حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 08-20-2018, 01:55 PM   #11


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الحادى العاشر )

الموضوع : سيدنا سالم مولى ابى حذيفة





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
نصيحة لك أيها المسلم ينبغي أن يسمعها قلبك قبل عقلك :

أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الحادي عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عنهم، صحابي اليوم سيدنا سالم مولى أبي حذيفة, ولهذا الاسم قصة تسمعونها بعد قليل، ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل، يجب أن تعلموا أن أصحاب رسول الله ما استطاعوا أن ينشروا الإسلام في الخافقين إلا لأنهم عاشوا القيم الإسلامية، وحينمــا ترون المسلمين الآن يزيدون على ألف ومئتي مليون، وليست كلمتهم هي العليا، وليست إرادتهم هي النافذة، فيجب أن نستنبط أو يجب ألا نتهم الله في وعده بل نستنبط أن ديننا كأن القيم فرغت منه, وبقي شكلاً بلا محتوى، بقي مظاهر بلا مضمون، بقي طقوساً بلا مشاعر .

المرتبة العلمية التي حازها سالم مولى أبي حذيفة من رسول الله :
قصة اليوم لا تقل شأناً عن قصة الأسبوع الماضي، النبي عليه الصلاة والسلام أوصى أصحابه يوماً, فقال:
((خذوا القرآن عن أربعة: تلاوةً، وفهماً، وأحكاماً، ودراسةً ومعرفةً، ودرايةً، عن عبد الله بــن مسعود, وعن سالم مولى أبي حذيفة, وعن أبــــي بن كعب, وعن مــــعاذ بن جبل))

سـالم ممن شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ماهر في القرآن، إلى درجة أن النبي أمر أصحابه أن يـأخذوا عنه، أن يتعلموا منه، إذاً: بـلغ مرتبة التفوّق في التلاوة والفهم .
النبي يأمر أصحابه الأجلاء أن يجلسوا أمامه, وأن يأخذوا عنه القرآن، أن يتتلمذوا على يديه، وأن يقتبسوا من علمه، وأن يستنيروا بنوره، قالوا: إنه عبد رقيق .
أرأيتم أيها الأخوة إلى مجتمع الطبقة الواحدة، أرأيتم أيها الأخوة كيف أن قيم الإسلام عاشها أصحاب النبي؟ أرأيتم أيها الأخوة كيف أن في الإسلام قيمتين فقط قيمة العلم والعمل، وما سوى هاتين القيمتين تحت الأقدام، عبد رقيق يأمر رسول الله أصحابه وهم من علية قريش أن يجلسوا أمامه متأدبين ليتعلموا منه القرآن .
من الذي رفع شأن هذا العبد الرقيق, وجعله سيداً من أسياد البشر؟ الذي رفعه الإسلام. ما هي قيمة الشاب التائب عند الله ؟
أيها الأخ الكريم, العلم يرفعك، والقرآن يرفعك، وطهارتك ترفعك، وعفتك ترفعك، وورعك يرفعك، واستقامتك ترفعك، وتمثلك بالقيم الإسلامية ترفعك، كل إنسان يحب أن يكون ذا شأن، هذه فطرة، هذا شيء جبلنا عليه، تحب أن تأكل لتبقى حياً، تحب أن تتزوج ليبقى نوع البشرية، تحب أن تكون ذا شأنٍ، ليخلد ذكرك، هذا ميل فطري .

الإسلام، والقرآن، واتّباع النبي عليه الصلاة والسلام، هو الذي جعل هذا العبد الرقيق نقف أمام قصته متأدبين ونتحدث عنه مجلين مكبرين إنه سيدنا سالم مولى سيدنا حذيفة, كان رقيقاً وأعتق وآمن بالله وبرسوله إيمانا مبكراً, وتعقيباً على كلمة مبكراً، فأنا والله أُكبر الأخ الكريم الذي قَدِمَ إليّ صغيراً، وترعرع في بيت من بيوت الله، شيء رائع جداً أن تتعرف إلى الله وأنت غض العود، وأنت في مقتبل العمر، تشكل حياتك، تشكل علاقاتك، تختار أصدقاءك، تنتقي حرفتك، وتفهم مهنتك وفق الشرع, ووفق قواعد الدين، ووفق منهج رب العالمين .
لذلك ريح الجنة في الشباب، والنبي شجع الشباب ورفع من شأنهم حينما عين شاباً في سنهم قائداً لجيش فيه أبي بكر، وعمر, وعثمان، وعلي .
لذلك قالوا: من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة, يعني أنه جميل بالإنسان أن يتوب إلى الله مبكراً، لكن بالسبعين فقدت التوبة جمالها فقد أكل حتى مل الطعام، وما خلا منه محل، حتى مل النزهات، نفسه عزفت عن الدنيا، ليس غير الآخرة أمامه، لكنّ الأجمل من هذا، أن ترى شاباً يتقد حيويةً, يغلي نشاطاً, مقبلاً على الدنيا، كل شيء عنده جديد ، ومع ذلك يلتفت إلى الله عز وجل .

لذلك فالله جل جلاله يباهي الملائكة بالشاب التائب, يقول:

((انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
يعني استقامة الشاب على أمر الله تعدل عند الله استقامة ألف إنسان تجاوز الخمسين ثم استقام على أمر الله, لأن كل سن له ترتيب، كل سن له اهتمامات، لعلك تلاحظ أكثر الناس الذين أسرفوا في المعاصي في حياتهم بالخمسينات بدأ يصلي، واتجه إلى المساجد، طبعاً لأنه أزف وقت الرحيل، شيء طبيعي جداً، حينما أزفت الآزفة، حينما اقترب أجله، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين, وهذا صار بالستين، تجده صار أميل للدين، أميل للمساجد, أميل للدروس, شيء جميل, لكن الأجمل وأنت في السابعة عشرة، في الثامنة عشرة, بالعشرين بالخامسة والعشرين تريد الله ورسوله، تريد معرفة الله, تريد إتقان القرآن، تريد أن يكون الله راضياً عنك، هذا شيء جميل جداً . من هو سالم مولى أبي حذيفة ؟
من هو سالم مولى أبي حذيفة؟ أبو حذيفة تبناه، فلما نزل القرآن الكريم بتحريم التبني صار اسمه سالم مولى أبي حذيفة، كان اسمه سالم بن أبي حذيفة، فقد حّرم الله التبني، وبالمناسبة هذا العبد الرقيق لا يعرف من أبوه، وليس هذا يقدح في نسبه، لأنه أشتري من سوق العبيد، واشتراه رجل، فلا هو يعرف من أبوه، ولا أحد ممن حوله يعرف من أبوه, فلما نزل قوله تعالى في تحريم التبني، فإلى من ينسب إذاً؟ سيدنا أبو حذيفة, قال: هو مولاي، فصار اسمه سالم مولى أبي حذيفة .

كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل آخى سيدنا أبي حذيفة وصارا أخوين في الله، وهذا ينقلني إلى ما كنت صبوت إليه من قبل أن كل أخ منكم لا بد له من أخ يكون وليه، يكون أخاه في الإسلام، وهو أخوه في الله، هذه الأخوة في الله لها معانٍ كثيرة، ففيها تعاون, وتفقد، ومواساة، وبث هموم، يعني معاونة على أمر الدين والدنيا أي أن أقل مرتبة أنه إذا غاب الشخص فهناك من يسأل عنه، هناك من يبلغ أن فلاناً اليوم ما جاء، فإذا تفقدناه يشعر بمكانته ، يعني أنا مصرٌّ على هذا الطلب، وهذا ورد في القرآن الكريم, قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾
( سورة سبأ الآية: 46)
﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
( سورة سبأ الآية: 46)
اثنان اثنان, قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
( سورة الحجرات الآية: 13)

مما يلفت النظر في سيرة هذا الصحابي أنه كان حجة في كتاب الله، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يتعلموا منه وكان إماماً للمهاجرين من مكة إلى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء .
مسجد قباء هو المسجد الذي في ظاهر المدينة، وهو الموقع الذي استقبل عنده أصحاب رسول الله من الأنصار المؤمنين قبل أن يروا رسول الله .
بلغ من التفوق في القرآن، ومن الورع والإخلاص، ومن حب النبي عليه الصلاة والسلام, حتى قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام:
((الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك))

يعني الإنسان يقاس بمن معه، هناك أتباع بلغوا درجة عالية جداً من الرقي، ومستوى عالياً من الفهم والإيمان، والتواضع والمعاونة، والوقوف في الملمات، والإيثار والتضحية, الإنسان لا يقاس أتباعه بعددهم بل بنوعيتهم، أحياناً تجد في ملعب كرة خمسة وثلاثين ألفاً، كلهم يهيج ويموج، لدخول كرة بالمرمى، فكان القيامة قامت، تعجب ما الذي حصل؟ ما هذا الذي جعل الناس يهيجون؟ وقع أربعون قتيلاً مرة في بعض المباريات, وينقلب الأمر إلى توحش أحياناً, قال تعالى:
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾
( سورة الكهف الآية: 105)

وهذا الذي أقوله لكم دائماً: واحد كألف وألف كأف، ربنا عز وجل وصف أهل الدنيا, فقال: ﴿صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾
( سورة الأنعام الآية: 124)

شيء آخر, سيدنا سالم رضي الله عنه كان أخوانه المؤمنون, يقولون عنه: سالم من الصالحين, فالصحابة كانوا جميعاً يحبونه، حتى إنهم وضعوه من الصالحين . إليكم موقف هذا الصحابي في هذه القصة الذي قر عين النبي له :
هذا الصحابي له مزايا، وبالمناسبة فأصحاب النبي عليهم رضوان الله، كل واحد منهم تفوَّق في ناحية، هذا في شجاعته, هذا في حلمه، هذا في حيائه، هذا في كرمه، هذا في إنصافه ، هذا في شدته في الحق، هذا في عفوه، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع كل الفضائل، لذلك خضعوا له .

أنت ممكن أن تجعل في مستشفى ثلاثمئة طبيب، وتختار واحداً منهم يكون مدير المستشفى، لكن إن لم يكن هذا المدير أعلى مستوى في العلم من كل الأطباء لا ينصاعون له، بل يتمردون عليه، الإنسان العالي يأبى أن يخضع للأدنى، فهل يمكن لإنسان يحمل شهادة عليا وتضعه تحت إمرة إنسان يحمل ابتدائية؟ طبعاً سيكشف حاله وقصوره وأن الفرق كبير جداً, النبي عليه الصلاة والسلام إن لم يكن كاملاً في كل النواحي لما أستحوذ على قلوب أصحابه، لذلك رحم الشاعر إذ يقول:

وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خلقت مُبرّأً من كل عيـبٍ كأنك قد خلقت كما تشاء

فسيدنا سالم كان جريئاً بالحق، وأحياناً الجرأة مهمة جداً، يعني الجرأة أحياناً ينتج منها خيرٌ كثير، هذه الجرأة بدت في قصة، وهي محور الدرس, وهذه القصة نموذجية، تبين عظمة الإسلام، وتبين عظمة هذا النبي العظيم .

فبعد أن فتحت مكة للمسلمين بعث النبي عليه الصلاة والسلام ببعض السرايا إلى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه الصلاة والسلام إنما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين, وكان على رأس إحدى السرايا سيدنا خالد بن الوليد، وحينما بلغ خالد وجهته حدث ما جعله يستعمل السيف ويريق الدم، وقع أمر اقتضى أن يحارب سيدنا خالد مع أن التوجيه الذي معه ألا يحارب، والتوجيه خلاصته دعوة لا قتال .
يروي كتاب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع بهذه الواقعة اعتذر إلى الله عز وجل، وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد))
كم في النبي من رغبة في حقن الدماء؟ كم عند النبي من رغبة في نشر السلام؟ كم كان حريصاً على حياة الناس؟ كم كان حريصاً على أن يحيا الناس بسلام؟ كم كان حريصاً على أن ينشر هذا الإسلام بالدعوة السلمية لا بالسيف؟ .
سيدنا عمر بن الخطاب فيما يروي التاريخ كان متألماً جداً من هذا الموقف، وبالمناسبة الصحابة مع عُلوّ شأنهم، ومع سبقهم، وتفوقهم, هل هم معصومون؟ لا ليسوا معصومين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم، والقاعدة الشهيرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، لكن أمته معصومة بمجموعها .

كان سيدنا سالم مولى أبي حذيفة مع سيدنا خالد في هذه الواقعة, ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، سيدنا خالد القائد، القرشي، البطل، العظيم في الجاهلية ، وفي الإسلام، ينصت مرةً إلى سيدنا سالم، عبد رقيق يناقش قائد جيش, وهذا القائد يصغي إليه، ويعتذر له, ويبين وجهة نظره تارةً, ويسكت تارةً، ويشتد في القول سالم، وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيب أو مداراة، الإسلام سوّى بينهما، سوّى بين خالد وبين سالم، سالم عبد رقيق، وخالد من وجهاء قريش، لكن لا شك أن سيدنا سالم ما عارضه حباً في المعارضة, وفي زماننا المعارضة هي الهدف، إثبات وجود عملية إزعاج، عملية تحجيم، عملية تجريح، عملية كيد, عمليــة تفوق، يعني أهداف خسيسة جداً، الأهداف خسيسة لخساسة النفوس .
شخص قال لآخر: والله أنا أود أن أحضر المولد في هذا الجامع, قال له صاحبه: لِمَ؟ فقال له: والله القائم على المولد له خصومة مع فلان, فأنا كيداً لفلان سألبي دعوتــه، الله يعطيه العافية على هذه التلبية، تلبية هذه الدعوة فقط ليكيد فلاناً، دعوة عيد مولد من أجل المكايدة إنها مستويات متدنية جداً بالمجتمع .

أما القاعدة الأساسية, إذا عز أخوك فهن أنت، وما المانع؟ أنت في مجلس, وأخوك أنطلق بالحديث، أيده, من علامات الإخلاص القاطعة, أن المخلص لله دائماً يغلّب مصلحة المسلمين على مصلحته الشخصية، ففي اللحظة التي تغلّب فيها مصلحتك الشخصية على مصلحة المسلمين العامة فهذا دليل عدم إخلاصك، وهو دليل قطعي .
يروي التاريخ أن رجلاً جاء لسيدنا الصديق، إذ عرضت له قضية فأراد سيدنا الصديق أن يأخذ رأي سيدنا عمر، ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران الآية: 159 )

فقال سيدنا الصديق للرجل: أعرضها على عمر, يبدو أن عمر رفض الأمر من عنده وحسمه، فهذا الشخص صاحب الحاجة وقع في حرج شديد، وقع في غيظ شديد، فتوجه إلى سيدنا الصديق، وأراد أن يوقع بينهما, فقال له: الخليفة أنت أم هو؟ فأجابه إجابة رائعة, قال له : هو إذا شاء ولا فرق بيننا .
في أحد الغزوات تفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة, فقال أحدهم:
((يا رسول الله! شغلته البساتين, والظلال، والفواكه، فتصدى له صحابي آخر, و قال له: لا والله، ثم قال: والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك، تبسم النبي عليه الصلاة والسلام، وفرح بهذا الدفاع))
يجب أن تدافع عن أخيك، أيغتاب أخ لك وتظل ساكتاً؟ أمعقول أن يأكل المؤمن مالاً ليس له؟ فالمواقف الانهزامية عديدة, وأنت تعلم علم اليقين أنه مستقيم، ونظيف، وبريء، وطاهر، وورع، وعفيف، فادفع عن أخيك المؤمن، من دون أن تخش بالله لومة لائم . محور القصة :
الحقيقة أن هذه القصة مهمة جداً، فمركز القصة أو محورها، أو بيت القصيد فيها، أو مركز الثقل فيها، أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه صنيع خالد بن الوليد سأل, وقال:
((هل أنكر عليه أحد؟ فقالوا له: نعم راجعه سالم وعارضه، فارتاح النبي عليه الصلاة والسلام))
فلماذا أرتاح النبي؟ هل عندكم إجابة؟ نعم لا تجتمع أمتي على ضلالة، فلو سكت سالم لاجتمع القوم على ضلالة، وهذا يتنافى مع مجتمع المسلمين, لكن اليهود وصفهم الله عز وجل بأنهم: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾
( سورة المائدة الآية: 79 )
جيد، طبعاً الإجابة بالعكس، إذ كان أصحاب النبي يتناهون عن أي منكر فعلوه, لأنه وجد من بين أصحابه من لا يخافه، يعني النبي الكريم ربىّ أصحابه تربية المراجعة، تربية الجرأة, وتربية النقد البناء، وتربية عدم قبول الخطأ، وتربية إنكار المنكر, فلما رأى النبي أن أحد أصحابه راجع سيدنا خالداً ارتاح عليه الصلاة والسلام، يعني التربية صحيحة، أما لو ورباهم على الخضوع، رباهم على النفاق، لِما وجد من يناقش القائد .
الكتاب والسنة هما مرجعية المسلم في وضع المقاييس والموازين العلمية :
أما سيدنا عمر، والقصة معروفة عندكم، فقد كان بين أصحابه واحد أراد أن يتقرب منه بمدحه, قال له:
((والله يا أمير المؤمنين، ما رأينا أفضل منك بعد رسول الله, فسيدنا عمر نظر إليهم مغتاظاً، وتفرس في وجوههم واحداً واحداً إلى أن قال أحدهم: لا والله، لقد رأينا من هو خير منك, قال له: من هو؟ قال له: أبو بكر، فقال سيدنا عمر: كذبتم جميعاً وصدق, سيدنا عمر عد سكوتهم كذباً))
مجرد سكوتهم كذباً، قال: ((والله كنت أضل من بعيري, وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك))

فأنت ممكن أن تربي أخوانك على الخنوع، والسكوت، وعدم الاعتراض، والنفاق، والمديح الكاذب، وممكن أن تربّي أخوانك على الجرأة, والنقد البناء، والمعارضة، بل يجب ألا تقبلوا شيئاً ليس مؤيداً بالدليل, وبهذا فالإسلام يعطي للناس مقياساً دقيقاً، يقيسون فيه الأمور وفق الكتاب والسنة, قال تعالى:
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾
( سورة الكهف الآية: 71)
وعندنا دليل في كتاب الله تعالى, واقعية سيدنا الخضر مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام, فقد قبل الخضر منه واستمهله، والله عز وجل في هذه القصة يمدح سيدنا موسى، فلما عرف أنه ما فعله إلا عن أمر الله وبين الحكمة، سكت .
معناها أنت يجب أن تبنى بناء صحيحاً، بناء على أسس سليمة, بناء على موازين، على مناهج، على مقاييس، وليس السماع وتصديق كل شيء, لا، وهذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إنما الطاعة في معروف))

هكذا كان أصحاب رسول الله، يتناصحون, والقاعدة أن الذي يمدحك لا يرقى بك، لكن الذي ينتقدك ويعارضك يرقى بك، ولا شيء يجعل المنحرف يزداد انحرافاً كسكوت من حوله, ونحن المسلمين ما عندنا اتباع أعمى, قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
( سورة يوسف الآية: 108 )
اتباع أعمى ليس عندنا، بل الحق حق، والباطل باطل, والموازين واضحة، والموازين في الكتاب والسنة, قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
( سورة النساء الآية: 59 )
أي إلى الكتاب والسنة . إليكم المعركة التي استشهد فيها سالم وقدم روحه الزكية في سبيل إعلاء راية الإسلام :
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, وواجهت خلافة الصديق مؤامرات المرتدين, وجاء يوم اليمامة، وكانت حرباً رهيبةً لم يُبتلَ الإسلام بمثلها, وخرج المسلمون للقتال، وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة, وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم، وأحس كل مؤمن أن المعركة معركته، وأن المسؤولية مسؤوليته, وجمعهم خالد من جديد، وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة, وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة، وقذفا نفسيهما في الخضم الرهيب, كان أبو حذيفة, يقول وينادي:
((يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم))
هذه النقطة تحتاج إلى إيضاح، والقرآن كلام الله عز وجل، إن وجدته في مجتمع يتلى ولا يطبق, هل هذا يعني زيناه بأعمالنا؟ لا والله .
مثلاً, إذا رأيت في المحافظة مخططات للحدائق رائعة جداً, مساحات خضراء، أشجار الصنوبر، هنا ممرات، هنا بحيرات، هنا مدرج للمحاضرات، وهناك مجمع استهلاكي، إذا أنت وقفت في بناء المحافظة, ورأيت أشياء جميلة, وذهبت إلى المدينة، ولم تجد من ذلك شيئاً ، بل رأيت مجمع قمامة، وأمكنة خربة، فالفرق كبير جداً, لكن لو أن كل هذه المخططات التي رأيتها في المحافظة وجدتها في الواقع فعلاً مساحات خضراء، وحدائق جميلة, وشلالات، و طرق نظيفة، وأرصفة، إضاءة جيدة في الشوارع، كل شيء رأيته على المخطط رأيته في الواقع، فهذا يعني أن هذه الخارطة وهذا التصميم مزين بالواقع الجيد .

((يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم, وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب، وكان سالم يصيح هذا أبو حذيفة, أما سيدنا سالم, فقد قال: بئس حامل القرآن أنا، لو هوجم المسلمون من قبلي)) انظر الجمع بين تلاوة القرآن، وبين شجاعة الجنان, فقيل له :
((حاشاك يا سالم, بل نعم حامل القرآن أنت))
قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 146 )
>
وكان سيف هذا الصحابي الجليل جوالاً، صوالاً، في أعناق المرتدين، وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها، وكان يحمل بها راية المهاجرين، بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب، ولما رأى يمناه تبتر التقط الراية بيسراه، وظل يلوح بها إلى أعلى, وهو يصيح تالياً الآية الكريمة:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 146 )
أحياناً ترى أخاً على الرخاء شغله جيد، وأعماله، و صحته, وبيته كذلك، وفجأة فقد وظيفته، وتغير وضعه، يسأل: ماذا فعلت؟ معناها أنت مالك عبد الفتاح بل أنت عبد الفتح، الأمور ما دامت ميسرة فأنت راضٍ، لكن الله عز وجل امتحنك، البطولة أن تكون مقبلاً في الشدة لا في الرخاء, سيدنا سالم تلا هذه الآية, ثم أحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل ، ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب، واندحار جيشه، وانتصار جيش المسلمين, وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النزع الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة .
قصص وقعت في التاريخ تكاد تكون غريبة عن أذهاننا :
وفي التاريخ الإسلامي مشاهد يكاد العقل لا يصدقها، ثلاثة جرحى اسألوا طبيباً جراحاً إذا أجرى عملية لإنسان, وفقد جزءاً من دمه, يعني يصبح الماء أغلى عليه من روحه ، يطلب ماء كثيراً، كل إنسان أصابه نزف تنشأ عنده حالة عطش غير معقولة, فهؤلاء الصحابة الثلاثة، جاءهم شخص ليسقي الماء, فسأل أول شخص: هل لك بالماء حاجة؟ قال له:

((اسقِ أخي لعله أحوج مني، ذهب إلى الثاني, فقال له: اسقِ أخي لعله أحوج مني، فذهب إلى الثالث فرآه قد مات، رجع إلى الثاني فرآه قد مات، ثم رجع إلى الأول فرآه قد فارق الحياة))
وهذا غاية الإيثار, فهل هناك إنسان يؤثر غيره على نفسه وهو في النزع الأخير؟ هكذا ربى النبي أصحابه على المؤاثرة والتضحية .
لولا الصحابة الكرام لما انتشر الإسلام إلى الأفاق, لكن بأخلاقهم النادرة وبالقيم العالية لديهم رفرفت رايات الإسلام بعيداً في الآفاق, والله يا أخوان سأقول لكم كلمة: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
( سورة الحشر الآية: 9 )
الناس لا يرغبون بجامعكم، ولا فيكم، بل يرغبون بأخلاقكم، أخلاقكم وحدها هي التي تؤكد حقيقة هذا الدين العظيم، لأن الدين ربّى أناساً أبطالاً، ربى أناساً أعفــة, ربى أناساً منصفين، ربى أناساً موحديـن، ربى أناساً متماسكين، ربى أناساً متبادلين، ربى أناساً يؤثرون على أنفسهم .
أخر كلمة تكلم بها سالم وهو في رمقه الأخير :
سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, ماذا سألهم؟ وقبل أن أجيب نعرج على حادثة طعن سيدنا عمر قبل صلاة الفجر، طبعاً أغمي عليه إذ فقد جزءاً كثيراً من دمه، ثم إنه صحا من غيبوبته, قال:
((هل صلى المسلمون الفجر؟))

فما أهمه إلا شيء واحد, هل صلى المسلمون الفجر؟ سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, قال:
((ماذا فعل أبو حذيفة طمئنوني عنه؟))
هناك صحابي جليل سعد بن الربيع تفقده النبي فما وجده، فسأل أناس يتفقدونه في ساحة المعركة، الذي كلفه النبي أن يتفقده رآه بين الموت والحياة, قال له: ((يا سعد, هل أنت بين الأموات أمْ بين الأحياء؟ قال له: والله أنا مع الأموات, ولكن أبلغ رسول الله وأقرئه السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص أحد إلى نبيكم وفيكم عين تطرف))
إنسان على فراش الموت، أو في النزع الأخير، على وشك مغادرة الدنيا، لا ينسى فضل النبي عليه .
فسيدنا سالم, قال: ما فعل أبو حذيفة؟
قالوا: استشهد .
قال: أضجعوني إلى جواره ـانظروا إلى صدق المؤاخاة ـ قالوا: إنه إلى جوارك يا سالم، لقد استشهد في المكان نفسه, وابتسم ابتسامته الأخيرة، ولم يتكلم .
لقد عاش سالم وأبو حذيفة معاً، وأسلما معاً، واستشهدا معاً, أما الشيء الغريب أن سيدنا عمر بن الخطاب، عملاق الإسلام الخليفة الراشد، ثاني الخلفاء الراشدين، يقول وهو على فراش الموت: ((لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي))
ما هو المطلوب من المسلم المعاصر ؟
أنا كل ما أرجوه منكم لكي نجعل هذا الدرس ذا فائدة، أن نحاول أن نطبق هذا الذي نسمعه فيما بيننا، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، بقدر إمكانكم أقيموا المحبة بينكم، والمؤاخاة ، والتضحية, والإيثار، والجرأة، لا تجاملوا بعضكم أبداً، لكن بأدب, تناصحوا من دون فضيحة بعضكم بعضاً .
فكل أخ ليكن له أخ، أخ حميم، عاونه في دنياه، في أخراه, إذا أحتاج إلى مال أقرضه , حتى نستدرّ عطف الله عز وجل علينا جميعاً، لأن يد الله مع الجماعة، ويد الله على الجماعة ، فالتناصح التناصح .
فهذه الدروس اجعلوها واقعاً ترقوا بها، وإذا جعلتموها معلومات سمعتموها، وقلتم: الدرس حلو, وكان ممتعاً، فهذا كلام فارغ, وصار الدرس عندئذٍ تسلية، أما إذا عشنا هذه المعاني, فلك صديق أو أخ فعاونه, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
إننا نريد مجتمع المسلمين، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، نحس أننا في مجتمع له قيم خاصة، قيم الدين, وطبقة واحدة, فلا أحد أحسن من أحد, كلكم لآدم وآدم من تراب، لا المال له قيمة عندنا، ولا الصحة، ولا الجمال, ولا الوسامة، ولا النسب، ولا الحسب، الإنسان قيمته باستقامته وعمله .

سيدنا سالم في الطبقة الدنيا من المجتمع، يعني أقل طبقة, هي طبقة العبيد، قال عمر:

((لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي))
هذا هو الإسلام .
نحن نريد مؤاثرة، تضحية، معاونة، وأن يحس الإنسان الذي يقبل على الجامع أن هذا الجامع بيت الله، وكل من فيه أحباب الله، لا حسد, لا ضغينة، ولا نقد، ولا استعلاء, ولا كبر، لكن هناك أشخاص قناصون ينتظر منك خطيئة، ومتى ما علقت فضحك, هذا مجتمع الذئاب، مجتمع المنافقين، مجتمع المنحرفين، إننا نريد مجتمع المسلمين, ونريد الإسلام واضحاً فيما بيننا . الهدف الذي يرنو إليه أستاذنا النابلسي :
فنحن ما أردنا من هذه القصص التسلية، هي قصص ممتعة، لكن ما أردت منها إلا أن نجعلها نبراساً لنا، مفاهيم نطبقها في حياتنا
فهذان الصحابيان لبعد ألف وخمسمئة سنة، نقرأ سيرتهما, فيتعطر بهما المجلس, مجتمع القيمة الواحدة لا القيم العديدة، وليست قيماً مادية بل كلها قيم روحية، قيم أخلاقية, والنبي الكريم, يقول:

((الحمد لله الذي جعل في أصحابي مثلك))
هذا كلام سيدنا رسول الله، وسيدنا عمر, يقول: ((والله لو كان سالم حي لوليته الأمر من بعدي))
هذا الذي والله أتمناه، وكلما حرصنا على تطبيق هذه المواقف، وهذه السنن كلما ارتقينا عند الله .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 01:58 PM   #12


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثانى العاشر )

الموضوع : سيدنا مصعب بن عمير






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لفتة نظر :

أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الثاني عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين, صحابي اليوم شاب متألق أشد التألق, كان مضرب المثل في شباب قريش، إنه مصعب بن عمير .
قبل أن أمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل، لا بد من تعليق ضروري، لماذا ندرس سير صحابة رسول الله؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام, يقول:

((إن الله اختارني، واختار لي أصحابي))
فأصحابه نماذج للبطولة، فأحدنا إذا قرأ سير صحابة رسول الله، لا بد من أن يجد في بعض الصحابة ما ينطبق عليه، فيعد هذا الصحابي إذاً لهذا الأخ الكريم قدوة .
كيف أسلم مصعب بن عمير وكيف كانت حياته قبل الإسلام ؟
سيدنا مصعب بن عمير، شاب من شباب مكة الذين يشار إليهم بالبنان، منحه الله وسامة ونجابة، لكن الذي كان يلفت نظر الناس إليه أناقته المتناهية، أثوابه الجميلة، رقة حاشيته، وقد تجد في شباب اليوم من يستهويه الثوب الأنيق، والشعر المرجل, والرائحة العبقة ، والأناقة في الحديث والتعبير والحركة، هذا الصحابي يمثل هذا النموذج .
يصفه كتاب السيرة بأنه كان فتى ريان، مدللاً، منعماً، كان حديث حِسان مكة، لؤلؤة ندواتِها ومجالسها .
انظروا أيها الأخوة, إلى هذا الشاب الأنيق، الناعم، الذي حباه الله ببحبوحة الحياة و بأناقة المظهر، وبحسن الطلعة، هذا الشاب سمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه جاء بالتوحيد؟ وكيف أنه دعا الناس إلى الإسلام؟ وكيف أنه مع أصحابه القلة الخُلّص؟ كانوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، هذا الصحابي، بدافع حب الحقيقة، بدافع رغبته الجامحة في معرفة شأن هذا النبي، توجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي النبي عليه الصلاة والسلام ويبدو أن هذا الشاب ينطوي على حب للحقيقة، وإيثار للحق، فما إن رأى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجاوبت نفسه معه، وهفا قلبه إليه، ومد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليصافحه ، وليمسح عن صدره آثار الجاهلية، وكانت لحظة إيمانٍ رائعةٍ سرت في أحناء هذا الصحابي الجليل، وأعلن إسلامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
التجربة القاسية التي عاشها مصعب مع أمه أثناء إسلامه :
لِهذا الصحابي أم اسمها خناس بنت مالك، تتمتع هذه الأم بقوة في شخصيتها فذة، وقد تجد في كل عصر أما قوية الشخصية, يهابها أبناؤها إلى درجة الخوف، يأتمرون بأمرها بقوة سحرية, يخافون غضبها، يرجون رضاها، أم هذا الصحابي الجليل سيدنا مصعب بن عمير، كانت مهابةً إلى حد الرهبة, قال مصعب حينما أسلم: لم يكن يخاف أحداً، ولا يخشى أحداً, ولا يحسب حساب أحدٍ إلا أمه، كيف سيواجه أمه بإسلامه؟ .
كما هي العادة فكر في كتمان إسلامه، وبالمناسبة, فإن الإنسان أحياناً يمرُّ في ظروف صعبة جداً، وفي حالات استثنائية يجد من المناسب أن يكتم إيمانه، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك:
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾
( سورة غافر الآية: 28)
في حالات صعبة جداً، وفي ظروف قاهرة، وفي فتن مستعرة, وفي حالات حرجة لا تستطيع أن تظهر، والله عز وجل ما كلف الإنسان فوق طاقته، فهذه الإشارة في القرآن الكريم، تسلية لكل من كتم إيمانه:
﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾
( سورة غافر الآية: 28 )
فسيدنا مصعب رأى من المناسب أن يكتم إيمانه عن أمه، فظل يتردد على دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويجلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وهو قرير العين بإيمانه، لكنه تفادى غضب أمه بهذا الكتمان, هناك قاعدة: أنه لا شيء يختفي، مهما حاولت أن تخفي شيئاً لا بد وأن يظهر .
رجل اسمه عثمان بن طلحة، أبصر به وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم، هذا الرجل عثمان بن طلحة حينما رآه يدخل دار الأرقم، سابق الريح إلى أمه ليخبرها أن ابنك يتردد على دار الأرقم مقر النبي عليه الصلاة والسلام، حينما واجهته أمه ما استطاع أن ينكر الحقيقة، بل قرر أن يظهرها، وقف أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المتجمعين حوله يتلو عليهم في يقينٍ وثباتٍ القرآن الذي غسل قلبه, وغذّى فؤاده، وملأ جوانحه سعادة .
همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت لتلطمه، ما لبثت أن استرخت وترنحت أمام النور الذي زاده وسامة في وجهه, يعني لا أدري ماذا أقول لكم؟ المؤمن أحياناً يهبه الله هيبة, ورقة, ووضاءة، وجمالاً، بحيث إن الذي يريد أن يناله بالأذى يجمد في مكانه .

ذات مرة وقف الحسن البصري رحمه الله تعالى، موقفاً فيه جرأة بالغة جداً, بلغ الحجاجَ موقفُه وانتقادهُ, فأمر السياف أن يقطع رقبته, ومُدّ النطع في مجلس الحجاج، والنطع عبارة عن جلد إذا قطع رأس هذا الرجل، لئلا تصل الدماء إلى الأثاث الفخم والطنافس والأرائك، فيمد جلد كبير جداً، يقف هذا الذي يراد أن يقطع رأسه في وسطه وتضرب عنقه، فإذا نفر الدم أصاب هذا النطع، وطُلب الحسن كي تقطع رقبته، فلما دخل الحسن البصري على الحجاج، تمتم بشفتيه ولم يسمع أحد, ماذا قال؟ لكنه فيما يبدو طلب من الله عز وجل أن يحميه من بطش هذا الرجل، وما إن دخل ووجهه يتلألأ نوراً، حتى وقف له الحجاج ودعاه إلى أن يجلس جنبه، وسأله الدعاء وآنسه وطيب قلبه واحترمه أشد الاحترام وضّيفه، ثم ودعه فالسياف وقف مذهولاً، لا يدري ماذا يقول؟ إذاً: فلماذا جئتم بي إلى هنا؟ .
فالمؤمن له هيبة أيها الأخوة، إذا كنت مع الله لاكتسبت هيبة لا يعلمها إلا الله، من هاب الله هابه كل شيء، المؤمن له هيبة، له شخصية قوية ليست من صنعه، ولكن من تفضل الله عليه .
لكنها ما لبثت أن أخذته بعد أن تلا على قومه القرآن، لتحبسه في غرفة قصية من غرف البيت, وكأنها بسذاجة إذا حبسته كف عن متابعة النبي الكريم، وعن زيارته, ولكن كان حبسها له بلا جدوى . مصعب حقاً ممن هاجر إلى الله ورسوله هذا ما شهد له رسول الله :
بلغ سيدنا مصعباً أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة ، بطريقة أو بأخرى، فانسل من غرفته القصية التي حبسته أمه بها، ولحق بالقافلة، وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة، وبعد أن أقام هناك ردحاً من الزمن، عاد والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام .
فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما إن بصروا به، حتى حنوا رؤوسهم, وغضوا أبصارهم، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً, ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة وعطرة, تمّلى النبي الكريم به جيداً، تملّى مشهده بنظرات حكيمة شاكرة، محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة, وقال: ((لقد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله))
إذا كان الإنسان ذا دخل محدود، وبإمكانه أن يحصل على أموال طائلة بطريق غير مشروع، فاختار طاعة الله، ودخله المحدود جعله يرتدي ثياباً من الدرجة الخامسة، وبيته متواضع، وأكله خشن، فأنا أرى أن هذا وسام شرف، كله زائل أيها الأخوة، يعني إذا أنت آثرت الحق, آثرت أن تستقيم على أمر الله، آثرت أن ترضي الله عز وجل، آثرت ألا تأكل حراماً، آثرت أن تأكل من كد يدك، وعرق جبينك، آثرت ألا تأكل مالاً ليس لك، هذا الدخل الشرعي الحلال الطيب القليل, لكن هذا الدخل القليل جعلك تسكن بيتاً صغيراً، وأن تأكل طعاماً خشنا,ً وأن ترتدي ثياباً من الدرجة الخامسة، فهل تستحيي مما أنت عليه؟ إن كنت تستحيِ مما أنت فيه، فأنت لا تعرف الله .
أخ كريم محامٍ، قال لي: يا أستاذ, جاءني رجل عرض عليّ قضية لأكون وكيلاً له فيها, وهذه القضية مشمولة بقانون العفو فكنت صادقاً معه، قلت له: يا فلان, قضيتك لا تحتاج إلى محامٍ، تقدم بطلب إلى المحكمة الفلانية، وسيصدر حكمٌ فوري بإعفائك من هذه الجنحة لأن قانون العفو يشملك، لكنه لم يقتنع فذهب إلى محامٍ آخر بث في روعه أن القضية خطيرة جداً، و يجوز أن يسجن فيها عشر سنوات، حتى ابتز منه عشرين ألفاً، ولم يكتفِ بهذا بل اتهمني أنني لا أفقه شيئاً بالمحاماة, وقال عني: هذا أجدب، ما عنده فهم, فكان هذا المحامي متألماً لما اتهم به, أما أنا فو الله أيها الأخوة، حينما قال لي هذا الكلام، رأيته إنساناً كبيراً في نظري قلت له: والله كلام الناس عنك بأنك محامٍ مبتدئ أو ساذج، والله هذا وسام شرف عند الله عز وجل، هذا هو المؤمن، وهكذا يجب أن يكون .

