سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض الآحاديث النبوية

ريآض الآحاديث النبوية آحاديث نبوية ، آحاديث الصحابة عن رسول الله وآحاديث قدسية

الإهداءات

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 05-05-2018, 02:44 PM   #1


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



بسم الله الرحمن الرحيم


شرح الحديث الشريف رياض الصالحين


الحديث ( الاول )

(1)



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الدرجة التي احتلها الحديث الشريف في الإسلام :
أيها الأخوة الأكارم, النص الذي يلي نص القرآن الكريم من حيث: القوة في النَظْم، والقوة في التعبير، ومن حيث المضمون المطلق في صحته، هو نص النبي عليه الصلاة والسلام، ومهما وجدنا متسعاً لفهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام, فهماً دقيقاً، واسعاً، شاملاً ، عميقاً، فنحن في أعلى درجات الفوز .
ما يطويه هذان الحديثان من معاني التوحيد :
من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام الجامعة المانعة: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:



((يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))
[أخرجه الترمذي في سننه]


وفي روايةٍ غير الترمذي, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
((يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ, أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى, فَقَالَ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ, تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ, وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ, فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا, أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا, وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ, وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ, وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))
[أخرجه أحمد في سننه]
الذي أراه أن هذا الحديث فيه؛ عددٌ من أصول الدين، والأحاديث التي تنطوي على أصول الدين تعد من أركان الأحاديث .
إليكم كيفية استنباط القانون من خلال هذا الحديث :
فكلمة:
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
مثلاً: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
[سورة الصف الآية: 5]
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 152]
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 7]
هذه العلاقة والمشاكلة بين فعل الطلب وجواب الطلب، هذه المشاكلة والعلاقة الحتمية, يمكن أن يعبَّر عنها بقانون، فأحياناً بين هذا الشيء وهذا الشيء علاقةٌ ضرورية، فالمعادن تتمدد بالحرارة، هذا قانون، العلاقة بين الحرارة وبين التمدد, علاقة حتمية ضروريةٌ شاملة، التركيب الشَّرطي كقول الشاعر:
مَن يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
هذا تركيب شَرطي، أو اجتهد تنجح، هذا تركيب طلبي جزائي، فإذا ورد في اللغة تركيبٌ كهذا التركيب, فاعلم أن العلاقة حتميةٌ بين المقدمة والنتيجة .
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
الفعل والجواب من صيغةٍ واحدة، احفظ يحفظ، اذكر يذكر, قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 152]
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 7]
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
الجواب حتمي، العلاقة بين الطلب والجواب علاقةٌ حتمية، أي علاقة سببٍ بنتيجة، ومَن منا لا يتمنى أن يحفظه الله تعالى؟ من منا لا يتمنى من كل أعماقه أن يكون في حفظ الله؟ أن يكون في رعايته؟ لأن الله هو القوي، أنت كلما التجأت إلى قوي, تشعر بالطمأنينة أكثر، لو اعتمدت على إنسان عنده بعض القوة، وجاء مَن هو أقوى منه، انهار ظهرك، فكيف إذا التجأت إلى أقوى الأقوياء؟ إذا التجأت إلى خالق الأرض والسموات؟ ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
إليكم شرح الجزء الأول من حديث النبي (احفظ الله) :
الآن نريد أن نفهم, ماذا يعني النبي عليه الصلاة والسلام من قوله:
((احْفَظْ اللَّهَ))
أولاً: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، ((مَن هو ولي الله يا جنيد: أهو الذي يطير في السماء؟ قال: لا, أهو الذي يمشي على وجه الماء؟ قال: لا, أهو الذي يبكي في الصلاة؟ قال: لا, من هو الولي؟ قال: الذي تجده عند الأمر والنهي))
مقياس واحد يرفعك عند الله، هو أن تكون مطبقاً لأمره ونهيه، احفظ حدوده, قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 229]
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 187]
هذا لا يجوز، لا أفعله ورب الكعبة، هذا لا أوافق عليه، هذا العقد لا أوقعه، لأن البضاعة محرمة، هذا اللقاء لا أحضره, فهو مختلط، هذه الطريقة في البيع لا أوافق عليها, فيها شبهة، هذا العمل لن أفعله, فيه إيقاع أذى بمؤمن أو بإنسان، معنى ((احْفَظْ اللَّهَ))
أي احفظ حدوده، اجتنب نهيه، لذلك المؤمن: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
هذا التردد: والله معقول أفعل هذا أم غير معقول؟ مَن أنت حتى تقول: معقول أو غير معقول؟ أنت أمام أمر، أمام أمر إلهي، فإذا فكرت في أن تفعله أو ألا تفعله, فلست مؤمناً:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال؛ أمرك أن تصلي، أمرك أن تغض البصر، أمرك أن تقول للناس حسناً، أمرك أن تصل رحمك، أمرك أن تنصف الناس من نفسك، أمرك أن تقرأ القرآن، أمرك أن تحسن إلى كل الأنام، هذه أوامر، وعند نواهيه بالاجتناب، هذا هو الحفظ، تطبيق الأمر واجتناب النهي، وعند حدوده بعدم التجاوز، فمن فعل هذا, كان من الحافظين، احفظ أوامر الله بالتطبيق، احفظ نواهيه بالاجتناب، احفظ حدوده بعدم التجاوز .
نشب خلاف بينك وبين زوجتك، هذا الخلاف يستأهل أن تعاتبها، أن تعرض عنها، لكن لا يستحق أن تطلِّقها، تجاوزت الحدود، لا تطلق المرأة إلا من ريبة، إذا شككت في أخلاقها، إذا خانتك، هذا العمل يقتضي الطلاق، أما إذا غاضبتك، أو غاضبتها، أو قصرت في حقك، عاتبها، اهجرها، أعرض عنها، أما أن توقع الطلاق لسببٍ لا يوجبه الطلاق, فقد تجاوزت الحدود .
حينما قال الله عزَّ وجل:

﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾
[سورة ق الآية: 32]
مَن هو الحفيظ؟ هو الذي يحفظ حدود الله، يحفظ الأوامر فيطبقها، يحفظ النواهي فيجتنبها، يحفظ الحدود فلا يتجاوزها, قال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾
[سورة ق الآية: 32-33]
ما هي معاني الحفظ التي تندرج في حديث النبي (احفظ الله يحفظك) ؟
1- الحفاظ على الصلاة :
أيها الأخوة, ما أبرز أوامر الله عزَّ وجل؟ أجمع العلماء على أنها الصلاة، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين, لا خير في دينٍ لا صلاة فيه, يقول ربنا عزَّ وجل:
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾
[سورة البقرة الآية: 238]
وقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾
[سورة المعارج الآية: 23]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا, فَقَالَ:
((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا, كَانَتْ لَهُ نُورًا, وَبُرْهَانًا, وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا– الصلوات الخمس- لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ, وَلَا بُرْهَانٌ, وَلَا نَجَاةٌ, وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ, وَفِرْعَوْنَ, وَهَامَانَ, وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ))
[أخرجه أحمد في مسنده، والدارمي في سننه]
2- الحفاظ على الوضوء :
عندنا أمر آخر: الطهور، لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن، المؤمن دائماً متوضئ، خرج من بيته متوضئًا، أَذَّن المغرب دخل وصلى، كان في مجلس الوضوء فيه صعب، فلو قيل: نصلي، فهو متوضئ، فالمحافظة على الوضوء من فروع المحافظة على الصلاة، ما دام يهمك أن تصلي في الوقت المناسب، في الوقت المستحب، وأن تؤدي الصلاة على وجهها، إذاً يجب أن تستعد لها بالوضوء الدائم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه وأحمد في مسنده]
وفي قول يرويه أكثر العلماء, وإن كان هناك تحفظ في بعض فقراته:
((من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن توضأ ولم يصل فقد جفاني، ومن صلى ولم يدعني فقد جفاني، ومن دعاني ولم أجبه فقد جفوته، ولست بربٍ جافٍ، ولست بربٍ جافٍ، ولست بربٍ جاف))
إذاً: المحافظة على الصلوات، والمحافظة على الوضوء، هذا معنى احفظ الله يحفظك. 3- الحفاظ على الأيمان :
هناك حفظ ثالث, قال تعالى :
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 89]
لأتفه سبب تحلف، تقسم أربعة أيمان، الله قال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 89]
لا تحلف إلا لأمرٍ ذي بال .
وقد استُحلفت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
قال تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 89]
4- حفظ الجوارح من أن ترتكب الأوزار :
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ, قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ, وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ, فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
(الرأس وما وعى): ما في الرأس؛ في لسان، وفي عين، وفي أذن، يبدو اللسان لخروج المعاني، والعين والأذن لتلقُّف الصور الصوتية والبصرية، فإذا غضضت بصرك عن محارم الله, فقد حفظت عينك، وإذا كففت عن سماع الغيبة، والنميمة، والمنكر، والفحش، وقول الزور ، وشهادة الزور، والغناء، فقد حفظت أذنك، وإذا لم تنهش أعراض المؤمنين، ولم تتكلم بما لا يرضي رب العالمين, فقد حفظت لسانك، فالرأس فيه العين، والأذن، واللسان، حفظ اللسان بقول الحق، واجتناب ما نهى الله عنه، وحفظ العين بغض البصر عن عورات المسلمين، وحفظ الأذن بكفها عن سماع ما لا يرضي الله عزَّ وجل .
قال: (أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى): ماذا في البطن؟ ماذا في أعلى البطن؟ القلب، ما المعصية التي يمكن أن يرتكبها القلب؟ أن يصر على جهلٍ، أو استكبارٍ، أو أن يسيء الظن بالله عزَّ وجل، إذاً: أن يحفظ قلبه من سوء الظن بالله، أن يحفظ قلبه من أمراض النفس؛ من العجب، الكبر، الاستعلاء، الحقد، الأنانية .
في البطن معدة, وهي أن يحفظ هذا البطن من أكل مالٍ حرام,

((يا سعد, أطب مطعمك, تكن مستجاب الدعوة))
الحفاظ على الصلاة، والحفاظ على الوضوء، والحفاظ على الطهارة، والحفاظ على الأَيْمان، والحفاظ على الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، هذا كله تحت قول النبي الكريم: ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
القلب، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾
[سورة البقرة الآية: 235]
وورد في الأثر: ((عبدي؛ طهرت منظر الخلق سنين, أفلا طهرت منظري ساعة؟))
الله عزَّ وجل دائماً وأبداً ناظرٌ إلى قلبك، ماذا في هذا القلب؟ فيه حقد، فيه ضغينة، فيه شحناء، فيه بغض لمسلم، فيه قطيعة رحم، فيه استعلاء على خلق الله, قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾
[سورة البقرة الآية: 235]
الله عزَّ وجل جمع هذا كله, فقال:
﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولاً﴾
[سورة الإسراء الآية: 36]
من أغرب ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ, وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ, دَخَلَ الْجَنَّةَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
شيئان كافيان لإدخال الإنسان جهنم؛ هما لسانه وفرجه، قال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ – اللسان- وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ, دَخَلَ الْجَنَّةَ))
في اللسان غيبة ونميمة، في اللسان قول زور وكذب، في اللسان تدليس وبذاءة، في اللسان استعلاء واحتقار، آلاف المعاصي، قَالَ عليه الصلاة والسلام لمعاذ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ, فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ, قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا, فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ, وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ, وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ, أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ, إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟))
[ورد في الأثر]
يدخل إنسان النار من اللسان فقط، إذا قال أحدهم لزوج مازحاً: انتبه لبيتك، فظن الزوج أن في أخلاق زوجته خللاً، فطلقها تعسفاً، وشردها، وشرد أولادها، أسرة تدمرت لأن إنساناً تكلم بكلمة ليس متيقناً منها، لهذا ورد في الأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام:
((قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة))
أن تخوض في أعراض المسلمين، أن تفرِّق بين شريكين، بين زوجين، بين أخوين، بين جارين، بين مؤمنين، هل هذا من أخلاق المؤمنين؟ فلذلك: ((مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ, وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ, دَخَلَ الْجَنَّةَ))
معنى ذلك: أن إرادته قوية جداً، استطاع أن يضبط لسانه وفرجه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 1-7]
والحقيقة: أن طريق حفظ الفرج هو غض البصر، لأن الله عزَّ وجل قدَّم غض البصر على حفظ الفرج, فقال:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾
[سورة النور الآية: 30]
فتقديم غض البصر على حفظ الفرج, دليل أن طريق حفظ الفرج هو غض البصر, والله سبحانه وتعالى, أثنى على المؤمنين بصفةٍ واحدة، أو بصفاتٍ عدة:
﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 35]
شهوة أودعها الله في كل إنسان، وفي الأنبياء، وسمح لك بقناةٍ نظيفةٍ هي الزواج، فضمن المسموح أهلاً وسهلاً، والمحرم ممنوع,
((إن إبليس طلاعٌ رصاد, وما هو من فخوخه, بأوثق لصيده للأتقياء من النساء))
فالمرأة في يد إبليس أكبر فخ .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((اتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانَتْ فِي النِّسَاءِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
وأنا أعتقد على مستوى الشباب؛ أن يؤتى من أكل المال الحرام أبعد من أن يؤتى من النساء، فهناك شيئان نقطتا ضعفٍ في حياة الإنسان؛ هما المال والمرأة، فإذا كنت محصناً من أن تأكل مالاً حراماً، وإن كنت محصناً من أن تفعل ما لا يرضي الله مع امرأة، فقد حفظت دينك، فتسعة أعشار المعاصي من المال والنساء، لذلك: إن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي تَرَكَ شَهْوَتَهُ, وَطَعَامَهُ, وَشَرَابَهُ, ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَة ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
وكل شيء بحسابه، الذي يعف عن النساء قبل الزواج، أول مكافأةٍ له؛ زواج ميمون، زواج موفق، زواج يسعده طوال حياته، ومن شذَّ قبل الزواج, عاقبه الله بزواجٍ شقي, كل شيء في حسابه الدقيق .
ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم, أن أحد أصحابه سأله: يا رسول الله, كيف أحفظ فرجي؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تضعه إلا في حلال))
في كتاب الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، وهو كتاب من أشهر كتب الحديث، هذا الكتاب ألطف ما فيه: أن الأحاديث مبوبة وفق أوائل حروفها، فمثلاً: كلمة (حق), هناك أكثر من خمسة عشر حديثاً تبدأ بكلمة حق . ((حق المسلم على المسلم))
الحديث معروف، حق الأب على ابنه، حق الابن على أبيه ، حق الزوج على زوجته، حق الزوجة على زوجها, إلا في حديث واحد حينما أقرؤه, يقشعر جلدي, فقد ورد في الأثر عن النبي الكريم: ((حق المسلم على الله؛ أن يعينه إذا أراد العفاف))
أراد مسلم أن يعف عن الحرام، حقٌ على الله أن يعينه، الله عزَّ وجل ييسر الأمور تيسيراً عجيباً؛ في البيت، والأثاث، والزوجة الصالحة .
شاب له محل صغير في أحد أحياء دمشق، وفي هذا الحي أبنية شاهقة، وأبنية فخمة، وهذه الأبنية فيها أسر غنية، والفتيات داخلات وخارجات من هذه البيوت، هذا الشاب تاقت نفسه للزواج, ولا يجد ما يملك، طلب من أمه أن تخطب له من هذه البيوتات، سخرت أمه منه ، قال لها: ولكني مستقيم، لا أعرف الحرام في حياتي، هو معتز باستقامته، لكنه لا يملك شيئاً ، فلما ألح عليها, ذهبت إلى بعض هذه البيوت, ولم تطلب شيئاً، لكنها ذهبت مداراةً لابنها, كانت تكذب وهو يصدقها، الأم واقعية, مستحيل أن يزوجوا شاباً لا يملك شيئاً، لكن ثقته بالله عزَّ وجل كانت كبيرة .
جاءه رجل من سكَّان هذا الحي, قال له: يا بني أمتزوج أنت؟ قال له: لا والله يا سيدي، قال له: عندي فتاةٌ عمرها أربعة عشر عاماً تناسبك، أرسل أمك إلينا نحن البيت الفلاني، فأرسل أمه, فوجدتها مناسبة جداً، ولكن ليس معه شي .
فلما جاءه مرة ثانية, قال له: والله يا سيدي البنت مناسبة، أما أنا فلا أملك شيئاً، فقال له: هي والبيت لك، أبت نفسه أن يعصي الله، فأكرمه الله عزَّ وجل، فإذا صدقت في طلب الحلال، وعففت عن الحرام، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن إلا أن يكرمك، إذا أردت العفاف فحقٌ على الله أن يعينك، من هنا ورد في الأثر قول عليه الصلاة والسلام:
((ما شكا إليه أحدٌ ضيق ذات يده, إلا قال له: اذهب فتزوج))
أولاً: طاعة الله رأس مالك، فإذا كنت مطيعاً لله عزَّ وجل تولى الله عنك، اسع قليلاً والله يعينك كثيراً، تحرك والله يوفقك، ابحث والله يهديك، اعمل والله يرزقك، الناس يفهمون التوكل أن يقعد في البيت، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ, تَغْدُو خِمَاصًا, وَتَرُوحُ بِطَانًا))
[أخرجه الترمذي في سننه]
في حركة، الحركة فيها بركة، اسع واسأل، أجمل حديث: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ, فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ:
((حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ, وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ, فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ, فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))
[أخرجه أبو داود في سننه]
الحديث دقيق جداً، أن تقعد بلا سعي لست مؤمناً، تحرك، اسأل، ابحث عن وظيفة، ابحث عن عمل، ابحث عن بيت، ابحث أنت، دبِّر أمرك، والله المدبِّر، وعلى الله الباقي .
((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ, وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ -بالتدبير، بالسعي، والبحث، خذ بالأسباب, وعلى الله الباقي- فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ-عندها- فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))
عود على بدء؛ المحافظة على الصلاة، المحافظة على الوضوء، المحافظة على الأيْمان، المحافظة على الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، هذه بعض الآيات والأحاديث التي وردت في المحافظة، لذلك: ((احفظ الله - الآن الجواب - يحفظك))
ما معنى كلمة (يحفظك) كما وردت في نص الحديث ؟
ما معنى يحفظك؟ حفظ الله لعبده نوعان:
النوع الأول: حفظه له في مصالح دنياه؛ كحفظه في بدنه، وحفظه في ولده، أخطار كثيرة في البيت، ماء يغلي يصيب وجه طفل صغير أو فتاة، يسبب شقاء للأسرة .
إذا حفظ لك الله عز وجل أولادك، الطفل سليم معافى، ثقب بوتان، لو كان مفتوحاً, لسبّب ألماً كبيراً للأسرة، عملية قلب مفتوح, تحتاج إلى ثمانمئة ألف، ونجاحها بالمئة ثلاثون، تجعل الأسرة كلها في حنين وحرج، فإذا حفظ لك الله عزَّ وجل صحتك، وصحة زوجتك, وأولادك، هذا شيء عظيم جداً، كحفظه في بدنك، وولدك، وأهلك, ومالك، احفظ الله يحفظك، يحفظ لك بدنك من الأسقام، والأمراض، والأدواء، ويحفظ لك أولادك، ويحفظ لك زوجتك .
فإذا حفظ الإنسان الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وحفظ أمر الله فلم يعصه، وحفظ نهيه فلم يقترفه، وحفظ حدوده فلم يتجاوزها, ألا تحب أن يحفظك الله عزَّ وجل؟ الحفظ في بدنك، وفي أولادك، وفي زوجتك, وفي أهلك، والمال شقيق الروح .
أحياناً مال يصادر، وبيت تدفع ثمنه مالاً كثيراً، ويظهر أنه مضعضع، يصدر أمر بإخلاء البناء، وأنت لا تملك غيره، وبيت يذهب بأبخس الأثمان، لأنه خاضع للتنظيم، تعطى عشرة آلاف ليرة، وثمنه ثمانمئة ألف مثلاً، أحياناً بضاعة تفسد، تلفت في الطريق، البراد تعطل فيه فواكه، وثمنها ملايين، فألقوها في الصحراء، وذهب المال كله، قصص الإفلاسات كبيرة جداً، لأتفه الأسباب .
أحدهم معه بضاعة بسيارة براد، السائق لجهله, دخل قريته، ونام ثلاثة أيام, فأغلق البراد، تلفت كلها على حساب صاحبها، فاحفظ الله يحفظك .
حديث من أروع الأحاديث:

