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }










 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 07:32 AM   #26


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 210


من سورة طه



{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى *

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى *

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى *

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى *

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ

وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }
{ 49 - 55 }



أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى }

فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح،

فقال: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }

أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به،

الدال على حسن صنعه من خلقه،

من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته،

{ ثُمَّ هَدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له،


وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات

فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه،

حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به على ذلك.


وهذا كقوله تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }

فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن،

الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها،

هو الرب على الحقيقة،

فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب،

فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر،

كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك،


ولهذا لما لم يمكن فرعون، أن يعاند هذا الدليل القاطع،

عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود فقال لموسى:

{ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟

وكيف وصلت بهم الحال، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر،

والظلم، والعناد، ولنا فيهم أسوة؟


فقال موسى:

{ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ،

وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها.


ومضمون ذلك، أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها،

فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم،

فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم،

فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها،

قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع،

فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل،

وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة،

فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق،

فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان،

ولن تجد لذلك سبيلا، ما دام الملوان.


كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها،

كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }


وقال موسى:

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ }

فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.



ثم استطرد في هذا الدليل القاطع، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري،

فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا }

أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها، والقرار، والبناء، والغراس،

وإثارتها للازدراع وغيره، وذللها لذلك،

ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.


{ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا } أي: نفذ لكم الطرق الموصلة،

من أرض إلى أرض، ومن قطر إلى قطر،

حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون،

وينتفعون بأسفارهم، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.


{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى }

أي: أنزل المطر

{ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }

وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلاف أنواعها،

وتشتت أشكالها، وتباين أحوالها، فساقه، وقدره، ويسره، رزقا لنا ولأنعامنا،

ولولا ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان،

ولهذا قال: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } وسياقها على وجه الامتنان،

ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة،

فلا يحرم منهم إلا ما كان مضرا، كالسموم ونحوه.


{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى }

أي: لذوي العقول الرزينة،

والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه،

ورحمته، وسعة جوده، وتمام عنايته،

وعلى أنه الرب المعبود، المالك المحمود،

الذي لا يستحق العبادة سواه،

ولا الحمد والمدح والثناء، إلا من امتن بهذه النعم،

وعلى أنه على كل شيء قدير،

فكما أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى.



وخص الله أولي النهى بذلك،

لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار،

وأما من عداهم،

فإنهم بمنـزلة البهائم السارحة، والأنعام السائمة،

لا ينظرون إليها نظر اعتبار،

ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها،

بل حظهم، حظ البهائم، يأكلون ويشربون،

وقلوبهم لاهية، وأجسامهم معرضة.

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }


ولما ذكر كرم الأرض، وحسن شكرها لما ينـزله الله عليها من المطر،

وأنها بإذن ربها، تخرج النبات المختلف الأنواع،

أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها،

ومنها يخرجنا تارة أخرى،

فكما أوجدنا منها من العدم، وقد علمنا ذلك وتحققناه،

فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا،

ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها.



وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان:

إخراج النبات من الأرض بعد موتها،

وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.




البرهان 211


من سورة طه



{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى *

قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي

وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى *

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ *

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا

أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ

أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }
{ 83 - 86 }


كان الله تعالى قد واعد موسى أن يأتيه

لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر،

فلما تم الميقات، بادر موسى عليه السلام إلى الحضور للموعد

شوقا لربه، وحرصا على موعوده،

فقال الله له: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى }

أي: ما الذي قدمك عليهم؟

ولم لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟

قال: { هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قريبا مني،

وسيصلون في أثري

والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك

ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك،



فقال الله له:

{ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ }

أي: بعبادتهم للعجل، ابتليناهم، واختبرناهم، فلم يصبروا،

وحين وصلت إليهم المحنة، كفروا { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }

{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا } وصاغه فصار

{ لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا } لهم { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى }

فنسيه موسى، فافتتن به بنو إسرائيل، فعبدوه،

ونهاهم هارون فلم ينتهوا.


فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف،

أي: ممتلئ غيظا وحنقا وغما،

قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم:

{ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة،


{ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ }

أي: المدة، فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟

هذا قول كثير من المفسرين،


ويحتمل أن معناه: أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة،

فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر، واندرست آثارها،

فلم تقفوا منها على خبر، فانمحت آثارها لبعد العهد بها،

فعبدتم غير الله، لغلبة الجهل،

وعدم العلم بآثار الرسالة؟


أي: ليس الأمر كذلك، بل النبوة بين أظهركم،

والعلم قائم، والعذر غير مقبول؟

أم أردتم بفعلكم،

أن يحل عليكم غضب من ربكم؟

أي: فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه،

وهذا هو الواقع،


{ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }

حين أمرتكم بالاستقامة، ووصيت بكم هارون،

فلم ترقبوا غائبا، ولم تحترموا حاضرا.

البرهان 212


من سورة طه



{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا

وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا

فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ

فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ *

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا

وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }

{ 87 - 89 }


أي: قالوا له:

ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا، وملك منا لأنفسنا،

ولكن السبب الداعي لذلك، أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا،

وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط،

فخرجوا وهو معهم وألقوه،

وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.


وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول،

فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره،

وأنه إذا ألقاها على شيء حيي، فتنة وامتحانا،

فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،

فتحرك العجل، وصار له خوار وصوت،

وقالوا: إن موسى ذهب يطلب ربه، وهو هاهنا فنسيه،


وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم،

حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار،

بعد أن كان جمادا،

فظنوه إله الأرض والسماوات.


{ أَفَلَا يَرَوْنَ } أن العجل

{ لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا }

أي: لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه،

ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا،


فالعادم للكمال والكلام والفعال

لا يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه،

فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء،

من النفع والدفع، بإقدار الله لهم.




البرهان 213


من سورة طه



{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ

وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ

فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي *

قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }

{ 90 - 91 }



أي: إن اتخاذهم العجل، ليسوا معذورين فيه،

فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته،

فإن هارون قد نهاهم عنه، وأخبرهم أنه فتنة،


وأن ربهم الرحمن،

الذي منه النعم الظاهرة والباطنة،

الدافع للنقم


وأنه أمرهم أن يتبعوه، ويعتزلوا العجل،

فأبوا وقالوا:

{ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }


البرهان 214


من سورة طه



{ .... وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا

لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا *

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
{ 97 – 98 }



{ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } أي: العجل

{ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } ففعل موسى ذلك،


فلو كان إلهاً،

لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف،

وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل،

فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون،

على وجه لا تمكن إعادته

بالإحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه،

ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه،

ولأن في إبقائه محنة،

لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل،



فلما تبين لهم بطلانه،

أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له، فقال:


{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }

أي: لا معبود إلا وجهه الكريم،

فلا يؤله، ولا يحب،

ولا يرجى ولا يخاف، ولا يدعى إلا هو،

لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى،

المحيط علمه بجميع الأشياء،


الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه،

ولا يدفع السوء إلا هو،

فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.


