سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة

رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة (السيرة النبوية الكاملة ، سيرة سيدنا محمد عليه آفضل الصلاة والسلام)

الإهداءات
منال نور الهدى : (حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ) منال نور الهدى : (اجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً) منال نور الهدى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) منال نور الهدى : (رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 07-23-2018, 03:16 PM   #21


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثانى و العشرون )

الموضوع : ادابة اذا خرج الى الناس







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الواحد والعشرين من دروس شمائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وآدابه إذا خرج من منزله وبرز للناس.
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه، الإنسان، وهو بين الناس إذا تكلَّم إما أن يرقى، وإما أن يهبط، ومن أجمل صفات الرجل أن يكون كثير الصمت، فهو في مأمن، والإنسان لا يندم على كلمة لم يتكلَّم بها، لكن يندم أشدَّ الندم على كلمة تفوَّه بها خطأ، النبي عليه الصلاة و السلام يقول:

((إياك و ما يُعتذر منه))
لا تقل كلمة تضطرُّ بعدها لتقول: سامحوني، أو: لا تؤاخذوني، وكلكم يعلم أن سيدنا معاوية قال لعمرو بن العاص، وكان من دهاة العرب، (ما بلغ من دهائك ؟ قال: واللهِ ما دخلت مدخلا إلا أحسنت الخروج منه، فقال معاوية: لستَ بداهية، أما إني واللهِ ما دخلت مدخلا أحتاج أن أخرج منه )، كلما أمعنت في الأمر، وفكَّرت فيه مليًّا اتَّخذت قرارا صحيحا، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد إنفاذ أمر تدبَّر عاقبته، فلذلك أجمل صفة للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو بين أصحابه أنه كان يخزن لسانه، أي قليل الكلام، فإذا تكلَّم كان كلامه فصلاً، كلامه حقٌّ، وكلامه خير، وكلامه في الإصلاح، كلامه في معالي الأمور، لا في سفاسفها، لذلك فكلامك جزء من عملك، هكذا فاعلمْ.
إخواننا الكرام ؛ لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه، لأن معاصي اللسان كثيرة جدًّا، وقد عدَّ الإمام الغزالي في الإحياء العشرات، بل بضع العشرات من آفات اللسان، والحقيقة أن المؤمن قلَّما يفكِّر في أن يرتكب جريمة، أو أن يشرب خمرا، أو أن يأكل حراما، أو أن يدخل مكانا يغضب اللهَ عزوجل، لكن المؤمن الآن من أين يُؤتى ؟ من أين يُحجب عن الله عزوجل ؟ من لسانه، من أين يشعر بالخجل أمام ربِّه ؟ من لسانه، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخزن لسانه، ومن كثُر كلامُه كثر خطؤه، قبل أن تقول، هل في هذا الكلام غيبة، ونميمة، وبهتان، وسخرية، وإيذاء، وجرح، وطعن، ومبالغة، وكذب، وتدليس، فالإنسان كلما حاسب نفسه حسابا عسيرا في الدنيا، كان حسابُه يوم القيامة يسيرا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لأحد أصحابه:
((فيك يا فلان، أو يا زيد خصلتان يحبهما الله و رسوله من هاتين الخصلتين أنه يكثر الصمت))
لا تتكلم إلا فيما يعنيك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ))
[رواه الترمذي]
طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب الناس، كلامك جزء من عملك، و ربما كان الكلام دركاتٍ يهوي بها الإنسان، فكان عليه الصلاة والسلام يخزن لسانه، ليس معنى هذا أن يُطرح موضوع متعلِّق بالدين مثلا، وأنت تعرف الجواب الصحيح ثم تسكت، الساكت عن الحق شيطان أخرس، بل يخزن لسانَه عما لا يعنيه، يخزنه عن الموضوعات السخيفة، مثلاً اختلفوا على سعر حاجة، خير إن شاء الله، لا ندخل في هذه، اختلفوا على رأي سياسي معيَّن، هذا شيء لا يعنيني، اختلفوا في تحديد موعد، اختلفوا على توقُّعات فلا تعنيني، أما إذا اختلفوا على معنى آية وأنتَ تعرف معناها الدقيق ينبغي ألاّ تسكت، كان عليه الصلاة والسلام يخزن لسانه - دققوا - إلا فيما يعنيه، يعنيه الدعوة إلى الله، يعنيه أن يظهر الحقُّ، يعنيه أن يُرسَّخ الحق في نفوس الناس يعنيه أن تشيع الفضيلة، هذا شيء يعنيه، يعنيه أن يعرِّف الناسَ بالله عزوجل، يعنيه أن يعرِّفهم بأمره، يعنيه أن يعرِّفهم بالآخرة، هذا كلُّه يعنيه، لذلك فالمؤمن يحيِّر، بينما تراه طليق اللسان في الحق، إذْ بك تراه كثير السكوت عن الباطل، موضوع لا يعنيه، لا يخوض مع الناس فيما يخوضون، الناس تستهويهم موضوعات لا ترضي الله عزوجل، فأول صفة من صفاته عليه الصلاة و السلام وهو بين أصحابه، كان يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، سبحان الله ! الإنسان البعيد عن الله عزوجل، المقطوع الذي لا ينطوي قلبُه على كمال ويحبُّ التفرقة، ويميل إلى الإيقاع بين الناس، إن زار أخته يكرِّهها في زوجها، وإن زار شخصا يكرِّهه في شريكه، وإن سأل صانعا ماذا يعطيك معلِّمك ؟ لا يكفي هذا، لا تقبل منه ؟ كرَّهه في عمله، ودائما يسعى ليفرِّق، يكرِّه الناس فيما عندهم دائما، ينتقد بيتا صغيرا، وينتقد دخلا قليلا، وينتقد زوجا ضيِّق الحال، أما المؤمن فسبحان الله بالعكس، يذكر النواحي الإيجابية في الناس، إن زار أخته، ووجد وضعها المادي سيِّئًا يذكِّرها بأخلاق زوجها، وبمكانته، وبعلمه، وباستقامته، وبعفَّته، وإن زار رجلا له محلٌّ تجاري، وله شريك، يذكِّره بفضائل شريكه، وببركة الشركة، وإذا زار بيتا وجده صغيرا، يقول لصاحبه: النبي كان بيتُه لا يتَّسع لصلاته، ونوم السيدة عائشة في وقت واحد، وهو سيِّد الخلق، فينجبر خاطرُه، فمهما استطعت ألِّف، وفِّق، اجمعْ، عمِّق المودة، ولا تنفِّر الناس، لا تبعدهم عن بعضهم، لا تفرِّق بين أمٍّ وولدها، ولا بين أخ وأخيه، ولا بين شريك وشريكه، كان عليه الصلاة والسلام يؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، يؤلِّف بينهم، ويؤلِّفهم معه، أنت بيدك أن تجمع النَّاس حولك، بالكمال تجمعهم حولك، وبالنقص تنفِّرهم منك، ودائما قالوا: الأقوياء يملكون من الناس الرقابَ، بينما الأنبياء يملكون من الناس القلوب، فإذا شئت أن تملك القلوب فكن كاملا، ولا حاجة للتنويه بكمالك، ولا حاجة للتذكير بكمالك، لأن الفطرة العالية تألف الكمال، وتكره النقص، مهما أوَّلته يبقَ نقصا، والكمال لا يحتاج إلى أن تشير إليه، فهو صارخ، فإذا أردت أن تؤلَّف قلوب الناس، وأن ترسِّخ ثقتهم بالدين فكنْ كاملا، إن هذا الدين قد ارتضيتُه لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء، وحسنُ الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه، و كان عليه الصلاة و السلام يؤلِّف الناس حوله، لأنه هو على الحق، إذا ألَّف الناسَ حوله أوصلهم إلى الله عزوجل، لذلك فالإنسان إذا دعا إلى الله لا بدَّ أن يعُدَّ للمليون قبل أن يقول أو يفعل ما يؤدِّي للخطأ مع الناس، لأنه إذا أخطأ معهم نفَّرهم عن الحق وعن الدين، وقلَّما تجد من الناس من يفرَِّق بين الدين وبين أهله، وعامة الناس الخطُّ العريض عندهم أنّ الأمور عندهم متداخلة، فإذا أساء إليهم رجلٌ له صبغة دينية يبتعدون عن أصل الدين، لكن الإنسان الواعي جدًّا لا يتأثَّر بأخطاء من ينتمي إلى الدين، الدين عنده في العلياء، وفي السماء، رجل مبادئ، لا رجل أشخاص، ولكن هؤلاء قلَّة، لكن الكثرة يتأثَّرون بسلوك من عليه مسحةٌ دينية، لذلك أنت على ثُغرة من ثغر الإسلام، فلا يُؤتينَّ هذا من قِبَلِك، فكان عليه الصلاة والسلام يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، الكلمة الطيِّبة صدقة، الاعتذار صدقة، أي ليقتدِ الإنسانُ بمقام النبي اللهم صلِّ عليه، سيد الخلق يقول لعمر: يا أُخيَّ لا تنسنا من دعائك، فهل مكانة النبي انتقصت بهذا الكلام ؟ معاذ الله، سيد الخلق لما قال له، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ: ((يَا أَخِي لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِكَ وَقَالَ بَعْدُ فِي الْمَدِينَةِ يَا أَخِي أَشْرِكْنَا فِي دُعَائِكَ فَقَالَ عُمَرُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لِقَوْلِهِ يَا أَخِي))
[رواه الترمذي]
فمثلاً شخصٌ خدمك خدمة، أو تقرَّب منك بهدية، تقرَّب منك بكلمة طيَّبة ؛ زارك وسأل عنك فلابدَّ أن تشكره من أعماقك، من أجل أن ترسِّخ المعروف وترسِّخ الإحسان، فكان عليه الصلاة والسلام يؤلِّفهم ولا ينفِّرهم، ويكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، أحيانا أنت تكون في منصب قيادي ؛ كأنْ تكون مدير مستشفى، أو مدير مدرسة، أو مدير معمل، وتحتاج إلى أعوان لك، فإياك أن تقرِّب المنافقين، وإياك أن تقرِّب الذين يتقرَّبون إليك بالوشاية والإخبار، قرِّب المخلصين، وقرِّب الأتقياء، وقرِّب الكُمَّل، لذلك كان يكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، كان عليه الصلاة والسلام يعرف أقدارَ الناس، وينزل الناس منازلهم، أنت لا تستطيع أن تستوعب الناس إلا إذا عرفت فضائلهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف لكلِّ صحابي جليل مكانته، وعرف إمكاناته، وعرف نوع عظمته، نوع بطولته، وأثنى عليه الثناء الطيِّب، أي قيادة الرجال قضية معقَّدة تحتاج إلى رجل يستوعب كلَّ فضائل الرجال، فهذا تفوَّق في شيء إذا تجاهلته نفَّرته، وإذا عرَّفته أنك تعرف ما عنده من الإمكانات، وإذا استشرته أحيانا، وإذا أثنيت عليه ثناء معتدلا واقعيا تملك قلبه، فيمكن للإنسان أنْ يتعامل مع الناس كما يتعامل أصحابُ الحِرف مع المواد ؛ النجار مع الخشب، والحدَّاد مع الحديد، لكن إذا أردت أن تتعامل مع الرجال ينبغي أن تستوعبهم جميعا، وأن تعفوَ عنهم، وأن تسامحهم، وأن تتجاوز عن أخطائهم من أجل أن تؤلِّفهم، وتقرِّبهم، فكان عليه الصلاة و السلام يكرِّم كريم كل قوم، مرة زاره عديُّ بن حاتم وكان ملكا، فأخذه إلى البيت، وأكرمه، وقدَّم له وسادة من أدم محشوة ليفا، قال:"اجلِس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها و جلس هو - يعني النبي - على الأرض "، رأى زيد الخير، فقال له: ((يا زيد للهِ درُّك أيُّ رجل أنت ؟! ما وُصِف لي رجلٌ فرأيته إلا رأيته دون ما وُصِف إلا أنت يا زيد))
عرف قيمته، يكرِّم كريم كل قوم و يولِّيه عليهم، أيْ إذا أردت أن تجرح الإنسانَ، وأن تحطِّمه، وأن تهينه وَلِّ عليه من هو دونه، علما وخلقا، فذاك شيء لا يُحتمَل، سئل سيدنا عليٍّ كرَّم الله وجهه:( ما الذُّلُّ ؟ قال: أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه )، إذا ولَّيت على أناس كرماء لئيما فقد حطَّمتهم، فقد ذبحتهم من الوريد إلى الوريد، يجب أن تولِّيَ على كل قوم أكرمهم، وأعدلهم، وأرحمهم، لذلك عندما الصحابة الكرام تخوَّفوا من سيدنا عمر حين ولاَّه سيدُنا الصِّديق، فسيدنا الصّديق قال:(أتخوِّفونني بالله، أقول لله عزوجل يوم القيامة: يا ربي ولَّيتُ عليهم أرحمهم)، ولَّيتُ عليهم أرحَمَهُم، أنت أحيانا على مستوى معلِّم صف لو عيَّنت عرِّيفا، أنتقي مثلا بسيطا، فعن هذا العريف يُحاسب المعلم يوم القيامة، كيف ولَّيته، وفي الصف من هو خير منه ؟ من ولَّى رجلا على عشرة، وفيهم من هو خير منه فقد خان اللهَ ورسوله، كان يولِّي كريم كل قوم، فلا بدَّ أن تولَّي الكريم النزيه النظيف المنصف العادل الرحيم، أحيانا أنت تجد هذا الأمر بيد فلان فترتاح نفسك، إنه ابن أصل، منصف نظيف، ويده نظيفة، وعفيف، حقًّا تشعر براحة ما بعدها راحة عندما تولِّي الإنسان الكفء تولى منصبا معيَّنا، لذلك:
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)﴾
[سورة القصص]
القوي الأمين، والقوة تعني الكفاءة، والأمانة تعني الإخلاص، كان قويًّا في اختصاصه، أمينا على قيمه، هناك إدارات للعمل أنا أعترض عليها اعتراضا شديدا، أحيانا مدير عام شركة يتلقى كلَّ معلوماته من أحد الموظَّفين، وقد يكون أحد هؤلاء ليس في المستوى المطلوب، فينقل المعلومات التي يريد، هؤلاء الذين يملي عليهم من هو دونهم، وبدأ ينقل المعلومات غير الصحيحة لمن هو أعلى منه، ماذا فعل هذا بهؤلاء؟ بالغ في الإساءة إليهم، لذلك يقول سيدنا عمر:(و لا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويُّهم ضعيفَهم).
كان عليه الصلاة والسلام، وهو مع الناس يحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطويَ عن أحد منهم بِشْره، وخلقه، إنسان لا تعرفه، يجب أن تأخذ الحيطة منه، المؤمن كما قال النبي:
((كيِّس فطن حذر))
قال لي شخص: إنه قد أشار له شاب في الطريق فأركبه معه في سيارته، ثم تبيَن أنه قاتل، وبقي في السجن خمس سنوات أو ستًا، الذي أركبه اعتُبر متواطئا معه، وسارت التحقيقات وعلى المدى الطويل، فأحيانا الإنسان يكون الشخص يحمل مخدِّرات، وأحيانا يكون الشخص يحمل مواد ممنوعة، فلا تكن ساذجا، سيدنا عمر علَّمنا فقال:( لست بالخِب ولا الخب يخدعني )، لا من السذاجة حيث أُخدَع، ولا من الخبث حيث أَخدع، فكان يحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بِشْرَه وخلقه، هناك ابتسامة، وهناك مودَّة وهناك علاقة طيَّبة، لكن هناك ذكاء، هناك حيطة، وهناك حذر، نسمع أحيانا من إخواننا قصصا ليس من المعقول أن تقع، مثلاً مبلغ ضخم سلَّمه إياه من دون وصل، ثم تبيَّن أنه نصَّاب، دفع مبلغ استثمار لجهة غير موثوقة فذهب المبلغُ، المؤمن طيَّب لكن ليس ساذجا، المؤمن عنده حسن ظنٍّ بالناس، لكنه ليس أبله، فنحن في زمن يقال: إنّ المؤمن ذاك الإنسان الدرويش، وكلمة درويش لها معنى أعمق، أي أجدب، فلان درويش، لا ليس درويشا، في أعلى درجات اليقظة والحيطة و الذكاء، المؤمن كيِّس فطن حذر، فالإنسان قبل أن يوقِّع، وقبل أن يقبض، وقبل أن يسلِّم نفسه لإنسان، هذا الذي أوكلتَ إليه مصيرك هل تعرفه ؟ سيدنا عمر علَّمنا، قال له:(ائتني بمن يعرفك، فهذا الذي طُلب منه جاء برجل، قال له: أتعرفه ؟ قال: نعم، قال له: هل سافرت معه ؟ قال: لا، قال: هل جاورته ؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدرهم و الدينار، قال: لا، قال: إذًا أنت لا تعرفه، لعلك رأيته يصلي في المسجد، قال: نعم، قال: أنت إذًا لا تعرفه، هل جاورته لا، هل سافرت معه ؟ لا، هل حاككته بالدرهم و الدينار ؟ لا، قال له: أنت إذًا لا تعرفه، قال له: يا هذا إني لا أعرفك ) هذا الشاهد غير كافٍ، لكن من شدة أدبه رضي الله عنه، قال له:(ولا يضرُّك أني لا أعرفك)، قد تكون أحسن مني، إني لا أعرفك، ولا يضرُّك أني لا أعرفك، انظر إلى قصر العدل، يقال لك: خمسة آلاف دعوى، أسبابها كلها تَصَرُّفٌ في سذاجة، سلَّم بلا تيقُّن، أعطى بلا إيصال، أسّس شركة بال عقد، إذا لم يكن هناك عقد، ولا إيصال يدخل الشيطان، ليس معه وثيقة ضدك، أنت عندك أولاد وهو غنيٌّ، يدخل الشيطان، فأنا أتمنى على إخواننا الكرام، وثِّق كلَّ شيء، وثِّق كلَّ شيء ترتَحْ، ونم على ريش نعام كما يقول بعضُ الناس، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بِشْره وخلقه، وجهه بشوش، علاقاته طيِّبة عليه الصلاة والسلام، لكن إذا لم يعرف الإنسان يسأل، ويدقِّق، واللهِ إني لأسمع عن حالات زواج شيئا لا يُصدَّق، ببساطة وافقوا على الزواج، وتبيَّن أنه شارب خمر، وببساطة وافقوا، وتبيَّن أنه نصَّاب، وتبيَّن أنه كذَّاب، إنّ الزواج رقٌّ فلينظر أحدُكم أين يضع كريمته، والحقيقة أنّ الناس لا يحترمون المغفَّل أبدا، أنت لا تكن مغفَّلا، ولا تكن طيِّبا لدرجة السذاجة، ولا تكن غير مدقِّق فيما يقوله الناسُ، من صفاته مع أصحابه كان يتفقَّد أصحابَه.
أيها الإخوة الأكارم ؛ يقول عليه الصلاة و السلام:
((إن الله يسأل العبدَ عن صحبة ساعة))
أليس لك أصدقاء في أثناء الدراسة ؟ أليس لك أصدقاء في الخدمة الإلزامية ؟ أليس لك أصدقاء في العمل التجاري ؟ أليس لك أصدقاء في الوظيفة ؟ هل تفقَّدتهم وسألت عنهم، لا تريد عملا ترقى به عند الله عزوجل، هكذا النبيُّ علَّمنا، كان يتفقَّد أصحابه، سيدنا عمر بلغه أن أحد أصدقائه صار في الشام، وعاقر الخمر، وانتكس على رأسه، فأرسل له كتابا صدَّره بقوله تعالى:
﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾
[سورة غافر]
و نصحه نصيحة طيِّبة، فهذا الرجل قرأ الكتاب وصار يبكي، أعاده مرة، ومرتين، وثلاثا، وأربع مرات، إلى أن أقلع عن شرب الخمر، وبلغ سيدَنا عمر النتيجةُ الطيِّبة لهذا الكتاب، فقال سيدنا عمر:(هكذا اصنعوا مع أخيكم إذا ضلَّ، لا تكونوا عونا للشيطان عليه، بل كونوا له عونا على الشيطان ) إذا شرد أخ، وانتكس، وترك الصلاة، وانغمس في المعاصي فلا تحاربه، تألَّف قلبَه، وزره، وأحسن له، وقدِّم له هديةً، فإنك بهذا العمل تستجلبه، وكان عليه الصلاة والسلام يتفقَّد أصحابَه، وأخ كريم قال لي كلمة أعجبتني، قال: أنا أفضِّل أن أزرع عشر غرسات، وأعتني بها عناية فائقة حتى تكبر، وتثمر خيرٌ لي من أن أزرع ألف غرسة من دون عناية، كلها تيبس بعد ذلك، هذا هو الفرق بين التربية والتعليم، لا تهتم بإلقاء الدرس وتذهب، هذا الأخ الذي أمامك له مشكلة، وله قضية، فهل سألت عنه ؟ وعن أحواله ؟ هل تابعت أموره، وتفقَّدت أحواله ؟ فالمتابعة تعني المودَّة، والنبي كان يتفقَّد أصحابه، فتفقَّدوا بعضكم، وأكثر شيء أنا ألحُّ عليه أن كل أخٍ من إخواننا يتولَّى أخا واحدا فقط، واحدا، واللهِ واحد ليس بالقضية الصعبة، أتيت إلى درس الجمعة، ولم يأتِ، معناه أنه مريض لا سمح الله، معناه أن عنده مشكلة، اتِّصل به، هذا الإنسان توفي أحدُ أقربائه بلِّغونا حتى نعزِّيَه، يجده شيئا حلوا، وذاك مريض نزوره، وآخر بحاجة إلى حلِّ مشكلة لعلها تُحلُّ عن طريق أحد الإخوان، فأنا أتمنى عليكم واحدا وَاحدا أنْ يتآخى مع أخ واحد، وهذا هو الحدُّ الأدنى، اثنين أحسن، والثلاثة أحسن، الخمسة أحسن والعشرة أحسن، و لكن الحد الأدنى واحد، إنّ الناس كلهم يتعاملون معك في هذه الدنيا، بيع و شراء، أما إذا طرق إنسان بابك ليس له شيء عندك، غير أنه أحبَّك في الله، وتفقَّدك لله، وسأل عنك لله، واطمأن عن صحَّتك لله، فلتشعر أن هذا الإنسان متميِّز، وقلبك مُفعم بالمحبَّة له، فإذا سلك إنسان طريق الإيمان فنحن بحاجة إلى أن نُقلِّد النبيَّ العدنان، قلِّده في تفقٌّد إخوانه، قلِّده في زيارته والسؤال عنهم، وفي عيادة مريضهم، في مساعدة محتاجهم، و في رعاية ضائعهم، قلِّده، فأول نقطة، يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، يؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، يكرِّم كريم كل قوم و يوليه عليهم، و يحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي بِشْرَه عن أحد، يتفقَّد أصحابه، هذه أخلاقه الاجتماعية، ولا يوجد أحد منكم على الإطلاق إلاّ وله مجتمع يجتمع إليهم، لك زوجة، ولك أولاد، ولك أصدقاء، ولك جيران، لك أولاد عم، ولك أصهار، ولك بنات، ولك أولاد، لك أعمام ولك أخوال، ولك زملاء في العمل، فلا أحدَ مقطوع من شجرة، ولا أحد ليس له مجتمع حوله، هذا المجتمع الذي حولك يمكن أن تصل من خلاله إلى الله، و يمكن تحتلَّ من خلاله أعلى مراتب الجنة، تفقَّدهم واخدُمهم و انصحهم، وزُرهم وأعِنهم، مجتمع المؤمنين مجتمع التعاون، تجد كل الإخوة يسارعون لمعونة المضطر، كل أخ مؤمن كل طاقاته لإخوانه، نحن شعارنا إن صحَّ التعبيرُ " كلُّنا للفرد، والفرد كلُّه للمجتمع "، ومن صفته الاجتماعية الراقية أنه كان عليه الصلاة والسلام يسأل الناس عما يعاني منه الناس، ليس يعيش في برج عاجي، وليس يعيش في أحلام، وليس يعيش في اهتمامات بعيدة عن واقع الناس، كان يعنيه ما يعني الناسَ، أحوال الناس، يعانون من قضية، فتراه قد سأل عنها، وتفقَّد إخوانه، وحاول معالجة مشاكلهم، هناك أشخاص عندهم روح فردية، فهو يملك بيتًا، وهو متزوِّج، ودخله يكفيه، عنده شركة رابحة، فلم يعد يهمُّه حتى أمر الأولاد، تزوجوا أو لم يتزوجوا، لهم أعمال أوْ لا، شعاره: لا توجع رأسك، هذا إنسان فردي، هذا إنسان لا يحبُّه اللهُ عزوجل، لأنه من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، عندك اهتمامات مقدَّسة خاصة بك، واهتمامات ليس لك أجر عليها، بدافع حبِّك لذاتك، فالإنسان لا يرقى عند الله إلا باهتماماته الجماعية، يهمُّك أمرُ إخوانك، يهمُّك أمرُ هدايتهم، يهمُّك أمر زواجهم و أمر عملهم، أمر دينهم فالنبي الكريم كان يسأل الناس عما في الناس، زارك أخٌ من محافظة بعيدة، كيف الأمطار عندكم ؟ وكيف أحوالكم ؟ كيف أعمالكم ؟ والحق أقول: إني أحاول أن أقلِّد النبيَّ الكريم، أسأل الأخ عن زوجته، كيف الأهل بخير ؟ الأولاد أهم بخير ؟ العمل جيِّد، وليس فيه متاعب أولادك ما أخبارهم، أعمارهم، أسماؤهم، أين وصلوا في الدراسة ؟ هذا الشيء ينمِّي المودَّة، فالنبيُّ الكريم كان عليه الصلاة والسلام يسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسنَ ويقوِّيه، أحيانا الإنسان لا ينتبه لنفسه، يسمع قصةُ فيها مخالفة للشرع، يقول لصاحبها: هكذا عملت، فأثنى على صاحبه، أنت ماذا فعلت ؟ تكلمت كلاما فيه معصية كبيرة، أنت الآن قوَّيت القبيح، و قويت المعصية، أثنيت على صاحبها، لو كان العمل في ظاهره فيه بطولة، ولكنه في أساسه مخالفة للشرع، فلا ينبغي أن تمدحه، ورد في الحديث: ((إن الله ليغضب إذا مُدح الفاسق))
أجل، يغضب، وإذا مدحت الفاسق رسَّختَ الرذيلة، رسَّخت المعصية، ينبغي أن تحسِّن الحسن وتقوِّيه، وأن تقبَّح القبيح، وأن تضعفه، وأن توهِّنه، وجدت عملا طيِّبا أثنِ على صاحبه، هذا شاب يصلي في المسجد، قل له: تقبَّل الله، قال لي أخ إنّ شابًا دخل المسجد شاب، وسُرِق حذاؤُه، هو حالته - القائل - المادية جيِّدة، قال لي: مباشرة - وكنا سوق الحميدية - اشتريتُ له حذاءً، يقول هذا الشاب الذي سُرق حذاؤه: ما تركت الصلاة طيلة حياتي، تأثُّرا بهذا الموقف، فإنسان عمل عملا طيِّبا فشجِّعْه، قوِّ له همَّته، وإنسان عمل عملا سيِّئا فلا تسكت، انصحه، واذكرْ له أنك خالفتَ الشرع، وما دام هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فاللهُ يحبُّنا جميعا، أما إذا عُطِّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمقتنا اللهُ جميعا، ولو كنا صالحين، واللهُ أمر بإهلاك بلدة، فقيل: يا رب إن فيها صالحا، فورد في الحديث أْن به فابدؤوا، قالت الملائكة: لِم يا رب ؟ قال: لأن وجهه لم يتمعَّر حين رأى منكرا، وانتهى الأمر، لذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة سادسة، قال تعالى:
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾
[سورة الأنفال]
وقال الله عزوجل:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
[سورة هود]
إذا كانوا مصلحين لا يهلكون، أما إذا كانوا صالحين يهلكون، والفرق واضح بين المصلح والصالح، الصالح لذاته ولنفسه، أما المصلح لغيره، يحسِّن الحسن و يقوِّيه، ويقبِّح القبيح و يوهِّيه، وبعض الآباء أيضا إذا كذب ابنُه سكت، فهذه واللهِ مشكلة، وإذا ترك الابن الصلاة، أو ترك فرض صلاة، ولم يحتجّ الأب، أو يعترض فالأمر خطير، و إذا عمل الابن عملا طيِّبا وسكت الأب، ولم يعبأ به، فقد ضعَّفه، وهذه النقطة ما أدقَّها ! كلما وجدتَ عملا طيِّبا فعليك أن تثنيَ على صاحبه، وأن تقوَِّيه، وأن تبرزه، وأن تدعمه، وكلما وجدت عملا سيِّئا فعليك أن تحقِّر صاحبه، وتقبِّحه، وتوهِّنه، وأن تحذِّر الناس منه.
كان عليه الصلاة والسلام وهو مع أصحابه معتدل الأمر، فلا مبالغات، ولا تطرُّف، ولا غلو، ولا إفراط أو تفريط، الإفراط المبالغة، والتفريط التقصير، أصوب موقف الاعتدال، معتدل الأمر غير مختلف، فليس هناك تناقض، الإنسان أحيانا يتناقض، سمعت قصة مفادها أنّ شابًا اشترى لزوجته غسَّالة من النوع الحديث، فقالت له أمُّه موبِّخة: لماذا ؟ من أجل أن تبقى نائمة إلى الظهر، وعنَّفته أشدَّ التعنيف، لكنه من غرائب الصُّدف أن صهرها اشترى لابنتها الغسَّالة نفسها، فقالت: الله يرضى عليه، ويوفِّقه، فهل هناك أقبح من التناقض ؟ خاصة في التعامل مع الأبناء والبنات، انظر إلى الأب أحيانا، تكون له بنت، وكلمته عنها رقيقة مع مدح لها، وعطف عليها، دائما معذورة، في تعب، مسكينة لا ترتاح، و إذا قصَّرت زوجة ابنه يوما فيقول: كسلانة، ليس لها همَّة ونشاط، وليس فيها ذوق، لا تتناقض أيها الرجل، فالتناقض بشِع، مرة كنتُ في محلٍّ تجاري، وفي المحل في أثناء العطلة النصفية، ابن صاحب المحل وصانع في سنه، واللهِ حمل الصانعُ ثوبين أو ثلاثة، قال له صاحب المحل: احمِل المزيد، فأنت الآن شاب قوي، وأمسك ابنه ثوبا، "احذر بابا ظهرك"، يا لطيف، احتقرته احتقارا شديدا، هذا ضد الناس، هذا تحمِّله ثوبين، وثلاثة، وخمسة، وعشرة حتى لا يتحمَّل، قال لك: لا أستطيع أن أحمل، فقلتَ: لا بأس فأنت شاب، أما ابنه حمل ثوبا واحدا فأنت تخاف على ظهره، الإنسان لو سار في الطريق عاريًا بلا ثياب واللهِ أشرف من أن يتناقض، إياك أن تتناقض، النبيُّ الكريم معتدل الأمر غير مختلف، ودائما وأبدا عندنا مقياس لا يخطئ، لا يخطئ أبدا، عامل الناسَ كما تحبُّ أن يعاملوك، ضع نفسك مكان هذا الإنسان، أنت موظَّف وراء الطاولة، جاءك مراجع، ضع نفسك مكانه، هناك حديث لطيف، هناك فنجان قهوة ساخن، والجريدة أمامك، والذي يراجعك ملهوف، تقول له: تعال غدا، من أين أتى هذا ؟ كم من حافلة ركب حتى وصل إليك ؟ قد يكون جاء من حمص، يعني يذهب لينام في الفندق، وسيتكلف ادفع حوالي ثمانمائة ليرة أو ألفًا، وتقول له: تعال غدا، والقضية تكلَّفك عشر دقائق، عامل الناس كما تحبُّ أن يعاملوك، إنه معتدل الأمر غير مختلف.
إخواننا الكرام، المؤمن ينصف الناسَ من نفسه، لو كان قويًّا، و لو كانت كلمته هي العليا، لو لم يجرأ أحدٌ أن يحاسبه فليحاسبْ نفسه، يعتذر، يقول: سامحوني، أنا غلطت، أما أنْ يكون دائما هو على الحق، والناس على باطل، فهذا الموقف غير منصف، فكان عليه الصلاة و السلام معتدل الأمر غير مختلف، أي لا تناقضَ في حياته، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
((أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))
[رواه البخاري]
لكل حال عنده عتاد، العتاد أيْ الأدوات، أي عليه الصلاة والسلام يخطِّط، هناك حال، وقد يُفاجأ بحال، يهيِّئ ما يغطِّي هذا الحال، الإنسان الساذج السائب هو الذي تواجهه الأحداث، فأفعاله كلُّها ردود فعل، كلُّ شيء متوقَّع يهيِّئ له حلاًّ، والفكر العلمي لو أنه ما وافقه ماذا أفعل ؟ لو سافرت ماذا أفعل ؟ لو قُبلت في هذا العمل ماذا أفعل ؟ دائما يفكِّر في المستقبل، أساسا الأذكياء يعيشون المستقبل سلفا، والأقلُّ ذكاء يعيشون الحاضر، والأغبياء يعيشون الماضي، قال:
ألهى بني تغلبٍ عن كلِّ مكرمةٍ قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
***

التغنِّي بالماضي، دون أن يكون الحاضر امتدادًا للماضي، فهذا غباء من الإنسان، و الاهتمام بالحاضر ثم يُفاجأ بالمستقبل بأشياء غير متوقَّعة فهذا أيضًا غباء من الإنسان، لا بدَّ من أن تعِدَّ لكلِّ شيء عدَّته، لذلك فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ))
[رواه أحمد]
لا أعتقد أن هناك مثلاً أوضح من هذا المثل: ((إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ))
رغم أنّ الدنيا فليغرسها، هيِّئ لأولادك من بعدك، سيدنا زكريا ماذا قال:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5)﴾
[سورة مريم]
ليس المهم أنه دعا إلى الله، والناس التفُّوا حوله، لا، لكن فكَّر بمستقبل الدعوة، وفكَّر بمن يحلُّ محلَّه، هناك كثير من الأشخاص عظماء، لا يفكِّرون أبدا فيمن يحلُّ محلَّهم، هيِّئ ناسا يتابعون العمل، لكل حال عنده عتاد، لا يقصِّر عن الحق لا، ولا يجاوزه، هناك أشخاص إذا أقبلوا كان إقبالهم غير معقول، وإذا أدبروا كان إدبارهم غير معقول، إذا أحبُّوا إنسانا يزوِّجونه ابنتهم، فهذا الإنسان بحديثهم ليس إنسانا عاديًا، إنه فوق التصوُّر خلقا وعلما، وفهما وغنى، فإذا وقع هناك خلاف يتّهمونه بأنه مصاب بأمراض وأنه لئيم...إلخ، فهذا عدم الاعتدال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أُرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ: ((أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا))
[رواه الترمذي]
الذين يلونه من الناس خيارهم، لا تقرِّب أراذل الناس منك، قرِّب الأكارم، أنت مؤمن ولك سمعة ولك مكانة، اترُك من حولك قريبين منك، لا تصاحب الأراذل، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمُّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً ومؤازرة، والأقوياء أحيانا يقرِّبون أناسًا غير جيِّدين، فالناس يتعاملون مع القمم من أعوانهم، الأعوان إذا لم يكونوا على المستوى الراقي يسيؤون أشدَّ الإساءة لمن فوقهم، فأنت لا تقرِّب إلا الإنسان الكامل، لا يكن حولك إلا إنسانا كاملا، لأنك تُعرف به، كلُّكم يعلم أن صحبة الأراذل تجرح العدالة، أنت إنسان مستقيم ومالك حلال، وعفيف، وملتزم، يكفي أن تصحب رذيلا حتى تُجرح عدالتُك كيف انسجمتَ معه، كيف سِرت معه، كيف سافرت معه، لهذا قال العلماء: صحبة الأراذل تجرح العدالة، لذلك فالذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمُّهم نصيحة، والإنسان إذا كان في موقع قيادي لا يلغي المعارضة، لو ألغاها ينافق له، أصغِ إلى النصيحة، وأصغِ إلى كلمة الحق تَرْقَ، أما إذا رددتَ كلَّ نصيحة فلن ترقى، بل تهلك، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، هذه أخلاق النبيِّ عليه الصلاة والسلام وهو بين أصحابه
من باب التذكير أكرِّر يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، يؤلِّف أصحابَه ولا ينفِّرهم، يكرِّم كريمَ كلِّ قوم ويولِّيه عليهم، يحذر الناسَ ويحترس منهم، من غير أن يطوي بِشرَه عن أحد، يتفقَّد أصحابه، يسأل الناسَ عما في الناس، يعنيه أمرُ الناس، يحسِّن الحسنَ ويقوِّيه، ويقبِّح القبيحَ ويوهِّنه، معتدل الأمر غير مختلف، ليس لديه تناقض، معتدل، لا إفراط ولا تفريط، لكلِّ حال عنده عتاد، يهيِّئ للمستقبل، يخطِّط، لا يقصِّر عن حقٍِّ و لا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارُهم، أفضلهم عنده أعمُّهم نصيحةً، أعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً و مؤازرة.
هذه بعض شمائل النبيِّ صلى الله عليه و سلم، وهو بين أصحابه، وله كذلك شمائل وهو في بيته، وننتقل في درس قادم إن شاء الله تعالى إلى آدابه صلى الله عليه وسلم في مجالسه مع أصحابه.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:19 PM   #22


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثالث و العشرون )

الموضوع : مشاورتة لاصحابة







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والعشرين من دروس: "شمائل النبي صلى الله عليه وسلم"، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى: "مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه"، وهذا الدرس أيها الأخوة من أدق الدروس التي يتصل موضوعها بحياتنا اليومية، قال تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]

فالله سبحانه يأمر النبي أن يشاور أصحابه، مَن هو النبي؟ سيد الخلق، وحبيب الحق، أوتي الفطنة، سيد ولد آدم، يوحى إليه، معصوم، ومع كل هذه الخصائص، ومع كل هذه الميزات، ومع عصمته، ومع رجاحة عقله، ومع أن الوحي يُصَبُّ على صدره، ومع كل ذلك أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، قال:
﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
فما الذي يعنينا مِن هذا؟ ما الحكمة التي وراء المشاورة؟ في كلام الله عز وجل حِكَمُهُ التي لا تعدُّ ولا تحصى، لماذا أمر الله النبي أن يشاور أصحابه؟ قال: أولاً لأن في مشاورة أصحابه تطييباً لنفوسهم، أي أنك حينما تأمر، وعلى الطرف الآخر أن ينفذ، يشعر أنه أداةٌ بيدك، أما حينما تشاوره فتُشْعِرُه أنه شريكك، وهذا من الأساليب التربوية، كان عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه في الغزوات، معنى ذلك أن الصحابة الكرام حينما يشيرون عليه أن يخرج للقاء العدو، ويخرجون معه، لا يشعرون أنهم أدوات، هم شركاء.