((احفظ الله يحفظك))
احفظه يحفظك، لا أعتقد أن أحداً لا يتمنى من أعماقه, أن يكون في صحةٍ جيدة, هو وزوجته، وأولاده، وأن يحفظ الله له ماله، كل هذا يكون, إذا حفظ حدود الله، حفظ أوامر الله فطبقها، حفظ نواهيه فلم يقترفها، حفظ حدوده فلم يتجاوزها، حافظ على الصلاة، على الطهارة، حافظ على أيمانه، حافظ على رأسه وما وعى، وبطنه وما حوى، هذا من جوامع الأحاديث .
اسمعوا قوله تعالى:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
[سورة الرعد الآية: 11]
المؤمن له مكانة رفيعة عند ربه، لذلك يحفظه من بين يديه ومن خلفه, قال تعالى: ﴿له مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾
[سورة الرعد الآية: 11]
قال تعالى:
﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
[سورة الرعد الآية: 11]
يعطي ربنا توجيهاً للملائكة: احفظوا فلانًا، فتراه لا يذهب من هذا الطريق، لأن حادثة ستقع، هذه الصفقة لا يشتريها، لأنه شعر بضيق في صدره، وربما كانت ستحمله ما لا طاقة له:
﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
[سورة الرعد الآية: 11]
ربنا يوجهك، إذا أنت معه يوجهك، يوجهك بأمر حياتك، بعلاقاتك، بتجارتك، بصناعتك، بزراعتك، هذه آية رائعة جداً:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
[سورة الرعد الآية: 11]
قال ابن عباس:
((هم الملائكة يحفظونه بأمر الله))
فأنت كذلك معك مرافقة كبيرة، ملائكة معك، أنت كمؤمن معك ملائكة، ملائكة من أمر الله تحفظك يا عبد الله، حياتك غالية على الله، وسلامتك غالية على الله عزَّ وجل .
وقال عليٌ رضي الله عنه:
((إن مع كل رجلٍ ملكين, يحفظانه مما لم يقدر الله عليه، وإن الأجل جنةٌ حصينة))
ما دام الأجل فيه فسحة, فهو في حفظ الله .
ثمة مريضة جاءها طبيب, فقال لها: معك مرض خبيث، بعد أيام تموتين، قالها بكل صراحة, انهارت نهائياً، فطلبوا طبيباً مؤمناً، أول ما جاء, قالت له: أنا سأموت, فقال لها: نعم تموتين، وأنا سأموت، ويمكن أن أموت قبلك، ولحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل, جعل شفاءها على يد هذا الطبيب، وعاشت .
قال مجاهد:
((ما من عبدٍ إلا له ملكٌ, يحفظه في نومه, ويقظته من الإنس, والجن, والهوام))
ينام الإنسان في خيمة، والمنطقة كلها أفاعٍ وعقارب، أنت مؤمن نم، وعليك بالحذر والاحتياط، يحفظونه من أمر الله .
عِنِ ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي, وَدُنْيَايَ, وَأَهْلِي, وَمَالِي, اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي, وَآمِنْ رَوْعَاتِي, وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ, وَمِنْ خَلْفِي, وَعَنْ يَمِينِي, وَعَنْ شِمَالِي, وَمِنْ فَوْقِي, وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي))
قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ . [أخرجه ابن ماجه، النسائي، أبو داود, في سننهم]
أرأيتم التأكيد؟
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي, وَدُنْيَايَ, وَأَهْلِي, وَمَالِي, اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي, وَآمِنْ رَوْعَاتِي, وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ, وَمِنْ خَلْفِي, وَعَنْ يَمِينِي, وَعَنْ شِمَالِي, وَمِنْ فَوْقِي, وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي))
من القوانين الثابتة: أنه من حفظ الله في صباه, وقوته, حفظه الله في حال كبره, وضعف قوته، ومتعه بسمعه, وبصره، وحوله, وقوته، وعقله .
كان بعض العلماء قد تجاوز المئة، وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبةً شديدة، فتعجب الحاضرون من قوته! فقال هذا العالم: هذه جوارح, حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً, عاش قوياً .
رأى بعض السلف شيخاً, يسأل الناس, قال: إن هذا ضعيفٌ, ضيع الله في صغره, فضيعه في كبره .
يعني أروع شيء بالحياة شيخوخة مؤمن، تجده متمتعاً بكرامة، بعزة، بمحاكمة جيدة، بعقل كبير، بمكانة اجتماعية، وهو في الثمانين .
التقيت مع أحد العلماء, قال لي: عمري خمسة وثمانون عاما، فقلت له: كيف صحتك؟ فقال لي: والله ممتازة، عندي متاعب، ولكن بهذا السن ممتازة، يأتي من آخر المدينة إلى مركز عمله، يأتي أحياناً ماشياً، وأحياناً راكباً، وهو في الخامسة والثمانين، تنطبق عليه مقولة: حفظناها في الصغر, فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً, عاش قوياً .
عندنا بشارة أبعد من ذلك، عندما قال ربنا:
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾
[سورة الكهف الآية: 82]
معنى ذلك: أن المؤمن يحفظ الله له أولاده، قال سعيد بن المسيب لابنه: ((إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، -يعني أنا أزيد من صلاتي من أجلك، لعل الله يحفظك بعد مماتي- ثم تلا هذه الآية:
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾
[سورة الكهف الآية: 82]
سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول:
((ما من مؤمنٍ يموت, إلا حفظه الله في عقبه, وعقب عقبه))
بل إن أحد العلماء يقول: ((إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ الله, وفي ستره))
حتى إن بعض الحيوانات المؤذية قد يسخرها الله لحفظ الإنسان، وهناك قصص كثيرة جداً، بعضهم قال: ((إني لأعصي الله, فأعرف ذلك, في خُلُق خادمي ودابتي))
ملخص القول :
إن شاء الله في الدرس القادم, نتابع هذا الموضوع، ولكن أبرز ما في هذا الحديث أوله ، اجعل هذا الحديث، أو هذه الفقرة من الحديث شعاراً:
((اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ))
ملخص الدرس: حفظ أمر الله بتطبيقه، حفظ نهيه باجتنابه، حفظ حدوده بعدم تجاوزها, هذا الحفظ، الآن يحفظ الله لك صحتك، وأولادك، وزوجتك، ومالك .
بقي في الدرس القادم الحفظ الأرقى, وهو أن يحفظ لك دينك، واستقامتك، أي يحفظك من الشهوات المردية، من الشبهات المضلة، في حفظ أرقى، فهذا الحديث من جوامع الكلم، ومن أصول الدين .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني في درسٍ قادم إلى متابعة شرحه .





والحمد لله رب العالمين




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 05-05-2018, 02:46 PM   #2


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



سم الله الرحمن الرحيم


شرح الحديث الشريف رياض الصالحين


الحديث ( الثانى )

(2)