البرهان 215



من سورة طه

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا *

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ

وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا *

يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا *

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا *

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا }


{ 105 - 112 }


يخبر تعالى عن أهوال القيامة، وما فيها من الزلازل والقلاقل، فقال:

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }

أي: ماذا يصنع بها يوم القيامة، وهل تبقى بحالها أم لا؟

{ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }

أي: يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل،

ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا، فتضمحل وتتلاشى، ويسويها بالأرض،

ويجعل الأرض قاعا صفصفا، مستويا لا يرى فيه أيها الناظر عِوَجًا،

هذا من تمام استوائها

{ وَلَا أَمْتًا } أي: أودية وأماكن منخفضة، أو مرتفعة

فتبرز الأرض، وتتسع للخلائق، ويمدها الله مد الأديم،

فيكونون في موقف واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر،


ولهذا قال:

{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }

وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها،

يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف، فيتبعونه مهطعين إليه،

لا يلتفتون عنه، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة،

وقوله: { لَا عِوَجَ لَهُ } أي: لا عوج لدعوة الداعي،

بل تكون دعوته حقا وصدقا، لجميع الخلق،

يسمعهم جميعهم، ويصيح بهم أجمعين،

فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمن،


{ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }

أي: إلا وطء الأقدام، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط،

يملكهم الخشوع والسكون والإنصات،

انتظارا لحكم الرحمن فيهم،

وتعنو وجوههم، أي: تذل وتخضع،


فترى في ذلك الموقف العظيم، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء،

والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة،

ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم،

جاثين على ركبهم، عانية وجوههم،

لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به،

قد اشتغل كل بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه

{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل الديان،

ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بالحرمان.


والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم،

أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان،

والعفو والصفح والغفران،

ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار،

ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع الخلق لما يشاهدونه

[فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة]

فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟

وإن شئت قلت:

من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟


قلنا:

لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه،

ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا،

ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا، من النعم المتواترة في هذه الدار،

وخصوصا في فصل القيامة،


فإن قوله: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ }

{ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ }

مع قوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }


مع قوله صلى الله عليه وسلم:

" إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون،

حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه

-أي:- من الرحمة المودعة في قلبها،

فإذا كان يوم القيامة،

ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد "


مع قوله صلى الله عليه وسلم:

" لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها "



فقل ما شئت عن رحمته،

فإنها فوق ما تقول،

وتصور ما شئت، فإنها فوق ذلك،

فسبحان من رحم في عدله وعقوبته،

كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته،

وتعالى من وسعت رحمته كل شيء،

وعمَّ كرمه كل حي،

وجلَّ من غني عن عباده، رحيم بهم،

وهم مفتقرون إليه على الدوام،

في جميع أحوالهم،

فلا غنى لهم عنه طرفة عين.



وقوله: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }

أي: لا يشفع أحد عنده من الخلق،

إلا إذا أذن في الشفاعة

ولا يأذن إلا لمن رضي قوله،

أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين،

فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص،

فإذا اختل واحد من هذه الأمور،

فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.


وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين:


ظالمين بكفرهم وشرهم، فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان،

والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.


والقسم الثاني: من آمن الإيمان المأمور به، وعمل صالحا من واجب ومسنون

{ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا } أي: زيادة في سيئاته

{ وَلَا هَضْمًا } أي: نقصا من حسناته،

بل تغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته،

{ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }



البرهان 216




من سورة الأنبياء


{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ

فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ *

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }
{ 5 - 6 }



يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم،

وبما جاء به من القرآن العظيم،

وأنهم سفهوه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة،

فتارة يقولون: { أضغاث أحلام }

بمنزلة كلام النائم الهاذي، الذي لا يحس بما يقول،


وتارة يقولون: { افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه،

وتارة يقولون: إنه شاعر وما جاء به شعر.


وكل من له أدنى معرفة بالواقع من حالة الرسول،

ونظر في هذا الذي جاء به،

جزم جزما لا يقبل الشك،

أنه أجل الكلام وأعلاه،

وأنه من عند الله،

وأن أحدا من البشر لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه،

كما تحدى الله أعداءه بذلك،

ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته،

فلم يقدروا على شيء من معارضته،


وهم يعلمون ذلك

وإلا فما الذي أقامهم وأقعدهم

وأقض مضاجعهم وبلبل ألسنتهم

إلا الحق الذي لا يقوم له شيء،


وإنما يقولون هذه الأقوال فيه - حيث لم يؤمنوا به -

تنفيرا عنه لمن لم يعرفه،



وهو أكبر الآيات المستمرة،

الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه،

وهو كاف شاف،

فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه،

فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الذين كذبوه

وطلبوا من الآيات الاقتراح ما هو أضر شيء عليهم،

وليس لهم فيها مصلحة،

لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله،

فقد تبين دليله بدونها،

وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم،

إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة

- على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات -

لا يؤمنون قطعا،

فلو جاءتهم كل آية،

لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.


ولهذا قال الله عنهم:

{ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ }

أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو ذلك.


قال الله: { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }

أي: بهذه الآيات المقترحة،

وإنما سنته تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له،

فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة.


فالأولون ما آمنوا بها،

أفيؤمن هؤلاء بها؟

ما الذي فضلهم على أولئك، وما الخير الذي فيهم،

يقتضي الإيمان عند وجودها؟

وهذا الاستفهام بمعنى النفي،

أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.





البرهان 217



من سورة الأنبياء

{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ

وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ *

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ

وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }

{ 7 - 9 }


هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا،

لا يحتاج إلى طعام وشراب، وتصرف في الأسواق،

وهلا كان خالدا؟

فإذا لم يكن كذلك، دل على أنه ليس برسول.


وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل،

تشابهوا في الكفر، فتشابهت أقوالهم،

فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول،

المقرين بإثبات الرسل قبله -

ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام،

الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف،

والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته -

بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم من البشر،

الذين يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق،

وتطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت وغيره،

وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم،

فصدقهم من صدقهم، وكذبهم من كذبهم،

وأن الله صدقهم ما وعدهم به

من النجاة والسعادة لهم ولأتباعهم،

وأهلك المسرفين المكذبين لهم.



فما بال محمد صلى الله عليه وسلم،

تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته،

وهي موجودة في إخوانه المرسلين،

الذين يقر بهم المكذبون لمحمد ؟


فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح،

وأنهم إن أقروا برسول من البشر،

ولن يقروا برسول من غير البشر،


إن شبههم باطلة، قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها،

وتناقضهم بها،

فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا،

وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا، لا يأكل الطعام،

فقد أجاب [الله] تعالى عن هذه الشبهة بقوله:


{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ

وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ*

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }


وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة

{ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ

لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا }

فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين


{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ }

من الكتب السالفة، كأهل التوراة والإنجيل،

يخبرونكم بما عندهم من العلم،

وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم.



وهذه الآية وإن كان سببها خاصا

بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم،

فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله وفروعه،

إذا لم يكن عند الإنسان علم منها،

أن يسأل من يعلمها،


ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم،

ولم يؤمر بسؤالهم،

إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.


وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم،

نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم،

ونهي له أن يتصدى لذلك،


وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس منهن نبية،

لا مريم ولا غيرها، لقوله { إِلَّا رِجَالًا }






البرهان 218



من سورة طه




{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

{ 5 - 8 }



{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ }الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها،

{ اسْتَوَى } استواء يليق بجلاله، ويناسب عظمته وجماله،

فاستوى على العرش، واحتوى على الملك.




{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }

من ملك وإنسي وجني، وحيوان، وجماد، ونبات،

{ وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي: الأرض،

فالجميع ملك لله تعالى، عبيد مدبرون،

مسخرون تحت قضائه وتدبيره، ليس لهم من الملك شيء،

ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.





{ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ }الكلام الخفي

{ وَأَخْفَى }من السر، الذي في القلب، ولم ينطق به.


أو السر: ما خطر على القلب.

{ وأخفى }ما لم يخطر.

يعلم تعالى أنه يخطر في وقته، وعلى صفته،


المعنى: أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء،

دقيقها، وجليلها، خفيها، وظاهرها،

فسواء جهرت بقولك أو أسررته،

فالكل سواء، بالنسبة لعلمه تعالى.




فلما قرر كماله المطلق، بعموم خلقه، وعموم أمره ونهيه،

وعموم رحمته، وسعة عظمته،

وعلوه على عرشه، وعموم ملكه، وعموم علمه،

نتج من ذلك،

أنه المستحق للعبادة،

وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة،

وعبادة غيره باطلة،


فقال:



{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

أي: لا معبود بحق،

ولا مألوه بالحب والذل، والخوف والرجاء،

والمحبة والإنابة والدعاء، إلا هو.





{ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

أي: له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى،

من حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح،

فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد،

ومن حسنها أنها ليست أعلاما محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف،


ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة،

وأن له من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها،


ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها،

لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها، ويحب من يحبها،

ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها،


قال تعالى:

{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }





البرهان 219


من سورة طه



{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى *

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى *

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ

لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

{ 49 - 52 }



أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى }

فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح، فقال:

{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }

أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات،

وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به،

الدال على حسن صنعه من خلقه،

من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته،


{ ثُمَّ هَدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له،

وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات

فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع،

وفي دفع المضار عنه،

حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل،

ما يتمكن به على ذلك.


وهذا كقوله تعالى:

{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }


فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن،

الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها،

هو الرب على الحقيقة،

فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا،

وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب،

فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر،

كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك،


ولهذا لما لم يمكن فرعون،

أن يعاند هذا الدليل القاطع، عدل إلى المشاغبة،

وحاد عن المقصود فقال لموسى: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى }

أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال،

وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر،

والظلم، والعناد، ولنا فيهم أسوة؟


فقال موسى:

{ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر،

وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ،

وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها،

ولا ينسى ما علمه منها.


ومضمون ذلك،

أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها،

فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم،

فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم،

فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها،

قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع،

فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل،

وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة،

فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق،

فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان،

ولن تجد لذلك سبيلا، ما دام الملوان.


كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها،

كما قال تعالى:

{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }

وقال موسى:

{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ

إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ }


فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.











 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 07:37 AM   #27


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 220


من سورة طه




{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى *

قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي

وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى *


قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ *

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا

أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ

أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }


{ 83 - 86 }



كان الله تعالى، قد واعد موسى أن يأتيه

لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر،

فلما تم الميقات،

بادر موسى عليه السلام إلى الحضور للموعد شوقا لربه،

وحرصا على موعوده،

فقال الله له:

{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى }

أي: ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟

قال: { هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي }

أي: قريبا مني، وسيصلون في أثري

والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك

ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك،


فقال الله له:

{ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ }

أي: بعبادتهم للعجل،

ابتليناهم، واختبرناهم، فلم يصبروا،

وحين وصلت إليهم المحنة، كفروا

{ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }

{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا }

وصاغه فصار { لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا } لهم

{ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } فنسيه موسى،

فافتتن به بنو إسرائيل، فعبدوه،

ونهاهم هارون فلم ينتهوا.



فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف،

أي: ممتلئ غيظا وحنقا وغما،

قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم:

{ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة،

{ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: المدة،

فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟

هذا قول كثير من المفسرين،


ويحتمل أن معناه:

أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة،

فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر، واندرست آثارها،

فلم تقفوا منها على خبر، فانمحت آثارها لبعد العهد بها،

فعبدتم غير الله، لغلبة الجهل،

وعدم العلم بآثار الرسالة؟


أي: ليس الأمر كذلك، بل النبوة بين أظهركم،

والعلم قائم، والعذر غير مقبول؟


أم أردتم بفعلكم، أن يحل عليكم غضب من ربكم؟

أي: فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه،

وهذا هو الواقع،


{ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }

حين أمرتكم بالاستقامة، ووصيت بكم هارون،

فلم ترقبوا غائبا، ولم تحترموا حاضرا.


البرهان 221



من سورة طه



{ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا

وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا

فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ

فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ *

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا

وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }
{ 87 - 89 }


أي: قالوا له:

ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا، وملك منا لأنفسنا،

ولكن السبب الداعي لذلك،

أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا،

وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط،

فخرجوا وهو معهم وألقوه،

وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.


وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول،

فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره،

وأنه إذا ألقاها على شيء حيي، فتنة وامتحانا،

فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،

فتحرك العجل، وصار له خوار وصوت،

وقالوا: إن موسى ذهب يطلب ربه، وهو هاهنا فنسيه،


وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم،

حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار،

بعد أن كان جمادا،

فظنوه إله الأرض والسماوات.



{ أَفَلَا يَرَوْنَ }أن العجل

{ لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا }

أي: لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه،

ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا،

فالعادم للكمال والكلام والفعال

لا يستحق أن يعبد

وهو أنقص من عابديه،

فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء،

من النفع والدفع، بإقدار الله لهم.






البرهان 222


من سورة طه



{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ

وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ

فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي *

قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }
{ 90 - 91 }


أي: إن اتخاذهم العجل، ليسوا معذورين فيه،

فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته،

فإن هارون قد نهاهم عنه، وأخبرهم أنه فتنة،

وأن ربهم الرحمن، الذي منه النعم الظاهرة والباطنة،

الدافع للنقم

وأنه أمرهم أن يتبعوه، ويعتزلوا العجل،

فأبوا وقالوا:

{ لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }


البرهان 223


من سورة طه



{ ... وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا

لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا *

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
{ 97 – 98 }







{ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا }أي: العجل

{ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا }ففعل موسى ذلك،

فلو كان إلها،

لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف،


وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل،

فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون،

على وجه لا تمكن إعادته

بالإحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه،

ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه،

ولأن في إبقائه محنة،

لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل،



فلما تبين لهم بطلانه،

أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له،

فقال:



{ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }




أي: لا معبود إلا وجهه الكريم،

فلا يؤله، ولا يحب،

ولا يرجى ولا يخاف،

ولا يدعى إلا هو،

لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى،

المحيط علمه بجميع الأشياء،

الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه،

ولا يدفع السوء إلا هو،

فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.



البرهان 224


من سورة طه




{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا *

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ

وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ

فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }


{ 105 - 108 }



يخبر تعالى عن أهوال القيامة، وما فيها من الزلازل والقلاقل،

فقال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }

أي: ماذا يصنع بها يوم القيامة، وهل تبقى بحالها أم لا؟

{ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }

أي: يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل،

ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا، فتضمحل وتتلاشى،

ويسويها بالأرض، ويجعل الأرض قاعا صفصفا،

مستويا لا يرى فيه أيها الناظر عِوَجًا،

هذا من تمام استوائها

{ وَلَا أَمْتًا } أي: أودية وأماكن منخفضة، أو مرتفعة

فتبرز الأرض، وتتسع للخلائق، ويمدها الله مد الأديم،

فيكونون في موقف واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر،


ولهذا قال:

{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }

وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها،

يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف،

فيتبعونه مهطعين إليه، لا يلتفتون عنه،

ولا يعرجون يمنة ولا يسرة،

وقوله: { لَا عِوَجَ لَهُ } أي: لا عوج لدعوة الداعي،

بل تكون دعوته حقا وصدقا، لجميع الخلق،

يسمعهم جميعهم، ويصيح بهم أجمعين،

فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمن،


{ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }

أي: إلا وطء الأقدام، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط،

يملكهم الخشوع والسكون والإنصات،

انتظارا لحكم الرحمن فيهم،

وتعنو وجوههم، أي: تذل وتخضع،


فترى في ذلك الموقف العظيم، الأغنياء والفقراء،

والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة،

ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم،

جاثين على ركبهم، عانية وجوههم،

لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به،

قد اشتغل كل بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه

{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }


فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل الديان،

ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بالحرمان.



والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم،

أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان،

والعفو والصفح والغفران،

ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار،

ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع الخلق لما يشاهدونه

[فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة]


فإن قيل:

من أين لكم هذا الأمل؟

وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟


قلنا:

لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه،

ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا،

ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا،

من النعم المتواترة في هذه الدار،

وخصوصا في فصل القيامة،


فإن قوله: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ }

{ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ }

مع قوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }



مع قوله صلى الله عليه وسلم:

" إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون،

حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه

-أي:- من الرحمة المودعة في قلبها،

فإذا كان يوم القيامة،

ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد "


مع قوله صلى الله عليه وسلم:

" لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها "


فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول،

وتصور ما شئت، فإنها فوق ذلك،

فسبحان من رحم في عدله وعقوبته،

كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته،

وتعالى من وسعت رحمته كل شيء،

وعم كرمه كل حي،

وجلَّ من غني عن عباده، رحيم بهم،

وهم مفتقرون إليه على الدوام، في جميع أحوالهم،

فلا غنى لهم عنه طرفة عين.



البرهان 225



من سورة طه





{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا *

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }

{ 109 – 111 }




{ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }

أي: لا يشفع أحد عنده من الخلق،

إلا إذا أذن في الشفاعة ولا يأذن إلا لمن رضي قوله،

أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين،

فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص،

فإذا اختل واحد من هذه الأمور،

فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.



وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين:


ظالمين بكفرهم وشرهم،

فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان،

والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.


والقسم الثاني:

من آمن الإيمان المأمور به،

وعمل صالحا من واجب ومسنون

{ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا } أي: زيادة في سيئاته

{ وَلَا هَضْمًا } أي: نقصا من حسناته،

بل تغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته،


{ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا

وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }



البرهان 226





من سورة الأنبياء



{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ

فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ *

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }

{ 5 - 6 }




يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم،

وبما جاء به من القرآن العظيم،

وأنهم سفهوه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة،

فتارة يقولون: { أضغاث أحلام }بمنزلة كلام النائم الهاذي،

الذي لا يحس بما يقول،

وتارة يقولون: { افتراه }واختلقه وتقوله من عند نفسه،

وتارة يقولون: إنه شاعر وما جاء به شعر.




وكل من له أدنى معرفة بالواقع، من حالة الرسول،

ونظر في هذا الذي جاء به، جزم جزما لا يقبل الشك،

أنه أجل الكلام وأعلاه، وأنه من عند الله،

وأن أحدا من البشر لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه،

كما تحدى الله أعداءه بذلك،

ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته،

فلم يقدروا على شيء من معارضته،


وهم يعلمون ذلك

وإلا فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض مضاجعهم وبلبل ألسنتهم

إلا الحق الذي لا يقوم له شيء،

وإنما يقولون هذه الأقوال فيه - حيث لم يؤمنوا به -

تنفيرا عنه لمن لم يعرفه،

وهو أكبر الآيات المستمرة،

الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه،


وهو كاف شاف،

فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه،

فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين

الذين كذبوه وطلبوا من الآيات الاقتراح ما هو أضر شيء عليهم،

وليس لهم فيها مصلحة،

لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله،

فقد تبين دليله بدونها،

وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم،

إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة

- على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات - لا يؤمنون قطعا،

فلو جاءتهم كل آية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.