المشاورة من شأنها أن تطيِّب نفوس الذين تشاورهم، فأنت ترى أن الحكمة أن تفعل كذا في بيتك، لو سألت زوجتك: ما قولك يا فلانة في هذا الأمر؟ فإذا قالت: والله نِعْمَ الرأي، وبدأت تفعله لا تشعر أنها مأمورة بل هي شريكة، ما قولك يا فلان أن نفعل كذا؟ فإذا أجابك إلى رأيك وفَعَلَه يفعله عن طيب نفسٍ، فأول حكمةٍ من حكم مشاورته صلى الله عليه وسلم أن يطيِّب نفوس أصحابه.


الحكمة من المشاورة :
الله عز وجل حينما أمر عباده أمرهم وبيَّن لهم حكمة أمره، وأيضاً حينما يأمر الخالق أمراً، يأمر عباده أمراً ويبيِّن لهم حكمته، فإنه يُطيِّب قلوبهم بهذا الأمر، هذه واحدة، والشيء الذي يقولـه النبي عليه الصلاة والسلام هو ذاته الذي قاله تعالى، قال مرةً لأبي بكرٍ وعمر:
((لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا))
[ أحمد عن أبي بكر وعمر ]

ما معنى هذا الكلام؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يسأل أصحابه- أصحاب الرأي الراجح، أصحاب العقل السديد- يقول: أنا لو استشرت أبا بكرٍ وعمر لا أخالفهما، وهذا دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أصحاباً ليشاورهم من أصحاب العقول الناضجة، وهو بهذا يُعَزِّزُ رأيه برأيهم، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ:
((مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ))
[أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
طبعاً أنت رأيت هذا الرأي، وهو على صواب لا شك، لو سألت إنسانًا آخر وأشار عليك بالرأي نفسه، فأنت بهذا تتقوى على هذا الرأي، أنت رأيت، والحق معك، والحُجَّة قوية، أما إذا جاءك صديق، واستشرته، وأشار عليك بما أنت صانع تشعر بالأُنس، تشعر أن رأيك سديد، هذا اسمه التقوِّي، ولو كنت على حق، ولو أصبت في رأيك، حينما تسأل من حولك، وتستشيرهم، ويدلون لك بالرأي نفسه، هذا مما يقوِّي رأيك.
إذاً أول حكمة من حكم المشاورة تطييب نفوس أصحابه، والحكمة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم يَتَقَوَّى برأيهم. على الإنسان أن يكون مع جمهور العلماء وجمهور المسلمين :

أخ يسألني سؤالاً، أعرف الجواب، وأعطيه الجواب والدليل؛ الآية أو الحديث أو رأي الفقهاء، أكون مرة في نزهة لقاء مع أخواننا العلماء، أقول: ما قولكم في هذا الموضوع؟ يجيبون كما أجبت، أشعر براحة، أتقوَّى، هذا الذي أفتيت به يُفتي به غيري، وغيري، و غيري، فالإنسان أحياناً يتقوى بأخيه، أنا رأيت أنّ هذا هو الجواب، وأنّ هذا هو الدليل، وأنّ هذه هي الآية، وهذا رأي الإمام أبي حنيفة كذلك، فهو قوة لرأيي، وحينما أرى أن أُناساً آخرين يفتون بما أفتي أشعر بأُنس، أشعر بطمأنينة، أشعر أني مع المجموع، أنني مع جماعة المؤمنين، الإنسان دائماً لا يختَرْ رأياً ضعيفًا، ولا رأياً مُفْرَدًا، ولا حُجة ضعيفة، ولا رأياً شاذًا، عليه أن يكون مع جمهور العلماء، ومع جمهور المسلمين، ومع الأكثرية، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمْ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ))
[ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
لا تجتمع، ويجب أن تعلموا علم اليقين أن النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ بمفرده، بينما أمته معصومةٌ بمجموعها، لا تجتمع على خطأ، فأنت حينما تقرأ التفاسير، يقول لك: قال الجمهور، فكن مع الجمهور، كن مع الأكثرية، طبعاً الأكثرية ليس من عامة الناس، بل المقصود من جماعة المؤمنين، لأن الأكثرية من الناس على ضلال.. ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ﴾
[ سورة يونس : 36]
إذا قلت: كن مع الأكثرية فأقصد بها أكثرية المسلمين، وإذا قلت لك مرة: كن مع الأقلية؛ مع أقلية الناس المؤمنة، لأن الكثرة غير مؤمنة.
إذاً أولاً: تطيب نفوسهم، وثانياً: تتقوى برأيهم، أنت على حق، لكن سبحان الله السؤال يُعطي أُنسًا، يعطي قوة، يعطي ثقة بالنفس. مشاورة النبي الكريم أصحابه ليكون قدوةً لهم :
والأخطر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما شاور أصحابه تنفيذاً لأمر الله عز وجل، فهو إنما يُشَرِّع لأمته من بعده، أي أنَّه هو معصوم لا يخطئ، والوحي يسدده، والله يؤيده، ورجاحة عقله لا حدود لها، والتوفيق الإلهي يحالفه دائماً، لكن هؤلاء الذين سيأتون من بعده، من أمته من أمراء أو من علماء، ليسوا في مستواه، قد يخطئون، قد يلتبس عليهم الأمر، إذاً هم في أشد الحاجة إلى المشورة، فقد سَنَّ لهم المشورة ليكون قدوةً لهم، إذاً رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم غنيٌ عن آراء أصحابه، لأنّ رجاحة عقله، وعصمته، والوحي الذي يأتيه يغنيه عن مشاورة أصحابه؛ إلا أنه شاور أصحابه ليكون قدوةً لمن بعده من العلماء والأمراء، هو حينما شاور أصحابه كان مُشَرِّعاً في مشاورة الأصحاب.
كلكم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظهر يومًا ركعتين، ركعتين فقط، فقيل له:
((أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ النَّاسُ نَعَمْ - أي صليت ركعتين فقط - فسأل النبي أصحابه، طلبًا للتواتر، فتبيَّن فعلاً أنّه صلى ركعتين، قال: إنما نُسِّيتُ كَي أَسُن))
[البخاري عن أبي هريرة " بغير زيادة "إنما نسيت....." ]
فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم في كل أيام بعثته ما نسي ولا مرة، كيف يَسُنُّ لنا سجود السهو؟ ليس إذًا من طريق إلى ذلك، لهذا قال الله عز وجل: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى *إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾
[ سورة الأعلى: 6-7]
إلا ما شاء الله لحكمةٍ تشريعية، أي يجب أن ينسى كي يشرِّع لنا سجود السهو، فمقامه فوق النسيان، لكن أنساه الله عز وجل لحكمةٍ تشريعية راجحة.
أيضاً عندما شاور النبي أصحابه، طبعاً تطييباً لخاطرهم، وتقوَّى بهم، ولكنه قطعاً غنيٌ عن رأيهم، وعن توجيههم، وعن خبرتهم لأنه معصوم، ومعه الوحي، وله من رجاحة عقله ما يغنيه عن عقولهم، ومع ذلك شاورهم كمشرِّع ليكون قدوةً لهم. النبي مُلزم من قِبَل الله عز وجل أن يكون قدوةً ومشرعاً :
تذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض من يهوديٍ من أهل الكتاب، وقد يقول إنسان ضيِّق التفكير: أيعقل أن يقترض النبي من يهوديٍ وأصحابه حوله يفدونه بأرواحهم وبمهجهم؟! الجواب سهل جداً: هو ما اقترض من هذا الكتابي لحاجة، أو لأن أصحابه يقصرِّون في حقه؛ لكن أراد أن يكون مشرِّعاً، لك أن تتعامل مع أهل الكتاب، أنت الآن لو دخلت لمحل صاحبه غير مسلم، من أهل الكتاب، أيجوز أن تشتري منه؟ نعم يجوز، ولا شيء في ذلك، يجوز أن تشتري منه ويجوز أن تبيعه، لولا أن النبي تعامل مع أهل الكتاب لما جاز لك أن تفعل ذلك، فالنبي مُلزم من قِبَل الله عز وجل أن يكون قدوةً ومشرعاً.
وهذا مثل أوضح من ذلك، في نظركم أيهما أشدُّ شجاعة؛ سيدنا النبي الذي كان يقول أصحابه عنه:
((كان إذا حمي الوطيس واحمرَّت الحدق اتَّقينا برسول الله، فلم يكن أحدٌ أقرب إلى العدو منه))

أي أن شجاعة أصحابه مجتمعين لا تعدل جزءاً من شجاعته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كيف هاجر النبي؟ هاجر مُساحلاً، وتخفَّى، ودخل إلى غار ثور، وأمر من يأتيه بالأخبار، ومن يأتيه بالزاد، ومن يمحو الآثار، لماذا فعل النبي هذا؟ لماذا لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل عمر هاجر متحدياً المشركين؟ قال: "من أراد أن تثكله أمه، أو أن ييتم ولده فليحقني بهذا الوادي"، الإنسان قد يعجب، يا رب أيهما أشد شجاعةً، نبيُّك المُرسل أم هذا الصحابي الجليل؟ صحابيٌ يتحدى كفار قريش، والنبي يتسلل، ويختبئ، ويذهب إلى غار ثور، ويقيم فيه أيامًا ثلاثة.
الجواب سهل جداً: لو أن النبي هاجر كعم، لعُدَّ اقتحام الأخطار واجباً، ولكان أخذ الحيطةً حراماً، ولأَهْلكَ أمَّته من بعده، فهو مشرِّع، كل أفعاله تعد تشريعاً، كل شيء يفعله تشريعٌ إلى يوم القيامة، لذلك فالنبي أخذ الحيطة، وأخذ بالأسباب، ولم يتحد قريشاً، ذهب إلى غار ثور، مكث فيه أياماً ثلاثة، كلَّف من يأتيه بالأخبار، من يمحو الآثار، من يأتيه بالزَّاد، استأجر خبيراً غير مسلمٍ، رجَّح الخبرة.
أحياناً يكون الطبيب غير مسلم مختصاً بهذا المرض، والمرض عُضال، أخي أنا لا أتعامل مع غير المسلمين، النبي سيد الخلق استأجر خبيرًا في الطريق مشركًا، أحياناً يجب أن تقصد الخبرة لذاتها، عندك قضية عويصة، علَّة في الجسم حيَّرت الأطباء، وجاء طبيب غير مسلم متخصص بهذا المرض، فينبغي أن تستفيد من خبرته، لأن الحياة غاليةً عند الله وعند الناس. النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لأمته من بعده :
على كلٍّ النبي مشرِّع، فعندما استشار أصحابه شرَّع لنا أن نستشير، شرع للأمراء من بعده، وللعلماء من بعده أن يستشيروا، وهناك موقف عملي أبلغ من ذلك - وهذا في الحقيقة يشبه موضوع صلاة الظهر ركعتين - النبي الكريم في موقعة بدر اختار موقعاً، تقول: يا رب ألم يكن من الممكن أن ترسل له جبريل ليخبره عن الموقع المناسب؟ هذا ممكن، يا رب لمَ لمْ ترسل له جبريل؟ ألم يكن من الممكن أن تلهمه الموقع المناسب إلهاماً؟ نعم ممكن، لمَ لمْ يكن ذلك؟ اختار موقعاً، اجتهد النبي واختار موقعاً، فجاء صحابي في أعلى درجات الأدب، أعلى درجات الغَيْرَة، أعلى درجات الحُب، وسأل النبي سؤالاً يقطر أدباً، قال:
((يا رسول الله هذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمكيدة؟،
الصحابي دقيق جداً، لو أن هذا المكان وحي لما كان له أن ينبس ببنت شفة، قال له: بل هو الرأي والمكيدة، فقال: يا رسول الله ليس بموقع، بكل بساطة، بكل تواضع، بكل عفوية، من دون تشنُّج، من دون أن يرى النبي أن هذا انتقاصاً من قدره، من دون أن يُهمل هذا الذي نصح، من دون أن يحطِّمه، من دون أن يطرده، قال له: أين الموقع المناسب؟ قال: هناك، فأعطى النبيُّ أمرًا بنقل الجيش إلى ذاك الموقع.
هذه القدوة، كان عليه الصلاة والسلام قدوةً لأمته من بعده، فإذا جاءك إنسان مخلص، غيور، جاءك ناصحاً، بيَّن لك الحجة والدليل، إيَّاك أن تستعلي عليه، إياك أن ترفضه، إياك أن تدير ظهرك له، إياك أنْ تفعل ما يحطِّمه لأنه تجرَّأ ونصحك، بل بالعكس. الإنسان المؤمن يقبل النصيحة ويصغي إليها ويشكر صاحبها :

أيها الأخوة، - دققوا فيما سأقول - الذين يمدحونك لا يرفعونك، لكن الذين ينتقدونك هم الذين يرفعونك، كلما انتقدك إنسان بشيء تتلافاه وترقى وتعلو، وكلما مدحك إنسان تطمئن إلى سلوكك، فلن ترقى عندئذٍ، هذا قول سيدنا عمر لا يغيب عن ذهني إطلاقاً: "أحبُّ ما أهدى إليّ أصحابي عيوبي"، هذا حال الإنسان المؤمن؛ يقبل النصيحة، ويصغي إليها، ويشكر صاحبها، لا يحتقره، ولا يعنفه، ولا يهجره، ولا يَعدُّ هذا تجرُّؤًا عليه، أبداً، اشكره على نصيحته.
إذاً كان عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه ليكون عملُه سنةً من بعده، فهو المشرِّع.
أخرج البيهقي عن الحسن رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
قد علِم الله تعالى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة إليهم، لكنه أراد أن يَسْتَنَّ به مَن هم بعده، فأنت الآن كتطبيق عملي؛ لك أسرة، فما مِن مانع للأمور الأساسية أن تستشير زوجتك، وليس في هذا من غضاضة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أم سلمة في صُلح الحُديبية، فأشارت عليه، ونفذ مشورتها، لا مانع أن تستشير الأولاد الكبار عندك، تطيِّب نفوسهم، وتتقوى برأيهم، وتشعرهم أنهم شُركاء، وفوق هذا وذاك تعلمهم أن يتواضعوا في مستقبل حياتهم، وتعلمهم أن يشاوروا، وتعلمهم أن يقبلوا المشورة والنصيحة. من نصح فله أجر و من قبِل النصيحة فله أجر :
أخواننا الكرام؛ الذي يقبل النصيحة التي تُسدى إليه بإخلاص، ليس أقل أجراً من الذي يُسديها، أنت نصحت، فلك أجر، لكن هذا الذي يقبل هذه النصيحة بأدبٍ جَم، ويثني عليك، ليس أقل أجراً منك، يجب أن تعلم أنك إذا نصحت فلك أجر، وإذا قبِلت النصيحة فلك أجر، عوِّد نفسك أنْ تقول لأيِّ ناصحٍ: جزاك الله عني كل خير، إلا إذا كان هناك التباس، أو خطأ، فَهمٌ خطأ، فتقول: أنا لم أقصد ذلك، هذا الذي قصدته.
وروى ابن عدي والبيهقي في الشُعَبِ بسندٍ حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
((لما نزلت وشاورهم في الأمر قال عليه الصلاة والسلام: أما إن الله ورسوله لغنيَّان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمةً لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رُشداً، ومن تركها لم يعدم غَيًّا))
[ابن عدي والبيهقي في الشُعَبِ بسندٍ حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما]
أنت ممكن أن تقتبس خبرة خمسين سنة بسؤال؟ طبعاً ممكن أن تقتبس خبرة خمسين سنة بسؤال أديب لرجل خبير في عمله، عالم بالتجارة، بالصناعة، قبل أن تُقبل على المشروع، خذ رأي أهل الرأي من المؤمنين الصادقين، استشرهم. من حِكَمِ المشاورة أيضاً أن الذي تشاوره ترفع قدره :
أيضاً من حِكَمِ المشاورة أن الذي تشاوره ترفع قدره، وتشعره أن رأيه مقبول، وأن له دوراً في هذه الأسرة، أو في هذه المؤسسة، أو في هذه المدرسة، أو في هذا المستشفى، إذا كان مديرًا عامًا في مستشفى سأل الأطباء مَن حوله: ما قولكم في كذا وكذا؟ هذه يسمونها الآن إدارة ديموقراطية، إدارة ناجحة، لكن في قول الله:
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
لكي لا تنقلب المشاورة إلى فوضى، وإلى تمزُّق، وإلى تعطيل أعمال، وإلى مُهاترات، نحن نستشير، ونأخذ الرأي؛ ولكن ضرورات القيادة تقتضي في بعض الحالات أخذَ رأي الناس، ولكن افعل الذي تراه صواباً بعد أن تستأنس بآرائهم، فالشورى هل هي مُعْلِمة أم ملزمة؟ في الإسلام مُعْلِمَة، لأن: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
إلا إذا كان المستشار ليس متمرِّساً في هذا العلم، فيجوز له أن يستشير العلماء في قضية فقهية، فإذا كانت بضاعته في الفقه ضعيفة، يصبح رأي المستشار مُلزماً، إذا كان في القضية التي يستشير فيها ليس مُلِمَّاً بها، تصبح المشورة مُلْزِمَةً وليست مُعلمةً. الطريقة المستبدة تلغي عقل العقلاء واختيار المختارين :

يقول بعضهم في هذا المجال كلامًا طيبًا: إن الاستبداد في الرأي يجعل العقلاء كالمفقودين، والمختارين كالمكْرَهين، إذا استبدَّ إنسان برأيه وحوله عقلاء، يلغي عقلهم بهذه الطريقة، فالطريقة المستبدة تلغي عقل العقلاء واختيار المختارين، المختار ينقلب إلى مُضطر، والعاقل ينقلب إلى غبي حينما يستبد برأيه.
روى الشافعي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحداً أكثر مشاورةً لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم".
الشورى جزء من حياة المؤمن :
وهناك نقطة مهمة غابت عنا، أن القائد إذا استشار، مثلاً مدير مدرسة، مدير مستشفى، مدير مؤسسة، رب أسرة، رب عمل، تاجر، لو استشار من حوله ما الذي يحدث غير تطييب قلوبهم وغير التقوِّي برأيهم وغير أن تعلي مكانهم؟ في استشارتهم هدف تربوي كبير وهو أنك حينما تستشير مَن حولك تتعرف إلى عقولهم، تتعرف إلى وجهات نظرهم، تعرف صاحب العقل الراجح من صاحب العقل المحدود، تعرف بعيد النظر من قاصر النظر، تعرف المخلص من غير المخلص، أنت حينما تستشير تمتحن من دون أن يدري هؤلاء أنك تمتحنهم.
إذاً الاستشارة مهمة، والله عز وجل وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، فقال تعالى:
﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾
[ سورة الشورى: 38 ]
وقال له: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
معنى ذلك أن الشورى يجب أن تغدو جزءًا من حياة المؤمن. المستشير مُعان والمستشار مؤتمن :
ولا شك أن كل واحدٍ منكم في حياته العملية أحياناً أسديت له نصيحةٌ ثمينة، واستفاد منها فائدة عظمى، وكان عليه أن يبالغ في الثناء على من أشار عليه بهذه النصيحة، وأنت حينما تتقبَّل هذه النصيحة، وتثني على أصحابها، تشجِّع هذا السلوك القويم الذي جاءت به السنة المطهرة، ونطق به القرآن الكريم.
وبعدُ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام حثَّ أصحابه على الاستشارة، فكان عليه الصلاة والسلام يحثُّ على الاستشارة، ويرغِّب فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام:
((المستشير مُعان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه))
[ من كشف الخفاء عن عائشة ]
واسمحوا لي أن أذكر هذه الأمثولة: لو أنّ شخصًا سألك عن شاب؟ فقلت له: هو جيد أو ممتاز، فقال لك: أزوِّجه ابنتي؟ قلت له: زوِّجه، قال لك: بالله عليك لو طلب ابنتك هل تزوِّجه إيَّاها؟ فإذا كنت أنت في قرارة نفسك لا تزوِّج ابنتك لهذا الشاب فينبغي أن تقول له: لا أزوِّجه إياها، فالأولى أن تنطق بالحق وألا تُجامل، المستشار مؤتمن، يقول عليه الصلاة والسلام: ((المستشير مُعان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه))
[ من كشف الخفاء عن عائشة ]
بعض تُجَّار الأقمشة يكون لديه لون كاسد، أو نوع من القماش كاسد، فهذا التاجر يخيِّط بنطالاً لنفسه من هذا القماش، وكلما سأله زبون: بالله عليك هل هذا النوع جيِّد؟ يقول له: تفضل انظر فأنا لابس منه، يكون هو لابس منه لكي يُصَرِّفه، هذه خيانة، كثير من الأشخاص يستعمل الحاجة ويقول: أنا أستعملها، فأنت لك مصلحة في استعمالها، مَن استشار فليُشِرْ بما هو صانع لنفسه حقيقة، وليس استعراضاً، أو خبثاً، أو مكراً، لا، بل حقيقةً. المشورة استخلاص حلاوةَ الرأي وخالصَهُ من خبايا الصدور :

العلماء قالوا: المشورة أن تستخلص حلاوةَ الرأي وخالصَهُ من خبايا الصدور، كما يشور العسل جانيه، كأنك تأخذ العسل من الخلية، أنت حينما تستشير مؤمناً صادقاً خبيراً كأنما تأخذ العسل من صدره، تأخذ الرأي السديد.
منذ يومين أخ كريم بعد إلقائي درسًا في مسجد الطاووسيَّة قال لي: لقد اشتريتُ أرضًا، وبعدما تملكتها جاء من يدَّعي أن بعضاً منها ملكه، ونازعني، وأنا رجعت للبائع، وقدم لي وثائق غير كاملة، أقيمت دعوى ربحتها، والأرض كلها بحوزتي، لكنني لست مرتاحاً، إلا أن بعضاً منها لا يملكه الذي باعني إيَّاها، مع أنني ربحت الدعوى، لكنّي قلقٌ منذ ثلاث سنوات، ثم قال: ثم توفِّي الذي باعني، فماذا أفعل؟ قلت له: القضية سهلة، القسم الذي شككت فيه بعه، وتصدق بثمنه، فإن كانت الأرض لك كُتبت لك هذه الصدقة في صحيفتك يوم القيامة، وإن كانت لغيرك كتبت لك في صحيفته، وأنت بهذا نجوت من القلق، طبعاً لأن البائع مات، ولو كان حيًّا لأعطيتَه إياها، ويتصرف فيها، ولقد تأثر السائل تأثراً لا حدود له، فهذا الحل كان غائبًا عنه، فهو يعاني من القلق طيلةَ ثلاث سنوات، لأنه يظنّ أنه آكل مالاً حرامًا
فحكم المعتدي على أرض، لو اغتصب شبراً منها، فالمغتصِب شبرًا في جهنم فكيف بدنمين؟ كان قلقًا مضطربًا، هذا الحل مريح، تصدق بهذا المبلغ، إذا كانت الأرض لك فالصدقة لك، وإن كانت هذه الأرض لغيرك كتبت في صحيفة غيرك، ونجوت أنت من الإثم، وانتهى الأمر، فلا شيء إلاّ وله حل، وإذا بحثتَ عن الحل وجدتَه.
وفي بعض الآثار: " نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة "، أي أن أجمل جلسة هي مذاكرة العلم، عليك قضية، خذ رأي الآخرين، اسألهم عن دليلهم، عن حجَّتهم، وازن بين رأيك ورأيهم، نقَّحت عقلك بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة، لكن ليس لك حق أن تستشير أي إنسان، فاعرف مَنْ تستشير.
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾
[ سورة الكهف: 28 ]
صفات المستشار :

يجب أن تستشير المؤمنين، العلماء قالوا: المستشار يجب أن يكون أميناً محترماً، ناصحاً، ثابت الجأش، غير معجبٍ بنفسه، ولا متلِّونٍ برأيه - أي سويعاتي- ولا كاذبٍ في مقالِهِ، ولا محباً لهذا الأمر الذي يستشار فيه - كأن يكون هو مأخوذ بالحدائق، وسألته: هذه الحديقة لي ولجاري ماذا أفعل؟ يقول لك: خذها، مادام مغرماً بالحدائق، فينبغي ألا تستشير إنساناً غارقاً في حب هذا الشيء الذي تستشيره به - لأنه يغلبه الهوى، ولا متجرداً عن الدنيا، شخص بعيد عن الدنيا، ساكن بصومعة، قلت له: هذا المحل التجاري في خلاف بيني وبين صاحبه. فيقول لك: أعطه له، وأنت عندك أولاد، فإذا كان لك يجب أن يبقى لك، وإذا كان الإنسان بعيدًا عن موضوع الاستشارة، بعيدًا بُعدًا شديدًا، فهذا صعب أن يعطيك رأيًا صحيحًا، وإذا كان غارقًا في حُب الشيء صَعُب عليه أن يعطيك رأيًا صحيحًا، الأول بُعدُه الشديد يُعمِّي عليه الحقيقة، والثاني قُربُه الشديد يعمِّي عليه الحقيقة - ولا تستشِر بخيلاً بقضايا مالية - يقول لك: " ضب قرشك ولا ترد عليه"، البخيل لا يستشار، إياك أن تستشير بخيلاً أو مغرماً في موضوع الاستشارة، أو بعيداً عن موضوع الاستشارة، يجب أن تستشير الأمين، المحترم، الناصح، ثابت الجأش، غير المعجب بنفسه، وغير المتلون برأيه، ولا الكاذب في مقاله.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((المستشير مُعان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه))
[ من كشف الخفاء عن عائشة ]
أي بإمكانك أن تعتذر عن إبداء الرأي، ولعل السكوت جواب، أنت مؤتمن، فإذا نشأت فتنة كبيرة من إبداء الرأي، يجب أن تعتذر عن قبول الاستشارة، أما أن تفتي، أو أن تشير بما لست قانعاً به، أو أن تفتي أو أن تشير بخلاف ما تعلم، فهذه معصيةٌ كبيرة؛ فاحذَرْ أن تشير بخلاف ما تعلم. الاستخارة لله عز وجل والاستشارة لأولِي الخبرة من المؤمنين :

وروى الطبراني عن أنسٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((ما خاب من استخار ولا ندم من استشار))
[الطبراني عن أنسٍ رضي الله عنه ]
الاستخارة لله عز وجل، والاستشارة لأولِي الخبرة من المؤمنين. لا يكفي أنْ يكون مؤمنًا، ولا يكفي أنْ يكون خبيرًا، لأولي الخبرة من المؤمنين، إذا كان الخبير غير مؤمن فلن ينصحك، قد يتعارض نصحه لك مع مصلحته فلا ينصحك، والمؤمن غير الخبير يفتي لك بشيء وهو جاهل، فالاستخارة لله عز وجل، والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين.
وأخيراً: " من استشار الرجال استعار عقولهم "، تستعين بعقل تراكمت فيه خبرات خمسين سنة، تشتريه كله بكلمة لطيفة: ما قولك في هذا الموضوع يا سيدي؟ من استشار الرجال استعار عقولهم.
فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يترجم هذا الدرس عملياً في حياتنا اليومية، عوِّد نفسك أنْ تستشير، عوِّد نفسك أنْ تسأل، تجس النبض، تأخذ رأي من حولك، تأخذ رأي الخبراء، الأتقياء، المؤمنين؛ في زواج، في تجارة، في سفر، إياك أن تستبد بالرأي، إذا استبْددتَ برأيك وقعت في شر عملك.

والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:22 PM   #23


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الرابع و العشرون )

الموضوع : وقارة العظيم






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس الشمائل المحمديَّة، التي كان عليه الصلاة السلام يتحلَّى بها، وقد وصلنا في الدرس السابق إلى وقاره العظيم.
أيها الإخوة ؛ الوقار شيءٌ يُحسُّه الإنسان، ولكن لا يرى له آثاراً ماديَّة، فرجلٌ تهابه، ورجلٌ لا تهابه، رجلٌ تشعر، وأنت في حضرته بسعادةٍ غامرة، ورجلٌ لا تلقي له بالاً، هذا الوقار، أو هذه الهَيْبَة، أو هذه المكانة العلية التي يهبها الله للإنسان، ما سرها؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان من أشد الناس وقاراً، وكان من أعظمهم أدباً، وكان أرفعهم فخامةً وكرماً، لكن قبل أن نمضي في الحديث عن وقاره صلى الله عليه وسلَّم، لنستمِعْ إلى هذا الحديث الشريف:

((من خاف الله خوف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله خوفه الله من كل شيء))
( من أحاديث الإحياء: عن " أبي هريرة )
إما أن يهابك الناس ؛ وإما أن تهاب الناس، فبقدر طاعتك لله يلبسك الله سبحانه وتعالى ثوب مهابة.
روى أبو داود في مراسيله، عن خارجة بن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يُخرج شيئاً من أطرافه))
أحياناً تجلس في مجلس تشعر بسعادة، هذا الذي تجلس معه تأنس به، إذا رأيته تذكر الله عزَّ وجل، وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة، قال: ((أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكِرَ الله بهم))
إذا رأيت ولياً لله عزَّ وجل يذكِّرك بالله، يذكرك بطاعته، يذكرك بالآخرة.
فلذلك أيها الإخوة مرَّةً ثانية أقول هذا الكلام: إذا شكوتَ تفلُّتَ نفسك من منهج الله، فلعلَّ تركَن إلى أُناسٍ بعيدين عن الله عزَّ وجل، إذا صاحبت من ينهض بك إلى الله حاله، ويدلُّك على الله مقاله، إذا صاحبت المؤمنين المتفوِّقين، إذا غيَّرت هؤلاء الذين كنت تعرفهم قبل أن تعرف الله عزَّ وجل، إذا غيَّرت كل هؤلاء، وأقمت علاقاتٍ مع إخوةٍ كرامٍ يفوقونك في معرفتهم بالله، وفي طاعتهم له، هم يأخذون بيدك إلى الله، لا تنسَ أن البذرة مهما تكن جيدة، إذا كانت التربة ملوثة فإنها لا تنبت، وإذا نبتت أصيبت بالأمراض، هذه حقيقةٌ يعرفها المشتغلون بالزراعة، إذًا لابدَّ من تربةٍ معقَّمة، لابدَّ من تربةٍ غنيةٍ بالمواد النافعة، لابدَّ من تربةٍ مفعمةٍ بالماء كي ينبُت النَبْت، وأنت لك تربة.
فلذلك كان عليه الصلاة والسلام أوقر الناس في مجلسه، وقد يُروى عنه أنه:
((من رآه بديهةً هابه، ومن عامله أحبَّه))
وروى ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَلَأْنَا الْبَيْتَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ لِجَنْبِهِ فَلَمَّا رَآنَا قَبَضَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ قَالَ فَأَدْرَكْنَا وَاللَّهِ أَقْوَامًا مَا رَحَّبُوا بِنَا وَلَا حَيَّوْنَا وَلَا عَلَّمُونَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ فَيَجْفُونَا))
نحن نتعلَّم أدب الصحابة الكرام مع رسولهم، لكن ربنا عزَّ وجل قال في القرآن - ودقِّق النظر في قول الله عزَّ وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يخفض جناحه للمؤمنين - قال:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
( سورة الشعراء )
بل أمره أن يخفض جناحه لكل المؤمنين..

﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
( سورة الحجر )
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه))
وفي حديث آخر: ((تواضعوا لمن تعلِّمون))
( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة )
تواضعوا لمن تُعلِّمونه، فهو يتواضع لأصحابه، ويخدمهم بنفسه، ويسوِّي أنفسهم معه، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نوقِّره، وأن نعزَّره، وأن نبجِّله، وأن نحبه، فكما أمرنا أن نحبَّ رسولَه وأن نوقره..
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 40 )
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾
( سورة الحجرات: من آية " 3 )
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾
( سورة الحجرات: من آية " 2 )
لا تقولوا: يا محمد، قولوا: يا رسول الله، هل تصدقون أيها الإخوة أن الله جلَّ جلاله في عليائه ما خاطب النبي في القرآن الكريم كله بلفظ محمد ؟! جاءت كلمة محمد خبرًا أو مبتدأً.
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾
( سورة الفتح: من آية " 29 )
أما عند الخطاب:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 28 )
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾
( سورة المائدة: من آية " 67)
إذا كان الله في عليائه يخاطب النبي بمقامه - مقام النبوة، ومقام الرسالة - ولم يخاطبه باسمه فكيف بنا نحن ؟ لذلك الله عزَّ وجل قال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾
( سورة الحجرات: من آية " 2 )
((إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ))
وبعدُ ؛ فالآية الكريمة التالية تعرفونها جميعاً:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 159 )
هذه الآية قانون، هذا القانون جاء من حرف الباء، الباء باء السببية، والقانون في العلم هو وصف علاقةٍ بين متغيِّرين ـ علاقة رياضيَّة ـ الله عزَّ وجل يقول:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾
أي بسبب رحمةٍ استقرَّت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بالله، هذه الرحمة بسببها لنت لهم، فأحبوك، والتفوا حولك، وفدوكَ بأرواحهم.
لكن لو كنت منقطعاً عن الله، فلن تستقر هذه الرحمة في قلبك، ولكنتَ إذاً فظاً غليظاً، وإذا كنت فظاً غليظاً انفضَّ الناسُ مِن حولك.
هذا قانون، هذا القانون يسري على كل مؤمن، إنْ تتصلْ تستقرْ الرحمة في قلبك، وتلن، ويلتف الناس حولك، وإنْ تنقطع يقسُ قلبُك، وتكن فظاً غليظاً، وينفض الناس من حولك، هذا الكلام موجَّه للأب، للمعلِّم، للداعية، لرئيس الدائرة، لمدير المدرسة، لمدير المستشفى، لك صلة بالله ففي قلبك رحمة، هذه الرحمة ولَّدت اللين، واللين ولد المحبَّة، فالتفَّ الناس حولك.
ومِن ثَمَّ ها نحن ندخل في المهابة، الإنسان الرحيم له هيبة، القاسي ليس له هيبة، أنت لاحظ أحياناً الإنسان من خلال معاملته، واتزانه، وإنصافه، وإكرامه يصير محبوبًا، والناس تلهج ألسنتهم بالثناء عليه في غيبته كما هو في حضرته ؛ لكن الإنسان القوي يخافه الناس في حضرته، ويكيلون له كل أنواع الشتائم والسخرية في غيبته، فالعبرة ليست بما يقال في حضرتك، بل العبرة فيما يقال في غيبتك، لكن هذا الكلام كلام النبي عليه الصلاة والسلام مؤثِّرٌ، ويجب أن يتخذه كل مؤمنٍ منهجاً له..
((إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ مِنْ بَعْدِي يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ))
وكل واحد منكم، بل ما مِن إنسان إلاّ وله أهل، له أقرباء، له مجتمع، له إخوة وأخوات، وأولاد إخوة وأخوات، جيران، زملاء بالعمل، أقارب، هؤلاء إذا آنست من أحدهم طلباً للعلم رحِّب به، أكرمه، استقبله، عاونه، بهذا اللين يميلون إليك، هذا هو القانون، وبهذا القانون تصبح ذا هيبة.
طبعاً قد تعجبون من هذا الدرس ـ درس شمائل النبي ـ فيقول قائل: لكن ماذا نستفيد نحن إذا عرفنا أن النبي ذو هيبة ؟ نريد أن نكون نحن أيضاً أصحاب هيبة، طبعاً تكون لنا هيبة بقدر إيماننا، بقدر إقبالنا على الله، بقدر إخلاصنا، أنت إذا اتصلت بالله استقرَّت الرحمة في قلبك، ومتى استقرَّت لِنت لهم، فإذا لنت لهم أحبوك، وهابوك، وقدَّسوك.
كلمة شيء مقدس هذه الكلمة تَرِدُ على الألسنة كثيراً، ما معنى بيت مقدس ؟ هذا الإنسان مقدَّس ؟ أي مستقيم، الشيء المقدس الطاهر النقي من الشوائب، فكلَّما حرصت على ألا تزلّ قدمك، وألا يزلّ لسانك، وألا تزلّ أعضاؤك، وألا تزلّ خواطرك كنت مقدَّسًا.
أخي هذا البيت مقدَّس، أيْ أن هذا البيت كان فيه مجالس علم، كان فيه ذكر لله عزَّ وجل، لم تُرتكب معصية، لم تكشف عورة، لم يتكلَّم أحدٌ فيه بكلمةٍ قاسية، نقول: فلان مقدَّس، أي مستقيم.
* * * * *
الآن من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام..
تقديمه كبير القوم في الكلام
الملاحظ ـ والعياذ بالله ـ في المجتمعات الغربية، الإنسان ما دام في شبابه، وعلى رأس عمله، له مكانته، فإذا تقدَّمت به السن هُمِّش، أصبح على الهامش، أي أن أهله ينصرفون عنه، والشيء المعروف في تلك المجتمعاتِ أن الأب المتقدِّم بالسن لا يحظى بزيارة أولاده إلا في العام مرَّة على أحسن تقدير، وكثيراً ما يعتذرُ الأبناء عن زيارة آبائهم، أجل: في العام مرَّةً واحدة، إذاً في المجتمعات الماديَّة الإنسان إذا تقدمت به السن هُمِّش، خرج من بؤرة الاهتمام إلى زوايا الإهمال ؛ نبذ من أسرته، من أبنائه، من أقربائه، لكن في الإسلام عندنا شيء آخر، التقدُّم في السن وحده يلزمنا أن نوقِّره، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ))
( من مسند أحمد: عن " عبادة بن الصامت )
و: ((مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ))
( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك )
الحقيقة أنّ الإنسان يكون قدَّم شيئًا، بل أشياء، وبعدما كبر بالسن من حقه أن يجنيَ الخير، أدَّى ما عليه وبقي ما له ؛ له الاحترام، له العناية الفائقة، له الخدمة، هذا حال المجتمع الإسلامي.
لذلك كلما قرأت هذا الحديث أيها الإخوة اقشعَرَّ جلدي..
((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
أنت إذا رأيت إنسانًا عمره بالستين، بالخامسة والستين، بالسبعين، كل حياته في طاعة الله، إذا أكرمت هذا الإنسان لا لشيء إلا لأنه مسلم، وتقدَّمت به السن، فإكرامك له إكرامٌ لله تعالى.. ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
التقدم بالسن شيء ثمين في الإسلام، حتى إنه في بعض الأحاديث القدسيَّة: ((عبدي كبرت سنك، وضعف بصرك، وانحنى ظهرك، وشاب شعرك، فاستحيِ مني فأنا أستحيِ منك))
والنبي عليه الصلاة والسلام - دقِّقوا النظر - إذا قال: " ليس منا " أي أن هذا الشيء من الكبائر.. ((لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا...))
( من مسند أحمد: عن " عبادة بن الصامت )
الإنسان المتقدم بالسن تستهزئ به، تقلده، تشد نظرك إليه، تستخف به، تجلس جلسة غير أديبة أمامه، لا تقوم له، لا توقِّر-دقِّق- ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
فكان عليه الصلاة والسلام يقدِّم كبير القوم في الكلام والسؤال، وذلك من باب التكريم وحفظ المراتب، وتنزيله الناس منازلهم، النبي الكريم قال: ((أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ))
( من سنن أبي داود: عن " السيدة عائشة )
هذه سفَّانةُ بنت حاتم الطائي حينما وقعت أسيرة، رآها النبي عليه الصلاة والسلام فوقفت وقالت: "يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك "، سألها: " من الذي غاب ؟ " قالت: " عدي بن حاتم "، فقال عليه الصلاة والسلام: "الفار من الله ورسوله ؟ "، في اليوم التالي مرَّ أمامها فوقفت وقالت: " يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك "، قال: " من الذي غاب ؟ "، قالت: " عدي بن حاتم "، قال: " الفار من الله ورسوله ؟ " ومشى.
في اليوم الثالث لم تقف، فأوعز إليها أحدهم أن قفي واسأليه مرةً ثالثة، قالت: " يا رسول الله إن أبي كان من كرماء قومه، كان يفك العاني، ويعفو عن الجاني، ويطعم الفقير - كلمات لطيفة رقيقة - ويفك الأسير، ويحمل الكَل، ويعين على نوائب الدهر، أنا بنت حاتم طي"، فقال عليه الصلاة والسلام: " يا جارية إن هذه أخلاق المؤمنين، إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق"، فعفا عنها إكراماً لأبيها، وعفا عن قومها كلهم.
فقالت له: " يا رسول الله أتأذن لي بالدعاء ؟ "، قال: " نعم - فاسمعوا أيها الإخوة وعوا - قالت هذه الفتاة النجيبة: " أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة، وإذا سلب نعمةً عن قومٍ جعلك ممن يعود بها إليهم - بهذا المعنى - فالنبيُّ أنزل هذه الفتاة منزلتها ـ بنت حاتم طي ـ ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( أكرموا عزيز قومٍ ذلّ، وغنياً افتقر، وعالِماً ضاع بين الجُّهال ))
أكرموا، فإذا كنت إنسانًا لهذا منصب سابقاً، ولك مكانة سابقاً، فلا بدّ مِن تكريمك، لذلك في أحكام الزكاة أنا سأسألكم هذا السؤال: هل يجوز أن نعطي الزكاة لإنسانٍ قوي ؟ لا يجوز، لا تعطى الزكاة لا لغني، ولا لذي مِرَّةٍ قوي، إلا في حالة واحدة، إذا كان غنيًا وافتقر، هذا الإنسان لا نكلفه أن يكسب قوته بعضلاته، أنشغِّله مثلاً، حفاظاً على مكانته السابقة نعطيه ما يقيم به صلبه من مال الزكاة، هذا هو الحكم الشرعي.
روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ:
((انْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِي دَمِهِ قَتِيلًا فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ كَبِّرْ كَبِّرْ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا فَقَالَ تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صَاحِبَكُمْ قَالُوا وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ قَالَ فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ فَقَالُوا كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَعَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ))
أي ليتكلَّم أكبركم.
وفي روايةٍ لمسلم:
((لِيَبْدَأِ الأَكْبَرُ))
وفي رواية الإمام أحمد: ((الكِبَرَ،َالكِبَر))
وفي روايةٍ البخاري أيضا: ((كَبِّرْ، كَبِّرْ))
يريد السن.
وفي مسند أحمد وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمْ الصَّغِيرَ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ))
لذلك ممّا يؤلمني أشد الألم أنْ أرى أطفالاً في الطريق يستهزئون بإنسان متقدِّم في السن، يضحكون من مشيته مثلاً، يحاكونه في حركاته، أقول: هؤلاء الصغار أليس لهم آباءٌ يهذِّبونهم، يربونهم التربية اللائقة بهذه السُنَّة النبوية المطهرة ؟.
إذاً ذو الشيبة المسلم إكرامه من إكرام الله عزَّ وجل، فإذا أكرمت ذا الشيبة المسلم فكأنما أكرمت الله عزَّ وجل، فما الذي يمنع أحدَنا إذا وجد شيخًا سنُّه متقدِّمة، ويحمل أغراضًا، وأحدنا شاب في ريعان الشباب أنْ تعينه بحملها، ولو كنتَ لا تعرفه، هل مِن شيء يمنع ذلك ؟ وما يمنع إذا كنت راكبًا سيارتك، وإنسان كبير في السن يحمل أغراضًا أن تقول له: تفضل لأوصلك ؟.
أذكر مرة في أحد أيام البراد القارس ـ كانت درجة الحرارة خمسًا أو ستًّا تحت الصفر ـ وجدت شابًا وزوجته إلى جانبه يحملان طفلاً صغيرًا، لكنهما خائفين عليه من البرد خوفاً واضحاً في معالم وجه الأب، لفُّوه، ويكاد يختنق هذا الصغير من شدة البرد، فأنا قلت: والله سأوصله بسيارتي إلى مكانه، كان بيته بالجادات العُليا، سبحان الله، أنا ما خطر في بالي أن هذا الإنسان من خلال هذا العمل سيلتزم الدروس كلها، طبعاً سألني أجبته، وحدَّثته عن بعض الدروس، وفي الدرس التالي التحق بنا، وصار مِن الملازمين لحضور الدروس كلها.
إذا كان الشخصُ يقود مركبة، وهو شاب في مقتبل العمُر، ورأى شخصًا كبيرًا في السن فأكرمه، وحمل له أغراضه، فهذا من السُنة، هذا من شرع الله عزَّ وجل، لكنّ الناس في زماننا تكبروا، فتجد طفلاً جالسًا في مركبة عامة، وإنسان في التسعين يكاد يقع من اضطراب المركبة، والطفل جالس، وأبوه إلى جانبه، وكأنه لا يبصر شيئًا.
* * * * *
تكريمه صلى الله عليه وسلم أهل الفضل
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه أنه قال:
((البركة مع أكابركم))
وفي روايةٍ: ((الخير مع أكابركم))
والمعنى: كلمة أكابر أعتقد في هذا العصر لها مفهوم آخر ما أراده النبي، الأكابر الآن الأغنياء، أما الأكابر الذين ورد ذكرهم في الحديث الشريف هم أهل الفضل، أهل العلم وأهل الدين، الوجهاء، الأتقياء، الورعون، الذين يخدمون الناس، هذا معنى أكابر.. ((سيد القوم خادمهم))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عبَّاس )
والحديث الشريف: ((لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ))
( من مسند أحمد: عن " عبادة بن الصامت )
قضية توقير العلماء هذه قضية لها معنى دقيق، العلم يقدَّم بلا مقابل، فهذا الإنسان الذي يعلمك لا يريد شيئاً، لا مكافأة مادية ولا معنوية، إلا أن المودَّة تثلج صدره، والمودة تنسيه تعبه، هناك آباء أصلحهم الله أحياناً يذكر أمامه اسم معلِّم ابنه فيسبه، لا تسبَّه، هذا يعلم ابنك، والمفروض أنْ يكون عندك محترمًا، ولو أخطأ، وقسا على ابنك، فالمفروض أنْ يكون المعلم في مكان عالٍ موقَّر.
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرما
* * *