أنا أتمنى على أخواننا الكرام أن يتحلوا بالاستقامة، فالإنسان عندما يستقيم فقد تكون عنده إمكانيات كبيرة، ولكن إذا استقام وأرضى الله عز وجل فهو ملِك في الدار الآخرة .
فمصعب بن عمير، من أسرة غنية جداً، ولو بقي على دين آبائه لعاش حياة ناعمة جداً، لكن لأنه أسلم والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فقراء ضعفاء: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾
( سورة هود الآية: 27)
أي فقراء وهذا شأن كل نبي، كبراء القوم، أصحاب الغنى، هؤلاء غارقون في شهواتهم، أصحاب القوة غارقون في وجاهاتهم، لكن الضعاف يتبعونه، هؤلاء الضعاف سيغنيهم الله عز وجل, وهذه كلمة قالها النبي الكريم لعدي بن حاتم، لا أنساها ما حييت، قال له:
((لعلك يا عدي، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، من فقرهم، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم, فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين))
فالبطولة أن تكون مع الحق، وليكن ما يكون، البطولة أن تكون على منهج الله عز وجل غنياً كنت أو فقيراً, فالنبي الكريم قال عن هذا الصحابي: ((لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله))
إذا كنت مستقيماً، وحياتك متواضعة فافتخر وازهو, قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 71)
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
( سورة الأعراف الآية: 128)
آيات كثيرة، تبشر المستقيمين على أمر الله بالفوز في الدنيا والآخرة .
فشل أم مصعب في تحقيق رغبتها في أن يرجع ابنها عن الإسلام :
أيها الأخوة, حاولت أمه مرة ثانية أن تحبسه ولكنه أصر, وقال:
((والله لأقتلن كل من تستعين به أمي على حبسي، علمت أنه صادق وأنه يعني ما يقول، فكفت عنه))
فلما جرى نقاش بينه وبينها, قال لها: ((يا أمي, إني لك ناصح, وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله, أجابته غاضبة مهتاجة: قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي))
والله هذه عقلها ضعيف, ولو أن عقلها كان راجحاً لآمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام, قال عليه الصلاة والسلام: ((أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً))
حينما أسلم وأصر على إسلامه، وترك دين آبائه، حرمه أهله من كل شيء، يقول كتاب السيرة: خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة, وأصبح الفتى المتأنق المعطر لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب .

أنا أعرف فتاة مؤمنة تنتمي إلى أسرة غنية جداً، لكنها اصطلحت مع الله وأنابت إليه، فحينما أنابت إلى الله عز وجل ما بقي أحد من الشباب الأغنياء الذين يعرفونها قبل توبتها يرغبون بها, خطبها رجل فقير دخله محدود، فقلبت، وانتقلت من بيت واسع جداً إلى بيت صغير، ومن طعام نفيس، إلى طعام خشن, ومن ثياب أنيقة إلى ثياب متوسطة معتدلة، وقالت بملء فيها: أنا سعيدة بمعرفة الله، وسعيدة بهذا الزوج، وأنا أرضى أن أتخلى عن كل دنياي من أجل طاعة الله عز وجل, فهذه الأخبار عن مصعب تعني أن هذا الصحابي الجليل نموذج لكل شاب ينتمي إلى أسرة غنية .
مرة ثانية لأنك مستقيم فدخلك محدود، والله عز وجل لحكمة أرادها جعل الحرام سهلاً ، وجعل الحلال صعباً، الحرام سهل، يعني امرأة تشتغل أحياناً ثماني ساعات تأخذ مئة وخمسين ليرة في خدمة شاقة في البيوت، وامرأة تبيع ما وهبها الله من جمالٍ تبيعه بمبالغ طائلة لوقت قصير، فهذه امرأة وهذه امرأة, ولكن أين الثرى من الثريا؟ والإنسان حينما يخلص لله عز وجل يستخدمه في الحق . إليكم هذا السر الذي حدث في المدينة :
سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كان في أصحابه من هو أكبر من مصعب سناً، وأعلى شأناً، وأكثر جاهاً، وأقرب إلى النبي نسباً، لكن عليه الصلاة والسلام ندبه ليكون خليفة له في المدينة قبل أن يهاجر إليها .
هناك بالسيرة أمرٌ أقف أمامه محتاراً، أنه حينما هاجر النبي إلى المدينة، كيف أن أهلها خرجوا عن بكرة أبيهم يستقبلونه، ويعظمونه, ويصدقونه، ويحبونه، وهم لم يلتقوا بها من قبل، فهل عرفتم ما السر؟ السر أن هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها جعل الله هداية كبار أصحابه من الأنصار على يديه .
هذا الشيء نقلني إلى فكرة، فأحياناً ترى الجامع مليء، فهل تعرف الفضل لمن يعود ؟ لبعض الأخوة النشيطين الذين يندفعون لنشر الحق، يُقنع جاره, ويقنع أخاه، يقنع ابنه، يقنع أباه، يقنع زميله في العمل، يعني يدعوه إلى المسجد، يدله على الله، يسمعه بعض الأشرطة، يناقشه، يخدمه، فغص الجامع وامتلأ، هذا الجامع أساسه أخ نشيط بذل كل شيء، حتى أقنع الناس بالحق، وحتى أقنعهم بالهدى، وحتى حملهم على التوبة .
المدينة عن بكرة أبيها تخرج لاستقبال النبي و لم يلتقوا به من قبل، ولم يسمعوا كلامه، من الذي جلس بينهم، ودعاهم إلى الهدى، وقرأ عليهم القرآن، وحدثهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، بين لهم شمائله الشريف، عرفهم بربهم، بين كمال الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى, من هذا الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً؟ سيدنا مصعب .
يعني ماذا أقول إن صح التعبير؟ إن الأنصار كلهم في صحيفته, تضيق عليك دنياك ويقل دخلك، لكن الله عز وجل يعطيك أضعاف مضاعفة عطاءً لا ينتهي بالموت، يبدأ بعد الموت .

فالإنسان لا يقيس نفسه ويقيس الآخرين بالأمور المادية، هذا قياس فاسد، رب أشعث أغبر, ذي طمرين، مدفوع بالأبواب, لو أقسم على الله لأبره, لا تقس نفسك بمساحة بيتك، ولا بمستوى بيتك، ولا بدخلك، ولا بمركبتك، قِس نفسك بطاعتك لله، واجعل قوله تعالى نصبَ عينيك:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
( سورة الحجرات الآية: 13)
صحيح أن هذا الصحابي، فقد الثوب الجميل، والرائحة العطرة, لكنه صار من الخالدين في دنيا الناس, وعند الله تعالى, والإنسان ما له حق في أن يفتخر بدنياه أيها الأخوة، فإذا افتخر بدنياه أفسد حياة الناس وصرفهم عن الآخرة، أما إذا حدثهم عن الله عز وجل فقد قربهم إلى الله, وأصلح عليهم دنياهم .
أسيد بن حضير ممن أسلم على يد مصعب :
عندنا قصة يبدو أن فيها حكمة, فهذا الصحابي الجليل قال ذات يوم وهو يعظ الناس، وقد فاجأه أسيد بن حضير، سيد بني عبد الأشهل بالمدينة, وكان يدرس وحوله هؤلاء الذين أحبوا الإسلام، وانشرحت صدورهم له، فاجأه أسيد بن حضير شاهراً حربته يتوهج غضباً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم، وقال له: ما جاء بكما إلى حينا؟ هو وأسعد بن زرارة، وهما أخوان في الإسلام كريمان، تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من المدينة, والإنسان إذا وقف الموقف اللين، والموقف الحكيم، فهو عاقل رشيد، و هذا من نعمة الله عز وجل أن موقفاً ليناً فيه حكمة، فقال له مصعب بلسان طيب: أولا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره, فقال أسيد بن حضير وكان رجلاً عاقلاً: والله أنصفت، ما أحسن هذا القول وأصدقه، فجلس وكان مصعب يتلو عليه القرآن فاستمع إلى القرآن، ودخل إلى قلبه، وشرح الله صدره، فقال أسيد: ما أحسن هذا القول وأصدقه! كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فأرشدوه إلى ذلك .
سيدنا عمير بن وهب, مرة قال:
((والله لولا أولاد صغار أخاف عليهم العنت، ولولا ديون ركبتني, لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، فرجل اسمه صفوان كان قاعداً، قال له: ديونك علي بلغت ما بلغت، وأولادك أولادي مهما امتد بهم العمر، اذهب لما أردت, فعمير من فوره سم سيفه وذهب، ولما وصل للمدينة، رآه سيدنا عمر, فقال: هذا عدو الله ساقه إلى رسول الله، هذا عمير بن وهب عدو لدود، ابنه قتل في بدر، قال له سيدنا النبي: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفك ابني، قال له: وهذا السيف الذي على عاتقك، قال له: قاتلها الله من سيوف، فقال له النبي: ألم تقل لصفون كذا وكذا وكذا فوقف، وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن الذي قلته لصفوان لا يعلمه إلا الله، وأنت رسوله))
فدخل عدواً لدوداً ينوي القتل وخرج مسلماً، يعني الصلحة مع الله تتم بلمحة أحياناً .
أسلم أسيد بن حضير، فلما يسلم الكبار، فالصغار يتبعونهم، فسيدنا مصعب وفقه الله في دعوته، فلانت قلوب كبراء المدينة، فلما لانت قلوبهم وأسلموا معه، ودخلوا في هذا الدين العظيم، كل أتباعهم تبعوهم . قصة استشهاده :
كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل خاض معركة أحد, وحمل لواء من ألوية أجنحتها, وكلكم يعلم أنه لما جال المسلمون, واشتبكوا مع عدوهم, ثبت مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾
( سورة آل عمران الآية: 144)

وأخذ اللواء بيده اليسرى فضرب يده اليسرى فقطعها، وحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾
( سورة آل عمران الآية: 144)
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه, واندق الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواء، ووقع شهيداً بل كان كوكباً بين الشهداء .
الشيء الذي يدمي القلب أن هذا الصحابي قال عنه بعض أصحاب رسول الله: هاجرنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله ، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً, إذا إنسان أحب الله عز وجل واختاره إلى جواره, فهل ضاع عليه شيء؟ لا، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 169)
والإنسان عندما يخلص لله عز وجل، ويتوكل على الله عز وجل فقد ربح ورب الكعبة, فهذا الصحابي الجليل حياته كلها دعوة إلى الله، حياته كلها جهاد، ثم مات شهيداً, فقد فاز ورب البيت . انظروا إلى هذا المشهد أليس مبكياً ؟
يقول عنه خباب بن الأرت:
((هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيبل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً))
سيدنا عمر, مرة قدم له طعام طيب، فبكى، لماذا بكى؟ تذكر أصحاب النبي الذين ماتوا قبل أن يفتح الله الدنيا على المسلمين ثم جاءتهم الدنيا بعد ذلك راغمة, لكن الصحابة الكرام الذين ماتوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا هؤلاء لهم عند الله أجر مضاعف, فالإنسان يستسلم لله عز وجل، هو الرحمن الرحيم، الآية التي تؤثر بالنفس: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 158)
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
( سورة الزخرف الآية: 32)
والإنسان دائماً يبحث عن رزقه، ثم يبلغ درجة من الكفاية والحاجة, ويبقى همه الجمع، لكن الله تعالى يقول:
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
( سورة الزخرف الآية: 32)
هذا سيدنا مصعب قتل يوم أحد، ولم يجدوا له شيئاً ليكفن به إلا نمرة، يعني رداء خشن ، فكنا إذا وضعناها على رأسه، تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام:
((اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر, ضعوا قليلاً من حشيش على رجليه, وارفعوا الثوب إلى رأسه))
هذا سيدنا مصعب بن عمير الذي كان من أرفه، ومن أنعم, ومن أكثر فتيان قريش أناقةً، ونعومةً، ورخاءً، وغنىً، باع دنياه في سبيل الله عز وجل, وإذا اختار الإنسان عملاً نظيفاً، عملاً شريفاً، وعاش حياة مع الله وادعة مطمئنة، فهذا وسام شرف له، افرح بالدخل الحلال، إن كان كثيرا فالحمد لله، هذا من نعم الله عز وجل, لكن إن كان قليلاً وهو حلال، فهذا أفضل من كثيرٍ لا يرضي الله عز وجل، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام، قال مرة لثعلبة: يا ثعلبة, قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تؤدي شكره .
وقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير، وعيناه تذرفان بالدموع، وقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 23)
ومنذ مدة قرأت نعوة ضخمة مكتوب فيها: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 23)
فممكن لكل من أراد أن يضع في النعوة هذه الآية أن يفعل، ولكن المهم العبرة، وحسن الخاتمة, فهذه الآية تلاها النبي الكريم عندما وقف على جثمان مصعب:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 23)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها, وقال:
((يا مصعب, لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت شَعِث الرأس في بردة، عندئذ قال عليه الصلاة والسلام: إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة))
وهناك صحابي لما أسلم ثم خاض مع رسول الله معركة والله نجاه، ووزعت الغنائم، قال: ((ما هذا؟ قالوا: هذه غنيمة لك, قال: والله ما على هذا أسلمت, أنا أسلمت على الذبح))
أنا أسلمت على أساس أن أقدم حياتي في سبيل الله، ((وفي المعركة الثانية، وجد مقتولاً، فالنبي الكريم, قال: أهو ؟ قالوا: هو هو, فبكى النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: اللهم إني أشهد أن هذا قاتل في سبيلك))
فإذا استقمنا، وقرأنا القرآن، وفهمنا القرآن، وخدمنا من حولنا, وكنا أبراراً بوالدينا، ونصحنا المسلمين في بيعنا وشرائنا، وما كذبنا و ما غششنا، إذا فعلت هذا في عصر الفتن، وعصر الضلالات، وعصر الشبهات، وفي عصرٍ فيه القابض على دينه كالقابض على جمر فلك أجر عظيم .

النبي الكريم, قال:
((اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك, قال: لا, أنتم أصحابي، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان، القابض منهم على دينه كالقابض على جمر، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم، قال: بل منكم، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون))
المسلم المؤمن غريب، يعني أن أقرب الناس إليه يستنكر استقامته, يُستنكر إذا أراد ألا يختلط مع الناس، ترى إنساناً أهله يوصفون بأنهم محافظون، فهؤلاء الذين زعموا أنهم محافظون يريدون اختلاط للجنسين, ويريدون أن يسفر وجه المرأة، ويحتالون ليجدوا إلى التفلت من أمر الله عز وجل سبيلاً يسلكوه . خاتمة الدرس :
فالشيء الذي يبرز في حياة هذا الصحابي الجليل، أنه كان من أسرة غنية، فلما أصر على إسلامه وإيمانه، فقد كل ما يمكن أن يناله من والديه, فعاش فقيراً، ونذر نفسه لهذا الدين العظيم, فاختاره الله ليكون خليفة النبي في المدينة .
لذلك يمكن أن نذكر ثانية أن أكثر الأنصار كانوا في صحيفته، هذا عمل عظيم, والنبي الكريم كان إذا أراد أن يصلي أزاحت السيدة عائشة رجليها لأن غرفته لا تتسع لصلاته ونومها، والآن اذهب إلى مقامه الشريف يطالعك أضخم مسجد في العالم .
لقد حججت قبل ثلاثة أعوام فكان المقام الذي كان في العهد العثماني تقريباً في عرض مسجدنا هذا، وإلى نصفه، هذا المسجد النبوي الذي وسعه العثمانيون، يعني أضافوا إليه إضافة, ثم وسعه السعوديون توسعة تعدل عشرة أمثال ما كان عليه تقريباً، يعني صار البناء على العرض نفسه ممتداً إلى الشمال وفيه فسحتان سماويتان، في العام الماضي حينما حججت أية مساحة هذه؟ أكثر من عشرة أمثال المساحة السابقة فهو مدينة كاملة، والإنسان أحب أن يطوف حوله فالمسافة تقريباً خمسة كيلومترات، يعني كان الحج بأيام حارة جداً، وسمعت أنه مكيفاً, ويعـــــد أعظم تكييف في العالــم، والأجهزة على بعد سبعة كيلومترات، ومساحتها مائتان وسبعون ألف متر مربع تكون درجة الحرارة خارج الحرم ستاً وخمسين درجة، أو اثنين وخمسين، كأنما تلفح وجوههم النار، بينما هي بالحرم ثماني عشرة درجة أو نحوها .
النبي عاش حياة خشنة، لكن عرف المسلمون قيمته وقدره، كل هذا الاعتناء دليل مقامه العظيم عند الله عز وجل، الدنيا تضر، حاول أن تكون على أمر الله، وأن تكون مستقيماً و أن تكون ملتزماً، فهذا الصحابي الجليل قدوة لنا، لا يخفضك عند الله دخلك القليل، ولكن يخفضك معاصيك .
لذلك مصعب هذا قدوة لكل شاب عاش بأسرة مرفهة، ناعمة, فلما أصر على إيمانه وإسلامه، والناس تخلوا عنه, عاش حياة خشنه، ومن كان كذلك فله بهذا الصحابي الجليل، أسوة حسنة .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 02:01 PM   #13


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثالث العاشر )

الموضوع : سيدنا حذيفة بن اليمان



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما الشيء الذي تفوق به عهد الرسالة الإسلامية عن بقية المجتمعات ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الثالث عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم أجمعين, وصحابي اليوم سيدنا حذيفة بن اليمان .

الشيء الذي يلفت النظر أن كل صحابي نسيج وحده كما يقولون، يتمتع بشخصية لها سماتها وخصائصها، وهذه الشخصية كأنها جاءت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لتكون قدوة لمثيلاتها في العصور القادمة، فكل صحابي يمثل شخصية نجدها في كل عصر، لكن هذا الصحابي بهذه الشخصية التي يتميز بها وقف الموقف المثالي فكان بطلاً بحقٍ إذ قيل إن عصر النبي عليه الصلاة والسلام هو عصر البطولات .
الحقيقة أن المجتمعات تجد فيها في كل عصر شخصاً يلتمع ويعلو ذكره، أما أن تجد في عصر واحد عدداً لا ينتهي من الأبطال، وكل واحد نسيج وحده، فهذا لم يتوافر إلا في عصر الرسالة الإسلامية, وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
ما هو السؤال الذي طرحه النبي على حذيفة بن اليمان , وعلام يدل, وما الغاية من ذلك ؟
سيدنا حذيفة بن اليمان عاش والده في المدينة, فهو مكي الأصل, مدني النشأة، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام كان حذيفة على شوق كبير ليلقى النبي عليه الصلاة والسلام ، ويملأ جوانحه من حبه، فما إن التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام، حتى سأله النبي الكريم:
((أمهاجر أنت أم أنصاري؟))
النبي عليه الصلاة والسلام، كان فطناً، والفطنة كما تعلمون من صفات الأنبياء، فحينما التقى النبي هذا الصحابي أول سؤال طرحه عليه أمهاجر أنت أم أنصاري؟ ماذا نفهم، يعني أنت أيها المؤمن إذا التقيت بإنسان ينبغي أن تحدثه عن شيء يعيشه، عن قضية يعانيها، يجب أن تهتم به، يجب أن تهتم بمشكلته لأنه لا سبيل إلى قلبه إلا بهذه الطريقة, إذا التقى مؤمن بشخص فليسأله عن أحواله، عن وضعه عن عمله، عن بعض المشكلات التي يعاني منها، حينما تسأل الإنسان عن قضية يعانيها يتجاوب معك .
النبي عليه الصلاة والسلام، حينما التقاه أول مرة، قال: ((يا حذيفة, أمهاجر أنت أم أنصاري؟))
لأنه هو مكي الأصل, مدني النشأة، فقال رضي الله عنه: ((إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار, فقال حذيفة رضي الله عنه: بل أنا أنصاري يا رسول الله, آثر أن يكون مع الأنصار))

لا يعنينا من هذه النقطة في حياة هذا الصحابي إلا أن النبي كان فطناً, وكان إذا جلس مع إنسان، يضع يده على جرحه، يضع يده على مشكلته، يحدثه عما في نفسه، أما أن تحدث الناس في موضوع بينما هم يعانون مشكلة معينة، فليس هذا من الحكمة .
يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع التجار حدثهم بالتجارة, إذا جلس مع أي إنسان حدثه باختصاصه تأليفاً لقلبه وتقرباً إليه، يعني ليس القصد أن تملي على الإنسان المعلومات, بل القصد أن تفتح قلبه إليك، القصد أن يشعر أن هناك لغة مشتركة بينك وبينه، أن هناك اهتمامات واحدة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم))

أنا العبد الفقير من عادتي إذا جلست مع أخ أسأله عن أولاده, لأنه ما من إنسان على وجه الأرض إلا ويحب أولاده، إذا سألته عنهم عن أوضاعهم الدراسية، وأوضاعهم المعاشية والمهنية، انطلق الأب يحدثني عن أولاده، أنا أريد أن ينطلق، فإذا أنطلق عندئذ يمكن أن تحدثه أنت عن الله عز وجل .
فالقضية ليست أن تملي على الناس معلومات، القضية أن تفتح قلوبهم قبل أن تفتح آذانهم، القضية أن يشعروا أنك قريب منهم, من الممكن أن أقول لكم كلمة: لا أعتقد أن واحداً منكم لا يتمنى أن يكون داعية إلى الله عز وجل، لأنك إذا أردت أن تزن الأعمال بالميزان الصحيح، ما من عمل أرقى في الأرض من أن يستخدمك الله بالدعوة إليه، ما من عمل أشرف من أن تكون ناطقاً بلسان الحق .

أحياناً يقال: فلان الناطق باسم المبعدين، دكتور يتقن اللغة الأجنبية من حين لآخر يصرح تصريحاً معيناً، شيء جميل، فاختاروا أعلاهم علماً, وثقافة، وطلاقة, ولغة, لكن حينما تكون أنت ناطقاً باسم الحق، هذه أعلى مرتبة، لن تستطيع أن تدعو الناس إلى الله إلا إذا شعر الناس جميعاً أن مشكلاتهم هي مشكلتك، يعني إن لم تشعر بما يشعرون، إن لم تحس بما يحسون، إن لم تتعاطف مع من يتعاطفون، لن يصغوا إليك .
لذلك فالنبي الكريم, قال: ((بعثت لمداراة الناس))
المدارة بذل الدنيا من أجل الدين، اجلس معه, استمع إليه, أصغ إليه وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به فمداراة الناس تفتح قلوبهم، فإذا فتحت قلوبهم، فتحت آذانهم .
سيدنا حذيفة كان في حيرة، أحياناً الإنسان يستنبط معاني جليلة من أشياء صغيرة من كلمة، من نظرة, يستنبط معنى جليلاً . إليكم موقف سيدنا حذيفة حينما قتل أباه في معركة أحد خطأ من قبل غزاة المسلمين :
سيدنا حذيفة بن اليمان، في معركة أحد قُتل أبوه خطأً، قُتل أباه بسيوف المسلمين، وأباه مسلم، هذا الشيء يقع في كل الحروب, فأحياناً تقصف قطعة عسكرية من قبل طيران الصديق لا طيران العدو, فهذا يحدث ولأنه يحدث له تشريع في القرآن الكريم، سماه القرآن القتل الخطأ:
﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً﴾
( سورة النساء الآية: 92)
فخر صريعاً بأسياف أصحابه, فصار حذيفة ينادي أبي أبي، لكنه في ضجيج المعركة ، وصليل السيوف, مات أبوه بأسياف المسلمين خطأ، فما زاد على أن قال لهم:
((يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين))
أما عند النبي عليه الصلاة والسلام فالحق أحق أن يتبع، فأمر أن يعطي حذيفة دية أبيه، وهي دية من قُتل خطأً, فقال حذيفة: ((يا رسول الله, أبي كان يطلب الشهادة, وقد نالها، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين))
لذلك إذا وقع خطأ في حادث فهناك عدل وهناك إحسان، العدل أن يدفع المتسبب الدية ، أما الإحسان أن تعفو عنه إذا كنت أنت ولي الأمر .
فازداد بذلك منزلة عند النبي عليه الصلاة والسلام، مرتبة العفو مرتبة عالية جداً، والإنسان إن يعفُ يزده الله بكل عفوٍ عزاً، أنت جرب، ما من إنسان يعفو عن خصمه إلا رفعه الله, وزاده عزاً بعفوه . ما هو السر الذي أودعه رسول الله عند سيدنا حذيفة بن اليمان ؟
الحقيقة أننا يجب أن نتعلم من النبي الشيء الكثير، النبي كان قائداً والقيادة لها خصائص، من خصائص قيادة النبي عليه الصلاة والسلام، أنه يعرف إمكانات أصحابه، كل صحابي له إمكانات، له خصائص، له ملامح, له قدرات, له شخصية خاصة، القيادة الناجحة تتعرف على إمكاناتِ مَن دونها، ثم تكلف هؤلاء الذين تقودهم كلٌ بحسب اختصاصه، وكل بحسب إمكاناته، القيادة غير الناجحة تضع الرجل المناسب في المكان غير مناسب، رجل غير مناسب في مكان غير مناسب، أما القيادة الناجحة، تضع الرجل المناسب في المكان المناسب .

ذات مرة كان النبي عليه الصلاة والسلام يبحث عن رجل ليقوم بمهمة, فقيل له:

((يا رسول الله, فلان، فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هناك))
يعني لا يملك الأهلية لهذه المهمة، يبحث عن إنسان يتمتع بهذه الأهلية, فالنبي عليه الصلاة والسلام أدرك أن هذا الصحابي حذيفة بن اليمان فيه ثلاث خصال:
أولاً: يتمتع بذكاء فذ، يسعفه في حل المعضلات .
ثانياً: يتمتع ببديهة مطاوعة تلبّيه كلما دعاها .
ثالثاً: يتمتع بكتمان للسر فلا ينفذ إلى غوره أحد، عنده صدر واسع .
النبي الكريم حينما انتقل إلى المدينة ظهرت فئة اسمها المنافقون، المنافق مثل النفق، له مظهر ضخم لكن من الداخل فارغ، المنافق إنسان يظهر ما لا يبطن، المنافق إنسان يتزين بما ليس فيه، فالمنافق خطر، الكافر سهل أن تعرفه, فمثلاً بحياتنا إنسان يدخن في رمضان فسهل أن تتقيه, وهذا إنسان فاجر, لكن أنت ممن تخاف؟ تخاف ممن له مظهر ديني، ممن له اتجاه دين فيما يبدو، وله أفعال خبيثة، هذا يغش الناس، هذا يوقع بالناس حالة اسمها الإحباط .
لذلك فلأن يطلب الإنسان الدنيا من مظانها أيسر أن يطلبها عن طريق الدين, إنه إن طلبها عن طريق الدين فقد أربك الناس، وأوقعهم في حيرة، وجعلهم في شك من أمر هذا الدين ، أقول لكم: أعظم أحوالك أن يكون عملك مصدّقاً لقولك، ينشأ ما يسمى المصداقية، يعني أنت عندما تخيب ظن إنسان، هو يظن أنك صالح، وأنك مؤمن، وأنك تقي، وأنك تخاف الله, وأنك ورع، فإذا به يفاجأ بأنك على خلاف ذلك, فليته يسيء الظن بك, القضية سهلة جداً، يا ليت يسقطك من حسابه، القضية أسهل, المشكلة الأخطر أن أصابع الاتهام تتجه إلى الإسلام، أهذا هو الدين؟ انظروا, دققوا, انظروا إلى أهل الدين, أول كلمة يتفوه بها أعداء الدين إن خيب ظنهم أهل الدين، أنهم يطعنون بأصل الدين، يطعنون بأحقية هذا الدين .

لذلك هناك ما يسمى بداعية، وهناك ما يسمى بمنفر، الداعية يقرب, والمنفر يبعد، الداعية يحبب، والمنفر يبغض، الداعية يرسخ, والمنفر يزلزل, الداعية مثل أعلى، والمنفر مثل سيء .
فلذلك سيدنا النبي الكريم كان يتقي المنافقين لأنهم فئة خطيرة جداً، والمنافق إنسان يعيش مع المؤمنين، ويصلي معهم، ويسلك في ظاهر الأمر مسالكهم: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾
( سورة النساء الآية: 142)
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾
( سورة البقرة الآية: 14 ـ 15)

والنبي الكريم رأى حذيفة ذكياً، ورآه صاحب بديهية، ورآه كتوماً للسر، كلفه وأفضى إليه بأسماء المنافقين الذين أطلعه الله عليهم، فكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله .
بصراحة أقول لكم: أنت لا تتمكن من أن تتقرب من إنسان عظيم إلا إذا كنت كتوماً للسر، يعني إذا أنت سمعت فكرة، أو خبراً، أو قصةً من شخص مهم، وأنت حسبته خبراً مسلياً فنشرته بسرعة، فهذا يحط من سمعتك, لن تستطيع أن تتقرب من إنسان تراه عظيماً إلا بكتمان السر، واسمك عندئذٍ أمين سر، يعني أمين على سرك .
هل تصدقون أن سيدنا عمر بن الخطاب الصحابي الجليل عملاق الإسلام، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي ملأ الأرض بعدله, والذي ملأ العين والسمع بأخلاقه، واندفاعه، وجرأته، كان قلقاً على نفسه؟ ومن علامة المؤمن يا أخوان، أنه يقلق على نفسه، ويخشى عليها, إلى أن التقاه عمر يوماً, وقال:

((يا حذيفة, أنشدك الله هل وجدت اسمي بين المنافقين؟ فخجل هذا الصحابي أشد الخجل، قال: لا والله أنت أكرمنا، ولكن لا أزكي بعدك أحداً))
يعني أعذرني لا تحرجني بأسماء أخرى، لأن الله عز وجل قال في القرآن: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾
( سورة التوبة الآية: 84)
ومن حرص النبي على تنفيذ أمر الله، أنه أعطى أسماء المنافقين لهذا الصحابي عند وفاته، حتى إذا مات أحدهم فلا يصلى عليه، لأنه إنسان خطير، المنافق خطير جداً, يعطيك من طرف اللسان حلاوة، ويروغ منك كما يروغ الثعلب، نعوذ بالله من النفاق، وأنا لا أخاف على الدين من أعدائه، فأعداؤه مكشوفون، ويحذرهم جميع المسلمين، ولكن الخوف على الدين من أدعيائه من المنافقين .
ما هي قيمة العقل في ميزان الشرع وما هو خطره إذا تخلى عن مبادئ الشرع ؟
وهنا يُطالعنا سؤال: هذا الذي يتمتع بذكاء فذ، لو أنه لم يؤمن, ماذا يفعل بذكائه؟ هل في القرآن آية تشير إلى هذا المعنى الدقيق؟ شخص عبقري لكن ما فيه دين، شهواني، يؤثر الدنيا على الآخرة، فهذا الذكاء الذي منحه الله إياه ما مصيره؟ ربنا عز وجل قال:
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
( سورة الكهف الآية: 54)
يعني أرجو الله أن أوفق بمثل يوضح فكرتي، يعني أنت أُعطيت مركبة، تصعد مكاناً, زاويته مثلاً خمس وثلاثون درجة، نادراً أن يكون طلعة بهذا الشكل، لكن المركبة قوية جداً، فإن لم تستخدم هذه المركبة لبلوغ قمة هذا الجبل فقد تهوي بك إلى الحضيض .

يعني الله عز وجل آتى الإنسان عقلاً، وهذا العقل فيه من القدرات المذهلة الكثير, و لو أنهم استطاعوا أن يصنعوا عقلاً آلياً يقوم مقام العقل البشري لاحتاجوا إلى أكبر شارع في نيويورك, وهذا الشارع أبنيته من على اليمين، ومن على الشمال, كلها صمامات صغيرة حتى يكون هذا الشارع بكل أبنيته عقلاً ميكانيكياً من صنع الإنسان، العقل فيه أشياء غريب جداً, و منذ يومين دخلت على طبيب مصور، عرفته حينما كنت صغيراً في السن، كان لهذا الطبيب عيادة في أحد شوارع دمشق, وكان له لوحة مصنوعة من الشينكو، فتذكرت من كلمة واحدة تذكرت شيئاً قبل أربعين عاماً تقريباً، معنى ذلك أن الإنسان يتمتع بذاكرة، مداها عجيب جداً, فالإنسان أعطاه الله قدرةَ تذكر، قدرة محاكمة، قدرة استنباط, قدرة استقراء، قدرة حكم، قدرة موازنة، قدرة تخيّل، قدرة تصور, هذا العقل البشري زود الله به الإنسان ليرقى به إلى الله، لو آثر الدنيا ماذا يفعل بهذا العقل؟ يستخدمه لفلسفة الباطل، ولتغطية انحرافاته، ولفلسفة شهواته، ولتحبيب الدنيا إلى الناس .
فلذلك أصحاب الأهواء أذكياء، أصحاب المبادئ الهدامة أذكياء, يفلسفون مبادئهم الهدامة, ويعطونها طابعاً منطقياً، يعطونها تماسكاً إيديولوجيا كما يقولون, الله عز وجل قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
( سورة الكهف الآية: 54)

فعقلك إن لم تستخدمه في معرفة الله، صار سلاحاً خطيراً تستخدمه إذاً في تزيين الباطل، في ترويج الباطل، ما من انحراف أخلاقي، ولا من عقيدة فاسدة، إلا ولها فلسفة براقة ، وقد عبر الله عن هذا بقوله جل جلاله:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾
( سورة الأنعام الآية: 112)

يعني إذا قرأت مقالة، أو قرأت كتاباً فلسفياً، كتاباً فيه مبادئ إنسانية وجدته يؤيد الباطل، يؤيد المعاصي، لكن بفلسفة, مثلاً, يقولون لك: إذا حضرت مسرحية، النفوس تشفى عند حضور هذه المسرحية, لماذا؟ قال: لأن الشر الذي يمثل أمامك، هذا يخرج من نفسك، يفلسفون هذه الفنون، الاختلاط يهذب المشاعر، وبعض الألعاب التي يقبل الناس عليها إقبالا منقطع النظير، يدّعون بأنها تزيل الخصومات، الخصومات يرونها أمامهم وتشفى نفوسهم بمشاهدتها, العقل البشري يمكن أن يزين الباطل، ويمكن أن يفلسف الانحراف, ويغطي المعاصي كلها، فأنت لا تعبأ بهذا الكلام إن كان مخالفاً للمقياس أنت الذي عندك .
فلو وقفنا أمام بائع وشعرنا أن هذا الميزان غير صحيح, فلا نرتاح له، ما الحل؟ هذا بائع القماش يقيس القماش بالمتر، كأنه أقصر من المتر الطبيعي، ما الحل؟ هناك متر نظامي، وهناك ميزان دقيق، نحن عندنا ميزان العقل، وعنا ميزان الفطرة، وعندنا ميزان يضبط هذين الميزانين، هو الشرع, وعلى هذا أضرب مثل:
أعطيناك مسألة حللتها بعقلك، نحن نعطيك سلفاً الحل الشرعي, فإذا وصلت بعقلك إلى الحل الشرعي فأنعم بهذا العقل، وإن لم تصل بعقلك إلى الحل الشرعي فبئس هذا العقل, هذه هي القاعدة .
ما هي المهمة التي كلف بها رسول الله سيدنا حذيفة يوم معركة الخندق ؟
الحقيقة أتمنى على الله عز وجل, وأرجو أن تعلموا علم اليقين أن واحداً منا لن يستطيع أن يصل إلى جنة عرضها السموات والأرض إلا إذا مر بامتحانات شديدة، هذا كلام قد يرضيكم وقد لا يرضيكم لكنه حقيقة، يظن بعضهم أنه بالرخاء، والبحبوحة، واليسر، والصحة، وسمو المكانة أنه يخرج من الدنيا للجنة رأساً، لا, فهناك أدلة كثيرة تشير إلى الابتلاء:
﴿حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 142)
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
( سورة العنكبوت الآية: 2)
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 92)

فالصحابة الكرام في قمة إخلاصهم، وحبهم، وإقبالهم, وورعهم، وطاعتهم في القمة جاءتهم معركة الخندق فزلزلوا بها، وقد قال أحد الذين عاشوا مع النبي حينما رأى قريشاً, وكل القبائل قد جمعت كل إمكاناتها وطاقاتها, وجاءت بجيش لم يجّيش مثله في تاريخ الجزيرة ، عشرة آلاف مقاتل, جاءوا ليستأصلوا الإسلام، ليبيدوه عن آخره، واليهود مِن ظهر النبي نقضوا عهدهم كعادتهم، واتفقوا مع الأحزاب ليطعنوا النبي من الظهر والمدينة مكشوفة، والجيش عرمرم كما يقولون، وغدا مستقبل الإسلام قضية ساعات .
لو فرضنا أنك إنسان خبير بالمعارك، ولو فرضنا أن لواءً محاصراً بين عشر فرق، والمنافذ كلها مغلقة، قطعوا التموين، قطعوا الماء، قطعوا الإمداد، قطعوا المعلومات، قطعوا الاتصالات, المدرعات مجهزة، ثم تقدمت هذه الفرق لتستأصل هذا اللواء عن آخره، هكذا كان شأن المسلمين في غزوة الخندق .