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من ملحقات الدرس الذي سبق :
أيها الأخوة المؤمنون، لا زلنا في حديث رسول الله الذي يعد من أصول الدين، هذا الحديث الشريف، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:
((يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وفي روايةٍ غير الترمذي, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
((يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ, أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى, فَقَالَ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ, تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ, وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ, فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا, أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا, وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ, وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ, وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))
[أخرجه أحمد في مسنده]
لا أبالغ إذا قلت: إن هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تتعلق بأصول الدين، وبأصول الإيمان .
أنواع الحفظ الذي شمله معنى الحديث :
في الدرس الماضي شرحت بعض أجزاء هذا الحديث، هو: (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ)، وبقي أن حفظ الله عزَّ وجل على نوعين: حفظٌ دنيوي، وحفظٌ أخروي، فالحفظ الدنيوي هو أن يحفظ الله لك بدنك من السقم، ومن الأمراض العضالة، وأن يحفظ لك أهلك وأولادك من كل مكروهٍ وأذى، وأن يحفظ لك مالك، هذا حفظ الدنيا، وحفظ الدنيا ثمنه أن تحفظ الله، وحفظ العبد لله عزَّ وجل أن يحفظ الأمر بالتطبيق، والنهي بالترك، والحدود بالوقوف عندها ، وشُرح هذا بالتفصيل في درس سابق .
اليوم: كيف يحفظ الله لك دينك؟ إذا حفظته أنت, فطبقت الأمر، وتركت النهي، ووقفت عند حدود الله عزَّ وجل، كيف يحفظ الله لك دينك؟ .
أولا: يحفظك من الشبهات المهلكة، ومن الشهوات المحرمة، هناك في العقل شيء، وفي النفس شيء، يحفظ عقلك من الشبهات، فالذي يكون عند الأمر والنهي، وعند حدود الله عز وجل, لا يمكن أن تتسرب إلى عقله عقيدةٌ فاسدة، كم من أناسٍ اعتنقوا عقائد فاسدة في ظل الدين؟ أية عقيدة فاسدة تشل حركة الإنسان في الدنيا، فمن دخل على عقله شبهات فاسدة تعطل عمله، بل ساء عمله، ومن وقع في شهوات محرمة, وقع في حجاب عن الله عز وجل، فمن وقف عند حدود الله فلم يتجاوزها، ومن وقف عند الأمر فطبّقه، وعند النهي فاجتنبه، فأغلب الظن والرجاء بالله تعالى أن يحميه من آفتين خطيرتين مهلكتين؛ شبهاتٌ مضلَّة، وشهواتٌ مهلكة .
قال بعض السلف:
((إذا حضر الرجلَ الموتُ, يقال للملَك: شمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال له: شمّ قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شمّ قدميه، فيقول: أجد في قديمه القيام، فيقول الملك: حفظ نفسه، فحفظه الله عز وجل))
لا أعتقد أن إنسانا على وجه الأرض, إلا ويتمنى من أعماق أعماقه, أن يكون في حفظ الله، أن يحيا حياة خالية من المتاعب، من المشوشات، من المهلكات، من المفاجآت، من المصائب، حفظ الله لك ثمنه: أن تحفظ أمره, ونهيه, وحدوده .
النبي من أدعيته؛ أنه كان يقول قبل نومه:
((بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي, وَبِكَ أَرْفَعُهُ, إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ))
[أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في الصحيح]
والحقيقة: أن الإنسان قبل أن ينام قد لا يستيقظ، فإذا قبضه الله عز وجل, فالمرجو أن يرحم الله هذه النفس، وإذا سمح له أن يعيش يوما آخر, فالمرجو من الله عز وجل, أن يحفظ نفسه من كل شبهة، ومن كل معصية .
ومن أدعيته عليه الصلاة والسلام:
((اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، احفظني بالإسلام راقدا))
عندنا رقَدَ، وركض، وركد، راقدا أي نائما، أما ركد فبمعنى سكَن، وركض بمعنى أسرَع، ورقد بمعنى استراح ونام، قال:
((اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، احفظني بالإسلام راقدا، ولا تطع فيّ عدوا ولا حاسدا))
كان النبي إذا أراد أن يودع مسافرا يقول له:
((أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ))
[أخرجه الترمذي عن ابن عمر في سننه]
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
يعني إذا سافر، ودعا الله عزوجل دعاء صادقا مخلصا من أعماق قلبه, فقال:
((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ, وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ, اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ, وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ))
[أخرجه الترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننهما]
ما دمت قد استودعت الله, وأنت مسافر، فالله سبحانه و تعالى لن يضيّع ودائعك .
الآن عندنا شيء مهم جد في هذا الحديث: ما دام الله عزوجل وعد المؤمن الذي يحفظ حدود الله عز وجل أن يحفظه، كيف يحفظه؟ قبل قليل قلت لكم: يحفظه من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المهلكة .
قال بعض العلماء: الله سبحانه وتعالى يحفظ عبده المؤمن مما يفسد دينه بأنواع من الحفظ، أهم شيء دينك، فربنا عزوجل يحفظك بأنواع منوعة كثيرة عديدة من الحفظ, يحفظ لك دينك، بعضها لا تشعر بها، وبعضها تكرهها، كيف؟ .
أنت قلت لله عز وجل: يا رب احفظ ديني،
((إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا))
أنت حينما حفظت حدود الله عزوجل, ترجو من أعماقك أن يحفظك الله، وأخطر حفظ الله لك؛ أن يحفظ لك دينك، لأنه هو الأصل، قد يحفظك وأنت لا تدري، قد يحفظ الله لك دينك, وأنت لا تدري، أما الذي يزعجك في حفظ دينك, قد تشتهي عملا معينا في الدنيا، فتقوم العقبات أمام هذا العمل، قد تزمع سفرا إلى بلاد الغرب مثلا, لتحقيق حلم كبير، أو لنيل درجات علمية عالية، أو لكسب رزق وفير، فتأتي عقبات مزعجة جدا, تحول بينك و بين ما تطلب، أنت تنزعج، وقد تتميز غيظا، وقد تضيق نفسك، وقد تعاتب ربك، وما هذا التعسير, وما هذه العقبات, إلا نوع من أنواع الحفظ الذي يكرهه المؤمن، إنه حينما حال بينك وبين هذه التجارة العريضة, حفظ لك دينك .
أذكر أن أحد الأشخاص, كان يطمح أن يكون طيارا، وتعلمون أن هذه الحرفة ممتعة، ولها دخل وفير، ولكن أكثر أيام الطيار في بلاد الغرب، وفي عواصم الغرب، وفي فنادق، ومع الفنادق المفاسد، وما إلى ذلك، فأصابه مرض حال بينه وبين متابعة هذه الحرفة، فعاد إلى عمله الأصلي في التدريس، ثم ارتقى في درجات الإيمان, إلى أن شعر بأن حفظ الله له, كان في هذا المرض الذي حال بينه وبين الحرفة التي يطمح إليها .
هناك حرف فيها شبهات، هناك حرف فيها ضلالات، هناك حرف فيها معاص، هناك حرف فيها تودي بصاحبها إلى الظلمات، فحينما يكون المؤمن صادقا في دعائه, قد يحفظ الله دين العبد المؤمن بما يكره، حينما يضع له بعض العراقيل في طريقه إلى ما يبتغي من عرض الدنيا، فلذلك من علامة المؤمن الصادق المحب؛ أنه إذا رأى عقبة, تلو عقبة, تلو عقبة, في طريق حريص عليه، مهتم به، يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى, يحفظ عليه بهذه التعقيدات, دينه الذي هو أثمن شيء، وكلكم يعلم: كيف أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصابته مصيبةٌ, قال:
((الحمد لله ثلاثا؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني))
أحيانا السفر، هذا السفر في ألف مسافر المقيم في بلاد ترتكب فيها المعاصي على قارعة الطريق، ترتكب فيها أبشع المعاصي، السفر إلى هذه البلاد، لو سافر ألف شخص لعاد منهم عدد لا يزيد على أصابع اليد, قد حفظوا أمر الله عز وجل، الزلة ميسرة، والانحراف مرغوب فيه هناك، فحينما لا ييسر الله لك سفرا, تضيع فيه دينك وآخرتك، فهذا التعسير من حفظ الله لك .
لذلك الحفظ الأولي: أن يحفظ الله لك بدنك من مرض عضال، من داء وبيل، من متاعب، وأن يحفظ الله لك أهلك، وأولادك، كل هذا حفظ الدنيا، وأما حفظ الآخرة: فأن يحفظ الله لك دينك من الشبهات المضلة، والشهوات المهلكة، وقد يحفظك بطرق كثيرة لا تشعر بها، وقد يحفظك بأساليب تكرهها, وأنت لا تدري، هذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إن الله ليحمي صفيّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام))
فالمؤمن يعلم علم اليقين: أن الفعل كله بيد الله، وأنه راض بقضاء الله وقدره، وأنه صابر عن الشهوات, وعلى الطاعات، وعلى الأمر التكويني، صابر على الأمر التشريعي من أمر ونهي، وعلى الأمر التكويني من قضاء و قدر، هذا المؤمن، والإيمان نصف صبر، ونصف شكر، لكن لو صبرت على أمر تكويني, دون أن تعلم الحكمة، صبرت تعبدا, و استسلاما, وثقة بحكمة الله, وعلمه, وعدله، لو صبرت تعبدا, لكشف الله لك سر هذا الشيء الذي ساقه الله لك، فلذلك من طبق الأمر تعبدا, كشف الله له إكراما حكمة هذا الأمر .
لا أعتقد أن مؤمنا صادقا إلا ويقول لك: جاءتني مشكلة، ضقت بها ذرعا، ضاقت نفسي بها، ثم تبين لي بعد حين, أن هذا الشيء الذي أصابني, كان محض فضل, ومحض خير, ومحض فلاح, ومحض نجاح .
لذلك يمكن أن أقول: الشيء الذي يسوقه الله للإنسان, حينما يكشف الله يوم القيامة, عن الحكمة التي ساق بها هذا الشيء, لذاب الإنسان كما تذوب الشمعة, حينما تشعلها، لذاب الإنسان شكرا لله على نعمة هذا المصاب, الذي هو في الحقيقة نعمة باطنة، وليست نعمة ظاهرة .
سيدنا يوسف حينما دخل السجن، الغريب أن الله قال:
﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾
[سورة يوسف الآية: 24]
أين هو؟ في السجن، لو بقي خارج السجن، وزلت قدمه، وسقط من عين الله عز وجل، وأصبح رجلا عاصيا، أيهما أفضل؟ فهذا من حفظ الله الذي قد يكرهه الإنسان، والأمور بخواتيمها .
أعرف رجلا, ساق الله له شدة, حينما صرفها الله عنه بعد عام ونصف, زرته في البيت، فقال لي: واللهِ لو عشت ألف عام, ما كنت لأحقق هذا الإنجاز في إيماني, كما حقِّق بهذه المصيبة .
لذلك اعلم علم اليقين: أن الله حكيم، وأن الله سبحانه وتعالى عليم، وأن الله قدير، وأن الله كريم، هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يقول: يا رب, أنا راض، يا رب, أنا راض بقضائك،
((اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ, وَابْنُ عَبْدِكَ, وَابْنُ أَمَتِكَ, نَاصِيَتِي بِيَدِكَ, مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ, عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ))
بعضهم قال: حينما قال الله عز وجل:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
[سورة الأنفال الآية: 24]
كيف يحول؟ قال ابن عباس: يحول بين المرء وقلبه, بأن الله عز وجل يبعد قلبه عن معصيته، ولاحظوا إذا مشى الإنسان في طريق المعصية، لكن بشرط ألاّ يكون مصرا عليها، لو أصر عليها, لساقه الله إليها، لو أصر عليها, لأطلقه الله إليها، لكن إذا سار في طريق معصية لا ترضي الله, واللهُ يعلم أنه ليس مصرا عليها، وأنه يرضى بقضاء الله, يسوق له من الشدائد ما تبعده عن هذه المعصية، عندئذ يكشف حكمة الله عز وجل ورحمته، هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
[سورة الأنفال الآية: 24]
الإمام الحسن رضي الله عنه يقول:
((هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم))
كيف؟ أي حينما رآهم تافهين، شهوانيين، دنيويين، حينما رآهم, وقد هان الله عليهم, هانوا عليه, فأطلقهم إلى المعصية، أما لو أنهم عزوا عليه، لو أن الله كان عزيزا عليهم، فعزوا عليه, لعصمهم، الله عزوجل يعصمك إذا كنت عزيزا عليه، ويطلقك إلى المعصية إذا هنت عليه، هان الله عليهم، فهانوا عليه، فعصوه، ولو كان الله عظيما عندهم, لكانوا أعزة عنده, فعصمهم .
قال ابن مسعود:
((إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة، حتى ييسر له ذلك، فينظر الله إليه, فيقول لملائكته: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له, أدخلته النار .
-صدقوني أيها الأخوة, أن بعض المهن, والحرف, والأعمال, والسياحات, قد تنقل الإنسان من الجنة إلى النار، وهناك مهن, دخلها كبير جدا، ولكن فيها معصية كبيرة لله، وهناك مهن, أساس علاقتها بالنساء، فقد يضبط الإنسان نفسه إلى حين، ثم يتداعى إيمانه، و يميل إلى شهواته، وكما تعلمون:
((إن إبليس طلاّع رصّاد, وما هو من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء، فاتقوا الله، واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل, كانت في النساء))
أنا أقول لكم بالمناسبة: هناك ثغرتان كبيرتان خطيرتان, يمكن أن يؤتى منهما المؤمن؛ المال والنساء، فمهما بالغت في غض بصرك, فأنت في حصن حصين، ومهما بالغت في كسبك، والآية الكريمة:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾
[سورة الإسراء الآية: 34]
أنتم تعرفون معنى:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾
[سورة الإسراء الآية: 32]
لم يقل: ولا تزنوا، بل قال:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾
[سورة الإسراء الآية: 32]
لأن الزنا شهوة جاذبة, لها إغراء, فلا بد من أن تدع بينك وبينها هامش أمان، أنا أشبه تماما أرضا مستوية جافة، بعدها أرض مائلة, كلها حشائش وماء، والحشائش زلقة، وبعدها نهر عميق خطير، فالنهر العميق المهلك, الذي إذا وقع فيه الإنسان أهلك, هو المعصية، وهذه المنطقة التي بعد النهر المائلة, التي عليها حشائش متفسخة بفعل الرطوبة، وعليها مواد زلقة, هي ما قبل المعصية، وأما المنطقة الجافة المستوية, فهي منطقة الأمان، فالمؤمن دائما, يجعل بينه وبين المعصية هامش أمان، قال تعالى:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾
[سورة الإسراء الآية: 32]
لا تصاحب زانيا، لا تسر في طريق موبوء، فيه نساء كاسيات عاريات، أيّ شيء يقربك من الزنا, ابتعد عنه، حتى يعصمك الله منه، قال تعالى:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾
[سورة الإسراء الآية: 34]
يعني هذا مال اليتيم، ما قال لك: لا تأكل مال اليتيم، لا تقربه، لو خلطته بمالك، و الحكم هو الحسابات، أحيانا الإنسان يُكلَّف بعمل، يعطونه مبلغا من المال، معه مال شخصي، ومعه مال لهذا العمل، فيا ترى ما هو الحكم؟ الحسابات, لعلك أنفقت من هذا المال شيئا، و نسيت أن تسجله، أو بالعكس، أنفقت من حسابك الخاص نفقة، ونسيت أن تسجلها، فلما جمعت مصروفك الشخصي، ومصروف المهمة، بقي عندك زيادة، فأنت مخطئ، ووضعت قسما من مال المهمة في جيبك، لا، لا تجعل الحساب هو الحكم، اجعل المال هو الحكم، اجعل هذا المال في مكان خاص، وله حساب، تطابق الحساب مع الرصيد, دائما يطمئنك، فلا تجعل الحساب هو الحكم، اجعل المال نفسه هو الحكَم، قال تعالى:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾
[سورة الإسراء الآية: 34]
أي لا تخلط مالك بماله، فإذا خلطت مالك بماله, فهي شبهة, أن تأكل من ماله, وأنت لا تدري، هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 187]
اجعل بينك وبينها هامش أمان- .
قال: فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، ويقول: سبني فلان، وأهانني فلان، ولما هو إلا فضل الله عز وجل)) وقفنا خمس ساعات, ولم يعطونا الفيزا، وضربونا، ما هذا الكلام؟ أنت إلى أين ذاهب؟ إلى مكان لا يرضي الله عز وجل، فهذا الذي أهانك ودفعك, هذا من فضل الله عليك، منع عليك فساد دينك مثلا، أنا أضرب بعض الأمثلة .......
هناك مزلات كثيرة جدا، هناك وظائف كلها شبهات، قائمة على إيقاع الأذى بالناس، فإذًا: لم تتح لك أن تكون في عداد هذا السلك، هذا من فضل الله عليك .
لذلك جاء في الحديث القدسي:
((إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقرُ، فإذا بسطت عليه, أفسدت دينه، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته, أفسدت دينه، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة, ولو أسقمته لأفسدت ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسدت دينه، وإن من عبادي, من يطلب بابا من العبادة, فأكفه عنه– حريص على قيام الليل، لم يوقظوه، يا رب ما السر؟ عنده شيء من العجب- لكي لا يخله العجب، إني أدبِّر أمر عبادي بما في قلوبهم، إني عليم خبير))
حديث دقيق، الصحة لمصلحة إيمانك، والمرض لمصلحة إيمانك، والغنى لمصلحة إيمانك، والفقر لمصلحة إيمانك، وحتى أبواب العبادة إن يسِّرت لك, فلمصلحة إيمانك، وإن لم تيسر لك, فلمصلحة إيمانك، الله عليم، إني عليم بأمر عبادي،
((إني أدبِّر أمر عبادي بما في قلوبهم، إني عليم خبير))
هذا الموضوع كله:
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
أي يحفظ لك أمر دينك ودنياك، حفظ الله عز وجل؛ أن تكون عند الأمر والنهي، أمر الله افعله، والنهي لا تفعله، وقف عند حدود الله, لا تتعداها, تستحق حفظ الله لك في الدنيا والآخرة .
أعتقد أن الموضوع أصبح واضحا، هذا الحديث من أصول الدين،
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
إليكم شرح البند الثاني من الحديث :
الآن: (اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ): معنى تجاهك أي أمامك، قيل: من أقام حدود الله، وطبّق أمره، واجتنب نهيه، كان اللهُ معه في كل أحواله، مع المحسن، مع أيّ عبد، قال تعالى:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
[سورة الحديد الآية: 4]
ولكن إذا قال الله عز وجل:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
[سورة التوبة الآية: 123]
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
[سورة العنكبوت الآية: 69]
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
[سورة البقرة الآية: 153]
هذه معية خاصة، يعني معهم بالحفظ, والتأييد, والنصر, والتوفيق .
(احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ): الله معك دائما، هناك كلمات يقولها العامة، لكن واللهِ بتَردادها, فقدت مدلولها، أنا ذاهب، الله معك، هل هذه قليلة: أن يكون الله معك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك, وإذا كان عليك فمن معك, وإذا وجدته ماذا فقدت؟ وإذا فقدته ماذا وجدت؟ صدق القائل:
فليتك تحلو والحياة مـريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر و بيني و بين العالمين خرابُ
هذا كلام بليغ، لما تقرأ:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
[سورة التوبة الآية: 123]
﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
[سورة البقرة الآية: 153]
تشعر بذلك .
مرة قرأت حديثا لرسول الله ، الذي رواه عن ربه عز وجل:
((يا داود, مرضـت فلم تعدني، قال: كيف أعودك, وأنت رب العالمين؟ قال: مرض عبدي فلان, فلم تعده، أمَا علمتَ أنك لو عدته, لوجدتني عنده))
الله عز وجل, أخذ منك بعض الصحة، لكن عوّضك بأن آنسك بوجوده معك، فالمريض تجده رقيق المشاعر، المريض أحاسيسه رقيقة، المريض قريب من الله عز وجل، سلبه الصحة، وأعطوه معلومات مخيفة، وجاء التحليل غير جيد، والطبيب حذّر، وقال له : مرضك ليس سهلا، يئس، رأى نفسه ضعيفا، فقال: يا رب ما لي سواك، تقرب، وأقبل، فتجلى الله عليه، شعر بسرور، الله عز وجل في أية لحظة, يصرف عنه المرض، ويعود صحيحا في نفسه, وفي جسده، فلذلك: (احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ) .
قال قتادة:
((من يتق الله, يكن الله معه، ومن يكن معه, فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل))
إذا كنت مع الله, كان الله معك، وإذا كان الله, فهو الهادي الذي لا يضل، والحارس الذي لا ينام، والقوي الذي لا يُغلَب، أنت معه أقوى الناس، أنت معه أهدى الناس، وأنت معه في حصن حصين، اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، وانصرني بركنك الذي لا يضامّ.
كتب بعض السلف إلى أخ له:
((أما بعد، فإذا كان الله معك, فمن تخاف؟ وإذا كان عليك, فمن ترجو؟))
هذه المعية الخاصة التي وردت في القرآن الكريم، في أماكن متعددة, قال تعالى :
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾
[سورة طه الآية: 46]
معية الله عز وجل، قال تعالى:
﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾
[سورة التوبة الآية: 40]
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾
[سورة الشعراء الآية: 61]
القضية خطيرة جدا، فرعون وما أدراك ما فرعون؟ بقوته, وجبروته, وطغيانه وجنوده، هم وراء فئة قليلة جدا، سيدنا موسى وأصحابه، قال تعالى:
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾
[سورة الشعراء الآية: 61]
فرعون وراءنا، والبحر أمامنا، والأمل صفر، قال تعالى:
﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾
[سورة الشعراء الآية: 62]
إنسان وقع من طائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم، فوق جبال الألب، تحمل هذه الطائرة ثلاثمئة راكب، ماتوا جميعا عدا واحد، كان مقعده في المكان الذي انشقت منه الطائرة، فوقع، ظل يهوي ثلاثا وأربعين ألف قدم، إلى أن وصل إلى غابات كثيفة مغطاة بخمسة أمتار من الثلج، فكان هذا الثلج, وهذه الأغصان, امتصت هذه الصدمة، ونزل واقفا، إذا كان الله معك, لو وقعت من طائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم يحفظك، وسيدنا يونس أكبر دليل، لا ييأس الواحد .
لا أعتقد أن هناك مصيبة, تفوق ما أصاب سيدنا يونس، إذا كان الرجل في مركب في البحر، في الليل، وفي ظلام دامس، وقع من هذا المركب، فجاء حوت فالتقمه، هو في ظلام الليل، وفي ظلام البحر، البحر مظلم، بعد أمتار ظلام دامس، أعتقد بعد مئة متر، أو أقل, أو أكثر, ظلام دامس، قال في ظلمات ثلاث، في ظلام الليل، وفي ظلام البحر، في ظلام بطن الحوت، والأمل صفر، قال تعالى:
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 87-88]
هذه ليست لسيدنا يونس وحده، ولكل مؤمن، ضعها مثالا، ضعها مسطرة، لا أعتقد أن ثمة مصيبة تفوق ما أصاب سيدنا يونس، ومع ذلك :
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 88]
هذا معنى:
((تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
حدثني أخ أجرى عملية جراحية في بلاد الغرب، وكلفته مبالغ طائلة, تفوق كل توقعاته، فقال لي: ينقصني خمسة وعشرين ألف مارك ألماني، وكنت واقعا في همّ شديد، بعد ربع ساعة يُطرق بابي، أقسم بالله وهو صادق, جاءه صديق مقيم في ألمانيا، علم بمقدمه، فجاء لزيارته، من مئة وثمانين كيلو مترا، بعد أن زاره قال له: أنا معي خمسة وعشرون ألف مارك زائدة عن حاجتي، خذها واستعملها، كأن ملَكا ألهمه، هذا معنى:
((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
هناك قصص كثيرة جدا، أنت واقع في أزمة، شخص ينقذك من مشكلة، من ورطة كبيرة، كيف وُجد في هذا الوقت الصعب؟ هذه معية الله لك، إذا كان الله معك فمن عليك, فلا تظن إذا خطبت ود الله عز وجل، خطبت وده بطاعته، خطبت وده بترك نواهيه، خطبت وده بخدمة خلقه، خطبت وده بنصح خلقه، خطبت وده بإكرام خلقه، خطبت وده بالتزام أمره، الله ودود، مثلما تخطب وده, لا بد من أن يشعرك بأنه يحبك، ومحبته لك, بأن يكون معك في كل أزمة، وأوضح شيء:
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾
[سورة الشعراء الآية: 61-62]
ببساطة:
﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾
[سورة الشعراء الآية: 62]
إذا كان الرجل ضعيف الإيمان يقول: ماذا يفعل الله لك؟ المشككون أحيانا يقولون: هل سيمد الله لك من السماء قفةً؟ هذا كلام لا معنى، لما يكرم ربنا إنسانا, يخلق له من الضعف قوة، ومن العسر يسرا، ومن الضيق فرجا، هذا معنى:
((تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
سيدنا رسول الله قال له أبو بكر:
((والله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟))
نحن نريد مثل هذا الإيمان، تشعر أن الله معك، الله أقوى الأقوياء، تشعر أنه إذا كان الله معك, لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض, أن ينال منك بسوء، إذا كان لرجل والد, له شان كبير جدا، لو فرضنا أن جنديا, دخل الخدمة الإلزامية, ووالده قائد الجيش، هل يرتعد خوفا من الرتب العالية؟ لا، والده هو الأصل، وهو يأمرهم جميعا، فتجد الطمأنينة .
فأنا أقول لكم: لا يجتمع خوف مع إيمان، أنت غال على الله، وأنت تطلب ود الله عز وجل، واللهُ لا يتخلى عنك، ولن يسلمك إلى عدوك، كثير من القصص, أتمنى أن أتذكر أبرزها.
قال أحدهم: ذهبت إلى مكان، المظنون ألاّ أخرج منه في سنوات، وأنا قاعد, والهم كاد يأكل قلبي، دخل شخص فقال له: أنت هنا؟ فقال: نعم، وهو يعرف من بيده الأمر، كان من الممكن أن يبقى أشهرا وسنوات، فبقي ساعات، إذا كان الله معك فمن عليك, تجد الله يدافع عنك، طبعا الله عز وجل لما يدافع عنك بأسباب أرضية، الله عز وجل يبعث شخصا في الوقت المناسب يجتمع بك، ويكون الشخص الذي تخافه صديقه، انتهت العملية، وذابت مثل الثلج، قبل قليل كان في همٍّ, لا يعلمه إلا الله، كان في همّ ساحق، جاء شخص لك عنده قيمة، ولك عند من تخشاه قيمة، توسط وأنهى الأمر، فأنت كن معه ولا تبالِ، لذلك قال صاحب هذا المقام:
إذا كنت في كل حال معي فعن حمل زادي أنا في غنى
وأنتم هو الحق فلا غيركم فيا ليت شعري أنا من أنـا
أنت لا شيء, إذا ظننت أنك شيء، وأنت كل شيء, إذا ظننت أنك لا شيء، إذا افتقرت إلى الله، صدق القائل:
وما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
وما لي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددتَ فأيّ باب أقرع
دققوا في هذا الحديث:
((أفضل الإيمان: أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان))
أعلى درجات الإيمان, أن تعلم أن الله معك حيث كنت .
والحديث الآخر عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدعاء:
((اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك))
أحد رجال الله, دخل البرية وحده, من طريق تبوك, فاستوحش، فهتف به هاتف: لمَ تستوحش؟ أليس حبيبك معك؟ .
قال:
((يا موسى, أتحب أن أكون جليسك؟ قال: وكيف ذلك؟ قال: أما علمت أنني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني))
قيل لبعضهم:
((ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش, وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟))
وقيل لآخر:
((نراك وحدك، قال: من يكن الله معه, كيف يكون وحده؟))
وقيل لآخر:
((أما معك مؤنس؟ قال: بلى، قيل: أين هو؟ قال: أمامي، ومعي، و خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي))
والاستئناس بالناس من علامات الإفلاس .
الحقيقة: هذا الحديث مرة ثانية من أصول الدين، ليس هناك رجل إلا ويتمنى من أعماق أعماقه, أن يكون محفوظا في دنياه, وفي آخرته، في صحته, وفي أولاده, وفي أهله، وفي ماله، وفي دينه, من الشبهات المضلة، والشهوات المهلكة، ومن كل شيء مباح, يمكن أن يكون طريقا إلى محرم، السفر مباح، لكن السفر قد ينتهي بك إلى معصية، التجارة مباحة، ولكن قد تنتهي بك إلى الطغيان، فلذلك إذا كنت مع الله عز وجل, تولى الله حفظ دينك ودنياك، والدعاء الشهير:
((اللهم نسألك العفو, والعافية, والمعافاة الدائمة في الدين, والدنيا, والآخرة))
من أنواع المعرفة بالله :
بقي علينا:
((تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))
الحقيقة: معرفة الله نوعان: معرفة عوام المؤمنين، ومعرفة خواصه، معرفة عوام المؤمنين؛ أن تعرف أن الله موجود، وأنه الحي القيوم، وأنه الخالق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الصراط حق، والميزان حق، و....إلخ .
هذه الأشياء إذا عرفتها, ولم تكن في مستواها, فهذه معرفة ناقصة، أما معرفة خواص المؤمنين؛ أن تعرف الله حتى تميل إليه، وحتى تشتاق إليه، وحتى تكون في مصافّ الطائعين, المخلصين، المخبتين، القانتين، إذا كنت كذلك, هذه معرفة خاصة .
((تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ))
أي وأنت في بحبوحة .
الحقيقة: أن الإنسان لما تأتيه المصيبة, وتسوقه إلى الله عز وجل, هذا شيء طيب وجيد، ولكن الأكمل أن تكون في رخاء، جسمك صحيح، ليس فيه مشكلة، لا في القلب، ولا في الكليتين، ولا في الدماغ، ولا في العضلات، ولا في العظام، ولا في الغدد الصماء، ولا رمل في الصفراء، ليس فيها شيء أبدا، صحيح كامل، وفي مهنتك مستواك جيد، وأولادك بخير، وزوجتك بخير، وبيتك بخير، وكلكم بخير، وأنت في هذه البحبوحة, وهذا الرخاء, وهذا الأمن الذي تنعم به, تبحث عن الله، تتمنى رضاه، تركض إلى بابه، تمرغ وجهك عند أعتابه، أنت الآن تتعرف إليه في الرخاء، فإذا جاءت شدة عارمة، قال تعالى:
﴿أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾
[سورة الحج الآية: 1-2]
أعرف أخا مقيما في لبنان، له معمل، ولبنان قبل 1975 فيه رخاء، كان بعضهم يقول: هي جنة الله في الأرض، أسعار رخيصة جدا، مواد متوافرة، جمال الطبيعة، كل شيء موجود هناك، فقال لي هذا الصديق: وأنا في وضع طبيعي جدا, شعرت بضيق لا يحتمل، هو في لبنان, وأبواب المعاصي مفتحة على مصاريعها، النوادي, والملاهي, وبؤر الفساد, والسواحل, والسباحة، هو من معمله إلى بيته، يخشى الله عز وجل، على مجلس علم، ضاقت نفسه، وسئم الحياة في هذا البلد الذي يتمناه أي إنسان، هذا الضيق اشتد عليه, إلا أن حمله إلى أن يأتي إلى الشام، وأن ينقل معمله إلى الشام، قبل أن تقع أحداث لبنان، وبعد شهرين أو ثلاث وقع ما وقع، وكل من بقي هناك, دمر ماله، ودمر معمله، وأصابه الخوف والرعب، وغير ذلك .
قصص كثيرة جدا، رجل مقيم ببلد عربي نفطي، قبل الاجتياح بأيام, ذهب إلى الشام, وجد مكانا, يشتريه محلا أو بيتا, و حوّل أمواله قبل أن تنهار العملة التي كان في بلدها، تجد أن الله إذا كان معك، الله يعلم ما سيكون، فما دمت أنت في طاعته, فلك معاملة خاصة، ينجيك ويخلصك .
فإذا كان الشخص في الرخاء, مقيما على معصية الله عز وجل، في بحبوحة ورخاء، وهو غارق في المعاصي, تأتي الشدة فلا ينجو منها،
((تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))
قال بعضهم:
((مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها, وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل))
قال بعضهم:
((أحب ألا أموت حتى أعرف مولاي، ليس معرفة الإقرار، بل معرفة الاستحياء))
المعرفة العامة معرفة الإقرار، المعرفة الخاصة معرفة الاستحياء .
وأيضا:
((تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ))
معرفة الله في الشدة: أن يكرمك، ويحفظك، وينصرك، ويؤيِّدك، هذه المعرفة الخاصة، إذا عرفته معرفةً خاصة؛ بأن استحييت منه، عرفك معرفةً خاصة؛ بأن حفظك، ونصرك، وأيدك .