لكنْ قد تجد آباء عقلاء في منتهى الأدب، فأحدهم يكرم معلم ابنه، ويحترمه، أحياناً يخدمه، لأن ابنه عنده، وبعض الآباء لجهلٍ بأصول التربية إذا أخطأ المعلم خطيئة يكيلون له الصاع صاعَين، عندئذٍ ينتقم هذا المعلم من ابنهم طوال العام، إذًا ليس من الحكمة أن تُجَرِّح المعلِّم، ولا أن تصغِّره، ولا أن تؤذيه لا بلسانك ولا بفعلك.
من ذلك التكريم إكرامُ النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس".
الشيء الدقيق أن الله عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها أنْ كان له عم له - طبعاً عمُّه هذا عاصر النبي - فكان عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني بسندٍ حسنٍ عن ابن عبَّاس، عن أمه أم الفضل أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلما رآه - انظر - فلما رأى عمه العباس قام إليه وقبَّل ما بين عينيه، ثم أقعده عن يمينه، ثم قال:
((هذا عمي فمن شاء فليباهِ بعمه))
فقال العباس: ((نعم القول يا رسول الله))
نبيٌ يقف، ويستقبل عمه، ويقبله، ويجلسه عن يمينه ويقول: ((هذا عمي فمن شاء فليباهِ بعمه))
وروى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استسقى عمر عام الرماد ـ أي عام القحط ـ بالعباس، فقال: ((اللهمَّ هذا عم نبيك نتوجَّه إليك به فاسقنا))
فما برحوا حتى سُقوا، فخطب عمر فقال: (يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده...).
بالمناسبة العم والد، والخالة والدة، فالذي له خالة أو له عم ينبغي أن يصلهما، وأن يوقرهما، وأن يبرهما كما لو كان هذا الإنسان أباه، أو كما لو كانت هذه الخالة أمه. فيقول سيدنا عمر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده يعظمه، ويفخمه، ويبرُّ قسمه، فاقتدوا برسول الله في عمه العبَّاس، واتخذوه وسيلةً إلى الله فيما نزل بكم)، وبعض هذا الحديث في صحيح البخاري.
وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعظِّمون العباس ويكرِّمونه اتباعاً للنبي، فقد روى الحافظ بن عبد البر عن ابن شهاب أنه قال: (كان الصحابة يعرفون للعباس فضله فيقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه).
روي أيضاً عن أبي الزناد أنه قال ـ دقِّقوا ـ: (لم يمر العباس بعمر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ وهما راكبان إلا نزلا عن دابتهما، حتى يجوز العباس إجلالاً له ويقولان: عمّ رسول الله).
الدين كله أدب.
قال: من لطائف أدب العباس ـ عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ مع النبي، ما رواه ابن أبي عاصم عن أبي رزين والبغوي في معجمه، عن ابن عمر أنه قيل للعباس: (أأنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟ فقال: " هو أكبر مني وأنا ولدت قبله)، انظر كتاب الإصابة في هذه الرواية.
وفي كتاب الإصابة أيضاً نقلاً عن الشعبي أنه قال: (ذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه ليركب، فأمسك ابن عباسٍ رضي الله عنهما بالركاب ـ أي ركاب الدابة ـ فقال: تنحَّ يا ابن عم رسول الله، قال: لا، أُمِرْنا أنْ نفعل هكذا بالعلماء والكبراء).
وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ومعه أبو بكرٍ وعمر وأبو عبيدة بن الجرَّاح في نفرٍ من أصحابه، إذ أُتي بقدحٍ فيه شرابٌ، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أبا عبيدة، فقال أبو عبيدة:
((أنت أولى مني يا نبي الله. قال: خذ. فأخذ أبو عبيدة القدح وقال قبل أن يشرب: خذ يا نبي الله، قال صلى الله عليه وسلَّم: " اشرب - قدَّمه على نفسه اللهمَّ صلِّ عليه - فإن البركة مع أكابرنا، فمن لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا فليس منا))
طبعاً أكرم النبي الكريم أبا عبيدة لأنه أمره أن يشرب قبله، وهذا ورد في الحديث الذي ذكرته قبل قليل..
وروى أبو داود عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال:
((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
لا مغالاة ولا مجافاة، الذي يحمل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، مَن هجر القرآن، فهذا الجافي عنه، بالغ ؛ تجاوز الحد المعقول في تفسيره، وأوله تأويلاً ما أنزل الله به من سلطان، فهذا مبتدع، أما إذا لم يكن لديه غلو ولا مجافاة، فإكرام حامل القرآن من إكرام الله تعالى.
ذات مرَّة لقيتُ رجلاً أصغر مني بكثير، لكن أعرف أنه يحفظ كتاب الله، فأوصلته وما ودَّعته إلا واقفاً، نزلت وودعته واقفاً لأنه يحمل كلام الله، فإذا كان الإنسان حافظًا يجب أن تحترمه، وإذا كان ابنك حافظَ القرآن الكريم فإيَّاك أن تضربه، وإذا كان عندك طالب في الصف يقرأ القرآن الكريم فإياك أن تهينه، من إكرام الله تعالى أن تكرمه.
من هو الثالث ؟
((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
أي إذا كان في (قائم مقام) أخلاقه عالية، وشريف، ويده نظيفة فاحترمه وهذا هو الصواب، إذا كان الإنسان ذو المنصب مستقيمًا، معروفًا بالعدل، نظيفًا، يخدم الناس، فإكرامه من إجلال الله عزَّ وجل، إكرام السلطان المُقسط من إجلال الله عزَّ وجل.
ذو الشيبة المسلم ليست شيبة نشأت بالمعصية، الحديث دقيق..
((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ...))
( من سنن أبي داود: عن " أبي موسى الأشعري )
لكنّك أحياناً تجد شخصًا بالسبعين لا يصلي، بالسبعين مراهق، بالسبعين وللساعة الثانية ليلاً يلعب بالطاولة، بالسبعين يسافر سفرًا، والله أعلم ماذا يقصد من هذا السفر، فهذا الشخصُ ليس مقصودًا بهذا الحديث، ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ))
وكان عليه الصلاة والسلام يُحَسِّن الأمر الحسن، ويمدح على ذلك تكريماً لمن أحسن فيه، وتنشيطاً لهمَّته، ويقبِّح الأمر القبيح ويردُّه.
هناك أشخاص لهم طباع عجيبة، فمن حولهم مهما تفوَّقوا، مهما أبدعوا، مهما تقرَّبوا، فلا يُحسِّن حسنهم، ولا يُثني على أفعالِهم، هذا مما يسبب تثبيط همَّتهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحسِّن الحسن، فمثلاً حولك إنسان قدَّم اقتراحًا لم يخطُر في بال أحد، فتجد شخصًا يسمع فقط، فيطبقه، ويستفيد منه، من دون أنْ يتكلَّم كلمة واحدة، بينما تجد شخصًا آخر يقول له: الله يجزيك الخير، والله هذه النقطة كانت غائبة عني، فأحسَنَ اللهُ إليك، لقد أكرمتني بهذا الاقتراح، فهذا التشجيع شيءٌ جميل، إذًا فمَن قدَّم لك اقتراحًا، نصحك نصيحة، لَفَتَ نظرك إلى شيء، تفوَّق أمامك، خدمك، فاشكُرْهُ، وكرِّر الشكر، أحياناً يكون الموظف في محل تجاري بقي مع صاحب المحل ساعتين بعد الدوام، فكأنه ما عمل شيئًا، لكن لو قال له: لقد أخرناك، وجزاك الله خيرًا، خجلنا منك، فقد حصلتْ مودة، وقد ترى شخصًا مهما أبدع الناس، فالذين حوله في أعمالهم، مهما تفوقوا، مهما أتقنوا، مهما أخلصوا، مهما ضحوا لا يتكلم بكلمة ثناء عليهم، وهذا مما يثبطهم في أعمالهم، بالإضافة إلى بخسهم حقَّهم.
إخواننا الكرام ؛ هذه نقطة مهمة في تربية الأولاد، فلو كان لابنك موقفَ أمانةٍ فاشكُرْه على أمانته، عندك موظَّف دوامه جيِّد، من حين لآخر قل له: أنا مسرور من دوامك، فيشعر الذين حولك أنك تقدر الجميل، فالنبي كان يحسِّن الحسن، ويمدح صاحبه، لا تضن بكلمةٍ ثناء، لا تضن بكلمة مدح، لا تضن بكلمة تقدير لزوجتك، لأولادك، لموظَّف عندك بالمحل، صانع صغير بعثته لحاجة فقضاها بسرعة، فقل له: ما شاء الله لم تتأخّر، أحسنتَ، والله شيء جميل، بكلمة تجده انطلق وضاعف جهوده، بينما هناك شخص مهما أحسنت، ومهما تفوقت، وبذلت، و ضحيت تجده لا ينبس بكلمة، ولا بشكر، ولا ثناء كأنك لم تفعل شيئاً.
صحابي دخل ليلحق ركعة مع رسول الله فأحدث جلبة وضجيجًا، وشوَّش على الصحابة صلاتهم، فلما انتهى النبي من صلاته، توجَّه إليه وقال له:
((زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي بكرة )
وفيما يتعلَّق بإدارة البيت، فإنْ كان الأكل طيبًا، والبيت نظيفًا، الأولاد لابسين مهندمين، فقل لزوجتك: الله يعطيك العافية، والله شيء جميل، ابنك أخذ علامات جيدة فأثنِ عليه، امدحه فلا مانع، شجِّع الناس، هذه من خصائص النبوَّة، أو من شمائل النبي اللهمَّ صلِّ عليه.. ((كان يحسِّن الأمر الحسن، ويمدح صاحبه تكريماً لمن أحسن))
روى الإمام أحمد عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ قَالَ: ((دَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالُوا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كَانَ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ سَوَاءً ثُمَّ نَدِمْتُ فَقُلْتُ أَفْشَيْتُ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فَلَمَّا دَخَلَ أَخْبَرَتْهُ فَقَالَ أَحْسَنْتِ))
روى ابن حبان في صحيحه عن طلق بن علي الحنفي قال: ((بنيت المسجد مع رسول الله، فأخذت المسحات بمخلطة الطين فكأنه أعجبه فقال: دع الحنفي والطين فإنه أضبطكم للطين))
رجل قدَّم لك حاجة قد صنعها بنفسه، فقل له: شيء جميل، والله متقنة، الله يعطيك العافية، القصد أنك عندما تثني على المحسن، وتقدر المتقن، وتعرف قدر التضحية التي قُدمت لك، هذا مما يشجع على فعل الخير.
ولدينا قصة معروفة لا بأس من ذكرها، رجل من لصوص الخيل في الصحراء، وإنسان يركب فرسه فرأى الفارس فقيرًا، ينتعل رمال الصحراء المحرقة، فرقَّ له ودعاه لركوب فرسِه خلفه، ما إن تمكَّن اللص من ركوب مطية الفارس وراء صاحبها حتى دفعه وسوَّاهُ بالأرض، وعدا بالفرس لا يلوي على شيء، قال له صاحب الفرس: " يا هذا لقد وهبت لك الفرس ولن أسال عنها بعد اليوم، ولكن إيَّاك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء فتذهب منها المروءة، وبذهاب المروءة يذهب أجمل ما فيها".
فإذا خدمك شخصٌ فاثنِ عليه، وإنْ تَفَوَّق فكافِئْه، أو قدَّم لك خدمة فاشكره، وإنْ أحسن ابنك فامدحه، حتى نشجع العمل الطيب، هذا من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم.
آخر حديث ؛ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال:
((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))
ذات مرَّة أحد الصحابة حفر قبرًا لصحابي قد توفي، ولما سوى القبر لم يسوِّهِ كما ينبغي، فقال النبي الكريم: ((إن هذا لا يؤذي الميت ولكنه يؤذي الحي))
فلا بدّ مِنْ إتقان العمل، فكان عليه الصلاة والسلام يحسِّن الحسن ويصوبه، ويمدح صاحبه تشجيعاً له، وكان يقبِّح القبيح ويوهِّنه، وإذا عمِل شخصٌ عملاً سيئًا فلا تقل له: أحسنت، بمعنى أنه إنسان جيِّد، فهذا كلام خطير، يجب أن تقبِّح القبيح وأن توهِّنه وأن تنصح صاحبه.

والحمد لله رب العالمين



 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:28 PM   #24


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الخامس و العشرون )

الموضوع : حبة حسن الاسماء و كراهيتة قبيحها





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الخامس والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وصلنا في الدرس الماضي إلى حبه صلى الله عليه وسلَّم حسن الأسماء، وكراهيته قبيحها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب المسلم صالح الاسم وحَسَنَهُ.
إنّ الاسم ألصق شيء بالإنسان، فإن كان حسناً سِعد به، وإن كان قبيحاً فقد أورثه مواقف محرجة، وألماً نفسياً، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم السيئ، وفي هذا تكريمٌ للمسلم أن يعرف باسم حسن، لا أنْ ينادى باسمٍ قبيح، أو يوضع لي علمٌ قبيح ؛ اسماً أو لقباً أو كنيةً.
بالمناسبة الاسم: سعيد، والكُنية: أبو محمد، أو ابن فلان، واللقب: الصديق، أو الفاروق، فالمتنبي لقب، والجاحظ لقب، فالإنسان له اسمٌ، وكنيةٌ، ولقب، ويضاف النسب ؛ كالقرشيِّ، والشهرةُ ؛ كالحداد، والخرَّاز، والسمَّان، فهناك اسمٌ، وهناك كنيةٌ، وهناك لقبٌ، وهناك نسبٌ، وهناك شهرةٌ، فهذه هي الأسماء التي نعرفها في اللغة العربية.
روى الطبراني وأبو يعلى عن حنظلة رضي الله عنه

(( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يُدعا الرجل بأحب أسمائه إليه وأحب كناه))
فالمؤمن ينادي إخوانه بأحب الأسماء إليهم، وهذا من حكمته، ومن أدبه العالي، فأحياناً يكون الاسم حسنًا، أما الكنية أو الشهرة أو النسب فغير مستحبة، فالمؤمن ينادي أخاه باسمه الأول، فإذا كان اسمه الأول غير مستحب ناداه بكنيته، وعلى كلٍّ فالفيْصل أن تنادي أخاك المؤمن بأحب الأسماء إليه، هناك من يحب أن تناديه بكنيته ؛ يا أبا فلان، أو ابن فلان، وهناك من يحب أن تناديه باسمه، وهناك من له اسمٌ مركَّب، محمد سعيد، فلا يحب أن تناديه إلا بالأول، محمد، أو بالاسمين معاً محمد سعيد، وعلى كلٍ ينبغي أن يكون اختيار الاسم الذي تنادي به أخاك جزءًا من استقامتك، ومن اقتدائك برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن تختار أحب الأسماء إلى إخوانك، أما هذا الذي يناديهم بأبشع الأسماء، وبالألقاب التي غير مستحبةً فقد خالف سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام في هديه، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ: (( لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ))
(رواه الترمذي)
إذاً إنّ جزءًا من استقامتك، ومن اقتدائك برسول الله عليه الصلاة والسلام أن تحسن اختيار الأسماء التي تنادي بها إخوانك، أما إذا كنت معلِّماً، وفي طلاَّبك اسمٌ غير مستحب، فعليك أن تبدل اسمه إلى اسمٍ مستحب، وهكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى كلٍ أن تنادي أخاك بأحب الأسماء إليه فهذا من التكريم، ومن التحابُب، ومن التواصل، وإدخال السرور عليه.
فمثلاً إذا كان أحدكم يكتب أسماء إخوانه، فلان أبو وائل، فليكتب كنيته، لعله يطرب أن تناديه بكُنيته، فلان اسمه محمد سعيد، لعله يستحسن أن تناديه باسمه الأول، أو الاسمين معاً، وعلى كلٍ إنّ جزءًا من استقامتك، ومن تأسِّيك برسول الله عليه الصلاة والسلام أن تطلق الأسماء المحببة على إخوانك، أما إذا كنت قَيِّماً ومشرفاً، وكان لأحد طلاَّبك اسمٌ قبيح، وثمة أسماء ليست معقولة ؛ كعدوان، عربش، سَرْجنها، فالأفضل أن تختار الأسماء الطيبة، أو أنْ تتحاشى هذه الأسماء.
وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتحسين الأسماء، فروى أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَحَسِّنُوا أَسْمَاءَكُمْ))
وهذه لفتة لطيفة، فإن اسمك هذا تُعرف به في الدنيا والآخرة، لذلك ينبغي أن يكون الأب معتنياً بتسمية أبنائه، لأنّ جزءًا من حقوق ابنك عليك أن تُحسن اسمه، والذين يعملون في التعليم يعرفون الحرجَ الشديد الذي يُصَبُّ على أطفالٍ بريئين لهم أسماء تثير الضحك والاشمئزاز، فهم يصبحون بها محطَّ سخريةٍ بين زملائهم، (( إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَحَسِّنُوا أَسْمَاءَكُمْ))
وعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ـ من الهمة ـ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ))
(رواه أبو داود)
الحارث هو الكاسب، والهَمَّام الذي يهم مرةً بعد مرة، وكل إنسانٍ لا ينفكُّ أن يكون كاسباً لرزقه، ويهُمُّ في مسعاه مرةً بعد مرة.
الاسم الكريم كما يقولون يُشْعِرُ بكرامة المُسمى، وبالمناسبة كل واحد له اسم، ومن توفيقه في الحياة، ومن نجاحه فيها أن يكون هناك حدٌ أدنى من المطابقة بين اسمه وبين صفاته، فلا ينبغي أن يكون سعيدٌ شقياً، ولا ينبغي أن يكون كاملٌ ناقصاً، ولا ينبغي أن يكون كريمٌ بخيلاً، فمن المفارقات أن يكون هناك تناقضٌ بين معنى الاسم، وبين صفة المُسمى، والأكمل أن يكون هناك توافقٌ بين الاسم وبين المُسمى، وهناك من يقول: لكل إنسانٍ من اسمه نصيب.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يغيِّر الاسم القبيح إلى الاسم الحسن، فعَنْ عَائِشَةَ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُغَيِّرُ الِاسْمَ الْقَبِيحَ))
(رواه الترمذي)
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ (( أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةُ فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيلَةَ))
( رواه مسلم)
إذاً من حق ابنك عليك أن تحسن اسمه، والآن في الأسواق كتب فيها آلاف الأسماء ؛ أربعة آلاف، أو خمسة آلاف اسم، فإذا أنجب الإنسان مولودًا، فيجب أن يبذل جهداً كبيرا ومتقناً في اختيار اسم ابنه، لأن هذا الاسم يصبح علماً على ابنك طوال حياته، وحتى في الآخرة، هذا فلان ابن فلان، كما جاء في الحديث.
* * * * *
وننتقل إلى موضوعٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو:
حبه صلى الله عليه وسلم للفأل الصالح وكراهيته للتطير
فقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ))
فكيف ينفي النبي صلى الله عليه وسلم العدوى مع أنها واقعة، ثابتة في الطب ؟! وهناك أمراضٌ مُعديةٌ، وهناك أمراضٌ ساريةٌ، وهذا شيء لا يستطيع أحدٌ أن ينكره، فكيف ينفيه النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وكيف يقول: " لا عَدْوَى " ؟
ثم كيف يقول في أحاديث أخرى عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(( إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا))
( صحيح البخاري )
والحقيقة هذا الحديث من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، ومن قديم الزمان معروفٌ أن الإنسان إذا دخل إلى بلدةٍ موبوءةٍ فربما أصيب بهذا المرض، كبلدة موبوءة بالطاعون إذا دخلها في الأعم الأغلب يصاب بهذا المرض بالعدوى، أما أن يشير النبي قبل ألفٍ وخمسمئة عام إلى أن هناك إنساناً يحمل المرض وليس مريضاً، فإذا خرج من بلدةٍ فيها طاعون، ربما كان يحمل جرثوم الطاعون في مفرزاته، ومقاومته عاليةٌ جداً، هو معافى منه، ولكنه يحمل هذا الجرثوم، فإذا كنتم في بلدٍ موبوءٍ فلا تخرجوا منه.
وهذا الحديث يتوافق مع أحدث معطيات الطب في موضوع العدوى، فلا ينبغي لك أن تدخل بلدةً موبوءة، ولا أن تخرج من بلدةٍ موبوءة، ولو كنت صحيحاً، فربَّما كنت تحمل المرض ولست مريضاً، والنبي أشار إلى أرقى الحقائق التي عرفها العلم الصحيح، فكيف يقول النبي عليه الصلاة والسلام: " لا عدوى " ؟
الجواب: إنّ النبي لا ينفي العدوى ؛ ولكن ينفي أن يكون المريض بمرضٍ معيَّن هو الذي أحدث هذه العدوى، واللهُ جلَّ جلاله سمح لهذا المرض أن ينتقل من زَيْدٍ إلى عُبيد، فالإنسان إذا أصيب بمرض بسبب اتصاله بزيد أو عُبيد، فلا ينبغي له أن يعزو هذا المرض إلى زيد أو عبيد، لئلا تقع الأحقاد، ولصون التوحيد، أي لا عدوى، خُذ الأسباب، ولكن لا سمح الله إذا مرض الإنسان فلا ينبغي له أن يقول فلان أمرضني يقول: مرضت، كما قال إبراهيم عليه السلام:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾
(سورة الشعراء)
(( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ))
الطِيَرةُ بكسر حرف الطاء وفتح الياء التشاؤمُ، والعرب كانوا إن طار طائرٌ عن يمينهم تفاءلوا، وإن طار طائرٌ عن شمالهم تشاءموا، فالطائر الذي يطير عن اليمين اسمه السانح، والطائر الذي يطير عن الشمال اسمه البارح، فإذا طار طائرٌ عن شمالهم تشاءموا، وهذا التشاؤم ليس له أصل إطلاقاً، ولا ينطبق على الحقيقة، وهو من فعل الشيطان، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يتشاءم ؛ لا من رقم، ولا من يوم، ولا من شخص.
﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾
( سورة يس: من الآية " 19 " )
فالإنسان أخطاؤه وذنوبه تسبب له المتاعب ؛ واستقامته وإخلاصه تسبب له البهجة والسعادة، فسعادتك منك، وشقاؤك منك، ولا علاقة لأحدٍ بذلك، وهذه هي الحقيقة، أما أن تعزو هذا الشر إلى فلان، وهذا الشر إلى هذا الرقم، وهذا الشر إلى هذا اليوم، وهذا البيع الذي لم ينعقد إلى فلان، لما دخل لم ينعقد البيع، فهذا كله كلام لا معنى له، أما الذي يقرأ في الأبراج في المجلات فقد وقع في الكفر، وهو لا يدري، لأنَّه: (( مَنْ أَتَىْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))
( من سنن ابن ماجة: عن " أبي هريرة " )
وهذه كهانةٌ لا معنى لها.
وعَنْ صَفِيَّةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))
(رواه مسلم)
ولذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (( لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ))
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالَ وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ))
فمثلاً فلان مريض، وأنت تعرف أن في ناسًا ماتوا بهذا المرض، وناسًا عاشوا، ومّد الله في عمرهم، وزرت مريضًا بهذا المرض، فما الذي ينبغي لك أن تقوله ؟ أن تذكر له أشخاصاً أصيبوا بهذا المرض، وشفاهم الله، وهم في صحةً تامة، هذا هو الكلام الطيِّب، نَفِّس له في الأجل، فهناك أشخاص دائماً سودُ المزاج، يعطيك أحدهم الصورة القاتمة، ويُنْبِئُكَ بالشر المُحَتَّم، فهذا الإنسان يخالف سنة النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يحب الفأل، ويحب لك أن تتفاءل بالخير.
ومرة أحدهم سمع كلمة مفادها أنه بعد عامين، لن يكون هناك أي مجال لعمل خاص، وعنده معمل، فما زال الهم يأكل من قلبه حتى أصيب بمرض عُضال، مع أن هذا الكلام لم يطَبَّق، وما من وقتٍ نشط فيه العمل الخاص كهذه الأوقات، فإنسان يأخذ كلمة قد يسبب بها لنفسه متاعب كثيرة، ويصدقها، ويلغي التفاؤل من حياته، فهذا إنسان غير عاقل.
فدائماً أو أحياناً يقول لك: الجفاف حل في بلادنا، ثم نفاجأ أن هناك أمطاراً غزيرة، وأنا أذكر مرة بلغ الجفاف درجة أن معدل أمطار دمشق السنوي أصبح مئة وستين، مئة وأربعين، استمر سبع سنوات، أو ست سنوات، حتى قيل: إن خطوط المطر انتقلت وتبدَّلت، ثم نفاجأ في عام بثلاثمئة وخمسين مليمترًا، والعام الثاني بثلاثمئة وعشرة، والعام الثالث بمئتين وستين، وهذه السنة مئتان وستون، فالإنسان لا ينبغي له أن يتشاءم بالأمطار، ولكن عليه أنْ يتفاءل بالمواسم بالمستقبل.
وهناك إنسان ينتقي من الأخبار التي سمعها المظلمةَ منها، فيلقيها ويكبِّرها، حتى يُشعر الناس باليأس، وليس هذا هو الإيمان، بل الإيمان أن تُلقي الخبر الطيِّب، والخبر المُريح، وأن تختار من بين الأخبار كلها الخبرَ الذي يثلج الصدر.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه الفأل الصالح، أي الكلمة الحسنة المبشرة بالخير، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه إذا خرج لحاجةٍ أن يسمع: يا راشد، يا نجيح، أي يا راشد في مسعاك، ويا ناجح فيما أنت فيه، كان يعجبه أن يُسمع طالب الضالة يا واجد، فإذا بحث الإنسان عن ضالته قيل له: يا واجد، وأن يُسمع التاجر يا رازق، وأن يُسمع المسافر يا سالم، وقاصد الحاجة يا نجيح، والغازي يا منصور، والحاج يا مبرور، والزائر يا مقبول، إنسان سيسافر قل له: رافقتك السلامة، أما أن تقول له: مسافر بالطائرة، والله شيء مخيف، إذا وقعت مات كل من فيها، ومات جميع ركابها، فهذا كلام لا يجوز، دائماً اختَر الخبر الطيِّب، ولطيف الكلام.
والله إنّ المؤمن لطيف يختار أجمل الكلمات وقد حدثني أخ طبيب، وهو أستاذ في الجامعة فقال لي: عندي طالب في آخر سنة عنده امتحان فغاب، وهو امتحان شفهي، التقى به بعد أيام فسأله: لمَ لمْ تأت ؟ فقال له: أنا لن أحضر، لماذا يا بني ؟ قال له: أنا مصاب بمرض خبيث، وقد وقَّت لي الأطباء أشهرًا عدة أموت بعدها، فماذا يعني الامتحان بالنسبة إلي ؟ وهو يدرس بأعلى صف، امتحان شفهي، ثم تخرُّج، قال لي هذا الصديق: فما زلت أقنعه أن يقدِّم الامتحان، حتى قلت له: واللهِ لن أسألك ولا سؤالاً، لكن تعال فقط ؟ قال له: ولِمَ ؟ فقال له: لو أنك متَّ يكتب على نعيك: الدكتور فلان.
فقال لي: بعد لأْيٍ، وبعد إقناعٍ شديد جاء وقدَّم امتحانًا، ولم يسأله ولا سؤالاً، بل رَقَّ لحاله وليأسه ونجَّحه.
يقول لي: بعد ست سنوات رأيته في الطريق فصعقت، فسألته عن حاله قال: والله ذهبت إلى بلدٍ أجنبي، وأجريت فحوصاً دقيقة، فإذا أنا مصابٌ بمرضٍ يشبه أعراض المرض الخبيث تماماً، إلا أنه التهاب حاد بالأمعاء، وشفيت من هذا المرض.
فالعوام يقولون: الذي عند الله ليس عند العبد، ومهما كان الخبر قاسياً، ومهما كان التشخيص مخيفاً، ثق بالله عز وجل، بل إن الأطباء يقولون: إن ارتفاع معنويَّات المريض أحد أسباب شفائه.
ولذلك فالتفاؤل والاستبشار بالخير محمودٌ شرعاً، فأحياناً تكون كل الطرق مغلقة أمام الإنسان، وفجأةً تفتح الطرق كلها، يكون أمل الزواج منعدمًا، فلا بيت عنده، ولا عمل، فيتوظف براتب كبير، ويجد بعدها بيتًا، و هناك أخ كريم يسكن خارج دمشق، وله قريبة ساكنة في بيت بحيٍّ ممتاز، والبيت كبير وفارغ تقريباً، وهي ساكنة في غرفة واحدة مفصولة عن ذلك البيت، وعرض عليها طويلاً أن تؤجره هذا البيت فرفضت، وهو يسكن في مكان بعيد، ومرةً دخل أحد اللصوص إلى البيت واقتحمه عليها، فخافت، فبحثت عن قريبها وقالت: تعال اسكن هنا في البيت، فالله أرسل لصًّا لهذه المرأة، فدفعها إلى أن تأتي بقريبها، ويسكن معها في البيت في حيٍ جيد.
فالأمور تبدو مغلقة، والطرق مسدودة، والأمور صعبة المنال، والحاجات متأبِّية، وفجأةً تُسَهَّل، وإنّ الله عز وجل إذا أعطى أدهش، فتجد شخصًا لا يملك شيء، اشتغل، ونال شهادات عليا، وتزوج، وسكن بيتًا له، وتاجر، وربح، فلا يكاد يصدق نفسه.
ولذلك فالتفاؤل والاستبشار محمودٌ شرعاً، أما التطير بمعنى التشاؤم فهو منهيٌ عنه شرعاً، واحد توفي وترك خمسة أولاد أيتامًا، وله أخ فقير، ولهذا الأخ الفقير شيخ، فجاء هذا الأخ ـ العم ـ إلى شيخه يبكي، فقال له: أخي مات وترك لي خمسة أولاد، ولا أملك قوتاً لهم، فقال له الشيخ: ألا تملك شيئاً ؟ قال له: أملك شيئًا يكفي سبعة أشهر، قال له: جيد، بعد أن ينتهي ما بيديك ابدأ بالبكاء، فما زال الوقت طويلاً على البكاء، وقد قالوا: إنّ هذا الإنسان عاش خمسة أشهر، بكى خوفاً من ضيق ذات يده، والأجل لم يمهله حتى يبلغ هذا الوقت.
التطير بمعنى التشاؤم، منهيٌ عنه شرعاً، وكان عليه الصلاة والسلام يتفاءل ولا يتطير، وكان يحب الاسم الحسن.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ))
ومع ذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ))
(رواه أحمد)
فر من المجذوم، وخذ بالأسباب، أما إذا وقع المرض فقل: هو من الله، لا من زيد ولا من عُبيد، وإيَّاك أن تشرك.
أي إن النبي عليه الصلاة والسلام نفى تأثير العدوى بذاتها، بل إن الله سبحانه وتعالى إذا أذن وقعت العدوى.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا - وهذا شيء واقع - فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ))
أول جمل أصيب بالجرب من أصابه بهذا المرض ؟ الله جل جلاله، فقد أراد النبي أن نوحِّد لا أن نشرك.
أما الفرار من المجذوم فواجب، لأنك إن فررت منه فقد أخذت بالأسباب، أما إذا أصبت بمرضٍ ـ لا سمح الله ـ فينبغي لك أن تعزوه إلى الله، أمَا:
(( لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ))
قال: هو اسمٌ لطيرٍ يتشاءم به الناس، يسكن في الأماكن الخربة، ويصيح ليلاً هو البوم، هناك أناسٌ يتشاءمون من البوم، اسمه هامة، قال: (( لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ))
وأحياناً العوام يتشاءمون من قطة سوداء، هذا كله ليس له أصل.
(( وَلَا صَفَرَ))
وكان أهل الجاهلية يحلون صَفَرَ عاماً ويحرِّمونه عاماً، فقال عليه الصلاة والسلام: (( وَلَا صَفَرَ))
حتى شهر معين، ليس هناك تشاؤم من شهر معين.
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ أَحْمَدُ الْقُرَشِيُّ قَالَ ذُكِرَتْ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
(( أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ))
(رواه أبو داود)
أما الآن الحديث الدقيق الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ قَالَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ))
أحدهم مسافر فتشاءم من رقم، حجز بالطائرة فكان مقعده رقم ثلاثة عشر، فألغى السفر، فإذا ألغى السفر من رقم ثلاثة عشر، أو من يوم الأربعاء، أو من شخص رآه بعينه، أو من طائر معيَّن، أو ألغى إقدامه على حاجة لسبب تشاؤمي فقد قال عليه الصلاة والسلام: (( فَقَدْ أَشْرَكَ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ قَالَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ))
(رواه أحمد)
لا يوجد إلا الله عز وجل، يجب أن نعتقد هذا الاعتقاد يقيناً، وأي اعتقاد آخر فهو نوعٌ من أنواع الشرك.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمُّن في شأنه كله، فقد روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ))
وفي رواية أخرى للبخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ))
أي أن يبدأ باليمين.
هذا نظام فابدأ باليمين، فإذا كانت الأفعال تنجز باليد، كان عليه الصلاة والسلام يبدأ باليد اليمنى، يستخدم اليد اليمنى، وإذا كانت الأفعال تدرك بالرِجل استخدم رجله اليمنى، والحكمة أنه من باب تكريم اليمين، والتفاؤل الحسن، فإن أصحاب اليمين هم أصحاب الجنة، يؤتَوْن كتابهم بأيمانهم..
﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾
( سورة التحريم: من آية " 8 " )
وهذا نظام المجتمع المُسلم، نبدأ باليمين ؛ في الدخول والخروج، و الجلوس والقعود، والطعام والشراب، واللباس، فالنبي عليه الصلاة والسلام بهذا النظام ألغى الفوضى، سن البدء باليمين ورجحها على الشمال لما تقدم، فكان عليه الصلاة والسلام يبدأ باليمين في طهوره، أي تطهره، وهذا يشمل الوضوء والغسل والتيمُّم ـ في الوضوء والغسل والتيمم يبدأ في اليمين ـ وفي ترجُّله ـ أي تمشيط شعره ابدأ بالقسم الأيمن ـ وفي تنعُّله ـ ابدأ بلبس نعلك الأيمن ـ وفي سواكه ـ ابدأ بالجانب الأيمن ـوفي شأنه كله، وكان عليه الصلاة والسلام يحب التيمُّن، فيأخذ بيمينه، ويعطي بيمينه، ويحب التيمُّن في جميع أمره.
قال الإمام النووي: هذا محمولٌ على باب التكريم والتزيين، كالأخذ والعطاء ـ الأخذ باليمنى، والعطاء باليمنى، ودخول المسجد بالرجل اليمنى، ودخول البيت باليُمنى، وحلق الرأس، وقص الشارب ابدأ باليمين، وتقليم الأظافر ابدأ باليمين، ونطف الإبط ابدأ باليمين، والاكتحال بدأ باليمين، والاضطجاع على اليمين، فكلْ بيمينك، واشرب بيمينك، وهذا شأن النبي عليه الصلاة والسلام ـ أمّا ما لا تكريم فيه ولا تزيين، أو كان من باب الإزالة، فيؤخذ باليسار إكراماً لليمين.
فكانت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى، فاليسرى للخلاء، والتنظيف، وإزالة النجاسة، واليمنى للأخذ، والعطاء، والطعام، والشراب، والمصافحة، وسائر الشؤون.
وعَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ))
(رواه أبو داود)
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ))
(رواه البخاري)
وقد روى ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ))
وقد روى الإمام مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ))
آخر قصة... روى الشيخان واللفظ للبخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (( أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ دَاجِنٌ وَهِيَ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ عُمَرُ وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْأَعْرَابِيَّ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ فَأَعْطَاهُ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ))
وسيدنا الصديق سيد المؤمنين، على الشمال جالس، وعلى يمينه أعرابي، ومرة غلام على يمينه، فاستأذنه، فلم يسمح الغلام إلا أن يشرب بعد رسول الله، نظام مريح، الأيمن فالأيمن.
قال الحافظ في الفتح: يقدَّم من على يمين الشارب في الشرب، ثم الذي على يمين الثاني، وهَلُمَّ جرًا، وهذا مستحبٌ عند الجميع.
وقال ابن حزمٍ: يجب بالضيافة، فابدأ بكبير القوم، ثم الذي على يمينه، وهكذا إلى أن تأتي على كل الحاضرين.

والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:31 PM   #25


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السادس و العشرون )

الموضوع : كراهيته إطلاق بعض الكلمات بغرض إبهامها - عبادته





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام... مع الدرس السادس والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى كراهيته صلى الله عليه وسلم إطلاق بعض الكلمات مخافة إيهامِها.
فقد جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي))
فإذا شعر باضطرابات في أمعائه فلا يقولنّ أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي، أي إن النبي عليه الصلاة والسلام كره أن يوصف المؤمن بالخبث، وبعض علماء المواريث يقولون: جدةٌ فاسدة، فلعل الإنسان يتوهم أنها فاسدة بالمعنى المعروف، وإنما المقصود الجدةُ التي عن طريق الأب، مثل أم أب أم، فهي ليست من طريق الأم، وبعضهم يقول: جدةٌ غير ثابتة، فالإنسان كلما ارتقى إيمانه ارتقى مستوى تعبيره، وأحسن اختيار كلماته، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي... ))
فإذا شعرت باضطرابات في الهضم والأمعاء، فهو ليس خبيثاً، والمرض ليس خبثاً، كان يبدو في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إذا شعر الإنسان بآلام في معدته، أو باضطراب، أو بتُخمة يقول: خبثت نفسي، فالنبي ما أراد أن يوصف المؤمن بالخبث قال: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي))
وإذا أردنا أن نستنبط من هذا الحديث الشريف قاعدةً فإنها: " حسن اختيار الكلمات جزءٌ من دينك "، وكلما ارتقى إيمانك اخترت الكلمة التي لا تخدُش، ولا توهم بشيء، وسيدنا عمر تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يشعلون ناراً فقال: (( السلام عليكم يا أهل الضوء))
ولم يقل: السلام عليكم يا أهل النار، و أيضاً هذا من حسن اختيار المؤمن للكلمات، فليس غريباً أن تعيش مع مؤمنٍ سنواتٍ طويلة، ثلاثين عاماً، لا تسمع منه كلمة نابية، ولا كلمةً تجرح الحياء، ولا كلمة توهم بخلاف ما أردت، كان عليه الصلاة والسلام يقول: (( تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلا هَالِكٌ))
( من مسند أحمد: عن " العرباض بن سارية " )
كان عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يتوهم متوهمٌ شيئاً ليس واقعاً، فَعَنْ عَلِيِّ بِنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (( أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَان
َ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا))

( متفق عليه)
تعَوَّدْ أن تبيِّن، فإنّ البيان يطرد الشيطان، وقِسْ على هذا الحديث آلاف الحالات، وضِّحْ أين كنت، ولماذا أتيت في هذا الوقت، وما قصدك من هذه الكلمة، وما قصدك من هذه الزيارة، ولماذا أعطيت، ولماذا منعت، لا تكن مُبهمًا، هناك شخصيات مبهمة، لا تعرف، وقد يسئ الناس بها الظن، وسيدنا علي يقول: (من وضع نفسه موضع التهمة، فلا يلومنَّ الناس إذا اتهموه).
فلو فرضنا أنك في بيت، فدخلت على الأهل ـ على الحريم ـ وهذا ليس بيتك، وأنت مع أصدقاء، فيجب أن تعلمهم أن هذا بيت أختك، أنا داخلٌ على أهلي، أحياناً الإنسان يستغرب، سبعة رجال في جلسة، وصاحب البيت موجود، قام رجل ودخل، أين ذاهب ؟ وثمة نساء، فيجب أن تعلم أنّ فلانًا زوج أختي، فدائماً وضِّح، ولا تجعل العدو يفسر عملك الطيب بتفسير خبيث، وهذه لها تعريف آخر، وإذا كنت موفقاً وذكياً، فلا تفعل شيئاً له تفسيران، اجهد على أن يفهم من عملك الحقيقة التي هي عليه، أو هو عليها.
خبثت نفسي، كيف خبثت ؟ هل ارتكبت المعاصي ؟ لا، لا معي اضطراب في الأمعاء، ففي هذه لا تقل: خبثت نفسي، قل: لقست نفسي، أعاني من اضطرابات هضمية، أما فلان نفسه خبيثة، أي يشعر بآلام في معدته، وهذا كلام لا يليق.
وفي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ جَاشَتْ نَفْسِي وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي))
وبعضهم يستخدم كلمات سوقية، أو كلمات ليست مستعملة في المجتمع الراقي، فإذا قال واحد: دخل الحمام، والله كلمة لطيفة، وهناك كلمات أخرى تخدش الحياء، إنسان قضى حاجة، فقل: دخل الحمام، والقرآن علمنا الكنايات اللطيفة..
قال تعالى:
﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾
( سورة النساء: من آية " 43 " )
وقال أيضا:
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً﴾
( سورة الأعراف: من آية " 189 " )
تغشاها، لامستم النساء.
وقال عزوجل:
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)﴾
( سورة المؤمنون )
فيجب أن تعد كلامك جزءًا من عملك، والإنسان كيف يتجمَّل، يلبس، ويتعطر، ويرتب بيته، فكما تعتني ببيتك، وبأثاث بيتك، وبهندامك، وبمركبتك، فعليك أن تعتني بألفاظك.
أحدهم رأى شابًا يرتدي أجمل الثياب، ويتكلم أقبح الكلمات، فقال له: إما أن ترتدي ثياباً تشبه كلامك، وإما أن تتكلم كلاماً يشبه ثيابك، ففي سيرته تناقضٌ.
وقال الإمام النووي: قال العلماء: معنى لقست وجاشت أي غثيت، وهو الشعور بالغثيان، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم كلمة خبُثت لأنه ما أحب أن يوصف المؤمن بالخبث.
هل هناك آيةٌ في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، أن يختار الإنسان أجمل الكلمات وأحسنها ؟ قال رنا عزوجل:
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
( سورة المؤمنون: من آية " 96 " )
أي اختر أحسن الكلمات، فلو اعتدى عليك إنسان، وقسا عليك بالكلمات، رُدَّ عليه بأحسن الكلمات، مثلاً: من ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقول العبد لسيده: يا ربي، ربك هو الله، فهذا سيّدك، ومعلمك، وليس ربك، ولذلك فأنا لا أستسيغ كلمة أرباب الشعائر الدينية، أرباب جمع رب، خدام المساجد ليسوا أرباب الشعائر الدينية، هم موظفون على العين والرأس، يخدمون بيوت الله، أما أرباب !! فلا تليق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ وَضِّئْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي))
( من مسند أحمد )
كلمة عبدي فيها استعلاء، وكلمة ربي فيها تذلل، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يقول العبد لسيِّده ربي، بل يقول: سيدي ومولاي، ونهى أن يقول السيد لغلامه: عبدي أو أمتي، وليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، إذاً فالكلمات لها أثر في إهانة المخاطب، أو في تأليه المخاطب، فلا تؤلِّه مَن هو فوقك، ولا تستعبد من هو دونك.
والإمام مسلم رحمه الله تعالى روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي))
( مسلم )
لمخلوقٍ إياك أن تقول له: ربي، ولو قلت له: سيدي، وأنت تراه رباً لك، فأيضاً هذا خطأ، والآن دعنا من الألفاظ، إذا رأيت أن فلاناً الكبير بإمكانه أن ينفعك أو أن يضرك، أو أن يقربك أو أن يبعدك، ولو قلت له يا سيدي، فقد ارتكبت إثمًا أكبر، لأنك ألَّهته بالمعنى، وأنت لا تدري، ولذلك عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ))
( مسند أحمد )
وفي روايةٍ أخرى يقول عليه الصلاة والسلام يقول: (( لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
وكلكم يعلم في الدعاء الشريف: (( اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ))
( من مسند أحمد: عن " عبد الله بن مسعود " )
إذاً: (( لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
الحكمة أنه منع السادة أن يتألَّهوا، ويتجبروا، ومنع الصغار أن يُستعبَدوا ويهانوا.
ومن ذلك أيضاً تحذيره صلى الله عليه وسلم أن يقول: هلك الناس، الناس لا يوجد فيهم خير، الناس كلهم فسقوا، الناس كلهم فسدوا، لا يوجد غيرنا، من السذاجة أن تظن ذلك، (( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
أي هو أشدهم هلاكاً، من قال هلك الناس، الدنيا بخير، وهناك أُناسٌ طيِّبون، وفي كل بلدةٍ أناس طيبون، فهذا الذي ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود، ويلقي على نفسه كل فضيلة، وينزعها من كل إنسانٍ آخر، هذا إنسان غير سوي، يحتاج إلى معالجة، ولذلك نهى فعليه الصلاة والسلام وحذر أن يقول الرجل هلك الناس، وهو يريد بذلك انتقاصهم واحتقارهم، و تنزيه نفسه وتفضيلها عليهم، لا تقل: هلك الناس.
فسبحان الله هناك أشخاص لا يرون الكمال إلا فيهم، ومهما رأوا من كمال في غيرهم يرونه نقصاً، فهذا إنسان يحتاج إلى طبيب نفسي، لأنه هو مريض، ويرى الكمال في نفسه وحدها، وما سواه كلهم في نقصٍ شديد.
فلذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (( إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
في رواية: (( مِنْ أَهْلَكِهِمْ))
هو أهلكهم، وأشدهم هلاكاً، ومِن أهلكِهم، وسبحان الله هذا الذي يكَفِّر الناس ويفسِّقهم يقع في شر عمله، ربما فُضِحَ في عقر داره، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ))
(رواه الترمذي)
وفي رواية أبي داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ))
ودائماً يوزع تهمًا على الناس، ويقيِّمهم تقيماً سيِّئاً، ويسئ الظن بالآخرين، ويحسن الظن بذاته، وربما وقع هذا الإنسان في شر عمله، وزلت قدمه فوقع في حماقةٍ يترفَّع عنها معظم الناس الذين اتهمهم بالسفه.
وبالمناسبة اللهم صلِّ عليه هو أعظم إنسان، هو البطل الذي جمع كل نواحي العظمة، ومع ذلك ما غفل أبداً عن بطولة أصحابه، أعطى كل صحابيٍ حقه، فإذا كنت في عمل ولك زميل، وأنت مهندس وثمة مهندس غيرك، أو كنت مدرسًا وثمة مدرس غيرك، ووجدت من صديقك أو زميلك تفوقاً، فما الذي يمنعك أن تذكر هذا التفوق، وألاّ تحسده، عوِّد نفسك أن تعترف للآخرين بالفضل، وتُثني على أعمالهم، وألاّ تكون ذا أثرة، وأن تكون موضوعياً، فأنت مهندس وقدم لك مهندس مشروعًا رائعًا فقل له: والله هذا شيء رائع، بارك الله بك، إنه شيء يرفع الرأس، هنيئاً لك على هذه الملكات، عود نفسك أن تقدِّر عمل الآخرين، أما مَن كان أفقه ضيقًا، والحسد يأكل قلبه فلا يستطيع أبداً أن يقدِّر الآخرين، بل ينتقصهم، ويبحث عن زلاتهم، وأحياناً يوجد إنسان يقرأ كتابًا لا لشيء إلا ليبحث عن نقاط ضعفه، ليس هذا مثقفاً، أما المتعلم الحقيقي فيقرأ الكتاب ليستفيد منه، وقد يغُضُّ الطرف عن بعض زلات المؤلف، ويقول لك: العصمة لله، وما منا إلا من رَدَّ ورُدّ عليه، فخذ ما يعجبك ودع ما لا يعجبك، وخذ ما تستفيد منه ودع ما لا تستفيد منه، وخذ الأشياء المشرقة، ودع الأقل إشراقًا.
أما الحقيقة فهناك أناس كثيرون إذا أمسك أحدهم كتابًا فقط ليبحث عن العلل، والأخطاء، والثغرات، فهذا إنسان مريض، يتعامى عن إيجابيات الكتاب، ويتعامى عن فكره العميق، وعن أسلوبه الرفيع، لكنه وجد خطأً، كأنه فاز بشيء، فالنقد جيد، ولكنه النقد المعتدل، والنقد البنَّاء، والذي فيه ثناء.
أنا كنت أذكر لكم ذلك الذي دخل إلى المسجد، وأحدث جلبة وضجيجًا، وشوش على المصلين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: (( زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ))
( من سنن البخاري: عن " أبي بكرة " )
وإذا كنت مدير دائرة، أو مدير ثانوية، أو مدير مستشفى، بمنصب قيادي، ووجدت إنسانًا أخطأ معك، فأساء، أو تأخَّر، فحاوِلْ أنْ تقدَّم له شيئًا من ميزاته، وإيجابيَّاته، لكي يطمئن، وتجبر قلبه، وبعد ذلك اذكر بعض عيوبه، ولا تذكر العيب إلا بعد أن تذكر الحسن، ولذلك في أدق تعاريف النقد الحديث ذكر الحسنات والسيئات، وذكر الإيجابيَّات والسلبيات، وذكر المنائح والمثالب، أما أن تكتفي بالمثالب وبنقاط الضعف فهذا بعيد عن الاستقامة.
قضية يسمونها سمة بالإنسان، إنسان دخل بيته فوجده نظيفًا، والطبخ جاهز، وغرف النوم نظيفة، والأولاد منتظمون، وجد غلطة واحدة، فتعامى عن كل الإنجازات، ونظر إلى هذا الخطأ وكبَّره، فهذا إنسان شقيٌ في حياته، ويَشقي مَن معه، كن إيجابيًا، وخذ النواحي الإيجابية وكبَّرها، كان يحسِّن الحسن عليه الصلاة والسلام، ولذلك فأنجح الأزواج هؤلاء الذين يثنون على زوجاتهم بما هُو فيهن، أما ويبتعدون عن النقص، والغلط.
يروون قصة وهي طريفة عن أحد الأزواج المتعسفين الظُلاَّم الجبابرة، له كأس خاص له ـ كريستال ـ يشرب منه، فإذا دخل البيت وجب أن تكون امرأته وراء الباب، تحمل المنشفة والنعل الخاص بالبيت، فماذا يفعل ؟ يأتي بمنديل أبيض ويصعد إلى سطح الخزانة ويمرر المنديل عليه، فإذا تلوث هذا المنديل أقام عليها النكير، وأقام القيامة، ولم يقعدها، وله كأسٌ ثمينٌ، وغالٍ خاص به، فمرة طلب كأس ماء، فجاءته بهذا الكأس، شرب منه، وقع من يده على السجاد فانكسر، فابتسمت، فلما ابتسمت توعدها، لماذا ابتسمت ؟ وضيَّق عليها، وضغط، إلى أن قالت: واللهِ هذا الكأس وقع مني من رأس الدرج، ولم ينكسر، فسجدت لله شكراً خوفاً منك إذا انكسر، قال لها متعسف: أنت خَرِفة.
وهناك شخص جبار في البيت، ووجوده فيه مخيف، إذا خرج من البيت تنفس أهله الصعداء ؛ ويقولون: ارتحنا منه، وإذا مرض وجاء الطبيب وقال لهم: حالة بسيطة عرضية، انزعجوا كثيراً، ما هذه العرضية، ظنناها القاضية، فلم تكن القاضية، فشتان بين من يتمنى الناس بقاءه وحياته، وبين من يتمنى الناس موته، اجهد أن يتمنى الناس بقاءك، وأن يتمنى الناس حياتك.
والإمام النووي يقول: لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلَكُهُم، أي أسوؤهم حالاً فيما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أدَّى ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أن له فضلاً عليهم، وأنه خيرٌ منهم، فيهلكه الله عز وجل.
إخواننا الكرام... اسمعوا هذا الحديث، إنه حديثٌ خطيرٌ جداً: (( وله أيضا عن أنس رفعه لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك - يا رب ما هو الذي أشد ؟ - العُجب العُجْب))
(القضاعي عن أنس)
فهناك إنسان معجب بنفسه، وبشخصيته، وببيته، وبأولاده، يرى الناس كلهم أمامه لا شيء، فهذا إنسان مريض، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، فالناس أذكياء، ويعرفون الغث من الثمين، ويعرفون الصالح من الطالح، والخير من الشر، والمتواضع من المتكبِّر، ويعرفون الوقائع، أما إذا أردت أن تكون أنت في برجٍ عاجي بمعزل عن المؤمنين الطيِّبين، وظننت أنهم لا يفقهون ولا يعرفون، فمن ظن أن الناس أغبياء فهو أغباهم، "وليحذر المسلم أن يزكي نفسه وأن يحتقر غيره ".
فيا أيها الأخ اتهم نفسك بالتقصير دائماً وأبداً، وأحسن الظن بأخيك المؤمن، فهذا أكمل خُلُق، والمعاكس دائماً تحسن الظن بنفسك ؛ ولا ترى الأخطاء الكبيرة في شخصيتك، وتبحث عن أخطاء صغيرة في الآخرين، وهذا موقف مرضي، ومثل هذا الإنسان يحتاج إلى معالجة نفسية، ولذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا إذا رأى الرجلُ أخاه وقع في ذنب ماذا يفعل ؟ قال في الحديث الشريف: (( الذنب شؤم على غير فاعله، إن غيره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه))
(كنز العمال عن أنس)
يجب ألا تعيِّر، وألا تذكر، وألا تقره على عمله، ويجب أن تقول: الحمد لله الذي عافاني، وأرجو الله أن يهديه، فقط من دون أن تسمعه ذلك، إذا قلت: الحمد وهذا هو الموقف الصحيح، سمعت عن عالم بحمص رحمه الله تعالى، ما سُئل سؤالاً، وعزي الجوابُ إلى عالمٍ آخر إلاّ امتنع عن الإجابة عن هذا السؤال، لا تقل: قال فلان كذا فما رأيك ؟ هذه فتنة، ما قولك يا سيدي في هذا الموضوع ؟ هذا الجواب، أما: قال فلان كذا ماذا، فماذا تقول أنت ؟ فقد دخل الشيطان، سيدي أفتى بخلاف ما قلت، لم يرض ما قلت، لم يعجبه ما قلت، دخلنا في الفتنة، فلذلك كثير من طلاب العلم أقدر فيهم أنهم يجمعون ولا يفرقون، فهو ينقل من عالم لعالم أجمل صورة، ولا ينقل أسوأ صورة، ورد في الأثر عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ (( لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ))
(رواه مالك في الموطأ)
فهل أنت وصي عليهم ؟ أحد الدعاة قال: نحن دعاةٌ، ولسنا قضاةً، أنت لست قاضيًا، سبحان الله هناك كثير ممن يُنصِّب نفسه وصيًّا على المسلمين، فيوزِّع التُهم، ويقيِّم الناس، وهو لا يعرف قدر نفسه، فقد جاء في الأثر: (( وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ))
(رواه مالك في الموطأ)
إلا أن المؤمن لو رأى عاصياً فلا يحتقره، إنها معصية، ولكن ليقل: أرجو الله أن يتوب منها، وربما تاب العاصي وسبق الذي انتقده، الصُلْحَة بلمحة، فأنا لفت نظري اليوم في درس الطاووسية سحرة فرعون، هؤلاء أعوان فرعون، وأعوان الظلمة، كادوا لسيدنا موسى، وأرادوا أن يطفئوا نور الله، وأنْ يردوا الحق، فلما رأوا العَصَا انقلبت إلى ثعبانٍ مبين.. ماذا حصل ؟
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ﴾
﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾
( سورة طه )
فلو رأى مؤمن قبل ثانية سحرةَ فرعون يصنعون الحبال، ويهيئون الكيد لسيدنا موسى، ويعاونون فرعون لقال: هؤلاء كفار، ولكن بعد دقيقة صاروا صدِّيقين، وهذا الكلام أقوله لكم، فهل ترى إنساناً أسوأ من سحرة فرعون ؟ إنهم سحرة، ومن سحر فقد كفر، والساحر عون للظالم، يريد أن يكيد لهذا النبي الكريم، ولكن عندما أجرى محاكمة دقيقة جداً، ورأى أن هذا الذي جاء بهذه المعجزة هو رسول الله، انتهى الأمر، وآمنوا به خلال دقائق.
ولذلك قلت لإخواننا اليوم: العبرة لا لمن سبق بل لمن صدق، وهناك شيء في الإسلام اسمه حرق المراحل، في نظام التعليم لا بدَّ أن تمضي أربع سنوات كي تأخذ الإجازة في فرع معين، وفي بعض الدول الراقية ثلاث سنوات للأذكياء والمتفوقين، لكن يمكن عند الله عزَّ وجل أن تأخذ هذه الإجازة في ساعة، لأنّ المراحل تُضْغَط، فكلَّما ازداد الصدق قصُر الزمن، فسحرة فرعون في زمنٍ قياسيٍ وصلوا إلى ما وصلوا إليه في أعلى درجة، هذا الكلام الذي ذكرته الآن لا تحتقر حتى العاصي، فلعلَّه يتوب ويتفوق عليك، واسأل الله السلامة، فالعبد شأنه التواضع لا التكبُّر.
قال:
(( وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ))
(رواه مالك في الموطأ)
* * * * *
وننتقل إلى موضوعٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم ألا وهو:
عبادته صلى الله عليه وسلَّم
النبي صلى الله عليه وسلَّم نال أعلى مقامات العبادة..
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
( سورة الذاريات )
أنت في أعلى درجة من درجات الرُقي، وفي أعلى درجة تكون عبداً لله، وأعلى مقام تناله العبوديَّة لله، وحينما تكون عبداً لله يرفع الله لك ذكرك، فالقضية علاقة معكوسة، كلَّما ازددت تواضعاً لله رفع الله شأنك، وكلَّما تكبَّرت قصمك الله عزَّ وجل، فلذلك لا أجد على وجه الأرض إنسانًا أعزَّه الله كالنبي الكريم، وما على وجه الأرض إنسان أشد تواضعاً لله، وانصياعاً لأمر الله، وعبوديَّةً لله كرسول الله، فكلَّما ازددت خضوعاً زادك الله عزًّا، ولذلك فأحد الصالحين قال: " أنا أدخل على الله من باب الانكسار "، هذا الباب ليس عليه ازدحام أبداً، فأكثر الناس يقول لك: أنا داعية، أنا هديت الناس، أنا لي مؤلَّفات، أنا دكتور في كذا، دائماً يكبِّر حجمه ؛ إلا المؤمن الصادق الذي وصل إلى درجة عالية فإنه يصغِّر حجمه، والله سبحانه وتعالى يزيده عزاً بهذا التصغير، يقول الإمام الشافعي في كلمة مشهورة: " كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي "، ويقول ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: (( أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ))
(رواه البخاري)
وسيدنا حذيفة بن اليمان معه أسماء المنافقين، فمن سأله عن القائمة ؟ سيدنا عمر، قال له: " بربك اسمي معهم ؟ "، ما هذا الكلام ؟ سيدنا عمر عملاق الإسلام، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي ضرب للناس مثلاً أعلى في العدالة والتقشُّف يقول: " بربك اسمي مع المنافقين ؟ "، فهذا هو التواضع، المؤمن عبد لله عزَّ وجل، ليس عنده كبر، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَقَالَ:
(( أَيْ أُخَيَّ أَشْرِكْنَا فِي دُعَائِكَ وَلَا تَنْسَنَا))
( رواه الترمذي)
كان عليه الصلاة والسلام مَن رآه بديهةً هابه، فإذا عامله أحبَّه، المؤمن بسيط من الداخل، ليس فيه تعقيدات، ولا كهنوت، ولا تصنُّع، إنه بسيط، قال: كانت الجارية ـ الطفلة الصغيرة ـ تأخذ بيد النبي وتقوده فيدفعها حيث شاءت، جارية صغيرة، سيدنا الصديق له جيران فقراء يحلب لهم الشياه، تولَّى الخلافة، و غير معقول أنْ يتابع لهم هذه المهمَّة، ففي صبيحة اليوم الأول من توليه الخلافة طُرق باب أحد الجيران، وصاحبة البيت قالت لابنتها: افتحي الباب يا بنيتي، فلما فتحت قالت: من جاء ؟ من الطارق ؟ قالت: جاء حالب الشاة يا أماه ليحلب لنا، هو سيدنا الصديق نفسه.
هو على ناقته وقع منه زمامها، فنزل عن ناقته ليلتقط الزِمام، وحوله أصحابه وهو خليفة رسول الله وخليفة المسلمين، قالوا: نكفيك ذلك، قال: " لا.. أمرني حبيبي أن لا أسأل الناس شيئاً "، اخدم نفسك بنفسك، هكذا كانوا، سيدنا الصديق يمشي على قدميه، وسيدنا أسامة بن زيد الذي لا تزيد سنه عن سبعة عشرَ عاماً، قائد جيش المسلمين، يمشي في ركابه، سيدنا أسامة أديب قال له: " والله يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن ". فقال له: " والله لا ركبت ولا نزلت، وما عليَّ أن تغبَّر قدماي ساعةً في سبيل الله ؟ ".
فيا إخواننا تقرؤون عن الصحابة شيئًا لا يصدق ؛ مِن تواضع، وبساطة، وأدب، ومحبة لله عزَّ وجل، وورع.
فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان سيد العابدين، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
والعياذ بالله هناك فرقةٌ ضالةٌ تفهم هذه الآية على النحو التالي: أنه إذا بلغت اليقين سقطت عنك العبادة، لا، فاليقين في الآية هو الموت، أي واعبد ربك طوال حياتك، وعندما قال ربنا:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾
( سورة آل عمران )
ما معنى قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبهم ؟ أي دائماً، فالإنسان إما أنه واقف، أو نائم، أو مُضجع، أي دائماً..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
أي طوال حياتك إلى الموت، فأمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم في هذه الآية بأربعة أشياء ؛ أمره بالتسبيح، والتحميد، والسجود، والعبادة حتى الموت، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، والتحميد إثبات المحامد كلِّها لله عزَّ وجل..
﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)﴾
( سورة الحجر )
أي كن من المصلين، واللهُ ذكر السجود لأنه أبرز ما في الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، هذا في البلاغة يقال عنه: ذكر الجُزء وإرادة الكل، والإنسان بالسجود له أن يدعو الله كثيراً، لأنه أقرب حالة تكون فيها مع الله وأنت ساجد، فلذلك اغتنم هذا القرب بالدعاء..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
وهنا سؤال: لماذا سمَّى الله الموت يقيناً ؟ لسببين ؛ السبب الأول أن الموت متيقنٌ وقوعه..
كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى .. إلا ذو العزة والجبروت
* * *

كل مخلوقٍ يموت، متيقين وقوعه، ولا أحد على الإطلاق يجرؤ أن ينكر الموت، لكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن يستعد له، وغير المؤمن لا يستعد له، فالمؤمن أدخله في حساباته اليوميَّة، وأدخله في برامجه اليوميَّة، أما غير المؤمن فلا يستعدُّ له، هذه واحدة.
والثانية: عند الموت تتيقَّن ِمن كل ما جاء به الوحي، والقرآن بين أيدي الناس، بربكم لو أنهم تيقنوا ما فيه لما كانوا على ما هم عليه، أما الشيء الثابت فإنهم غير متيقِّنين، ولكن عند الموت كل شيء سمعته في القرآن، أو من السنة تتيقَّن به، وماذا يفيدنا هذا ؟ يفيدنا أن خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت، لا خيار قبول، أو رفض، فقد يقدَّم إليَّ كأس ماء، فأشرب أو لا أشرب، خياري مع هذا الكأس القبول أو الرفض، أما خياري مع التنفس فليس الرفض، إذًا أنا مع التنفس مقهور وإلا أموت، لكن خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت، إما أن تؤمن وأنت في الحياة الدنيا، وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان، والدليل ؛ أكفر أهل الأرض فرعون آمن، ولكن متى ؟ عند الموت، إذاً الإيمان حاصل، وبقي أنه ينبغي لك أن تؤمن قبل فوات الأوان، فخيارك مع الإيمان خيار وقت، وليس خيار قبول أو رفض.
إذاً سُمِّي الموت يقيناً لتيقُّن وقوعه، ولأن فيه اليقين..
﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
( سورة ق )
فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، وسأسمعكم كلمتين لسيدنا علي ؛ الأولى يقول: " والله لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً "، أي إنه بلغ درجة من اليقين قبل الموت، فيقينه بالحقائق قبل الموت، كيقينه بها بعد الموت، والكلمة الثانية: " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي "، فهذه درجة عالية جداً، إلى أقصى سرعة.
والآن القرآن كما قلت لكم: مثاني، ومعنى مثاني، أي إن كل آية تنثني على أختها فتفسرها، كيف عرفنا أن اليقين هو الموت ؟ من آية ثانية:
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)﴾
( سورة المدثر )
الموت. فاليقين هو الموت..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
اعبد ربك طوال حياتك، فقضية الدين ليست قضية مرحليَّة، نهائيَّة طوال الحياة.
وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري وأحمد عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا))
قالت واحدة: " هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله "، قال: (( وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ))
طبعاً التفسير الدقيق جداً: واعبد ربك مدة حياتك كلِّها دائماً دائباً، وهذا نراه في آية أخرى:
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً (31)﴾
( سورة مريم )
ورد في أثر مُرسل: (( ما أوحي إليَّ أن اجمع المال وكن مع التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبِّح بحمد ربك وكن مع الساجدين))
كن مع الساجدين لا مع جُمَّاع الأموال، بقي شيء ثالث مع العبادة، أولاً مدَّتها طوال الحياة، قال لك:
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾
( سورة مريم: من آية " 65 " )
من خصائص العبادة أنها ربما تتناقض مع طبع الإنسان، لأنّ الطبع يميل للراحة، والعبادة فيها جهد، والطبع إطلاق البصر، والعبادة غض البصر، والطبع قبض المال، والعبادة إنفاقه، والطبع إطلاق اللسان في عورات الناس، والعبادة ضبطه، فالعبادة ذات كُلفة، و سمي التكليف تكليفاً لأنه ذو كلفةٍ، ولذلك الآية الكريمة:
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65) ﴾
(سورة مريم)
والسيدة عائشة سُئلت عن عبادة النبي، كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟ فَعَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
(( هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ))
(رواه البخاري)
أي ما في عنده فورات وهموم، الآن أكثر طلاب العلم يفور فورة وبعدها يهمد، حضور قوي وبعده يغيب، إقبال شديد وبعده يدبر، هذه الحالات المتناوبة النبي كان بعيد عنها، (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً))
ولذلك قال: (( أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
( من صحيح مسلم: عن " السيدة عائشة " )
لزمتَ مجلس علم فتابعه، ألزمت نفسك أن تقرأ كل يوم جزءًا فتابعه، وأنْ تدفع كل شهر صدقة فتابعها، تتراكم الأمور، وتتنامى، أما هذه الفورات، فورة وهمود، فهذه لا تصنع شخصيةً إيمانيةً كبيرة، قطرات ماء ثم انقطاع لا تملأ برميلاً، إذْ لا بدَّ من الاستمرار، ولذلك فالإنسان المؤمن الصادق يشكِّل حياته وفق برامج دينيَّة رائعة، أما من يجعل حضور الدروس وطلب العلم من باب الفضلة، وعلى ما تبقَّى من وقته، ففي الأعم الأغلب ليس عنده وقت فراغ، والأصل بالعكس، الأصل أن تطلب العلم وأن تعطيه أثمن أوقاتك، حتى يبارك الله عزَّ وجل لك في بقية الأوقات، تماماً كأداء الزكاة، فمن أدَّى زكاة ماله حفظ الله له بقية ماله، ومن أدى زكاة وقته حفظ الله له بقية وقته، ومن تأدية زكاة الوقت القيام بالعبادات، وطلب العلم الشرعي.
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (( مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ))
(رواه النسائي)
أي تقدَّمت سِنُّه، يصلي صلاة التطوع وهو جالس لكن ما ترك الصلاة ـ وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه العبد وإن كان شيئاً يسيراً "، وجميل جداً أنْ يكون للإنسان نظامٌ صارم لحياته، وقت لدرس العلم، ووقت لحفظ القرآن، وثالث لتلاوته، ورابع للجلوس مع الأهل، وخاص للأولاد، وآخر للعمل.
فالحقيقة التوازن يحتاج إلى بطولة، أما التطرُّف فعملك يمتص وقتك كله، وهذه سهلة، تجد الجل منحازًا، أو كل وقته للبيت، فالتطرُّف سهل لا يحتاج إلى بطولة، أما أن توزِّع الوقت توزيعًا منتظمًا، وأن تعطي كل ذي حقٍ حقَّه ؛ فأولادك لهم حق، والزوجة لها حق، وعملك له حق..
وسيدنا عمر رضي الله عنه جاءه رسولٌ من أذربيجان، وصل المدينة منتصف الليل، وكره أن يطرق بابه، فذهب إلى المسجد، فسمع رجلاً يتأوَّه ويبكي ويقول: " يا رب هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟ "، قال: " من أنت يرحمك الله ؟ "، فقال: " أنا عمر "، قال: "أنت أمير المؤمنين ؟! "، لقد كره أن يطرق بابه ليلاً لئلا يوقظه، فوجده سهران يصلي، فأجابه عمر: " إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، فإن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل ".
وفي الدرس القادم إن شاء الله نتابع موضوع العبادة عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
( سورة الذاريات )
أي إن علة وجودك على وجه الأرض أن تعبد الله. فإذا ذهب طالب إلى فرنسا ليدرس، فالسؤال الدقيق: ما علة وجوده في هذه البلدة ؟ الدكتوراه فقط، فأكبر خطأ يرتكبه أن يغفل عن مهمته الأساسية، فلو زار المتاحف، وزار المقاصف، وطالع كتبًا ليست لها علاقة باختصاصه، وأقام حفلات وسهرات، ورجع بخفَّي حُنين، فهذا غفل عن مهمته الأساسية، وكل إنسان يغفل عن عبادة الله عزَّ وجل، يغفل عن مهمته الأساسيَّة في الدنيا.

والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:36 PM   #26


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السابع و العشرون )

الموضوع : عبادتة صلى الله علية وسلم







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وبعد... فنحن في الدرس السابع والعشرين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد وصلنا في شمائله إلى عباداته صلى الله عليه وسلَّم.
أيها الإخوة الكرام... يكفي أن نشعر بأهمية هذا الدرس أن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
( سورة الذاريات )
فعلَّة وجود الإنسان في الدنيا أن يعبد الله عزَّ وجل، ويقول الله عزَّ وجل مخاطباً النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)﴾
( سورة الحجر )
التكذيب، والمعارضة، والاستخفاف، والإعراض، والكفر، مواقف الكفار تبعث الضيق في نفس النبي عليه الصلاة والسلام..
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
واليقين هو الموت، أي اعبد الله عزَّ وجل طوال حياتك، ولذلك أُمر النبي صلى الله عليه وسلَّم بهذه الآية ؛ بالتسبيح، والتحميد، والسجود، والعبادة حتى الموت، فالتسبيح تقديس الله جلَّ جلاله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، والتحميد نسبة الكمالات كلها إلى الله عزَّ وجل، والسجود هي الصلاة، ذُكر جزءٌ منها وأريد الكل، أما..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
فأنت مخلوقٌ في الدنيا من أجل العبادة.
والعبادة أيها الإخوة سلوك، طريقه وغايته الخضوع، والاستسلام، والحُب، والائتمار، والإخلاص، والوفاء، ولكن لن تكون إلا بمعرفة الله، وإن كانت أثمرت سعادةً أبديَّة، فالعبادة جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، فإن عرفت الله عبدته، وإن عبدته سعدت بقربه، ولذلك جاءت هذه الآية موجزة:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
( سورة الذاريات )
ولن تكون العبادة أي الخضوع إلا بعد معرفة الله، ولن تكون السعادة إلا بعد طاعته، والقضية مترابطة ؛ تعرف الله، فتستقيم على أمره، وتسعد بقربه، الغاية هي السعادة، والسبب هي العبادة والطاعة، وسبب السبب هي المعرفة، تعرفه، فتستقيم على أمره، وتسعد بقربه.
وكان عليه الصلاة والسلالم ـ دقِّقوا ـ إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، فهل من الحاضرين ليس عنده مشكلات في الحياة ؟ مشكلات في بيته، وعمله، وصحته، وعلاقاته العامة، وهذه المشكلات هي دوافع إلى باب الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أنه إذا أصابه أمرٌ فزع منه بادر إلى الصلاة، إذا أحزنه أمرٌ فزع إلى الصلاة، وعلينا أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وأجمل ما في الدين الدعاء، وأنت حينما تدعو الله عزَّ وجل، فإنّ الله جلَّ جلاله بشكلٍ واضحٍ صارخ يشعرك أنه سمع دعاءك، وأنه استجاب لك، ومن أجل هذا يقرِّبك.
والإنسان كيف يتقرَّب إلى الله عزَّ وجل ؟ إذا دعاه يشعره أنه سمع دعاءه، ويشعره الله أنه استجاب له، فكل مشكلةٍ يعقبها دعاءٌ، ويعقب الدعاء استجابةٌ، ويعقب الاستجابة معرفةٌ بالله وحبٌ له، إذاً كل محنةٍ وراءها مِنحة، وكل شِدةٍ وراءها شَدَّة، وطِّن نفسك أيها المؤمن أن كل مشكلة وراءها قفزة إلى الله، وكل مِحنة فيها منحة، وكل شِدة فيها شَدة، وإن وقعتَ في مشكلة فإنّ الله عزَّ وجل قال:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)﴾
( سورة الطلاق )
معناها الأمور أُحكمت ـ نزلت فلما استحكمت حلقاتها ـ لو أن هناك مخارج أرضيَّة لم تلجأ إلى الله عزَّ وجل، متى تقول: يا رب ليس لي إلا أنت ؟ حينما تُغلق عليك منافذ الأرض، والإنسان أحياناً يتكئ على أشخاص، أو على ماله.
أخ كريم قبل أن ينضج قال كلمة، قال: " الدراهم مراهم، كل شيء يُحل بالمال "، هذه كلمة كبيرة، فربنا عزَّ وجل ساق له شدَّة لا تحل بالمال، فبقي في هذه الشدة سبعين يوماً، ما قولك:" كل شيء يُحل بالمال " ؟ لا يا رب، فعلى الإنسان أنْ يدقق في كلامه، في كلام يحتاج إلى تأديب.
أيها الإخوة الكرام... أي مشكلة، وأنت مؤمن، فالتخطيط الإلهي أن يشدك إليه، ويقرِّبك إليه، وهذه المشكلة يعقبها دعاء، والدعاء من آثاره شعورُك أنّ الله سمع دعاءك، وأنه استجاب لك، تزداد معرفةً به وحباً له، وأحياناً الإنسان بلغ درجة من الإيمان رضي بها، لكن الله لا يرضى له هذه المرتبة الثابتة، إذن تنشأ مشكلة، فيحصل حجاب أحياناً، وهذا الحجاب يضيق به المؤمن ذرعاً، فيرفع وتيرة عبادته أو عمله فيقفز، وهذه القفزة تشده إلى الله عزَّ وجل.
ولكن يعنينا من هذا الدرس.. عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))
( رواه أبو داود)
أقول لكم بصراحة: قد تكون في مشكلة كبيرة جداً، فتترك التدبير لها، وتذهب تتوضَّأ، وتدخل إلى غرفة الضيوف، وتصلي ركعتين، وفي السجود تناجي الله عزَّ وجل، هذا حل لمشكلة، وهذا أعظم حل، وهو هذا حل واقعي، وأنت الآن وكَّلت خالق الكون ليحل لك مشكلتك ؛ وكَّلت الذي بيده كل شيء، وكَّلت السميع، القريب، المجيب، الرحيم، العليم، الحكيم، وكَّلت من ناصية خصومك بيده، ومن ناصية أعدائك بيده، ومن ناصية الأقوياء بيده، ومن ملكوت كل شيءٍ بيده، وكلته، لذلك إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))
أو (( إذا أحزنه أمرٌ فزع إلى الصلاة))
فإذا كان سيد الخلق وحبيب الحق يلجأ إلى الصلاة إذا اشتد عليه أمر، فنحن من باب أولى.
وأقول لكم هذه الكلمة، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون واضحةً عندكم: ما من مشكلةٍ يسوقها الله للمؤمن، ولو كشف الله له الغطاء يوم القيامة لذاب كالشمعة شكراً على هذا الذي ساقه إليه، وهناك آلاف القصص، فالشدَّة ظاهرة يعقبها توبة، ومن التفلُّت جاءت المصيبة، فأثمرت توبة نصوحًا، ومِن التسيُّب جاءت مشكلة فأثمرت إقبالاً على الله عزَّ وجل، ومن التقصير جاءت المشكلة فأثمرت سعياً حثيثاً في طلب مرضاة الله عزَّ وجل، فبشكل أو بآخر المؤمن يفهم على ربه، ومن فهم على ربه سر التصرُّفات قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله عزَّ وجل..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
أي دُم على عبادتك ما دمت حياً، من غير إخلالٍ بها ولا لحظةً واحدة، فأنت تعاملت مع خالق الكون، وطِّن نفسك على أن تثبت على ما أنت عليه ؛ فصلواتك، واستقامتك، وغض بصرك، وصدقك، وأمانتك، فأنت عاهدت الله سبحانه وتعالى، وعاهدت الذي خلقك.
وبالمناسبة ؛ هناك فهم إبليسي لبعض الآيات..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
قال بعضهم: إذا جاءك اليقين انتهت العبادة، اليقين هنا هو الموت فقط، والدليل:
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)﴾
( سورة المدثر )
الموت، إذاً القرآن مثاني، وكل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها..
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
أي الموت، والدليل:
﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)﴾
( سورة المدثر )
قد يسأل أحدكم: لمَ اختار الله جلَّ جلاله للموت هذا الاسم اليقين ؟ الجواب: لأنه ما من شيءٍ أكثر يقيناً في وقوعه من الموت، وما نجا منه أحدٌ على الإطلاق، وهناك أمراض تصيب الشيخوخة، وحالات نادرة أنه لا يصاب الإنسان بهذا المرض، قال لي طبيب: فحصنا شرايين إنسان متقدِّم في السن، مهمل لغذائه، قال لي: الشرايين سبعة عشرَ عاماً، مرنة إلى أقصى درجة، وهناك حالات نادرة، فهذا الإنسان على تقدمه في السن، وعلى إهماله الغذاء، فشرايينه مرنة جداً، ويمكن لإنسان أنْ ينجو من مرض ؛ ولكن هل يمكن أن ينجو من الموت ؟ أبداً..
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)﴾
( سورة الرحمن )
فسمى الله الموت يقيناً لأنه متيقنٌ وقوعه، وسمى الله الموت يقيناً لأن كل الأفكار التي سمعتها في الدنيا تراها عند الموت حقيقةً، تتيقَّن من كل ما قيل لك عن الدار الآخرة ـ يقين ـ الوقوع يقيني، والشهود يقيني. هذه الآية كقوله تعالى:
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً (31)﴾
( سورة مريم )
أي طول حياتي.
ورد في الأثر:
(( ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبِّح بحمد ربك وكن من الساجدين))
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
( سورة الحجر )
والآن العبادة أمر تكليفي، ومعنى تكليفي أي إن هذه الأوامر ذات كُلْفَة، ولذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾
( سورة مريم: من آية " 65 " )
صلاة الفجر تحتاج إلى صبر، وغض البصر يحتاج إلى صبر، والمحافظة على الصلوات الخمس يحتاج إلى صبر، وصيام رمضان في أيام الصيف يحتاج إلى صبر، وأن تأخذ حقَّك وأن تخشى الله عزَّ وجل من أن تأخذ فوق حقك يحتاج إلى صبر، المال يغري، والقوي أحياناً يشتط بقوته فيستعلي على من دونه، فالصبر أساس الاستقامة على أمر الله عزَّ وجل..
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65)﴾
أي هل هناك جهة أخرى يمكن أن تكون وجهتك إليها ؟ الله عزَّ وجل هو أهلٌ أن تعبده، وبالتعبير الدارج الإنسان لا يليق له أن يكون لغير الله، أنت لله، (( ابن آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له))
( من شرح الجامع الصغير: عن " ابن مسعود " )
ولذلك كانت عبادات النبي صلى الله عليه وسلَّم دائمةً، ومستمرةً، ومتواصلةً في الليل والنهار.
أطرح عليكم هذا السؤال:
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾
( سورة المعارج )
كيف ؟ هناك آيات كثيرة..
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)﴾
( سورة المؤمنون )
واضحة ؛ خمس صلوات، أما دائمون فقالوا: فيما بين الصلاتين، ودائمون بالدعاء، فأنت بالدعاء مع الله دائماً ؛ قبل أن تدخل البيت، وقبل أن تخرج منه، قبل أن تدخل المسجد، وبعد أن تخرج منه، قبل أن تدخل السوق، وقبل أن تُلقي درساً، وقبل أن تُعالج مريضاً، وقبل أن تقابل مسؤولاً، وقبل أن تقوم بعمل، وقبل السفر، وبعد السفر، وفي أثناء السفر، فالدعاء عبادة مستمرَّة، و: (( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك " )
روى البخاري عَنْ عَلْقَمَةَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (( هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ مِنْ الْأَيَّامِ شَيْئًا قَالَتْ لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ))
أي دائماً، فإنْ كان لك مجلس علم فحافظ عليه، وصلاة الفجر في المسجد فحافظ عليها، وغض البصر فحافظ عليه، وعدم المصافحة فحافظ عليها، ولا تعمل نوْبات نوْباتٍ، فهذه النوبات لا تصنع إيماناً، ولا الفورات ؛ فورة ويغيب، يحضر ويغيب، ويقبل ويدبر، ويفور ويسكن، ويتألَّق ويخمد، فهذا لا يتناسب مع سلوكٍ تعامل به الله عزَّ وجل. (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً))
نظِّم أعمالك وفق نظامك الديني، ولا تجعل نظامك الديني وفق أعمالك، وإذا جعلت نظامك الديني وفق أعمالك فمعظم الأيام لستَ متفرِّغا، بل أنت فيها مشغول، وعندنا موسم، وعندنا أعمال كثيفة، فاجعل عملك الدنيوي وفق نظامك الديني، ولا تجعل نظامك الديني وفق عملك الدنيوي، لا تعكسها، فالأصل أنك في عبادة الله عزَّ وجل، ولذلك فزكاة الوقت أداء العبادات، وكيف أنك إذا أديت زكاة مالك حفظ الله لك بقية مالك، وأنت إذا أديت زكاة وقتك بأداء العبادات وطلب العلم، والله أيها الإخوة بارك الله لك في بقية وقتك، دقِّقوا في هذه الكلمة: بارك الله لك في بقية وقتك.
السلف الصالح بارك الله جلَّ جلاله لهم في أوقاتهم، تجد إنسانًا مثل الإمام النووي قد ترك كتبًا فيها من البركات والخيرات ما لا يعلمها إلا الله، فالأذكار، ورياض الصالحين، وقد مات قبل أن يتم خمسين عامًا، فمتى ألَّف هذه الكتب ؟ وهناك علماء أجلاَّء تركوا مؤلَّفات فأقول: يا رب متى ألَّفوها ؟ الآن يوجد تسهيلات لم تكن في زمنهم، وكلها بخط يدهم، أمليت على تلاميذهم، فكلمة توجد بركة للوقت، هذه والله أومن بها كإيماني بوجودي، فمن طلب العلم، وأدَّى العبادات، وعمل الصالحات، وأخلص لله بارك الله له في وقته، ومعنى بارك الله له في بوقته، أي إنه ينجز الأعمال الجليلة في الأوقات القليلة، والله عزَّ وجل بالمقابل قادر أنْ يتلف لك الوقت الثمين بأسبابٍ أتفه من التافهة.
إخواننا الكرام... لا تضن بمجلس علم وتقول: لا يسمح لي الوقت، فأحياناً بالآلة التي عندك خطأ بسيط تتعطَّل أسبوعين، وأحياناً جهاز بسيط لا يوجد له قطع تبديل، والآلة وقفت، أحياناً ارتفاع حرارة طارئ، ويقول لك الطبيب: حلل، فتحلل، صوِّر، فصور تصويرا طبقيًا، أو مرنان، ويقول لك: أنت سليم، خسرت عشرة آلاف ليرة، وثلاثين ساعة، وأنت معافى، فلا تضن على الله عزَّ وجل بوقت العبادة، وبوقت الطاعة، وبطلب العلم، وبحضور مجالس العلم، فإذا أديت زكاة وقتك بارك الله لك فيه، فتنجز في الوقت القليل الشيء الكثير.
وأحياناً إذا كانت عندك مركبة، ضربة تتم في ثانية، فتحتاج إصلاحًا يستغرق شهرًا، ساعة تجليس، وساعة قطع، وساعة بخ، وساعة معجون، اذهب وتعال، ذهبت منك ثلاثون ساعة، والحادث بثانية، فلا تضن بوقتك على ربك، فأنت لله، وهذه العبادة..
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
( سورة الأنعام )
فأنت عندما تعطي ما لله تشعر براحة، فهذا وقت العبادة، وهذا وقت مجلس العلم، وهناك مَن إذا زاره شخص عادي يقول لك: زارني شخص، قل له: أنا عندي مجلس علم، تفضَّل معي، فأنت عندما يكون عملك ديمة. (( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً))
أنت عاهدت الله عزَّ وجل، لك هذا المجلس، ولك هذه الصلاة، ولك هذا الذكر، ولك هذا الفجر، وهذا الظُهر، وهذه الدعوة، وهذه الجلسة مع أهلك.
أنا أتمنى على كل أخ كريم تكون له دعوة صغيرة، أليس حولك أحد ؟ أليس لك إخوة ؟ أو أصدقاء ؟ أو جيران ؟ أو أولاد ؟ أو أقارب ؟ أو أخوات بنات ؟ أو بنات أخوات ؟ لتكُن لك جلسة دينية، اجمعهم، وعلّمهم آية قرآنية، أو حديثًا شريفًا، أو شيئًا من السيرة، أو حكمًا فقهيا، ألِّف قلوبهم، وزرهم، وتفقَّدهم، فأنت تحتاج عملاً لله، عملاً للآخرة.
إنّ الأعمال الخالصة لله تُسعِد صاحبها أيَّما مسعد، كأن تعمل عملاً لا تبتغي منه سمعةً، ولا مالاً، ولا كسباً، ولا رياءً، بل تبتغي به وجه الله عزَّ وجل، ولذلك الوقفة أين ؟..
(( كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً))
يقول وهذه من سنته العملية: (( ولم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نوافله، وتطوعاته طيلة عمره))
كما جاء عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (( مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ ـ أي صلاة التطوع ـ جَالِسًا إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ))
(رواه مسلم)
وفي رواية عَائِشَةَ قَالَتْ: (( كَانَ أَكْثَرُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَكَانَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا))
(مسند أحمد)
إخواننا الكرام... قد يكون وجود أخٍ في المسجد معلومًا، فإذا غاب يومًا واحدًا فالكل يعلم ذلك، أين فلان ؟ وجوده معروف، فقد صار أحد أركان المسجد، فإذا غاب يومًا واحدًا فحتماً هو مريض، أو نزل به أمر قاهر، فيزوره الناس، قال لي واحد مرَّة: مرضت شهرين وما زارني أحد، فقلت له: الحق عليك، هو بالأساس حضوره متقطِّع، فلما غاب ظنوا حسب نظامه يأتي، ولا يأتي، فإذا كان وجودك معلومًا، فأنت أحد أركان المسجد، طبعاً ستُفتقد، أما إذا أنت بالأساس تأتي قليلاً وتغيب كثيراً، فإذا غبت لعلة أو مرضٍ ـ لا سمح الله ـ فأنت حسب طبيعتك المنقطعة، فلا أحد يزورك، وأنت تتألَّم، والحق على الذي داوم بهذه الطريقة.
إخواننا الكرام... العبادة هي التقرُّب إلى الله تعالى بأقصى غايات الخضوع والتذلل له سبحانه، فبصراحة وبقدر ما تستطيع فتذلَّل لله، وهذه علاقة عكسيَّة، وبقدر ذُلِّك لله يعزُّك الله، وأعلم علم اليقين أنه لا أحد في تاريخ البشرية كان أكثر تواضعاً لله من رسول الله، وبحسب ما أعلم ما لا يوجد إنسان في تاريخ البشرية رفع الله ذكره، وأعلى شأنه كرسول الله، فكلَّما تنزل تصعد، وكلَّما ازددت تواضعاً لله رفعك الله، أما أمام الآخرين فكُن عزيزَ النفس، ولا تخضع لإنسان، وأمام الآخرين اعرف قدرك، قال له: " متى أمَتَّ علينا ديننا ؟! ارفع رأسك يا أخي لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه"..
(( ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))
فأنت عزيز إذا كنت مع الله، وإن لم يكن الإنسان مع الله فهو ذليل، ((... وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ))
( من سنن أبي داود: عن " الحسن بن علي " )
والعبادة هي التقرب إلى الله جل جلاله بأقصى غايات الخضوع والتذلل، فيما شرعه لعباده؛ من الأقوال، والأعمال القلبية، والبدنية والحالية.
والآن أدق نقطة في الدرس أنه ينبغي لك أن تعبد الله وفق منهجه، أمّا انحرافات الجماعات الإسلامية أنها تريد أن تعبد الله وفق مزاجها، لأنها مبتدعة، فيجب أن تعبد الله، ويجب أن تعبده وفق أمره، وهذا ملخَّص درس اليوم، يجب أن تعبده، وينبغي أن تعبده وفق منهجه.
ولعلي أوضِّح هذه الفكرة بهذا المثل: اشترى شخص مركبة فيها أعطال، وهي واقفة أمام البيت، ما ركبها ولا مرَّة، ضاق بها ذرعاً، وسئم منها، ورفضها، فتركها، ولأنه ما ذاق حلاوتها، بل ذاق تكاليفها وأعباءها، فإذا صلى الرجل وليس له وجهة فإنّه سيمَلُّ من الصلاة، ويصير حاله كحال المنافقين..
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾
( سورة النساء: من آية " 142 " )
فما استقام، وما طهَّر نفسه، وما أخلص، وما قدم هدية إلى الله عزَّ وجل ـ عمل صالح ـ إذا وقف ليصلي تألَّق، ما قدَّم شيئًا، وعنده مخالفات، وتسيُّب، و تقصير، وتحريش بين المؤمنين، وإطلاق بصر أحياناً، وتساهل، فهذه المعاصي حجاب.
وفي كلمة أقولها لإخواننا: أيعقل أن يكون المؤمن مقطوعاً عن الله لأسبابٍ تافهة ؟ المجرم مقطوع ولكن لأسباب وجيهة، فالسارق الزاني وشارب الخمر مقطوعون، لكن لأسباب وجيهة، كبيرة، أما أنت فقد خطف بصرك قليلاً فحجبت، إنها كلمة بلا فائدة، غيبة مثلا، فهل يعقل أنْ تحرم نفسك هذه الوجهة إلى الله بذنبٍ تافه ؟ لأن الذنوب كبيرها وصغيرها تقطع، وأوضح بمثل: بيت فيه ثلاجة، ومروحة، ومكيِّف، ومكواة، ومسجلة، فيه خمسون آلة كهربائية، فإذا انفصل التيار الكهربائي الأساسي مترًا، أو نصف متر، أو ثلاثين سنتيمترًا، أو عشرين، أو عشرة، أو خمسة، أو سنتيمترًا، أو مليمترًا، فما دام مفصولا فكل الآلات واقفة، فمسافة الفصل سواء كانت كبيرة أم صغيرة فالآلات كلها واقفة، والإنسان إذا كانت له معصية كبيرة حُجِب عن الله بحجاب يتناسب مع المعصية، ولكنه حجاب مع الله لسبب تافه ؟! غير معقول.
ولذلك أيها الإخوة... عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
(رواه مسلم)
فالشيطان ليس له أمل بعد مجيء هذه الرسالة أن تنحت أصنام وتعبد من دون الله، فلم تعد اللات والعُزى ولا يغوث ونسر موجودة، لكن هناك مخالفات... (( وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
وفي الحديث: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
(رواه مسلم عن جابر)
لا تسمح للشيطان أنْ يقطعك عن الله لسبب صغير، بكلمة تقولها، أو بنظرةٍ تُلقيها، أو بخلافٍ بينك وبين أخيك.. (( إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ، إِنَّمَا يَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَقَوْلُهُ الْحَالِقَةُ يَقُولُ إِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
ولذلك للعبادة لذةٌ، فهذه السيارة إذا ما سرتَ بها مللتَ منها ؛ تصليح، وتبديل عجلات، وتصليح محرك، ولكن ما ركبتها ولا مرَّة، فتمل منها، أما إذا استعملتها فلا بد من توافر كل الشروط فيها، فما دام ثمة شرطًا ناقصًا فهي واقفة، فإذا كانت واقفة مللتَ منها.
فتصور العبادة كهذه المركبة، إذا لم تكن جاهزة جاهزية تامة، وانطلقت سائرةً، تملُّ منها، وتسأم منها، وتعافُها، وتتكاسل في تعاملك معها، أما إذا أقلَّتك إلى مكان جميل أنت وأهلك، فقد صار لها معنى.
فهذا المثل تمهيدي، للعبادة لذةٌ، وحلاوةٌ، ونعيمٌ، وطلاوةٌ، فمن طَعِمَ حلاوتها، وذاق لذَتها، تعلق بها وعشقها، فهل من الممكن أنْ يكون أسعد أيام حياتك وأنت في الصلاة ؟ نعم، ولكن قدِّم الثمن، وقد تكون أجمل ساعات حياتك قيام الليل، والإنسان يصلي، ويبكي، ويناجي ربه، ويشعر بأمن واللهِ لو وزِّع على وجه الأرض لكفاهم، خالق الكون معك ليس أمرًا سهلاً، الآن الناس يعيشون في قلق.
" دع القلق وابدأ الحياة " كتاب ألَّفه (ديل كارنجي )أول طبعة بيع منه خمسة ملايين نسخة، من شدة قلق الناس..
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا﴾
( سورة آل عمران: من آية " 151 " )
والإنسان حينما يشرك يمتلئ قلبه خوفاً، أي إنسان يطبَّق عليه هذا القانون، اسألني عن قانون الخوف أقل لك: الشرك سبب الخوف، فإذا أطاع الإنسان الله عاش آمنًا، وتجد الناس يعيشون في خوف منقطع النظير ؛ من قلبه، من جلطة، من دسَّام، من تضيّق الشريان التاجي، من إخفاق كلوي، ومن التهاب كبد وبائي، تجدهم منهارين، مظهرهم فخم، ولكن من الداخل كل شيء منتهٍ، والمؤمن لأنه انشغل بشيء عظيم فالله يريحه من أمور صحته، ويطمئنه على أولاده، فيسافر، انظر الدعاء: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ))
( من سنن أبي داود: عن " ابن عمر " )
دعاء بإخلاص، الله مكانك بأولادك، ومكانك ببيتك، أحياناً إبريق من الماء الساخن إذا حدثَ خطأ بالبيت، ووقع على فتاة صغيرة شوَّهها للأبد، فكلَّما ألقى الأب نظره على وجه ابنته كيف تشوَّهت يشعر بسكين طُعن بها، فإذا كنت مع الله، تولاّك بدعائك.. (( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ))
( من سنن أبي داود: عن " ابن عمر " )
الدعاء مُتعة، فيا إخواننا الصلاة، والصوم، وصلاة الليل، والذكر، والدعاء، والتلاوة في كل هذه العبادات لذةٌ، وحلاوةٌ، ونعيمٌ، وطلاوةٌ، فمن طعم حلاوتها، وذاق لذَّتها تعلَّق بها وعشقها، فهو لا ينفك عنها أبداً لأنها تصير راحته وريحانه.
السيدة رابعة العدويَّة كانت تقول: " يا رب أغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيبٍ بحبيبه، وها أنا ذا واقفةٌ بين يديك " فهل من السهل عليك تناجي ربك ؟ يقبلك، ويتجلى عليك، وينصرك، ويطمئنك، ويعطيك، فهذا أمر كبير.
ويقولون: إن أعظم ذائقٍ ذاق حلاوتها، وأكبر من نعم بها وشهد أسرارها وأنوارها، هو سيدنا محمدٌ صلى الله عليه.
والله مرَّة ـ هذا العبد الفقير ـ صليت ركعتين في المدينة المنورة، خلف إمام أنا أثق أنه في إقبال على الله عزَّ وجل، والله صلى، وتمنيت أن يصلي حتى الظهر، إن الصلاة شيء جميل جداً، وهذه هي الصلاة التي أرادها الله، فإذا دعاك أحدهم لأكل، صحون وملاعق، ولكن لا يوجد أكل، وأنت جائع، وانتهت العزيمة، ودعاك مرة ثانية تقول: إنني مشغول، لأنك لم تأكل شيئًا، توضأت وصليت ولكن في عباداتك مخالفات، وهناك حجاب، وتشعر نفسك أنها ليست هذه هي الصلاة، أما عندما تهيئ نفسك للصلاة بطاعة، وعمل صالح، وهديَّة إلى الله، وخدمة للعباد، ونصحهم، والدعوة إلى الله، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيعطيك الثمن بالصلاة، والله عزَّ وجل قال:
﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)﴾
( سورة الأعراف )
فأحياناً وإن كان الأمر من باب التشبيه إذْ تكون لك قضية وقد وكلت محاميًا من الطراز الأول، يقول لك: كل القضاة خاتم في يدي فاطمئن، فإذا وكَّلت محاميًا من الطراز الأول شعرت بطمأنينة، فكيف إذا كان الله وليك..
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾
( سورة البقرة: من آية " 257 " )
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾
( سورة محمد )
فتصور أبًا من أعلى مستوى ؛ من علم، وفهم، وقوة، وغنى، وتربية، وعنده ابن غالٍ عليه كثيراً، يتابعه في حركاته، وسكناته ؛ ومدرسته، وطعامه، وشرابه، وغذائه، وأطباء، ودروسه خاصة، وغرفة خاصة، فهذا ابن له أب يتولى شأنه، وإذا يقابله طفل متفلت في هذه الطرقات..
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)﴾
( سورة محمد )
وأنت أكبر شرفًا بأن الله وليَّك..
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾
( سورة البقرة: من آية " 257 " )
﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)﴾
( سورة الأعراف )
فأنت على قدر صلاحك لك من ولاية الله نصيب، وهو يتولى الصالحين، وأصلح الصالحين رسول الله، فكان الله وليه.
ماذا أراد سراقة بن مالك ؟ أراد أن يقتل النبي ليأخذ مئتي ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فساخت قدما فرسه في الرمال، واستغاث بالنبي، وكان أهل مكة يشعرون أن النبي يحميه ربُّه، وأنت كمؤمن يشعرك الله أنك بعينه..
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
( سورة الطور: من آية " 48 " )
فحياتك وكرامتك وصحتك غالية، وأهلك وأولادك مقربون مكرمون، فأنت في طمأنينة، وهذه ليست من الأمر السهل ؛ أن يطمئنك خالق الكون..
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
ولذلك أكمل ذوقٍ لحلاوة العبادات، وألذ راحةٍ ونعيمٍ بها، كما جاء في المسند وسنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ قَالَ فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ))
بصراحة في هذا الحديث الفرق بين المؤمن والمنافق، أوّلهم أرحنا بها، والثاني أرحنا منها، بين الباء وبين من، إما أن يكون لسان حالك أرحنا بها، وإما أرحنا منها، فالمؤمن أرحنا بها، والمقصِّر الذي فيه مخالفات، وفيه تقصير أرحنا منها.
وكما في المسند وغيره عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))
* * * * *
أقوال بعض العارفين بالله
يقول إبراهيم بن الأدهم: " والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف ".
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: " أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ".
والآن تجد طريق منين فيه أكثر من عشر ملاهٍ، يكتبون: المغني الفلاني، والفنانة الفلانية، طبعاً مع خمور، ونساء كاسيات عاريات، هؤلاء الذين يرتادون الملاهي لماذا يرتادونها ؟ يبحثون عن لذَّتهم، يقول هذا الشيخ: " أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم "، لو يعلم أهل اللهو ـ رواد الملاهي ـ أنهم إذا اتصلوا بالله، سعدوا سعادةً لا توصف، لتركوا ملاهيهم وأقبلوا على ربهم، ولذلك الإنسان المؤمن لسان حاله يقول: هؤلاء مساكين ما عرفوا الله.
قال بعض العلماء: " مساكين أهل الدنيا جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها "، وأطيب شيء في الدنيا الاتصال بالله، مساكين أهل الدين.
يقول أحد العارفين بالله: " ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي ؟ "، لا شيء، أنت سعادتك داخلية، فأهل الدنيا سعادتهم بالمكيّف، إذا لم يملك تكييفًا يقول لك: لا يعاش من دون مكيِّف، سعادته بسيارته، بزوجته، وبيته، وأمواله، وطعامه وشرابه، له ترتيبات، يأكل وينام ؛ والمؤمن سعادته من الداخل، سعادته من شعوره أن الله يحبه، سعادته من شعوره أن الله راضٍ عنه، سعادته من شعوره أن المستقبل له..

﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
( سورة القصص )
سعادته من شعوره أن الحقيقة الكبرى في الكون معه..
فإذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك ؟!
يقول عالِمٌ آخر: " والله لولا قيام الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ".
وقال بعضهم: " والله إذا كان أهل الجنة على ما نحن عليه هم في عيشٍ طيب ".
حتى بعضهم قال حينما قال عليه الصلاة والسلام:
(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ))
(رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف)
المقصود أنه الآن في الجنة، في الدنيا جنة، جنة القرب، وفي الآخرة جنة، لكن المؤمن لن يدخل جنة الآخرة إلا إذا ذاق حلاوة جنة الدنيا، هي جنة القرب.
يقول الله تعالى لملائكته الذين يطوفون في الطُرق يلتمسون أهل الذكر:
(( فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ فَيَقُولُون لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
نحن على الغيب ؛ إله عظيم، رحيم، غني، كريم، قال: كيف لو رأوني.
ورد في الأثر أن الإنسان يوم القيامة ينظر إلى الله عزَّ وجل فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظر، قال لهم:
(( وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي))
قال فيما رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ قَالُوا فَمَا بَالُ الطَّعَامِ قَالَ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ))
كيف لو رأوني ؟ نحن في الدنيا نسبِّح ونحمد ونقدِّس، ولم نر ربنا، أما في الجنة فيرى المؤمنون ربهم كما نرى نحن في الدنيا القمر ليلة البدر.
والعبادات تهذِّب النفس من الرعونات، والحماقات، والدعاوى، الأثرة، حتى تصفو نفس العابد وتدخل في دائرة العبوديَّة، وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ:
(( كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))
( رواه مسلم )
الإنسان كلَّما اتصل بالله رقَّت مشاعره، وتهذَّبت حركاته وسكناته، فالحماقات، والرعونات، والأثرة، والكِبر، والدعاوى، والاستطالة على الآخرين، هذه من ضعف العبادة، فالكمال كله عند الله، وبقدر اتصالك بالله تأخذ من هذا الكمال، ومكارم الأخلاق مجموعةٌ عند الله، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلقاً حسناً.
نتابع هذا الموضوع في درسٍ قادمٍ إن شاء الله، في منهج دقيق جداً في الدرس القادم ـ منهج العبادة في الإسلام ـ فيه نقاط مهمة جداً، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون واضحةً عندكم.