الأمر أبلغ من ذلك، يعني المسلمون بقي لهم ساعات، حسب رأي المنافقين والكفار، وقد كان النبي وعدهم أن يفتح عليهم بلاد قيصر وكسرى، ما هذا الكلام؟ أين بلاد قيصر؟ وأين بلاد كسرى؟ فالأمر لما ضاق به المسلمون، حمل أحد المنافقين على أن يقول: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، غير قادر على أن يفرغ مثانته، هذا الذي قال هذا الكلام: شعر أن هذا النبي ليس نبياً، والدليل أنه انتهى مع المنافقين، لكن ربنا عز وجل وصف الحال بقوله:

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 11 ـ 12)
لكن : ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 23)
الإسلام قد يمر بنكبات، قد يمر بهجمات شرسة، وقد يمر بمؤامرات على مستوى العالم كله، لكن المؤمن لا يتزحزح، ولا يسيء الظن بربه، وهو صابر، وهو صامد بالتعبير الحديث, فالنبي عليه الصلاة والسلام احتاج في هذه المعركة الحرجة إلى هذا الصحابي الجليل ، أراد النبي أن يبعث إلى جيش العدو رجلاً يندس فيهم ليأخذ أخبارهم، القرار الصحيح يحتاج إلى معلومات صحيحة، تقصي الحقائق، وأنت إذا كان لك عمل قيادي، فأكبر غلط ترتكبه حينما تتخذ قراراً من دون دراسة, فالقرار الصحيح يحتاج إلى معلومات صحيحة .

فسيدنا النبي قائد محنك، قائد فذ، يجب أن يتخذ قراراً، الأمر خطير جداً لا بد من صحابي على مستوى عالٍ من الذكاء، وسرعة البديهة، والفطنة, وكتمان السر، عليه أن ينطلق إلى جيش العدو في جنح الظلام، وهناك يتقصى الأخبار ويعود إلى النبي، لأن النبي الكريم جاءته معلومات مضطربة، يريد أن يعرف الحقيقة، فاسمعوا سيدنا حذيفة وهو يروي لكم قصته, قال:
كنا في تلك الليلة صافين قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من مشركي مكة فوقنا، وبنو قريظة من اليهود أسفل منا، نخافهم على نسائنا وذرارينا، قال: وما أتت ليلة قط أشد ظلمة ولا أقوى رياحاً منها، فأصوات رياحها مثل الصواعق، وشدة ظلامها تجعل أحدنا لا يرى إصبعه ، فأخذ المنافقون يستأذنون الرسول عليه الصلاة والسلام, ويقول أحدهم: عندنا مشكلة بالبيت، والآخر زوجته سوف تولد، والثالث جدار بيته تهدم، كلها أعذار واهية، والله سبحانه وصف أحوال المنافقين, فقال على ألسنتهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 13)
فكلهم تسللوا، وما بقي مع رسول الله إلا ثلاثمئة, عند ذلك قام النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يمر بنا واحداً واحداً، حتى أتى إليّ, وما علي شيء يقيني من البرد إلا مرط لامرأتي، المرط يعني ثوب مثل عباءة غير مخيط مجرد قطعة قماش، لا يجاوز ركبتي، فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرض, وقال:
((من هذا؟ قلت: حذيفة، فتقاصرت, وتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد، فالمقاتل قد تتلف أعصابه، قلت: نعم يا رسول الله، فقال: إنه كائن في القوم خبرٌ أريد حقيقته فتسللْ إلى عسكرهم وائتني بخبرهم، والنبي قد ربى رجالاً, قال: فخرجت وأنا من أشد الناس جزعاً، وأكثرهم فزعاً، وأكثرهم برداً، والنبي عليه الصلاة والسلام رحيم حقاً لكن لا بد من هذا الموقف, فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته
فدعاء النبي لا يرد، قال: فو الله ما تمت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام, حتى أنتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوفٍ، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد, فلما وليت ناداني عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
( سورة التوبة الآية: 128)
قال: يا حذيفة, لا تُحدثَن بالقوم شيئاً, فقلت: نعم، ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين، وصرت كأني واحد منهم، وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيباً، وقال:
يا معشر قريش, إني قائل لكم قولاً: أخشى أن يبلغ محمداً فلينظر كل رجل منكم إلى جليسه, قال: فما كان مني إلا أخذت بيد الرجل الذي كان بجانبي, وقلت له: من أنت؟ فلو تأخر حذيفة لأنكشف، قال: أنا فلان، وهنا قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار قرار
فالله عز وجل تولى نصر المسلمين ، لأن الأمر كان في منتهى الضعف, والله عز وجل قال: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾
( سورة الأحزاب الآية: 25)
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾
( سورة الأحزاب الآية: 10)

هناك من يقول في أيامنا هذه: الله تخلى عن المسلمين في عصرنا هذا, الله لا يتخلى عنهم أبداً، إذا كانوا معه لا يتخلى عنهم, هذا الذي يصيبهم الآن صعقة، لعل هذا القلب الميت يتحرك, إنها صعقة، لكنها صعقة مؤلمة .
قال:
((يا معشر قريش, إنكم والله ما أصبحتم بدار قراراً، لقد هلكت رواحلنا، وتخلت عنا بنو قريظة))
وقصة سيدنا نعيم بن مسعود تأخذ بالألباب، الله عز وجل قدر النصر على يد شخص واحد، أسلم وقت المعركة، فجاء النبي, فقال له: ((اُمرني, قال له: أنت واحد فخذل عنا، فذهب إلى قريش, وقال لهم كلاماً خلاصته: أن هؤلاء اليهود ندموا على نقض عهدهم مع محمد، واصطلحوا مع النبي على أن يأخذوا منكم عشرين أو أربعين شخصاً رهينة، ليضرب محمد أعناقهم، وذهب إلى قريش بعد أن ذهب إلى اليهود، وقال: هؤلاء قريش اتفقوا مع النبي على أن يأخذوا منكم رهائن))

يعني قصة طويلة خلاصتها
((أنه أوقع بين قريش وقريظة، فنعيم بن مسعود وحده تمكن أن يشق صفوف الكفار، فلما ذهب وفد من بني قريظة إلى قريش، وجدوا أن كلام نعيم صحيح، وتأكدوا أن خبره صحيح فانشق صفهم، وانتهت وحدتهم, وألغي تآمرهم))
وقال أبو سفيان: ((وتخلت عنا بنو قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله ففك عقاله، وجلس عليه، ثم ضربه فوثب قائماً، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ألا أحدث فيهم شيئاً حتى آتيه لقتلته بسهمٍ، ولكنه ما أحدث شيء، عند ذلك رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته قائماً يصلي، في مرط لبعض نسائه، فلما رآني، أدناني إلى رجليه, وطرح علي طرف المرط، فأخبرته الخبر، فسر به سروراً شديداً، وحمد الله وأثنى عليه))
سر التوفيق الذي كان يتمتع به حذيفة بن اليمان ودليل ذلك سؤاله عن أبواب الشر :
سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, مرة قال: كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام عن الخير, وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني .

قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، بعد هذا الخير هناك شر, قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟.
قال: نعم, وفيه دخن .
قلت: وما دخنه؟ .
قال: قومٍ يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر, يصلون, والله شيء جميل، يصومون أجمل، يحجون, يعتمرون، لكن في علاقاتهم الاجتماعية اختلاط، وهذا خلاف السنة, يتساهلون بالنظر للنساء، يتساهلون بطريقة بيعهم وشرائهم .
قال له: وهل بعد هذا الخير من شر؟ .
قال : نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها .

قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك, يعني يومها الفكر ملحد, والشهوات مستعرة والكاذب مصدق، والصادق مكذب، والأمين مخون, والخائن مؤتمن, والأمة تلد ربتها، تلد المرأة بنتاً تتعلم، تتفلسف، وتقول أمي: دقة قديمة، أمي لا تفهم شيئاً، هي ربتها، وهذا كله من علامات قيام الساعة .
قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ .
قال: تلزم جماعة المسلمين، لا تبقَ وحدك، لا تكن سائباً شارداً ليكن لك مرجع من دين، لك أخوان، لك مسجد، لك جماعة تطمئن لها، تثق بعلمها، تثق بورعها، تعينك إذا عجزت، تذكرك إذا نسيت، ترشدك إذا ضللت .
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك, يعني إما أن تعيش وحدك، وإما أن تعيش مع الجماعة الإسلامية، أما أن تعيش مع هؤلاء الفسقة، الفجار، المنحرفين، فهؤلاء ينتهون بك إلى النار .
إليك هذا القول له :
يقول هذا الصحابي الجليل:

((إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، محيي بالحق من كان ميتاً، ومات بالباطل من كان حياً, ثم ذهبت النبوة، وجاءت الخلافة على منهاجها، ثم يكون ملكاً عضوضاً، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه، أولئك الذين استجابوا للحق، منهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافاً يده، فهذا ترك شعبة من الحق، منهم من ينكر بقلبه، كافاً يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق، ومنهم من لا ينكر لا بقلبه، ولا بيده، ولا بلسانه, فهذا ميت الأحياء، حيٌ ميت، حي نبضه جيد، ضغطه جيد, لكنه ميت, فلا أنكر بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده))
مرة هذا الصحابي جاء النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ((يا رسول الله, إن لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار، إنه ذكي جداً ولسانه طليق, فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة))
فالإنسان كلما وقع في غلط عليه بالاستغفار . إليك بطل نهاوند :
ولهذا الصحابي الجليل مواقف بطولية، فمن يصدق أن بلاد نهاوند بأكملها فتحت على يده, وهاأنذا أقول كلمة كنت قد ذكرتها في خطة الجمعة: عمرك الذي تمضيه بين الولادة والوفاة لا قيمة له إطلاقاً
هذا أتفه أعمالك، لكن عمرك الحقيقي هو حجم عملك الصالح، هذا العمل كلما اتسعت رقعته، وكلما عم خيره، وكلما أمتد أمده، وكلما اشتد أثره, كان أعظم عند الله عز وجل، وهذا العمل الصالح كلما كثرت المعوّقات أمامه، وكلما كثرت الصوارف عنه فهناك صوارف كثيرة، والأعوان قلائل، وكلما كان هذا العمل في زمن الفساد، إذا تجبّر الأقوياء، وجار الأمراء، وأُترف الأغنياء, وداهن العلماء، وظهرت الفاحشة، كلما كان العمل أعظم عند الله عز وجل .
يا بِشر, لا صدقة ولا جهاد, فبم تلقى الله إذاً؟ هذا السؤال الكبير، الإنسان حينما ينتهي أجله، بم يلقى الله؟ قل لنفسك: ما العمل الذي فعلته حتى أستطيع أن ألقى الله به .
كلام سيدنا حذيفة الأخير:
((ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه))
إليك لحظته الأخيرة من الدنيا قبل الوداع :
حينما جاءه ملك الموت دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:

((أجئتم ومعكم أكفان؟ قالوا: نعم, قال: أروني إياها, فلما رآها، وجدها جديدة فارهة, فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم: ما هذا لي بكفن، إنما يكفنني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فإني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدل خيراً منهما أو شراً منهما, وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم إليها فسمعوها, ماذا قال؟ قال: مرحباً بالموت، حبيبٌ جاء على شوق، لا أفلح من ندم, وصعدت روحه إلى السماء))
وهذه كلمة أخيرة, فعندما يولد الطفل فكل من حوله يضحك وهو يبكي, وعندما يموت فكل من حوله يبكي، فإذا كنت بطلاً عليك أن تضحك في هذه الساعة، فاعمل طيلة حياتك بحيث إذا جاءك ملك الموت أن تكون ضاحكاً، ليس من يقطع طرقاً بطلاً, إنما من يتقي الله البطل .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 02:05 PM   #14


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الرابع العاشر )

الموضوع : سيدنا ابو ايوب الانصارى





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم البلد الذي نشر أبو أيوب الأنصاري ومن معه فيه دعوة الإسلام :
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الرابع عشر من دروس سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم أجمعين, وصحابيّ اليوم سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه .

أول شيءٍ أحب أن أضعه بين أيديكم في هذا الدرس هو أنك إذا ذهبت إلى الحج، ورأيت مئتي ألف من الحجاج الأتراك، وكلهم يبتهلون إلى الله، ويدعون الله، فإنهم في صحيفة هؤلاء الصحابة الكرام الذين خرجوا من مكة المكرمة، ومن المدينة المنورة، لينشروا هذا الدين في الآفاق .
سيدنا أبو أيوب الأنصاري أحد هؤلاء الصحابة الذين وصلوا إلى أقاصي الشمال، ودفن عند أسوار القسطنطينية, فهو الآن مدفون في أحد أحياء اسطنبول، حينما اتسعت اسطنبول شملت قبره رضي الله عنه وأرضاه, على كلٍ الإنسان يعمل في الحياة الدنيا أعمالاً كثيرة، لكن أرقى عمل له حينما ينشر الحق، ومع نشر الحق هناك جهاد في سبيل الله .
ما العبرة التي يمكن أن نأخذها من دراسة سيرة أبي أيوب الأنصاري ؟
هذا الصحابي الجليل له قصة مثيرة جداً مع رسول الله صلى الله عليه, على كلٍ هو آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى المدينة مهاجراً، فهو من الرعيل الأول الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية, ولكن من خلال هذه القصة تجدون العلاقة بين أصحاب رسول الله وبين رسول الله علاقة فريدة من نوعها، وإن شاء الله سأقف وقفة عندها، و عند كل نقطة من سيرة هذا الصحابي الجليل .
الوقائع التي سأسردها لكم ربما سردت من قبل، أو ربما قرأتموها في كتاب، والتركيز في هذه الدروس لا على الوقائع بل على التحليل، والتركيز في هذه الدروس لا على التحليل فحسب، بل على ربط هذه الوقائع وذاك التحليل بحياتنا اليومية .
أنت أيها الإنسان, ما شأنك بهذه القصة؟ ماذا تستفيد منها؟ ماذا تستنبط منها؟ ما الدروس البليغة التي يمكن أن تأخذها؟ بل وأرقى من ذلك، اسأل نفسك بعد حين, ما المواقف التي وقفتها اقتداء بهذا الصحابي الجليل؟ ماذا أفادني هذا الصحابي الجليل؟ ماذا علمني هذا الصحابي الجليل؟ هل قلدته؟ هل اتبعت خطاه؟ .

لقد رضي الله عن أصحاب رسول الله، فإذا قلت في حديثك عن أصحاب رسول الله: رضي الله عنهم، فهذا ليس دعاء، لكنه تقرير، وفرق كبير بين الدعاء والتقرير، أنت إذا ذكرت الإمام أبا حنيفة تقول: رضي الله عنه، هذا دعاء، وإن ذكرت رجلاً عالماً، جليلاً، مستقيماً، عاملاً، تقول: رضي الله عنه، لكن هذه رضي الله عنه غير تلك، فهذه دعائية، أما إذا ذكرت أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم تقول: رضي الله عنه تقريراً، وأنت في هذا لا تتألى على الله، ولكن تقول: ما قال الله، ألم يقل الله عز وجل:

﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾
( سورة الفتح الآية: 18)
يا أخي الكريم, هل من مرتبة على وجه الأرض أعلى من أن يرضى عنك خالق الكون؟ أن تشعر أنك في رضاه, أن تشعر أنه يحبك, أنه يحفظك, أنه يوفقك, قال تعالى:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
( سورة الطور الآية: 48)
كما قال الله عز وجل مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام, وقد قال بعض علماء التفسير: إن لكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب بقدر إيمانه وإخلاصه واستقامته .
الأقوياء ملكوا رقاب الناس لكن الأنبياء ملكوا قلوب الناس :
النبي عليه الصلاة والسلام، حينما بلغ المدينة تلقته أفئدة أهلها بأكرم ما يتلقى بها وافد، تطلعت إليه عيونهم، تبثهم شوق الحبيب إلى حبيبه، وهنا وقفة .

أيها الأخوة الأكارم, الإنسان له قالب وله قلب، بالقوة تملك القالب، إذا كنت قوياً بإمكانك أن تخضع الناس جمعياً لمشيئتك، بإمكانك أن تجعلهم يقولون أية كلمة تريدها, بإمكانك أن تحملهم على أي موقف، أي إنك ملكت قوالبهم، ملكت أجسامهم، ملكت رقابهم، ملكت عضلاتهم، ملكت ألسنتهم، ملكت حركاتهم، ملكت سكناتهم، إنك بالقوة تملك القالب فالبطولة ليس أن تملك رقاب الناس بالقوة، لكن بطولة الأنبياء أنهم كانون من أضعف خلق الله, ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف:

((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري, إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي))
شاءت حكمة الله أن يكون معظم أنبيائه ضعفاء، كأي شخصٍ عادي, بل إن قومه اتهموه بالجنون وبغيره، وقالوا: ﴿وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾
( سورة الذاريات الآية: 39)
يتهمه الكافر الضال بالسحر، يتهمه بأنه كاهن، يتهمه بأنه شاعر، هذا الذي يتهمه ينام في بيته ناعم البال، مطمئناً، كيف تتهم النبي بأنه مجنون، وتنام في البيت ناعم البال؟ لأنه ضعيف، لو كان قوياً لما أمكنك أن تتهمه هذا الاتهام، ولما نجوت من عقابه، إذاً: فقد شاءت حكمة الله أن يكون النبي ضعيفاً لكن بكماله ملك القلوب .

الإنسان قلب وقالب، الأقوياء يملكون القالب، لكن الأنبياء ملكوا القلوب، هذه البطولة,
البطولة أن يحبك الناس حباً حقيقياً, البطولة أن تهفو قلوب الناس إليك, البطولة أن تشعر أنهم يؤثرونك على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة, البطولة أن يميل القلب ميلاً حقيقياً, إليك النبي عليه الصلاة والسلام أحبه أصحابه حباً يفوق حدّ الخيال .

ألم تسمعوا حينما سأل أبو سفيان خبيب بن عدي، قال له قبل أن يصلب، قبل أن يقتل , قال يا خبيب:

((أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك؟))
يقولون: أن سيدنا خبيباً انتفض، كما ينتفض العصفور المذبوح, ((قال: لا والله، لا أحب أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة))
والله ما كان كاذباً، والله كان صادقاً، هذا الحب الذي يفتقده المسلمون اليوم، الثقافة موجودة، معلومات، أشرطة، كتب، مجلات, أما هذا الحب الذي هز قلوب أصحاب رسول الله، فجعلهم يؤثرون طاعة الله عز وجل على كل شيء، هذا الذي نرجو أن نصل إليه، أو هذا الذي نرجو أن نسعى إليه . الخير الذي لحق ببيت أبي أيوب الأنصاري حينما وقفت ناقة رسول الله أمام بيته :
هؤلاء الأنصار الذين آمنوا بالنبي قبل أن يروه، وحينما جاء النبي إليهم، عبروا عن حبهم تعبيراً غريباً، عبروا عن شوقهم، عبروا عن وفائهم, عبروا عن إخلاصهم، فتحوا له قلوبهم ليحل منها في السويداء، اشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل .
فكل صحابي، بل كل أنصاري، كان حلمه الأعظم أن ينزل النبي ضيفاً عنده، فهذا شرف ما بعده شرف، هذا مقام ما بعده مقام، لأنّ النبي سيد الأنبياء، سيد الرسل، الإنسان الكامل، قمة البشر، يأتيه ضيفاً، ويقيم عنده ضيفاً في بيته مكرماً معززاً، فهذا شرف لا يُدانى.

النبي عليه الصلاة والسلام لحكمة بالغة يعرفها كتاب السيرة بقي في قباء أربعة أيام ، وبنى فيها مسجداً هو أول مسجد بني في الإسلام، هذا المسجد أسس على التقوى, فأحياناً تجد مسجداً أسس على التقوى، الذي أسسه لا يبتغي سمعة، ولا شهرة، ولا مجداً، ولا كسباً، ولا شيئاً من هذا القبيل، والذي يدرس فيه, والذي يخطب فيه، مخلصون لله سبحانه، يجب أن تكون الدعوة إلى الله خالصة لوجهه الكريم, وألا تختلط بالدنيا، ألا تشوبها شائبة، ألا يوضع الدين في الوحل، أن يبقى الدين في السماء، أن يبقى الدين بعيداً عن المصالح، عن الأهواء، عن المنازعات، عن المكاسب الدنيوية، هذا هو الدين .
أنت أيها المؤمن تمثل هذا الدين، إياك أن تكذب، إياك أن تخون، إياك أن تغش الناس ، إياك أن تخلف وعدك معهم, من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته, أنت سفير ، كل واحد منكم سفير الإسلام، لأقربائهِ، وجيرانه, وزملائه في العمل، الأضواء كلها مسلطة عليك، أصغر ذنبٍ تفعله يكبره الناس، أنت حينما أعلنت أنك مسلم، أو حينما اتبعت منهج الإسلام، أو حينما عرف الناس أن لك خلفية دينية، أو حينما اتجهت اتجاهاً إسلامياً، فأنت الآن تحت المراقبة، فإياك أن تسيء لدينك, أنت على ثغرة من ثغر الإسلام، فلا يؤتين من قبلك .

وبعد أن قضى النبي الكريم في قباء أربعة أيام ركب ناقته, وتوجه تلقاء يثرب, بين يثرب وبين قباء، يعني مسير ربع ساعة أو ثلث ساعة تقريباً .
أنا في أول عمرة أكرمني الله بها ذهبت إلى هذا المسجد، أمامه ساحة، وفي وسط هذه الساحة نصب عمود, وفوق العمود كرة من البلور مكتوب عليها طلع البدر علينا، سمعت هذا النشيد بالشام عشرات، بل مئات, بل ما يقترب من ألوف المرات، لكن ما شعرت بنشوة، ولا هزة انفعالية إلا حينما رأيت المكان الذي وقف فيه أصحاب النبي يستقبلونه عليه الصلاة والسلام، في هذا المكان وقفوا واستقبلوه، وقالوا: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع, فكانوا الأنصار يعترضون الناقة، ناقة رسول الله في مسيرها، ويقولون: أقم عندنا يا رسول الله، أقم عندنا في العَدد والمنعة, نحن أقوياء, نحن رجال كثر، وعندنا أسلحة كافية، ونمنعك من عدوك، هذا عرض مغرٍ .

في الحقيقة, القيادة عمل فذ، فليس كل إنسان يكون قائداً، القائد عندما ينحاز لبعض الأطراف, ويهمل بعضها الآخر، فعندئذ يقع في مشكلة كبيرة، من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، أنه ما من واحد من أصحابه إلا وهو يظن أنه أقرب الناس إليه، فلو أنه أختار اللهم صل عليه بيتاً من البيوت تنشأ حساسيات، وتنشأ غيرة, بل أن النبي وقف موقف حكيم جداً فالحكمة هي أحد مستلزمات القيادة, فقال:

((كلما اعترض هذه الناقة أسياد الأنصار, وقالوا: يا رسول الله, أقم عندنا في العَدد, والعُدد، والمنعة، يقول لهم: دعوها فإنها مأمورة، اتركوها فإنها مأمورة))
فالنبي الكريم علمنا القرعة، القرعة ما لها مشكلة، إذا جرى تنازع بين أفراد وهم بدرجة واحدة بالنسبة لك، تحبهم جميعاً وتنازعوا على شيء، كأن يكون لك أولاد, وأنت مدعو إلى سهرة, أو مدعو إلى عقد قران، الأنسب أن تأخذ واحداً فقط، واخترت واحداً, وغيره أهملته, تنشأ مشكلة، فأقرع بينهم, فالقرعة تطيب بها النفوس .

والناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون وتحف بها القلوب، ويقول القائلون: هنيئاً لمن تقف عنده هذه الناقة، فإذا اقتربت من منزل فرح أهله، وما زالت هذه الناقة على حالها، والناس يمضون في إثرها, وهم يتلهفون شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ، حتى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيوب الأنصاري .
وقبل أن تقف الناقة, هناك راوية أخرى في كتاب آخر، من كتب التاريخ والسيرة، يوضح ويبين أنه حينما شعر عليه الصلاة والسلام أن هناك تنافساً شديداً، وهناك حساسية بالغة, وكل الأنصار يتمنون أن يقبع عندهم، أطلق زمام الناقة، لأنه لو كان ماسكاً الزمام فقد يكون تحركها بتوجيه من رسول الله، ولو أمسك الزمام, وشد الزمام، وشده يمنة أو يسرة, أو منعها لثارت شكوك، حينما رأى الأمر بهذه الدرجة من الحساسية، أطلق زمام الناقة، ولم يثنها لا يمنة ولا يسرة, ولم يستوقف خطاها، وقال: اللهم خر لي واختر لي .
لذلك الآية الكريمة التي يقرؤها المؤمنون وتذوب نفوسهم بها, قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية: 216)

يعني شاب اختار الله له زوجة، أو اختار له عملاً، أو أختار له بيتاً, فلم يدخل بكلمة لو، لو فعلت كذا لكان كذا, لو اخترت هذا لكان كذا، فكلمة (لو)ممنوعة في قاموس المؤمن لأنها تفتح عمل الشيطان، لا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، وقل: قدر الله, وما شاء فعل، أما المؤمن, يقول: اللهم خر لي واختر لي، الإنسان يطلب من الله أن يختار له، خطب ثم خطب ثم خطب، وأخيراً نصيبه فلانة انتهى، فهذه هي نصيبنا، فهو مطمئن، أما غير المؤمن, يقول: يدخل في متاهات، يعمل موازنات، أختها أحسن منها، الله يصلحها أمي لو اختارت لي أختها، لمَ تنظر لأختها؟ ما لك حق ترى أختها أساساً، هذه مخالفة شرعية .

أن تنظر اللهم خر لي واختر لي، في عملك، في زواجك، في شراء البيت، في تربية أولادك، هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام، فالله هو العليم، هو الحكيم، هو الرحيم، هو الخبير، اترك الأمر إليه .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها, حكم ما بعدها حِكم، ليست القضية أنه هو أوقفها ونزل، أو لمجرد أن وقفت نزل، بل حتى يثبت موقف الناقة، فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي, والنبي عليه الصلاة والسلام مُرخٍ لها زمامها، ثم ما لبثت أن عادت ادراجها وبركت في مبركها الأول .
القضية مركزه, والموقع اختاره الله عز وجل، وهذا الموقع ماذا أصبح الآن أصبح مقام رسول الله؟ والمسجد النبوي بني فيه القضية لها أثر كبير جداً، عندئذ غمرت الفرحة فؤاد أبي أيوب الأنصاري، وبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرحب به، وحمل متاعه بين يديه وكأنما يحمل كنوز الدنيا كلها، ومضى إلى بيته، هذا الإنسان العظيم حلّ ضيفاً عنده .
إليكم وصف بيت أبو أيوب الأنصاري وماذا حدث معه ؟
أيها الأخوة, أما منزل أبو أيوب الأنصاري، منزل متواضع، يتألف من طبقة فوقها علية، يعني غرفة صغيرة لكنها في الطبقة الثانية, فأخلى العلية من متاعه ومتاع أهله، لينزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام رحمة بأصحابه آثر عليها الطبقة السفلى، لأن الطابق الأرضي أسهل للصحابة عند لقائه والقدوم إليه، فالباب خارجي والمنزل أرضي, وهذا فيه سهولة واضحة, فامتثل أبو أيوب لأمره, وأنزله حيث أمر
لذلك تجد العلماء يتنازعون أحياناً، والامتثال خير من الأدب, فإذا وقع خلاف فالأدب هو الامتثال, والامتثال أولى, ولما أقبل الليل، وأوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، صعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته إلى العلية، وما إن أغلقا عليهما بابهما حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته, وقال: ((ويحك ماذا صنعنا بأنفسنا؟ أيكون النبي عليه الصلاة والسلام أسفل منا ، ونحن أعلى منه؟ أنمشي فوق رسول الله؟ أنصير بين النبي وبين الوحي، إنا إذاً لهالكون؟))
فما هذا التعظيم؟ ماذا قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
( سورة الحج الآية: 32)

هذا الذي يعظم رسول الله، يعظم المصحف، يوقر الكعبة, فهذا يعرف الحق لأصحابه ، هناك أشخاص يستهينون بهذه المقدسات, بينما تعظيم هذه المقدسات دليل إيمان الإنسان، والأصل في ذلك قوله تعالى:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
( سورة الحج الآية: 32)
وهنا نقف إزاء ملاحظة لا بد من بيانها: أن الكفر أنواع ثلاثة: هناك كفر قولي، وكفر اعتقادي، وكفر سلوكي .
لو أن إنساناً أمسك بالمصحف, وألقاه وأراد أن يهينه فقد كفر, هذا سيدنا أبو أيوب يقول: ماذا فعلت اليوم؟ أنمشي فوق رسول الله؟ أيكون النبي أسفل منا؟ أنكون بينه وبين الوحي؟ إن ذنب المنافق كالذبابة، وذنب المؤمن كالجبل الجاثم فوق صدره، كلما استصغرت الذنب كبر الذنب، وكلما استعظمت الذنب صَغُر .
لم تسكن نفسهما بعض السكون إلا حينما انحاز إلى جانب العلية، الذي لا يقع فوق رسول الله، والتزاماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط، نام هو على طرف الحائط, وزوجته على الطرف الآخر, يعني ابتعدا عن مكان نوم النبي عليه الصلاة والسلام .

فلما أصبح أبو أيوب، قال للنبي عليه الصلاة والسلام:

((يا رسول الله, والله ما أُغمض لنا جفن هذه الليلة، لا أنا ولا أم أيوب))
يعني من سعادة المرء أن تكون زوجته على نمط الزوج, فأحياناً تجد الزوجة تعترض على زوجها, هذا شيخك, تنزل دائماً بالشيخ، فما عندها ولاء لزوجها، أما الزوجة الصالحة ولاؤها كولاء زوجها يعني لها ولاء لدينه، ولجامعه، ولشيخه، أم أيوب مثلها مثله تماماً, فقال عليه الصلاة والسلام: ((ومما ذلك يا أبا أيوب، فقال: ذكرت أني على ظهر بيت أنت تحته، وإني إذا تحركت تناثر عليك الغبار، فآذاك، ثم إني غدوت بينك وبين الوحي, فقال عليه الصلاة والسلام: هون عليك يا أبا أيوب، إنه أرفق بنا أن نكون في السفلي، لكثرة من يغشانا من الناس))
فالله عز وجل وضعه في آية, فقال: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾
( سورة ص الآية: 86)
قال أبو أيوب: ((فامتثلت لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرة في العلية، ووقعت مشكلة, وأريق ماؤها في العلية, وكانت مشكلة كبيرة جداً، فقمت إلى الماء أنا وأم أيوب، وليس لدينا إلا قطيفة كُنّا نتخذها لحاف، وجعلنا ينشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم))

هذا كله مسجل، الأدب مسجل، الحب مسجل، والتضحية مسجلة, والبذل مسجل، والإنفاق مسجل .
((فلما كان الصباح، غدوت على النبي صلوات الله عليه, وقلت له: بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل مني، ثم قصصت عليه خبر الجرة، وهكذا صار معنا البارحة، فاستجاب لي))
ما أحب أن يحرج أبا أيوب، ما أحب أن يحمله فوق طاقته فوقف موقفاً ليناً .
أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر، حتى تم بناء مسجده في الأرض الخلاء، التي بركت فيها الناقة, فانتقل إلى الحجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه، فغدا جاراً لأبي أيوب، معناها بيت أبي أيوب الأنصاري إلى جوار المسجد النبوي الشريف .
أما الآن إذا ذهبت إلى هذا المكان تجده غداً من أرقى الأبنية في العالم, فيه أعظم مشروع تكييف في العالم، كله تعظيماً لهذا النبي الكريم . المحبة والشوق اللتان غمرتا أبا أيوب الأنصاري اتجاه رسول الله مما رأى من كماله الإنساني :
أيها الأخوة, إقامة النبي عند سيدنا أبي أيوب الأنصاري، أورثت لهذا الصحابي حباً للنبي منقطع النظير, والحقيقة أن الإنسان أحياناً يُحبُّ عن بعد، فإذا سافرت معه تنكمش منه،
قالوا: الإنسان إذا رأيته أول مرة تعرفه من شكله، من هندامه, من ألوان ثيابه، فإذا تكلم نسيت شكله .
الأحنف بن قيس كما تعلمون, كان قصير القامة، أسمر اللون, مائل الذقن، ضيق المنكبين، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، أحنف الرجل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، إذا غضب غضب لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، وكان إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه .

فإذا عاملك تنسى كلامه, فالبطولة أن على الإنسان ألا يحب عن بعد، بل أن يحب عن قرب، أن يحب وأنت شريكه, وأنت مسافر معه، هو جارك، هو ضيفك، أما من بعد، كل إنسان ببيته، بعلاقاته العامة، أناقة واحترام، وكلام لطيف، واعتذارات, ودبلوماسيات، وعبارات رقيقة، أما المجاورة، أو السفر, أو المحاككة بالدرهم والدينار، فهذه هي المحكة, بعض الأشخاص لهم هالة كبيرة جداً، لو دخلت إلى حياتهم الخاصة، لرأيت فرقاً شاسعاً بين أقوالهم وبين أفعالهم, لذلك تنكمش منهم .
فسيدنا أبو أيوب عاش مع النبي في بيت واحد، وعلى قرب شديد, فماذا فعل به هذا القرب الشديد؟ زاده حباً، زاده تعلقاً، زاده تعظيماً، زاده إكباراً لكماله, المؤمن تحبه عن قربٍ وعن بعدٍ، تحبه من دون أن تخالطه، وتحبه إذا خالطته, تحبه من دون أن تسافر معه, وتحبه إذا سافرت معه، تحبه من دون أن تشاركه، وتحبه إن شاركته .
أنا أتألم جداً عندما أرى أخوين بعد أن تشاركا تخاصما، رغم كل هذا الحب, وكل هذه المودة، لما دخلتما في شركة واحدة, بدأت الخصومات, والحسد، والانتقادات، لماذا؟ لضعف إيمان أحدهما، أو لضعف إيمان كليهما, بالعلاقات الحميمة يزداد تألق المؤمن، وكذلك في السفر، ومع الجوار، إن سكن معه في بيت واحد، ازداد الحب، والتعلق، والشوق، حتى رفعت الكلفة .