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 05-05-2018, 02:49 PM   #3


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



بسم الله الرحمن الرحيم


شرح الحديث الشريف رياض الصالحين


الحديث ( الثالث )

(3)





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

إليكم شرح البند الثالث في الحديث :

أيها الأخوة المؤمنون, حديثٌ من أصول، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:
((يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

قال عليه الصلاة والسلام:
((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ))
السائل دائماً مفتقر وذليل، السائل دائماً يشعر بالضعف، والمسؤول دائماً قوي, وغني، ودائماً مسيطر، عبوديتك لله عزَّ وجل, تقتضي ألا تقف موقفاً ذليلاً, إلا لله عزَّ وجل، كرامتك الإنسانية، عزتك كمؤمن، مكانتك كإنسان, أنعم الله عليك بنعمة الوجود، ونعمة الهداية, ألا تقف موقفاً ضعيفاًُ، ذليلاً، مفتقراً لجهةٍ ما, كائنةً مَن كانت, إلا لله عزَّ وجل، فإذا وقفت الموقف الذليل لحضرة الله عزَّ وجل, فهذا قمة العزة, وقمة الشرف .
لذلك يعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، حينما تسأل, فأنت ضعيف، حينما تسأل, فأنت ذليل، حينما تسأل, فأنت فقير، لا ينبغي أن تقف هذا الموقف الضعيف أمام مخلوقٍ مثلك، لذلك:
((من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه))

[ورد في الأثر]

أين كرامته؟ أين عزته؟ أين مروءته؟ أين موقفه الشهم؟ لذلك مهما مرَّغت جبهتك في أعتاب الله، مهما رجوت ربك في السجود، مهما ألححت عليه في الدعاء، هذا شرفٌ لك ، وهذا عزٌ لك، وهذا رفعةٌ لك، أما أن تقف موقف السائل أمام إنسان قد يجيبك, وربما لا يجيبك، قد يشفق عليك, وقد يشمت بك، قد يحبك, ويتمنى أن يعطيك، ولكنه لا يملك, فلذلك :
((وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ))
طبعاً هذا الكلام مستنبط من آية الفاتحة:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

[سورة الفاتحة الآية: 5]

إليكم استنباط هذا الحديث من هذه الآية, وما هو المعول عليه :

أيها الأخوة, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]
من أين جاء بهذا الكلام؟ الله عزَّ وجل قال:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾

[سورة غافر الآية: 60]
دققوا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾

[سورة غافر الآية: 60]
لم يقل: إن الذين يستكبرون عن دعائي، بل عن عبادتي، والدعاء عبادة، بل إن الداعي يكون في لهفةٍ، وضيقٍ، وشدةٍ، واستغاثةٍ، فعندئذٍ تكون صلته بالله عزَّ وجل من أوثق الصلات، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ, وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

فضل الله كبير، وفضله عميم، وفضله واسع، أنت قد تسأل إنساناً وظيفة فيعتذر، قد تسأل إنساناً مالاً فيقول لك: والله أديت زكاة مالي، لا يوجد معي مال، الإنسان محدود، ماله محدود، إمكانياته محدودة، صدقته محدودة، شواغره محدودة، فإذا ملأ الشاغر انتهى، لكن الله عزَّ وجل فضله عميم، وفضله كبير، وفضله واسع، وأنت عبدٌ له، وهذا الذي يسأله فيعطيه، أنت أقل منه, لا بأس أن تشعر أنك عبدٌ لله، وأنك بإمكانك أن تسأله كما سأله غيرك، وأن الله عزَّ وجل يعطيك كما يعطي غيرك، وأنه ليس بين العباد تفاضل إلا طاعتهم له، صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسـألن عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقـف على حد الأدب

هذا الذي أتمناه على كل أخٍ مؤمن؛ في سجوده، في صلاته، في صلاة الفرض، في صلاة السنة، في قيام الليل، لك حاجة، لك قضية، شبح مصيبة، إنسان عدو، ضيق ذات اليد، تتمنى أن تشتري هذا البيت، تتمنى أن تصل إلى هذا الهدف، ما دام لك عند الله حاجة, فالله عزَّ وجل يحب أن تسأله، لكن العبد يكره أن تسأله، والله سبحانه وتعالى يحب أن تسأله، ويحبك إذا سألته، وإذا أعطاك, يعطيك عطاءً جزيلاً، وهو العاطي لا يسأم، وهو الكريم لا يبخل، وهو الحليم لا يعجز .
إذا آمنت بوجود الله إيماناً قوياً، وبأنه يسمعك، وبأنه يحبك، وبأنك عبدٌ له، وأن فضله عميم، وأنه قدير، وأنه غني، وأنه حليم، اسأله، لا أقل لك: جرِّب، لا، فهذه كلمة لا تجوز، لأن الله عزّ وجل لا يجرب, ولا يشارط، ولكن أقول لك: اسأله وانظر, ولا تقل: أنا لا حظ لي، هذا كلام الشيطان، الله لا يحبني، الله ما أعطاني، أينما مشيت, فالطريق مسدود ، هذا كلام المعسرين, قال تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾

[سورة الحج الآية: 15]
ليعمل عملاً صالحاً يرجو به الله عزَّ وجل, قال تعالى:
﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾

[سورة الحج الآية: 15]
كل معصية:
﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾

[سورة الحج الآية: 15]

فتعامل مع الله مباشرةً، اسأله، فأنت عبد ومع هذا لا تتجاهل طلباً من عبد مثلك بل تلبي رغبته، فكيف بالواحد الديَّان؟ إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبدٍ تطيب في بيته, ثم زارني, وحق على المزور, أن يكرم الزائر .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

الله يحب أن يُسأل، إذا زارك صديق ترحب به، وتكرمه، وتقدم له ما تستطيع، ولكن عندما يطلب منك خمسين ألفًا، تجد نفسك قد تغير لون وجهك، وتقول له: لا تؤاخذنا ليس عندي مثل هذا المبلغ، أما الله عزَّ وجل, فيحب أن يُسأل، وعطاؤه لا ينتهي .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, يُحِبُّ أَنْ يُسْأَل ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ لَا يَسْأَلْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ))

[أخرجه أحمد في مسنده]

أنت حينما لا تسأل فلاناً, ترى في أعماقك أنه ضعيف، ليس بإمكانه أن يعطيك، ولا أقول هذا الكلام إلا من باب الحفز، فأنت حينما لا تسأل الله عزَّ وجل, معنى ذلك أنك لا تعرفه، لا تعرف أنه على كل شيءٍ قدير، لا تعرف أنه يستمع إليك تماماً، لا تعرف أنه يحب أن يجيبك، حينما لا تسأله, أنت لا تعرفه، فإذا عرفته تسأله، فمَن لا يسأل الله, يغضب عليه .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا, حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

هل هناك أبلغ من ذلك؟ فقد ورد في الأثر عن رسول الله:
(( ليسأل الله أحدكم ملح عجينه, وعلف دابته))
يقول عليه الصلاة والسلام:
((إِذَا سَأَلْتَ فَاسَأَلِ اللهَ))
هناك معنى مخالف للحديث، المعنى العكسي، أي يجب ألا تسأل غير الله عزَّ وجل، إذاً: كأن في هذا الحديث نفيَ سؤال المخلوقين .
إليكم هذا النموذج من الصحابة الذين بايعوا رسول الله بأن لا يسألوا الناس شيئاً :

استمعوا هناك أحاديث صحيحة كثيرة جداً, فقد ورد في الأثر:
((قد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً))
سيدنا الصديق خليفة رسول الله، يقع في قمة المجتمع الإسلامي، بمرتبةٍ دينية ليس فوقها مرتبة، ومرتبةٍ زمنية ليس فوقها مرتبة، هو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد ورد في الأثر:
((ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر))
ومن حيث الزمن: هو خليفة المسلمين، يقع في قمة المجتمع، في رأس الهرم، زمام ناقته على الأرض، وحوله أصحابه، فنزل من على ناقته, والتقط زمام ناقته، وكره أن يسأل أصحابه, أن يعطوه إياه .
فبايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، منهم أبو بكر الصديق، وأبو ذر الغفاري، وثوبان، وكان أحدهم يسقط السوط, أو خطام ناقته, فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه، هناك قصص عن الصحابة, شيء لا يكاد يصدق .
سيدنا الصديق خليفة المسلمين، وقد جيَّش النبي جيشاً, جعل أسامة بن زيد حبه قائداً لهذا الجيش، وكان عمرُه لا يزيد على سبعة عشر عاماً، فركب أسامة ناقته، وكان سيدنا الصديق يمشي على الأرض، فتوقف أسامة أدباً، وقال:
((يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن, قال له: والله لا ركبت ولا نزلت، وما علي أن تغبرَّ قدماي ساعةً في سبيل الله، أراد أن يبجله أمام جنوده))