والحمد لله رب العالمين



 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:40 PM   #27


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثامن و العشرون )

الموضوع : المنهج الذى رسمة للعابدين









الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... مع الدرس الثامن والعشرين من دروس شمائل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى المنهج الذي رسمه النبي للعابدين.
وأساس هذا الدرس أنه ينبغي لك أن تعبد الله، ولكن حينما تعبده ينبغي لك أن تعبده وفق توجيهاته، لا وفق توجيهاتٍ لا تمتُّ لهذا الدين بصلة، يجب أن تعبد الله، وأن تعبد الله وفق منهجه.
أيها الإخوة... قبل أن أدخل في الموضوع أريد أن أنوِّه إلى أن المنهج التعبدي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، هو المنهج الأكمل الذي يصل بك إلى أعلى مراتب الإيمان، وأعلى مراتب القُرب، فإذا بحثت عن منهجٍ آخر من أجل أن تصل به إلى أعلى المراتب تكون واهماً، لأن المنهج النبوي هو أكمل منهج، ولذلك أيَّة فرقة دينية، أو أية طريقةٍ من الطُرُق تكلّف طالب العلم بغير ما كلَّف به النبي أصحابه، فهذه طريقة مرفوضة، لأنها تخالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعبُّد، فيجب أن نعبد الله، ويجب أن نعبده وفق ما أمر، لا وفق أمزجتنا، ولا وفق اجتهاداتنا، فكل شيءٍ في الدين لا ينبُع من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
هذا الدرس أيها الإخوة أعلق عليه أهميةً كبيرة... روى الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:

(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا - أي رأوها قليلةً بالنسبة لما ينبغي لهم - فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
إنه منهج واقعي، وسطي، متوازن، هذا النهج الواقعي، الوسطي، المتوازن، ينقلك إلى أعلى مراتب الإيمان، أما إذا أردت أن تزيد فقد وقعت في الفتنة.
ومرةً أحد التابعين أراد أن يُحْرِم قبل الميقات، فقال له صحابيٌ جليل: لا تفعل. قال: ولمَ ؟ قال: تفتن، قال: وكيف أُفتن ؟ قال: وأي فتنةٍ أكبر من أن ترى نفسك سبقت رسول الله!!
لا تحاول أن تعمل مزايدة على رسول الله، فالذي أعطاك إيَّاه هو الأكمل، فكل إنسان يحاول أنْ يبتدع منهجًا جديدًا ا في العبادة غير منهج النبي اللهم صلِّ عليه، فيه زيادة، وهذه الزيادة هي مزايدة، وهذه الزيادة ربما تمنعه من متابعة السير، فالمنهج الذي يسع الناس جميعاً هو منهج رسول الله، إنه المنهج الذي يرقى بالناس جميعاً هو منهج رسول الله، والعبادة التي تسمو بالناس جميعاً هي عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك أيّة فرقةٍ أو أي طريقةٍ تضع منهجًا آخر غير منهج النبي عليه الصلاة والسلام، فإنما تغلوا في الدين، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾
( سورة المائدة: من آية " 77 " )
يقول عليه الصلاة والسلام: (( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
(متفق عليه)
أول نقطة في منهج النبي عليه الصلاة والسلام التعبدي، الآن الدرس عبارة عن نقاط.
النقطة الأولى: كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه، و فأول نقطة في العبادة التي يريدها النبي عليه الصلاة والسلام الثبات والاستمرار، فأنت أول تطبيق ؛ تريد أن تصلي، صل الصلوات التي يمكن أن تستمر عليها، ولا تجعل حياتك فورة ثم تنطفئ، تكون في إقبال شديد ثم تبتعد، وفي غليان ثم تبرد، فهذا منهجٌ لا يدوم، وهذا منهجٌ فيه نكساتٌ خطيرة، والشيء الذي تفعله يجب أن تداوم عليه.
و أول نقطةٍ في منهج النبي عليه لصلاة والسلام ما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(( كَانَتْ لَنَا حَصِيرَةٌ نَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ وَنَتَحَجَّرُهَا بِاللَّيْلِ خَفِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ أَفْهَمْهُ مِنْ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ فَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ أَدْوَمَهُ))
(رواه أحمد)
فالأخ أحياناً يقبل إقبالاً منقطع النظير ؛ الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ودرس الجمعة، والسبت، والأحد، والاثنين، وزيارات خاصة، وإقبال شديد، إنه شيء رائع، ثم يختفي، داوم على الدروس التي بدأت بها، الدوام والمثابرة والثبات، فهذا السلوك هو الذي يرقى بك، ولا بدَّ من التراكم، فالومضات، والنَوْبات، والفورات كلها لا تفعل شيئاً ؛ أما الذي يفعل كل شيء فالمداومة والاستمرار والثبات، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
(متفق عليه)
هذا هو الإرشاد الأول.
الإرشاد الثاني: عبادة تبنى على تضييع الحقوق هذه ليست عبادة، وعبادة تبنى على إهمال الأولاد ليست عبادة، وعبادة تبنى على إهمال الزوجة ليست عبادة، وعبادة تبنى على إهمال العمل والتقصير فيه، وعدم إتقان في الصُنع، ومشكلات مع الناس، وتأخير مواعيد، من أجل أن يصلي قيام الله، وفي النهار ينام، وعنده مواعيد، وإنجازات، وأعمال، فهذا المنهج لا يريده الله عز وجل، وأية عبادةٍ تبنى على تضييع الحقوق، وعلى إهمال الواجبات، وعلى التقصير، وعلى التسيُّب، فهذه ليست عبادة، إنها نقطة مهمة جداً.
هذه كلها من إرشاداته صلى الله عليه وسلم، فالزوجة لها حق، والأولاد لهم حقوق وزبائنك الذين منحوك ثقتهم لهم حقوق، ومن حولك ؛ أمك وأبوك لهم حقوق، لذلك دع خيراً عليه الشر يربو، فدرء المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع.
والنقطة الثانية في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبُّدي أن العبادة لا تقبل إذا بنيت على تضييع الحقوق، وعلى إهمال الواجبات، وعلى التقصير في الأعمال، عندئذٍ يغدو هذا المتعبِّد ممقوتاً عند الناس، مبغوضاً لديهم.
ففي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ:
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا عُثْمَانُ أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي ـ أي يا عثمان أترغب عن سنتي ؟ ـ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ قَالَ فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ))
هذا الكلام دقيق، وواضح، لأنّ عبادةٌ تبنى على إهمال الواجبات، وتضييع الحقوق، والتقصير في الأعمال، والتسيُّب في الإنجاز، هذه ليست عبادة مقبولة عند الله عز وجل.
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
(رواه البخاري)
وفي روايةٍ لمسلم: (( قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))
قال ابن عمرو ـ الآن اسمعوا الندم ـ: (( يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
لا تقيِّد نفسك، لا تقيد نفسك بنظام لا تستطيع تحمُّله، ولا تستطيع المداومة عليه، لا تقيِّد نفسك بنظام تنتكس منه، لا تقيد نفسك بمنهاج ينفر من العبادة، تتمنى أن تنتهي منها، هذا الصحابي الجليل الذي نصحه النبي قال له: أطيق أفضل من ذلك. افعل كذا. أطيق أفضل من ذلك. افعل كذا. أطيق أفضل من ذلك. قال ابن عمرو: (( يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
طبعاً هذا النص في الصحاح، وله روايات كثيرة، من بعض هذه الروايات قال ابن عمرو: (( فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قَالَ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ))
ثلاثة أيام كل شهر، هذه الأيام الثلاثة تعدل صيام ثلاثين يوماً، لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
وفي روايةٍ مسلم:
(( وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا))
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ صَامَ الْأَبَدَ فَلَا صَامَ))
(رواه النسائي)
فليس هذا صوماً.
ومرة ثانية أيها الإخوة، أحياناً هناك لازمة تتكرر، وأنا سأجعل من هذه الفكرة لازمة تتكرر: المنهج الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم للعبادة هو أكمل منهج، وهو الذي يرقى بك إلى أعلى عليين، ويسمو بك إلى درجة القُرب، لا تحاول أن تخترع منهجاً جديداً لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
في روايةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
(( أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ - أب زوج ابنه، تفقد الابن، أحواله، تفقد زوجة ابنه، لعل هناك تقصير من ابنه، لعل هناك شطط، وكان يتعاهد كنته، أي امرأة ولده - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا ـ عن زوجها، أي عن حال زوجها معها ـ فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا ـ أي لم يكشف لنا ستراً ـ مُنْذُ أَتَيْنَاهُ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ـ أي على الأب، كنته تشكو زوجها لعمها ـ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْقَنِي بِهِ - أي اجمعني معه - فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ السُّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ثَلَاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ))
(رواه البخاري)
والإمام النووي يذكر أن هذا الحديث جميع رواياته صحيحة، وهذا الحديث أصل في المنهج التعبُّدي، وهذه أكثر روايات هذا الحديث، حديث ابن عمرو في الإكثار من الصلاة، والصيام، والبعد عن النساء، والبعد عن كل ما يمُتُّ به إلى الحياة.
وجاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ ـ أي يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ))
وفي روايةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً قَالَتْ وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ))
(رواه مسلم)
وفي روايةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
( متفق عليه )
لا زلنا في توجيهات النبي في شأن العبادة، ولكن لي تعليقٌ قبل أن أتابع الدرس.
نحن بحاجة إلى أن نُكثر من العبادة، لماذا ؟ لأن الحد الأدنى ليس متوافراً في هذا الزمان، فالصحابة الكرام أرادوا أن يزيدوا، فكان عليه الصلاة والسلام يكبح جماحهم، أما الآن فربما لا يجد الإنسان وقتًا ليصلي الضُحى، أو ليصلي صلاة الأوَّابين، أو ليصلي ركعتين ليلاً، فأنا أشعر الآن أن إقبال أصحاب رسول الله على العبادة كان منقطع النظير، فكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كبح جماح أصحابه، وإرساء التوازن ؛ أما نحن فقد نحتاج إلى توجيه آخر معاكس، نحتاج إلى توجيه من نوع آخر ؛ أن نقبل على العبادة كي نصل إلى الحد الأدنى الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يحذر من المشادَّة في الدين.. فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))
الغدوة سير أول النهار، والروحة سير آخر النهار، والدلجة سير آخر الليل، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم الغدوة والروحة والدُلجة بمعنى أن الإنسان عليه أن يعبد الله وهو في أعلى درجات نشاطه، فإذا سافر إنسان فالسفر باكراً منشط، والسفر قبل المغرب، وقت جميل جداً وقت الأصيل، والسفر في الليل والناس نيام يقطع مسافاتٍ طويلة في رطوبة، وفي جو لطيف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كَنَّى عن أوقات النشاط بالغدوة والروحة والدلجة، فقال عليه الصلاة والسلام: (( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))
أي ألزموا القصد، والقصد هو التوسُّط، تبلغوا المقصود، الاعتدال.
وأنا أشعر أحياناً أن الإخوة الكرام الذين يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون في البداية ينتكسون، والنكسة خطيرة، أما الذي يوازن نفسه مع الآخرين، فأحياناً وهذا شيء وقع، طالب علم من شدة إقباله على الدين ترك الدراسة، لأنه لم يتوازن، فلما ترك الدراسة، ورأى أصدقاءه قد تفوقوا ونالوا الشهادات العُليا، وتمتعوا بمركز مرموق في المجتمع، فلأنه سار في طريق الدين أصبح على هامش الحياة، وهذا الشعور بالحرمان يورثه نكسة كبيرة، فلذلك المنهج المتوسط هو القصدُ، أي الزم التوسط تبلغ القصد، إذْ بالمنهج المتوسط المعتدل تبلُغ القصد.
وروى الإمام أحمد بسندٍ حسن عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ ـ طبعاً الفعل المضارع إذا جزم تظهر الفتحة على آخره لخفتها ـ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ))
عليكم هدياً معتدلاً، متوسطاً، متوازناً.
و الآن من هو المُتَنَطِّع ؟ المتنطع هو الذي يبالغ، وبعد المبالغة ينقطع، في نقطة دقيقة جداً قال: ليس المُراد منع طلب الكمال في العبادة، هذه التوجيهات التي أقولها قد يتوهم بعضكم أن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع طلب الكمال في العبادة، لا والله، ليس المقصود من هذا المنهج المتوازن، المعتدل، الواقعي، الوَسَطي أن نمنع بلوغ كمال العبادة، لا، ولكن المقصود منع الإفراط المؤدِّي إلى الملل والانقطاع، أي رُبَّ أكلةٍ منعت أكلات، فالمبالغة إذا أدت إلى الانقطاع، فهذا هو التنطُّع، ولذلك: إذا تجاوز الشيء حده انقلب إلى ضده.
والآن مع بعض النتائج السلبية لهذا الإفراط...
إنّ المراد منع الإفراط المؤدِّي إلى التنطُّع والانقطاع، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الفجر، أو أخرج الصلاة عن وقتها المُختار.
وفي الأثر:
(( لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره))
أخ من إخواننا الكرام قال لي: أنا من الواحدة والنصف إلى الساعة السابعة، درس الفجر حضره نعسان، نائمًا، غير معقول، فوقت اليقظة، وقت الفريضة، وقت الاستمتاع بمناجاة الله عز وجل تكون منهك القوى ؟‍! فالاعتدال أولى.
ومرة ثانية، نحن في حاجة إلى الحث على العبادة، لا إلى كبح جماحها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابٍ كرام أقبلوا على الدين إقبالاً منقطع النظير.
العلماء قالوا: الأخذ بالعزيمة في موضع الرُخصة تنطُّع، أي إذا سمح الله عز وجل لك أن تقصر الصلاة وأنت مسافر، والوقت ضيق، والسفر بعيد، والمواصلات تنطلق بمواقيت محددة ولن تنتظرك، والأجرة عالية، وإذا سافر الركب أصبحت بلا رَكب، فالشرع سمح لك أن تقصر الصلاة، إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فمن التنطُّع أن ترفض الرخصة وتأخذ بالعزيمة.
وقد روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ))
وجاء في رواية البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن هذا الدين متين فأوغِل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
من هو المُنْبَت ؟ الذي ركب ناقةً وحملها على السير بسرعة إلى أن وقعت ميتةً. ((... لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
(( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
ويبدو أن من منهج الله جلَّ جلاله التدرُّج في رفع مستوى العبادة، فأحياناً بالرياضة يقول لك: تحمية، البدء بتدريبات عالية جداً ربما سببت نكسة كبيرة، والبدء بتمرين عالي الجهد ربما سبب نكسة صحية، فثمة شيء اسمه تحمية، وشيء اسمه تبريد، فالحياة واحدة في قوانينها المادية وقوانينها المعنوية، فينبغي لك أن تبدأ بالتدريج وأن تنتهي بالتدريج.
وهذا الشيء يجب أن نلاحظه في تربية الأولاد، فلو حَمَلْتَ ابنك على صلاة الفرائض، والنوافل، وقيام الليل وهو صغير، ربما كره الصلاة طوال حياته، لا تحمل ابنك على شيء فوق الفريضة، حتى يبدأ في الدين بالتدرج، فلو حملته على شيءٍ لا يطيقه، أو منعته من اللعب أحياناً، ويكون الدرس طويلاً، فإنّ ابنك صغير لا يفهم الدرس، فتُجبره على أن يبقى معك ساعات طويلة، فتضيق نفسه، ويضجر، وينفجر، وتورثه عقدة كراهية المسجد، فإن كان الدرس طويلاً فلا تحمل ابنك الصغير فوق طاقته، له سن، وسِنّه سن اللعب، يمكن أن تحمله على ذلك يسيرا، فالقصد ألا تنفر الناس من عبادة الله، وألا تحمل الناس على أن يكرهوا هذا الدين للقصر عليه.
ومن إرشادات النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذِّر من الدخول في العبادات على كراهيةٍ أو كسلٍ ؛ بل يدخلها على جدٍ ونشاطٍ في العمل، فقد جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ ـ أي كسلت ـ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ))
((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ))
أي ما دام نشيطاً،
(( فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ))
فلينم قليلاً، وإذا كان شعورك بالحاجة إلى النوم، فعندئذٍ الصلاة ليست لها معنى، وقراءة القرآن لا معنى لها. (( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ))
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ))
أن يدعو على نفسه، وهو لا يشعر لثقل نعاسه، أي إذا صلى أحدكم وهو ناعس فليرقد، ولا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه.
* * * * *
الآن آخر فقرة في الدرس دقيقة جداً يجب أن تنتبهوا إليها.
أيها الإخوة الكرام... ما من أخٍ كريم إلا وفي أول إقباله على الدين تألق منقطع النظير، وهذه هي الفترة الأولى ؛ حينما تنتقل نقلةً نوعيةً، من الضياع إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن التفلُّت إلى الاستقامة، ومن القطيعة إلى الاتصال أجمل أيام الحياة على الإطلاق، هذه فترة التألُّق، فترة الإقبال، إلا أن الشيء المناسب جداً أن الإنسان لا له ينبغي أن يمدح في هذه الفترة، لأن هذه الفترة سوف تزول، كيف استقرت حياته ؟
وهذا التألق في أول الطريق تألُّق لا يدوم، أما إذا ذهب وتلاشى وعاد إلى ما كان عليه فالمديح في هذه الفترة لا معنى له، والآن دققوا في هذه الأحاديث.
كان صلى الله عليه وسلم لا يرضيه أن يمدح الرجل بعباداته حال هجمته الأولى، وشِرَّتِهِ، ونشاطه في بادئ الأمر، حتى تمضي عليه مدةٌ يستقر أمره.
صدقوني عشرات بل مئات الأشخاص أقبلوا إقبالاً شديد، واختفوا ولا نعرف عنهم شيئاً، أين هم ؟ هذه هي الشِرَّة، أو الهجمة، أو الفورة، أو التألُّق، أو البداية، أو الانطلاق، الإقلاع، ولكن البطولة هي الاستقرار، فأحياناً بالمستوى الاجتماعي يخطب الإنسان فتاة، يمدحها مديحاً غير معقول، ويقول لك: ملك من السماء، طبعاً الفتاة في أثناء الخطوبة تبدي أجمل ما عندها من لطف، ونعومة، والزوج الخاطب كذلك، فيظنان أن الحياة كلها بهذه الطريقة، وبعد الزواج ؛ المشكلات تلو المشاكسات، والنفور والشقاق، والكلام المرتفع، والكلام القاسي، فأين اللطف والكمال سابقاً ؟ فالبطولة لا في الفترة الأولى لكن في الاستقرار والاستمرار.
فكل واحد في أول طريقه إلى الله انتقل نقلة مفاجأة، نقلة نوعية، من الضياع إلى الهدى، من الانقطاع للاتصال، ومن الشقاء للسعادة، ومن الخمول إلى التألُّق، لكنّ البطولة في الاستمرار لا في هذه الفورة، اسمعوا ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام.
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً - الشرة الفورة والاندفاع - وَلِكُلِّ شِرَّةٍ - وبعد ذلك يفتر - فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ))
أي بعد الفورة كيف حاله ؟ استقر على الطاعة، الصلاة الصحيحة، والتلاوة، والذكر، نريد فترة الاستقرار لا التألق.
والحديث له روايات كثيرة.
(( لكل عملٍ شرة))
والشِرَّة بكسر الشين المُعجمة وتشديد الراء النشاط والهمة.
وفي روايةٍ ثالثة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:
(( أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَكَانَ لَا يَأْتِيهَا كَانَ يَشْغَلُهُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَقَالَ لَهُ اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اقْرَأْهُ فِي كُلِّ خَمْسَ عَشْرَةَ قَالَ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ حَتَّى قَالَ اقْرَأْ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ))
(رواه أحمد)
فعندنا فترة تألُّق ثم استقرار، لا تمدح الشخص إلا في فترة الاستقرار، ولا تمدحه بإقباله، لأن هذا الإقبال موقت، والإنسان لا يغتر بالمرحلة الأولى، وربنا عز وجل لحكمةٍ أرادها، يرغِّب الإنسان في البدايات.
إذاً:
(( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ))
ويقول سيدنا الصديق: " بكينا حتى جَفَّت مآقينا "، أول فترة فبكاء شديد، و بعد حين يستقر الإنسان، ويتوازن، فالعبرة والبطولة في الفترة التالية، فيا ترى استقررت على السنة، ويا ترى هذه الشرة، والفورة والانطلاقة، والتألق انتهت إلى طاعة الله، فإذا انتهت إلى طاعة الله فهذا هو الهدى، أما إذا انتهت إلى نكسة، وإلى رجوع عن هذا الطريق، فهذا هو الهلاك.
وقد أورد الحافظ بن حجر في المطالب العالية قصة مفادها:
(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إن ابن أخي قد اجتهد في العبادة وأجهد نفسه. فقال عليه الصلاة والسلام: تلك شرة الإسلام، ولكل شيءٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة، فارقبه عند فترته، فإن قارب فلعلَّه، وإن هلك فتباً له))
ولذلك فآخر كلمة: ليست البطولة أن تصل إلى القمة، بل أن تبقى فيها، قد تصل إلى القمة، ولكن البطولة أن تبقى فيها، فنحن نريد أن نرى إخوةً كراماً بعد فورتهم وإقبالهم وتألُّقهم استقروا على طاعة الله، واستقروا على طلب العلم، وعلى أداء الحقوق، وعلى الاتصال بالله عز وجل، أما هذه الشرة فليست هي العبرة، العبرة في المداومة.
وفي درسٍ إن شاء الله نتابع الحديث عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:42 PM   #28


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( التاسع و العشرون )

الموضوع : ادابة صلى الله علية وسلم فى الدعاء







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
رفع يديه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء :
أيها الأخوة الكرام، لازلنا مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، ومع الدرس التاسع والعشرين، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى آدابه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء.

كان صلى الله عليه وسلَّم يرفع يديه في الدعاء حذو منكبيه، وقد جاء ذلك في كثيرٍ من أدعيته، دعا بها في مناسباتٍ عديدة، قال الإمام القسطلاَّني: " وقد جمع النووي في شرح المهذَّب نحواً من ثلاثين حديثاً في رفع يديه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء ". إذاً أول أدب من آداب الدعاء أن يرفع الإنسان يديه حذو منكبيه.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلامـ دقِّقوا ـ:

((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))
[ الترمذي عن سلمان الفارسي]
إذاً ادعوا الله عباد الرحمن.. من لا يدعني أغضب علي: ((إن اللّه يحبّ الملحّين في الدعاء))
[الحكيم ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة]
((الدعاء سلاح المؤمن))
[الجامع الصغير عن علي]
((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
[الترمذي عن أنس بن مالك ]
((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))
[ الترمذي عن سلمان الفارسي]
النبي يدعو مشيراً بباطن كفَّيه نحو السماء :
أيها وكان صلى الله عليه وسلَّم يدعو مشيراً بباطن كفَّيه نحو السماء تارةً، إذا كان الدعاء بنحو تحصيل شيء: " اللهمَّ ارزقنا طيباً، واستعملنا صالحاً "، أكرِّر: وكان صلى الله عليه وسلَّم يدعو مشيراً بباطن كفيه نحو السماء تارةً، إذا كان الدعاء بنحو تحصيل شيء، وبظاهرهما إلى السماء تارةً، إذا دعا بنحو دفع البلاء، باطن اليدين نحو الأرض، وفي طلب الرحمة باطن اليدين نحو السماء، واليدين حذو المنكبين.
وأنت بالدعاء أقوى إنسان في الأرض، لأنك مع القوي، لأنك مع الغني، لأنك مع العليم، لأنك مع القدير، لأنك مع السميع، لأنك مع البصير، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فادع الله عزَّ وجل.
قال الإمام النووي: " السنة في كل دعاءٍ لدفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفَّيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيءٍ وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء ". الأدب مطلوب.
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ))
[متفق عليه عن أَنَسٍ ]
النبي يدعو الله بلهفةٍ شديدة :
من شدة لهفته، وهنا يطالعنا سؤال هام: لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلَّم يدعو قبيل معركة بدر بلهفةٍ شديدة حتى سقط رداؤه؟ الحقيقة ما من أحدٍ على وجه الأرض أوثق من النبي بالنصر منه، إلا أنه كان يخاف أن يكون هناك تقصيرٌ في الأخذ بالأسباب، تقصيرٌ في إعداد العُدة، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ ﴾
[ سورة الأنفال: 60 ]

أيها الأخوة الكرام، الإنسان مهما كان متوكلاً على الله فعليه أن يستجمع الأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، فالتطرف سهل دائمًا، أن تستسلم إلى الله عزَّ وجل من دون أن تأخذ بالأسباب قضية سهلة، يقول لك: هذا كله بسبب سيدك، لا يفعل شيئاً، لا يتخذ احتياطاً، لا يعد عدةً، لا يأخذ بالأسباب، لا يدرس، لا يختار البضاعة الجيدة، ويقول: أنا متوكِّل.
التوكل أن تأخذ بالأسباب وتعتمد على الله :
فسيدنا عمر سأل بعض الناس: " من أنتم؟ "، قالوا: " نحن المتوكلون ". فقال هذا الصحابيٌ الجليل: " كذبتم المتوكل من ألقى حبةً في الأرض ثم توكَّل على الله ".
مشكلة المسلمين اليوم إما أنهم تركوا الأسباب عاصين، أو اتخذوها مشركين، إما أن يتخذ الأسباب ويعتمد عليها، فقد وقع في الشرك، وإما ألا يأخذ بالأسباب فقد وقع في المعصية، لكن البطولة أن تأخذ بالأسباب، وكأنها كل شيء في النجاح، وأن تعتمد على الله وكأنها ليست بشيء، هذا هو الموقف، نحن في طريقٍ عن يمينه وادي الشرك وعن يساره وادي المعصية، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها وقعت في وادي الشرك، إن لم تأخذ بها وقعت في وادي المعصية، من أجل أن تكون مؤمناً كاملاً عليك أن تأخذ بها وتعتمد على الله عزَّ وجل.
أذكر مرَّةً أن النبي صلى الله عليه وسلَّم حكم بين رجلين، الذي حكم عليه قال حينما خرج: " حسبي الله ونعم الوكيل "، هذه كلمة حق لكن أريد بها باطل، فقال له النبي ـ الآن دققوا، والله هذا الحديث يحل مشكلات المسلمين في العالَم ـ قال:

((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))
[أبي داود عن عوف بن مالك ]
أنت بادئ ذي بدء عليك أن تأخذ بالأسباب، عليك بالكيس، أن تدبِّر، أن تفكر، أن تخطط، أن تسعى، أن تسأل، أن تكتب، أن تعترض، أن توسِّط. كل هذا من قضاء الله وقدره، قال له: ((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ....))
[أبي داود عن عوف بن مالك ]
إذا خطَّطتَ، ودبرت، وتوسَّطت، وسألت، وكتبت، واعترضت، وشكوت، وبعد كل هذا لم تُفلح، هذه مشيئة الله، إذاً حسبي الله ونعم الوكيل، متى يمكن أن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل؟ بعد أن تستنفذ الأسباب، والله جلَّ جلاله لا يقبل منك أن تقول: حسبي الله ونعم والوكيل قبل أن تأخذ بالأسباب. إعداد القوة المتاحة :
فأوضح مثل لهذا طالب قصَّر ولم يدرس، فلما رسب قال: هكذا يريد الله، حسبي الله ونعم الوكيل، هذا كلام دجل، هذه كلمة حق أريد بها باطل، لا تُقبَل منك كلمة حسبي الله ونعم الوكيل قبل أن تأخذ بالأسباب، وقبل أن تستنفذ الأسباب، وقبل أن تفعل كل شيءٍ في إمكانك، لذلك فالله عزَّ وجل قال:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
[ سورة الأنفال: 60 ]
المسلم الذي لم يفهم بُعْدَ هذه الآية يظن أن على المسلمين أن يعدُّوا القوة المكافئة، وهذا الآن ليس في مقدورهم، وفوق طاقتهم، هناك مسافاتٌ كبيرة جداً بين قِوى المسلمين وبين قوى أعدائهم، فإذا أمرهم الله عزَّ وجل أن يعدوا القوة المكافئة، فهذا طلب تعجيزي مستحيل، لكن الله عزَّ وجل أمرهم أن يعدوا القوة المتاحة وليست المكافئة. ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
[ سورة الأنفال: 60 ]
هذه النقطة التي أظنها سبب تخلُّف المسلمين، توكُّل ساذج، والأصح تواكل، دعاء بلا أخذ بالأسباب، نبيٌ كريم معه رسالة، معه وحي، معه معجزات، ظل يدعو في بدر حتى وقع رداءه، إلى أن قال له سيدنا الصديق: " يا رسول الله بعض مناشدتك ربك إن الله ناصرك "، لماذا كان يدعو بلهفة؟ يخاف أن يكون هناك تقصيرٌ في الأخذ بالأسباب. مسح النبي وجهه إذا رفع يديه في الدعاء :
ذلك فالمؤمن الصادق يستجمع كل الوسائل، وكل الأسباب، ولا يعتمد عليها، إذا استطعت أن تكون في هذا المستوى فقد أفلحت ورب الكعبة، ادرس الأمر، فلو أنّ إنسانًا توقَّفت مركبته في الطريق، ثم نزل من المركبة: يا رب أنقذنا، واكتفى بالدعاء، فلن يصل إلى نتيجة، ولكن افتح غطاء المحرِّك، وابحث عن السبب المادي أولاً، واطلب من الله التوفيق، فالحركة نحو تحقيق الهدف بالوسائل الواقعية هو الأمرُ المطلوب.
لذلك قالوا: الإسلام واقعي، ما معنى واقعي؟ أي أنه يحل المشكلات بطريقةٍ واقعيَّة، هو لا يقبل الواقع السيئ، لا يقرُّه أبداً، يرفضه، لكن ذا أراد حل مشكلةٍ يحلها بطريقةٍ واقعية، وهذه الواقعيَّة هي التي رفعت من شأن الإسلام.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رفع يديه في الدعاء لم يضعهما حتى يمسح بهما وجهه، وروى أبو داود عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ:

((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ))
[أبي داود عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ]
وقال العلامة المناوي: " ذلك عند فراغه من الدعاء تفاؤلاً وتيمناً بأن كفيه مُلئا خيراً فأفاض منهما على وجهه فيتأكد ذلك للداعي".
( ذكره الحُليمي )
أي من آداب الدعاء أن تمسح وجهك بيديك، وكأن يديك مُلئتا خيراً، هذه أشياء رمزيَّة، فبعض الناس يظن أنّه ليس في الإسلام أشياء رمزيَّة، وحياتنا كلها واقعيَّة، نحن (المسلمين) في عندنا ألف رمز ورمز، نأتي بقماش: لونٌ كذا، ولونٌ كذا، ولونٌ كذا، مصنوع في اليابان، هذه الألوان الثلاثة ترمز إلى الوطن وتؤلِّف علَم البلاد، لذلك نحيِّيه، ونقف أمامه باستعداد، ونعاقب من يهين هذه الراية، هي رمز للوطن، فالإنسان عندما يدعو، ورفع يديه، فهذا رمز التأدب، رمز التذلل والخضوع إلى الله عزَّ وجل.
استقبال النبي القبلة في دعائه :
ذلك وكان عليه الصلاة والسلام يستقبل القبلة في دعائه. الأكمل أن تتجه نحو القبلة، لذلك الحُجَّاج والعُمَّار وهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، إما أن يقفوا باتجاه الحجرة الشريفة، يبلِّغونه أنه أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغُمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد. وإما أن يتجهوا نحو القبلة فيدعون ربهم جلَّ جلاله، إذاً من السُنَّة أن يستقبل الرجل القبلة في دعائه.

ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:

((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً فَسُرِّيَ عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ))
[الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
هذا دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((... وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضِنَا وَارْضَ عَنَّا ...))
[الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلَّم القبلة يوم بدرٍ ودعا الله تعالى -لازلنا في آداب الدعاء، نحن مع شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم -والدعاء مخُّ العبادة، بل الدعاء هو العبادة، لماذا؟ لأنك حينما تدعو الله عزَّ وجل تكون في أعلى درجات القُرب، وتكون في أشد حالات الإخلاص، وفي أشد الضرورة إلى الله عزَّ وجل، إذًا ضرورة، وقرب، وإخلاص، ومِن هنا كان: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
[الترمذي عن أنس بن مالك ]
ثناء النبي على الله في دعائه :
وكان صلى الله عليه وسلَّم يرشد الداعي إلى أن يفتتح دعاءه بالثناء على الله عزَّ وجل، هل عندكم شاهد من كتاب الله أن الثناء على الله دعاء؟ نعم.
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
ثم قال الله عزَّ وجل: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
[ سورة الأنبياء: 88]
معنى هذا أنّ سيدنا يونس كان يدعو، فالثناء دعاء عند الله عزَّ وجل، أنت أحياناً ألا تستعطف إنسانًا قويًّا وابنُك بيده، تقول له: أنت رحيم، ما معنى أنت رحيم؟ أي ارحمه، أنت عظيم، أنت كريم، فالثناء دعاء أيها الأخوة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يفتتح دعاءه بالثناء على الله تعالى، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم.
تصور نفسك داخلاً على إنسان عظيم وهو لا يعرفك، لكنك دخلت بمعية أقرب الناس إليه، وأحب الناس إلى قلبه، أنت بمعية هذا الصديق الحميم، فحكمة البدء بالثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم هو أنك استشفعت به في الدخول على الله عزَّ وجل.
روى الإمام الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ))
[الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى]
نشر الهدى هي حاجة الله عزَّ وجل :
لي تعليقٌ صغير، مرَّةً ذكرت في درس التفسير صلحَ الحديبية، فحينما بايع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم، بايعوا رسولهم على البذل والتضحية في سبيل الله، بعد أن كان عثمان عند قريش موفداً من قِبل النبي، وقد أشيع أنه قد قُتِل، وقد بايع أصحاب النبي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بيعة الرضوان، التي قال الله عنها:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾
[ سورة الفتح : 18 ]
الذي لفت نظري أن النبي صلى الله عليه وسلَّم بعد أن فرغ من أخذ البَيْعَةِ من أصحابه الكرام أمسك يداً بيد وقال: ((إِنَّ عُثْمَانَ - الغائب - فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ))
[الترمذي عن أنس بن مالك ]
نحن لنا حاجات عند الله، لكن الله ما حاجته؟ هنا السؤال، هذا الشيء ورد بالسُنَّة، أنت لك ألف حاجة وحاجة، تريد زوجة صالحة، تريد رزقًا حلالاً، تريد بيتًا، تريد إيمانًا، تريد إقبالاً، تريد اتصالاً بالله، لك عند الله ألف حاجةٍ وحاجة، لكن الله ما حاجته؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولِهِ فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ))
[الترمذي عن أنس بن مالك ]
فهل لله حاجة؟ النبي الكريم قرَّب إلينا شيئاً من كمال الله عزَّ وجل، كأن هداية خلقه هي حاجة الله عزَّ وجل، كأن نشر الهدى هي حاجة الله عزَّ وجل، أيْ إذا شرَّف الله شخصًا وسمح له أنْ ينطق بالحق، ويكون جنديًا في خدمة الحق فهو ساعٍ في حاجة الله، في حاجة الله لأن الله سبحانه وتعالى خلق عباده ليرحمهم، خلق عباده ليهديهم، خلق عباده ليسعدهم، فمن ساهم في إسعادهم، وفي هدايتهم، وفي تعريفهم بربهم، وفي حملهم على طاعة الله عزَّ وجل فهو ساعٍ في حاجة الله وحاجة رسوله، هل هناك من حرفةٍ أشرف عند الله، وأعظم عند الله من أن تكون جندياً ساعيًا وعاملاً في حاجة الله عزَّ وجل وحاجة رسوله؟ ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود:119]
النبي الكريم سأل موجبات الرحمة :
طبعاً فالحديث التالي أصل في الدعاء، قال الإمام الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنْ الْوُضُوءَ ثُمَّ لِيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيُثْنِ عَلَى اللَّهِ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ))
[الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى]
ثم دقق النظر بين التوحيد وبين الأسماء الحسنى تجد بينهما علاقةً وشيجةً، أحياناً لك مشكلة في دائرة، وتقول: الأمر بيد مَن في هذه الدائرة؟ لديَّ مشكلة ومعاملة، الأمر بيد مَن؟ يقال لك: بيد فلان، فلان كيف أخلاقه؟ منصف، يحب الخير؟ أنت يهمك شيئان: أن يكون الأمر بيد إنسان كريم، إنسان حليم، إنسان عادل، إنسان قوي، إنسان غني.
المعنى أقرِّبه لكم أيها الأخوة الكرام، فالنبي الكريم يقول:
((... لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ- الأمر بيد الله- الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ....))
[الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى]
ماذا نفهم من هذا الدعاء موجبات رحمتك؟ في منتهى الأدب.
لو أن النبي قال: اللهمَّ إني أسألك رحمتك، فهذا شأنُه كمَن قدّم طلبًا إلى الجامعة الفلانيَّة يرجى منحي دكتوراه، التوقيع فلان، ولصق الطابع، فتصرُّفه في منتهى الوقاحة، ماذا قدَّمت لتنال هذه الشهادة؟ أين علاماتك؟ أين شهاداتك السابقة؟ أين أطروحتك؟ أين الإجازة؟ فالنبي الكريم ما سأل رحمة الله وحدها بل سأل موجبات الرحمة.
يا رسول الله ادع الله أن أكون معك في الجنة فقال عليه الصلاة والسلام:
((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))
[مسلم عن ربيعة بن كعب]
إذاً النبي الكريم قال: ((... أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ لَا تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ وَلَا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ وَلَا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلَّا قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ))
[الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى]
الأدب في الدعاء يكون بالثناء على الله ثم النبي :

إذاً الأدب في الدعاء أن تفتتحه بالثناء على الله عزَّ وجل، ثم تُثَنِّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ:

((مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إِلَّا اسْتَفْتَحَهُ بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى الْعَلِيِّ الْوَهَّابِ))
[أحمد عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ]
ومن آداب الدعاء التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلَّم، الصلاة عليه أول الدعاء، وأوسطه، وآخره، واللهُ عزَّ وجل يقول: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
[ سورة الأعراف: 55 ]
فمن دعا بصوتٍ عالٍ فقد اعتدى على الخُفية، ومن دعا باستكبارٍ وعدم افتقارٍ فقد اعتدى على التضرُّع، ومن كان معتدياً فالله سبحانه وتعالى لا يستجيب له لأنه لا يحبه، وهناك من قال: من أطال الدعاء فقد اعتدى، أحياناً الدعاء ثلاثة أرباع الساعة، نصف ساعة، الناس يضجرون ويغفلون، فمرةً غفل أحدهم فأيقَظَوه، وقالوا له: أين وصل الشيخ بالدعاء؟ إطالة الدعاء عدوان، وعدم التضرُّع عدوان، ورفع الصوت عدوان، وأن تكون معتدياً على خلق الله هذا عدوان، وهذا يمنع استجابة الدعاء.
وعن عليٍ رضي الله عنه قال: " كل دعاءٍ محجوبٌ حتى يُصلى على محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم ".
لذلك فأنتم حينما تستمعون إلى أدعيةٍ مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، أو عن الصحابة والتابعين تجدونها مصدَّرةً بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم، ومختتمةً بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلَّم.
وروى الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
((إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
[الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ]
الحقيقة أنّ الناس ابتدَعوا صلاةً فارغةً لا تعني شيئاً، يقول لك أحدُهم: صلِّ على النبي، زده صلاة. وهو يكذب، ويغش، ويحتال، هذه الصلوات التي أمرنا بها حينما فُرِّغت من مضمونها، أو حينما خالطها العمل السيِّئ فقدت عند الناس قيمتها، أما في الأصل حينما تصلي على النبي، يعني أنك متمثلٌ بهذا النبي العظيم، مقتدٍ به، مستمسك بسنته، متابعٌ له في أقواله وأفعاله. من آداب الدعاء الإلحاح فيه :
أيها الأخوة الكرام، ومن آداب الدعاء الإلحاح فيه، فقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا))
[أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]
فالإنسان إذا دعا، والدعاء لاقى رغبةً في نفسه، ومسَّ الدعاءُ أوتارَ قلبه، لِيُعِدْ هذا الدعاء ثلاثاً، فهذا من السنة. سؤال: ورد في القرآن الكريم:
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾
[ سورة المعارج : 23 ]
كيف دائم؟ أمَا لهذا الداعي عمل؟ أما له وظيفة؟ ألا يتاجر؟ ألا يبيع؟ ألا يشتري؟ ألا يذهب إلى عمله؟ ألا يطبِّب؟ ألا يُرافع؟ كيف على صلاتهم دائمون؟ ففي الصلوات الخمس، قال تعالى: ﴿ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون: 9 ]
علامة حب المؤمن لله كثرة الدعاء :
فهذه واضحة، أما على صلواتهم دائمون !! قالوا: المقصود هنا الدعاء، في الطريق تدعو، قبل أن تدخل إلى مكتبك تدعو، قبل أن تدخل بيتك تدعو، قبل أن تخرج من بيتك تدعو.
قبل أن تدخل المسجد:
((اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ))
تدعو.
[ مسلم عن أبي أسيد ]
قبل أن تخرج منه: (( اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك ))
[ مسلم عن أبي أسيد ]
قبل أن تخرج من بيتك: ((اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))
[أبي داود عن أبي سلمة]
قبل أن تركب مركبتك: اللهمَّ إني أسألك خيرها وخير ما صُنعت له، وأعوذ بك من شرها وشر ما صنعت له.
دعاء قبل الركوب، وبعد النزول، وقبل السفر:
((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ))
[ الترمذي عن أبي هريرة]
فهل هناك جهة في الكون يمكن أن تكون في آنٍ واحد معك في السفر ومع أهلك في الحضر؟ مستحيل، إلا الله عزَّ وجل، إذًا لك دعاء السفر، دعاء الحضر، دعاء الطعام، دعاء الزيارة، دعاء دخول البيت والخروج منه، دخول المسجد والخروج منه، حتى إذا خرج مِن دورة المياه: ((الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ، وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ، وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاه))
[ من الأذكار النووية عن ابن عمر]
إذاً: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾
[ سورة المعارج : 23 ]
بالأدعية، فالمؤمن يحب الله عزَّ وجل، علامة حبه له كثرة الدعاء، فأنت تخاطب من؟ تخاطب سميعًا، تخاطب قديرًا، تخاطب رحيمًا، فأن يستجيب اللهُ لك شيء يقيني قطعي.
روي عنه صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
((إن اللّه يحبّ الملحّين في الدعاء))
[ من الأذكار النووية عن ابن عمر]
تطييب المأكل والمشرب لتحصيل الإجابة في الدعاء :
الآن دخلنا في المنطقة الحرجة، في المنطقة الخطيرة في الدعاء، قلنا: رفع اليدين حذاء المنكبين، فعند سؤالِ الرحمة باطنهما إلى السماء، وعند سؤالٍ لدفع البلاء باطنهما إلى الأرض، مسح الوجه باليدين، الإلحاح بالدعاء، الثناء على الله عزَّ وجل، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم..