والنبي عليه الصلاة والسلام يعني قائد فذ, صديق حميم، وأب رؤوف, وزوج ناجح، كان إذا دخل صحابي يداعبه هذا خالي أروني خالاً مثل خالي، فالنبي الكريم أقام في هذا البيت سبعة أشهر، وكأن هذا البيت بيته، ورفعت الكلفة بينهما إلى ما لا نهاية .
لذلك يا أخوان, أجمل شيء في الحياة، أخ لك مؤمن، تخلص له, ويخلص لك، تحبه ويحبك, تؤثره ويؤثرك، تضحي من أجله, ويضحي من أجلك، تقرضه ويقرضك، تعينه ويعينك، تشعر بمشاعره، تتألم لآلامه، تفرح لأفراحه، هذا حال المؤمنين, هكذا قال النبي: المؤمنون بعضهم لبعض نصحه متوادون, ولو ابتعدت منازلهم, والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون, ولو اقتربت منازلهم .

قال لي أخ كان مع جماعة مؤمنين: والله ما ارتحت معهم، لماذا؟ قال لي: ما رأيت اثنين متحابين, كل واحد ينتقد الآخر، فعلامة أهل الإيمان أنهم يحبون بعضهم حباً حقيقياً، ومع الحب رفع الكلفة, ومع الحب الوفاء، ومع الحب التضحية، ومع الحب التعاون, قال تعالى:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
( سورة المائدة الآية: 2)

سيدنا أبو أيوب، بعد أن انتقل النبي إلى بيته المجاور للمسجد النبوي, وهو يرى أن كل سعادته بإكرام النبي، كل سعادته كانت أساسها، أن الله أكرمه بأن جعل النبي ضيفه، فهذا الخير كأنه انقطع، فأحبّ أن يستمر الخير فكان يعد له كل يوم طعاماً على الطريقة القديمة, و النبي الكريم, قال:

((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل))
فإذا أنت صليت قيام الليل فاستمر، وإن خصصت مبلغاً كل شهر صدقة فاستمر، الأعمال المستمرة، تتراكم، ومع التراكم تتعاظم، ومع التعاظم تحملك إلى الله عز وجل، لكن بعضهم يهب هبة ثم ينطفئ, يفور ويهمد، هذا ليس من صالح المؤمن، أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
إن كان لك عمل صالح فاستمر عليه، تقصد هذا المسجد استمر عليه لك هذه الصدقة ، لك هذا الجزء من القرآن تقرؤه كل يوم استمر عليه، لك هذا الذكر استمر عليه . البشاشة التي كانت على وجه أبي أيوب حينما استقبل ضيافة رسول الله ومن معه :
فمرة طرق النبي الكريم مع سيدنا الصديق وسيدنا عمر باب داره, يعني النبي جاع، وكان فقيراً، ولأن النبي قدوة للمؤمنين جميعاً إلى يوم القيامة, لابد من أن يذوق كل شيء، ولو أن النبي ما ذاق الجوع إطلاقاً، وما ذاق الفقر إطلاقاً، فلا يمكن أن يكون قدوة لنا .
قال:
((أوذيت وما أوذي أحد مثلي، وخفت وما خاف أحد مثلي, ومضى علي ثلاثون يوماً، لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال))

فيبدو أن النبي لم يكن عنده طعام، فانطلق إلى بيت أبي أيوب، ماذا فعل أبو أيوب؟ كان يعمل في نخلٍ قريب، فأقبل يسرع, ويقول:
((مرحباً برسول الله, وبمن معه))
أحياناً تهتم بالضيف الأول, وتهمل الباقين، فيستحون بحالهم, لأن المضيف لم يلتفت إليهم، انتبه يا أخي, فمع ضيفك اثنان آخران، رحب بهم جميعاً .
بالمدينة المنورة أخٌ دعانا إلى غذاء، لفت نظري أنه ما أكل معنا أبداً، بقي واقفاً يقدم لنا الطعام، هذه من سنة النبي، فالترحيب والإكرام، يقف ويوزع الطعام بيده، على كل واحد من المدعوين, هذه من سنة النبي . ((انطلق أبو أيوب إلى نخلة، فقطع منها عرقاً, فيه تمرٌ ورطبٌ وبسرٌ، البسر يعني تمر لم ينضج بعد، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أردت أن تقطع يا أبا أيوب، هلا جنيت لنا من ثمره، قال: يا رسول الله, أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره, فكل ما تشتهي نفسك بسراً أو رطباً أو تمراً يا رسول الله، ولأذبحن لك أيضاً، قال: إن ذبحت، فلا تذبحن ذات لبن))

وفي أيامنا هذه قد يكون أحد جائعاً ولا يقبل ضيافة مضيفه, ويقول: قبل قليل أكلت، هذا لا معنى له, أنت جائع, وهو أحب أن يكرمك، قل له: ضع لنا أكلاً، ما في مانع، يعني الكريم ما من كلمة أحب إلى قلبه من أن يقول له الضيف: ضع لي طعاماً، لكن بلا تكلف .
((فأخذ أبو أيوب جدياً، فذبحه، ثم قال لامرأته: اعجني واخبزي لنا, ثم أخذ نصف الجدي فطبخه، وعمد إلى النصف الآخر فشواه، فلما نضج الطعام، ووضع بين يدي النبي وصاحبيه، أخذ النبي قطعة من الجدي، ووضعها في رغيفٍ, فقال: يا أبا أيوب, بادر بهذه القطعة إلى فاطمة, فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام))
فالمؤمن وفيّ لأهله، واليوم أخوان مؤمنون كثيرون إذا دعي لطعام نفيس، ففي اليوم التالي يجلب للبيت طعاماً مثله لأهله, يعني هذه زوجتك، وشريكة حياتك، فان أكلت أنت ما لذّ وطاب, وهي محرومة، فهذا شيء لا يليق بالزوج أبداً . ((فلما أكلوا وشبعوا, قال النبي عليه الصلاة والسلام: خبزٌ، ولحمٌ، وتمرٌ، وبسرٌ، ورطبٌ ، ودمعت عيناه))

يعني أحدنا إذا أكل صباحاً، وكان على المائدة لبن مصفى، وزيتون, وجبن وبيض مقلي، وكأس حليب، فلا يبكي، أو لا تدمع له عين شكراً على ما أنعم الله عليه، لكن النبي بكى، فالنبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت .
ثم قال:
((والذي نفسي بيده، إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة))
إذا الإنسان أكل قطعة جبن مع كأس شاي، وصحة طيبة، فهذه أكبر نعمة فإذا أصبتم مثل هذا، فضربتم أيديكم فيه, فقولوا: بسم الله، لأن الشيطان إذا دخل إنسان لبيته وما سلم، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وطول الليلة خلاف, وخبط أبواب وتكسير، وسباب بين الزوجين, ثم ضرب وصراخ ، ثم غادرت بيتها لبيت أهلها، الشيطان نام عندهم، سلم يا أخي، وقل: السلام عليكم, يهرب الشيطان، فالمشاحنات كلها أساسها البعد عن الله عز وجل .
قال: ((فإذا شبعتم, فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا, وأنعم علينا فأفضل، ثم نهض النبي إلى أبي أيوب، وقال: ائتنا غداً لنكافئك))
والنبي الكريم, قال: ((من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه))
هل تخلف أبو أيوب عن غزوة غزاها مع رسول الله, وما هي وصيته ؟
سيدنا أبو أيوب عاش طوال حياته غازياً، حتى قيل: إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها النبي أبداً، وكانت الآية الكريمة شعاراً له:
﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً﴾
( سورة التوبة الآية: 41)

سيدنا أبو أيوب في عهد معاوية بن أبي سفيان، انخرط في جَيَّش جيشه معاوية بقيادة ابنه يزيد لفتح بلاد الروم, كم كان عمره في ذاك الوقت؟ ثمانون عاماً, بينما في أيامنا الرجل بالأربعينات معه حزمة أدوية قبل الطعام وبعده .
عاش هذا الصحابي الجليل مجاهداً، يبدو أنه أصابه مرض في هذه الغزوة، كان قائد الجيش يزيد بن معاوية, فخف إليه القائد، قال له: يا أبا أيوب, ما حاجتك؟ فطلب أبو أيوب الأنصاري من يزيد إذا هو مات أن يُحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض العدو، ويدفن هناك, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع أبو أيوب وهو في قبره وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، عندئذ يدرك أنهم قد أدركوا ما يبتغون، من نصر وفوز، وهذه أمنيته .
سيدنا عمر بن الخطاب، حينما قتل، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، سأل سؤالاً، قال:
((أصلّى المسلمون الفجر؟))

أما هذه الأيام اسأل طبيباً، يشاهد حالات الموت, فيسمع المريض: أين السيارة؟ موجودة لا تخف، فهو قلق على سيارته، وعلى فلوسه، وعلى بيته, وعلى ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة .
هذه أمنية أبو أيوب الأنصاري, وقد تحققت، وقبره معروف ضمن اسطنبول، حتى الحي المدفون فيه له اسم شهير، من يذكره؟ طبعاً يزيد بن معاوية أنجز وصية أبي أيوب وقبره في قلب القسطنطينية, وهي اليوم اسطنبول، وتضم جثمان هذا الرجل العظيم، أما الشيء الغريب، أنه قبل أن تفتح القسطنطينية, وتغدو اسطنبول كان الروم يتعاهدون قبره، ويزورنه، ويستسقون بقبره إذا قحطوا .
فأعداء المسلمين كانوا يتبركون به، أنا أعرف يقيناً أنه ما من رجل أوربي زار دمشق إلا وطلب زيارة قبر سيدنا صلاح الدين، ويقف هؤلاء باحترام كبير أمامه، لأنه عاملهم أشرف معاملة، لما انتصر عليهم في بيت المقدس . من أقواله الشهيرة :

من أقوال سيدنا أبي أيوب: إذا صليت فصلّ صلاة مودع, هذا الحديث عن رسول الله, أما سيدنا أبو أيوب كان يتمثله دائماً، ولا تكلمن بكلام تعتذر منه، وتمام النصيحة هي: إلزم اليأس مما في أيدي الناس، يحبك الناس، إياك وما يعتذر منه، ولا تطمع بما عند الناس, هذه كلها من نصائح هذا الصحابي الجليل، التي كان يأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكل واحد رأى ملايين الأتراك المسلمين، والأعداد الكبيرة منهم في الحج، وهذا كله من بركات هذا الفتح الإسلامي لهذه البلاد, ولنا أخوان من الصين، أين الصين؟ سألت أخاً زارني منذ يومين, قال لي: أنا من الشمال، الشمال الشرقي، من الصين، أولئك الفاتحين إذ آلاف الكيلومترات بين الشام وبين الصين، ورغم بعد المسافة وصلوا عليها وفتحوها .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع من هذه الدروس، وأن يكون هؤلاء الصحابة قدوة لنا ، وأن نقتدي بهداهم، فهم الذين رضي الله عنهم, ورضوا عنه .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-20-2018, 02:08 PM   #15


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الخامس العاشر )

الموضوع : سيدنا الطفيل بن عمرو الدوسى





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لمحة عن حياة الطفيل بن عمرو الدوسي :
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الخامس عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، و صحابي اليوم سيدنا الطُّفيل بن عمرو الدوسي، لهذا الصحابي الجليل قصةٌ مثيرة جدًّا يرويها هو بالذات، فنحن مع قصته بروايته، ولكن قبل أن نبدأ برواية قصته أقدِّم لكم نبذةً عن هذا الصحابي .
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس، وكان زعيم قبيلته، وبالمناسبة كل إنسان له مكانة فهذا له حساب خاص، إن أحسن فله أجران, وإن أساء يُضاعف له العذاب ضعفين، لماذا؟ لأنه قدوة، الأب غيرُ الابن، إذا الأب دخن يُحاسب مرتين، إذا الأب كذب يحاسب مرتين ، قال تعالى :
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 32)
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 30)

إذًا: عليَّة القوم، مدير مستشفى، مدير ثانوية، عميد كلية، قائد في سرية, كلما علاَ منصبُك فلك حساب خاص، سيدنا عمر رضي الله عنه, كان إذا جمع أهله و خاصته, قال:

((إني قد أمرت الناسَ بكذا, ونهيتهم عن كذا, والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا, وايمُ الله لا أُوتيَنَّ بواحد وقع فيما نهيت الناسَ عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني,
(فصارت القرابةُ من عمر مصيبة)
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, قَالَ: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ, فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فأبطؤوا عَنْهُ, حَتَّى رؤي ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ, قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ, ثُمَّ جَاءَ آخَرُ, ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ, وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا, وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))
[أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله في الصحيح]

ملخَّص هذا الكلام شخص قدوة له حساب خاص، إن أحسن فأجره مضاعف، أجر نفسه, وأجر من قلَّده، وإن أساء فعقابه مضاعف, عقابه على خطئه, وعقابه على كل من اقتدى به في خطئه .
سترون بعد قليل, كيف أن هذا الصحابي الجليل، الطفيل بن عمرو الدوسي، لأنه زعيم قبيلة، ولأنه سيد قبيلة لما أسلم أسلمَت كلُّ قبيلته, فإذا كان لك شأن فممكن بهذا الشأن العالي أن ترقى إلى أعلى عليِّين، ويمكن بهذا الشأن العالي أن تهوي إلى أسفل سافلين، أتباعك المعجبون بك، الذين يرونك في مكان عالٍ، والذين أنت ملءُ سمعهم وبصرهم، هؤلاء إن قلَّدوك لإحسانك ارتقيتَ مرتين، وإن قلَّدوك بإساءتك عوقبت مرتين، فكل إنسان في موضع القيادة، وفي مركز مرموق، في مركز وجيه له سمعته, وله أسرته، عميد أسرته، هذا له حساب مضاعف، ولا أبالغ بأن محور هذه القصة أنك إن كانت لك مكانة و أسلمت، فكلُّ من حولك يقلِّدونك .
فكان هذا الصحابي في الجاهلية سيد قبيلة دوس، وشريفا من أشراف العرب المرموقين, وواحدا من أصحاب المروءات المعدودين، لا تنزل له قِدرٌ عن نار, ولا يوصد له باب أمام طارق، والعرب كنّوا عن الكرم, بقولهم: فلان لا يُغلق بابه، أو فلان لا تطفأ نارُه، أو فلان كثير الرماد، و كنُّوا عن البخل, كما قال الشاعر:
بيضُ المطابخ لا تشكو إماؤهم طبخَ القدور و لا غسل المناديلِ

فالأمور عند هؤلاء منتظمة جدا، لأنه لا ضيوف يحلون، ولا امتلأ البيت يوماً، وهذه من الكنايات التي أَلِفها العرب في كلامهم، كان هذا الصحابي في الجاهلية يطعم الجائع و يؤَمِّن الخائف, و يجير المستجير, وهو إلى ذلك أديب لبيب أريب، وبالمناسبة من كان يتحلَّى بمكارم الأخلاق من مروءة أو كرم أو حمية أو نجدة أو إغاثة ملهوف أو رحمة, فهذه الصفات الأخلاقية لا بد من أن تحمل صاحبها في يوم من الأيام على طاعة الله، لأن الله يحب مكارم الأخلاق، كان أديبا أريبا لبيبا، ومعنى أريب أي ذكيٌّ فطن، وما من عطاء أعظم من أن تكون فطنا، كان بصيرا بحلو البيان، يقال: فلان صاحب فضل, فلان صاحب علم، فلان صاحب بيان، البيان طريق اللسان، العالم يعلم جزئيات أيّ موضوع، و صاحب الفضل له عمل طيب.
على كل: المؤمنون يتوزَّعون في حقول ثلاثة، هناك مؤمن يغلب عليه الفكر، أي كل قضية يفهم أبعادها ودخائلها و خوارجها وملابساتها، يطالع كثيرا, ويفهم كثيرا، يفنِّد مزاعم المفترين، يردُّ على النظريات الشيطانية، هذا مؤمن يغلب عليه الفكر، هذا له عند الله وظيفة، هناك مؤمن آخر يغلب عليه العمل الصالح، خدمة الأرامل والأيتام وبناء المساجد، وخدمة الناس، والتوفيق بين المتخاصمين، هذا عمل طيب
وهناك مؤمن يغلب عليه الحالُ، يعتني بأحواله وأذكاره وأطواره وقراءاته وتلاوته, لكن الأكمل من كل هذا أن تجمع بين هذا و ذاك ، الأكمل أن تكون حادَّ الفكر, عامرَ القلب، مستقيم السلوك، أن تجمع بين العلم والعمل، وبين الحال، قال: يا ربي, أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبُّ العباد إليَّ تقيُّ القلب نقيُّ اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحب من أحبني, وحبَّبني إلى خلقي، قال: يا ربي, إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبُّك، فكيف أحبِّبك إلى خلقك؟ قال: ذكِّرهم بآلائي ونعمائي و بلائي, الآلاء أي الآيات, ذكِّرهم بها حتى يمتلئ قلوبُهم تعظيما لي، ذكِّرهم بالنعم حتى تمتلئ قلوبهم حبًّا لي، ذكِّرهم بالبلاء حتى تمتلئ قلوبهم خوفا مني .
إذًا: لا بد أن يكون في قلب المؤمن تعظيمٌ وحبٌّ وخوف، وإذا أردتَ أن تدعو إلى الله عز وجل يجب أن تجمع بين كل هذه المعاني، وأن تذكر الناس ببعضَ النعم التي أنعم اللهُ بها على المؤمنين حتى يحبُّوا اللهَ عز وجل، وأن تتلو عليهم بعضَ النقم المخيفة حتى يخافوا من عقابه، ويلتزموا أمره, وأن تذكِّرهم ببعض الآيات العظيمة حتى يمتلئوا تعظيما له، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
(سورة فاطر الآية: 28)
إليك قصة إسلامه :
هذا الطفيل بن عامر الدوسي غادر منازل قومه في تهامة، وتهامة هي السهل الساحلي الموازي للبحر الأحمر، سهول تهامة، كما عندنا بين البحر وبين الجبل سهل، فهناك سهول ساحلية، في المملكة العربية السعودية، بين البحر الأحمر وبين الجبال التي تحاذيه سهول اسمها سهول تهامة، فهذا الطفيل هنا مضارب قبيلته، فغادر منازل قومه في تهامة متوجِّها إلى مكة المكرمة، وفي مكة المكرمة كان صراع عنيف يدور بين النبي وأصحابه من جهة، وبين كفار قريش من جهة ثانية، حينما دخل مكة شعر أن فيها شيئا غريبا، وأن فيها معركة ضارية, وأن فيها عوامل فتنة، وأن فيها حركة جذرية، وأن هناك من يكره النبيَّ كراهية شديدة، هناك من يمنع الناسَ أن يلتقوا به، هناك أصحابه الذين يحبونه, أي هناك بمكة مشكلة.
قال الطفيل:
((قدمتُ مكة، فما إن رآني سادةُ قريش حتى أقبلوا عليَّ فرحَّبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني فيهم أعزَّ منزل، ثم اجتمع إليَّ سادتُهم وكبراؤهم, وقالوا: يا طفيل, إنك قد قدِمتَ بلادنا، وهذا الرجل الذي زعم أنه نبيٌّ قد أفسد أمرنا، ومزَّق شملنا, وشتَّت جماعتنا، و نحن إنما نخشى أن يحلَّ بك وبزعامتك في قومك ما قد حلَّ بنا، فلا تكلِّم الرجل, ولا تسمعنَّ منه شيئا, فإن له قولا كالسحر, يفرِّق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه, وبين الزوجة و زوجها))
هكذا يرون .
لماذا أهل الكفر والضلال يطعنون بأهل الإيمان ؟

أيها الأخوة, دائما أهل الكفر والضلال يحذِّرون من أهل الإيمان، ودائما أهل المعصية و الفجور يحذِّرون من الدعاة إلى الله عز وجل، دعواهم مضحكة، إنه يسلبك، يحرمك من أهلك، ويبعدك عن مجتمعك، ويجعلك منعزلا، هذا كله كلام فارغ، إذا كان الإنسان في ماء آسن، فإذا خرج من هذا الماء الآسن, واغتسل, وتطيّب, وشعر ببهجة النظافة ، أيفرَِّق بين فلان وجماعته؟ جماعته كلهم في ضلال، لكنه انسحب منهم، نجا بنفسه منهم، هذا ليس تفريقا، وعلى كلٍّ فالعاقل لا يصغي إلى كلام الفاسق، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
(سورة الحجرات الآية: 6)
لا تصغِ إلى الفاسق، قال تعالى: ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
(سورة الكهف الآية: 28)
هذا الذي ينصحك انظر إليه, هل يعصي اللهَ؟ هل يصلي؟ هل يخاف الله؟ هل هو منصف؟ إذا كان لا يصلي, وإذا كان مقطوعا عن الله عز وجل, وإن لم يكن منصفا, فكيف تصغي إليه؟ إنه فاسق، والله سبحانه يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
(سورة الحجرات الآية: 6)

يا أيها الأخوة, أهل الدنيا وأهل الضلال، أهل الكفر والفسوق والعصيان فيهم دافع قويٌّ جدا إلى ماذا؟ هؤلاء لا يتوازنون إلا إذا طعنوا في المؤمنين الصادقين، هم إن لم يطعنوا يُحاصرون، متى يرتاح هؤلاء، هؤلاء عندهم عقدة نقص, عندهم شعور بالذنب، عندهم شعور بالدونية، هؤلاء لا يستعيدون توازنهم إلا إذا طعنوا في أهل الحق، فمعركة أهل الحق مع أهل الباطل معركة أزلية أبدية، معركة قديمة جدا، لذلك الإنسان ليس له حق أبدا بل هو آثم إذا صدَّق كلامَ أهل الفسوق في أهل الحق, فتارة يقول لك: له مقصد، وتارة يقول لك: له مصلحة ، و تارة يقول لك: هذا يقول شيئا, و يفعل شيئا، هذا كلام مألوف في كل عصر، لذلك المؤمن لا يصغي إلى أهل الفسق والفجور إذا حدَّثوه عن أهل الإيمان، والآية الكريمة واضحة جدا .

قال الطفيل:

((فو الله ما زالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره, ويخوِّفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله, حتى أجمعتُ أمري على أن ألا أقترب منه, وألا أكلمه, أو أسمع منه شيئاً))
واسمعوا هذه الآية, قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾
(سورة العلق الآية: 9-10)
انتهت الآية ، ما معنى هذه الآية ؟ أين جواب أرأيت ؟ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾
(سورة العلق الآية: 9-10)
أي انظر إلى أفعاله، انظر إلى سلوكه, انظر إلى دناءته، انظر إلى خيانته، انظر إلى كذبه، انظر إلى انحرافه، هذا السلوك المنحرف, وهذه الدناءة ألا تكفيك دليلاً على أنه كاذب، و على أن هذا الإنسان هو أحقر من أن تصغي إليه, لذلك على المؤمن الصادق ألا يصغي إلى كلام أهل الباطل في أهل الحق .

ينبغي على المؤمن إذا سمع عن أخيه إشاعة سيئة أن يتحقق :
أقول لكم الموقفَ الكامل: أنك إن سمعتَ كلاما فيه طعنٌ شديد في رجل مؤمن، فما موقفك؟ هناك مجموعة مواقف، إنك إن كذَّبت هذا الكلام تكذيبا سريعا, ورأيت القائل له غرض, ورأيته كذَّابا، ورأيته أفَّاكا, و لم تعبأ بهذا الكلام, ولم يهزَّ فيك, ولا شعرة واحدة، لا عليك أن تلقي كلامه عرضَ الطريق, ولا تبالِ به، وعليك أن تقول له: هذا كلام غير صحيح، وأنا لا أصدقك، لكن إذا كان كلامه ذكيًّا وأعطاك بعض الأدلة، وأعطاك بعض البينات, وتشوَّشت أنت, وشعرت أن هذه المكانة العلية قد هُزَّت, وأن هذه القدوة قد تزلزلت، فإذا بلغت من كلامه هذا المبلغ, فماذا عليك أن تفعل؟ عليك أن تذهب إليه، إلى هذا المؤمن, وتقول له فيما بينك و بينه: سمعتُ عنك هذا الكلام, فقل لي الحقيقة، قد يقول لك: هذا الكلام غير صحيح, وهذا هو الدليل، أنا على عكس ذلك، أو واللهِ يا أخي, كنتُ سابقا في خطأ, والآن تبتُ منه، على كلٍّ إذا أسأت الظنَّ بأخيك المؤمن فلا بد لك من أن تتحقَّق وإلا تكون آثماً, قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
(سورة الحجرات الآية: 6)
لذلك قيل: من أساء الظنَّ بأخيه فكأنما أساء الظن بربِّه, هذه معركة أزلية أبدية، هذه القصة, والتي بعدها, والتي بعدها, وفي كل زمان، وفي كل مكان تندرج في سلسلة الصراع الطبيعي بين الحق و الباطل، في الحياة حق و باطل، خير وشر، إحسان وإساءة، وأنت لا بد أن تنضمَّ إلى أحد الفريقين، فإن كنت مع أهل الباطل فلا بد من أن تتهجَّم على أهل الحق، و إن كنت مع أهل الحق فلا بد من أن تدافع عنهم .
((ولما غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة, والتبرُّك بأصنامها، التي كنا إليها نحجُّ و إياها نعظِّم، حشوتُ في أذني قطنا، خوفا من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد، لكني ما إن دخلتُ المسجد حتى وجدتُه قائما يصلي عند الكعبة، صلاةً غير صلاتنا، ويتعبَّد عبادة غير عبادتنا))
الصلاة هي معراج المؤمن إلى رب السموات والأرض :
لا خير في دين لا صلاة فيه, والصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين, ومن هدمها فقد هدم الدين، الصلاة سيدة القربات, وغرَّة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
(سورة طه الآية: 14)
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ, قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ مِسْعَرٌ: ((أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ, فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: يَا بِلالُ, أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا))
[أخرجه أبو داود عن سالم بن أبي الجعد في سننه]

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشعري, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ, وَسُبْحَانَ اللَّهِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تملأان أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ, وَالصَّلَاةُ نُورٌ, وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ, وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ, وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))
[أخرجه مسلم عن أبي مالك الأشعري في الصحيح]
الصلاة طهور, الصلاة ميزان, قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
(سورة النساء الآية: 43)
الصلاةُ إذًا: وعيٌ، الصلاة ذكر، والصلاة دعاء، والصلاة تقرُّب، قال تعالى:
﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾
(سورة العلق الآية: 19)
الصلاة مناجاة، الصلاة عُروج، والصلاة إقبال، والصلاة طهور، الصلاة سعادة، الصلاة نور، هذه الصلاة, لا خير في دين لا صلاة فيه, أنا أحيانا مغرم بضغط المعلومات، ممكن هذا الدين العظيم الواسع أن تضغطه في كلمتين, فربنا عز وجل قال على لسان سيدنا عيسى:
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾
(سورة مريم الآية: 31)

الدين اتِّصال بالخالق, وإحسان للمخلوق، حركة نحو السماء, وحركة نحو الأرض، نحو السماء إقبال على الله، نحو الأرض خدمة الخلق, لذلك يا رب, لا يطيب الليل إلا بمناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك، إن لله عملا في الليل لا يقبله في النهار, وإن لله عملا في النهار لا يقبله في الليل، هذا الدين، كان يصلي اللهم صلِّ عليه، وإذا استقام الإنسان أيها الأخوة استقامة تامة، يتجلَّى اللهُ على قلبه عندئذ يعرف حقيقة الصلاة، يعرف ويتذوَّق قول النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ, قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: قَالَ مِسْعَرٌ:

((أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ, فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: يَا بِلالُ, أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا))
[أخرجه أبو داود عن سالم عن أبي الجعد في سننه]
لسان حال معظم المسلمين أرحنا منها، صلى و أوى، هذه معناها: أرحنا منها، أما النبي كان إذا حضر وقت الصلاة, فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه, لذلك عندما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده، فهل تفهم ما تقول؟ أي أن اللهُ سبحانه وتعالى الآن يصغي إليك, ويسمع حمدك و ثناءك .
قال الطفيل:
((فكان يصلي هذه الصلاة, ويتعبَّد عبادة غير عبادتنا، فأسرَّني منظرُه، في وجهه نور، وفيه سمت حسن, وهزَّتني عبادته, ووجدتُ نفسي أدنو منه,
(رغم كل التحذيرات لم تفلح معهم)
قال: ((ووجدت نفسي أدنو منه شيئا فشيئا على غير قصد مني حتى أصبحت قريبا منه، قال: وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعضٌ مما يقول، فسمعت كلاما حسنا))
يا أيها الأخوة, إن استمعتَ إلى القرآن, وأنت صافٍ تشعر أن الله يخاطبك، و تشعر أن هذا الكلام كلام الله، تشعر أن هذا الكلام: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
(سورة النجم الآية: 4)

وقلتُ في نفسي:

((ثكلتك أمُّك يا طفيل، ثكلتك أمك يا طفيل, إنك لرجل لبيب شاعر, أنت ذكي وفهيم وفطن وشاعر وما يخفى عليك الحسنُ من القبيح, فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول, أين عقلك أنت؟ أين ميزانك؟))
قال تعالى:
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
(سورة الصافات الآية: 154)
قال تعالى: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
(سورة يونس الآية: 32)
﴿قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾
(سورة النمل الآية: 62)
ربنا أحيانا يعاتبنا، أين عقولنا؟ قال: ثم مكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فتبعتُه حتى إذا دخل داره دخلتُ عليه, وبالمناسبة هناك حديث شريف رائع جدا يفسِّر لكم بعض الظواهر، قال: ما أخلص العبد لله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة و الرحمة, هذه قوة الجذب أساسها إخلاص المؤمن، إخلاصه يجعل لكلامه قوة جذب، كان سيدنا ربيعة يخدم رسول الله ، فلما ينتهي وقت الخدمة، يقال له: انصرف يا ربيعة، فماذا يفعل ربيعة؟ يبقى على عتبة باب النبي من شدَّة تعلُّقه به، من شدة حبه له، ومن شدة انجذابه إليه، أي أنت كمؤمن يجب أن يكون عندك قوة جذب، نورك الذي في قلبك، استقامتك وورعك واتِّصالك بالله، حبك لله، هذه كلها قوة جذب
فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي عنك: كذا و كذا، فو الله ما برحوا يخوِّفونني من أمرك حتى سددتُ أذنيَّ بقطن لئلا أسمع قولك، ثم أبى اللهُ إلا أن يسمعني شيئا منه فوجدتُه حسنا، فاعرض عليَّ أمرك, ما هي القصة؟ ما دعوتك، ومن أنت؟ من الذي أرسلك؟ ولماذا أرسلك؟ ما دليلك؟ النبي ما ربى أصحابه على الخنوع، فقد صلى الظهر ركعتين يوماً، واللهِ أحيانا هناك بعض الشيوخ لو غلطوا لا يستطيع إنسان أن يصحِّح لهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين, فقال له بعضُ أصحابه: يا رسول الله, أقصُرتْ أم نسيت؟ فقال عليه الصلاة و السلام: كل هذا لم يكن،

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ, وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا, وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ, وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ, فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلَاةُ, وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ, فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ, أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ, قَالُوا: بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ))
[أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح]
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾
(سورة الأعلى الآية: 6-7)

ما ربَّى أصحابا خانعين، ربى أصحابه يقظين، عندهم جرأة أدبية، سيدنا خالد اضطر إلى القتال بعد فتح مكة، وسيدنا سالم مولى أبي حذيفة راجعه، والنبي لما بلغه ذلك, قال:عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ, قَالَ:

((بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ, فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا, فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا, فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ, وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ, فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ, فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ))
[أخرجه البخاري عن سالم عن أبيه في الصحيح]

ثم قال لأصحابه: هل راجعه أحد؟ هل عارضه أحد؟ قالوا: نعم, سالم مولى أبي حذيفة، قال: الحمد لله, على ماذا حمد اللهَ النبيُّ الكريم؟ على أنه ربَّى أصحابه لا يسكتون على الخطأ، ربى أصحابه لا يقيمون على ضيم، ربى أصحابه علماء حكماء، ربى أصحابه يحاسبون .
مرة سيدنا عمر, شخص أراد أن يتقرَّب منه، فقال: واللهِ ما رأينا خيرا منك بعد رسول الله، ما هذه العظمة؟ نظر إليهم، فذاك ظن أنه سيُسرُّ بكلامه، فحدَّ إليهم النظر حتى كاد يأكلهم بنظراته، فقال أحدهم: لا واللهِ رأينا من هو خير منك، قال: من هو؟ قال: أبو بكر، فقال عمر رضي الله عنه: واللهِ كان أبو بكر أطيبَ من ريح المسك، وكنت أنا أضلَّ من بعيري، لقد كذبتم جميعا وصدق عدَّ سكوتهم كذبا)قال له: فاعرضْ علي أمرك، فعرض عليه أمرَه, وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق، فو الله ما سمعتُ قولاً أحسنَ من قوله، ولا رأيت أمرا أعدل من أمره، عند ذلك بسطتُ يدي له وشهدتُ أنه لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، ودخلت في الإسلام هل استجاب رسول الله لطلب الطفيل, وكيف دعا ذويه إلى الإسلام ؟
قال الطفيلُ:
((ثم أقمت في مكة زمنا تعلمتُ فيه أمورَ الإسلام، وحفظت فيه ما تيسِّر لي من القرآن، ولما عزمت على العودة إلى قومي, قلتُ: يا رسول الله, إنني امرؤٌ مُطاع في عشيرتي، وأنا راجع إليهم, وداعيهم إلى الإسلام، فادعُ اللهَ أن يجعل لي آيةً تكون لي عونا فيما أدعوهم إليه, فقال: اللهم اجعل له آيةً، فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نورٌ فيما بين عيني مثلُ المصباح، فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم .
فإذا كان الشخص مقيما على دينٍ ضالٍّ وخرج منه، هؤلاء المضلَّلون يتوعَّدونه بمصيبة كبيرة قال: فتحوَّل النورُ فوقع في رأسِ سوطي، فجعل الناسُ يتراءون ذلك النورَ في سوطي كالقنديل المعلَّق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، فلما نزلتُ أتاني أبي, وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ مني، قال: و لِم يا بني؟ ماذا فعلنا لك؟ قلت: قد أسلمتُ وتابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم، قال: أي بني ديني دينك، أنا على دينك، لأنه كبير معروف وشهم وصاحب مروءة، فقال له: اذهب واغتسل و طهِّر ثيابَك ثم تعالَ حتى أعلمك ما عُلِّمت، فذهب فاغتسل وطهَّر ثيابه، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم، ثم جاءت زوجتي, فقلت لها: إليكِ عني، لستُ منكِ ولستِ مني، قالت: و لِم بأبي أنت وأمي؟ فقلت: فرَّق بيني وبينك الإسلام,
طبعا رسم خطَّة ذكية، هو لا يتخلى عنها، ولكن يقول ذلك حتى يدفعها إليه، لأني أسلمت و تابعتُ محمدا صلى الله عليه و سلم ، قالت: فديني دينك .أضرب لـكم مثلاً: شخص لـه معمل صغير، صاحب متجر, وعنده صانعان أو ثلاثة وبعض الموظفين، فإذا كان هناك إحسان منه وإكرام, فهذا الموظَّف يتابعك، ويأتي معك إلى الجامع، أنت هديته وأنت لا تدري، مكانتك العلية واستقامتك و ترفُّعك وكرمك جعلك ملءَ سمعه و بصره، فإذا نطقت بالحق تابعك، فكل صاحب عملٍ من الممكن أن كل من حوله في العمل يتابعونه، ويهتدون بهديه، يقلِّدونه و لو تقليدا، فالإنسان لايستهين بعمله، ربما كان عملُك ييسّر لك طريقاً إلى الله، ربما كان عملك طريقا للدعوة إلى الله قال لها: إذاً: فاذهبي و تطهَّري من ماء ذي الشرى، و ذو الشرى صنم لدوس حوله ماءٌ، فقالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية شيئا من ذي الشرى؟ فقلتُ: تبًّا لكِ و لذي الشرى، قلتُ لك: اذهبي واغتسلي هناك بعيدا, وأنا ضامن لكِ ألا يفعل هذا الحجرُ الأصمُّ شيئاً))

ومرةً استيقظت قبيلة صباحاً فرأت صنمها قد بال الثعلبُ على رأسه, فقال الشاعرُ:
أربٌّ يـبول الثعلبانُ برأسه لقد ضلَّ من بالت عليه الثعالبُ