ولهذا قال الله عنهم:

{ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ }

أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو ذلك.




قال الله:

{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }

أي: بهذه الآيات المقترحة،

وإنما سنته تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له،

فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة.

فالأولون ما آمنوا بها، أفيؤمن هؤلاء بها؟

ما الذي فضلهم على أولئك،

وما الخير الذي فيهم، يقتضي الإيمان عند وجودها؟

وهذا الاستفهام بمعنى النفي،

أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.





البرهان 227



من سورة الأنبياء



{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ }
{ 10 }


لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -

كتابا جليلا، وقرآنا مبينا { فِيهِ ذِكْرُكُمْ }

أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم،

إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها،

وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي،

ارتفع قدركم، وعظم أمركم،


{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }

ما ينفعكم وما يضركم؟

كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم

في الدنيا والآخرة،

فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل،

فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق،

التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما،

علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.


وهذه الآية، مصداقها ما وقع،

فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن،

من الصحابة، فمن بعدهم،

حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر،

والصيت العظيم، والشرف على الملوك،

ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل،

لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا،

ولم يهتد به ويتزك به،

من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة،


فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة

إلا بالتذكر بهذا الكتاب.


البرهان 228


من سورة الأنبياء



{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ

وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ *

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ْ}

{ 18 - 20 ْ}


يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل،

وإن كل باطل قيل وجودل به،

فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان، ما يدمغه، فيضمحل،

ويتبين لكل أحد بطلانه

{ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ْ} أي: مضمحل، فانٍ،

وهذا عام في جميع المسائل الدينية،

لا يورد مبطل، شبهة، عقلية ولا نقلية،

في إحقاق باطل، أو رد حق،

إلا وفي أدلة الله، من القواطع العقلية والنقلية،

ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه

فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد.



وهذا يتبين باستقراء المسائل، مسألة مسألة،

فإنك تجدها كذلك،


ثم قال: { وَلَكُمْ ْ} أيها الواصفون الله، بما لا يليق به،

من اتخاذ الولد والصاحبة، ومن الأنداد والشركاء،

حظكم من ذلك، ونصيبكم الذي تدركون به

{ الْوَيْلُ ْ} والندامة والخسران.


ليس لكم مما قلتم فائدة، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها،

وتعملون لأجلها، وتسعون في الوصول إليها،

إلا عكس مقصودكم، وهو الخيبة والحرمان،


ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما،

فالكل عبيده ومماليكه،

فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك،

ولا معاونة عليه، ولا يشفع إلا بإذن الله،

فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة
وكيف يجعل لله منها ولد؟!

فتعالى وتقدس، المالك العظيم،

الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الصعاب،

وخشعت له الملائكة المقربون،

وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون،



ولهذا قال: { وَمَنْ عِنْدَهُ ْ} أي من الملائكة

{ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ْ}

أي: لا يملون ولا يسأمونها، لشدة رغبتهم،

وكمال محبتهم، وقوة أبدانهم.


{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ْ}

أي: مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم

فليس في أوقاتهم وقت فارغ ولا خال منها

وهم على كثرتهم بهذه الصفة،


وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه

وكمال علمه وحكمته،

ما يوجب أن لا يعبد إلا هو،

ولا تصرف العبادة لغيره.




البرهان 229



من سورة الأنبياء





{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ *

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا

فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ *

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ

هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ *

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
{ 21 - 25 ْ}



لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته، وخضوع كل شيء له،

أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض،

في غاية العجز وعدم القدرة

{ هُمْ يُنْشِرُونَ } استفهام بمعنى النفي،

أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم،


يفسرها قوله تعالى:

{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا

وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }


{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ*

لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ }


فالمشرك يعبد المخلوق، الذي لا ينفع ولا يضر،

ويدع الإخلاص لله،

الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر،

وهذا من عدم توفيقه، وسوء حظه،

وتوفر جهله، وشدة ظلمه،

فإنه لا يصلح الوجود، إلا على إله واحد،

كما أنه لم يوجد، إلا برب واحد.


ولهذا قال: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا } أي: في السماوات والأرض

{ آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.


وبيان ذلك:

أن العالم العلوي والسفلي على ما يرى،

في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام،

الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة، ولا معارضة،

فدل ذلك،

على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد،

فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك،

لاختل نظامه، وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان،

وإذا أراد أحدهما تدبير شيء، وأراد الآخر عدمه،

فإنه محال وجود مرادهما معا،

ووجود مراد أحدهما دون الآخر،

يدل على عجز الآخر، وعدم اقتداره


واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور، غير ممكن،


فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده،

من غير ممانع ولا مدافع،

هو الله الواحد القهار،


ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله:

{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ

إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }


ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى:

{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا*

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا }



ولهذا قال هنا:

{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ } أي: تنـزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده،

{ رَبُّ الْعَرْشِ } الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها، وأعظمها،

فربوبية ما دونه من باب أولى،

{ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: الجاحدون الكافرون، من اتخاذ الولد والصاحبة،

وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه.


{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ }

لعظمته وعزته، وكمال قدرته،

لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه، لا بقول، ولا بفعل،

ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها، وإتقانها،

أحسن كل شيء يقدره العقل، فلا يتوجه إليه سؤال،

لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال.


{ وَهُمْ } أي: المخلوقين كلهم

{ يُسْأَلُونَ } عن أفعالهم وأقوالهم، لعجزهم وفقرهم، ولكونهم عبيدا،

قد استحقت أفعالهم وحركاتهم

فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم، ولا في غيرهم، مثقال ذرة.



ثم رجع إلى تهجين حال المشركين،

وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا:


{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }

أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه،

ولن يجدوا لذلك سبيلا،

بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه،


ولهذا قال: { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي }

أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم، من إبطال الشرك،

فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته العقلية والنقلية،

وهذه الكتب السابقة كلها، براهين وأدلة لما قلت.


ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه،

علم أنه لا برهان لهم،

لأن البرهان القاطع، يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم يكن قطعيا،

وإن وجد في معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئا.


وقوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ }

أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى،

وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك، لإعراضهم عنه،

وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات،

لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا

ولهذا قال: { فَهُمْ مُعْرِضُونَ }


ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة،

بيَّنها أتم تبيين في قوله:


{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }

فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم،

زبدة رسالتهم وأصلها،

الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له،

وبيان أنه الإله الحق المعبود،

وأن عبادة ما سواه باطلة.









 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 10:39 AM   #28
سليلة الأبجدية



عاشقة الأنس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 390
 تاريخ التسجيل :  Jun 2014
 أخر زيارة : 07-22-2023 (09:39 AM)
 المشاركات : 4,471 [ + ]
 التقييم :  2789
 الدولهـ
Algeria
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد



في ميزان حسناتك وبارك الله فيك


 
 توقيع : عاشقة الأنس

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 02:45 PM   #29


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد



تسلمين اختى عاشقةعلى تواصلك الدائم


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 02:50 PM   #30


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد







البرهان 230


من سورة الأنبياء


{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا

سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *

لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *

وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ

فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}

{ 26 - 29 ْ}



يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول،

وأنهم زعموا - قبحهم الله - أن الله اتخذ ولدا فقالوا:

الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم،


وأخبر عن وصف الملائكة، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون،

ليس لهم من الأمر شيء، وإنما هم مكرمون عند الله،

قد أكرمهم الله، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته،

وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل،

وأنهم في غاية الأدب مع الله، والامتثال لأوامره.


فـ { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ْ}

أي: لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة، حتى يقول الله،

لكمال أدبهم، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.


{ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ْ}

أي: مهما أمرهم، امتثلوا لأمره،

ومهما دبرهم عليه، فعلوه،

فلا يعصونه طرفة عين،

ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله،

ومع هذا، فالله قد أحاط بهم علمه،


فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }

أي: أمورهم الماضية والمستقبلة، فلا خروج لهم عن علمه،

كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.

ومن جزئيات وصفهم، بأنهم لا يسبقونه بالقول،

أنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه،

فإذا أذن لهم، وارتضى من يشفعون فيه، شفعوا فيه،

ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل،

إلا ما كان خالصا لوجهه، متبعا فيه الرسول،


وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة،

وأن الملائكة يشفعون.


{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ْ}

أي: خائفون وجلون، قد خضعوا لجلاله،

وعنت وجوههم لعزه وجماله.


فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية،

ولا يستحقون شيئا من العبودية

بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك،

ذكر أيضا أنه لا حظ لهم، ولا بمجرد الدعوى،

وأن من قال منهم:

{ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ ْ} على سبيل الفرض والتنزل

{ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ}


وأي ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص،

الفقير إلى الله من جميع الوجوه

مشاركة الله في خصائص الإلهية والربوبية؟"




البرهان 231



من سورة الأنبياء



{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا

أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ

وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ}

{ 36 }



وهذا من شدة كفرهم،

فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

استهزأوا به وقالوا:

{ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ}

أي: هذا المحتقر بزعمهم، الذي يسب آلهتكم ويذمها، ويقع فيها،

أي: فلا تبالوا به، ولا تحتفلوا به.


هذا استهزاؤهم واحتقارهم له، بما هو من كماله،

فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه،

إخلاص العبادة لله،

وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه، وذكر محله ومكانته،


ولكن محل الازدراء والاستهزاء، هؤلاء الكفار،

الذين جمعوا كل خلق ذميم،

ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب وجحدهم لرسله

فصاروا بذلك من أخس الخلق وأرذلهم،

ومع هذا فذكرهم للرحمن، الذي هو أعلى حالاتهم، كافرون بها،

لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون

فذكرهم كفر وشرك، فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟


ولهذا قال: { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ}


وفي ذكر اسمه { الرَّحْمَنِ ْ} هنا،

بيان لقباحة حالهم،

وأنهم كيف قابلوا الرحمن

- مسدي النعم كلها، ودافع النقم

الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،

ولا يدفع السوء إلا إياه -

بالكفر والشرك.


البرهان 232


من سورة الأنبياء


{ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ

بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ *

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا

لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ

وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ *

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ

أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا

أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ}

{ 42 - 44 ْ}


يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء، الذين اتخذوا من دونه آلهة،

وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن،

الذي رحمته، شملت البر والفاجر، في ليلهم ونهارهم -

فقال:

{ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ْ} أي: يحرسكم ويحفظكم

{ بِاللَّيْلِ ْ} إذ كنتم نائمين على فرشكم، وذهبت حواسكم

{ وَالنَّهَارِ ْ} وقت انتشاركم وغفلتكم

{ مِنَ الرَّحْمَنِ ْ} أي: بدله غيره،

أي: هل يحفظكم أحد غيره؟

لا حافظ إلا هو.


{ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ْ}

فلهذا أشركوا به، وإلا فلو أقبلوا على ذكر ربهم،

وتلقوا نصائحه، لهدوا لرشدهم، ووفقوا في أمرهم.


{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ْ}

أي: إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم،

من يقدر على منعهم من ذلك السوء، والشر النازل بهم؟؟


{ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ْ}

أي: لا يعانون على أمورهم من جهتنا،

وإذا لم يعانوا من الله، فهم مخذولون في أمورهم،

لا يستطيعون جلب منفعة، ولا دفع مضرة.


والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم



{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ}

أي: أمددناهم بالأموال والبنين، وأطلنا أعمارهم،

فاشتغلوا بالتمتع بها، ولهوا بها، عما له خلقوا،

وطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم،

وعظم طغيانهم، وتغلظ كفرانهم،

فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم، وعن يسارهم من الأرض،

لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية،

ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك،

وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك،


ولهذا قال:

{ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ}

أي: بموت أهلها وفنائهم، شيئا فشيئا،

حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين،

فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه.


{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ }

الذين بوسعهم، الخروج عن قدر الله؟

وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟

فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟


أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم،

أذعنوا، وذلوا، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟


البرهان 233


من سورة الأنبياء


{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ

وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ *

وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ

لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

{ 45 - 46 ْ}



أي: { قُلْ } يا محمد، للناس كلهم:

{ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ }

أي: إنما أنا رسول،

لا آتيكم بشيء من عندي،

ولا عندي خزائن الله،

ولا أعلم الغيب،

ولا أقول إني ملك،

وإنما أنذركم بما أوحاه الله إلي،

فإن استجبتم، فقد استجبتم لله،

وسيثيبكم على ذلك،

وإن أعرضتم وعارضتم،

فليس بيدي من الأمر شيء،

وإنما الأمر لله،

والتقدير كله لله.


{ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ }

أي: الأصم لا يسمع صوتا، لأن سمعه قد فسد وتعطل،

وشرط السماع مع الصوت، أن يوجد محل قابل لذلك،

كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح، وللفقه عن الله،

ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى،

كان بالنسبة للهدى والإيمان،

بمنزلة الأصم، بالنسبة إلى الأصوات

فهؤلاء المشركون، صم عن الهدى،

فلا يستغرب عدم اهتدائهم،

خصوصا في هذه الحالة،

التي لم يأتهم العذاب، ولا مسهم ألمه.



فلو مسهم { نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ }

أي: ولو جزءا يسيرا ولا يسير من عذابه،

{ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }

أي: لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور، والندم،

والاعتراف بظلمهم وكفرهم واستحقاقهم للعذاب.



البرهان 234



من سورة الأنبياء




{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا

وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا

وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }


{ 47 ْ}


يخبر تعالى عن حكمه العدل،

وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة،

وأنه يضع لهم الموازين العادلة،

التي يبين فيها مثاقيل الذر،

الذي توزن بها الحسنات والسيئات،

{ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ } مسلمة أو كافرة

{ شَيْئًا } بأن تنقص من حسناتها، أو يزاد في سيئاتها.


{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ }

التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر

{ أَتَيْنَا بِهَا } وأحضرناها، ليجازى بها صاحبها،


كقوله:

{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }

وقالوا

{ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً

إِلَّا أَحْصَاهَا

وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا }


{ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }

يعني بذلك نفسه الكريمة،

فكفى به حاسبا،

أي: عالما بأعمال العباد، حافظا لها،

مثبتا لها في الكتاب،

عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها،

موصلا للعمال جزاءها.


البرهان 235



من سورة الأنبياء



{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ

أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }

{ 50 }





{ وَهَذَا }أي: القرآن

{ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ }فوصفه بوصفين جليلين،

كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب،

من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله،

ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم،

ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها،

ومن أحكام الجزاء والجنة والنار،

فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية،


وسماه ذكرا، لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر،

من التصديق بالأخبار الصادقة،

والأمر بالحسن عقلا، والنهي عن القبيح عقلا،



وكونه { مباركا }يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها،

ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن،

فإن كل خير ونعمة، وزيادة دينية أو دنيوية، أو أخروية،

فإنها بسببه، وأثر عن العمل به،

فإذا كان ذكرا مباركا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد والتسليم،

وشكر الله على هذه المنحة الجليلة، والقيام بها،

واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه،


وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه،

والإضراب عنه صفحا وإنكاره، وعدم الإيمان به

فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم،

ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال:

{ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ }



البرهان 236




من سورة الأنبياء


{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *

قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *

قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ *

قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ

وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * }



{ 51 - 56 ْ}




{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ }

أي: من قبل إرسال موسى ومحمد ونزول كتابيهما،

فأراه الله ملكوت السماوات والأرض، وأعطاه من الرشد،

الذي كمل به نفسه، ودعا الناس إليه،

ما لم يؤته أحدا من العالمين، غير محمد،

وأضاف الرشد إليه، لكونه رشدا، بحسب حاله، وعلو مرتبته،

وإلا فكل مؤمن، له من الرشد، بحسب ما معه من الإيمان.

{ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي: أعطيناه رشده، واختصصناه بالرسالة والخلة،

واصطفيناه في الدنيا والآخرة، لعلمنا أنه أهل لذلك، وكفء له، لزكائه وذكائه،

ولهذا ذكر محاجته لقومه، ونهيهم عن الشرك، وتكسير الأصنام، وإلزامهم بالحجة،



فقال: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ }

التي مثلتموها، ونحتموها بأيديكم، على صور بعض المخلوقات

{ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ }

مقيمون على عبادتها، ملازمون لذلك،

فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟

وأين عقولكم، التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟

والحال أنكم مثلتموها، ونحتموها بأيديكم،

فهذا من أكبر العجائب، تعبدون ما تنحتون.





فأجابوا بغير حجة، جواب العاجز، الذي ليس بيده أدنى شبهة

فقالوا: { وَجَدْنَا آبَاءَنَا }

كذلك يفعلون، فسلكنا سبيلهم، وتبعناهم على عبادتها،

ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة،

ولا تجوز به القدوة، خصوصا، في أصل الدين،

وتوحيد رب العالمين،



ولهذا قال لهم إبراهيم مضللا للجميع:

{ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

أي: ضلال بين واضح،

وأي ضلال، أبلغ من ضلالهم في الشرك، وترك التوحيد ؟

" أي: فليس ما قلتم، يصلح للتمسك به،

وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح، البين لكل أحد.





{ قَالُوا } على وجه الاستغراب لقوله، والاستعظام لما قال،

وكيف بادأهم بتسفيههم، وتسفيه آبائهم:

{ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ }

أي: هذا القول الذي قلته، والذي جئتنا به، هل هو حق وجد؟

أم كلامك لنا، كلام لاعب مستهزئ، لا يدري ما يقول؟

وهذا الذي أرادوا، وإنما رددوا الكلام بين الأمرين،

لأنهم نزلوه منـزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد،

أن الكلام الذي جاء به إبراهيم، كلام سفيه لا يعقل ما يقول،



فرد عليهم إبراهيم ردا بين به وجه سفههم، وقلة عقولهم فقال:

{ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ

وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ }

فجمع لهم بين الدليل العقلي، والدليل السمعي.





أما الدليل العقلي،

فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم،

أن الله وحده، الخالق لجميع المخلوقات، من بني آدم، والملائكة، والجن،

والبهائم، والسماوات، والأرض، المدبر لهن، بجميع أنواع التدبير،

فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه،

ودخل في ذلك، جميع ما عبد من دون الله.




أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز،

أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه، لا يملك نفعا، ولا ضرا،

ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا،

ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر ؟





أما الدليل السمعي:


فهو المنقول عن الرسل عليهم الصلاة والسلام،

فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق،

ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم:


{ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ }

أي: أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل


{ مِنَ الشَّاهِدِينَ }

وأي شهادة بعد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟

خصوصا أولي العزم منهم

خصوصا خليل الرحمن.