أما مجال المنطقة الحرجة فبسطُه في الفقرات التالية، قالوا: ومن مطالب الدعاء التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلَّم لتحصيل الإجابة، تطييب المأكل والمشرب والملبس، وذلك بأن يكون حلالاً.
هذا أخطر شيء، والآن دخلنا بالمهنة، بالوظيفة، بالصناعة، بالزراعة، بالتجارة، بالبيع، بالشراء، بكسب المال، بالمرافعة أمام القضاة، بمعالجة المرضى، أنت طبيب، والمريض مستسلم لك، مِن الممكن أنْ تكلفه بعشرة تحاليل أو بتحليل واحد، قد يكون عندك يقين أنه لا يحتاج إلى تخطيط، والتخطيط يكلِّف خمسمئة ليرة، والإيكو ألف ليرة، والمرنان خمسة آلاف، يمكن أنْ تكلِّفه بتحاليل وصور هو ليس بحاجة إليها، مَن يعلم؟ الله وحده يعلم، فإذا صار في الأمر ابتزاز، وإيهام، وتوجيه نحو كسب مال غير مشروع، طبيب، محام، مهندس، مدرس أحياناً يضع للطالب علامات قليلة لكي تكثر الدروس الخاصة، كذلك، بضاعة مستوردة من جهة، أوهمتَ أنّها من جهة ثانية، وضعتَ لها وصفًا كاذبًا، الآن دخلنا في صميم الدرس، فدعاؤك متعلِّق بكسب مالك وطيب مطعمك:
((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة))
[ من مجمَّع الزوائد عن ابن عبَّاس]
الاستجابة للدعاء تستوجب الاستقامة :
فالاستجابة تستوجب الاستقامة، وعندك في الاستقامة شيئان أساسيان، استقامتك في كسب المال، واستقامتك في الشهوات، أي أن موضوع علاقتك بالمرأة، وعلاقتك بالدرهم والدينار، هذان الموضوعان يستقطبان تسعين بالمئة من الأحكام الشرعيَّة، علاقتك بكسب المال وعلاقتك بالنساء.
اسمعوا هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ))
[مسلم والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الاستقامة هي أساس الدين :
الآن دخلنا في صميم الدين، عندك صناعة غذائية يأكلها أطفال المسلمين، بإمكانك أنْ تضع مواد منتهية المفعول، أخذتها بنصف قيمتها، فمن يدري؟ بإمكانك تضع مواد كيماويَّة أرخص بكثير، بإمكانك أنْ تضع أشياء ترفع السعر لكن تخفِّض القيمة الغذائيَّة، ولا أحد يعلم إلا الله، فاحذَرْ ثم احذر.
أكرِّر، الآن دخلنا في صميم الدين، فعندما يكون كسبك حلالاً، أي فيه نصيحة، ليس فيه غش، ولا كذب، ولا تدليس، ولا ابتزاز، ولا احتكار، ولا استغلال، ولا إيهام، ولا احتيال، إذا كان كسبك حلالاً معناه أن مالك حلال، معناه أن طعامك حلال، معناه طعامك طيب..

((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة))
[ من مجمَّع الزوائد عن ابن عبَّاس]
غياب حقيقة الدين إذا أكل الإنسان المال الحرام :
هذا هو الدين، الآن قد وضِعتَ اليد على جوهر الدين، قال عبد الله بن عمر للراعي: " بعني هذه الشاة وخذ ثمنها "، قال الراعي: " ليست لي "، قال: " قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب "، قال: "ليست لي "، قال: " خذ ثمنها "، قال: " والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده صادقٌ أمين ولكن أين الله؟ "، هذا الأعرابي البدوي الراعي وضع يده على جوهر الدين، ولو كنتَ تحمل أعلى شهادة اختصاصيَّة في الدين، وتأكل المال الحرام، غابت عنك حقيقة الدين..
((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة))
[ من مجمَّع الزوائد عن ابن عبَّاس]
الدين بالمعمل، بالعيادة، بالمكتب الهندسي، بقاعة التدريس، الدين بدكَّانك، الدين بوظيفتك، الدين بكل حالاتك وظروفك، شيء لا يصدق، لو طبَّق الناس الدين كما أراد الله لدخل الناس في دين الله أفواجاً، لو طبق الناس الدين كما أراد الله لن يُغلب من أمتي اثنا عشر ألفًا من قلَّة، اثنا عشرَ ألف من قلَّة لن يُغلبوا، لكنَّ مليارًا ومئتي مليون كلمتهم ليست هي العليا.. ((يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة))
[ من مجمَّع الزوائد عن ابن عبَّاس]
الدين بتجارتك..ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجَّةً بعد الإسلام، الدين صدق، وقد قلت مرَّةً: والله، إنّ الطبيب المسلم لا يوصَّى، كيف يوصَّى؟ أمامه عبدٌ من عباد الله، والله يراقبه، كيف يوصَّى؟ إجابة الدعاء لمن يمتنع عن أكل الحرام :
إخواننا الكرام، الشيء ليس بالمظهر بل بالمخبر، عندما تمتنع عن أكل الحرام، حينما تخلص للناس، تصدق معهم، لا توهمهم، لا تبتزُّ أموالهم، لا تدلِّس، عندئذٍ أنت دَيِّن ودعاؤك مستجاب.
من آداب الدعاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أرشد المؤمنين إلى عدم الاستعجال في القول: دعوتُ ولم يُستجب لي.
والله دعيت ولم يستجب لي الله هذا منهي عنه، بأن يقول: دعوت ربي ولم يستجب لي، فإن ذلك يبعد الإجابة، لما ورد في الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((قَالَ يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
دعوت ربي فلم يستجب لي، إياك أن تقول هذا.. ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة آل عمران: 66 ]
الله عزَّ وجل يختار لك الخير، والخير لا تعلمه أنت، ولا تعلم أين هو.
وقد روى الإمام أحمد وأبو يعلى عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قَالُوا وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي))
[أحمد وأبو يعلى عَنْ أَنَسٍ]
موضوعات دقيقة ومهمَّة، الدعاء هو العبادة، و.. : ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
[الترمذي عن أنس بن مالك ]
أقرب حالةٍ إلى الله حينما تدعوه :
فأقرب حالةٍ إلى الله تكون فيها حينما تدعو الله عزَّ وجل، فأحياناً يكون لدى الإنسان مرض خطير - لا سمح الله - مرض عضال، أَيُعقَل أنْ يشفيه الله منه؟ نعم هذا معقول، وآيات الله ظاهرة، كان عليه الصلاة والسلام يرشد الداعي إلى العزم والجزم بوقوع مطلوبه، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ - أيْ إذا أحببت - اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
وفي رواية البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهُ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
اجزم المسألة عند دعاء الله :
اللهمَّ ارزقني، اللهم وفقني، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، دون قولك "إن شئت"، و"إذا أردت"، لأن الله عزَّ وجل لا مُكره له، أنت مع إنسان تقول له ربما يكون في الأمر إحراج لك، ربما يكون عليك ضغط، ربما لا تستطيع، لعلي كلفتك ما لا تطيق، فهذا الكلام صحيح لأن الإنسان هكذا شأنه، أما خالق الأكوان ليس هذا شأنه، فهو يعطي فيدهش، فهذه: "إن شئت"، "إن أردت"، "إن سمحت" لا تقلها في دعائك، اعزم المسألة، واجزم المسألة.
قال بعض العلماء: " ومعنى العزم أن يحسن الظن بالله في الإجابة فإنه يدعو كريماً ".
ألفت النظر إلى نقطة دقيقة، أحياناً يقع تقصير في أداء الواجبات الدينية، أخطاء سابقة، ذنوب، فهل هذه الذنوب، وتلك التقصيرات تحول بينك وبين الدعاء؟ الجواب: لا، لا ينبغي أن تحول.
قال ابن عيينة: " لا يمنعن أحدكم الدعاء ما يعلم من نفسه ـ أي إذا كان يعلم من نفسه تقصيرًا، أو ذنوبًا فلا ينبغي أن تمنعه هذه المعرفة من الدعاء ـ فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال:

﴿ فأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[ سورة ص: 79 ]
فالمضطر يدعو بأي وضع، والله عزَّ وجل يقبله. ختم الدعاء بالتأمين لتحصيل الإجابة :
وكان عليه الصلاة والسلام يُرشد الداعي إلى ختم دعائه بالتأمين لتحصيل الإجابة.
روى أبو داود عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ قَالَ:

((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ قَالَ بِآمِينَ فَإِنَّهُ إِنْ خَتَمَ بِآمِينَ فَقَدْ أَوْجَبَ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى الرَّجُلَ فَقَالَ اخْتِمْ يَا فُلَانُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ))
[أبو داود عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ]
فهذا الرجل بأي شيءٍ يختمه؟ أوجب أي أن الاستجابة حصلت ذا ختم الدعاء، فقال رجل: ((بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ))
؟ فقال: ((بِآمينَ))
.
وآمين كما تعلمون اسم فعل أمر بمعنى استجب يا رب، عند قراءة الفاتحة نقول: آمين، بعد "ولا الضالين" آمين، لأنّ فيها دعاء وثناء.
وروى الحاكم عن حبيب بن سلمة الفهري ـ وكان مجاب الدعوة ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:
((لا يجتمع ملأٌ ـ أي جماعةٌ ـ فيدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى))
[الحاكم عن حبيب بن سلمة الفهري]
وثمَّةَ دليل قرآني؟ سيدنا موسى دعا ربه، وإلى جانبه هارون عليه السلام، فقال الله عزَّ وجل: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾
[ سورة يونس : 89 ]
الداعي واحد، والثاني قال: آمين، فصار داعيًا، فكل إنسان قال: آمين صار داعيًا.
لو أنّ شخصًا سألك سؤالاً، طلب منك حاجة، وهو ملتفت عنك، يتسلى بمسبحة، يقرأ مجلة، وقال لك: أعطني الحاجة الفلانية، فهل تستجيب له؟ الداعي إذا كان غافلاً عن المدعو لا يستجاب له.
الدعاء بقلب غافل لا يستجاب :
وفي الحديث الصحيح في مسند الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ - دققوا الآن - لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ))
[أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]
الدعاء بقلب غافل لا يستجاب، الدعاء يجب أنْ يكون بقلب خاشع، وقلب حاضر، وقلب شاهد، بقلبٍ شاهدٍ حاضرٍ خاشع، عندئذٍ يستجاب، أمالا دعاء مع الغفلة، مع الشرود، الداعي يدعو ولديه خواطر، أشكال وألوان، وفي الختام آمين، فهذا ليس دعاء، يجب أن تدعو وأنت شاهد لا وأنت غافل غائب، بل شاهد، حاضر، خاشع، متذلل، متضرع، فالله عندها يستجيب، أما إذا كنت في شرود، وفي تأمين شكلي أجوف، فهذا الدعاء لا يستجاب: ((... فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ))
[أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]
* * * * *
حب النبي لجوامع الدعاء :
ومن آداب الدعاء الواردة عنه صلى الله عليه وسلَّم أنه كان يحب جوامع الدعاء، يا رب زوجني فلانة بنت فلان، يا رب المحضر الفلاني الخانة رقم كذا، هذه ليست جوامع الدعاء، يجب أن تدعو الله بجوامع الدعاء، " ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً "، هذا مِن جوامع الدعاء، أكمل الدعاء دعاء القرآن ودعاء النبي، فعلى الإنسان أنْ يحفظ أدعية القرآن كلها، لأن فيها غطاءً لكل حالات الإنسان، ويحفظ أدعية النبي صلى الله عليه وسلَّم، لأنه أوتي جوامع الكلم.
كان عليه الصلاة والسلام يجمع في الدعاء: اللهمَّ ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً "، " اللهم أنا بك وإليك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب "، " اللهمَّ إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
اقرأ أدعية النبي، واحفظها، وحبَّذا لو حملتَ في جيبك كُتيبًا صغيرًا عن أدعية النبي، اقرأها إلى أن تحفظها، عندئذٍ ادعُ الله دائماً، الدعاء مخ العبادة، والدعاء هو العبادة، والدعاء هو الصلاة الدائمة.

إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله :
أيها الأخوة الكرام، أمر على فقرات الدرس مروراً سريعاً، رغبةً في تلخيصها، من آداب النبي صلى الله عليه وسلَّم في دعائه أنه كان أولاً يرفع يديه حذاء منكبيه، وكان صلى الله عليه وسلَّم يستقبل القبلة عند الدعاء
وكان يختم الدعاء بمسح وجهه بيديه، وكان يلحُّ في الدعاء، وكان يفتتح دعاءه بالثناء على الله عزَّ وجل، ويُثَنِّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان صلى الله عليه وسلَّم يعجبه الدعاء الجامع لا التفصيلي، وكان ينهى عن الاستعجال بأن يقول العبد: دعوت فلم يستجب لي، وكان عليه الصلاة والسلام يحب في الدعاء العزم والجزم، فما كان يقول: اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، وكان يشير إلى التأمين في ختامِ الدعاء بأن تقول: آمين، وكان يحبُّ أن يكون الدعاء بقلبٍ حاضرٍ خاشعٍ شاهد، وكان عليه الصلاة والسلام يحب جوامع الدعاء.
هذه كلها آداب النبي صلى الله عليه وسلَّم في دعائه ربه، والدعاء مرةً ثالثة مخُّ العبادة، والدعاء هو العبادة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو يدعوه، والدعاء سلاح المؤمن، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى ننتقل إلى بعضٍ من جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلَّم، ونشرحها، وبالله التوفيق.



والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:45 PM   #29


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثلاثون )

الموضوع : جوامع الادعية







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثلاثين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الدرس الماضي حول آدابه صلى الله عليه في الدعاء، وننتقل إلى الفقرة الثانية من الدرس وهي نماذج من جوامع أدعيته صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة الكرام... بادئ ذي بدء، أعلى درجةٍ في العبادة أن تدعو الله عز وجل، لذلك أتمنى على إخوتنا الأكارم أن يقتنوا كتيِّباً في بيوتهم حول أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يقرؤوا هذا الكتيِّب كثيراً إلى أن يحفظوه، فإذا حفظوه كان الدعاء وسيلةً من وسائل اتصالهم بالله في كل أحوالهم.
كما قلت في الدرس الماضي ؛ إذا استيقظ أحدكم، إذا دخل إلى المسجد، إذا خرج من المسجد، إذا دخل بيته، إذا خرج من بيته، في كل أحواله، إذا دخل السوق، إذا عقد صفقةً، إذا اشترى ثوباً، إذا ارتدى ثوباً، إذا دخل إلى الخلاء، إذا دُعي إلى طعام، ما من حركةٍ وسكنةٍ في حياة النبي إلا ولها دعاءٌ من جوامع الكَلِم.
وحينما تتوجه إلى الله جل جلاله بدعاء رسول الله فأنت على الصراط المستقيم، لا تبتدع في الأدعية، ترك لنا النبي صلى الله عليه وسلم جوامع من أدعيته، وأدعيته فيها جوامع الكَلِم، والدرس اليوم بعض النماذج من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في الصحيحينِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:

(( كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
ولعل الذين اعتمروا أو حجّوا بيت الله الحرام، يسمعون بآذانهم أن أكثر دعاءٍ يُدعَى به في الطواف وفي السعي: (( اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
فما هي حسنة الدنيا ؟ سيدنا علي بن أبي طالب قال: " هي المرأة الصالحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها برَّتك ))
وقال قتادة: " حسنة الدنيا هي العافية والكفاف ".
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))
إخواننا الكرام ؛ الذي آتاه الله عز وجل سلامة في صحته، وكفافَ يومه، وأمنًا في أهله، واللِه لا أبالغ فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها، صحيح الجسم عنده قوت يومه، لأنه: (( خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها همًّا - كلما كبر حجمك في الدنيا كبر همك - " خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً))
( من كشف الخفاء )
(( ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر))
لذلك سيدنا علي كرم الله وجهه يرى أن هناك ثلاث نعمٍ على التسلسل ؛ إن كانت فلا تأس على شيءٍ فاتك من الدنيا، إيمانٌ صحيح، وعافيةٌ وكفاف، ولا معنى للعافية من دون إيمان، ولا معنى للكفاف من دون عافية، على التسلسل ؛ إيمانٌ، وعافيةٌ، وكفاف، فمن حيزت له هذه الثلاث ما فاته شيءٌ من الدنيا، والله هو الملك، وهناك ملكٌ جبار سأل وزيره: " من الملك ؟ من شدة خوفه قال الوزير: أنت الملك، قال له: لا، الملك رجلٌ لا نعرفه ولا يعرفنا، له رزقٌ يكفيه، وزوجةٌ ترضيه، وبيتٌ يؤويه، إنه إن عَرَفنا جَهِد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله ".
لا نعرفه ولا يعرفنا، له زوجةٌ ترضيه، وبيتٌ يؤويه، ورزقٌ يكفيه، هذا هو الملك، فإذا أخٌ من إخواننا الكرام عافاه الله في بدنه، وأمتن عليه بالإيمان والاستقامة على منهج الله، وعنده ما يكفيه، فقد فاز بكل شيء.
لذلك قبل ثلاثين عاماً فيما أذكر، قرأت كتاباً عن سيدنا الصديق رضي الله عنه، الكتاب من أروع ما كتب عنه، ولفت نظري في حياته كلمات قالها المؤلِّف عنه في مقدمة الكتاب، قال: هذا الصحابي الجليل ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط.
قبل أن آتي إليكم كنت في عيادة مريض، قلت له: سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبةٌ قال: " الحمد لله ثلاثاً ؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها ".
وأنا أحبكم أن تتفاءلوا، أن تبتسموا، أن تنطلقوا، إيمان، واستقامة، وصحة، وكفاف.
إذاً سيدنا قتادة يقول: حسنة الدنيا هي العافية والكفاف.
الحسن البصري قال: حسنة الدنيا العلم والعبادة، عبادةٌ بلا علم فيها نكسات، لعالمٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابد، العابد مقاومته هشَّة، فتاةٌ تفتنه، ومبلغٌ يُسقطه، المقاومة عنده هشَّة، لذلك عالمٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، العلم والعبادة، علمٌ بلا عبادة كالشجر بلا ثمر، وعبادةٌ من دون علم هشةٌ ضعيفة سريعاً ما تسقط.
الحسن البصري قال: حسنة الدنيا العلم والعبادة، وقتادة قال: العافية والكفاف. وسيدنا علي قال: " المرأة الصالحة "، لا زلنا في حسنة الدنيا، وقال السُدِّي: حسنة الدنيا المال الحلال.
(( نِعْم المال الصالح للعبد الصالح))
سيدنا أبو ذر الغفاري يقول: حبذا المال ـ لماذا ؟ ـ أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي ". ولو يعلم الأغنياء أن مالهم يمكن أن يرفعهم عند الله وفي الجنة إلى أعلى عليين، لمَا بخِلوا في الإنفاق في سبيل الله.
قبل ساعتين كنا في حفل افتتاح مسجدٍ في يعفور، مسجد جميل، معتنى به، وألقى الخطباء كلماتهم، وألقيتُ كلمةً معهم، وبينما كانت عيني على الذي بنى المسجد كله على نفقته الخاصة، سبحان الله، حانت مني التفاتةٌ إلى الطرف الآخر، في الطرف الآخر نادٍ ليلي من أشهر النوادي في الصبورة، ترتكب فيه كل أنواع الموبقات في العالم، قلت: سبحان الله على هذه الضفة بيتٌ من بيوت الله، وعلى تلك الضفة نادٍ من نوادي المعاصي والآثام.
الذي بنى هذا النادي افتتحه وبعد أسبوعٍ توفاه الله، فأصبح لعنةً جاريةً إلى يوم القيامة، والذي بنى هذا المسجد فهو في صحيفته، كل من صلى فيه إلى يوم القيامة في صحيفته، فشتان بين أن تترك ملهىً، وبين أن تترك مسجداً، وشتان بين من يترك غناءً ومن يترك قرآناً، فالمغني مات وبقيت أشرطته، والقارئ مات وبقيت أشرطته.
فالقضية قضية تفكير عميق، لا بدَّ من ملاقاة الله عز وجل، الحسن البصري: العلم والعبادة، السُدي: المال الصالح، بالمال يمكن أن تعمِّر مسجداً، يمكن أن تبني مستوصفًا، يمكن أن تنشئ مستشفىً، يمكن أن ترعى الأيتام، يمكن أن تنفق على الأرامل، يمكن أن ترسم البسمة على وجوه الفقراء، كل هذا بالمال، حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي، المال الصالح هو حسنة الدنيا عند السدي.
أما عند ابن عمر: حسنة الدنيا الأولاد الأبرار، الولد البار بوالديه، ولد مستقيم، عالم، سمعته عطرة، بارٌ بوالديه، هذه حسنة الدنيا وهو قُرة عين والديه.
وعند أحد العلماء حسنة الدنيا ثناء الخلق، لأن ألسنة الخلق هي أقلام الحق، فرأس مال كبير أن تتمتع بثقة الناس ومحبتهم وثنائهم.
وقال جعفر الصادق: حسنة الدنيا صحبة الصالحين والعلماء، والمحروم من حُرِمَ صالحي زمانه، في كل زمن تجد صالحين، وكلُّ زمن فيه علماء، أتقياء، فقهاء، فأهل القُرب، أهل المحبة، أهل الوداد مع الله تعالى.
سوف نجمعهم، حسنة الدنيا ؛ المرأة الصالحة، والعافية، والكفاف، والعلم، والعبادة، والمال الصالح، والأولاد الأبرار، وثناء الخلق، وصحبة الصالحين.
العلاَّمة الألوسي من كبار علماء اللغة، قال: كلمة " حسنة" هذه نكرةٌ جاءت في حيِّز الإثبات، تفيد أنها مطلقة، وتنصرف إلى الكمال من كل شيء. هذا المعنى اللغوي، إذاً حسنة الدنيا كل هؤلاء ؛ امرأةٌ صالحةٌ، وعافيةٌ، وكفافٌ، وعلمٌ، وعبادةٌ، ومالٌ صالحٌ، وأولادٌ أبرار، وثناء الخلق، وصحبة الصالحين،
(( ربنا آتنا في الدنيا حسنة))
أما الآخرة، ما حسنة الآخرة ؟ كلمة واحدة هي الجنة ؛ فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الدنيا محدودة، والآخرة ممدودة، من هو الطموح ؟ لا الذي يطمح في الدنيا ؛ لكن الذي يطمح في الآخرة..
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
( سورة القمر )
الطموح مَن وصل إلى مرتبةٍ ساميةٍ عند الله عز وجل، والله مرة في حفل عقد قران، قام أحد الخطباء، وذكَّر الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل، ماذا قال النبي له ؟ أنا شعرت بنشوةٍ ما بعدها نشوة قال: (( إِنِّي لأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ))
( من سنن الترمذي: عن " معاذ بن جبل " )
والله بقيت أسبوعاً وأنا في نشوة هذه الكلمة، نبي الله، سيد الخلق، يقسم بالله إنه يحب معاذ بن جبل !! معنى هذا أن مكانتك عند من ؟ عند الله ورسوله، فإذا كان الله راضياً عنك، فاسمَعْ ما قاله الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريـــرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني و بينك عامـرٌ وبيني وبين العالمين خـرابُ
إذا صح منك الوصل فالكل هينٌ و كل الذي فوق التراب ترابُ
أقول لعذَّالي مدى الدهر اقصروا فكل الذي يهوى سواه يعـابُ
* * *

مرة قلت في خطبة: ليس البطولة أن تحب، كل إنسان يحب، لأن الحب من أخص خصائص الإنسان، لكن البطولة أن تعرف من ينبغي أن تحب، أن تحسن الاختيار، رجل صالح مر على قبرٍ وعليه من يبكي فقال: لمَ تبكي يا أخي ؟ قال: أبكي على حبيبٍ فارقته، قال: لقد ظلمت نفسك بأنك أحببت حبيباً يموت، فلو أحببت حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾
( سورة البقرة: من آية " 165 " )
vيا أيها الإخوة الكرام ؛ واللهِ لا يليق بنا أن نحب غير الله، واللهِ إنّه من الغبن الفاحش أن نجَيَّر لغير الله، من الغبن الفاحش أن نكون لغير الله، من الغبن الفاحش أن يكون عقلك، وبيانك، واهتمامك، وطاقاتك لغير الله، أن تكون ذَنَباً لإنسان، أن تكون تابعاً لمخلوق، أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم، كن عبدًا للَّه، فعبد الله حر، لا تكن عبداً لعبد، قال والي البصرة للحسن البصري: " ماذا أفعل ؟ جاءني من يزيد توجيه إن نفذته أغضبت الله وإن لم أنفذه أغضبت يزيد فماذا أفعل يا إمام ؟ "، ببساطة، وببلاغة، وبروعة، قال: " إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله"، وهذه طبقوها على حياتكم ؛ إنسان ضغط عليك، إن الله يمنعك منه، ولكنه لا يمنعك من الله، كلمةٌ بليغةٌ.
قالوا: حسنة الآخرة هي الجنة، وقالوا: هي السلامة من هول الموقف وسوء الحساب، وقيل: الحور العين، فليس مِن امرأة كاملة في الحياة الدنيا، تتفوق بجهة إلاّ وتنقص بجهة، أخلاق عالية جمال وسط، جمال عالٍ أخلاق شرسة، لا تُحتمل، النَسَب قد يقابله شيء مرذول، والجمال يقابله نشوز، والفقر قد يقابله سماحةٌ وطيب، والذكاء والكياسة يقابله نقص بجهة ثانية، شاءت حكمة الله أن تكون الدنيا هكذا، لئلا نتعلق بها، لذلك أحد الصحابة الكرام حينما طالبته زوجته بحظٍ من حظوظ الدنيا قال: "اعلمي يا فلانة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أضحي بهن من أجلكِ ".
إذًا " حسنة الآخرة" قيل: الحور العين، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب. وقيل: الجنة. وقيل: لذة الرؤية. أي رؤية الباري عز وجل..
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)﴾
( سورة القيامة )
متألقة.
﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
( سورة القيامة )
ورد في الأثر أن أهل الجنة إذا نظروا إلى وجه الله الكريم يغيبون خمسين ألف عامٍ من نشوة النظر.
ووَرد أن الله عز وجل حينما قال:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾
( سورة يونس: من آية " 26 " )
الزيادة رؤية وجه الله الكريم، الحسنى هي الجنة، والزيادة رؤية وجه الله الكريم.
والحقيقة نلخص حسنة الآخرة في كلماتٍ معدودة، كما فعلنا في حسنة الدنيا ؛ كل أولئك ؛ رؤية وجه الله الكريم، الحور العين، السلامة من هول الموقف، الجنة بكل ما فيها.
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ ـ ضعيفًا، هزيلاً، مريضًا ـ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ قَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ أَفَلَا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ))
فهل على الله كثير في الدنيا والآخرة أنْ يريحك ؟! دعاء فيه جهل: ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، قال له: لا، لا تقل هذا الكلام، أحيانًا بعض الإخوة عن جهل يدعو: يا رب ابتلِني وأنا أصبر، ومن قال لك إنك تصبر ؟‍! قد لا تصبر، قد تنهار مقاومتك، قد تكفر بربك، كن أديباً مع الله، تأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي مِن أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))
( من الجامع الصغير: عن " عبد الله بن جعفر " )
سل الله العافية: " سل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ".
من أجمل الأدعية، كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
(( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))
( من سنن الترمذي: عن " عائشة " )
وكان يدعو عليه الصلاة والسلام: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))
( من سنن ابن ماجة: عن " أبو هريرة " )
من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم الجامعة: (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
وهذه مداخلة في الموضوع... قرأت خبرًا في الجريدة أن فكرةً لمعت في ذهن بعض دور النشر أن يقلب الكتاب من كتاب مقروء إلى كتاب مسموع، فأتى بكبار المذيعين، وسجلوا هذا الكتاب على أشرطة، فهذا الكتاب كما سمعت حقق أرباحًا تقدر بتسعين مليون دولار ـ أرباح كتاب سجل على أشرطة ـ قالوا: لماذا ؟ لأن فئةً مِن الناس عندهم ساعتان في اليوم ؛ الساعة الأولى ساعة الرياضة والجري، والساعة الثانية ساعة قيادة السيارة، وهاتان الساعتان وقتٌ ميت، لذلك فمعظم هؤلاء يستمعون إلى الأشرطة عند قطع مسافة الوصول إلى أعمالهم في السيارة وفي أثناء الرياضة - شيء جميل - ممكن إذًا في أثناء الرياضة أنْ يقرأ الشخصُ كتابًا، يسمعه بمسجلات صغيرة، وفي السيارة يستمع إلى أشرطة سجلت الكتاب.
فهذا المؤمن إذا كان يعمل في مجال الرياضة، أو يتمشى فمعه أدعية، ومعه أذكار، أنا سُقت هذه القصة لأصِل إلى هذا، فأنت أيها المسلم أنيسُك الأول ذكر الله سبحانه، فممكن في أثناء مشيك من أجل الرياضة، وممكن في أثناء قيادة مركبتك من بيتك إلى معملك، ممكن أن تستمع إلى درس علم وتستفيد، ويمكن أن تذكر الله في هذا الوقت، ومن الممكن أن تدعوه، أن تسبحه، أن تستغفره، أن تكبِّره أن تهلل، أن توحِّد، أن تضرع إليه.
قالوا: إذا أردت أن تحدث ربك فادعه، وإذا أردت أن يحدِّثك الله فاقرأ القرآن، تحدثه ويحدثك، تدعوه وتقرأ كلامه.
من أدعيته الجامعة ما روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ))
شيء جميل.. (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي))
(( ابن عمر: دينك ينك إنه لحمك ودمك))
( من كنز العمال: عن " ابن عمر " )
(( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ))
( من صحيح مسلم: عن " محمد بن سيرين " )
(( وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
فأنت تحتاج إلى مال، وعندك زوجة وأولاد، ويترتَّب عليك مصروف، تحتاج إلى الصحة، تحتاج إلى مأوى، تحتاج إلى طعام وشراب، تحتاج إلى ثمن دواء، إلى ثمن كساء.
(( وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي))
ماذا بقي ؟
(( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ))
أحياناً الموت رحمة، قال: إذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم، صرنا في زمان يقول أحدهم: هل شاورت الخانوم ؟ شاورها ثم تعال، الأمر ليس بيده بل بيدها، أخي أحضر معك الخانوم، أريح لنا، (( وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
أحد الشعراء رثى يوسف العظمة، الذي كان وزير الدفاع في أوّل عهد الاستقلال، هو دارس دراسات عليا في أوروبا، ويعلم علم اليقين أن هذا الجيش المتواضع لن يقابل جيش فرنسا، ومع ذلك خرج، واستشهد وكان بهذا الاستشهاد بطلاً، فمدحه شاعر قائلاً:
هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلق الأغراب
* * *
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
لذلك من أدعية النبي: (( اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ))
( من مسند أحمد: عن " ابن رفاعة " )
وهذا دعاءٌ رائعٌ، ومِن أدعية النبي الجامعة: (( رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ـ أي خطيئتي ـ وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي ))
السخيمة الحقد.
( من سنن الترمذي: عن " ابن عباس " )
فهذا من أدعية النبي، وهناك دعاء مقتبس من هذا الدعاء: (( اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا ولا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَارْضَ عَنَّا وَأَرْضِنَا))
( من مسند أحمد: عن " عمر بن الخطاب " )
أروع ساعات الإنسان مع الله ساعات الدعاء.
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)﴾
( سورة الأعراف )
ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا.. من أدعيته صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ: (( يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى))
الهدى والتقى، الهدى الهداية، والتقى الطاعة، ما قيمة الفكر النيِّر من دون عمل مستقيم،: (( يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى))
المؤمن عفيف، المؤمن الفقير متجمِّل، والغني سخي، وكلاهما تحبهما.
من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:
(( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ))
( من صحيح مسلم: عن " ابن عباس " )
لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت..
اجعل لربك كـل... .. عزك يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن.. يموت فإن عزك ميت
* * *

إذا ربط الإنسان نفسه بالحق من خير إلى خير، ومن مقام إلى مقام، من منزلة إلى منزلة، من رفعة إلى رفعة، أما إذا ربط نفسه بالباطل، لا يحتاج ربطًا، فهو مربوط، وم ثَمّ فهو زاهق.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾
( سورة الإسراء )
أحياناً الإنسان كل كيانه يتلاشى إذا ربط نفسه بالباطل، قد يربط نفسه بمبدأ أرضي وضعي، هذا المبدأ إذا انهارَ انهار معه، قد يربط نفسه بشخص قوي، فإذا مات فجأةً مات معه.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾
( سورة الإسراء )
فالمؤمن العاقل يربط نفسه بالحق، والحق ثابت، فبصراحة المؤمنُ بالله ليس عنده مفاجأة في حياته إطلاقاً، فلن يكون مبدؤه مغلوطًا ولا خاطئًا، ومِن المستحيل أنْ تنهار قيمه، فهو مع الحق، والحق أبديٌ سرمدي، الله هو الحي الباقي، من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: (( اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِ))
( من سنن الترمذي: عن " عائشة " )
أحياناً نلوذ بهذا الدعاء: (( اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء))
فهذا شيء صعب ؛ السلب بعد العطاء، عضال الداء، شماتة الأعداء، (( اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي))
( من سنن الترمذي: عن " عائشة " )
قال له: يا سيدي ما هذه الصحة ؟ بعد ستة وتسعين سنة يتمتع بقامةٍ منتصبة، وبصرٍ حاد، وسمعٍ مُرهف، وأسنانه في فمه، وهو قويٍ نشيط في السادسة والتسعين، وزوجته في التسعين، وصحتها كصحته، تلاميذه عجبوا من هذه الصحة، فقال أحدهم: يا سيدي ما هذه الصحة ؟ فقال هذا العالم الجليل: يا بني حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
إخواننا الكرام ؛ بشرى للجميع ؛ ما مِن إنسان يشتغل بالعلم الشرعي، يقرأ القرآن، يحفظ القرآن، يجوِّد القرآن، يفسِّر القرآن، يقرأ سُنَّة النبي، يحضر مجالس العلم، يصلي الصلوات الخمس، يصوم رمضان، يحُج البيت، يعتمر، وهذا كله نشاط فكري، إلا متعه الله بعقله حتى يموت، نعوذ بالله من أرذل العمر.
قال لي أخ: والدتي نضجعها على سرير ونربطها من يديها ورجليها، لأنها إذا أطلقت يداها خلعت ثيابها كلها، وأكلت من غائطها، وبقيت على هذه الحالة عشر سنوات، بينما المؤمن تجده متألِّقًا، وهو في التسعين، كأنه كوكب دري.
إخواننا الكرام ؛ إخواننا الشباب، البطولة ليست في الشباب، بل البطولة في خريف العمر، المؤمن له خريف رائع، له خريف عمر، كالكوكب الدري متألق، احفظها في الصغر، ليحفظها الله عليك في الكبر، اقرؤوا القرآن ليمتعكم الله بسمعكم وأبصاركم وعقولكم، ألا تسمعون دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
(( وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا))
( من سنن الترمذي: عن " ابن عمر " )
أي أنه مات وعينه سليمة، وسمعه سليم، وذوقه سليم، وعقله سليم، أما الآخر وهو حي، يفقد بصره، يفقد سمعه، يفقد توازنه، يفقد ذاكرته، يفقد قوته، فهذه مشكلة، بل مصيبة المصائب.
(( وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا))
( من سنن الترمذي: عن " ابن عمر " )
هذه العين سماها الله كريمة، في الأعم الأغلب ولا أتألَّى على الله عينٌ غضَّت عن محارم الله، عينٌ بكت في سبيل الله، نرجو الله أن يحفظها لنا إلى آخر الحياة، عينٌ تغض عن محارم الله، تستحيي من وجه الله الكريم أن تنظر إلى عورة مسلم، هذه العين لها معاملة خاصة عند الله، عينٌ غضت عن محارم الله، أما هذا الذي يملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم.
لي صديق مقيم في أحد أحياء دمشق، وله جار بيته ملاصقٌ له، قال لي هذا الصديق: جاره متزوج، وعنده أولاد وبنات، وقد زوج بناته كلهن، أي أنه عنده خمسة أصهار، ومع ذلك عنده هوايةٌ غريبة، والقصة قديمة، بيته في حي المزة، ينزل إلى مركز المدينة ليسير في طريق الصالحية، ذهاباً وإياباً عصر كل يوم، ليمتع عينيه بحسناوات هذا الطريق، نظر فقط، قال لي هذا الصديق: فجأةً أصيب هذا الجار بمرضٍ نادر، اسمه ارتخاء الجفون، الجفنان ارتخيا، لا يرى إلا أن يمسك جفنيه بيديه ويرفعهما، فإذا تركهما أُغلقا على العينين.
كل شيء بثمن، سنواتٍ طويلة، عصرَ كل يوم يمشي في هذا الطريق ليملأ عينيه من الحرام، ليستمتع بمنظر الحسناوات الغاديات الرائحات، الكاسيات العاريات، المائلات المُميلات، الملعونات، لذلك عاقبَه الله عز وجل بعقابٍ من جنس العمل ؛ ارتخاءٌ في الجفون، فهو مرض موجود يصيب بعض الناس، أمّا أنت فمرتاح، وجفنك مفتوح، هذا المرض ؛ ارتخاء الجفون، لا يستطيع الشخص أن يرى إلا أن يُمسك جفنه ويفتحه بيده، فهذه حالة تستدعي الاعتبار.
لذلك حين طلب النبي العافية، واللهِ هو محقٌ بها، من أدبٍ النبي اللهم صلِّ عليه أنه كان يطلب موجبات الرحمة، موجبات العافية الاستقامة على أمر الله، هذه موجبات العافية.
ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ))
( من صحيح البخاري: عن " أنس بن مالك " )
قهر الرجال، شيء لا يحتمل، أحياناً تأتي المصيبة من الله مباشرةً، لأنها من الله تُحْتَمل، أما قد تأتي على يد إنسان.. (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ))
هذا من الأدعية الجامعة المانعة.
ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ))
( من صحيح مسلم: عن " زيد بن أرقم " )
دخل النبي إلى مسجده، فرأى رجلاً تحلَّق الناس حوله فقال: (( من هذا ؟ وهو يعلم من هذا، سؤال العارف المعلم قال: من هذا ؟ قالوا: هذا نسابة، قال: وما نسَّابة ؟ قال: يعرف أنساب العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك علمٌ لا ينفع من تعلمه ولا يضر من جهل به))
الوقت ثمين، فمِن العبث أن تقرأ قصة في ثمانمئة صفحة، فإذا فيها لعقة عسل ممددة بخمس جوابي كبيرة، من أجل أن تدخل هذه اللعقة لجوفك يجب أن تشرب كل هذا الماء، الوقت ثمين، وقراءة مثل هذه القصة هدرٌ للوقت، يجب أن تختار من الكتب ما ينفعك، من الأصدقاء ما يرشدك، لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ومن لا يدلُّك على الله مقاله، اختر أفضل الأصدقاء، واقرأ أحسن الكتب، واستمتع بأجمل الأوقات فيما يرضي الله عز وجل.
إذاً:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا))
( من صحيح مسلم: عن " زيد بن أرقم " )
قلبٌ غير خاشع، وعينٌ لا تبكي من خشية الله، وأذنٌ لا تصغي إلى الحق، ونفسٌ طمَّاعة، جمَّاعةٌ طماعة، ودعوةٌ لا يستجاب لها، فالعياذ بالله من كل هذا.
وأحياناً يكون الإنسان في بحبوحة، في سعادة، في يُسر، فجأةً تنقلب الأمور، فجأةً يسحب البساط من تحت قدميه، فجأةً، ينهار بيته، فكان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم:
(( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك))
وأحياناً يرخي الله الحبل، فجأةً يشُد الحبل فإذا هذا الإنسان قد انهار، إما مرضٌ عضال، أو شقاقٌ زوجي كبير، أو أولادٌ عاقّون، يقول لك: الأمر انقلب فجأةً، (( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك))
(رواه مسلم )
بقي علينا دعاءان قصيران: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ))
( من سنن الترمذي: عن " زياد بن علاقة " )
(( اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء ـ يوم مشؤوم ـ ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة))
وكان يدعو النبي الكريم يقول: (( تعوذوا بالله من مجاورة جار السوء إن رأى خيرا كتمه وإن رأى شرا أذاعه، وتعوذوا بالله من زوجة سوء إن دخلت عليها لسنتك، وإن غبت عنها خانتك، وتعوذوا بالله من إمام سوء إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر))
( من كنز العمال: عن " أبي هريرة " )
وبهذا ينتهي هذا الدرس، وننتقل في درسٍ آخر إلى مختاراتٍ من أدعيته في مناسباتٍ متعددة، وهذه الأدعية التي وقفنا عندها أدعيةٌ من دون مناسبات تدعون بها في أي وقت، ولكن الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتبادل أدعية النبي في المناسبات المتكررة التي نوَّهت إليها في أول الدرس.

والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:48 PM   #30


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الواحد و الثلاثون )

الموضوع : ادعية المناسبات حتى دعاء الحاج







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وسنقف في هذا الدرس عند نماذج من أدعيته في مناسباتٍ خاصَّة، بينما كان الدرس الماضي نماذج من أدعيته بشكلٍ عام، وقبله آدابه صلى الله عليه وسلَّم في الدعاء، ولا مانع من أن أذكِّركم بأن..
(( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك " )
بل إن الدعاء هو العبادة، بل إن الشيء الوحيد في الحياة كلِّها الذي يردُّ القضاء هو الدعاء، لا يردُّ القضاء إلا الدعاء، ولا ينبغي أن نغفل عن أنك إذا دعوت الله أنت مع خالق الكون، مع أقوى الأقوياء، مع أغنى الأغنياء، مع أرحم الرحماء، مع الذي يسمعك في أي مكان، وأنت في بطن الحوت..
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ﴾
( سورة الأنبياء: من آية " 87 " )
وأنت في الصحراء، وأنت في الجو، وأنت في البحر، لا تنسَ أيها الأخ الكريم، واللهِ الذي لا إله إلا هو لزوال الكون أهون على الله من أن تتوجَّه إليه مخلصاً بالدعاء ولا يستجيب لك، ولا يُشعرك أنه سمعك، وأنه حرَّك الأحداث وفق ما تريد، لذلك: (( الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك " )
الصلاة دعاء، وأعلى درجات الاتصال بالله حينما تدعوه، بل إن أعلى ما يكون اتصالُ حينما تدعوه مضطراً..
وجدناك مضطراً فقلنا لك: ادعنا... نجبك فهل أنت حقاً دعوتنا ؟
دعوناك للخيرات أعرضت نائيا فهل تلقى من يحسن لمثلك مثلنا ؟
فيا خجلي منه إذا هو قال لي:...... أيا عبدنا ما قرأت كتابنا ؟
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عُتبنا يوم جمعنا ؟
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً...... وتنظر ما به جاء وعدنا ؟
* * *

لا تنظروا إلى أن هذا الدرس درس تقليدي، وموضوعه الدعاء، فالدين كلُّه دعاء، أعمق ما في الصِلة الدعاء، أشدُّ حالات القرب من الله هو الدعاء.
إخواننا الكرام ؛ دققوا، أنتَ لستَ مضطرًا وأنت في الطريق، أو راكب مركبة، أو في دائرة حكوميَّة، أو أنْ تقابل إنسانًا، لك معاملة عنده، لست مضطرًا أن تقول له: يا رب ـ أمام الناس ـ يا رب، لا لست مضَّطرًا..
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3)﴾
( سورة مريم )
بإمكانك أن تدعو الله الدعاء الذي يرضاه، ويريده، وشفتاك لا تتحرَّكان، سألك شخصٌ سؤالاً، فقل في سرِّك: يا رب ألهمني الصواب لا تفضحني، تريد أن تقابل إنسانًا، يا رب ارزقني هيبة، وألهمني الكلام السديد الرشيد، أحياناً الإنسان يتكلَّم كلمة يظل شهرًا متمزِّقًا من أجلها، ما فيها ذكاء أبداً، فيها حُمق، كلمة واحدة، أحياناً كلمة تخرب مشروعًا عمره خمس سنوات.
رجل دخل بيته، من كلمة إلى كلمة طلَّق زوجته ثلاثًا، يتسكع على أبواب المُفتين، يتحكَّمون فيه، يقول له: طلقت منكَ فاذهب اذهب، والثاني في وجه ضعيف، والثالث، لو أنك حين دخلت إلى البيت، ودعوت بدعاء النبي لما حدث معك هذا، كلٌّ يلومه ويصرفه.
فهذا الدرس ملخَّص كتاب الأذكار للنووي.
درس اليوم ملخص كتاب، ولكن الذي أرجوه من الله عزَّ وجل هو أن يأخذ أحدكم الدعاء مأخذاً جدياً، فأنت طالب عندك امتحان، تاجر عندك صفقة لا تُباع، مزارع عندك آفة زراعية، ما من إنسان إلاّ وله مشكلة، وربنا عزَّ وجل حاضر ناظر..
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾
( سورة غافر: من آية " 60 " )
ما أمرك أن تدعوه إلا ليستجيب لك، الأمر عجيب، فالإنسان معه سلاح يجعله أقوى إنسان على الأرض، لكنك تجد تفكيره أرضيًا، النبي ماذا كان يفعل ؟ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))
( أبو داود)
فيا إخواننا الكرام ؛ درس اليوم ؛ استيقظت، توضأت، خرجت من بيتك، دخلت للمسجد، خرجت من المسجد، دخلت البيت مرة ثانية، دخلت السوق، خرجت من السوق، عُدت مريضًا، دعاك إنسان، الدعاء لا بد منه في كل الأحوال، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد يدعو، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَضْجَعِهِ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ اللَّهُمَّ لَا يُهْزَمُ جُنْدُكَ وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ))
( أبو داود)
أحياناً ينام الإنسان نومًا هنيئًا، فيرى منامًا مريحًا، وأحياناً عند منتصف الليل تبرز مشكلة، يحتاج إلى مستشفى وإلى إسعاف، خط الهاتف مقطوع، والطبيب مسافر، وهذا في إجازة، وهذا لم يجده، والمناوب لم يأتِ، وتحتاج إلى "سيروم" فوراً، وتحتاج إلى أدوية فوراً، وكل ذلك بالليل، وإنسان آخر ينام ليلاً هنيئًا مطمئنًا، يرى منامًا مريحًا، ثم يستيقظ لصلاة الفجر، فعند النوم يحتاج المرءُ إلى دعاء. (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ))
إذا أراد الشخص أن ينام وعليه دَين فلا يستطيع أنْ ينام الليل.. (( الدَين همٌ في الليل وذلٌ في النهار))
أو قد يكون ذا إثم، خائف أن يتوفَّاه الله على حالةٍ لا ترضي..فليدْعُ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَغْرَمَ وَالْمَأْثَمَ اللَّهُمَّ لَا يُهْزَمُ جُنْدُكَ وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ))
( أبو داود)
أي ليس ثمّة ذكاء مع الله أبداً، بل لا ينفع مع لله إلاّ صدقُ التوكُّل، (( إنَّ اللهَ تعالى إذا أحب إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عبَّاس " )
ماذا يجدي مع الله ؟ الاستقامة، والاستقامة يقابلها التوفيق، أنا كلَّما رأيت تاجرًا، أو إنسانًا مُقْدِمًا على تأسيس مشروع، شركة، معملٍ صغيٍر، مزرعة، أقول له: أولاً ليكن في علمك اليقيني أن النجاح في الأعمال ليس بالذكاء، ولا بالخبرات ؛ ولكن بالتوفيق، والتوفيق بالاستقامة..
﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾
( سورة هود: من آية " 88 " )
قال العلماء: " لا يمكن على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة أن يُحَقَّق شيء إلا بتوفيق الله ".
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن ينام وضع يده اليمنى على خدِّه الأيمن، واستلقى على شقه الأيمن وقال:
(( اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك))
"ثلاث مرات ".
وكان إذا أوى إلى فراشه، طبعاً تناول طعام العشاء..

(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ))
(رواه مسلم عن أنس)
معك مفتاح بيت، لا يهم ؛ بعيد أم قريب، صغير أم كبير، مِلك أم أجرة، معك مفتاح بيت، وعندك مأوى، تدخل بيتك، وتستلقي على الفراش، وتستريح. (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ))
فأنا أحب من إخواننا الكرام - من أي أخ - يبدأ بشكر ما عنده، لا ينبغي أن تتطلَّع إلى ما ينقصك، انظر إلى ما عندك، وكذلك هناك دعاء تتمة لما سبق: (( إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
هناك كثير من الحالات رجل نام ولم يستيقظ، هو نائم وزوجته بجانبه، بحركة عفويَّة لامست يدها يده، فوجدتها مثل الثلج، انتفضت من الفراش فوجدت زوجها ميتًا، هناك حالات كثيرة ينام ولا يُفيق من النوم، فالمسلم عند النوم يدعو قائلاً: (( إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
هذا قبل أن ينام، الآن استيقظ، فيدعو بدعاء كما علَّمنا عليه الصلاة والسلام، إذْ كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ: (( الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي - أفاق، أولاً - وعافاني في بدني - ثانياً - وأذن لي بذكره ))
-في المسجد لصلاة الفجر -.
أحياهُ يوماً جديداً، وعافاه من كل مرض، وسمح له أن يذكر ربَّه.
كان إذا استيقظ من نومه يقول:
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))
(البخاري عن حذيفة)
وكان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه يتلو قوله تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
( سورة آل عمران )
الآن دخل الخلاء، فهل تظن أن القضيَّة سهلة، وأن جهاز الهضم سليم ؟ والله سمعت عن امرأةٍ تشكو همَّها لصديقتها، قالت: أُصبتُ بمرضٍ خبيث بالمستقيم فاستؤصل، ثم صارت الفتحة من طرف البطن، وأستعمل كيسًا ثمنه ثلاثمئة ليرة، البراز يخرج بلا إرادة منها إلى الكيس مباشرة، فتشعر بحركة، صار الكيس ثقيلاً، أيْ صار فيه براز، أحياناً تتولّد غازات تثقب هذا الكيس، فيمتلئ البيت رائحةً لا تحتمل، وإن لم يُثقب يجب أن يبدَّل، ثلاثمئة ليرة ثمنه، لكن الواحد منا، والحمد لله يدخل إلى الخلاء ويقضي الحاجة من دون أكياس، وبإرادته.
وإذا دخل الخلاء يدعو فَعَنْ أَنَسٍ يَقُولُ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ))
(متفق عليه)
هناك شخص ما أصابه سرطان بالمستقيم، لكن أصابه شلل بالمستقيم، فاستأجر عاملاً بعشرة آلاف ليرة بالشهر ليسحب له القذر بيده، وما مِن طريقة أخرى، فإذا دخل الواحد منا الخلاء وقضى حاجته بيسر، وبنفسه، من دون مساعدة، من دون مصاريف، من دون أكياس، فمعنى هذا أنّ هذه نعمة كبيرة فليحمد الله عليها.
لا تنسوا إخواننا الكرام هذا الدعاء، فإنْ يدعو به إنسان فهو يعرف نعمة الله عليه، ويقدرها، ويشكرها، أنا أرجِّح - في الأعم الأغلب - أنّ الله يحفظه في عافية ما دام حياً، يعرف نعمة إخراج الفضلات من دون مساعدة، وإنّ سرطان المستقيم مرض خطير، كذلك الشلل خطير، وهناك أمراض تنكِّد حياة الإنسان بها.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا خرج من الخلاء يدعو فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْغَائِطِ قَالَ غُفْرَانَكَ))
(أبو داود)
حدَّثني أخ كريم قال لي: إنه صار معه التهاب بروستات، فغدّة البروستات التهبت وتضخَّمت فأغلقت مجرى البول، قال لي: ذقت آلامًا أقسم بالله منذ أن ولدت ـ عمره سبعين سنة ـ حتى هذا التاريخ ما أشعر أن هناك ألمًا بهذا المستوى، فعندما حُبِس البول أخذوه في حالة إسعاف، وميَّلوه بالميل، وفتحوا المجرى، أحد الخلفاء وأظنه هارون الرشيد سأله وزيره: " بكم تشتري هذه الكأس إذا مُنعتَها ؟ "، قال: " بنصف ملكي ". قال: " فإذا مُنع إخراجه ؟ "، قال: " بنصف ملكي الآخر "، فقال له: " إذًا اتَّقِ اللهَ، فكل هذا الملك يعدل كأس ماء ".
أنا أريد أن ألفت النظر إلى أن أحدكم إذا كان في صحةٍ جيّدة فليحمد الله كثيرًا، مرَّة حدثني شخصٌ عنده مزرعة، وأسعار التفاح تدنَّت، وكسر موسم التفاح عنده وهو غضبان، فهوَّنتُ عليه، وقلت: ولكن هناك أُناس ما عندهم مزارع، وعليهم أن يغيِّروا الشريان التاجي، وآخرون يجب أن يغيروا دسام القلب، وتكاليف العملية باهضة الثمن، وهناك أناس يجب أن يغسلوا الكلية في الأسبوع مرَّتين، وتستغرق كل مرة ست ساعات، وبالدور في المستشفى.
قال لي أخ كريم: يغسل كليتيه كل أسبوع مرتين فحَّره الطبيب وبقسوة: إياك أن تشرب الماء طيلة هذا الأسبوع، لأن الآلة معطَّلة، يبقى طيلة هذا الأسبوع بلا ماء، أنت تشرب كأسًا أو اثنتين، أو ثلاثا، والجو حار، والحمد لله، تشرب الماء، ويخرج الماء، وتأكل الطعام ويخرج الطعام، من دون مساعدة، من دون نفقات، من دون عمليات، من دون مستشفيات، من دون تصوير، من دون تخطيط، من دون إيكو، من دون مرنان، فالمرنان بثمانية آلاف، وبألفٍ الإيكو، هكذا علَّمنا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي))
(ابن ماجه)
آخر دعاء إذا خرج من الخلاء يقول: (( الحمد لله الذي أذاقني لذَّته))
أكلت فاصولياء وليس سيرومًا، أكلت صحن فول، وليس أقراص دواء. (( أذاقني لذَّته وأبقى فيَّ قوته وأذهب عني أذاه))
هذا دعاء الخلاء، المعنى كُن مع الله دائماً، نامَ مع الله، استيقظَ مع الله، دخل الخلاء مع الله.
الآن خرج من بيته... عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:
(( مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))
(أبو داود)
صفَّ سيارته، ودخل إلى البيت ونام، سُرقت السيارة في الليل، وفي اليوم التالي عنده أعمال كثيفة، طبعاً تألَّم أشد الألم، لكن عنده أعمال كثيفة، أرجأ إخبار المخفر للظهر، هذه السيارة المسروقة ضُبطت صباحاً بتهريب، بُحث عن صاحبها، أودع السجن، إلى الآن صار له أربع سنوات، ويقول: أنا لا علاقة لي، كانت مسروقة، لماذا لم تخبرنا أنها مسروقة ؟ بها تمت عملية تهريب كبيرة، صاحب السيارة أوقفها قرب منزله، ودخل إلى البيت لينام، وجاء مَن سرقها، وهرَّب بها مواد ممنوعة، وضبطت.
فأحياناً الإنسان يتورَّط، أحياناً يتيه، أحياناً يقول لك: هذا يوم شؤم، أحياناً بكلمة ينزلق ويهوي، وبكلمة قد يفقد حريته عشر سنوات، بسبب كلمة واحدة تكلَّمها، فإذا الواحد خرج من بيته..
(( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))
فمَن خرج من بيته، ودعا بهذا الدعاء، فهو في ذمة الله، فهو في حفظ الله، فهو في ظل الله، فهو في رعاية الله، فهو في ضمانة الله، هذا دعاء الخروج من البيت.
والآن دخل المسجد، أنت تدخل بيتًا من بيوت الله، أنت في هذا البيت ضيف الله، فهل من المعقول المضيف لا يضيفك ؟! الشخص يجلس في بيته على مقعد وثير، مثلاً على ديوان مريح، أولاده حوله، زوجته أمامه، إن طلب الشاي، أو طلب مشروبًا ؛ ليمونًا مثلاً.. إلخ، فكل شيء يأتيه، لكنه يترك بيته، وزوجته، وأولاده، والمقعد المريح، والجلسة المريحة، ويذهب إلى المسجد ويجلس على ركبتيه في بيت الله، معنى هذا أنه ضيف الله..
(( إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عُمارها، فطوبى لعبدٍ تطهَّر في بيته ثم زارني، وحُق على المزور أن يكرم الزائر))
فكان إذا كان دخل المسجد يدعو، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى حَاجَتَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا))
(متفق عليه)
ولدخول المسجد دعاء، فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ))
(مسلم)
في المسجد رحمة، وتجلٍّ، وسرور، وانشراح، يقول لك: أنا من أسعد الناس، سيدنا حنظلة قال لرسول الله: (( نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين))
فأنت لا تأتي إلى الشيخ، بل تأتي إلى بيت الله، وفي بيوت الله تتنزل الرحمات. (( اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ))
هذا مختصر، خرج من المسجد وقد سمع درسًا، أو حكمًا شرعيًا، أو درسًا في الأدب الإسلامي، أو سمعت عن عمل صالح، سمعت شيئًا عن الصحابة، ثم خرجت.. (( اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ))
أي يا رب الذي سمعته فها أنذا أطبقه، سمعت عن الصدقة تصدق، سمعت عن غض البصر غض بصرك، سمعت عن الصدق كن صادقًا، أنت في مكانين، في بيت الله أو خارج بيت الله، خارج بيت الله، فالدعاء أن يلهمك أن تنال من فضل الله ما تنال، أنت في بيت الله فالدعاء أن يرحمك.
قد يكون الإنسان في ضيافة صارخة، كأنْ يُدعى إلى وليمة، أو يدعى إلى حفلات يقال له: تجد عشرين نوعَ لحوماتٍ، أحياناً يقيمون في بعض السفارات حفلات، ويقدِّمون عشرين أو ثلاثين نوعًا من اللحم، وأربعين أو خمسين نوعًا من أنواع الخضار، ومن الحلويات خمسين نوعًا أو نحوها، ماذا سيأكل الواحد ؟ يأكل لقمتين، أحياناً يقدَّم لك شيك بورقة صغيرة عشرة آلاف، أو مليون، هذه ورقة ليست ظاهرة بل صغيرة، الطاولات أحياناً مئتا متر ظاهرة وواسعة، أما هذا الشيك الذي بمليون، أو خمسة ملايين فليس له وزن أساساً، وزنه لا شيء، موقَّع جاهز، فكانت الضيافة والعطاء كبيران، لكن في بيوت الله الضيافة ليس صارخة، والروعة أنّ الله يتجلَّى على قلبك وأنت في المسجد، فتشعر بمشاعر لا توصف، يستنير قلبك، يستنير عقلك، تتخذ قرارًا حكيمًا، تخرج من المسجد وأمامك نور، الله عزَّ وجل قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾
( سورة الأحزاب )
﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾
( سورة الأنفال: من آية " 29 " )
هذه آية ثانية..
﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
( سورة الحديد: من آية " 28 " )
أساساً كل أعمالك يا أخي مبنيَّة على رؤية ؛ إما أنها صحيحة أو غير صحيحة، المؤمن رؤيته صحيحة، وغير المؤمن رؤيته فيها خطأ، منحرفة، لذلك يدفع الثمن باهظاً.
وعَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
(( كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ))
(الترمذي، وأحمد)
هناك معنى ثانٍ دقيق، وهو إنْ غلط رجل غلطة، فإذا كانت الغلطة أمامه فهو محجوب عن الله عزَّ وجل.. (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ))
فعسى أن يغفر الله له، ويفتح أمامه أبوابه.
وإذا خرج من المسجد:
(( بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهمَّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك))
هذا دعاء المسجد.
ومن أدعيته صلى الله عليه وسلَّم إذا أصبح وإذا أمسى، ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ يَقُولُ:
(( إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ النُّشُورُ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمْسَى قَالَ: (( أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ))
(مسلم)
وإذا أصبح كان يقول عليه الصلاة والسلام: ((أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله))
وكان إذا أصبح يقول: (( اللهمَّ اجعل أول هذا النهار صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً يا أرحم الراحمين))
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أصبح يدعو، فقد روى أَبُو دَاوُد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ))
إذا ذهب أخ من إخواننا إلى العمرة أو إلى الحج، لا يشعر أنّه في وقتٍ من الأوقات بأمس الحاجة إلى دعاءٍ يحفظه كما هو في هذا الوقت، لأن الحج كله دعاء ؛ فإذا دخلت إلى بيت الله الحرام، في أثناء الطواف ماذا ينبغي أن تقول ؟ أدعية، ففي أثناء السعي، في مِنى، في عرفات، في مزدلفة، أثناء الرَجم، في طواف الإفاضة، عند زيارة رسول الله، العمرة والحج كلها أدعية.
فالإنسان بالرخاء إذا كان معه كتاب أدعية صغير في جيبه، قالوا: إذا أردت أن تحفظ فاقرأ، الدعاء مرَّتين تحفظه، أو ثلاثًا أربعًا يُحفظ معك، استخدمه يُثبَّت، المفروض أنْ تكون ذخيرة الإنسان بالدعاء كثيرة، أحياناً يزاول الرياضة، يمشي، يتمشَّى، اجعل هذا الطريق كله دعاءً، أحياناً يركب سيارة عامة، والطريق طويل، اجعل هذه الجلسة دعاءً كلَّها.
وكان عليه الصلاة والسلام يدعو حين يمسي وحين يصبح بهذه الدعوات:
(( اللهمَّ إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة))
عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي))
قَالَ وَكِيعٌ يَعْنِي الْخَسْفَ.
(أبو داود)
ـ هذه محفوظة ـ ".
أحياناً العوام يقولون كلمات لطيفة: " في إنسان عليه خيمة "، ما هذه الخيمة ؟ ستر الله عزَّ وجل، أحياناً الإنسان يُفضَح لأتفه الأسباب، وهي فضيحة مفتعلة غير صحيحة، فالإنسان إذا رجا الله عزَّ وجل أن يسبل عليه ستره فلن يخيِّبه.
هذا الدعاء أتأثر به كثيراً:
(( اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي))
هناك أشياء مخيفة ومرعِبة، وأخبار مؤلمة قاسية، ترتعد لها الفرائص، الإنسان قد ينهار، طائرة أصابها عطبٌ خطير في الجو، دخلت في غيمة مكهربة فأُتلفت مقدِّمتها وبعض أجهزتها، واضطرب الركاب، وعلا صياحهم، بعضهم أصابه ذعرٌ شديد، بعضهم أصابه خوفٌ قاتل، بعضهم بدأ يندُب حظَّه وينادي بويله، ويذكر أولاده، فحدَثني مضيفٌ يعمل في الطائرة في أثناء هذه الحادثة، فقال لي: طلب الطيار من بعض المضيفين أن يهدِّئوا الركاب، لا أحد يستمع إليه، فقال له: اذهب إلى أحد الرُّكاب المتماسكين فبلِّغه أن يهدِّئ من روع الركاب، قال لي: نظرت في الطائرة من أولها إلى آخرها فما وجدت إلا الصياح، والعويل، والبكاء، والنَدب، لكن فوجئت بواحد متماسك، هذا سنكلفه بأن يقف ويهدئ من روع الناس، قال: ذهبت إليه فإذا هو مغمى عليه، هذا الوحيد الهادئ مغمى عليه، ونجت هذه الطائرة بفضل الله في مطار باريس، وكل من رآها بعد أن جثمت على أرض المطار قال: مستحيل أن تنجو، لكنها نجتْ، فالإنسان أحياناً يخاف خوفاً لا حدود له، قال:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾
( سورة الحج )
حدثَ زلزال في مصر فقرأت في مقالة ؛ امرأةٌ حينما شعرت بالزلزال أمسكت بابنتها الصغيرة وخرجت بها إلى الطريق، في الطريق نظرت فإذا هي تحمل كيسًا فيه حذاء، بدلاً من أن تأخذ ابنتها أخذت حذاءها، وتركتْها على السرير وخرجت..
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
لذلك: (( اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي))
أحياناً الإنسان قصته كلها تصير بين الناس، يكون هناك خلاف داخلي فيصير قصة، وينتشر.
والإمام أحمد في المسند عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ:
(( اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ تُعِيدُهَا حِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي قَالَ نَعَمْ يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِنَّ فَأُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ))
(أبو داود وأحمد)
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجلِ
* * *

فقير على كافر فهذا بلاء دونه كل بلاء، فقير على مؤمن راضٍ ومتجمِّل، موعود بالجنة، وكافر على غنى شيء ينسي شيئًا، أما كفر وإفلاس، فما أقبح الكفر والإفلاس بالرجلِ.
أعَنْ َبِي بَكْرَةَ قَالََ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ))
(أبو داود وأحمد)
مرَّة سمعت أثرًا أن: " عبدي كن لي كما أريد ولا تُعلمني بما يصلحك "،. أي لا تكلِّف خاطرك وتذكر حاجتك، أنا أعرف حاجتك كلها.." كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك ".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ))
(الترمذي)
أي بيتي، وعملي، وصحتي، وأولادي، ومستقبل أولادي، وتزويج بناتي، وتزويج أولادي، ورضا والديَّ عليَّ، وكل علاقاتي الاجتماعية، طمَّاع، (( وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ))
فاطلب من الكريم المعطاء الذي لا يبخل.
قيل: إنّ إنسانًا كريمًا جاءته سائلة فأعطاها الشيء الكثير، فقال له من إلى جانبه: " لقد كان يرضيها القليل وهي لا تعرفك "، فقال: " إذا كان يرضيها القليل فأنا لا أرضى لها إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي"، إذا كان العبد هكذا حاله فكيف حال الله ؟‍! عبد من عباد الله الكُرماء أعطى عطاءً كبيراً لمن يطلب قليلاً، قال: " كان يكفيها القليل وهي لا تعرفك "، قال: " إن كان يرضيها القليل فأنا لا أرضى لها إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي ".
فإذا طلب الإنسان من الله فلا يطلب شيئًا قليلًا، كمن دخل على ملك، فقال له الملك: اطلُب حاجتك، قال: أريد قلم رصاص فقط، فقالوا: اطلب سيارة مرة واحدة، لأن الملك لا يعطي قلم رصاص، فأقل شيء يعطيه سيارة، هذا ملك من ملوك الأرض فكيف بملك الملوك ؟ إذا طلب الإنسان منه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة فهو يقدر على الإجابة، فهل دعاء القنوت قليل ؟
(( اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ))
( من سنن الترمذي: عن " الحسن بن علي " )
كرامتك على الله غالية..
اجعل لربك كل عزِّ ك... يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميتُ
* * *

(( استر عورتي، وآمن روعتي، يا رب أسبل عليَّ سترك، ولا تخفني))
الخوف صعب.
وكان صلى الله عليه وسلَّم إذا أهمَّه الأمر، رفع رأسه إلى السماء وقال:
(( سبحان الله العظيم))
وإذا اجتهد في الدعاء يقول: (( يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ))
(الترمذي عن أنس)
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أمراً دعا، فعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا قَالَ: (( اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي))
(الترمذي)
لو دخل شخصٌ على صديقه الذي يبيع ألماسًا، فقال له: أعطني هذا الخاتم، فأعطاه إياه، ثم تبيَّن أنه ألماس تقليد، لكن إذا قال له: أنت اختر لي، فسيختار له أثمن شيء عنده، هذا أيضاً من توجيهات النبي.. (( اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي))
(الترمذي)
فالله اختار لك هذه الزوجة، معنى ذلك هذه لصالح آخرتك، اختار لك هذا البيت، هذه الوظيفة، عمل شريف فيه دعوة إلى الله، تدريس والدخل قليل، فالله اختار لك هذه لصالح آخرتك.
فهل مِن أحد لم يشترِ قميصًا يستره بمناسبة العيد ؟ أو بنطالاً، أو حذاء، لا يخطر في بال الإنسان أنّ للجديد دعاء، كان عليه الصلاة والسلام إذا استجدَّ ثوباً، أو قميصاً، أو عمامةً، أو رداءً دعا بدعاء، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ))
(الترمذي)
فهذا دعاؤه عند ارتداء الجديد، أحياناً تجد إنسانًا - والله هذا المنظر ما كنا نراه - ينقب بالحاوية، ما الذي سيجده ؟ خسة، غير صالحةذبلانة، ليمونة نصف عصرة، معنى ذلك هو في أمس الحاجة إلى هذا الذي لفظه الناس، ألقوه في الحاوية، فإذا كان الله عزَّ وجل كرَّمك عن هذا، وأمدَّك بثمن الطعام والشراب، فهذه نعمةٌ كبرى، وكذلك إنْ كساك ثوبًا جديدًا.
كان إذا رأى المطر دعا أيضا، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ:
(( اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا))
(البخاري)
بمصر نزلت أمطار منذ حين، وجرت سيول، تدمَّرت قرى بأكملها، ودخل الماءُ البيوتَ، وبلغ ارتفاع مترين أو ثلاثة، المحاصيل أُتلفت كلها، هذا مطر، هل تريدون مطرًا ؟ كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى المطر كان يقول: (( اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا))
فبإذن الله يكون نافعًا لا مدمِّرًا، والله رحيم بالعباد.
وكذلك إذا رأى الهلال، فَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
(( اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ))
دعاء لرؤية الهلال.
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ:
(( اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ وَمِنْ سُوءِ الْحَشْرِ))
(أحمد)
وعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا))
(أبو داود)
وكان إذا قدمت ليلة الجمعة دعا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقُولُ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ غَرَّاءُ وَيَوْمُهَا أَزْهَرُ))
(أحمد)
ثبت بالأحاديث الشريفة أن هناك أيامَ فضيلة مستثناة، لها ميزة خاصة، منها يوم الجمعة، وفيه ساعةٌ إذا أصابها الإنسان، فأيّ سؤالٍ سأل الله فيها استجاب الله له، لكن الساعة غير محددة، معنى هذا أنك كن مستعدًا طوال الوقت.
وكان صلى الله عليه وسلَّم إذا عصفت الريح - أي اشتدَّت وهاجت - دعا، ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ قَالَتْ وَإِذَا تَخَيَّلَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))
في أمريكا تهبُّ أعاصير إذا توجَّهت نحو مدينة لا تبقي منها ولا تذر، قرأت مرَّة مقالة في مجلة المختار عن إعصار داهَمَ ولاية في أمريكا، يقول كاتب المقالة: بيته لم يبقَ له أثر، وجد محرِّك سيارته على بُعْد خمسة كيلو مترات ـ المحرِّك فقط ـ لا تبقي ولا تذر، ثمانمئة ميل في الساعة تدمِّر كل شيء، نحن أحياناً تصل الرياح إلى مئة وثمانين كيلومترا، أو مئتين، يقول لك: ثمانية بيوت تهدَّمت، جُدُر انهارت، أشجار اقتُلِعت، مرَّة رياح سرعتها مئة وثمانون كيلو مترًا أتلفت مئة وثلاثين بيتًا بلاستيكيًا، اقتلعتها من أصلها مع محصولها، لذلك كل شيء له درجة مقبولة، درجة نافعة، أو درجة مدمِّرة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا تضور من الليل ـ تقلَّب ـ قال:
(( لا إله إلا الله الواحد القهَّار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفَّار))
الآن دخل السوق، له محل تجاري، عنده مكتب، فإذا دخل السوق قال: (( بسم الله اللهمَّ إني أسألك من خير هذه السوق وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرِّها وشر ما فيها، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أصيب فيها يميناً فاجرة، أو صفقةً خاسرة))
اشترى صفقة من دون بيان ـ أي غير نظامية ـ أعجبته، وضعها بالمستودع، اختصم مع موظَّف عنده فطرده، هذا الموظَّف بلَّغ الجمارك أن هناك بضاعة مهرَّبة، فعندما داهموا المحل وصادروا البضاعة، وألزموه بدفع مبلغ فلكي، اغتلىا الحقد في قلبه، فأمسك بالمسدس وأطلق النار على هذا الموظَّف فأرداه قتيلاً، فحُكِم عليه ثلاثين سنة، هذه تجارة مثلاً، فليدعُ مَن يدخل السوق، ووقعت هذه الحادثة من خلال صفقة، وأدت إلى جريمة انتهت إلى سجن ثلاثين سنة، وهذا الشيء حدث في السوق.
إذا كان للرجل محل تجاري فالمطبات كثيرة، هناك مطبات، و توريطات، ومزالق، يكون واقفًا فصار في العناية المشددة، قال لي: دخل علي موظف صرت أرجف هكذا، أخذوه فوراً على العناية المشددة، فهذا لم يكن يرى الله، والله أقوى من كل قوي، أنت كن مع الله مستقيمًا، فالله يحميك.
فإذا دخل السوق قال:
(( اللهمَّ إني أسألك من خير هذه السوق وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرِّها وشر ما فيها، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أصيب فيها يميناً فاجرة، أو صفقةً خاسرة))
وكان عليه الصلاة والسلام إذا أُتي بباكورة الثمرة وضعها على عينيه، ثم على شفتيه وقال: (( اللهمَّ كما أريتنا أوله فأرنا آخره))
ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان ـ ولا يأكلها ـ يعطيها لأصغر طفل لأن الطفل يحب الفاكهة، يؤثر الطفل على نفسه.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِ سِنِينَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ قَالَ:
(( بِسْمِ اللَّهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَأَسْقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَاجْتَبَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ))
أي ألم تأكل أكلة تحبها، وأعجبتك وشبعت منها ؟ فكم من أكلة تحبها طبخوها لك مثلما تحب، وأكلت، وارتحت، وغسَّلت، وذهبت إلى الفراش واستلقيت، فهذه أليست نعمة ؟ طعامٌ تحبه أكلته، أفلا تشكر الله وتحمده ؟.
وكان يدعو أيضاً إذا فرغ من طعامه، ففي المسند عَنْ نُعَيْمِ بْنِ سَلَامَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ:
(( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَشْبَعْتَ وَأَرْوَيْتَ فَلَكَ الْحَمْدُ غَيْرَ مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْكَ))
فأيُّ إنسان يدعو بهذه الأدعية، فهل يفقره الله ؟ يحرمه الطعام ؟ أبداً..
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
( سورة إبراهيم: من آية " 7 " )
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الرعد: من آية " 11 " )
وبالشكر تدوم النعم.
وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ - لأن هناك طعامًا غير مستساغ، وإنّ الله فقد جعل لك الطعام مستساغًا ـ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًاه))
الطريق مفتوح وسالك، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ))
(أبو داود)
وعَنِ ابْن عُمَرَ قَالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))
(أبو داود)
تجد في أول يوم من رمضان في الصيف شخصًا طويلاً عريضًا، فهيمًا، معه دكتوراه، يحتل أعلى منصب، عند العصر تجده ذائبًا على كأس ماء، وكل خواطره كأس تمر هندي، عرقسوس، ليمون، أين علمه ؟ أين شهادته العُليا ؟ أين مكانته الرفيعة ؟ أين منصبه الحساس ؟ على كأس ماء ذَبُل، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: (( ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))
إنّ الله عزَّ وجل بالصيام يريك ضعفك، يريك عبوديَّتك له.
إذا دعي الإنسان إلى طعام، إلى وليمة، دعا بهذا الدعاء الشريف، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ))
(أبو داود)
إذا دُعي إلى عقد قِران فالدعاء المأثور عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: (( بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي الْخَيْرِ))
(الترمذي)
وإذا تزوج امرأةً فعليه أن يدعو بما ثبت عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ))
(أبو داود)
تزوج رجلد اتزوج امرأة فاسقة، اكتشف أنه يوجد رجال كثيرون في حياتها، طلَّقها، ثم ندم على ذلك، فطلبت منه مئة ألف أخرى تضاف إلى مقدَّمها، ثم طالبته بالمبلغ فوراً، لا يملكه، ادخُل السجن، حقد عليها، خرج من السجن، أطلق عليها النار وعلى أمها فأرداهما فيما توهَّم قتيلين، فلما شعر بجريمته أطلق على نفسه الرصاص، لكن إطلاق النار عليهما لم يقتلهما، أُسعفتا وعاشتا وهو مات وانتهى ـ هذه امرأة مثلاً ـ فامرأة مدمرة تنتهي كل الحياة معها، وامرأة صالحة كل الخير من قِبلها، فلذلك إذا تزوج أحد امرأةً فالنبي قال: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ))
(أبو داود)
وإذا عاد مريضاً فالدعاء ما رواه الترمذي عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا قَالَ اللَّهُمَّ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ فَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا))
وفي دعاء آخر عند البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: (( لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))
وكان عليه الصلاة والسلام في أي مجلس ينهيه بهذا الدعاء الصحيح، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: (( اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا))
(الترمذي)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةًفَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ))
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تِرَةً يَعْنِي حَسْرَةً وَنَدَامَةً.
(الترمذي)
وإنْ ودَّعت بالمطار مسافرًا فالدعاء ما صح عند الترمذي عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعْكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُنَا فَيَقُولُ: (( أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ))
إنسان سافر فليدعُ بالمأثور، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ قَالَ بِإِصْبَعِهِ وَمَدَّ شُعْبَةُ إِصْبَعَهُ قَالَ: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا بِنُصْحِكَ وَاقْلِبْنَا بِذِمَّةٍ اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ))
(الترمذي)
عاد من السفر، وصل إلى المطار، الطائرة حطَّت على أرض المطار بسلام، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ))
(البخاري)
زار أحد الموتى في المقبرة، أوله قريب متوفًّى زاره بالعيد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: (( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ...))
(مسلم)
زرت حاجاً عاد من الحج: (( اللهمَّ اغفر للحاج ولمن يستغفر له الحاج))
هذه بعض أدعيته صلى الله عليه وسلَّم في أحواله كلها، الذي أرجوه من الله عزَّ وجل أنْ يعينك على أنْ تضع كتيبًا صغيرًا في جيبك فيه أدعية النبي، واحفظها، فإذا أردت أن تطبِّق سنة النبي في الدعاء في كل أحوالك، وحركاتك، وسكناتك، وسفرك، وإقامتك، وزواجك، وبيعك، وشرائك، ونومك، واستيقاظك، وذهابك إلى المسجد وخروجك منه، فهناك أدعيةٌ مأثورة، وبالدعاء أنت مع الله، والدعاء المستمر يعني الصلاة المستمرة..
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾
( سورة المعارج )


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المحمدية, الشمائل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 1 )
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشمائل المحمدية - إنبساطه مع أهله وذوي القربى ، مباسطته مع زواره آفراح رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 12 04-16-2021 06:03 PM
من معالم الرحمة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 8 07-14-2014 05:14 AM
عموم الرسالة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 06-10-2014 01:04 AM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 07:53 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.