ما هذا الإله؟ وهناك قبيلة ثانية صنعت صنما من تمر، فلما جاعت أكلته، فقيل: أكلت ودٌّ ربَّها، كم هناك من تفكير ضعيف, والله إنك لتجد في شرق آسيا أناساً يعبدون أصناما من دون الله، وتجد أمام الصنم فواكه من أرقى أنواع الفواكه، فسألوا واحدا: لماذا هذه الفواكه؟ قالوا: ليأكلها الصنمُ في الليل، ثم بدا أن الرهبانُ يأكلونها في الليل، وليس الصنم فهو من حجر ، أطباء, ومثقَّفون، أصحاب إجازات علمية, ومدراء معامل, يدخل إلى معبد يجد صنم بوذا و أمامه الفواكه الشهية يعبده من دون الله, وتفسير ذلك أن التَّديّن فطريٌّ في الإنسان، فالسعيد من عرف الإله الحقيقي، والشقي من التبس عليه الأمرُ, وظنَّ أن هذا الصنم إلها وهو ليس كذلك، لكن كل إنسان بحاجة فطرية إلى التديّن، إلى أن يعبد عظيما, لذلك إما أن تكون عبدا لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم، أو أن تكون عبدا لفكرة سخيفة، أو عبـدا لصنم أجوف، أو عبداً لشيء لا يقدم ولا يؤخِّر .
أبو هريرة كان أول من استجاب لدعوة الطفيل :
قال:
((ثم دعوتُ دوسا، دعا قومه فأبطئوا عليه، وما استجابوا, كانوا غارقين في الزنا و الربا, (الربا عدوان على أموال الناس, والزنا عدوان على أعراض الناس إلا أبا هريرة كان أولَّ ثمرة من ثمار سيدنا الطفيل، فقد كان أسرع الناس إسلاما))
ما أحدث رجلٌ أخًا في الله إلا أحدث اللهُ له درجة في الجنة، أنت كم واحد؟ وحدي، خير إن شاء الله، ما تمكَّنت في هذه السنوات العشر أن تقنع واحدا بالدين؟ تحمل إنسانا على التوبة, أما عندك أقارب؟ أما عندك أخوات؟ أما عندك أولاد أخوة وأخوات؟ أما عندك جيران؟ أما لك أصحاب؟ أليس لك زملاء؟ ما استطعتَ أن تقنع واحدا، واللهِ هذه مشكلة، لكن هناك أخ, يقول لك: أنا أقنعت خمسة عشر آخر, قال تعالى:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾
(سورة النحل الآية: 120)

لا بدَّ أن تنتقل من طور التلقي للإلقاء، من طور السماع للتكلم، ومن طور الأخذ للعطاء، قال عليه الصلاة و السلام: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ, ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن عبد الله بن مسعود]
وقال عليه الصلاة والسلام: عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))
[أخرجه البخاري عن عثمان في الصحيح]
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ, قَالَ:
((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ, فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ, قَالُوا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ))
[أخرجه أبو داود عن عقبة بن عامر الجهني في سننه]

يسمع دروس العلم، ويسمع تفسير آيات, وتفسير أحاديث، شيء من السيرة، لا بد أن تسجل و تراجع الأمر وتحفظه، إذا جلست في مجلس تلقي هذا الشيء فلا تعرف كم إنسان يستفيد منك ؟ انظروا إلى هذه الآية ما أجملها، قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾
(سورة المائدة الآية: 32)
أحيانا يتفضل الله عز وجل عليك بهداية إنسان، وهذا الإنسان تجد أخوانه و أخواته و أولاد أخوته وأخواته وجيرانه وشركائه ، كلهم اهتدوا بهدايته، وتزوج امرأة مسلمة و أنجب أولادا صالحين، يمكن بعد عشرين سنة، تجدهم وقد صاروا مئتي إنسان، كلهم في صحيفتك، لذلك أعظم تجارة أن تتاجر مع الله, وأعظم عمل أن تدعو إلى الله، إنها صنعة الأنبياء، قال تعالى:
﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾
(سورة طه الآية: 41)
هناك أخوان كثيرون، همُّهم الأول نشرُ الحق, همهم الأول الدعوة إلى الله، همهم الأول مداراة الناس لهدايتهم، فلعلهم يأخذون بأيديهم إلى الله عز وجل .
كيف علم النبي الطفيل فن الدعوة إلى الله ؟
قال الطفيل:
((جئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومعي أبو هريرة، فقال لي النبي عليه الصلاة و السلام: ما وراءك يا طفيل؟ ما الذي حدث معك؟ فقلت: قلوب عليها أكنة ، و كفر شديد، ولقد غلب على دوس الفسوق والعصيان، فلا أمل فيهم, فقام عليه الصلاة و السلام، فتوضأ و صلى ورفع يديه إلى السماء، فقال أبو هريرة: فلما رأيته كذلك خِفتُ أن يدعو على قومي فيهلكوا, فقلت: واقوماه، الجماعة هلكوا، لكن النبي عليه الصلاة و السلام جعل يدعو لهم, قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا, فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ, قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]

ثم التفت إلى الطفيل, وقال: ارجع إلى قومك وارفق بهم، وادعهم إلى الإسلام (كن عندك حكمة، استوعبهم)قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, ومضت بدرٌ و أحد و الخندق، فقدمت على النبي و معي ثمانون بيتا من دوس، قال: حتى أسلموا وحسن إسلامهم, فسُرَّ بنا رسول الله, وأسهم لنا مع المسلمين في غنائم خيبر، فقلنا: يا رسول الله, اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها، و اجعل شعارنا (مبرور)فقال الطفيل: ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عليه مكة، فقلت : يا رسول الله, ابعثني إلى ذي الكفَّين، ما ذو الكفين؟ ذو الكفين صنمُ عمرو بن حمحم، حتى أحرقه، فأذن له النبيُّ صلى الله عليه و سلم, فسار إلى الصنم في سرية من قومه فلما بلغه وهمَّ بإحراقه, اجتمع حوله النساء والرجال والأطفالُ يتربَّصون به الشرَّ, وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ذا الكفين بضرٍّ, لكن الطفيل مؤمن يعيش مع الحقائق, وهناك أشخاص كثيرون يعيشون في الأوهام، يضع لك حذوة فرس، ما تصنع يا أخي؟ هذه أعقلها للعين، أو يعلن حذاءً صغيراً للصبيان، كلها أوهام, لا يحميك من الله إلا أن تستقيم على أمره، لا ملجأ من الله إلا إليه، قال تعالى:

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾
(سورة الفتح الآية: 1)

يكـتبها بعـضهم على بـاب متجره، وطول النهار كـذب وغش، فهل يفتح الله بالغش والكذب؟ فهؤلاء الـذين حول الصنم خافوا أن تأتيهم صاعقة فيحترقون

لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبَّاده, وجعل يضرم النارَ في فؤاده، وهو يرتجز، نظم ثلاثة أبيات من الشعر، قال له: يا ذا الكفين لستُ من عُبَّادك ميلادنا أقدمُ من ميلادك
وما إن التهمت النارُ الصنمَ حتى التهمت معها ما تبقَّى من الشرك في قبيلة دوس، أي آخر شيء في هذه القبيلة أنه أحرق لهم صنمهم، فأسلم القومُ جميعا, وحسُن إسلامهم)) اسأل نفسك أنت, ماذا فعلت؟ كلُّ إنسان بإمكانه أن يدعو إلى الله، وبإمكانه أن يتعلَّم، وبإمكانه أن يلتقي مع أخوانه، مع أقربائِهِ وجيرانه، وبإمكانه أن ينقل لهم تفسير آية, وتفسير حديث، بإمكانه أن يهديهم . ما هي الرؤية التي رآها الطفيل حينما كان في طليعة المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ؟
ظل الطفيلُ بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبض النبيُّ إلى جوار ربه، ولما آلت الخلافةُ من بعده إلى الصدِّيق, وضع الطفيلُ نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله .
الإسـلام عظيم عظمته أن المسلمين ينبغي أن يلتفوا حول رجل، المنافسات و المطاحنات والمناقشات و الخصومات و الصراعات، هذه لا ترضي اللهَ عز وجل، لا بد من التعاون، ولا بد من التكاتف، لا بد من أن نتعاون فيما اتّفقنا، و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا ، لا بد من أن ندعم بعضنا بعضا، أما الطعن في الآخرين, وتقاذف التهم و المهاترات، هذا الذي يضعف المسلمين .

ولما نشبت حروب الردة نفر الطفيلُ في طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ، و معه ابنه عمرو، وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا, فقال لأصحابه:

((إني رأيت رؤيا فعبِّروها لي، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن رأسي قد حُلِق، ليس فيه شعر, وأن طائرا قد خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها, وأن ابني عمرًا جعل يطلبني حثيثا، لكنه حيل بيني و بينه، قالوا: خيرا، قال: أمّا أنا فإني أوَّلتها، اسمعوا تفسيرها, (وهذا الإمام مالك، إمام دار الهجرة رأى في المنام ملك الموت رؤيا غريبة جدا، قال له: يا ملك الموت, كم بقي لي؟ ملك الموت لم يتكلم, وقال له مشيراً بيده: هكذا، فلما استيقظ اضطرب اضطراباً شديدا، يا ترى, خمس سنوات أم خمسة أشهر أم خمسة أسابيع أم خمسة أيام أم خمس ساعات أم خمس دقائق، أم خمس ثواني، احتار، فذهب إلى ابن سيرين، وكان من كبار مفسِّري الأحلام، قال: يا ابن سيرين, رأيتُ ملك الموت وسألته كم بقي لي من عمري؟ فأشار بهذه الإشارة، فما تفسير هذه الرؤيا؟ قال له: يا إمام دار الهجرة، قال لك ملك الموت: إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا اللهُ، هذا التفسير، هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله)) .

فهذا سيدنا الطفيل, قال: أما أنا واللهِ لقد أوَّلتها، أما حلق رأسي فذلك أنه يُقطع, ويموت شهيدا، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي، وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفر لي فأُدفن في جوفها، وإني لأرجو أن أُقتل شهيدا .
أنا سمعت أكثر من عشر قصص، المؤمن الصادق إذا اقترب أجلُه فربُّنا عز وجل يعلمه بذلك، ومنذ أسبوع هناك امرأة صالحة عمرها ثمانية و أربعون عاماً، فقالت لزوجها: اقترب أجلي، واخترت الرفيق الأعلى، يا امرأة, ما هذا الحديث؟ ليس بكِ بلاء، يقول لنا زوجها: ودَّعت أولادها وبناتها واحداً واحداً, وبعد أيام ثلاثة قبل أن تدخل بيتها جلست على حافة البيت, وأسلمت روحها لله عز وجل، في الليل رأتها ابنتُها في المنام, قالت لها: يا بنيتي, أنا لم أمُت، لا تقيموا عزاءً، أقيموا مولدا لي، فقد أكرمني ربي، يقول زوجها: فأقمنا مولداً و بقي إلى الساعة الثانية ليلا، في يوم وفاتها، فأنا لاحظت أن المؤمن من تكريم الله له أنه يعلمه أن الأجل قد دنا، وعلى كلٍّ كلُّ واحد منا لما يضعف يضع نظارات على عينيه و يصبح شعره أبيض، ويقول لك: صار معي قليل من الآلام، وحط جسمي، هذه كلها إشارات لطيفة من الله، أن يا عبدي اللقاء قد اقترب، أنت مستعدٌّ للقاء .
وأما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها إن شاء الله، إذا أذن الله، لكنه يدركها فيما بعد، يعني يدرك ابنه الشهادة بعد استشهاد الطفيل بحين .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 07:59 AM   #16


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( السادس العاشر )

الموضوع : سيدنا جعفر بن ابى طالب





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أهمية السيرة من حيث التطبيق العملي :
أيها الأخوة الأكارم, لا زلنا مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين وصحابي اليوم: سيدنا جعفر بن أبي طالب .

قد أكدت لكم من قبل أن الإنسان من خصائصه أنه يتعلق بالأشخاص أكثر مما يتعلق بالأفكار, لذلك إذا درسنا حياة صحابي جليل ورأيناه وقد تمثلت به القيم الإسلامية فهذه حقيقة مع البرهان عليها، ولأن ترى القيم الإسلامية مجسدةً في شخص جليل أبلغ بكثير من أن تقرأها في كتاب، أو أن تطلع عليها في نشرة أو ما شاكل ذلك .
ومن هنا كان تدريس السيرة كما يرى بعض العلماء فرض عين، لأن الله سبحانه وتعالى خاطب النبي عليه الصلاة والسلام، أو حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 21)
كيف يكون هذا النبي وأصحابه الكرام أسوة لنا حسنة، إن لم نقف على سيرته، وعلى مواقفه من أصحابه، وإن لم نطّلع على سيرة الأبطال من أصحابه الذين كانوا بحق أبطالاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى؟ .
جعفر بن أبي طالب من أولئك الذين اعتنقوا الإسلام في وقت مبكر :
فسيدنا جعفر بن أبي طالب, هو أخ لسيدنا علي بن أبي طالب، لكن هذا الصحابي الجليل له قصة وما أروعها من قصة، لقد انضم هذا الصحابي الجليل إلى ركب النور هو وزوجته أسماء بنت عميس منذ أول الطريق .

يعني هذا الذي يُسلم، أو يصطلح مع الله في وقت مبكر، في شبابه، هذا له شأن كبير، من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، الذي يشب على طاعة الله شيء، والذي يتعرف إلى الله في وقت متأخر شيء آخر، وكلاً وعد الله الحسنى .
إذا تعرفت إليه وأنت شاب, ما الذي يحصل؟ تُشكل حياتك تشكيلاً إسلامياً، ألصق شيءٍ بحياتك عملك وزوجتك، فإذا كنت مسلماً حقاً، مؤمناً حقاً, تختار الزوجة المؤمنة الصالحة التي تعينك على طاعة الله،
وإن كنت مؤمناً مسلماً حقاً، تختار العمل المهني الذي يرضي الله, وإذا عرفت الله في وقت مبكر تنامت هذه المعرفة، وتراكم هذا العلم، وتعمقت تلك التجربة، وكلما ازددت يوماً في عمرك، ازددت قرباً من الله عز وجل .
لذلك لا تنسوا نصيحة رسول الله: اغتنم خمساً قبل خمس، اغتنم شبابك قبل أن تكون صحتك شغلك الشاغل, قبل أن تنتقل من طبيبٍ إلى طبيب، ومن مستشفى إلى مستشفى, ومن تحليل إلى تصوير، إلى خزعة، إلى تحليل، قبل أن تدخل هذه المتاهات، اغتنم صحتك قبل سقمك، اغتنم فراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك .
فسيدنا جعفر انضم إلى ركب النور، انضم إلى جماعة المؤمنين، أشرق الهدى في نفسه، تعرّف إلى الله في سن مبكر، لقد أسلم على يدي سيدنا الصديق رضي الله عنه في وقت مبكرٍ جداً قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم بن الأرقم، وهي أول دارٍ ظهرت فيها الدعوة الإسلامية .
الأذى الذي لحق بجعفر وزوجه من قبل قريش :
أيها الأخوة, لقي الفتى الهاشمي جعفر بن أبي طالب، وزوجه الشابة، من أذى قريش و نكالها ما لقيه المسلمون الأولون، أليس الله قادراً على أن يخلق النبي وأصحابه في عصرٍ ليس فيه كافر واحد؟‍‍‍‍‍‍‍ هل هذا يعجز الله عز وجل؟
لو خلق النبي وأصحابه الكرام الكثر في بلدة وحدهم، فلما جاء بالدعوة آمنوا به جميعاً وأحبوه جميعاً، وانتهى الأمر, لا غزوات، ولا حروب، ولا مناقشات، ولا مؤامرات، ولا إخراج، ولا هجرة إلى المدينة، ولا إلى الحبشة، لا شيء من هذا كله، وأسسوا مجتمعاً إسلامياً، وسعدوا به، ثم انقضت حياتهم، نحن من بعدهم، فكيف نتأسّى بهم فيما لو وجدنا الصعوبات؟ لكن هكذا شاءت حكمة الله:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾
( سورة الأنعام الآية: 112)
وهذه آية ثانية:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾
( سورة الفرقان الآية: 31)
ليظهر جهاده، ليظهر صدقه، ليظهر ثباته، والله يا عم, لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في شمالي على أن اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، عرضوا عليه أجمل فتاة، عرضوا عليه أن يكون رئيسهم, عرضوا عليه أن يكون أغناهم وأكثرهم مالاً، آثر النبي عليه الصلاة والسلام الدعوة إلى الله، كيف تتأسّى به؟ كيف تجعله نبراساً لك؟ كيف يكون قدوة لك؟ الجواب: أن تكون حياة النبي وسيرته كما عرفناها .

فاسمعوا هذه الكلمة أيها الأخوة, إن لم يجرِ على النبي ما يجري على البشر لا يكون سيد البشر، يجوع, ويخاف، ويتألم، ويؤلمه الهجاء، ويؤلمه التكذيب، تؤلمه السخرية، يؤلمه خذلان قومه له، إنه بشر كأي بشر، لكنه كان سيد البشر .
كان هذا الصحابي الجليل يعلم أن طريق الجنة مفروش بالأشواك لا بالزهور, حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ, حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ, وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ))
[أخرجه مسلم عن أنس بن مالك في الصحيح]
حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، إن عمل الجنة حزن بربوة وإن عمل النار سهل بسهوه، من السهولة بمكان أن يسلك الإنسان طريق النار، يكفي أن يسترسل مع شهواته، ومع نزواته، ومع خطراته، ومع رغباته، ومع ميوله للدنيا، يكفي أن يعيش كما يحلو له، أن يأكل ما يشتهي، أن يلتقي بمن يشتهي، أن ينظر إلى ما يشتهي، وانتهى الأمر.
لذلك كان هذا الصحابي الجليل يعلم علم اليقين أن سلعة الله غالية حتى إن سيدنا علي كرم الله وجهه, قال: طلب الجنة بغير عمل ذنب من الذنوب, وهو استهزاء بالله، أن تطلب الجنة بلا عمل، أن تطلب الجنة بالأماني فهذا استهزاء .

أيها الأخوة, حديث تعرفونه جميعاً، فلو وقفنا على دقائقه، وعلى أبعاده لأصبحت حياتنا حياة أخرى، النبي الكريم وهو الفطن، وهو أول خلق الله، يعرّف الذكاء، قال: الكيس من هو؟ العاقل, من هو؟ ذو العقل الراجح, من هو؟ ذو العقل الكبير, من هو؟ عَـنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْكَيـِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه]
الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، معنى دان؛ يعني ضبط نفسه، ضبط سمعه، ضبط بصره، ضبط لسانه، ضبط ما يدخل في بطنه، ضبط حركة يده, ضبط حركاته وسكناته، ضبط قلبه مما سوى الله، ضبط فكره أن يعمل لغير الله، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
إذا: الجاهل مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَوَاهَا، دائماً مع هوى نفسه، مع نزواتها، كلام العوام، الله يعفو عنا، بلوى عامة يا أخي، الله يتوب عليّ يا سيدي، ما لنا غير عفوه وكرمه, هذه كلها زعبرة .
هجرته وزوجه إلى الحبشة :
أيها الأخوة, لكن الكفار ضيّقوا على أصحاب النبي، وشددوا عليهم، وأحكموا عليهم الخناق، وقاطعوهم، ونكلوا بهم وعذبوهم، إلى درجة أن حياة المؤمنين في مكة صارت لا تطاق .

لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام، وهو الحريص على أصحابه, الحريص على سلامتهم، الحريص على راحتهم ، أمرهم بالهجرة إلى بلد فيها ملك صالح, فاستأذن سيدنا جعفر بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر مع زوجته، ونفرٌ من الصحابة إلى أرض الحبشة، فأذن لهم وهو حزين .
أؤكد لكم كيف أن أصحاب النبي أحبوا النبي، وهو بادلهم حباً بحب، يعني كان يتمنى عليه الصلاة والسلام أن يبقوا إلى جانبه، لكنها مشيئة الله، نرجو الله أن نكون من هؤلاء، تجد أخاً يرغب في أن يسافر، و المصلحة أن يسافر، يأذن له أبوه أن يسافر، لكن قلبه يتفطر، يتمنى أن يبقى إلى جانبه، هذا الشيء طبيعي بين المؤمنين، المؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون، ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون، ولو اقتربت منازلهم .

مضى ركب المهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة وعلى رأسهم جعفر, منذ أن أسلموا لم يذوقوا طعم الأمن، لكنهم حينما هاجروا إلى هذه الأرض ذاقوا حلاوة الأمن، واستمتعوا بحلاوة العبادة، فليس هناك كفار يستفزونهم، ولا مشركون يضيقون عليهم الخناق .
بالمناسبة وأقول هذا كثيراً: العبد المؤمن يمتحن بالرخاء، ففي الرجاء, يقول: الحمد لله، لأن الصحة طيبة، ومعك مال، لكن الله يمتحن بالصعوبات لا بالرخاء, فإن أخذنا مركبة، فهي بالنزلة لها كرات رائعة، لكن بالطلوع كيف حالها؟ والله حَميت، والله انقطعت، فالبطولة لا بالنزلة، بل بالطلعة، بالرخاء الكل جيدون، لكن بالشدة يتساقط الكثيرون, قال تعالى:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 11)
لذلك أروع شيء بحياة المؤمن، حينما يأتيه قضاء يكرهه, فيقول: الحمد لله رب العالمين، النبي علمنا هذا الشيء، ((اللهم أشكو إليك ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس، يا رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى صديقٍ يتجهمني، أو إلى عدوٍ ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي, ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي))
كيف قدم جعفر رسالة الإسلام للنجاشي حينما اتهمت قريش الإسلام بأنه مفرق الجماعات ؟
الآن قريش حينما علمت أن بعض الصحابة الكرام هاجروا إلى الحبشة, ونجوا من تعذيبها ونكالها، الشيء الذي لا يصدق أن الكافر يحب إيقاع الأذى بالمؤمنين, ولو لم يستفد شيئاً، حباً للأذى، فكبر على قريش أن ينجو هؤلاء الشباب، فأرادت أن تكيد لهم, وأن ترجعهم مقهورين إلى مكة، ولنترك الكلام لأم سلمة رضي الله عنها، تروي لنا الخبر كما عاينته، لأنها كانت إحدى المهاجرات، فإلى رواية أم سلمة لخبر أصحاب رسول الله الذين هاجروا إلى الحبشة، وعلى رأسهم سيدنا جعفر بن أبي طالب .
قالت:
((لما نزلنا أرض الحبشة, لقينا فيها خير الجوار, فأمِنّا على ديننا، وعبدنا الله ربنا من غير أن نؤذى، أو نسمع شيئاً نكرهه, ))

يعني بالمناسبة، إذا كان هناك بلد، وبإمكان المسلم أن يصلي، ويصوم، ويحضر مجالس العلم، ويلتقي مع أخوانه، فهذه نعمة كبرى، لا يعرفها إلا من فقدها، هذه نعمة اشكروا الله عليها.
وتتابع أم سلمة تقول: أرسلت إلى النجاشي رجلين جلدين، وانتقت قريش أذكى رجلين، وأقوى رجلين، وأكثرهم دهاءً، هما عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وبعثت معهما بهدايا كثيرة إلى النجاشي ولبطارقته مما كانوا يستظرفونه من أرض الحجاز، ثم أوصتهما بأن يدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن يكلما ملك الحبشة، حتى إذا أراد ملك الحبشة أن يحكم وأراد أن يستشير البطاركة، يكونون كلهم قد قبضوا الثمن آخذين الهدايا الثمينة، فيقولون: والله يا سيدي علينا أن نطردهم، هكذا المصلحة .
قالت: فلما قدما الحبشة لقيا بطارقة النجاشي ودفعا إلى كل بطريق هديته، فلم يبقَ أحد منهم إلا أهديا إليه, وقالا له: إنه قد حل في أرض الملك غلمان من سفهائنا, قال تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
( سورة البقرة الآية: 11 ـ 15)
إنه قد حل في أرض الملك غلمان من سفهائنا صبؤوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وفرقوا كلمة قومهم، فإذا كلمنا الملك في أمرهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، من دون أن يسألهم عن دينهم, فإن أشراف قومهم أبصر بهم، واعلم بما يعتقدون, وكل ما ورد في هذه الساعة برواية أم سلمة.
(( قالت أم سلمة: ولم يكن هناك شيء أكره لعمرو وصاحبه من أن يستدعي النجاشي أحداً منا، ويسمع كلامه))
يعني كان عمرو بن العاص يتمنى إن يلتقي بالملك، وأن يقنعه، وأن يسلمهم له، من دون أن يسألهم، من دون أن يتصل بهم .

يا أيها الأخوة الكرام, اسمعوا هذه الحقيقة: الحق لا يخشى البحث، ولا يستحي به، ولا تحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تبالغ به، ولا أن تقلل من خصومه، الحق حق، والباطل باطل، لذلك إذا كنت على الحق فلا تخشَ أحداً، قال تعالى:
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾
( سورة النمل الآية: 79)
إذا كنت على الحق فلا تخشَ لومة لائم)
ثم أتيا النجاشي وقدما إليه الهدايا فاستظرفها، شيء جميل، ثم كلماه فقالا: أيها الملك, والله سبحانه يقول:﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً﴾
( سورة الطارق الآية: 15-16)
﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 54)
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
( سورة الأنفال الآية: 36)
قالوا أيها الملك: إنه قد آوى إلى مملكتك طائفة من أشرار غلماننا، انظروا لكلمتهما أشرار:
﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾
( سورة يوسف الآية: 77)
((قد جاؤوا بدين لا نعرفه لا نحن ولا أنتم، ففارقوا ديننا، ولم يدخلوا في دينكم، وقد بعثَنا إليك أشراف قومهم، من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردهم إليهم، وهم أعلم الناس بما أحدثوا من فتنة عمن كان في مجلس النجاشي, البطاركة, هؤلاء المستشارون، نظر النجاشي إلى بطاركته, فقال البطارقة: صدقا أيها الملك، لقد فعلت الهدايا فعلها، فإن قومهم أبصر بهم، وأعلم بما صنعوا، فردهم إليهم ليروا رأيهم فيهم, فغضب النجاشي, وقال: سننظر حتى نتحقق،))
فلماذا غضب النجاشي؟ لأن البطارقة أشاروا عليه أن يطردهم من دون أن يستمع إليهم, الله عز وجل علمنا بالقرآن أن أخطر صفة لمن كان ملكاً، أو أميراً إن أراد العدل أن يتحقق بنفسه, قال تعالى:﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾
( سورة النمل الآية: 23 ـ 27)

هذه الصفة يجب أن يتحلى بها كل إنسان وليّ أمر الناس) قالت: فغضب الملك غضباً شديداً، من كلام بطارقته، وقال: لا والله لا أسلمهم لأحد حتى أدعوهم، وأسألهم عما نسب إليهم، ثم أرسل النجاشي يدعونا إلى لقائه، فاجتمعنا قبل الذهاب إليه، وقال بعضنا لبعض: إن الملك سيسألكم عن دينكم فاصدعوا بما تؤمنون به، الملك نصراني، وليتكلم عنكم جعفر بن أبي طالب، هكذا النظام، رئيس الوفد يتكلم، ولا يتكلم أحد غيرهقالت أم سلمة: ثم ذهبنا إلى النجاشي فوجدناه قد دعا بطاركته، فجلسوا عن يمينه وعن شماله، وقد لبسوا طيالستهم, واعتمروا قلانسهم، ونشروا كتبهم بين أيديهم, فلما استقر بنا المجلس، التفت إلينا النجاشي وقد توجه إلينا، وقال: ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم, وفارقتم بسببه دين قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أي من هذه الملل؟ تقدم منه جعفر بن أبي طالب, وقال أيها الملك:
كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه, وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وقد أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم ، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة ، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فأحللنا ما أحل لنا، وحرمنا ما حرم علينا، فما كان من قومنا أيها الملك, إلا أن عَدَوا علينا، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا، ويردونا إلى عبادة الأوثان، فلما ظلمونا, وقهرونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك, ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك, ما هذه البلاغة؟ هذا توفيق الله عز وجل، إذا كان الله معك فمن عليك .

قالت أم سلمة: فالتفت النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب، وقال له: هل معك شيءٌ مما جاء به نبيكم عن الله، قال: نعم، قال: فاقرأه عليّ، فقرأ، وقد انتقى له سورة مريم:
﴿كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾
( سورة مريم الآية: 1 ـ 6)
حتى أتم صدراً من السورة .((قالت أم سلمة: فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته بالدموع، وبكى أساقفته حتى بللوا كتبهم، لِما سمعوا من كلام الله، وهنا قال لنا النجاشي: إن هذا الذي جاء به نبيكم، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، هذا هو الحق، ثم التفت إلى عمرو وصاحبه, وقال لهما: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما))
ما هو الكيد الذي تربص به عمرو بن العاص قبل إسلامه لاستئصال الإسلام وأهله في الحبشة ؟
قالت أم سلمة: ((فلما خرجنا من عند النجاشي، توعدنا عمرو بن العاص، وقال لصاحبه: والله لآتين الملك غداً, ولأذكرن له من أمرهم ما يملأ صدره غيظاً منهم، ويشحن فؤاده كرهاً لهم، ولأحملنّه على أن يستأصلهم من جذورهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل يا عمرو, فإنهم من ذوي قرابتنا، وإن كانوا قد خالفونا، فكان الثاني ألطف من صاحبه أجل, فقال له عمرو: دع عنك هذا، والله لأخبرنه بما يزلزل أقدامهم، والله لأقولن له، يا أيها الملك, إنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد من عباد الله وليس ابن الله، هذه تقرب أجلهم، هكذا رأيه . فلما كان الغد دخل عمرو على النجاشي, وقال له: أيها الملك إن هؤلاء الذين آويتهم وحميتهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً: فأرسل إليهم وسلهم عما يقولون فيه . قالت أم سلمة: فلما عرفنا ذلك نزل بنا الهم والغم، ما لم نتعرض لمثله قط، وقال بعضنا لبعض: ماذا نقول في عيسى بن مريم، إذا سألكم عنه الملك؟ فقلنا؛ والله لا نقول فيه إلا كما قال الله عز وجل، ولا نخرج في أمره قيد أنملة، عما جاء به نبينا، وليكن بسبب ذلك ما يكون, ))
هكذا المؤمن، يكون دائماً صادقاً مع الله سبحانه، ويتقيد بأمره, وقوله:
﴿قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
( سورة طه الآية: 71)
هذا ما قاله فرعون للسحرة ، فاسمعوا الجواب :﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
( سورة طه الآية: 72 ـ 73)

ثم اتفقنا على أن يتولى الكلام عنا جعفر بن أبي طالب أيضاً، فلما دعانا النجاشي دخلنا عليه فوجدنا عنده بطاركته على الهيئة التي رأيناهم عليها من قبل، ووجدنا عنده عمرو بن العاص وصاحبه، فلما صرنا بين يديه بادرنا بقوله: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: إنما نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم, قال النجاشي: ما الذي يقول فيه نبيكم؟ فأجاب جعفر, يقول عنه: إنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فما إن سَمِع النجاشي قول جعفر حتى ضرب بيده الأرض، وقال: والله ما خرج عيسى بن مريم عما جاء به نبيكم مقدار شعرة، هذا هو الحق, عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول, فتناخرت البطاركة من حول النجاشي، تناخرت معناها, أخرجوا أصوات من أنوفهم، فقال النجاشي: وإن نخرتم، هذا الذي قالوا عنه هو الحق ثم التفت, وقال: اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي، من سبكم غرم، ومن تعرض لكم عوقب، فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين، ثم نظر إلى عمرو وصاحبه، وقال: ردوا على هذين الرجلين هداياهم فلا حاجة لي بهما .
أرادوا أن يستأصلهم من جذورهم، لكن لم يستطيعوا, كن مع الله تَرَى الله معك, واترك الكل وحاذر طمعك، وإذا أعطاك من يمنعه، ثم من يعطي إذا ما منعك، إنما أنت له عبد.
((قالت أم سلمة: فخرج عمرو وصاحبه مكسورين، مقهورين، يجران أذيال الخيبة، أما نحن فقد أقمنا عند النجاشي بخيرِ دارٍ مع أكرم جار))
أيها الأخوة, كن مع الحق ولا تبالِ, قال له يا غلام: ((لو أن الأمة اجتمعت على إن ينفعوك بشيء لم ينفوك بشيء إلا قد كتب الله لك، ولو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتب الله عليك))
الفرح الذي غمر فؤاد النبي حينما قدم جعفر من الحبشة :

وفي السنة السابعة للهجرة غادر سيدنا جعفر مع نفر من المسلمين بلاد الحبشة متجهين إلى يثرب فلما بلغوها كان عليه الصلاة والسلام عائداً من خيبر بعد أن فتحها الله له، ففرح بلقاء جعفر فرحاً شديداً، حتى قال:
((والله ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً بفتح خيبر أم بقدوم جعفر))
هكذا علاقة المؤمنين، علاقة الحب، علاقة الشوق، علاقة الوفاء، علاقة المؤاثرة ، والمسلمون فرحوا كما فرح النبي عليه الصلاة والسلام .
كان سيدنا جعفر شديد الحدب على الضعفاء والمساكين، كثير البر بهم، حتى إنه كان يلقب بأبي المساكين، أخبر عنه أبو هريرة, فقال: ((كان خير الناس لنا معشر المساكين، فقد كان يمضي بنا إلى بيته فيطعمنا، حتى إذا نفد طعامه أخرج لنا العكة التي يوضع فيها السمن, وليس فيها شيء فنشقها, ونلعق ما علق بداخلها))
إليكم قصة استشهاده :
في أول السنة الثامنة للهجرة جهز النبي صلوات الله عليه جيشاً لمنازلة الروم في بلاد الشام، وأمر على هذا الجيش زيد بن حارثة, وقال:
((إذا قتل زيد أو أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحه، فإن قتل عبد الله بن رواحه أو أصيب فليختر المسلمون لأنفسهم أميراً))
فلما وصل المسلمون إلى مؤتة, وهي قرية واقعة على مشارف الشام في الأردن, وجدوا أن الروم قد أعدوا لهم مئة ألف تظاهرهم مئة ألف أخرى، من نصارى العرب، من قبائل لخم وجذام وقضاعة، أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف، وما إن التقى الجمعان ودارت رحى الحرب حتى خر زيد بن حارثة صريعاً مقبلاً غير مدبر، فما كان إلا أن أسرع جعفر بن أبي طالب وترجل عن ظهر فرسه، كانت له شقراء وثب عنها, وبدأ يقاتل الجيش مشياً على قدميه, وحمل الراية, وأوغل بها في صفوف الروم, وهو ينشد, فاسمعوا نشيده : يا حبذا الجنة و اقترابها طيبة وباردٌ شرابها
الروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها
وظل يجول في صفوف الأعداء بسيفه, ويصول حتى أصابته ضربة قطعت يمينه، فأخذ الراية يمينه, فأمسك الراية بشماله، فما لبث أن قطعت شماله، فأخذ الراية بصدره وعضديه، فما لبث أن أصابته ثالثة، فأخذ الراية منه عبد الله بن رواحه فما زال يقاتل بها حتى لحق بصاحبيه)) كيف تلقى النبي نبأ استشهاد جعفر ومن معه وماذا صنع ؟
بلغ النبي عليه الصلاة والسلام مصرع القواد الثلاثة، فحزن عليهم أشد الحزن، وانطلق إلى بيت ابن عمه جعفر، من شدة حزن النبي أراد أن يبلغهم هو بنفسه هذا النبأ المحزن، ليكون وقعه عليهم خفيفاً، انطلق إلى بيت جعفر فألفى زوجته أسماء تتأهب لاستقبال زوجها الغائب، فهي قد عجنت عجينها، وغسّلت بنيها، ودهنتهم، وألبستهم .
قالت أسماء:
((فلما أقبل علينا النبي عليه الصلاة والسلام، رأيت غلالة من الحزن توشح وجهه الكريم، كثرتْ المخاوف في نفسي، غير أني لم أشأ أن أسأله عن جعفر، مخافة أن أسمع منه ما أكره، فحيا وقال: ائتني بأولاد جعفر، فدعوتهم له، فهبوا نحوه فرحين مزغردين وأخذوا يتزاحمون عليه كلٌ يريد أن يستأثر به فأكب عليهم )).