البرهان 237



من سورة الأنبياء



{ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ *

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ *

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ *

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ *

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ *

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ *

أُفٍّ لَكُمْ

وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ *

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ *

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * }

{ 57 - 70 }


ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء

أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها

وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك

فلهذا قال: { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } أي أكسرها على وجه الكيد

{ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } عنها إلى عيد من أعيادهم،

فلما تولوا مدبرين، ذهب إليها بخفية

{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا } أي كسرا وقطعا،

وكانت مجموعة في بيت واحد، فكسرها كلها،

{ إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ } أي إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه،


وتأمل هذا الاحتراز العجيب،

فإن كل ممقوت عند الله، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه،

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول:

" إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم " ونحو ذلك،

ولم يقل " إلى العظيم "

وهنا قال تعالى: { إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ } ولم يقل " كبيرا من أصنامهم "

فهذا ينبغي التنبيه له،

والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه.


وقوله: { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا

لأجل أن يرجعوا إليه، ويستملوا حجته، ويلتفتوا إليها، ولا يعرضوا عنها

ولهذا قال في آخرها: { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ }

فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي

{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ }

فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها

ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده،

وإنما الظالم من اتخذها آلهة، وقد رأى ما يفعل بها



{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } أي: يعيبهم ويذمهم،

ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها

أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها

{ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } فلما تحققوا أنه إبراهيم

{ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ } أي: بإبراهيم

{ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } أي بمرأى منهم ومسمع

{ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم،

وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس

ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة،


كما قال موسى حين واعد فرعون:

{ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى }


فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له:

{ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا } أي: التكسير { بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ }؟

وهذا استفهام تقرير،

أي: فما الذي جرأك، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟.


فقال إبراهيم والناس شاهدون: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }

أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه،

وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده،

وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه،


ولهذا قال: { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ }

وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟

والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها،

إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك،

وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم،

ولا تنفع ولا تضر،

بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.


{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ }

أي: ثابت عليهم عقولهم، ورجعت إليهم أحلامهم،

وعلموا أنهم ضالون في عبادتها،

وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك،


{ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } فحصل بذلك المقصود،

ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم،

ولكن لم يستمروا على هذه الحالة،

ولكن { نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي: انقلب الأمر عليهم،

وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم،


فقالوا لإبراهيم: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ }

فكيف تهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟ .


فقال إبراهيم - موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الأشهاد،

ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة-:

{ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ }

فلا نفع ولا دفع.

{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم،

وما أخسكم، أنتم وما عبدتم من دون الله،

إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال،

فلما عدمتم العقل، وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة،

صارت البهائم، أحسن حالا منكم.



فحينئذ لما أفحمهم، ولم يبينوا حجة، استعملوا قوتهم في معاقبته،

فـ { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }

أي: اقتلوه أشنع القتلات، بالإحراق، غضبا لآلهتكم، ونصرة لها.

فتعسا لهم تعسا،

حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم، واتخذوه إلها،

فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار

وقال لها: { كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }

فكانت عليه بردا وسلاما،

لم ينله فيها أذى، ولا أحس بمكروه.


{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} حيث عزموا على إحراقه،

{ فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } أي: في الدنيا والآخرة،

كما جعل الله خليله وأتباعه، هم الرابحين المفلحين.



البرهان 238


من سورة الأنبياء



{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ

أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ

وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }

{ 83 - 84 }


أي: واذكر عبدنا ورسولنا، أيوب

- مثنيا معظما له، رافعا لقدره -

حين ابتلاه، ببلاء شديد، فوجده صابرا راضيا عنه،


وذلك أن الشيطان سلط على جسده، ابتلاء من الله، وامتحانا

فنفخ في جسده، فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة،

واشتد به البلاء، ومات أهله، وذهب ماله،



فنادى ربه: رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ

وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه،

وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ،

وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له،


وقال له:

{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }

فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة

فاغتسل منها وشرب، فأذهب الله عنه ما به من الأذى،



{ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ } أي: رددنا عليه أهله وماله.

{ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ }

بأن منحه الله العافية من الأهل والمال شيئا كثيرا،


{ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } به،

حيث صبر ورضي، فأثابه الله ثوابا عاجلا قبل ثواب الآخرة.


{ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ }

أي: جعلناه عبرة للعابدين،

الذين ينتفعون بالعبر،

فإذا رأوا ما أصابه من البلاء،

ثم ما أثابه الله بعد زواله،

ونظروا السبب، وجدوه الصبر،

ولهذا أثنى الله عليه به في قوله:

{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }

فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر.




البرهان 239


من سورة الأنبياء




{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *


فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ

وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

{ 87 - 88 }



أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس،

أي: صاحب النون، وهي الحوت،

بالذكر الجميل، والثناء الحسن،

فإن الله تعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم،

فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.

[فجاءهم العذاب] ورأوه عيانا، فعجوا إلى الله، وضجوا وتابوا،

فرفع الله عنهم العذاب


كما قال تعالى:

{ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا

إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }

وقال:

{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ

فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }


وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله.

ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا،

وأبق عن ربه لذنب من الذنوب،

التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [لقوله:

{ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: فاعل ما يلام عليه]

والظاهر أن عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم

قبل أن يأمره الله بذلك، ظن أن الله لا يقدر عليه،

أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى،

ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق

على وجه لا يستقر، ولا يستمر عليه،




فركب في السفينة مع أناس،

فاقترعوا، من يلقون منهم في البحر؟

لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم،

فأصابت القرعة يونس، فالتقمه الحوت،

وذهب به إلى ظلمات البحار، فنادى في تلك الظلمات:


{ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }

فأقر لله تعالى بكمال الألوهية،

ونزهه عن كل نقص، وعيب وآفة،

واعترف بظلم نفسه وجنايته.


قال الله تعالى:

{ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ*

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }



ولهذا قال هنا:

{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ }

أي: الشدة التي وقع فيها.

{ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم،

أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف لإيمانه

كما فعل بـ " يونس " عليه السلام.













 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
لن, المجيد, التوحيد, القرآن, براهين, في


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ثمرات التوحيد السعيد رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 15 10-22-2018 12:07 PM
تهنئتي بمناسبة نصر أكتوبر المجيد القلب الكبير رِيَاضُ التَهَانِي وَ الإهْدَاءَات 2 10-13-2016 09:29 AM
توثيق أعمال المصممه ريم المجيد ابوفهد رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" 9 04-06-2016 08:30 PM
العلاقة بين التوحيد والاستغفار منال نور الهدى رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 3 05-01-2014 04:49 AM
زوجان مسنان ينتحران متعانقي الأيدي في الفندق الذي تعرفا فيه! محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 4 12-08-2013 07:01 PM


الساعة الآن 08:08 AM