أيها الأخوة, من يحب شخصاً يحب أولاده، هذه قاعدة صحيحة، فمحبة الآباء تورث محبة الأبناء

أقبل نحوهم، وتشممهم، وعيناه تذرفان من الدمع، فقلت: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء، قال: نعم، وألقى الكلمة الفاجعة، لقد استشهدوا هذا اليوم، عندئذ غاضت البسمة من وجوه الصغار، لما سمعوا أمهم تبكي, وجمدوا في أمكنتهم، وكأن على رؤوسهم الطير، أما النبي عليه الصلاة والسلام فمضى وهو يكفكف عبراته, ويقول: ((اللهم اخلف جعفراً في ولده، اللهم اخلف جعفراً في أهله, ثم قال: لقد رأيت جعفراً في الجنة له جناحان مضرجان بالدماء، وهو مصبوغ القوادم))
إنها مرتبة عالية عند الله ، إنها الشهادة .
والله أهم ما في الدنيا طاعة الله، وما فيها شيء أفضل من القرب من الله عز وجل، ما لها وزن إلا أن تكون عند الله مرضياً، فإذا رضي الله عنك لا تسأل عن الدنيا، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:01 AM   #17


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( السابع العاشر )

الموضوع : سيدنا كعب بن مالك







الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . من هو الصحابي الذي ورد ذكره بالقرآن من حيث المعنى ووردت قصته في كتب الصحاح ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس السابع عشر من دروس سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابي اليوم صحابي جليل ورد ذكره في القرآن الكريم، لا بالاسم, ولكن بالمضمون إنه: كعب بن مالك .

لو ألقيتُ أيها الأخوة على مسامعكم عشرات المحاضرات في فضيلة الصدق، بل في فضل الصدق، لما كانت هذه المحاضرات أبلغَ من هذه القصة التي يرويها هذا الصحابي الجليل عن نفسه، وبعد قليل سوف ترون أن الصدق هو شعار المؤمن، وأن المؤمن لا يكذب، وأنّ منجاته في الصدق، وأنه إذا صدق أكرمه الله عز وجل، وجعل الأمور كلها في صالحه .
فقد أخرج الإمام البخاري ومسلم حديث سيدنا كعب بن مالك، والقصة كلها يرويها هذا الصحابي الجليل بلسانه، وقد وردت في كتب التفسير كسبب لنزول آية عظيمة من سورة التوبة، ووردت في كتب السيرة، ووردت في كتب الحديث أيضًا، وروى هذه القصة الإمام البخاري، والإمام مسلم، وكلكم يعلم أن أعلى درجة في الأحاديث الصحيحة ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا الحديث، أو تلك القصة تعد من الطبقة الأولى .
ما معنى كلمة (يعاتب)في نص الحديث ؟
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, يَقُولُ:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ, حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
كلمة(يُعَاتَبْ)
تعني أنّ النبي الكريم له حق عليك، أنت لستَ مستمعًا، أحيانا يظنّ الناس أنّ درس العلم مجرد محاضرة، وبعض الأشخاص يحضرها بل ينصرف عنها، فأنت لك أخوان مؤمنون، منضم إلى جماعة مؤمنة، لهم حق عليك، ولك حق عليهم, هذا فرق كبير بين التدريس وبين التربية، التدريس إلقاء درس، لكن المربي هو الذي يتعاون مع أخوانه ليأخذ بيدهم إلى الله عز وجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس مبلغاً فقط، بل هو مربٍّ، قال: ((إنما بعثت معلماً لأتمم مكارم الأخلاق))
فالنبي لحكمة رآها لم يعاتب أحداً من أصحابه تخلف عن موقعة بدر، لكن في تبوك عاتب النبي من تخلف عن هذه الموقعة .
بالمناسبة الإنسان أحيانًا يعاتب مَن يثق به، حضر شخصٌ أول مرة، فالحضور الأول لا يعدّ التزاماً حميماً، لكن شخصًا له في مجلس العلم سنوات طويلة، فهذا الشخص يعاتَب إذا سافر مِن دون أن يُعلِم، ويعاتَب إذا طلق امرأته من دون أن يستشير، ويعاتَب إذا دخل في تجارة لا ترضي الله عز وجل وله مرجع، من استشار الرجال استعار عقولهم، أنت إذا استشرت رجلاً عاديًّا فقد استعرتَ عقله، واستعرت خبرته، فكيف إذا استشرت من تثق بدينه وعلمه، يعطيك الحكم الشرعي يعطيك ما يرضي الله عز وجل، يعطيك التوجيه الصحيح، يعطيك الدليل ؟ .

قلت بالأمس: أيستطيع أحد منا أن يدخل على طبيب من دون أن يملك المبلغ الكافي كأتعاب له؟ هل بإمكانه أن يدخل على محامٍ لامعٍ مِن دون مبلغ يغطي أتعابه؟ لحكمة أرادها الله عز وجل أنه يسَّر القرآن للذكر، وكل شيء متعلق بالدين مبذول بلا شيء، من دون ثمن، ما عليك إلا أن تحضر، ما عليك إلا أن تسأل، ما عليك إلا أن تستشير .
فالنبي في بدر لم يعاتب, لكن في تبوك عاتب، أنت لك حق على من يعلمك، حق النصيحة، وحق الإرشاد، وحق الخدمة، وأن يقدم لك كل ما يستطيع من أجل إسعادك في الدنيا والآخرة، وله حق عليك، إذا دعاك إلى عمل صالح أن تستجيب . إليك حديث كعب بن مالك يشكو ألمه وحزنه حينما تخلف عن غزوة تبوك :
فهذا الصحابي الجليل, قال:
((لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ, وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ, وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ (إذا عاهد المسلمُ اللهَ عز وجل، أو عاهد رسول الله، أو عاهد من ينوب عن رسول الله، عاهد الله عز وجل على السير في طاعته فلا بدّ أن يفيَ، وأنت هل تدري مَن عاهدت؟ عاهدت خالق الكون، لذلك فعَنْ أَنَسٍ, قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ))
[أخرجه أحمد في مسنده عن أنس]

إذا أكرم اللهُ الإنسانَ بالعمرة أو بالحج، ووقف عند الحجر الأسعد، وقال الدعاء المشهور : اللهم عهداً على طاعتك، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، وإيماناً بنبيك، وعهداً على طاعتك، ثم قبل الحجر، هذا العهد ينبغي أن يذكره طوال حياته، وأنت عاهدت الله على الطاعة فعليك الوفاء)
قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ, وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا(بدر أشهر، لكنه في هذه البيعة التي بايع بها النبي عليه الصلاة والسلام في العقبة، هذه البيعة هي حياته كلها), كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ, وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ(الآن دخلنا في الصدق، هذا الصحابي سترون بعد قليل أنه أوتي طلاقة لسان، وأوتي جدلاً، وهذه قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع، عندما قسّم علماء النفس القدرات العامة والقدرات الخاصة، عدُّوا القدرة على الإقناع قدرة خاصة في الإنسان، فهناك شخص كيفما تكلم تنحاز إلى جانبه، وقد يكون غير محقٍّ، لكن عنده قدرة إقناع، وطلاقة لسان، وحجة حاضرة، وتعليل سريع، كلها موفورة عنده .

ذات مرة قلت لكم: كان الأحنف بن قيس في مجلس معاوية بن أبي سفيان، وهذا المجلس عُقِد لأخذ البيعة لابنه يزيد، وكل من حضر المجلس تكلم، وأثنى، وأطنب، ومدح، وبالغ في المديح أمام أبيه، وبقي الأحنف ساكتاً، سكوته أربك المجلس، بل أحرج الحاضرين، فما كان من معاوية إلا أن قال له تكلم يا أحنف، لماذا أنت ساكت؟ فقال الأحنف كلمتين، فيهما بيان، وأيّ بيان، قال: ((أخاف اللهَ إنْ كذبت، وأخافكم إن صدقت))
فكانت كنايتُه أبلغ من التصريح، أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت .
كذلك هناك أشخاص، ومنهم أبو حنيفة النعمان، فقد دخل على المنصور، وقال له خصم عنيد له: يا أبا حنيفة, إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ أأقتله أم أتريث فلعله مظلوم؟ فقال أبو حنيفة: ((الخليفة على الحق أم على الباطل؟ قال له: على الحق، قال له: كنْ مع الحق, فقال أبو حنيفة: أراد أن يقيِّدني فربطتُه))
بعض الأشخاص أصحاب فطنة، أصحاب بديهة، يسعفهم الجواب المفحم مباشرة، هي قدرة في الإنسان، اسمها القدرة على الإقناع .
لكن بالمناسبة من يملك هذه القدرة على الإقناع يملك قدرة على قلب الحق إلى باطل، فالباطل عندئذ يبدو بحجم أكبر من حجمه، من كان يملك قدرة على أن يحطم خصومه بالكلام، فهذه القدرة يوم القيامة يفقدها الإنسان, الدليل:﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
( سورة يس الآية: 65 )

طلاقة اللسان تنتهي يوم القيامة، لأن يومئذ العمل يشهد على صاحبه .
هذا الصحابي الجليل أوتي جدلاً، بالتعبير الحديث أوتي قوة إقناع عجيبة، فلو أراد أن يكذب على النبي لأقنعه، والنبي هكذا يقول: لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر، فإذا قضيت له بشيء، فإنما أقضي له بقطعة من النار، النبي بشر، شخص يملك لسانًا ذربًا، حجة قوية، طلاقة لسان، سرعة بديهة، عبارة متينة، شواهد دقيقة، معه أدلة، أنتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكم لصالحه، فالنبي الكريم طمأننا، وقال: إذا كان أحدكم طليق اللسان، قوي البيان، قوي الحجة وأقنعني، واستطاع بقوة لسانه أنْ ينتزع مني فتوى، ولم يكن محقاً فلن ينجوَ من عذاب الله ، لذلك سأهمس في آذانكم, علاقتك مع مَن؟ مع الله عز وجل، هذا هو التوحيد، علاقتك مع الله وحده)
فقال هذا الصحابي الجليل: وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى, وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ, (فهو صادق، ليس لي عذر، كنت قويًّا، نشيطًا، غنيًّا، متفرغًا، لكنك الآن تجد الرجل يستطيع أنْ يقول: زوجتي مريضة، أو عندي مشكلة، ويأتي بآلاف الأعذار، ويتخلص بنعومة، لكن مع الله الأمر مكشوف، أمَا قال سيدنا عبد الله بن عمر للراعي: بعني هذه الشاة .
قال له: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: ليست لي .
قال له: قل لصاحبها ماتت .
قال: ليست لي .
قال له: خذ ثمنها .
قال: واللهِ إنني لفي أشد الحاجة لثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ .
إذًا: لا حل لها، هذا هو الإيمان، هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، الإيمان قيد، واللهُ عز وجل مطَّلعٌ على قلبك، وعلى حركتك، وعلى نشاطك، وعلى كلامك، يعلم السر وأخفى
قال: وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ لم يكن عندي راحلة واحدة فقط، بل كان عندي راحلتان فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ, قال تعالى:﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾
( سورة التوبة الآية: 81 )

وكانت من أصعب الغزوات، لبُعْدِها عن المدينة، وكانت في الصيف، في وقت نضج العنب والتمر قال: اسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا, وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ, فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ, ( وهكذا بيَّن النبي الكريم للمسلمين أن هذه الغزوة باتجاه تبوك، وأن العدو قوي، وكثير العدد والعُدد، كي يتأهبوا، كي يأخذوا العدة الكافية، فأخبرهم بوجهه الذي يريد), قال: فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا (ليس هناك رغبة شديدة، قد يتحرك اليوم أو غداً، أو بعد غدٍ، قضية سهلة)وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بي (لذلك قيل: هلك المسوفون). قال: فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا, وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ, فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ, ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي, فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ, أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]

مثلُه كمثَل رجل له أصدقاء يحبهم ويحبونه، ثم يلتفت في أثناء الدرس فلا يجد أحدًا حواليْه، سيجد الأشخاص البعيدين عن الله عز وجل، وهذا وقت لله عز وجل، وهذا استنباط لطيف ، يعني وقت صلاة الجمعة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
( سورة الجمعة الآية: 9)
من تجد في البيت قابعاً؟ المقصر، الفاسق، الفاجر، المنحرف، غير المسلم، أما المسلمون في هذا الوقت فكلُّهم في المساجد، وقد قال أحد كبار العارفين: ليس الوليُّ الذي يمشي على وجه الماء، وليس الولي الذي يطير في الهواء، لكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام، أو أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك .
الذي آلمه أنه حين يخرج من بيته لا يرى إلا المنافقين، والعجزة، أما الأصحاب الكرام ، الأقوياء، الأشداء، فهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾
( سورة التوبة الآية: 120)
بهذا الوقت أين المسلمون؟ في بيوت الله، وأنت أين تتواجد؟ وهذا الوقت أين تمضيه؟ يجب أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك . هل قدم كعب حجة لتبيان عذره عن سبب تخلفه عن الغزوة وما هو القرار الذي اتخذه ؟
قال كعب:
((وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ (فالرسول لم يكن مبلِّغًا فقط، بل كان قائدًا كذلك، وكان مربِّيًّا يسأل عن أصحابه، ويتفقّدهم، وأنت لما تتفقد أخًا لك غاب عن درس، فلا يعلم إلا الله كم لك من أجر؟ شعر أن له قيمته، شعر أنه عضو بأسرة، فكل أخ من أخواننا الكرام يجب أن يكون له أخ في الله, أنا اليوم قبل أن آتي إليكم، أخٌ غالٍ علينا، لم أرَه منذ أسبوعين أو ثلاثة، اتصلت به قبل أن آتي، قال لي: لديه سبب يمنعه، لكن شعر بمودة بالغة، فقلتُ له: مِن واجبي أنْ أسال عنك، فكل واحد منكم يتفقد أخوانه، هذا أوصل، وأدعى للمودة، وأقرب إلى مرضاة الله عز وجل).
قال النبي الكريم بتبوك، وهو جالس في القوم: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ, (يعني يعتني بثيابه، ببيته، بالظل الظليل، بالفاكهة الناضجة، فهذا ما شأنه أنْ يكون معنا,هذا طعن أليس كذلك؟), فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ, وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, (هؤلاء الأصحاب يجب أن نحبهم، وليكنِ المؤمن عن غياب أخيه كالسيف، يدافع عنه، لكن هناك مؤمنون ضعاف، يتلذذون بنهش أعرض أخوانهم، ويتلذذون بالطعن بإيمانهم . وفي موقف آخر, تفقد النبي صحابيًّا جليلاً، فاتَّهمه أحدهم أنّه شغلته دنياه، فقال أحد أصحاب رسول الله: واللهِ يا رسول الله, لقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك).
فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي (يعني تألمت، وإذا سألني النبي: لماذا تخلفتَ يا كعب؟ فبماذا أجيبه؟)فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ, وَأَقُولُ بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي, (ماذا أقول له؟ ما الذي شغلني عنك يا رسول الله؟), فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا, زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل, حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا, فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ (أيْ اتخذ قرارًا حكيمًا أن يصدقه), وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا, وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ, بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ, فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ (أراد شخصٌ يومًا أن يسافر لأداء فريضة الحج، ومعه مبلغ من المال، وحار أين يضعه؟ فدخل إلى المسجد, وتوسّم في المصلين، فرأى أحدهم أشدَّهم خشوعاً، يصلي ويغمض عينه، وصلاته متقنة، فبعد أن انتهى من صلاته، قال له: والله أعجبتني صلاتك، وعندي أمانة أريد أن أضعها عندك إلى أن أعود من الحج، فقال له: وأنا صائم أيضًا، قال له: واللهِ صيامك لم يعجبني .

أحياناً الإنسان يكشف نفسه، فهؤلاء حلفوا أيمانًا، ولم يستحلفهم النبي، وقدّم كل واحد منهم عذرًا، فقَبِلها فالنبي منهم).
وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا (هؤلاء هم المنافقون), فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ, وَبَايَعَهُمْ, وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ, وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ, حَتَّى جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ -والنبي عنده فراسة، وسيدنا كعب مؤمن)تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ( رحب به في غضبٍ منه), ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ, فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ قَال: قلت: يا رسول الله, إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ, (فأنا طليق اللسان، وعندي حجة قوية)وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا, (أنا أتكلم بقوة), وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ, (هذا هو التوحيد، أنت بشر، لو أرضيتك بكلام مقنع ليوشك أن يسخط عليَّ الله عز وجل، واللهُ هو الأصل ، وأنا بيده)إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ, وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ, وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ (هذا هو الصدق، كنت قويًّا، ونشيطًا، لكن تخلفت), قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ, فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ, فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي, فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ, قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي, (أَنَّبوني على الصدق، ورموني بالجنون), قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْك هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ, فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ, قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ, وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هو الحكم الشرعي الذي أصدره رسول الله بكعب ومن معه وما هو البلاء الذي نزل بكعب في زمن المقاطعة؟
قَالَ:
((وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا نحن الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ, قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ, وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ, وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ, وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ, وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ, وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ, (ما هذا الانضباط؟ هذا مجتمع الإيمان، كلمة قالها النبي التزموا بها), وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ, وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ, فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ, وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ, وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ, وَهُوَ ابْنُ عَمِّي, وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَو َاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ, فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ, أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ, هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ, فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ, فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ, فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ, يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي, فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ, وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ, فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ, وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ, فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا, وَهَذِهِ أَيْضَا مِنَ الْبَلَاءِ (الغساسنة عرب في شمال الجزيرة يبدو أن قصته انتشرت حتى وصلتْهم، فأرسل ملك الغساسنة له كتابًا أنّ صاحبك جفاك، فتعال إلينا، نحن نستقبلك)قال: فتيممت بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا, حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ, وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي, فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ, (هل مِن إنسان على الأرض أمرُه نافذ في أصحابه إلى درجة أنه يمنع علاقتهم بزوجاتهم فيستجيبون؟), فَقَالَ: فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا, قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ, قَالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ, فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا, وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ, فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ, وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا ,قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ, قَالَ: فَقُلْتُ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا))
[ أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هي البشرى التي حلت على كعب ومن معه وفرح لها المسلمون ؟
قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا, فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي, وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ –قال تعالى:
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118 )

سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَي عَلَى سَلْعٍ, يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ ابْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ, قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا, وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ, قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ, فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ, وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا, وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ, فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَس، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ, وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ, وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا, فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ, وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ, حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ, فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ, وَحَوْلَهُ النَّاسُ, فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي, وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ, قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ, قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ, وَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ, قَالَ: فَقُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذْ هداني الله إلى الإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كعب يرتل في خشوع ودموعه تغمر خديه، قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة التوبة الآية: 118)
سؤال ورد :
بقى لدينا سؤال, الله عز وجل في أول هذه الآية, قال:
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾
( سورة التوبة الآية: 117 ـ 118)

فما الذنب الذي فعل النبي حتى يتوب الله عليه, وعلى هؤلاء الثلاثة؟ قال بعض العلماء: وهذا قولٌ أدهشني، إن الله عز وجل أراد أن يجبر خواطر هؤلاء, فتاب على النبي تكريماً لهم، النبي لم يفعل شيئاً، ولم يذنب ذنباً، وما تخلف مرة, ولكن تكريماً لهؤلاء الثلاثة الصادقين مع الله، جاءت توبة الله على النبي, وعلى أصحابه لئلا يشعروا بالوحشة وحدهم .
يا أيها الأخوة, أجمل شعور يشعر به المؤمن حينما يصطلح مع الله، وحينما تكون له توبة، أو حينما لا تخلف العهد الذي عاهدت الله عليه، أو حينما تشعر أنك على العهد قائم، هذا شعور لا يقدر بثمن، شعورك أن الله راضٍ عنك، وقد تاب عليك، وقد قبل توبتك .

فيا أيها الأخوة, نحن في الدنيا وباب التوبة في الدنيا مفتوح على مصراعيه، لماذا تاب الله عليه؟ ولماذا أوحى إلى النبي أن يأمر أصحابه بمقاطعته؟ لأنه صادق، لو أنه اعتذر كما اعتذر المنافقون لبقي منافقاً طوال حياته، وطوته الحياة، ولا سبيل له إلى الجنة، ولكن صدقه نجَّاه من النفاق، فكن صادقاً .
سيدنا جعفر, قال: ((حتى بعث الله فينا رجلاًً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه))
يعني الصدق سمة أساسية من سمات المؤمنين، فهذا الصحابي الجليل أوتي طلاقة اللسان، أوتي الحجة القوية، أوتي قدرة على إيهام المستمع بما يريد، أوتي قدرة على أن يظهر بحجم أكبر من حجمه، ولكن شعر أن هذا رسول الله فإذا كذب عليه فالأمر بيد الله وحده، واللهُ قادر على أن يسخط النبي عليه . ما هي قيمة الصدق في اﻹسلام ؟
أيها الأخوة, بقي علينا استنباط لطيف، العلاقة مع الآخرين بيد الله، فإذا أنت بنيتها على معصية الله عز وجل يخرِّب لك هذه العلاقة، ويخلق ظروفًا معقدة فيكرهونك، فالله عز وجل قادر أن يفسد هذه العلاقة بينك وبين من آثرت مرضاته على مرضاة الله عز وجل .
فالقصة فيها صدق، وفيها توبة، وفيها توحيد، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود]

فعلى كل مسلم أنْ يعاهد الله عز وجل على ألاّ يكذب، وربنا عز وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 119)
معهم بالتوفيق، معهم بالتوبة، يتوب عليهم، يوفقهم، وما من صفة كانت أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام مِنَ الكذب، فهذا الصحابي صدق، فجاءت المعالجة التي بتوبة الله عليه في القرآن الكريم .
فيا أيها الأخوة الأكارم, الصدق منجاة، والكذب مهواة، اُصْدُقْ مع الله، اُصْدُقْ مع نفسك يرفعْك الله عنده وعند الناس، أما إذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك فالهوانُ مصيرُك ، والحقيقة حينما يكذب الإنسان على نفسه، يحتقر نفسه، ولأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض أهونُ من أن يسقط من عين الله، فإذا كذبت على الله، أو كذبت على نفسك سقطتَ من عين الله، فكن صادقاً ولا تبالِ .
فالصحابي الجليل كعب بن مالك مع أنه تخلف عن رسول الله، مع أنه ارتكب كبيرة، التخلف عن الزحف كبيرة في الإسلام، ارتكب كبيرة لكن صدقه نجاه من مغبة هذه الكبيرة التي ارتكبها . ما هي العبر التي يمكن أن نستفيدها من هذه القصة ؟
هناك استنباطات كثيرة في القصة، فلما جاءت البشارة خرّ ساجدًا، فإذا تلقّى الإنسان بشارة، أو خبرًا سارًّا، فمِن السنة أن تسجد لله سجود الشكر
وهذه القصة علَّمتنا أن نكون صادقين ، وعلَّمتْنا أن ندافع عن أخواننا المؤمنين، دعْ عنك الآخرين، وكن صادقاً، دافع عن أخيك المؤمن ، علَّمتنا أن نشكر الله عز وجل إذا تلقينا نبأ ساراً، علَّمتنا أن التوبة أعظم هدية تأتيك من الله عز وجل .
لذلك قالوا: التوبة أمرٌ حسنٌ، وهي في الشباب أحسن، والعدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن, لكن في الأغنياء أحسن .
فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، وإن الله عز وجل ليفرح بتوبة عبد المؤمن كما يفرح الضال الواجد والعقيم الوالد، وهذا الصحابي الجليل دخل في سجل الخالدين, وصار من أصحاب رسول الله المرموقين بفضل صدقه، ولو كذب على النبي لمات منافقاً، ولحشر مع المنافقين, وأهلك نفسه في الدنيا والآخرة .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:04 AM   #18


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثامن العاشر )

الموضوع : سيدنا ابو سفيان بن الحارث



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف كانت العلاقة بين أبي سفيان وبين النبي قبل البعثة ؟
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثامن عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم: أبو سفيان بن الحارث .
قصة هذا الصحابي تؤكد أن الحسد أحياناً يهلك صاحبه، لولا أن الله سبحانه وتعالى تلطف به لكان من الهالكين .
المتكبر أحياناً يمنعه الحسد أن يستفيد من رجل فاقه في العلم والتقى، فهذا الصحابي الجليل أبو سفيان بن الحارث قلَّ أن اتصلـت الأسباب بين شخصين, وتوثقت العرى بين إنسانين ، كما اتصلت وتوثقت بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان بن الحارث، يعني علاقة متينة، أخوّة صادقة، وشائج ثابتة بين أبي سفيان بن الحارث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لماذا؟ لأن هذا الرجل أبا سفيان بن الحارث كان لِدةً من لدات رسول الله، لدة يعني من سنه، ومن جيله، الآن يقال: نحن رفقاء، كنا بالابتدائي معًا، نحن جيران، أولاد سنة وحدة، وُلِدنا في شهر واحد، والقرابة في السن مهمة جداً، والإنسان له شيخ وأستاذ لا شك، لكن لا بد له من أخ في سنه يبثّه وجده، اتخذْ مؤمناً مخلصاً تقياً ورعاً صاحباً
فهذا الصاحب ينفعك كثيراً, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ:

((لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا, وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ))
[ أخرجه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري]
وفي الحِكَم العطائية: ((لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ومن لا يدلك على الله مقاله، إن أحببته رفعك حاله، وإن استمعت إليه غذتك مقالته))
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
( سورة التوبة الآية: 23 )

يجب أن تختار أصدقاءك كما تختار أغلى شيء عليك، إنك به تعرف، الصاحب ساحب ، وَمَن جالَسَ جانَسَ، إن صحبتَ الكبراء فأنت منهم، إن صحبتَ العلماء فأنت منهم، وإنَ صحبتَ أُولي الفضل فأنت منهم، أخطر شيء في الحياة صاحبُ السوء، فإن يهلك قرينَه .
الإنسان العاقل يختار إنسانًا مؤمنًا، أرسخ منه إيماناً، وأشد منه ورعاً، فهذا أبو سفيان كان لِدة من لدات رسول الله، وتِرباً من أترابه، وُلِدا في زمن متقارب، وكان ابن عم النبي، فأبوه الحارث وعبد الله والدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحدران من صُلبِ عبد المطلب، ثم إنه كان أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام من الرضاعة، فقد غذَّتهما السيدة حليمة السعدية من ثدييها معاً ، وبَعد هذا كله كان صديقاً حميمًا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، وأشد الناس شبهاً به . ما هو موقف أبو سفيان حينما أكرم الله النبي بالبعثة ؟
وهنا سؤال يطرح نفسَه, حينما تأتي الرسالة لهذا النبي العظيم، فمَن تتوقعون أن يكون أسبقَ الناس إلى الإيمان به؟ أبو سفيان، من كان ينبغي أن يكون أقرب الناس إليه؟ أبو سفيان، ولكن الذي حصل على خلاف ذلك، المفروض على أبي سفيان أن يكون أسبقَ الناس إلى تلبية دعوة النبي، وأن يكون أسرعهم مبادرةً لاتباعه، ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك، إذْ ما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يظهر دعوته، وينذر عشيرته، حتى شبت نار الضغينة, الضغينة الحقد والكراهية، وقد يكون السبب هو الحسد .
استحالت هذه الصداقة إلى عداوة، واستحالت هذه الرحم إلى قطيعة، واستحالت هذه الأخوة إلى صد وإعراض، ويوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه كان أبو سفيان فارساً من أنبه فرسان قريش، إنه فارس ملء السمع والبصر، الحقيقة أنّ الشجاعة كانت صفةً لصاحبها في العهود السابقة، فيها كرٌّ وفَرٌّ، هجومٌ وطِعان .
أمّا الآن فإنك تجد جنديًّا أمام شاشة رادار يرى صورة الطائرة على شاشة الرادار، وعنده إشارة ضرب يحركها فوق الطائرة يضغط على زر فيسقطها، وقد يكون أشدَّ الناس جُبنًا، الأسلحة الحديثة ليس فيها شجاعة، إنها أجهزة معقدة جداً، حتى إنهم قالوا: الحرب الحديثة حرب بين عقلين، أمّا الجندي فقد يكون شارب خمر، وقد يكون مقصرًا مع ربه، وقد يكون جبانًا، لكن قضية إلكترون، وأجهزة، وأشعة الليزر، الشجاعة الحقيقية يوم كانت الحربُ بالسيف، سيف لسيف ، ووجهٌ لوجهٍ .
كان أبو سفيان شاعراً من أعلى شعرائهم، فما إن امتلأ قلبه حقداً وضغينةً وحسداً حتّى وضع سنانه ولسانه في عداوة النبي، وقد يكون جرح اللسان أبلغ من جرح السنان، جنّد طاقاته كلها للنكاية بالإسلام والمسلمين، فما خاضت قريشٌ حرباً ضد النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مسعرها، ولا أوقعت بالمسلمين أذى إلا كان له فيه النصيب الأكبر، كتلة شر وحسد .

لقد بدأت الدرس بهذه الكلمة، الحسد مهلك، بدأ بصاحبه فقتله، فإذا كان الواحد له أخ فاقه بالإيمان فليستعن به بالعلم، والآن في الجيش هناك ضباط أمراء عميد فما فوق، فإذا دخلوا كلية الأركان وفيها ضابط نقيب مختص في الحرب الإلكترونية، وهو الذي يعلِّمهم، يقفون له، ويستعدون عند دخوله، ويحيُّونه، على أنه الضابط المدرِّب، فهو الآن أرقى منهم، وقد يكونون أرفع منه منصبًا، وقد يكونوا عمداء، لكن الضابط المدرِّب الآن أعلى منهم .
فإذا اتصل الإنسان برجل، بصديق، فلو أنه من سنِّه لا يمنعه الحسد أن يصُدَّ عنه، استفِدْ منه، والإنسان حينما يتواضع لله عز وجل فإنّه يكرم نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((ألا يا رُبَّ مكــرم لنفسه وهو لها مهين))

الآن ترون أنه أكرم نفسه فأهانها اللهُ، وأبت نفسه أن تؤمن برسول الله، مع أنه ابن عمه، وأخوه من الرضاعة، وصديقه الحميم، وأشبه الناس به، وابن لدته، وقريبه، ومع كل ذلك فالحسد منعه أن يؤمن، ثم إن أبا سفيان بن الحارث أطلق شيطانَ شِعره، وسوطَ لسانه في هجاء رسول الله، فيا للبوار والخسار .
يا أيها الأخوة الأكارم, نعوذ بالله، أن نكون في خندق نعادي المسلمين، وأنْ نكون في صف أعداء المسلمين، لأنك إذا حاربتَ الله ورسوله فالله هو المنتصر ورسوله، وأنت المهزوم الخاسر, قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
( سورة الأنفال الآية: 36 )

هذا الذي يحارب الله ورسوله، يريد أن يطفئ نور الله عز وجل، يريد أن يشوه سمعة المسلمين، أن يطعن بهم ظلماً وعدواناً، أن يسفه دعوتهم، أن يطعن بأخلاقهم، تشفياً لنفسه، لما في قلبه من الحسد، هذا الذي وقع به أبو سفيان، المتوقع أن يكون أقرب الناس إلى النبي، المتوقع أن يكون مكان أبي بكر، قرابة على رحم، على شَبَه، على لدة، على صداقة حميمة، على نسب، وطالتْ عداوة أبي سفيان بن الحارث للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاماً، عشرون عاماً يناصب النبي العداء، عشرون عاماً يهجوه بلسان مقذع، عشرون عاماً يحاربه بسنان لا يلين، لم يترك أبو سفيان بن الحارث في هذه الأعوام العشرين ضرباً من ضروب الكيد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا فعله، ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا اجترحه، وباء بإثمه.
ما هو الحال الذي كان عليه أبو سفيان حينما رفع الله ذكر الإسلام وما هو الرأي الذي اقترحته عليه زوجه ؟
قبيل فتح مكة بقليل كُتب لأبي سفيان أن يسلم، وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السير، وتناقلتها آثار التاريخ، والآن نتنحّى جانباً لندعَ الحديث لأبي سفيان نفسه، حتى يرويَ لنا قصته المثيرة عن إسلامه، فشعوره بها أعمق شعور، ووصفه لها أدق وأصدق .
أنا أشعر، أن في قصة هذا الصحابي من المواعظ والعبرة ما لا سبيل إلى حصره، الآن أحاول إن شاء الله تعالى أن أعمق التحليل لهذه القصة المثيرة .
قال أبو سفيان بن الحارث:
((لما استقـام أمر الإسلام، وقرّ قراره، وشاعت أخبار انتصار النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجه إلى مكة ليفتحها ضاقت علي الأرض بما رحبت, أين أذهب؟ ولِمَن ألتجئ؟ -قال عليه الصلاة والسلام:
((إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدبَّرْ عاقبته))
أحيانًا يسافر الإنسان إلى بلد أجنبي، يتساءل: ما هذه الحياة؟ وهل نحن من أهل الحياة؟ خير إن شاء الله، السيارات، الطرقات، محلات البيع الأنيقة، أرض كلها خضراء، جبال مزدهرة، معامل، مطارات، فانبهر وغشيت عينه غشاوة، كما غشيت قلبه فكرة، فأخذ إقامة، وتزوج فتاةً أمريكية ورَكَن واطمأنّ
لكن المشكلة حينما يرى ابنته مع صاحب لها يهودي، فلما أزعجه طلبوه إلى المخفر ليؤنبوه، هو معها بدعوة من ابنتك، فلِمَ تتعرَّض لهما؟‍ وحينما يرى أولاده فلذات أكباده ينحرفون انحرافاً خطيراً، ولا يستطيع أنْ يتفوَّه، عندئذ يذوب قلبه ألماً وكمدًا، نقول له: أين عقلك ؟ أنت حينما أردتَ أن تقيم هناك لمَ لمْ تفك؟ مَن أقام مع المشركين فقد برئت منه ذمة الله، وعلى كلٍّ مَن هو العاقل؟ هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها- .
ثم جئت زوجتي وأولادي, وقلت: تهيؤوا للخروج من مكة، فقد أوشك وصول محمد، وإني لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون، فقالوا لي: أمَا آن لك أن تبصر أن العجم والعرب قد دانت لمحمد بالطاعة إلى متى تبقى راكبًا رأسك؟ وإلى متى العناد؟ إلى متى الكبر؟ -صدق القائل:إلـى متـى أنت بالذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تخشى من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جـــاء وعدنا
تعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمري في المقال شنيـعُ

أحياناً أيها الأخوة, تكون الزوجة أصفى من الزوج قلبًا، وأصوب رأيًا، وقد تنصحك نصيحة أبلغ من أية نصيحة، ابنك قد ينصحك- قال: وما زالوا بي يعطفونني على دين محمد، ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام)) قرر أنْ يخطب ابنة الملك، قال: الحمد لله، أنا موافق، وأبي موافق، وأمي موافقة، لكن بقيتْ هي وأمها وأبوها، فهذا الرجل أحب أن يسلم، والطرف الثاني هل يقبلك؟ عداوة طويلة لأنه ما حفظ خط الرجعة إطلاقاً, قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا, وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا))
[أخرجه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننه]
كيف استقبل النبي مجيء أبو سفيان ؟
ثم قال:
((قمت من توئي, وقلت لغلامي: هيئ لي نوقاً وفرساً، وأخذت معي ابني جعفرًا، وجعلنا نغذّ السير نحو الأبواء بين مكة والمدينة فقد بلغني أن محمدًا نزل فيها، ولما اقتربت منها تنكرت, لماذا تنكر؟ لأن أصحاب النبـي لو رآه لقتلوه، لأنه عدوٌ لدود، هذا عدوٌ لله ورسوله، تنكرت حتى لا يعرفني أحد، فأقتل قبل أن أصل إلى النبي، وقبل أن أعلن إسلامي بين يديه، ومضيت أمشي على قدمي نحواً من ميل وطلائع المسلمين تمضي ميممةً شطر مكة، جماعة إثر جماعة، فكنت أتنحى عن طريقهم فرَقاً؟ أي خوفاً منهم، وفرقاً من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد، وفيما أنا كذلك إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم في موكبه, قال: فتصديت له, ووقفت تلقاءه، وحسرت عن وجهي فما إن ملأ عينه مني وعرفني حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى ، فتحولت إلى ناحية وجهه، فأعرض عني وحوّل وجهه، -وفي القرآن آية تؤكد هذا المعنى, هذه الآية كتبت أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم, قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾
( سورة النساء الآية: 64 )
يقول هذا الصحابي:
كنت لا أشك وأنا مقبل على النبي أن رسول الله سيفرح بإسلامي ، وأن أصحابه سيفرحون لفرحه))
لو كان هذا قبل عشرين سنة لصحّ كلامك، أمّا بعد هذا العداء، والجفاء، وبعد القتال، والهجاء، فالقضية ليست سهلة .
يقول أحد الأخوان مسوِّفًا: غداً سأتوب, مَن قال لك ذلك؟ إذا تلبّس الإنسان بمعصية فالقضية ليست سهلة، حينما يتورّط الإنسان وينحرف، ويرتكب المعصية, فليس من السهل أن يعود إلى الله بعد أن كثُرت الحجُبُ بينك وبين الله . هل أعرض المسلمون عن أبي سفيان اقتداء بالنبي ؟
أيها الأخوة, قال:
((لكن المسلمين حينما رأوا إعراض الرسول عني تجهموا لي، وأعرضوا عني جميعاً، فقلت: يا جماعة، قد أسلمت, فات الأوان، تأخرت كثيرًا، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض، نظرت إلى عمر بن الخطاب نظرةً استميل بها قلبه، فوجدته أشد إعراضًا من أبي بكر، بل إنه أغرى بي أحد الأنصار، فقال لي الأنصاري: يا عدو الله, أأنت الذي كنت تؤذي رسول الله، وتؤذي أصحابه، وقد بلغت في عداوتُك للنبي مشارق الأرض ومغاربها؟ وما زال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته، والمسلمون يتفحصونني بأعينهم، ويُسَرُّون بما ألاقي، حتى أبصرت عمي العباس فَلُذْتُ به، وقلت يا عم: قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي، -أمَا للإسلام بهجة! أمَا يفرح أحدٌ بإسلامي، لقد تأخرت كثيرًا, وهذا الكلام أقوله لكم: لا تتأخر بالتوبة أيًّا كنتَ، حتى لا يفوت الأوان، فعليك بالتوبة وأنت شاب، في أوج صحتك، وفي أوج شبابك، أمّا الآن فقد فات الأوان، جاء وقد غرق في المعاصي، وبعدما ملّ، وضعفت نفسه، وضعف جسمه، الآن يريد المساجد وخيرها، ريح الجنة في الشباب- .

عند ذلك أبصرت عمي العباس فلذت به، وقلت يا عم: شفاعتك، قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي منه، وشرفي في قومي، لم تعُدْ شريفًا الآن، الشرف أن تؤمن وقد كان منه ما تعلم، ما سلم علي، ما قبلني، ما نظر إليّ لا هو، ولا الصِّدِّيق، ولا عمر، فكلِّمْه فيّ ليرضى عني، فقال: لا واللهِ لا أكلمه كلمةً أبداً بعد الذي رأيته مِن إعراضه عنك، إلا إن سنحت ليّ فرصة فإني أجل رسول الله وأهابه، فقلت يا عم: إلى من تكلني إذاً, وماذا أفعل؟ .
-إذاً: يا أخوان, عندما يشعر الإنسان أن الله عز وجل أعرض عنه، وبالتعبير القرآني: لعنه، وإذا سقط الإنسان من عين الله، أو سقط من عين المؤمنين، وقد ارتكب حماقة، وارتكب معصية، وعادى أهل الحق، وافترى عليهم افتراء، واللهِ الأرضُ كلها لا تسَعُه، واللهِ لأَنْ يسقط الإنسانُ من السماء إلى الأرض فتتحطم أعضاؤه ويموت أهون ألف مرةٍ مِن أن يسقط من عين الله ، هذا يعيش في جهنم- .

قال: ليس لك عندي غير ما سمعت، فتملَّكني الهمّ، وركبني الحزن، ولم ألبث أن رأيتُ ابن عمي علي بن عمي أبي طالب فكلمته في أمري، فقال لي مثل ما قال عمي العباس، فالكل يعرض، ولا أحد يتورط، ولا أحد يعصي الله, عند ذلك رجعتُ إلى عمي العباس, وقلت يا عم: إذا كنت لا تستطيع أن تعطِّف عليّ قلب رسول الله فكفَّ عني ذلك الرجل، هؤلاء سوف يقتلونني ، فخلِّصْني من هذا الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي، فقال: صفه لي فوصفته له, فقال: ذلك النعيمان بن حارث النجاري
فأرسل إليه, وقال له يا نعيمان: إن أبا سفيان ابن عم رسول الله, القرابة لها شأنها، وابن أخي، وإنْ يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطًا عليه اليوم فسيرضى عنه غدًا، فكفَّ عنه, وما زال به حتى رضي بأن يكفّ عني، وقال: لا أعرض له بعد الساعة))

إذا كان لأحد مكانة في المسجد فلا يضحي بها، لا يرتكب معصية، حتى إذا عرف أخوانُه معصيته احتقروه، فتكريمك، والاحتفال بك، والسلام الذي فيه مودة بالغة، واللقاء البشوش ، والاحترام الكبير، والمكانة العلية التي لك بالجامع ناتجة من استقامتك، من التزامك، من طاعة لله عز وجل، أمّا إذا قلت: أنا عليّ هؤلاء، أرضيهم، وأرضي أولئك، فإذا كشفوك سقطتَ من أعينهم، فلا تكن لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، كن مع الحق فقط، ولا بأس عليك، فحينما يكون للإنسان مكانته يعيش بسمعته، ويعيش بكرامته، لأنه مستقيم أخلاقيًّا، مطيع لله، له أخوان يحبونه، وهذه نعمة كبيرة . هل خفف النبي جفوته لأبي سفيان حينما ضاق عليه الأمر من هذا البعد عنه ؟
قال:
((ولما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة, جلست على باب خيمته، ومعي ابني جعفر قائماً، فلما رآني النبي وهو خارج من منزله، أزاح عني بوجهه، أعوذ بالله، لا أمل لي ، فلم أيئس من استرضائه، وجعلت كلما نزل بمنزل اجلس على بابه، وأقيم ابني جعفرًا واقفاً بحذائي، فكان إذا أبصرني أعرض عني، وبقيت على ذلك زماناً، فلما اشتد علي الأمر وضاق، قلت لزوجتي: والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن هائميْن على وجوهنا في الأرض حتى نموت جوعاً، -ما عاد يحتمل الصد, والبعد، والجفاء، لا يحتمل أنْ يواجهه به نبي كريم، وكل الأصحاب سعداء بصحبته، سعداء بقربه، سعداء بخدمته ، والنبي معرض عني- قال: فلما بلغ ذلك رسول الله، رق لي، ولما خرج من قبته نظر إليَّ نظراً لكن ألين من النظر الأول وكنت أرجو أن يبتسم فلم يبتسم .

-وبصراحة أقول لكم: ابتسامة من رسول الله في وجهك تعدل الدنيا وما فيها، فكيف إذا قال النبي لأحد أصحابه: والله يا معاذ إني لأحبك، ارم سعد فداك أبي وأمي، هذا خالي أروني خالاً مثل خالي؟ إذا داعب النبيُّ إنسانًا، وهش في وجهه وبش، واللهِ هذه سعادة ما بعدها سعادة، وهذا يعني أنّ الله راضٍ عنه، لأنّ رضى النبي مِن رضى الله عز وجل, قال الله:

﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾
( سورة التوبة الآية: 62 )
ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة، فدخلت في ركابه، وخرج إلى المسجد فخرجت اسعى بين يديه، لا أفارقه على حال))
قال الشاعر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلـــجا
الإلحاح على الله عز وجل مقبول، يا رب أرجو رضاك، يا رب أرجو رحمتك، يا ربي أرجو توبتك عليّ، لو أنك ما شعرت بشيء أول يوم، اصبر لليوم الثاني، ولليوم الثالث، والرابع، وقد صدق القائل في قوله:أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلـــجا
ما هي الفرصة التي وجدت لأبي سفيان ليكفر عن ماضيه وما هي الكلمة التي سمعها من النبي استطار بها فرحا ؟
قال:
((ولما كان يوم حنين جمعت العرب من أهل الشرك لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، ما لم تجمع قط، وأعدت للقائه ما لم تعد من قبل، وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والمسلمين، وخرج النبي صلوات الله عليه في لقائه في جموع من أصحابه فخرجت معه، ولما رأيت جموع المشركين الكبيرة قلت: والله لأكفرن اليوم عن كل ما سلف مني، من عداوة رسول الله، وليرين النبي مني ما تقر به عينه، قال: ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين، فدبّ فيهم الوهن والفشل، وجعل الناس يتفرقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة، فإذا بالنبي فداه أبي وأمي، يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء، كأنه الطود الراسخ، ويجرد سيفه، ويجاهد عن نفسه وعمن حوله، كأنه الليث عادياً، عند ذلك وثبتُ عن فرسي، وكسرت غمد سيفي، واللهُ يعلم أني أريد الموت دون رسول الله، وأخذ عمي العباس بلجام بغلة النبي، ووقف إلى جانبه، وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر، وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله، أما شمالي فكانت ممسكةً بركاب النبي، وبيده السيف يدافع بها عن رسول الله، فلما نظر النبي إلى حسن بلائي، قال لعمي العباس: من هذا؟
فقال العباس: هذا أخوك يا رسول الله، هذا ابن عمك أبو سفيان، فارضَ عنه يا رسول الله، فقال: قد فعلت، وغفر الله له كل عداوة عاداني إياها، فاستطار قلبي فرحاً برضى رسول الله عني, وقبلت رجله في الركاب، ثم التفت إليّ, فقال له: أخي لعمري تقدم فضارب -وبهذا تمّ الصلح .
أيها الأخوة, أقسم بالله العظيم، ما من سعادة أعظم عندنا من أن يشعر المؤمن أن الله يحبه، وأن الله راض عنه، ورضاء رسول الله من رضاء الله- قال: ألهبت كلمات رسول الله حماستي فحملت على المشركين حملة أزالتهم عن مواضعهم، وحمل معي المسلمون حتى طردناهم قدر فرسخٍ ففرقناهم في كل وجه, قال: ظل أبو سفيان بن الحارث منذ حنين في نعيم القرب))

فالمؤمن باستقامته وإخلاصه لله، وثقته بالله في جنة القرب, صدق القائل:لو شاهدت عيناك من حـسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمتْ من قربنا لك نسمة لمتَّ غريباً واشتياقاً لقـربنـا
ولو لاح من أنوارنا لك لائـحٌ تركــت جميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعى سهولته قلنا له قــد جهلتنـا


أقول لكم: لكل واحد منكم، وأنا معكم، يظن المرءُ أنّ الإسلام قضية ركعتين وليرتين لفقير، فمَن كان ظنُّه هذا فهو أحمق، ألا إن سلعة الله غالية، وفي مسيرة الإيمان امتحانات، وظروف صعبة يمر بها المؤمن، فهل يثبت؟ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:
((واللهِ إني لأحبك، قال له: انظرْ ماذا تقول؟ قال له: واللِه إني أحبك يا رسول الله، قال له: انظر, ماذا تقول ؟ قال له: واللهِ إني أحبك، قال له: إن كنتَ صادقاً فيما تقول فَلَلْفَقْرُ أقربُ إليك من شرك نعليك))
لا تغلطوا في فهم الحديث، إذا أنت أحببت رسول الله، ولديك صفقة تجارة فيها ثلاثة أرباع المليون خلال أسبوع، ولكنْ فيها مادة محرمة، أتقبَلها؟ ضعْها تحت قدمك، وظيفة راقية جداً فيها مكاسب كثيرة جداً لكن لا ترضي الله أتقْبلها؟ لا, سفرة لبلد غربي تقبلها إذا كانت لغير الله؟ لا تقبلها، فإذا أراد الإنسان أنْ يستقيم فلا بد أنْ يضحي، ولا يقبل إلا ما هو حلال يرضي الله تعالى، وهنا يكون الإيمان، ويكون لك الفلاح . انظر إلى حياء أبي سفيان خجلاً من الأيام التي كاد بها النبي وانظر إلى تلاوته للكتاب الذي شغف قلبه به :
كان أبو سفيان بعد وقعة حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه، ويسعد بكريم صحبته، من خجله منه، وقيل: إنه لم يرفع نظره إليه أبداً، هذه العشرون سنة كسرت نفسه وحجّمته، ما رفع نظرًا له أبداً، ولا ثبت نظره في وجهه حياء منه، وخجلاً من الماضي معه .
والله يا أخوان، عندنا جنة في الدنيا، تتحقّق للمؤمن بالقرب من الله، ولكن لا بد أنْ يضحّي ويستقيم، فاضبط شهواتك، واحضر مجالس العلم، وآثر الله ورسوله على كل شيء, وجعل أبو سفيان يعض بنان الندم على الأيام التي قضاها في الجاهلية، المؤمن الصادق أيها الأخوة إذا تذكر جاهليته، أو تذكر أيام المعاصي والفجور يذوب مثل الشمعة ندمًا، وجعل أبو سفيان يعض أصابع الندم على تلك الأيام التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله، محروماً من كتاب الله, قال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
( سورة هود الآية: 28)
وقال تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾
( سورة القلم الآية: 2)

المؤمن في سعادة، واللهِ لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفاه عنه، قال له: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ قال: لا والله لا أحب أن أكون في بيتي وأهلي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، ماذا فعل هذا الصحابي الجليل؟ قال: أقبل على كتاب الله يقرؤه ليلاً ونهاراً، ويتفقه في أحكامه، ويتملى من عظاته، وأعرض عن الدنيا وزهرتها، وأقبل على الله بكل جارحة من جوارحه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه ذات يومٍ يدخل المسجد, فقال لعائشة رضي الله عنها:

((يا عائشة, أتدرين مَن هذا؟ قالت: لا والله، قال: إنه ابن عمي أبو سفيان، انظري إليه إنه أول من يدخل المسجد, وآخر من يخرج منه، ولا يفارق بصره شراك نعليه أبداً))
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان حزن الأم على وحيدها، لا على ابنها، بل على وحيدها، وبكاه بكاء الحبيب على حبيبه، ورثاه بقصيدة، فهو شاعر، فهذه مناسبة تجود بها القرائح الشعرية، ورثاه بقصيدة من أَرَقِّ المراثي، تفيض لوعةً وشجوناً، وتذوب حسرة وأنينًا . كيف استقبل أبو سفيان الموت ؟

وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحسّ أبو سفيان بدنو أجله، فحفر قبره بنفسه، ولم يمض على ذلك غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة، كأنه مع الموت على ميعاد، فالتفتَ إلى زوجته وأولاده وأهله وهم يبكون حوله، ماذا قال لهم: لا تبكوا علي، ولا تحزنوا، فو الله ما تعلقت بخطيئة منذ أسلمت؟ فهو مطمئن، هكذا فليكنِ المؤمن، تربية النبي كانت راكزة، رباه تربية توبة.
أنا أعتقد والله أعلم أنّ النبي من أول لقاء فرح بإسلامه، لكن باعتبار عشرين سنة عداء، فمَن أخذ البلاد من غير حرب يهُنْ عليه تسليمها، وحتى رضي عنه مضتْ فترة طويلة، ثم فاضت روحه الطاهرة فصلى عليه الفاروق نفسه، وحزن لفقده هو وأصحابه الكرام, وعدوا موته جللاً حل بالإسلام وأهله .

ماهو المغزى الذي نستنبطه من قصة هذا الصحابي الجليل ؟
هذه قصة أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم, وليس من السهل أن تتوغل في المعاصي، وتعود متى أردت إلى الله، وهذا هو المغزى, لا, إنّ الله عزيز, قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
( سورة الزمر الآية: 53)
فعلى المسلم ألاّ يتورط، فلا يعصي، ولا يضحي بسمعته عند المؤمنين، فسقوطه من أعينهم أمرٌ فادح جلل، مكانتك لها ثمن، المودة لها ثمن، الحب له ثمن، النبي قال: الجماعة رحمة ، أنت منضم إلى جماعة مؤمنة، محبوب، مكرم، معزز، ومفارقة الجماعة خسارة، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ, وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ, وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ))
[أخرجه أحمد عن معاذ بن جبل في مسنده]
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾
(سورة التوبة الآية: 118)

أيْ الثلاثة الذين خُلِّفوا، فمَن كان المؤدب؟ إنّه الله عز وجل، وفي درس اليوم من المؤدب؟ إنّه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بوحي من الله عز وجل، وقد يؤدِّب ربنا إنسانًا أسرف على نفسه، وقبل توبته، وليحذرْ أنْ يعود إلى الذنوب ثانية، فالعائد إلى الذنب كالمستهزئ بربه، وقد تكون الخاتمة وبيلة .

دخل النبي على بعض أصحابه, وكان مريضاً، فقال:

((يا رسول الله, ادعُ الله لي أن يشفيني، أن يرحمني، فقال: يا رب ارحمه، قال: فجاء الوحي للنبي, فقال يا محمد: كيف أرحمه مما أنا به أرحمه؟ وعزتي وجلالي لا أرحم عبدي المؤمن، ولا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدت أمه))
كان للواحد منا جاهلية، فإنه سبحانه يطهره، فلْيرضَ وليسلِّمْ، ولْيتحمل، فهذا لصالحه، وهذه المعالجة كانت لصالح هذا الصحابي، والله عز وجل لا يتخلى عن المؤمن، ولكن لا تمل، وكن عبدًا ملحاحاً, صدق القائل:لا تسألن بني آدم حـــاجة وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَـبُ
الله يغضب إن تركت سـؤاله و بني آدم حين يسأل يغضب

الإنسان يغضب إذا سئل، والله جل جلاله يغضب إذا لم يسأل .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:06 AM   #19


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( التاسع العاشر )

الموضوع :السيدة ام سلمة ام المؤمنين






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . نبذة قصيرة عن حياة أم سلمة :
أيها الأخوة الأكارم, نحن مع أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم، بل وصحابية اليوم السيدة أم سلمة وهي زوج النبي عليه الصلاة والسلام، ولقصتها عِبَر كثيرة، ودلالات خطيرة، وحقائق دقيقة .
فأم سلمة, أبوها سيد من سادات مخزوم المرموقين، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، حتى إن أباها كان يسمى بين العرب زاد الراكب، لكثرة عطائه، وشدة كرمه، وأمّا زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد السابقين إلى الإسلام، إذ لم يسلم قبله إلا أبو بكر الصديق ونفر قليلٌ لا يبلغون أصابع اليدين عدداً، هذه المرأة الفاضلة أسلمت مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام، وهذه وقفة قصيرة لا بد منها .
المرأة مساوية للرجل في الإسلام من حيث التكليف والتشريف :

أيها الأخوة, هذا كلام دقيق، المرأة كالرجل تماماً، هذا حكم الإسلام، هذا حكم الدين، المرأة كالرجل تماماً، في التكليف، وفي التشريف، مكلفة بالإسلام كالرجل، مكلفة بالإيمان كالرجل ، مكلفة بالفرائض كالرجل، مشرِّفة عند الله كالرجل، والأدلة على هذه الحقيقة في القرآن والسنة كثيرة جداً, قال تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
( سورة النحل الآية: 97)
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾
( سورة آل عمران الآية: 195)
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 35)

يا أيها الإخوة الأكارم, من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة، أن تكون زوجته مؤمنة كإيمانه، سابقة إلى الإسلام كسبقه، محبة لله كحبه، طائعة لله كطاعته، عبادة كعبادته ، لذلك أي رجل يهمل تعليم زوجته حقائق الدين وآيات القرآن الكريم يدفع الثمن باهظًا من سعادته الزوجية، وليس أشقى في الحياة من أن تكون أنت في واد وزوجتك في واد آخر، فأجمل البيوت الإسلامية ما كان فيها توافق بين الزوجين، لأن الزوجة من أجل أن تقضي منها الوطر، فهذا شيء يخف بريقه مع الأيام، لذلك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة]
لأنها تسعد زوجها، أما ذات الدنيا تمتعه ولا أقول تسعده، تمتعه إلى حين، فأسعد المؤمنين من كانت زوجته على شاكلته، عليه أن يجتهد في ترسيخ الإيمان في قلبها، القضية بحسب الطلب، ربنا عز وجل قال:
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾
( سورة الأنبياء الآية: 89 ـ 90)
وأصلحنا له زوجه، فالمسلم إن لم يكن متزوجاً، عليه بذات الديـن، وإن كان متزوجاً عليه بإصلاح زوجته، بالإحسان تارة، بالتوعية تارة، بالتعليم تارة، بالتكريم تارة، بوسائل كثيرة جداً يراها الزوج مناسبة . هجرتها مع زوجها إلى الحبشة :
ما إن شاع إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت وجعلت تصب عليهما من نكالها ما يزلزل الصخور، فلم يضعفا، ولم يَهِنَا، ولم يترددا .

يا أخوة الإيمان، الصحابة الكرام دفعوا ثمن هذا الإسلام باهظاً، حتى وصل إلينا، دفعوا من راحتهم في الدنيا، دفعوا من طمأنينتهم، دفعوا من مستوى معيشتهم، دفعوا من حبهم لأوطانهم ، كل هذا ضحوا به من أجل أن ينتشر الإسلام، ولما اشتد عليهما الأذى، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، كان عبد الله وأم سلمة من طليعة المهاجرين، طبعاً أم سلمة من علية القوم، حينما مضت مع زوجها إلى الحبشة خلفت وراءها بيتًا باذخاً، وعزاً شامخاً ، ونسبا عريقا، محتسبة ذلك كله عند الله، مستقلة ذلك في جنب الله .
المسلم إن لم يبذل من جهده، من ماله، من راحته أحياناً، من علاقاته الاجتماعية في سبيل الله، فلن يصل إلى ما يرضيه .
لقيت أم سلمة وزوجها من الملك النجاشي الرحمة والإكرام، نضر الله مثواه في الجنة، عده بعض كتاب السيرة من التابعين، لأنه كان أفضل مَن وَفَدَ إليه أصحاب النبي .
ما سبب عودة أم سلمة مع زوجها إلى مكة ؟
تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة، من هذه الأخبار أن المسلمين قد كثر عددهم وأن حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب قد أسلما
وبإسلام هذين الرجلين الكبيرين اشتد أزر المسلمين، وقويت شوكتهم, الأخبار التي جاءت إلى المهاجرين في الحبشة كانت طيبة جداً، لذلك عادت أم سلمة وزوجها إلى مكة، بعد أن تلقيا أخباراً طيبة عن أن المسلمين قويت شوكتهم، واشتد عودهم بإسلام عمر وحمزة، وأن المسلمين كثر عددهم، لكن سرعان ما اكتشفت أم سلمة وزوجها أنّ هذه الأخبار كان مبالغاً فيها، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام عمر وحمزة قوبلت من قريشٍ بهجمة أكبر .
أحيانًا نفرح إذ يقولون: هناك صحوة إسلامية، لكن مع الصحوة في هجمة، أبداً الهجمة تكافئ الصحوة، هذه معركة أبدية، معركة الحق والباطل، معركة الخير والشر، معركة الهدى والضلال، معركة العقل مع الشهوة، معركة القيم مع الحاجات، هذه معركة أبدية، فأي مشكلة تواجهها من هذا القبيل فهذه المشكلة تندرج مع هذه المعركة الأزلية بين الحق والباطل .
إليكم قصة أم سلمة حينما هاجرت مع زوجها إلى المدينة والأحداث التي جرت معها :
لذلك بالغ المشركون في تعذيب المسلمين، وترويعهم، فقد أذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به، عند ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما من أذى قريش، وكما هي العادة ندع الحديث الآن لأم سلمة تحدثنا عن هجرتها، والقصة مؤثرة جداً، وفيها استنباطات رائعة، وحقائق دامغة .
تقول أم سلمة: ((لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ثم حملني عليه، وجعل طفلنا سلمة في حجري، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء .
-ذات مرة أحد لصوص الصحراء، لصوص الخيل، وقف على الرمل الذي يكاد يحترق من شدة أشعة الشمس، فمر به فارس يمتطي فرسه، هذا الفارس رق لهذا الإنسان البائس الذي ينتعل رمال الصحراء المحرقة، فدعاه إلى ركوب الفرس معه، وما إن ركب هذا اللص خلف صاحب الفرس، حتى دفعه إلى الأرض، وعدا بالفرس لا يلوي على شيء، ذكرني بهذه القصة كلمة لا يلوي على شيء، فناداه صاحب الفرس، وقال: يا هذا, وهبت لك الفرس ولن أَسْأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء، فإن شاع هذا الخبر تذهب المروءة من الصحراء، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها .
إذا أقرضَ إنسان إنسانًا مبلغًا، وهذا المدين أكله على الدائن، فأنا لا أتمنى أن يشيع هذا الخبر بين الناس، وإذا أحسن إنسان إلى إنسان، والذي أُحْسِنَ إليه أساء إساءة بالغة، فلا أتمنى أن تشيع بين الناس، لأنه كلما شاع بين الناس مثل هذه الإساءات، أحجم الناس عن فعل الخير، وبالمناسبة في بلدنا أكثر من سبعمئة ألف شقة فارغة، هل هي أزمة سكن أم إسكان؟ أزمة إسكان ، وليس هناك أزمة سكن لماذا؟ لأن بعض الحوادث أو عشرات الحوادث زعزعت ثقة الإنسان بمَن يريد سكنًا للإيجار، فنشأ ما يسمى بأزمة الإسكان، لا أزمة السكن، هذا الذي ذكره الله عز وجل:

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾
( سورة الماعون الآية: 1 ـ 7)

(ويمنعون الماعــون) إذا أسأت إلى المحسن فقد منعت الماعون، كلكم يذكر قبل حين أنه كان الإنسان إذا رأى مصاباً في حادث فلا أحد يسعفه إلى المستشفى، لماذا؟ لأن الذي يسعفه إلى المستشفى سوف يعتقل إلى أن تُكتشف حقيقة هذا الحادث، فالإنسان إذا قام بإسعاف جريحٍ فإنه يبقى في السجن أيامًا عديدة حتى يكتشف أولو الأمر الحقيقة، هي مشكلة كبيرة، لذلك صار الإنسان يموت نزيفاً ولا أحد يسعفه إلى المستشفى، إلى أن صدرت تعليمات جديدة بأن أحداً لن يسأل المسعف أبداً، وإذا أسعفه وأوصله إلى المستشفى، فالذي كان يضيِّق على هذا المسعف فقد مَنَعَ الماعون، ومَنَعَ الخير، فالمحسن إذا أسأت إليه أسأت إلى المجتمع بأسره لا إلى شخصه- .

تقول هذه الصحابية الجليلة: وقبل أن نفصل عن مكة, أي نبتعد عن مكة، رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا، وقالوا لأبي سلمة: إن كنت قد غلبتنا على نفسك، فما بال امرأتك هذه وهي ابنتنا فعلامَ نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد، ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعاً، فرقوا بين عبد الله وبين زوجته أم سلمة، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبد أسد يأخذونني أنا وطفلي حتى غضبوا أشد الغضب, وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعاً فهو ابننا ونحن أولى به, ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده، وأخذوه، هذه مأساة، وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة فزوجي اتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه، وولدي اختطفه بنو عبد أسد من بين يدي محطماً مهيضاً, يعني مكسور الجناح، أمَّا أنا فقد استولي عليَّ قومي بنو مخزوم وجعلوني عندهم، -هذه من المآسي التي عاناها أصحاب رسول الله .
وهذا سؤال, لو أنّ رجلاً سأل نفسه: نحن ما عملنا لرفعة الإسلام؟ والله يا أخي ما حضرتُ الدرسَ، المواصلات صعبة، لكنها الآن حُلَّتْ مشكلتها، وكثرتْ سيارات النقل المتوسطة ، فهل حصل لأحدٍ كما حصل لهذه المرأة الصحابية؟ .

رُوِيَ سيدنا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه أنّ امرأة أسيرة فقدتْ وليدها، فلما شكتْ إليه ذلك، وقف ولم يجلس حتى أعادوا لها وليدها، دخلت إلى خيمة تنتظر مجيء وليدها، فإذا زوجها بالخيمة، فلما عرفته وعرفها بعد طول فراق، وهما من النصارى، ويبدو أنها عانقته أو عانقها، فيروي كتاب التاريخ أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي غض بصره وأكبر هذه الرحمة التي وضعها الله بين الزوجين، فلما حدثته عن معاملة المسلمين، وكان زوجها فارساً من فرسان أوربا المشاهير أسلم, وعينه صلاح الدين الأيوبي أحد قادته الكبار، ما هذه المعاملة؟ يعني المسلمون يتحلَّون بأعلى درجات الكمال- .
قالت: ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح، فاجلس في المكان الذي شهد مأساتي، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل خلالها بيني وبين ولدي وزوجي، وأظل أبكي حتى يخيم عليَّ الليل .
-إذاً: الذي أودعه الله في قلب الزوجة من محبة لزوجها، والذي أودعه الله في قلب الزوج من محبة لزوجته، ومن محبة الزوجين لابنهما، ومن محبة الابن لوالديه، فهذه رحمة من الله سبحانه أودعها الله في قلوبَ عباده .

لذلك فالنبي الكريم, قال: ليس منا من فرق بين والدة وولدها، وينطبق هذا القولُ على كل إنسان يفرِّق بين أم وولدها، حتى لو كانا من البهائم، فالمفرِّق ملعون، لأن الذي أودعه الله في القلوب لا تمحوه الأحداث أبداً، لذلك قال تعالى:

﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
( سورة الروم الآية: 21)
وبقيت على ذلك سنة، أو قريباً من السنة، إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرَقَّ لحالي، ورحمني، وقال لبني قومي: ألا تطلقون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها ، وما زال بهم يستلين قلوبهم، ويستدر عطفهم, حتى قالوا: الْحقي بزوجك إن شئت، ولكن كيف ألحق بزوجي وهو في المدينة، وأترك ولدي وفلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ كيف يمكن لي أن تهدأ هذه اللوعة، أو ترقأَ عَبْرة، وأنا في دار الهجرة، وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئاً؟)) فقلب الأم، وقلب الأب، يؤكد عظمة الله عز وجل، قلب الأم يؤكد رحمة الله عز وجل.
عودة ابنها إليها ولحاقها بقوافل المهاجرت إلى المدينة :
تقول أمُّ سلمة:
((ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي، وكلموا بني عبد الأسد في شأني، واستعطفوهم عليَّ، فردوا لي ولدي سلمة، قالت: فلم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه، لشدة شوقها للمدينة دار الهجرة، ولزوجها والد ابنها, فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان، فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق، لذلك بادرت فأعددتُ بعيري، ووضعت ولدي في حجري، وخرجتُ متوجهة نحو المدينة أريد زوجي، وما معي أحد من خلق الله))
امرأة تركب ناقة وفي حجرها ولدها وتُيَمِّم شطر المدينة، التي تبعد عن مكة 450 كيلومترًا، تحتاج إلى أن تقطعها الآن في سيارة مكيفة حديثة تسير بسرعة 180- 210، في طريق سريعة عريضة مزفَّتة، تحتاج إلى خمس ساعات سير، أو ثلاث ساعات، وكان أصحاب النبي يقطعون هذه الطريق في اثني عشر يوماً .
بربكم أرجو أن توازنوا بين ما نحن فيه, وبين ما كان أصحاب رسول الله فيه، بل الأغرب من ذلك وازنوا بين ما نحن فيه، وبين ما كان فيه أهل الجاهلية .
من هو الصحابي الذي رافقها في طريق هجرتها قبل إسلامه ؟
قالت: ((وما إن بلغت التنعيم, التنعيم الآن منطقة فيها مسجد السيدة عائشة، مكان الإحرام للعمرة، وما إن بلغت التنعيم حتى لقيت عثمان ابن طلحة, فقال: إلى أين يا بنت زاد الراكب؟
قلت: أريد زوجي في المدينة .
قال: أو ما معك أحد؟ .
قلت: لا والله إلا الله، ثم بني هذا .
قال: واللهِ لا أتركك أبداً حتى تبلغي المدينة .
فسار معها اثني عشر يوماً، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي))

إليكم حديثها عن صفات هذا الصحابي الذي لم يدخل في الإسلام بعد :
اسمعوا وصف السيدة أم سلمة لهذا الرجل الذي لم يسلم بعد، هذا مشرك, قالت: ((واللهِ ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره، واستويت على الأرض، دنا إلى البعير، وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة، وقيده فيها، ثم يتنحى عني بعيداً إلى شجرة أخرى فيضطجع فيها فإذا حان الرواح قام إلى البعير، فأعدَّه، وقدَّمه إلي، ثم يستأخر عني, ويقول: أركبي فإذا ركبت واستويت على البعير، أتى وأخذ بخطامه وقاده .
-وازنوا بين هذا الجاهلي وبين شباب المسلمين اليوم، يعني إذا امرأة في مكان تعثرت، فالمسلم الشهم يغض بصره فوراً، أما الدنيء فإنه ينظر إليها، فهذا الرجل قبل أن يسلم، هكذا تصرف كما رأيتم, وقرأتم عن تصرفاته قبل أسطر- .
قالت: وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو بن عوف, قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً -وسار اثني عشر يومًا، حتى أوصلها سالمةً، فهو شهم حقًّا، وصاحب مروءة، فهذه أخلاق جاهلية أمتنا .

ونضرب مثلا باللغة التجارية, فنقول: إذا قبض رجلٌ مالاً من المشتري، فكتب في سجلاَّته دفعة أولى، معنى ذلك أنه ستكون هناك دفعة ثانية، هل هذا الكلام صحيح؟ نعم، فكل شيء موثَّق، ورغم ذلك نجد التحايلَ كثيرًا، ربنا عز وجل قال:

﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية: 33)
ولا تبرجــن تبرج الجاهلية الأولى، فما المعنى؟ كانت جاهلية أشد ممّا أتى بعدها، هي جاهلية جهلاء، يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب، يؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويوسَّد الأمر إلى غير أهله، ويصبح الولد غيظاً، والمطر قيظاً، ويفيض اللئام فيضاً، يغيظ الكرام غيظاً، يؤمر بالمنكر، ويُنهى عن المعروف، وتركب ذواتُ الفروج السروج، كما ورد في بعض الأحاديث، ويعق الابنُ أباه، ويبرُّ صديقه .
وفي أيامنا نجد شبابًا مع والده ووالدته، أشرس ما يكون، ومع أصدقائه مثل الجمل الذلول، سهل المأخذ، ليّن الجانب، لطيف، وديع .

النبي الكريم أخبر يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير، أحاديث كثيرة لا أذكرها الآن، لذلك أُلِّفتْ كتب كثيرة تحت عنوان: جاهلية القرن العشرين، هناك جاهلية جهلاء، والملاحَظ الآن في العالَم جاهلية ما بعدها جاهلية، لا قيم، ولا مبادئ، ولا أخلاق، ولا رحمة، بل قسوة ما بعدها قسوة، ووحشية ما بعدها وحشية، تفاوت ما بعده تفاوت، قهرٌ ما بعده قهر، لذلك كلمة الأولى في قوله تعالى لها معانٍ كثيرة، ولا تبرجن تبـرج الجاهلية الأولى، فمَن يصدِّق أنّ في بعض البلاد الغربية 30% من حالات الزنا زنا محارم، الأخت مع أخيها، والأب مع ابنته، إلى أن أصبح هذا شبه شائع، ولا تبتعدوا كثيراً، هذا الذي نجح في الانتخابات الرئاسية في أمريكا، لماذا نجح؟ لأنه وعَد فيما وعدهم بإباحة الإجهاض، وأما الشاذون جنسياً فهؤلاء سمح لهم بدخول الجيش، وكأن هذا ليس شذوذاً، بل هو مقبول اجتماعياً، هذه هي جاهلية القرن العشرين- .
اجتمع الشمل بعد طول افتراق، وقرت عين أم سلمة بزوجها, وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده، ثم تسارعتْ الأحداث ومضتْ الأيامُ سراعاً كلمح البصر)) المصيبة المؤلمة التي قدر لها في بيت أم سلمة :
فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين، وقد انتصروا نصراً مؤزراً، وهذه أُحُد يخوض غمارها بعد بدرٍ، ويبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحاً بليغاً، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندملتْ، لكن الجرح قد اندمل على فساد، فما لبث أن انتكأتْ، ولزم أبو سلمة الفراش، وفيما كان أبو سلمة يعالَج من جرحه، قال لزوجته:
((يا أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: لا يصيب أحد مصيبة فيسترجع عند ذلك فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه، اللهم اخلفني خيراً منها إلا أعطاه الله عز وجل))
هذا كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
قالت:
((ظل أبو سلمة على الفراش مريضًا أياماً، وفي ذات صباحٍ جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ليعوده، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب داره حتى فارق أبو سلمة الحياة، فرجع النبيّ وأغمض عينيه بيديه الشريفتين، ورفع طرفه إلى السماء, وقال: اللهم أغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين، واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، -هذا دعاء النبي لأبي سلمة, وقد توفاه الله عز وجل، وأفسح له في قبره، ونوِّرْ له فيه- .
أمّا أمُّ سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله, فقالت: اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه, -هكذا يكون المؤمن، لكنها لشدة إعجابها بأبي سلمة، ولشدة حبها له، ولأنها تعتقد أن أحداً لن يكون خيراً منه كزوج لها، لمّا وصلت لقول النبي: اللهم اخلفني خيراً منها، ما استساغت نفسُها أنْ تدعوَ بهذا الدعاء، -لم تطب نفسها أن تقول: اللهم اخلفني خيراً منها- لأنها كانت تقول: ومن عساه أن يكون خيراً من أبي سلمة،-ليس معقولاً، ويبدو أن زوجها كان في أعلى درجة من المروءة، والشهامة، والكرم، والأخوة، والقوة، والمنعة، بعضُ الأزواج ملء السمع والبصر- فحزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب من قبل، وأطلقوا عليها اسمَ أيِّم العرب، إذْ لم يكن لها في المدينة أحدٌ من ذويها غير صِبْية صغار، وشعر المهاجرون والأنصار معاً بحق أم سلمة عليهم))

الحظ السعيد الذي نالته أم سلمة بزواجها من رسول الله :
هناك زواج في الإسلام لا يقصد منه المتعة إطلاقاً، زواج شهامة، زواج مروءة، حتى تقدم منها أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه، فلا قريب لها، ولا معيل، وأولادها صغار، ولا أحد يدخل عليها، فأبت أن تستجيب له، ورفضت، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب، فردَّته كما ردت صاحبه .
وبالمناسبة يقول عليه الصلاة والسلام:
((أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأة تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي، قلت: من هذه يا جبريل؟ قال: هذه امرأة مات زوجها، وترك لها أولادًا، فأبت الزواج من أجلهم))
أنا أعتقد أن أم سلمة هذه الصحابية الجليلة لم ترفض طلبَ أبي بكر رضي الله عنه، ولا طلب عمر رضي الله عنه كِبَراً، ولكن هناك أسباب، سنراها بعد قليل، ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت له:
((يا رسول الله, إن فيَّ خلالاً ثلاثًا، فأنا امرأة شديدة الغيرة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يغضبك فيعذبني الله، وأنت رسوله، وأنا امرأة قد دخلت في السن، أيْ كبيرة، لا أصلح للزواج، وأنا امرأة ذات عيال، وعندي أولاد، قال: أمَّا ما ذكرت مِن غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك، -فهي مرض، والغيرة لها حد مقبول، وبوضعها المعتدل ضرورية جداً، فإذا شعر الزوج أن زوجته تغار عليه، وتحرص على أن يكون لها وحدها، وتحرص على رضاه ، فهذه صفة ضرورية أودعها الله في النساء، لكن كل صفة أودعها الله في النساء والرجال لها حد طبيعي .
الغيرة أيها الأخوة، في أحجامها الطبيعية ضرورية، لكن أحياناً تتفاقم عند امرأة ما، وتزيد عن حدها المعقول، فتنقلب إلى مرض، يعني امرأة تشك في زوجها الذي هو في أعلى درجات الاستقامة، فهي مريضة إذاً، تغار عليه أن يتصل بالهاتف، تغار عليه أن يتأخر بالمجيء إلى البيت، تظن به الظنون، هذه امرأة تحتاج إلى معالجة- .
النبي عليه الصلاة والسلام, قال: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك, وأمّا ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة))

أليس رسول الله خيراً من أبي سلمة؟ اخلفني خيراً منها، فاستجاب الله دعاءها، واخلفها خيرًا من أبي سلمة, ومنذ ذلك اليوم لن تبقى أم سلمة أماً لسلمة وحده، وإنما غدتْ أمًّا لجميع المؤمنين . ما هي الاستنباطات التي يمكن أن نستخرجها من قصة أم سلمة ؟
1- أن يكون هدف المرء في الحياة مرضاة الله عز وجل :

وبعد, فإني أسألكم بعض الأسئلة، وأريد استنباطات من هذه القصة، استنباطات تفيدنا في حياتنا اليومية، أحداث القصة يعنينا منها الحقائق، العبر، المواعظ، التجارب .
أن يكون اختياره أولاً مرضاة الله عز وجل، أبو سلمة ترك زوجته وولده وفر إلى الله ورسوله، فر بدينه إلى الله ورسوله، والله عز وجل تولى أمره، أعاد إليه زوجته وولده، وأكرمه بصحبة النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً: المقولة التي تعرفونها، هم في مساجدهم والله في حوائجهم .
استنباط آخر، أنت رجل، وبين الناس إنسان عفيف، وإنسان دنيء، هذا الذي ينظر إلى امرأة لا تحل له، فهذه ليست له، ولذلك غض البصر يكسب الإنسان شرفاً، يكسب الإنسان مروءة ، وأجمل صفة بالشاب العفة، تعلمون جميعاً أن العدل حسن لكن في الأمراء أحسن، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن، والورع حسن لكن في العلماء أحسن, وما ترك عبد شيئاً لله إلا عَوَّضَه الله خيراً منه، هذه واحدة .
2- لكل محنة منحة :
ثانياً: ما أصاب أحداً مصيبة, فقال: حسبي الله ونعم الوكيل إلا عوضه الله خيرًا منها، لم تصدِّق أمُّ سلمة أن زوجها أبا سلمة ملء السمع والبصر
زوج لا كالأزواج، رجل لا كالرجال، فكيف يعوضها الله خيراً منه؟ لقد كان الزوجُ الآخر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خير من أبي سلمة .
أيضاً استنباط آخر، إن مع العسر يسرا، وكل مصيبة في ثناياها بذور حلها، لذلك قالوا : الفرج يأتي بعد الشدة، والآية الكريمة:
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
( سورة الطلاق الآية: 2)
ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ماذا تعني كلمة (مخرج)إذا انقطع واحد بفـلاة فهو يحتاج إلى مخرج، أمّا إذا كان الشخصُ في مكان له سبعة أبواب مفتوحة، هل يحتاج لمخرج؟ لا، لكن متى نقول مخرج؟ عندما تكون الأبواب كلها مغلقة، والأمور مشتدّة، والطرق كلها غير سالكة، عندئذ يأتي الفرج من أعلى، مِن لدُنْ حكيم خبير، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا . 3- من صفات المرأة الصالحة :
استنباط آخر، كان وفاءها لزوجها منقطع النظير، لذلك فالأصل بين الزوجين المودة والمحبة، فإذا طغتْ بينهما الخصومات، والمشاحنة، والبغضاء، والبيت في نكد، فهذه حالة مَرَضية ينبغي أن تعالج .
هل عندكم شك أن النبي أراد أن يتزوجها من أجل شيء دنيوي، لا والله، لكنّ امرأة جاهدت هذا الجهاد، وهاجرت إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة، ولقيت من العنت ما لقيت، وفوق كل ذلك يموت زوجها، ويُبقِي لها أطفالاً صغاراً ليس لهم مُعيل، أليس من الشهامة أن تقدِم على الزواج من هذه المرأة؟ بلى، والدليل سيدنا الصديق، وسيدنا عمر، وجاء النبي بعد ذلك،
((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ))
[أخرجه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو في الصحيح]

المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وإذا أقسمت عليها أَبَرِّتْك، وإذا أمرتها أطاعتك، عزيزة في نفسها، ذليلة مع بعلها، ودود ولود، ترضى باليسير، ولا تكفر العشير، وفي القرآن آية تشير إلى ذلك، عن نساء أهل الجنة، وصف الله حوريات أهل الجنة بأنهن قاصرات الطرف، يعني يقصرن طرفهن على أزواجهن, فهذه المرأة التي توازن زوجها بالآخرين، هذه ليست امرأة ترضي الله عز وجل, لذلك يقول النبي الكريم:

((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
إن الله لا ينسى أحداً من رحمته، فقد فرَّق بين أم سلمة وزوجها وولدها، وصبرتْ، فأعاد الله لها زوجها وولدها، وهذا الاستنباط صحيح .
4- من صفات المؤمن :
وثمّة استنباط آخر، وهو أن المؤمن يكره مجتمع الكفر، وهذه حقيقة إيمانية، كما يكره أن يلقى في النار
المؤمن مع المؤمنين كالسمك في الماء، المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، راحته مع أخوانه المؤمنين، راحته في بيوت الله، راحته في أداء العبادات، فقد سئل الجنيد: مَن وليّ الله؟ قال: ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، وتجده حيث أمر الله، وتفقِده حيث نهى الله عنه، فلا يقرب الأماكن الموبوءة .
نحن الآن في جاهلية أخرى، قال سيدنا جعفر: كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الأرحام, ويأكل القوي منا الضعيف، هي جاهلية مُرَّة، القوي يأكل الضعيف, أما الآن فالأقوياء يأكلون الشعوب، وليس الضعاف فحسب، هذه جاهلية جهلاء .
قيمة المرأة الصالحة في سعادة البيت المسلم :
هنا حقيقة، هي نصيحة للشباب، يمكن أنْ تتزوج فتاة، وقد أودع الله عز وجل في نفس كل شاب حبَّ الزوجة
لكن إذا كانت الزوجة رفيقة لك في الحياة، بمعنى أنها في مستواك الثقافي ، والشرعي، والإيمان, والورع، فهذه أكثر مِن زوجة، هذه رفيقة العمر، الواحد إذا تزوج يجب أنْ يعلم زوجته، لأن هذه المتعة التي يحتاجها الزوج من زوجته تنقضي، وتصبح مع الزمن شيئاً عاديًّا, لا يترك أثراً بعيدًا في النفس، أمّا الذي يبقى هو علمها، وأخلاقها، ودينها، وورعها، ووفاؤها، وحكمتها، وتربيتها لأولادها .
مرة نصحتُ شخصًا نصيحة، قلت له: لن تسعد بزوجتك إلا إذا عرَّفتها بالله، فسعدتْ به، عندئذ تسعد بها، ثم تسعِدك، لأنها عرفت قيمتك، وعرفت قيمة الزوج، وعرفت واجبها تجاه الزوج، وعرفت حقوق الزوج، وأنت عرفت حقوقها .
فكل إنسان يهمل دين زوجته يدفع الثمن باهظًا، وكل إنسان يرعى دين زوجته، ويرعى إيمانها، ويرعى تلاوتها للقرآن وعلمها، فهو الرابح الأول، فالإنسان قبل أن يتزوج يبحث عن المرأة الصالحة ليسعَدَا معًا .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:09 AM   #20


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( العشرون )

الموضوع : سيدنا ابو العاص بن الربيع







الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لمحة عن حياة أبي العاص بن الربيع من حيث نسبه وزواجه وتجارته :
أيها الأخوة الأكارم, قصة من قصص أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ولكن هذه القصة لها طعم خاص، ذلك أنها تتصل اتصالاً مباشرًا بأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، إنه أحد أصهاره، ويمكن أن نستنبط من هذه القصة موقف النبي عليه الصلاة والسلام من قرابته، وكيف كان مثلاً أعلى للمؤمنين في علاقاته مع من يلوذ به؟ صهره أبو العاص بن الربيع .
كان شاباً موفور الشباب، بهي الرونق، رائع المجتلى، كان ذا نعمة، وحسبٍ، ونسبٍ، وكان فارساً، فيه كل خصائص الأنفة، والكبرياء، وكل مثال المروءة والوفاء .
هذا الرجل قبل الإسلام كان مولعاً بالتجارة، فقد أحبها حباً جما، وكان صاحب رحلتين إلى الشام، رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، وكانت قافلته تضم مئة من الإبل، ومئتين من الرجال، من أضخم القوافل، وكل رحلة فيها مئة بعير عليها الأحمال، مع مئتي رجل يرعون هذه الأحمال ، هذا حجم تجارته, فأناس كثيرون بمكة كانوا يدفعون إليه بأموالهم ليتجر بها، وهذه شركة القراض أو المضاربة .
خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه الصلاة والسلام هي خالته، وله في نفسها منزلة رفيعة جداً، تحبه وتعطف عليه، وترعاه، وكان موفور الشباب، كان ملء السمع والبصر .
لا بد من هذه المقدمة قبل أن نبدأ بالموضوع، والأعوام مرت سراعاً على بيت محمد بن عبد الله فشبت زينب كبرى بناته عليه الصلاة والسلام من السيدة خديجة، وتفتحت كما تتفتح الزهرة فواحة الشذا بهية الرواء، طمحت إليها نفوس أبناء السادة من أشراف مكة، فهي من أعرق بنات قريش حسباً ونسباً، ومن أكرمهن أماً وأباً، ومن أزكاهن خلقاً وأدباً، لكن أنَّى لهم يظفروا بها وقد حال دونهم ودونها ابن خالتها، أبو العاص بن الربيع فتى الفتيان . هل استجاب أبو العاص لدعوة النبي وما هو موقفه حينما طلبت قريش منه تطليق زوجه لتنال من النبي؟
أيها الأخوة, لم يمض على اقتران زينب بنت محمد بأبي العاص إلا سنوات محدودات حتى أشرقت بطاح مكة بنور البعثة المحمدية، ونزل الوحي، وبعث النبي عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً إلى العرب، وإلى الأمم جميعاً، وأمر الله نبيه أن ينذر عشيرته الأقربين, قال تعالى:﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
(سورة الشعراء الآية: 213 ـ 214)
النبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله عز وجل، وأنذر عشيرته الأقربين، فكان أول من آمن به من النساء خديجة، وأول من آمن به من بناته زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، لكن كنَّ صغيرات السن، وهنا دخلنا في القصة، ثم إن صهره أبا العاص كره أن يفارق دين آبائه وأجداده، هنا بدأت العقبة، صهره زوج ابنته لم يؤمن به، والإنسان كما يقال: عدو ما يجهل، ومن علائم ذكاء الإنسان أن يتحرر من كل شيءٍ ألفه ولو كان باطلاً، ويبحث عن الحق ولو لم يألفه.

ولما اشتد نزاع النبي عليه الصلاة والسلام مع قريش، فكَّروا في إشغال النبي عن دعوته بشيء، فأراد كفارُ مكة أن يغيظوا النبي، وأن ينالوا منه، وأن يحمِّلوه فوق طاقته، فقالوا: ويحكم إنكم قد حملتم عن محمد همومه بتزويج فتيانكم من بناته، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم، طلقوا بناته، حينما كنت أقول: إن النبي ذاق كل مرارةَ، واللهِ لقد غاب عن ذهني أن بناته قد طُلِّقن، فالأب إذا كان طلقت ابنته كان مصابُه عظيمًا، فهاجر من مكة إلى المدينة، وذاق اليتم، وذاق الفقر، وذاق موت الولد، وذاق تطليق بناته من أصهاره، قالوا: واللهِ نِعْمَ الرأي ما رأيتم، والكافر حيثما قدَرَ على الأذى يتهلل وجهه، حيثما قدَر على إيقاع الضرر بالآخرين تجده نشيطًا، أمّا إذا دعوته إلى عمل صالح تراه كسولا، ومَشَوْا إلى أبي العاص، وقالوا له: فارقْ صاحبتك يا أبا العاص، وردَّها إلى بيت أبيها، ونحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش، هناك أشخاص حتى الآن إذا تزوج ابنه من مؤمنة، يقول له أبوه: فارقها ونحن نزوجك غيرها، لا لشيء إلا لأنها مؤمنة، وهذا الموقف الأخلاقي الذي وقفه، فقال: لا والله إني لا أفارق صاحبتي .

يا أيها الإخوة الأكارم, أي إنسان يضايق زوجته بخصومة بينه وبين أهلها، فهذا إنسان دون الخط الأحمر، أشخاص كثيرون، لهم زوجات صالحات، زوجات مخلصات، زوجات طائعات، لأن خلافًا نشأ بينه وبين أخيها، أو بينه وبين أبيها، يهددها بالطلاق, أهذه هي المروءة؟ ماذا فعلت معك؟ قال تعالى:﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾
( سورة فاطر الآية: 18)

(ولا تزر وازرة وزر أخــــرى), لكن العوام والجهلاء حينما يقعون في خصومة مع أهل زوجاتهن، لا يجدون متنفساً لهم إلا بإيقاع الأذى بزوجاتهم، كيداً لأهلهن .
هذا الموقف الأخلاقي من أبي العاص هو الذي رده إلى هذا الدين، هو الذي جعله يسلم، وهو السبب الذي أكرمه الله بالإسلام بعد إذْ لم يكن مسلماً، أما ابنتاه رقية وأم كلثوم فقد طُلِّقتا، وحُمِلتا إلى بيته الشريف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام سُرَّ بردِّهما إليه، وتمنى أن لو فعل أبو العاص كما فعل صاحباه، لأنه خلصهما من بيت فيه شرك وكفر، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه على ذلك, لأنه لم ينزل التشريع بعد بحكم زواج المؤمنة من المشرك؟ . هل كان أبو العاص من جملة الأسرى الذين ظفر بهم المسلمون وماذا فعلت زوجه حتى تفك أسره ؟

ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة, واشتد أمره فيها, وخرجت قريش لقتاله في بدر، الآن برَز على السطح موقف حرج جداً، قريش كلها خرجت لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو العاص صهره لا بد من أن يخرج مع من خرج، وابنته لا زالت عنده، ولم يكن التشريع قد أنزل بعد، لكنَّ أبا العاص لم تكن له رغبة في قتال المسلمين، ولا أرب له في النيل منهم، إلاّ أنّ منزلته من قومه حملته على أن يسايرهم، وقد انجلت بدر عن هزيمة منكرة لقريش، أذلت أنوف الشرك، وقصمتْ ظهور طواغيته, ففريق قتل، وفريق أسر، وكان من زمرة الأسرى أبو العاص، زوج زينب بنت محمد صلوات الله عليه .
الموقف الصعب, حينما استعرض النبي الأسرى فإذا أبو العاص بينهم، لماذا جاء؟ جاء ليقاتل المؤمنين، جاء لينتصر عليهم، فنظر إلى صهره أبي العاص، وقال كلمة لا تُنسى، قال عليه الصلاة والسلام: ((والله ما ذممناه صهراً))

فهل رأيت حُكماً موضوعياً أشدَّ من هذا الحكم؟ أنصفه، والإنسان إن لم ينصف فليس مؤمناً، من صفات المؤمن إنصاف الناس من نفسه، وأن يقف عند العدل، وها قد وقع أسيرًا، وأضحى أهلُ الأسرى يرسلون فدية ليفتدوا بها أسراهم من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه زينب وزوجها أسير عند أبيها، وينبغي أن تفتديه من أبيها، هذه قضية خاصة جداً، فبعثت زينب رسولها إلى المدينة، يحمل فدية زوجها أبي العاص، لكن ما هي هذه الفدية؟ .
حينما تزوجت زينب أبا العاص قدَّمت لها أمها هدية ثمينة، وهي قلادة السيدة خديجة، حينما زفت إلى زوجها، وزينب الآن لا تملك إلا هذه القلادة ، فبعثت بها إلى أبيها ليأخذ القلادة، فلعله يقبل هذه القلادة فداءً لزوجها أبي العاص الأسير عند أبيها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة غشيت وجهَه الكريم غلالةٌ شفافة من الحزن العميق، ورقَّ لابنته أشد الرقّة، ثم التفت إلى أصحابه, وقال يريد المشورة، ولم يأخذ قرارًا من طرف واحد:
((إن زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها مالها فافعلوا، -يستشيرهم في شأن ابنته، وفي شأن صهره، وشأن هذه القلادة، فهل هي مقبولة عندكم؟ هل تكفي؟ هل بعد هذا التواضع من تواضع؟‍ وأصحابُ النبي يفدونه بأرواحهم- قالوا: نعم، ونعمت عين يا رسول الله))
أيْ حباً وكرامة, لكن النبي عليه الصلاة والسلام اشترط على أبي العاص قبل إطلاق سراحه أن يسيِّر إليه ابنته زينب من غير إبطاء، بناءً على حكم شرعيٍّ، خلاصته ألاّ تبقى امرأةٌ مؤمنةٌ عند زوج كافر، فقد يحملها هذا الزوج على معصية الله، وقد يأمرها بما يغضب الله ، فالحكم الشرعي ألا تبقى امرأةٌ مؤمنةٌ تحت زوج مشرك أو كافر . هل وفى أبو العاص بالشرط الذي اشترطه عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
كان أبو العاص صادقاً، وفياً، فما كاد أبو العاص يبلغ مكة بعد فكِّ أسْره حتى بادر إلى الوفاء بعهده ، فأمر زوجته بالاستعداد للرحيل، وأخبرها بأن رسل أبيها ينتظرونها غير بعيد عن مكة، وأعد لها زادها وراحلتها، وندب أخاه عمرو بن الربيع لمصاحبتها وتسليمها لمرافقيها يداً بيد
تنكب عمرو بن الربيع قوسه وحمل كنانته, الكنانة جعبة السهام، وجعل زينب في هودجها، وخرج بها من مكة جهاراً نهاراً على مرأى من قريش، فهاج القوم وماجوا، ولحقوا بهما حتى أدركوهما غير بعيد، وروَّعوا زينب، وأفزعوها، عند ذلك هيَّأ عمرو قوسه، ونبل نبله، ونشر كنانته بين يده، وقال: واللهِ لا يدنو رجلٌ منها إلا وضعت سهماً في نحره، وكان رامياً لا يخطئ له سهمٌ، فأقبل عليه أبو سفيان بن حرب، وكان قد لحق بالقوم، وقال له: يا ابن أخي, كفَّ عنا نبلك حتى نكلمك، فكفّ عنهم، فقال له: إنك لم تصب فيما صنعت, أي لم تكن على صواب، كنت مخطئاً، لماذا؟ لأنك حملت زينب في هودجها جهاراً نهاراً على مرأى من قريش, وهذا بعد موقعة بدر حيث سالتْ دماء صناديدهم، وبرَزتْ حساسيات بالغة .
فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس ومرأى مِن عيونهم، وقد عرفت العربُ جميعها أمرَ نكبتها في بدر، وما أصابها على يد أبيها محمد، فإذا خرجت بابنته علانية كما فعلت ، رمتنا القبائل بالجبن، ووصفتنا بالهوان والذل، فارجع بها، واستبقِها في بيت زوجها أياماً، حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها، فسُلَّها من بين أظهرنا سراً، وألحقها بأبيها، فما لنا بحبسها عنه حاجة، لكن ليس على مشهد مِن الناس، فرضي عمرو بذلك، وأعاد زينب إلى مكة، ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلاً بعد أيام معدودات، وأسلمها إلى رسل أبيها يداً بيد، كما أوصاه أخوه، وفُرِّق بين زوج وزوجته بحكم الله عز وجل .
إليكم قصة إسلام أبا العاص :
أقام أبو العاص بمكة بعد فراق زوجته زمناً حتى إذا كان قبيل الفتح بقليل خرج إلى الشام في تجارة له، فلما قفل راجعاً إلى مكة ومعه عيره التي بلغت مئة، ورجاله الذين نيفوا على مئة وسبعين بزرت له سرية من سرايا الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً من المدينة، فأخذت العير، وأسرت الرجال، لكن أبا العاص أفلَتَ منها فلم تظفر به، وأُلقِي القبض على مئة وسبعين رجلاً من أتباع أبي العاص أسرى في يد السرية، وصودرت القوافل، وأصبحت غنائم في أيدي المسلمين، لكن أبا العاص نجا من الأسر، فلما أرخى الليل سدوله، استتر أبو العاص بجنح الظلام ، ودخل المدينة خائفاً يترقب، ومضى حتى وصل إلى زينب، زوجته، واستجار بها، فأجارته .
ولما خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر، واستوى قائماً في المحراب، وكبّر للإحرام، وكبّر الناس بتكبيره، صرخت زينب، وقالت:
((أيها الناس, أنا زينب بنت محمد، وقد أجرتُ أبا العاص، فأجيروه، فلما سلم النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة التفت إلى الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم يا رسول الله, قال: والذي نفسي بيده ما علمتُ بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه, -البيان يطرد الشيطان، هكذا علّمنا النبي، قد يظنون أن ثمة اتفاق بين سيدنا رسول الله وزينب، أنه لما أصلي فقولي: قد أجرته، فبيَّن النبي وأزال الشبهة، فقد بيَّن الحقيقة من غير لبس .

فإذا كان الإنسان في موقف حرِج يستدعي سؤالاً وجوابًا، فعليه أنْ يبيِّن، ويوضِّح، هذه قاعدة أساسية، البيان يطرد الشيطان .
ذات مرة زار رجلٌ صاحبًا له في العيد، وضع له طبقًا من الحلويات مليئًا فأكل قطعة واحدة، وجاء شخص آخر، وكان صاحب البيت مشغولاً، فهذا الثاني بدأ يأكل ويأكل ويأكل حتى لم يبقِ من الطبق إلا القليل، فوقع الأول في الحرج، وقد أكل قطعة واحدة، فلما دخل صاحب البيت, قال الأول: واللهِ إني أشهدُ الله أنه يحبك أضعاف ما أحبك، لأنه أكل من هذا الطبق أضعاف ما أكلت، فبيَّن، فالمرءُ يضطر أحيانًا للبيان والتوضيح، وبخاصّة في المواقف التي فيها تهمة، فإن وضعتَ نفسك موضع التهمة ولامك الناس فهم مُحِقُّون، فلا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك، فكم كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على سمعته؟ فعَنْ صَفِيَّةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَنَّهَـا جَـاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللـَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً, ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا, حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلـَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ, فَقَالَا: سُبْحــَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ, وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن صفية في صحيحهما]

هي القصة تنسحب على آلاف الحالات، كنتَ مع صديقك في نزهة، والمصروف مشترك، يقول أحدكما للآخر: ليس لك ولا عليّ شيء، فالحساب كان مناصفة بيني وبينك، بَيِّنْ له المدفوعات والمقبوضات كلها، لكن من دون بيان، يجري في القلب شيءٌ، فوضِّح الحساب، وإنْ تأخرتَ فَبَيِّن السبب، البيان يطرد الشيطان، في التعامل، في العلاقات الاجتماعية، في الشراكة، في الزواج، بيِّنْ ما الذي دفعك إلى هذا الموقف، فإنْ لم تبيِّن أساء الناسُ الظنَّ بك، فوقعتْ العداوة والبغضاء- .
ثم انصرف إلى بيته، ولم يقل ابنتي أشرفُ بنتٍ على الأرض، بل قال: وإنه يجير من المسلمين أدناهم، -فلم يرفعها إلى أعلى درجة، لأنها ابنته فقط، وعبارتُه تفيد أنّه عدَّها من أدنى المسلمين، وأدنى المسلمين يجير أعلاهم، انتبهوا إلى نصيحة النبي- قال: يا بنيتي، أكرمي مثوى أبي العاص، واعلمي أنك لا تحلِّين له، ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير، وأسرت الرجال وقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أخذتم ماله، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له كان ما نحب, -أيْ أنا يسرني أن تعيدوا له البضاعة والأحمال والرجال، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم به أحق، هكذا يكون الموقف الصحيح، انظُرْ إلى أسلوبِ التعليم في أحسن صوره .
أحياناً قد تطلب من شخص أنْ يبيع حاجة بلا ثمن لصاحبك، هذا تطاول، ولكن قل له: إذا راعيته أكون لك من الشاكرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام خبير بحقائق النفس البشرية، والصحابة طابت نفوسهم بهذا التواضع، وهذه الاستشارة- فقالوا جميعاً: بل نرد عليه ماله يا رسول الله))
كما تريد، وكما تحب، هنا الموقف الأخلاقي, قالوا: ((يا أبا العاص, إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله وصهره، فهل لك أن تُسْلِم، ونحن ننزل لك عن هذا المال كله، فتنعم به، وبما معك من أموال أهل مكة، وتبقى معنا في المدينة؟ -وهذا حكمٌ شرعي، إليكم بيانُه.

فالحكم الشرعي أنّ هذا الرجلَ إذا أسلم ومعه أموال الكفار، انقلبت هذه الأموالُ فجأة إلى غنائم، ونحن نسامحك في نصيبنا، خذها كلها، وانْعَمْ بها، وعش في بحبوحة-، فقال: بئسما دعوتموني إليه، أنْ أبدأ إسلامي الجديد بغدرٍ، -معاذ الله أنْ أبدا الإسلام بهذا الغدر- ومضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة .
-يا أخي هذا شيء عجيب! هؤلاء مشركون، ولديهم هذه الأخلاق والقيم، وفي أيامنا والمجتمع مسلم يبيع أباه بمئة ليرة، واللهِ حدثني ضابط بالجمارك، قال: واللهِ جاءتني تقارير مِن آباء على أولادهم، ومِن أبناء على آبائهم، شيء عجيب- .

مضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة، فلما بلغها أدَّى لكل ذي حقٍ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، وجزاك الله عنا خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: أما وإني قد وفّيتُ لكم حقوقكم، فأنا الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
-هذا إسلام في الوقت المناسب، بعدما أدى ما عليه، فالإنسان لا يستغل الدين لمصالحه الشخصية، فلو أسلم لانطبق عليه الحكم الشرعي، أسلم ومعه أموال الكفار، إذاً: هي غنائم يأخذها ، لكن يا ترى لو فعل هذا لعَدُّوا هذا غدراً، ومؤامرة، وشوَّه بذلك سمعة المسلمين بين القبائل-, ثم قال: واللهِ ما منعي من الإسلام عند محمد صلى الله عليه وسلم إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردتُ أن آكل أموالكم, ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرم وفادته ورد إليه زوجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم, يقول عنه: أبو العاص حدثني فصدقني، ووعدني فوفَّاني))
الاستنباطات التي يمكن أن نستفيدها من قصة أبي العاص :
قبل أن ينتهي الدرس هناك سؤال، ما هي الاستنباطات التي يمكن أن تفيدنا في حياتنا اليوم من هذه القصة:
1- لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له، هذا استنباط .
2- المشاورة تجعل قلوب الناس تهفو إليك، أمّا التفرد بالرأي فينفِّر الناس عنك .
3- البيان يبيِّن الملابسات، مرة حدثني أخ يسافر للمحافظات في عمله التجاري، فنسي وثيقة في المحل، تذكرها الساعة الثانية عشرة ليلاً ، فركب مركبته، وانطلق إلى محله التجاري، وكان ضمن سوق مغلق، وله حارس، رأى هذا الحارس رجلاً يأتي في منتصف الليل ليفتح محله التجاري، الذي يشاركه فيه تاجر، قال له: أيها الأخ, أنا نسيت ورقة أساسية، وجئتُ لآخذها، حتى لا يظن شيئًا، بيِّن للحارس، فإذا بينت ينتهي الأمر دون ظنون أو شكوك، فلو لم يبيِّن للحارس فقد يتّهمه شريكه، ويقع في مشاكل، فالبيان يطرد الشيطان .

4- أيضاً السيدة زينب أجارت أبا العاص، لكن النبي بيّن الحكمَ الشرعي، لم يرفض العمل الصالح، لكن نبهَّها إلى أن هذا الرجل لا يحل لك، أكرميه، لكنه لا يحل لك .
أنا أعرف أناسًا كثيرين قاربوا أن يطلقوا زوجاتهم لخصومة وقعت بينه وبين أهل زوجته، هذا عمل غير أخلاقي، القاعدة الأساسية: ولا تزر وازرة وزر أخرى، نشأت خصومة مع والدها، مع أمها، مع أخيها، من أجل هذه الخصومة تطلقها أو تسيء إليها .

5- وهذه فقرة فيها إيضاح لغوي لا بد منه, كلمة (قُمّة) صوابها (قِمّة)، القُمة هي القُمامة، والفرق كبير جداً بين القُمة وبين القِمة، فإياك أن تغلط هذه الغلطة، الأخ الكريم, يقول: إن قِمة العفو مع قِمة القوة .
6- أمّا موقفه الأخلاقي لأبا العاص، حينما ردّ الأموال عُرف أنّ المسلم إنسان صادق، وكذلك أنه رَفَض أنْ يطلق زوجته، فأحبَّه النبي، وكان موقف النبي متعاطفًا معه, فما السبب؟ لأنه وقف موقفًا أخلاقيًّا يُسجَّل له، لا عليه .
أنت قد تتعامل مع ناس ليس فيهم دين فكُنْ ذكيًّا، إذا وقفت موقفًا أخلاقيًّا منهم، هو لا يصلي، هو لا يصوم، وربما يشرب الخمر، لكنّه يبقى إنسانًا، فإذا أخذت موقفًا أخلاقيًّا فقد تكسبه.



إليكم هذه القصص عن رجال ونساء اعتنقوا الإسلام من خلال حسن سلوك أبنائه :
حدثني أخ كان في بلد عربي، وفيه حركة هداية للإسلام، منها توبة بعض الفنانات، وقد وجدتُ في معرَض مكتبة الأسد كتيبًا عن الفنانات المحجَّبات، امرأة كانت راقصة، ثم تتوب، وتتحجب حتى الوجه، فقرأت الكتاب، لفت نظري أن واحدة سئلت, ما الذي دفعك إلى أن تتوبي؟ فقالت: أنا حينما زرت صديقاتي اللواتي سبقنني إلى التوبة، وجدت مجتمعهن مجتمعاً مثاليًّا، فيه الصدق، وفيه الحب، وفيه التناصح، وفيه السعادة، وبينما أعيش في مجتمعٍ يسوده الكذب، والطعن ، والريبة، والشقاء، وفي بالقصة مغزى عميق فمَن يكشفه لنا؟ لماذا أسلمت؟ لأنها وجدت مجتمع زميلاتِها التائباتِ أرقى بكثير من مجتمعها هي، ومغزى آخر لم أُشِرْ إليه، فلو أن هؤلاء المسلمات التائبات رفضنها وطردنها لما عرفت الحقيقة، ولمَا تمادتْ في الضلال .

فأنت كمسلم، لا تعادِ شخصًا بلا دين، ادعُ الله أن يعافيه، وخاصّة إذا لم يكن معاديًا لك ، فكنْ أخلاقيًّا أمامه، ليرى مَن هو المسلم؟ الإنسان الصادق، الأمين، الأخلاقي، المتواضع، الذكي، المتفوق بعمله، فلعل هذا يبصِّره بحقيقة الإسلام .
يقولون: إن روجي جارودي، هذا زعيم الحزب الشيوعي بفرنسا، أسلم ، فهل تصدقون أن سبب إسلامه يعود إلى أربعين سنة سابقة؟ هذا وقع أسيراً في الحرب العالمية الثانية، وجاء أمرٌ بقتله، الأمر جاء لجندي مغربي مسلم، هذا الجندي المغربي المسلم, قال له: أنا مسلم، وديني يمنعني أن أقتل الأسير، فاهرب، ما الذي أنجاه من الموت؟ الذي أنجاه من الموت المحقَّق أنّ هذا الجندي المغربي أبلغه أن الإسلام يمنعنه مِن قتل الأسير، وهذا الموقف الأخلاقي تفاعل مع هذا الإنسان أربعين عاماً، حتى حمله على أن يصبح مسلماً، وجاء إلى الشام، وله كتب كثيرة, وأنت يمكن أن تنقذَ أيَّ إنسان حولك ليس فيه دين إطلاقاً، فكنْ معه صادقًا، وفيًّا، مخلصًا، كن معه متقنًا لعلمك، فبذلك كلِّه يمكنك أنْ تُلفِت نظره .

في أثناء أداء فريضة الحج العام الماضي ذكروا لي أن حاجًّا ألمانيًّا سألوه عن سبب إسلامه, فقال: طالب سوري كان عنده في البيت، ولهذا الرجل الألماني فتاة جميلة، وليس عنده مانع أنْ تكون صديقة لهذا الطالب السوري، والأمور عندهم سهلة جداً، من غير تكلُّف، فلذلك لفت نظره أن هذا الطالب ما نظر إلى ابنته أبداً، تمنَّى أن ينظر إليها فيعنِّفه، وأخيرًا سأله: ألست من بني البشر؟ فقال: ديني يمنعني أن أنظر إليها .
المغزى الأساسي أن النبي الكريم يعرفه أنه مشرك، ويعرف أنّه جاء ليقاتله، رغم ذلك أعلمه أنني لا أنسى موقفك الأخلاقي السابق، قال: ((واللهِ ما ذممناه صهراً))
فلما وقع أسيراً أحسن إليه، فَمَلَكَه بهذا الإحسان، إن رأيتم أن تردوا له ماله فافعلوا، هذا مما أحبَّ أنْ يفعله أصحابه، المواقف الأخلاقية تفاعلت إلى أن حملته على الإسلام، الآن بالعكس، تتعامل مع مسلم فيسبِّب لك مشكلة، ويكذب عليك، ويغشك، فيبدو من خلال أفعالِه هذه أنّ الدين باطل، وأن الدين كله خلط، فأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك، أنت سفير تمثل المسلمين، فكن ملتزمًا بدينك تكنْ داعيةً للإسلام، وأنت ساكت .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الصحابة, سيرة


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فضائل الصحابة رضي الله عنهم السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 14 10-29-2017 09:38 AM
سلسة زوجات وابناء وبنات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 30 10-20-2017 01:04 PM
فضل الصحابة - أبو بكر الصديق رضي الله عنه منال نور الهدى ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 9 07-11-2013 07:48 AM
صور من حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 07-11-2013 07:43 AM


الساعة الآن 07:25 AM