إليكم هذا الحديث الذي ورد عن رسول الله, كيف وجه السائل الى مقصد الطلب ؟

أيها الأخوة, تجد إنساناً يشكو لإنسان بحرقة: أنا فقير، وأنفقت راتبي من الأسبوع الأول من الشهر، ليس معي منه شيء، يقولها بكل حرقة وألم .
جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال:

((يا رسول الله, إن بني فلان أغاروا علي, فذهبوا بابني وبإبلي، قال له: إن آل محمد لا يملكون مداً ولا طعاماً, فاسأل الله عزَّ وجل، فرجع إلى امرأته فقالت: ما قال لك؟ فأخبرها، فقالت: نعم، نِعْم ما رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصعد المنبر، وأثنى عليه، وأمر الناس بمسألة الله عزَّ وجل، والرغبة إليه، وقرأ قوله تعالى:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾

[سورة الطلاق الآية: 2]
حدثني أخ كريم من الدعاة إلى الله عزَّ وجل، كان في حديقة الجامعة، فالتقى به طالب من كلية التجارة, قال له: يا أستاذ، أنا شاب في ريعان الشباب، وتاقت نفسي إلى الزواج، وأخاف أن أعصي الله عزَّ وجل، وليس لي ما أتزوج به، فما العمل؟ قال هذا الداعية: هذا الكلام لا تقله لي، بل قله لله في صلاتك، أنا ضعيف، فيأتيه بعد أشهر, أن هذا الشاب, رزقه الله زوجةً، وبيتاً، بشكل عجيب، فروعة الدين أن الإنسان له رب سميع مجيب:
﴿نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾

[سورة مريم الآية: 3]
بلا صياح، بلا صخب، بلا ضجيج، أحياناً تكون أنت في موقف, لا تستطيع أن تحرك شفتيك، بإمكانك أن تدعو ربك بقلبك، تقول: يا رب أنقذني، يا رب ليس لي إلا أنت ، أنت رب المستضعفين, إلى مَن تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني؟ أم إلى صديقٍ وكلته أمري؟ فهذا الدعاء, يعني أنك تعرف الله عزَّ وجل، علامة معرفتك بالله دعاؤك .
ما هي الحكمة الربانية بأن جعل الحياة مليئة بالأزمات والمتاعب ؟

أيها الأخوة, الحياة كلها متاعب، كلها أزمات، كلها هموم، والله جعلها كذلك، أراد الله عزّ وجل أن يجعلها كذلك, كي نقبل عليه، كي نتجه إليه، كي نفتقر إليه، كي نستعيذ به، لأن الإنسان بصراحة، عندما يبعث الله له كل مطالبه, تجد همته ضعفت، على الرخاء يرتخي، على الرخاء يصير دعاؤه شكلياً، صلاته شكلية، فربنا عزَّ وجل يحب أن يسمع صوت عبده اللهفان، الذي يركض إليه ركضاً، إن لم تأته ركضاً, جاء بك ركضاً، فالبطولة أن تأتيه وحدك, لا أن تؤتى مقيداً إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ, يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ, يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ))

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

بل هناك حديث قدسي آخر:
((مَن ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ من ذا الذي استغفرني فلم أغفر له, وأنا أرحم الراحمين؟))
ما من عبدٍ سألني إلا أعطيته، دعاني إلا أجبته، استغفرني إلا غفرت له .
الطالب بدراسته: يا رب وفقني، يا رب تلهمني الإجابة الصحيحة، التاجر في محله: يا رب ربح تجارتي، فالبضاعة كاسدة، منظر مزعج للتاجر، المستودع المليء، لا بيع ولا شراء، لذلك عندما تكلم الله على التجارة, قال:
﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾

[سورة التوبة الآية: 24]
فأصعب شيء بالتجارة كساد البضاعة .
لذلك:
((ما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني, أعرف ذلك من نيته, إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي, أعرف ذلك من نيته, فتكيده أهل السموات والأرض, إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا))
الحياة الدنيا مليئةٌ بقصصٍ تؤكد هذه الحقيقة، اعتصم بالله, وأخلص نيتك لله عزَّ وجل, ولا تخشَ أحداً، كل مَن تراه عينك بيد الله عزَّ وجل, قال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة هود الآية: 55-56]
كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يدعو ربه فيقول:
((اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك، ولا يقدر على كشف الضر, وجلب النفع سواك))

إليكم هذه الأية التي تؤكد على مبدأ الاستعانة بالله, ولا يجوز أن يستعان بغيره :

أيها الأخوة, الآية الكريمة:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 17]
قال بعضهم: إن الله جل وعلا يحب أن يُسأل، وُيْرَغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤاله, وهو قادرٌ على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء .

((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ, وَآخِرَكُمْ, وَإِنْسَكُمْ, وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))

[أخرجه مسلم عن أبي ذر في الصحيح]
هذه:
((إذا سألت فاسأل الله))
إذا سألت الله فأنت تعرفه، وإذا سألت غيره فأنت قد أشركت به، عدم سؤالك لله جهلٌ وشرك، وسؤالك إياه معرفةٌ وتوحيد، والسؤال فيه ذل، فيه موقف ضعيف، والمسؤول دائماً قوي وعزيز، فأنت كعبد لله عزَّ وجل, لا يجوز أن تقف موقفاً ضعيفاً ذليلاً أمام مخلوقٍ من العالمين .
ماذا نستفيد من قول ابراهيم في هذه الآيات ؟

السيدة عائشة رضي الله عنها لها موقف عجيب، حينما أنزل الله براءتها, فقال لها أبوها: قومي إلى رسول الله واشكريه، قالت: واللهِ لا أقوم إليه, لا أقوم إلا لله عزَّ وجل، هو الذي برأني، فالنبي تبسم, ولم ينزعج, لأنها عرفت الحق لأهله، أن الله برأها, والنبي الكريم احتار، بقي شهراً في حيرة, ماذا يفعل؟ .
لا تنسوا قول سيدنا إبراهيم في القرآن الكريم :

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾

[سورة الشعراء الآية: 69-82]
خلق وهدى، ورزق وشفى، وأحيا وأمات وغفر, الله سبحانه وتعالى تفرَّد بالخلق والهداية، والرزق والشفاء، والإحياء والإماتة والمغفرة، فيجب أن تفرده بالسؤال، والطاعة ، والحب، والإخلاص، والتفويض، والاستسلام، والتوكل، ما دام هو وحده, يخلق ويهدي، ويرزق ويشفي، ويحيي ويميت ويغفر، إذاً: يجب أن تسأله وحده، وأن تحبه وحده، وأن تخلص له وحده .
هل الانسان غني عن الله, الأمثلة على ذلك ؟

((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))
الإنسان عاجزٌ قطعاً عن الاستقلال عن الله عزَّ وجل بجلب منافعه, ودفع مضاره في الدنيا والآخرة، أي غلطة في جسمك تجعل الحياة جحيماً، إذا زاد الكوليسترول في الشرايين قليلاً، وصل للشريان التاجي، وضاقت لمعة الشريان، تشعر بوجع في الصدر، فتحتاج لعملية تكلفتها مليون ليرة، وقثطرة، وإدخال مواد ظليلة، وترى أين التضيق، وبعد التضيق, ننشر الصدر ونفتحه، ونوقف القلب، ونوصله بقلب صناعي، ونفتح القلب, غلطة بالكليتين تجعل الحياة جحيماً .
أخ كريم قبل أن يتوفاه الله, أصيب بمرض, توقف الكليتين عن العمل، فزار المستشفى أثناء الغسيل, قالت له الممرضة بقسوة: لا تشرب ماء كثيراً, الجهاز معطَّل، شرب الماء نعمة، ما دامت الكليتان تعملان بانتظام .
عضلاتك، أعصابك، البنكرياس, لو تعطل, تصاب بمرض السكري، الغدة النخامية لها عمل، الغدة الدرقية لها عمل، الكظر له عمل, هو مركز توازن السوائل، فأنت فقير إلى الله، فقير بجسمك، فقير بعضلاتك، بأعصابك، بقلبك، برئتيك، بمعدتك، بأمعائك، آلاف الأمراض، ملايين الأمراض، أنت تسمع أن كل مرض له اسم خاص، وأعراض خاصة، وأدوية خاصة، وعلاج خاص, كذلك مرض أهلك في البيت، يجعل البيت جحيماً، أنت تعيش بفضل الله عزَّ وجل.
لذلك إذا استعنت فاستعن بالله، أنت فقير، فقير بكل شيء، نقطة دم صغيرة في أي مكان تجمدت, تؤدي إلى الموت، يقطع عضو من جسدك, بسبب مرض السكر, فهل بيدك الأمر أنت؟ نرجو الله سبحانه وتعالى أن يعافينا من كل داءٍ عُضال .
إليكم هذه المعية الخاصة من الله للمؤمن المستقيم على أوامره :

أيها الأخوة, الإنسان إذا كان في طاعة الله، جوارحه ملتزمة، دخله حلال، عمله طيب، إخلاصه عالٍ، استقامته جيدة، طلبه للعلم شديد، فالله عزَّ وجل يحفظه ويطمئنه, كذلك لا أن يحفظه فقط, قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 81-82]

إذا ظننت ثانية واحدة: أن هذا الشاب المستقيم, الذي عرف الله عزَّ وجل، والذي غض بصره عن محارم الله، والذي ضبط لسانه عن الغيبة والنميمة، والذي حرر دخله من الشبهات، والذي أنفق ماله في طاعة الله، والذي كان محسناً لخلق الله، رحيماً بهم، إذا ظننت لثانية واحدة: أن الله عزَّ وجل سيضيعه أو يهينه، فأنت لا تعرف الله، ستجد الله يلهمه العمل الصحيح، والعمل الشريف، والزوجة الوفية الطاهرة، ويهيّئ له الجو المريح:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

[سورة النحل الآية: 97]

أنت تعامل خالق الكون، تعامل رب العالمين، أنت ترجو الله، ترجو رضوانه، وهو يسعدك، ويسلِّمك، ويحفظك، وينصرك, ويؤيدك، ويريك آياته .
أقول لكم هذه الكلمة: الإنسان حينما يستقيم على أمر الله، وحينما يعمل الصالحات ، ماذا يعمل؟ يخطب ود الله عزَّ وجل، إذا ابن أحب أن يخطب ود والده، لبى له حاجاته، وقدم له بعض الهدايا، وعاونه، لا تجد الأب إلا وقد مال للابن، وبادر الأب بشكل غير شعوري, ليقوم بعمل أو بعطاء يعطيه لابنه, ربما يكون مبلغ من المال يتقرب به، فهكذا طبيعة الحياة .
فلما يبادر الإنسان إلى طاعة الله ماذا يفعل؟ إنه يخطب ود الله عزَّ وجل، وربنا عزَّ وجل يبادله حباً بحب, ووداً بود, يرزقه من حيث لا يحتسب، أنقذ له ابنه من مرض، جعل زوجته تعظمه، يلقي عليه ثوب الهيبة، تجد له قيمة عند أهل بيته .
كنت مرة في الحج، رأينا صديقاً يريد أن يطلق زوجته، ما السبب؟ قال لي: وأنا جالس أشاهد على برنامج في التلفاز، ركلتني برجلها أن أغير القناة، أي هيبة هذه؟ الشهواني ينزع الله هيبته من زوجته، لا قيمة له ببيته، يخاطب باسمه وبقسوة، وتكيل له الصاع صاعين، فلذلك حينما يطلب الإنسان ود الله عزَّ وجل، وحينما يطيعه، تجد الله عزَّ وجل يتولاه بالرعاية, والعناية، والتوفيق، والتأييد، والنصر، وهذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

[سورة البقرة الآية: 249]
هذه معية خاصة .
هل الانسان قادر على تنفيذ أوامر الله من دون الاستعانة به, وكيف يستعين بالله, وما عاقبة من لم يستعن به ؟
أيها الأخوة, العبد محتاجٌ إلى الله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات، أنت محتاج، سيدنا يوسف قال له:
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾

[سورة يوسف الآية: 33]
تقول: أخي أنا مؤمن مستقيم، أنا أغض بصري، هذا كلام فيه شرك، قل ربي احفظني، هكذا النبي علمنا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ, فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ, فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ, ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي, وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ))

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

فإذا أنت خرجت من بيتك قل: يا رب احفظني، فدائماً الإنسان في فعل المأمورات ، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات, أنت بحاجة إلى أن تستعين بالله عزَّ وجل.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

دائماً في عندنا موقف دقيق جداً: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ, فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ, وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ, فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ, فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))

[أخرجه أبو داود في سننه]

حديث خطير جداً، مهمتك كمؤمن أن تشمر، وأن تقول: يا رب أعني، اطلب، لا تستسلم، لا تنهزم، لا تضعف, وتقول: ما بيدي، لا، بيدك، الله يعينك، وما أكثر الأخوة الأكارم الذين استعانوا بالله فأعانهم، ابنك اعمل له برنامج، اجلس معه كل أسبوع جلسة، اجعله يراقبك بكل حركاتك مثلاً، على الفور تيأس، هذا اليأس من علامة القنوط من رحمة الله عزَّ وجل، زوجة لا يمكن اصلاحها، لماذا؟ كلام فيه تألّي على الله عزَّ وجل، الله قال:
﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 90]
تعال من باب البر، والإحسان، واللطف، أكرمها، أقنعها، غض البصر عن بعض أخطاءها، تجدها بعد شهر قد تغيرت .
سيدنا معاوية, جاءته رسالة من أحد المواطنين اسمه: عبد الله بن الزبير، فقال له: أما بعد:
((فيا معاوية, إن جنودك قد دخلوا أرضي, فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأنٌ, والسلام, قال ابنه يزيد: ماذا نفعل؟ قال له: أرى أن ترسل له جيشاً, أوله عنده, وآخره عندك, يأتوك برأسه، قال: غير ذلك أفضل, أمسك وقال اكتب للكاتب: أما بعد, فقد وقفت على كتابِ ولد حواري رسول الله -هو ابن الزبير- ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينةٌ جنب رضاه، لقد نزلت له عن الأرض ومَن فيها .
-يأتي الجواب-: أما بعد: فيا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي, الذي أحلك من قومك هذا المحل، قال له: يا بني, من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز, استمال إليه القلوب))

فكلمة لا أقدر، زوجتي لا تنصلح، ابني ما فيه خير، هذا العمل ليس منه فائدة، حسِّنه, ابحث عن الغلط فيه، ما في بيع، تأتي ببضاعة قديمة غير مطلوبة في السوق, وتريد أن تبيعها بسعر مرتفع، طبعاً لا أحد يشتريها، نزِّل سعرها، وبعها برأسمالها أو أقل من رأسمالها، وائتي ببضاعة مستواها أرقى، فوراً ييأس بالعمل، بالتجارة، بالوظيفة، بالزواج، مع أولاده، هذا اليأس السريع دليل الجهل,
((استعن بالله ولا تعجز))
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ, وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ, فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ, فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))

[أخرجه أبو داود في سننه]

أسعى، العجز تلام عليه، والسعي مطلوب، وحينما أغلب أقول: حسبي الله ونعم الوكيل، إذاً: هذه مشيئة الله عزَّ وجل .
أعرف أسرة ابنها دراسته وسط، وأقل من الوسط، هناك تصميم ليكون طبيبا، أنا ما رأيت أسرة عندها إلحاح مثل هذه الأسرة، أول سنة رسب، الثانية رسب، الثالثة أخذ البكالوريا، ثمانية أعوام كاملة أمضاها في كلية الطب، وبعدها صار طبيبا، فتح عيادة، والآن الدكتور فلان، أعجبني في هذه الأسرة إلحاحها، لم ييأسوا .
أحياناً أسرة ابنها من أول سنة رسب, أخي هذا ليس من أهلَ دراسة، يرسب إنسان سنة يصير عبقريا، أديسون كان ضعيف بالفيزياء، وأنشتاين أكبر عالم رياضيات, طردوه من المدرسة, لضعفه في الرياضيات، وعميد الأدب العربي في مصر توفيق الحكيم, كان ضعيفا باللغة العربية، يمكن أنْ يكون ابنك ضعيفا باللغة، ويصبح في الأخير أديبا، يمكن أنْ يكون ضعيفا بالرياضيات, فيكون رياضيا كبيرا، فهذا اليأس دليل الجهل، القنوط دليل عدم معرفة الله عزَّ وجل، هذه:

((وإذا استعنت فاستعن بالله ))
اسمعوا الآن: من ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره, وكله الله إلى مَن استعان به، فصار مخذولاً .
سيدنا الحسن كتب إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز قال:
((لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه))
بعض السلف قال:
((يا رب, عجبت لمَن يعرفك, كيف يرجو غيرك؟! وعجبت لمن يعرفك, كيف يستعين بغيرك؟!))
فأنت علامة إيمانك: أن تسأل الله, وأن تستعين بالله، اعرف الله, واستعن به, وخذ كل شيء، خذ حل لكل مشكلة، لكن أنت تارك الله, وجالس مع عبد الله، وعبد الله لئيم، أساسه لئيم، تارك خالق الكون ولاحق العبيد، والعبيد لهم مصالح, وقد تكون عكس مصالحك .
مرة أخ أراد أن يشتغل بمصلحة فقلت له: اسأل أصحاب المصالح يفيدوك، قال لي: سألت السوق بأكمله, قالوا لي: إياك هذه المصلحة، ما فيها أرباح، المواد الأولية غير مؤمنة، لا يوجد واحد إلا وحطم له أعصابه، كل هؤلاء أصحاب مصالح، أبعدوه عنها، قلت له: اسأل فلان، أعرف إنسانا مؤمنا، قال له: المصلحة ممتازة، موادها الأولية موفورة ، وأرباحها جيدة، وأنا أعاونك فيها، أرأيت المؤمن كيف؟ فلذلك الإنسان إذا استعان بغير الله, أوكله الله إليه, قال تعالى:
﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾

[سورة هود الآية: 88]
التوفيق بيد الله عزَّ وجل، تجد طبيبا علمه قليل، وعليه الناس يتقاتلون، وطبيب بخمسين بوردا ولا أحد عنده، إذا استعان الإنسان بالله, يجعل الله شفاء الناس على يده .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ, وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ, حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ, وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ))

[أخرجه أحمد في مسنده]

ماذا نستفيد من هذه القصة ؟

الآن من السيرة كما وعدكم في كل درس أن نجمع بين السيرة وبين الحديث .
رجل وفد على النبي عليه الصلاة والسلام له موقف جدير أن نستمع إليه .
قال ابن إسحاق:

((كان الطفيل بن عمرو الدوسي, يحدِّث أنه قدم مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجالٌ من قريش، وكان الطفيل رجلاً, شريفاً, شاعراً أريباً .
قال هؤلاء الرجال له: إنك قدمت بلادنا، وإن هذا الرجل -أي النبي الكريم

- وهو الذي بين أظهرنا, فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر, يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وإنما نخشى عليك, وعلى قومك, ما قد حل علينا, فلا تكلمه، ولا تسمع منه .
قال: فو الله ما زالوا بي, حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه, حتى حشوت في أذني, حين غدوت إلى المسجد كرسفاً, فرقاً من أن يبلغني منه شيء .
قال: فغدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه, فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله, فسمعت كلاماً حسناً, فقلت في نفسي: واثكلى أماه، والله إني لرجلٌ, لبيبٌ, شاعر, ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول, فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتبعته، حتى إذا دخل بيته, دخلت عليه, فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفونني أمرك, حتى سددت أذني بكرسفٍ, لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فأعرض علي أمرك، -ما هي القصة؟- .
فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط, أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه, فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله, إني امرؤٌ مطاعٌ في قومي، وإني راجعٌ إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله لي, أن يجعل الله لي آيةً, تكون عوناً لي عليهم فيما أدعوهم إلي .
فقال: اللهم اجعل له آية .
قال: فخرجت إلى قومي, حتى إذا كنت بثنيةٍ, تطلعني على الحاضر، وقع نورٌ بين عيني مثل المصباح، قلت: اللهم غير وجهي, إني أخشى أن يظن إنها مثلى, وقعت في وجهي, لفراق دينهم, فتحولت, فوقع في رأس سورتي كالقنديل المعلق، وأنا أن هبط إليهم من الثنية, حتى جئتهم, وأصبحت فيهم، فلما نزلت, أتاني أبي, وكان شيخاً كبيراً، فقلت: إليك عني يا أبت, فلست مني, ولست منك .
فقال: ولمَ يا بني؟ .
قلت: قد أسلمت، وتابعت دين محمد .
قال: يا بني, فديني دينك، أنا معك كذلك .
قال: فقلت: اذهب فاغتسل إذاً, وطهر ثيابك, ثم تعال, حتى أعلمك ما قد علمت، قال: فذهب, واغتسل, وطهر ثيابه، ثم جاء, فعرضت عليه الإسلام, فأسلم, ثم أتتني صاحبتي –زوجته- فقلت لها: إليك عني، فلست منك, ولست مني .
فقالت: ولم بأبي أنت وأمي؟ .
فقلت: فرق الإسلام بيني وبيني، أسلمت, وتابعت دين محمد .
قالت: فديني دينك، أنا معك، -لأنه شريف, وله قيمته- .
قال: قلت: فاذهبي, فاغتسلي, ففعلت، ثم جاءت, فعرضت عليها الإسلام, فأسلمت, ودعوت دوساً إلى الإسلام, فأبطؤوا حالي، فجئت رسول الله عليه الصلاة والسلام, وقلت: يا رسول الله, إنه قد غلبني على دوس الزنا، فهذا الزنا حجبهم عني, وما أسلموا معي, فادعوا الله عليهم .
-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه, قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ, عَصَتْ, وَأَبَتْ, فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ, فَقَالَ:
((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا, وَائِت بِهِمْ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

لماذا تدعو عليهم؟ ادع لهم بالهدى، على الفور تجد الواحد يدعو على الشخص، طول بالك, ادع له بالهدى، ولو كان عدوك، فقال:
((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا, وَائتِ بِهِمْ ))
انظر إلى النبي، أحلم عليهم، خذهم باللين، بشر ولا تنفر، يسر ولا تعسر، سدد وقارب- فرجعت إليهم, فلم أزل بأرض دوس, أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بخيبر، فنزلت المدينة بثمانين أو سبعين بيتاً من دوس، ثمانون بيتا أسلموا معه، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين)) فهذا الذي وضع في أذنه قطن, كي لا يسمع، أسلم هو، وأبوه، وزوجته، وسبعون أو ثمانون بيتاً من قومه .
يقول أحدهم: أخي إياك أن تحضر، إياك أن تذهب، أنت اذهب, أعطاك الله عقل، وهذا العقل ميِّز فيه .





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 05-05-2018, 02:55 PM   #4


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين




بسم الله الرحمن الرحيم


شرح الحديث الشريف رياض الصالحين


الحديث ( الرابع )




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ما يحويه هذا الحديث من مواضيع :

أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس الخامس من دروس الحديث الشريف، ومن كتاب رياض الصالحين، ومن باب التوبة .
عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ:

((أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ, أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ, فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ, فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ, فَقُلْتُ: إِنَّهُ حَكَّ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ, وَكُنْتَ -أي يا صفوان- امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَسْأَلُكَ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ, كَانَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا -أَوْ مُسَافِرِينَ- أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلا مِنْ جَنَابَةٍ, لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ, وَبَوْلٍ, وَنَوْمٍ, فَقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي الْهَوَى شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ, كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ, فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ, إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ صَوْتِه, هَاؤُمُ, فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ, فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَغْضُضُ, قَالَ الأَعْرَابِيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ, قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا, حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ, مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا عَرْضُهُ, أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ عَامًا, قَالَ سُفْيَانُ -أحد الرواة-: قِبَلَ الشَّامِ, خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مَفْتُوحًا, -يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ- لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]
يا أيها الأخوة المؤمنون, في هذا الحديث الشريف, الذي رواه التِرمذي في باب الدعوات، ورواه النَسائي في كتاب الطهارة، في هذا الحديث الشريف موضوعاتٌ ثلاثة:
فضيلة طلب العلم، وحُكْمُ المسح على الخفين، والحبُّ في الله، والبغض في الله، ولأن هذه الموضوعات الثلاثة موضوعاتٌ أساسيَّةٌ في الدين، فلذلك سأخصِّص بعض هذا الدرس للموضوع الأول, وهو طلب العلم، وفي الدرس الآخر إن شاء الله, أتحدَّث بالتفصيل عن المسح عن الخفين، وفي درسٍ ثالث نتحدَّث عن الحبِّ في الله، والبغض في الله، لأن هذه الموضوعات تتعلَّق بالدين أشدَّ التعلُّق، ولاسيما الحبُّ في الله، والبغض في الله، ولاسيما طلب العلم .
من هو زر بن حبيش:



زر بن حبيش, تابعيٌّ جليل، ومعنى التابعي الذي رأى من رأى رسول الله، الصحابي هو الذي صاحب رسول الله، والتابعيِّ هو الذي رأى, وصاحب أصحاب رسول الله، يُروى أن هذا التابعي عاش مئةً وعشرين عاماً .
فعن زِرِّ، وقد قال عليه الصلاة والسلام عندما سأله أَعْرَابِيّ, قَالَ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]


بالمناسبة: في بعض الأحاديث التي تتحدَّث عن طول العُمر، طول العمر له تفسيران؛ إما أن يدعو لك أحدٌ بطول العمر, فيستجيب الله له، بمعنى أنه يهبك في هذا العمر المحدود من الأعمال الصالحة, كأنَّك عشت مئتين من السنين، فالإنسان عمره لا يُقاس بشهادة ميلاده, بل يقاس بحجم أعماله، هذه نقطة مهمَّة جداً .
النبي عليه الصلاة والسلام, عاش ثلاثاً وستين عاماً, وكان يقول دائماً:
((معترك المنايا بين الستين والسبعين))
عاش عمراً متوسِّطاً ومعتدلاً، ومع ذلك ترك آثاراً على وجه الأرض, لا يستطيع إنسانٌ حتَّى الآن, أن يُدْرِكَ أبعادها .
لذلك هذا مايكل الذي ألَّف كتاباً سمَّاه: المئة الأوائل, هو كاثوليكي، وقرأ عن عظماء العالَم الشيء الكثير، واختار من عظماء العالَم في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً, ألوف الشخصيات، واختار منها مئةً, عَدَّها من الأوائل، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام على رأس هذه المئة، لا من باب الحُب، ولكن من باب التقدير، لأن وضع مقياساً دقيقاً هو: عمق التأثير، واتساع رقعة التأثير، وامتداد أمد التأثير، هذه المقاييس الثلاثة, طبَّقها على هؤلاء المئة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في طليعتها .
إذاً: البطولة أن تعيش العُمُرَ الذي قدَّره الله لك، ولكن بين أن يكون هذا العمر تافهاً، لا معنى له، مليئاً بالقيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، فبين أن يكون هذا العمر مصروفاً في التُرُّهات, والأباطيل, والشهوات، والمباهج الدنيويَّة، والمسرَّات, وبين أن يكون هذا العمر مصروفاً في معرفة الله، وفي التقرُّب إليه، وفي طاعته، وفي الدعوة إليه .
لذلك قال بعض العلماء: ذرَّةٌ من أعمال أهل القلوب توازي عمل الثقلين .
فطول العمر لا يتعلَّق بالمدَّة, ولكن يتعلَّق بحجم العمل, الذي تركته في هذه الحياة الدنيا .
أعطيكم مقياساً دقيقاً: أي عمل يمتدُّ أثره إلى الآخرة, فهو من الأعمال العَظيمة, من ترك صدقَّةً جاريةً، ساهم في بناء مسجد، من ترك علماً يُنْتَفَعُ به، من ترك ولداً صالحاً يدعو إلى الله عزَّ وجل، هذه الأعمال أجرها مستمرٌّ إلى يوم القيامة، لذلك:
((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ, انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))

[أخرجه مسلم عن أبي هريرة في الصحيح]
والله سبحانه وتعالى حينما قال متحدِّثاً عن عمر الإنسان:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾

[سورة فاطر الآية: 37]
قال العلماء: النذير هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: النذير هو القرآن الكريم، وقال بعضهم: النذير همُ الدعاة إلى الله، وقال بعضهم: النذير هو الموت، وقال بعضهم: النذير هو الشيب، وقال بعضهم: النذير هو سِنُّ الأربعين، وقال بعضهم: النذير هو سِنُّ الستين، وقال بعضهم: النذير هو المصائب، وقال بعضهم: النذير هو موت الأقارب، إذاً:
((خيركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ))
اهتم بحجم العمل الذي فعلته, لتلقى الله به، سُمِّيَ العمل صالحاً، أي أنه صالحٌ للعرض على الله عزَّ وجل، فهذا الذي يعمل طوال حياته, لو سأل نفسه هذا السؤال الحَرِج: إذا جاءت منيَّتي، أو جاء مَلَك الموت، ماذا قدَّمت لهذه الدار الآخرة الأبديَة السرمديَّة؟ سؤالٌ خطير، إذا قِسْتَ الأعمال التي يمتدُّ تأثيرها إلى ما بعد الموت، ربَّما كان تسعة أعشار الأعمال التي نعملها تنتهي عند الموت، ولا شأن لها بعد الموت، وربما كانت الحسرة عليها بالغةً بلوغاً شديداً .
كيف نفسر قول صفوان بن عسال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ..... في ضوء علم الشريعة الاسلامية ؟
فهذا التابعيّ زِرُّ بن حبيش, قال:
((أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ, أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ, فَقَالَ صفوان بن عسَّالٍ، -هذا الصحابيُّ الجليل, الذي غزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزواتٍ كثيرة, تزيد عن اثنتي عشرةَ غزوة- قَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْم))
انتبهوا لعلَّ الله سبحانه وتعالى يرحمنا جميعاً .
(إِنَّ الْمَلائِكَة): كلام الصحابي الجليل، ولا بدَّ من أنه سمع هذا الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام, (إِنَّ الْمَلائِكَة), هذه المخلوقات الطاهرة .

((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُب))
هذا القول للصحابي الجليل, أصله حديثٌ شريف، وقد يرد كثيراً في كتب الأحاديث، والإنسان أحياناً, قد يفهم هذا الحديث فهماً كلياً لا فهماً جُزئياً .
هناك من يقول مثلاً: إنَّ هذا الحديث, يشجِّع طلبة العلم على طلب العلم، هذا معنى عام، معنى كلي، ولكن لو أردنا أن ندخل في تفاصيل هذا المعنى، الحقيقة: أن هناك قاعدةٌ أصوليَّةٌ في تفسير النصوص، تقول هذه القاعدة: كل ما ورد من النصوص، وأمكن حمله على ظاهره, حُمِلَ على ظاهره، ما لم يرد ما يصرفه عن ظاهره .
فالإنسان ليس له الحق, أن يفسِّر كما يشتهي، أو أن يفسِّر كما يحلو له، للتفسير قواعد قَعَّدها عُلماء التفسير، فليس لك الحق أن تؤول هذه الآية وفق مزاجك، أو وفق رأيك، إنَّ هناك قواعد دقيقة لتفسير هذه الآية، فكل ما ورد, وأمكن حمله على ظاهره, حُمِلَ على ظاهره, ما لم يرد ما يصرفُه عنه، لأن الكلام ينقسم إلى حقيقةٍ وإلى مجاز .
فإذا قلت: في بيتنا زهرةٌ، ماذا تعني هذه الكلمة؟ تعني هذه الكلمة: أن في بيتك زهرةً، ماذا تعني كلمة زهرة؟ أي نبات، لأن الأصل أن يُحْمَلَ هذا الكلام على ظاهره، أخي أنا أقصد بالزهرة الطفل جميل، إذا قلت: إنَّ في بيتك زهرةً, أي في بيتك زهرةٌ، وهي نبات، لأن هذا الكلام له ظاهر، وفي أصول تفسير النصوص, يجب أن يُحْمَلَ هذا الكلام الظاهر على معناه الظاهر .
أما إذا قلت: في بيتنا زهرةٌ تلعب، صار في النص قرينةٌ, تمنع إيراد المعنى الأصلي ، ننتقل إذاً إلى المجاز، إذا شَبَّه القائل الطفل بزهرةٍ, وحذف الطفل، وأبقى شيئاً من لوازمه، ألا وهو اللعب، واللعب قرينةٌ مانعةٌ من تصوِّر المعنى الأصلي .
فالكلام ينقسم إلى حقيقةٍ وإلى مجاز، إذا قلت: رأيت البحر، أي رأيت البحرَ، أما إذا قلت: يا أخي, أنا رأيت عالم علمه كالبحر، قلت: رأيتَ البحرَ، أي رأيت البحرَ، أما إذا قلت: زارني بحرٌ، البحر لا يزورك، فهذه قرينةٌ تمنع تصوُّرَ المعنى الحقيقي .
فيا ترى: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْم) .
الأولى: أن يفسَّر هذا الحديث الذي ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ الملائكة، وهي التي تطير في السماء، وتحلِّق في الأجواء، أو تملأ الفضاء، حينما يبلغها أن هناك مجلس علم, تهبط إلى الأرض، وتكفُّ عن الطيران، وقد كَنَّى النبي عليه الصلاة والسلام عن وضع أجنحتها, كنايةً عن الكفِّ عن الطيران، وتستمع إلى ما يُقال في هذا المجلس، كأن النبي عليه الصلاة والسلام, أراد أن يُبَيِّنَ لنا عِظَمَ وشأن طالب العلم في السماء.
تركت المنزل قبل ساعتين، وارتديت الثياب، وتوجَّهت إلى السيارة العامَّة، واستغرق الوصول إلى المسجد ساعةً ونصف، وأمضيت في المسجد ساعةً ونصف، ثمَّ عُدتَ في ساعةٍ ونصف، هذه الساعات الأربع, اقتُطِعَت من وقتك الثمين، كان يمكن أن تستلقي في البيت، أن تجلس مع أهلك، مع أولادك، كان من الممكن أن تعمل عملاً, يُدِرُّ عليك ربحاً, ولكنَّك اقتطعت من هذا الوقت وقتاً, وصرفته في طلب العلم، لذلك الملائكة تضع أجنحتها تعظيماً لمجالس العلم، وتعظيماً لطالب العلم .
ما بعدَ هذه البلاغة من بلاغة، وقد ورد معنا في الحديث القدسي:
((يَا بْنَ آدَمَ, تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي, أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى, وَأَسُدَّ فَقْرَكَ))

[أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة في سننه]
وكأن معنى تفرَّغ, تشير إلى أن هناك ازدحاماً في الوقت، إلى أن الوقت ممتلئ، إلى أن المشاغل كثيرة، إلى أن هموم المعاش كبيرة، إلى أن طبيعة الحياة مُعَقَّدة، ولكن: (يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي), أغلق محلَّك التجاري, والناس مقبلون عليه ابتغاء طلب العلم، لا تلتفت لكلام الزوجة، تَوَجَّه لمجلس العلم ابتغاء رضوان الله، لا تعبأ بالربح الجزيل، فالسوق مُفْعَمٌ بالزبائن ، توجَّه إلى مجلس العلم, (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْم) .
فالملائكة في السماء، والطيور في الهواء، الحيتان في الماء, تصلي على معلِّم الناس الخير، وهذا الذي يعلِّم الناس الخير, لولا هؤلاء المستمعون الأفاضل, الذين جاؤوا, ما كان بإمكانه, أن يقول كلمة، فالفضل للمستمعين .
إذاً: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْم)، هذا هو المعنى الحقيقي، هناك معناً مجازي كما قلت قبل قليل، إذا قلت: في بيتنا زهرةً تلعب، فالمعنى مجازي، الزهرة تعني بها الطفل، وإذا قلت: زارني بحرٌ، فالمعنى مجازي .
هناك معنى آخر مجازي، هو أن الملائكة على عِظَم شأنها، وعلى قربها من الله عزَّ وجل, هي تتواضع لطالب العلم، وحُمِلَ هذا المعنى على قوله تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 215]
لذلك المُعَلِّم مأمورٌ من قِبَلِ المولى جلَّ وعلا, أن يتواضع لمن يُعَلِّمه, قال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 159]
إذاً: المعنى الثاني: تواضع الملائكة، حينما تأتي الملائكة، وتسكن أمام طالب العلم، تضع له أجنحتها، فإذا مرَّ إنسان عظيم، وإنسان آخر انحنى له، خفض له رأسه، هذا تعبير عن تعظيمه، توضعٌ من الثاني، وتعظيمٌ للأول، فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم .
قال لي أحدهم اليوم: ليس في الدنيا ساعةٌ أمتع, ولا أقرب إلى النفس, من ساعةٍ أحضر فيها مجلس علم، وكأن هذه الساعة, ينقطع فيها الإنسان عن هموم الحياة وما أكثرها، هموم المعاش، هموم كسب الرزق، المُشكلات الاجتماعيَّة، هذه كلُّها إذا دخل المسجد, جعلها وراء ظهره، وأقبل الله عليه, لأنه يطلب العلم .
أما المعنى الثالث: كنايةٌ عن أن الملائكة تقدِّم المعونة، وتيسِّر السعي لطالب العلم، أي أن طالب العلم أموره ميسَّرة .
سمعت أكثر من قصَّة، بل سمعت عشرات القصص من أخوتي الأكارم، كيف أن الله سبحانه وتعالى عاملهم أطيب معاملة، وأكرمهم، ويسَّر لهم أمورهم، ووفَّقهم في أعمالهم؟ لأنهم حضروا مجالس العلم .

((عبدي, كن لي كما أريد, أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد, ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد، وأنا أريد, فإذا سلَّمت لي فيما أريد, كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد, أتعبتك فيما تريد، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد))
فلذلك المعنى الثالث: أن طالب العلم الملائكة, تضع أجنحتها خدمةً له، تسهيلاً لأعماله ، توفيراً لحاجاته، لذلك طالب العلم مَخْدوم، كيف؟ لا نعلم، أموره مُيَسَّرة .
جاء في بعض الأحاديث الشريفة أنه:
((من طلب العلم تكفَّل الله له برزقه))
العلماء وضَّحوا: أن الملائكة هنا, المقصود بهم: ملائكة الرحمة، وبعضهم قال: الملائكة عموماً تضع أجنحتها، أي تكفُّ عن الطيران, لتستمع إلى مجالس العلم، أو تضع أجنحتها, تعظيماً لطالب العلم، أو تضع أجنحتها معونةً له، وتوفيقاً، وتيسيراً .
فهل بعد هذا الحديث شيءٌ, يدعونا إلى ترك مجالس العلم؟ إذا كان الله سبحانه وتعالى في سمائه، والملائكة، وكُلُّ المخلوقات يُبَجِّلونَ، ويعظِّمون طالب العلم، لماذا؟ لأن:
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))

[أخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك في سننه]
شيءٌ آخر: توجد نقطة دقيقة جداً, أتمنى أن أوضِّحها لكم, وهي: أن في الحياة فروقاً كبيرةً بين الناس، شتَّانَ بين الغنى والفقر، هناك غنيٌّ يملك ألوف الألوف، وألفٌ لا يملكون واحداً، واحدٌ يملك مليون، ومليون لا يملكون واحداً، مع أن الغنى شيءٌ مهمٌّ في الحياة الدنيا، ومع أن الفقر شيءٌ صعبٌ في الحياة الدنيا، ومع ذلك ما قَبِلَ الله عزَّ وجل، ولا أراد أن يكون الغنى عاملاً مرجِّحاً بين عباده,
((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ, ذِي طِمْرَيْنِ, لا يُؤْبَهُ لَهُ, لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ))

[أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك في سننه]
الله سبحانه وتعالى أعطى قارون المال، وهو لا يحبُّه, قال تعالى:
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 76]
إذاً: مع أن المال في نظر معظم الناس شيءٌ مهمٌ, وثمينٌ جداً في الحياة الدنيا، وأن الفقر في ظاهره, شيءٌ مزعجٌ جداً، مع كل هذا, لم يرض الله عزَّ وجل، ولا أراد، ولا أقر, أن يكون الغنى عاملاً مرجّحاً بين خلقه، لهذا جعل معظم الأنبياء من الفقراء .
وقد سُئل النبي عليه الصلاة والسلام من قِبَل سيدنا جبريل:
((يا محمَّد, أتحبُّ أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يا أخي, بل نبيَّاً عبداً, أجوع يوماً فأذكره, وأشبع يوماً فأشكره))
ومع أن القوَّة شيءٌ مهمٌ جداً في الحياة الدنيا، وشيءٌ ثمينٌ جداً، وأن الضعف شيءٌ صعبٌ جداً، ومُزعجٌ جداً، مع هذه المفارقة الحادَّة بين القوَّة وبين الضعف، لم يرض الله سبحانه وتعالى أن تكون القوَّة عاملاً مرجِّحاً بين عباده في الدنيا، فأعطى فرعون المُلْكَ، وهو لا يحبُّه، وجعل سيدنا موسى يخرج من مصر خائفاً, قال تعالى:
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾

[سورة القصص الآية: 21]
ومع أن الصحَّة في الحياة الدنيا شيءٌ مهمٌ جداً, وأن المرض لا يُحْتَمَل، كذلك لم يرض الله، ولا أراد, أن تكون الصحَّة عاملاً مرجِّحاً بين عباده، ولكن عاملاً وحداً أَقَرَّهُ الله في القرآن الكريم, أن يكون مرجِّحاً بين العباد، إنه العلم، فقال:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[سورة الزمر الآية: 9]
إذاً: رتبة العلم أعلى الرُتَب، وإن الله عالمٌ يحبُّ كل عالم،
((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))

[أخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك في سننه]
والعلم طريقٌ إلى الجنَّة,
((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا, يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ))

[أخرجه الدارمي عن أبي الدرداء في سننه]
إذاً:
((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُب))
إنها ترضى عن سعيه، وتُعَظِّمُ سعيه، وهذا المطلب مشروعٌ، حيث لو أن طالب العلم, أدركته المنيَّة في أول الطريق, لكُتِبَ من أهل الجنَّة، لأن الأمور تُقَيَّم بالنوايا، ومن سار في أوَّل الطريق من باب الكرم الإلهي عُدَّ قد وصل إلى آخره .
وسوف ننتقل في درسٍ قادم إلى الحديث عن موضوع المَسْحِ على الخُفَّين، وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى, نتحدَّث عن الحبِّ في الله, والبغض في الله، ربما استغرق هذا الحديث ثلاثة دروس .
في أي سنة زار سليمان بن عبد الملك الديار المقدسة?
والآن إلى قصَّةٍ من قصص التابعين، نحن قبل سنةٍ أو أكثر, كنَّا قد أعطينا في كل درسٍ من دروس الأحد, قصَّةً من قصص الصحابة، فأتينا على ذكر سبعين صحابيَّاً في كل درسٍ من دروس الأحد، وكنَّا نُنهي الدرس بقصَّةٍ عن صحابيّ جليل، والآن ننتقل إلى قصصٍ عن بعض التابعين، هؤلاء الذين كانوا مُثلاً عُليا في الدين والحياة .
في السنة السابعة والتسعين للهجرة, شدَّ الخليفة سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الديار المقدَّسة, ملبياً نداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ومضت ركائبه, تحثُّ الخُطى من دمشق عاصمة الأمويين إلى المدينة المنوَّرة التي وصلها، وجلس فيها لاستقبال علمائها، وأعيانها، وعَلِيَّةِ قومها، ولمَّا فرغ سليمان بن عبد الملك من استقبال المُرَحِّبين به قال لبعض جلسائه:
((إنَّ النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن, إذا لم تجد من يذكِّرها, الفينة بعد الفينة، ويجلو عنها صدأها .
فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين .
فقال: أما في المدينة رجلٌ, أدرك طائفةً من صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم, يُذَكِّرنا؟ .
قالوا: بلى يا أمير المؤمنين -لو قالوا: نعم أي لا يوجد، نعم: تفيد إثبات النفي، لكن بلى: تفيد نفي النفي، ونفي النفي إثبات، في القرآن الكريم:

﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾

[سورة الأعراف الآية: 172]
لو أنهم قالوا: نعم, لكفروا، لو أنهم قالوا: نعم, أي لست ربنا- .
فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين، ها هنا أبو حازمٍ الأعرج .
فقال: ومن أبو حازم الأعرج؟ .
فقالوا: عالِم المدينة, وإمامها، وأحد التابعين, الذين أدركوا عدداً من الصحابة الكرام.
فقال: ادعوه لنا, وتلطَّفوا في دعوته, فلمَّا أتاه، رحَّب به، وأدنى مجلسه، وقال له معاتباً: ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟ .
فقال: وأي جفاءٍ رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ .
فقال: زارني وجوه الناس ولم تزرنِي .
فقال: يا أمير المؤمنين, إنَّما يكون الجفاء بعد المعرفة، وأنت ما عرفتني قبل اليوم، ولا أنا رأيتك، فأي جفاءٍ وقع مني؟ .
عندئذٍ قال الخليفة لجُلسائه: والله أصاب الشيخ في اعتذاره، وأخطأ الخليفة في عِتابه، ثمَّ التفت إلى أبي حازم، وقال: إنَّ في النفس شؤوناً, أحببت أن أُفضي بها إليك يا أبا حازم .
فقال: هاتها يا أمير المؤمنين, والله المستعان .
-إذا سألك واحد سؤالا, فاستعن بالله، إذا شعرت أنه بإمكانك, أن تجيبه عن سؤاله, وأنت واثقٌ من علمك، فهذا هو الجهل بعينه، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾

[سورة الإسراء الآية: 85]
إذا سألك واحد سؤالا, فعوِّد نفسك هذه الطريقة، استعن بالله بقلبك، يا رب أعن على أن أجيبه، لا تخزن أمامه، علِّمن أن أجيبه- .
فقال الخليفة: يا أبا حازم لِمَ نكره الموت؟ .
فقال أبو حازم: لأنكم عمَّرتم الدنيا، وخرَّبتم الآخرة، -فهو جوابٌ واضحٌ كالشمس، عمَّرتم الدنيا، زخرفتموها، بنيتم البيوت الفخمة، فرشتموها بالأثاث الوثير، جعلتم أعمالكم فيها أبَّهة وعظمة، كوَّنتم مكاناً اجتماعياً، ودخلاً كبيراً، فوالله الموت صعب جداً- .
فقال: صدقت، ولكن يا أبا حازم, ما لنا عند الله غداً؟ -ما مكاننا؟ ما موقعنا؟ ما رُتْبَتُنا؟-.
فقال: اعرض عملك على كتاب الله عزَّ وجل, تجد جواب ذلك .
قال: وأين أجد في كتاب الله تعالى؟ .
قال: تجده في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾

[سورة الانفطار الآية: 13-14]
-كلامٌ واضحٌ كالشمس, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾

[سورة الانفطار الآية: 13]

إذا كنت باراً, فأنت في نعيم بعد الموت, قال تعالى:
﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾

[سورة الانفطار الآية: 14]
فقال: يا أبا حازم إذاً: فأين رحمة الله؟ .
فقال أبو حازم: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين .
فقال: يا أبا حازم, ليت شعري, كيف القدوم على الله تعالى؟ .
فقال أبو حازم: أمَّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله .
-تصوَّر إنسانًا, يدرس في بلد أجنبي، وله أهل في بحبوبة كبيرة، ويحبّونه حُبَّاً جمَّاً، وعلموا أنه سيأتي بعد أسبوعين، فيصبح البيت كلُّه عيد، تصنع له أمُّه أَلَذَّ الأكلات، تهيىء له غرفةٌ فيها ما لَذَّ وطاب, أما المحسن فكالغائب يعود إلى أهله- .
فقال: وأما المسيء, فكالعبد الآبق يُساق إلى مولاه، -العبد الهارب، أُلقي القبض عليه، واقتادوه إلى مولاه, ليلقى جزاء عمله، لذلك قال الله تعالى:
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 61]
أُلقي القبض عليه، وسيق مخفوراً إلى التحقيق، المُتَّقون يأتون يوم القيامة وفداً, قال تعالى:
﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً﴾

[سورة مريم الآية: 86]

المُجْرِم يُساق سوقاً, لأنه متهم- فبكى الخليفة حتَّى علا نحيبه، واشتدَّ بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم, كيف لنا أن نصلح؟ .
فقال: تدعون عنكم الصَلَف، وتتحلَّوْنَ بالمروءة .
فقال الخليفة: وهذا المال، ما السبيل إلى تقوى الله فيه؟ .
فقال أبو حازم: إذا أخذتموه بحقِّه، ووضعتموه في أهله، وقسَّمتموه بالسويَّة، وعدلتم فيه بين الرعيَّة .
فقال الخليفة: يا أبا حازم, أخبرني عن أفضل الناس؟ .
فقال: أهل المروءة والتُقى .
فقال: وما أعدل القول؟ .
قال: كلمة حقٍ يقولها المرء عند من يخافه، وعند من يرجوه .
قال: ما أسرع الدعاء إجابةً؟ .
قال: دعاء المحسن للمحسنين .
قال: ما أفضل الصدقة؟ .
قال: جُهْدُ المُقِل -المقل هو قليل المال- يضعه في يد البائس من غير أن يتبعه مَنَّاً ولا أذى .
فقال: من أكيس الناس؟ .
قال: رجلٌ ظَفِرَ بطاعة الله تعالى، فعمل بها، ثمَّ دلَّ الناس عليها .
فقال: فمن أحمق الناس؟ .
قال: رجلٌ انساق مع هوى صاحبه، وصاحبه ظالمٌ، فباع آخرته بدنيا غيره .
فقال الخليفة: هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم فتصيب منَّا، ونصيب منك؟ .
فقال: كلا يا أمير المؤمنين .
قال: ولِمَ؟ .
قال: أخشى أن أركن إليكم قليلاً, فيذيقني الله ضعف الحياة, وضعف الممات .
قال: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم، فسكت ولم يجب .
فأعاد عليه قوله: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم, نقضها لك مهما كانت .
فقال: حاجتي أن تنقذني من النار، وأن تدخلني الجنَّة .
فقال: هذا ليس من شأني .
فقال: إذاً ليس لي إليكَ حاجة .
فقال: ادع لي يا أبا حازم .
فقال: اللهمَّ إن كان عبدك سليمان من أوليائك, فَيَسِّره إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك, فأصلحه واهده إلى ما تحبُّ وترضى .
فقال رجل: بئس ما قلت منذ دخلت على أمير المؤمنين، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله وآذيته .
قال أبو حازم: بل بئس ما قلت أنت، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق, بأن يقولوا كلمة الحق, فقال:

﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾

[سورة آل عمران الآية: 187]
ثمَّ التفت إلى الخليفة, وقال: يا أمير المؤمنين, إن الذين مَضَوْا قبلنا من الأمم الخالية, ظلوا في خيرٍ وعافية, ما دام أمراؤهم يأتون علماءهم رغبةً فيما عندهم، ثمَّ وجِدَ قومٌ من أراذل الناس, تعلَّموا العلم، وأتوا به الأمراء, يريدون أن ينالوا به شيئاً من عَرَض الدنيا، فاستغنت الأمراء عن العلماء، فتعسوا، ونكسوا، وسقطوا من عين الله عزَّ وجل، ولو أن العلماء زهدوا فيما عند الأمراء, لرغب الأمراء في علمهم، ولكن رغبوا فيما عند الأمراء, فزهدوا في علمهم، وهانوا عليهم .
فقال الخليفة: صدقت، زدني من موعظتك يا أبا حازم، فما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فمه منك .
فقال: إن كنت من أهل الاستجابة, فقد قلت لك ما فيه الكفاية، وإن لم تكن من أهلها, فما ينبغي لي أن أرمي عن قوسٍ ليس لها وتر .
فقال الخليفة: عزمت عليك أن توصيني يا أبا حازم .
فقال: نعم سوف أوصيك، وأوجز، عَظِّم ربَّك، ونَزِّهه أن يراك حيثُ نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك، ثمَّ سلَّم وانصرف .
فقال الخليفة: جزاك الله خيراً من عالمٍ ناصح .
وما كاد أبو حازم يبلغ بيته, حتَّى وجد أن أمير المؤمنين, قد بعث إليه بصرَّةٍ, مُلئت دنانير، وكتب إليه يقول: أنفقها، ولك مثلها كثيرٌ عندي، فردَّها، وكتب إليه, يقول: يا أمير المؤمنين, أعوذ بالله أن يكون سؤالك إيَّاي هزلاً، وردي عليك باطلاً، فو الله ما أرضى ذلك لكَ, فكيف أرضاه لنفسي؟ .
يا أمير المؤمنين, إن كانت هذه الدنانير لقاء حديثي الذي حدَّثتك به، فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أَحَلُّ منها، وإن كانت حقَّاً لي من بيت مال المسلمين, فهل سَوَّيت بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق؟)) هذا أحد التابعين الأكارم، واسمه أبو حازم، اسمه الأصلي سلمة بن دينار .
إن شاء الله تعالى إلى أمدٍ, إن أحيانا الله ليس بقصير، في كل درس أحد, نُلقي على مسامعكم, قصَّةً عن أحد التابعين, الذين كانوا مثلاً أعلى في العلم, والورع, والنُصح .




والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 05-05-2018, 02:58 PM   #5


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



بسم الله الرحمن الرحيم


شرح الحديث الشريف رياض الصالحين


الحديث ( الخامس )





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
حكم المسح على الخفين في الفقه الإسلامي :

أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس السادس من دروس الحديث الشريف، ومن كتاب رياض الصالحين، ومن باب التوبة، فالحديث الذي تم شرح بعضه في الدرس الماضي، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ:
((أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ, أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ, فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ, فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ))
شرحنا في الدرس الماضي:
((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ))
نتابع اليوم شرح الحديث .
فَقُلْتُ:
((إِنَّهُ حَكَّ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ, وَكُنْتَ -أي يا صفوان- امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَسْأَلُكَ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ, كَانَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا -أَوْ مُسَافِرِينَ- أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلا مِنْ جَنَابَةٍ, لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ, وَبَوْلٍ, وَنَوْمٍ))
العلماء قالوا: المسح على الخفين جائز بالسنة لا بالقرآن، لأن قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾

[سورة المائدة الآية: 6]

فأرجلكم منصوبة، والمعطوف على المنصوب منصوب مثله، هي معطوفة على :
﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾

[سورة المائدة الآية: 6]

فالمسح على الخفين جائز لا بالقرآن، ولكن بالسنّة، فالأخبار فيه مستفيضة، أي كثيرة ، حتى إنه قد قيل: إنه من أنكره كان مبتدعاً، من أنكر المسح على الخفين كان مبتدعاً، ومن رآه ثم لم يمسح آخذاً بالعزيمة كان مأجوراً، ومن أيقن به ورآه صواباً، ولم يمسح ابتغاء الأجر، واتباعاً للعزيمة كان مأجوراً، فالمسح على الخفين جائز بالسنّة من كل حدث موجب للوضوء، لا يجوز المسح على الخفين من الحدث الأكبر، بل من الحدث الأصغر، والحدث الأصغر هو الحدث الموجب للوضوء، والحدث الأكبر هو الحدث الموجب للغسل، احترازاً عما هو موجب للغسل، لأن الرخصة للحرج فيما يتكرر .
فالإنسان يتوضأ كل يوم خمس مرات، فموجبات الوضوء متتالية متكررة، فإذا كان هناك سفر, أو برد قاس، هناك صعوبات، هناك عمل شاق، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسّر علينا أمر الدين، فإذا كان مقيماً في بلده في وطنه مسح يوماً وليلة، مدة المسح على الخفين يومٌ وليلة، وإن كان مسافراً مسح ثلاثة أيام ولياليها .
متى تبدأ؟ قد يظن بعضهم: أنها تبدأ إذا توضأ، وغسل رجليه، ولبس الخفين، بدأت مدة المسح، لا من أول حدث أصغر، إن الرجلين وهي في الخفين طاهرة، ما دام لم ينقض وضوءه، تبدأ مدة المسح ليوم وليلة للمقيم ابتداءً من أول حدث أصغر، والمسح على الخفين محله على ظاهرهما لا على باطن الرجل، فلا يجوز على باطن الخف وعقبه وساقه، بل على ظاهر القدم، هكذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنّة أن يكون المسح خطوطاً بالأصابع، لو مسح براحته جاز، ويبدأ بالمسح من رؤوس أصابع الرجل إلى مد الساق، أي من أسفل إلى أعلى، ولو عكس جاز، لو فعل من الأعلى إلى الأسفل أيضاً جاز، ولكنه أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح بأصابعه على ظاهر الخف, ابتداءً من أصابع القدمين وحتى أول الساق .
وقال علماء الحديث:

((هناك أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تجيز المسح على الخفين))
بل إن بعض علماء الحديث قال:
((حدثني سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسح على الخفين))
إذاً: الأحاديث كثيرة، والأخبار كثيرة، وهو جائز بالسنة، تيسيراً على الأمة ‍‍‍.
فرض المسح على الخفين مقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد، فأربعة جاز، أما أقل شيء ثلاثة أصابع، ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير، أن تمسح على خف فيه خرق كبير, لا يجوز، مقدار هذا الخرق ثلاثة أصابع من أصغر أصابع الرجل، أصغر أصبُع من أصابع الرجل، ثلاثة أصابع منها إذا اجتمعت، هذا هو حجم الخرق الذي يبطل المسح على الخفين، وإن كان الخرق أقل من ذلك، أقل من ثلاثة أصابع من أصابع الرجل الصغيرة, جاز المسح عليها، لأن الخفاف لا تخلو عن قليل الخرق عادة، ولا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل، هذا كلام قطعي، وينقض المسح على الخفين ما ينقض الوضوء، لأنه بعضه، إذا مسح على خفيه، ثم انتقض وضوءه, فعليه أن يتوضأ ثانية، وأن يعيد المسح على الخفين، ينقض المسح على الخفين ما ينقض الوضوء، لأنه بعضه، وينقضه أيضاً نزع الخف.
لو أن إنسانًا نزع خف, انتقض مسح الخفين، لكن إذا نزع الخف يجزئه، أي يكفيه أن يغسل قدميه فقط، إذا كان متوضئاً وماسحاً على خفيه، ونزع الخف يجزئه أن يغسل القدمين فقط, إذا مضت مدة المسح على الخفين انتقض المسح .
إذاً: ينتقض المسح بانتقاض الوضوء، وينتقض المسح بنزع الخفين، وينتقض المسح بانتهاء مدة المسح، للمسافر له مدة، وللمقيم له مدة، وإذا نزع خفاً واحدة انتقض المسح، لأنه ليس في الفقه جمع بين المسح والغسل، يغسل واحدة، ويمسح الثانية, هذا غير وارد .
من ابتدأ المسح, وهو مقيم, فسافر قبل إتمام يوم وليلة, تابع المسح ثلاثة أيام ولياليها، كنت مقيماً، وتوضأت، ومسحت على الخف، ثم سافرت قبل انقضاء يوم وليلة, تستطيع أن تتابع المسح ثلاثة أيام بلياليها، ومن كان مسافراً، وعاد إلى بلده قبل انقضاء ثلاثة أيام ولياليها, لزمه أن ينزع الخف، وأن يغسل قدميه، ومن كان مسافراً, فعاد إلى بلد إقامته قبل انقضاء يوم وليلة، يتابع المسح على الخفين يوم وليلة، هذه أحكام فرعية .
ومن لبس الجرموق، هذا مصّب، لدينا خفين من جلد, يُلبسان بحذاء غليظ, اسمه في الفقه: الجرموق، فيجوز المسح على الجرموق، والجمع جراميق، كعصفور وعصافير، إذا لبست الخف في الجرموق على طهارة، يجوز أن تمسح على الجرموق أيضاً إذا كنت مسافراً ، وأردت أن تصلي فيه، والجرموق الذي يجوز المسح عليه, هو الذي إذا انفردت به, جاز المسح عليه، لو لم تلبسه مع الخفين إذا جاز أن تنفرد به، جاز المسح عليه .
الآن موضوع الجوربين، هذا موضوع مهم جداً، قال العلماء: لا يجوز المسح على الجوربين الرقيقين، رقيقين كانا أو ثخينين عند أبي حنيفة، عند هذا الإمام الكبير لا يجوز المسح على الجوربين, إلا أن يكونا مجلدين, فيهما جلد، أي جعل الجلد على ما يستر القدم منهما إلى الكعب، أو منعّلين من أسفل، مجلدين من أعلى، أو منعّلين من أسفل, أما أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رضي الله عنه ومحمد, هذان التلميذان الكبيران أجازا المسح على الجوربين سواء أكانا مجلدين أو منعلين أم لا، إذا كانا جوربين ثخينين لا رقيقين, حيث يستمسكان على الرجل من غير شد، ولا يجفان الماء، لو مسحت على الجوربين, لن ينتقل الماء إلى ظاهر القدم .
الإمام أبو حنيفة قيل: إنه في آخر حياته, رجع إلى قول تلميذيه محمد وأبو يوسف، المحصلة: لو مسح على الجوربين, فإن كانا ثخينين منعلين, جاز هذا باتفاق العلماء، وإن لم يكونا مثخنين منعلين, بل كانا رقيقين, لم يجز هذا باتفاق، فالجوربان الرقيقان, لم يجز المسح عليهما باتفاق، والجوربان المنعلان المجلدان, يجوز المسح عليهما باتفاق، أما إذا كانا ثخينين غير منعلين, لا يجوز المسح عليهما عند أبي حنيفة خلافاً لتلميذيه، وروي أن الإمام رجع إلى قولهما في المرض الذي مات فيه .
هذه أحكام الفقه المتعلقة بالمسح على الخفين، وهذا الشرح متعلق بالضرورة بالفقرة الثانية من الحديث, الذي نحن بصدد شرحه في هذا الدرس .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ, وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

إذا كان هناك مشقة، إذا كان هناك صعوبة، كان هناك عمل شاق، كان هناك سفر، كان هناك إرهاق في خلع النعلين، إنسان كان في الخدمة الإلزامية والحذاء ثخين، والوقت قليل جداً، والاجتماع بعد خمس دقائق، وعليه أن يصلي الظهر مثلاً، في مثل هذه الظروف, يأتي الدين اليسير, فيدور مع هذه الظروف الصعبة, كيفما دارت .
هذا الكلام مجمل لرأي الإمام أبي حنيفة وتلميذيه حول المسح على الخفين، ولا تنسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه))

الآن إلى الموضوع الثاني: وهو متابعة الحديث عن تابعي جليل أبي حازم، وكيف كان يلتقي بطلاب العلم، وكيف يغنيهم بحكمه التي تأخذ بالألباب؟ .
قالوا:

((وقد كان منزل سلمة بن دينار مورداً عذباً لطلاب العلم، ورغّاب الصلاح، لا فرق في ذلك بين أخوانه وطلابه، فقد دخل عليه ذات مرة عبد الرحمن بن جرير، ومعه ابنه، وأخذا مجلسيهما عنده، وسلما عليه، ودعََا له بخيري الدنيا والآخرة، فردّ التحية بأحسن منها، ورحب بهما، ثم دار بينهم الحديث .
فقال له عبد الرحمن بن جرير: كيف نحظى بالفتوح يا أبا حازم؟

-كيف يفتح الله على قلب المؤمنين؟ كيف يقذف الله نوره في قلب المؤمن؟ كيف يصلي المؤمن فتفيض دموعه؟ كيف يصلي فيحس بالقرب من الله عز وجل؟ كيف يتجلى الله على قلبه؟ كيف تنفتح بصيرته؟ كيف يرى مالا يراه الآخرون؟ كيف يسمع مالا يسمع الآخرون؟ كيف تسمو نفسه؟ كل هذه المرادفات هي تعبير بشكل أو بآخر عن الفتوح، والعوام يقولون: الله يفتح عليك فتوح العارفين ، هذا الفتح، هذه الصلة التي تنعقد مع الله عز وجل، هذا السمو الأخلاقي، هذه النفس الوديعة التي رأت الحق، وعرفت أهل الحق، فلزمت الحق، وكانت على الحق، وابتغيت الحق .
سؤال دقيق جداً: كيف نحظى بالفتوح يا أبا حازم؟ كل منا يصلي، كل منا يصوم، وقد نحج مرات عديدة، وقد نفعل كل شيء، ولكن الذي نطلبه أن يكون هذا القلب مهبط لتجليات الله، كيف الفتوح يا أبا حازم؟- .
فقال: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر, -قال تعالى:

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾

[سورة الشعراء الآية: 88-89]

إذا كانت النفس طاهرة من الداخل، تجلى الله على هذا القلب الطاهر، فإن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً، تستطيع أن تخدع الناس جميعاً، ولكنك لن تستطيع أن تخدع نفسك لحظة، إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً، إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي، هكذا قال الله تعالى في الحديث القدسي، ولا يصلحه إلا السخاء، وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه، عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام, أنعم الله عليه بالفتوح، اتقِ المحارم تكن أعبد الناس، اتقي الذي تعلمه أنه محارم، وانظر كيف أن قلبك يشرق بالمعرفة .
جاء في بعض الآثار:

((من أخلص لله أربعين صباحاً, تفجرت ينابيع الحكمة في قلبه، وأجراها الله على لسانه))
ولا تنس يا عبد الرحمن أن يسير الدنيا يشغلنا عن كثير الآخرة، -هذه الآخرة التي لا تنقضي، هذه الحياة الأبدية، تخيل كيس من الطحين، كل ذرة من هذا الكيس تعدل مليون سنة، فهذا الكيس كم سنة؟ إذا وضعت أصبعك على طرف الطحين, كم ذرة تعلق على إصبعك؟ إن كانت كل ذرة تعدل مليون مَليون ملْيون مَليون سنة, فما هو الأبد؟ ما معنى:

﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾

[سورة النساء الآية: 57]

أكبر رقم إذا وضع صورة على مخرج لا نهاية, فهذا الرقم يساوي صفرًا، لو عاش الإنسان مئة ألف عام، مليون مَليون مليون عام، إذا قيست هذا الأعوام الطويلة إلى الآخرة الأبدية فيه, فلا شيء, لذلك:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾

[سورة التوبة الآية: 38]

قال: كل نعمة لا تقربك من الله عز وجل فهي نقمة، -الزوجة نعمة كبرى، الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة، فإذا ساهمت الزوجة في إبعادك عن الله عز وجل, فهي نقمة، إما أن تكون الزوجة نعمة، وإما أن تكون نقمة، كل شيء قربك إلى الله نعمة، المصيبة إذا قربتك إلى الله فهي نعمة، والنعم الظاهرة إذا حجبتك عن المنعم, فهي نقمة، المال إذا قربك إلى الله, فهو نعمة، وإذا أبعدك عنه, فهو نقمة، الفقر إذا قربك إلى الله, فهو نعمة، فإذا أبعدك عنه, فهو نقمة، التجارة, الأعمال, الأهل, الأولاد، أي نشاط تقوم به، أي عمل تعمله، إذا ساهم هذا العمل في تقريبك من الله, فهو نعمة، وإذا ساهم في إبعادك عنه, فهو نقمة- .
فقال ابن عبد الرحمن: يا أبا حازم, إن أشياخنا كثيرون, فبمن نقتدي منهم؟ .
قال: يا بني, اقتدِ بمن يخاف الله في ظهر الغيب، ويعف عن التلبس بالعيب، -من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيء من عمله، وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط- ويصلح نفسه في أوانِ الصبا، ولا يرجئ ذلك إلى عهد الشيب، يا بني, ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ويقبل على طالب العلم هواه وعلمه, فيتغالبان في صدره، تغالب المتخاصمين، فإذا غلب علمه هواه, كان يومه يوم غلبته، وإذا غلب هواه علمه, كان يومه يوم خسرانه، -تصارعت نفسه، هل أحضر هذا المجلس أم لا أحضره؟ فإذا غلب هواه, وآثر أن يمضي هذه السهرة مع رفاقه, فقد غلب، وكان هذا اليوم خسارة له، فإذا غلبه علمه, وآثر حضوراً في مجالس العلم على متع الحياة المباحة، غلب نفسه, فكان هذا اليوم يوم غلبة له، لا زلنا مع أقوال أبي حازم لعبد الرحمن بن جرير، ومع ابنه فقال له عبد الرحمن بن جرير: كثيراً ما حضضتنا على الشكر يا أبا حازم، فما حقيقة الشكر؟ .
فقال: لكل عضو من أعضائنا حق من الشكر .
فقال عبد الرحمن: ما شكر العينين؟ .
قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شرا كتمته، -صفات المؤمن أنه ستار العيوب، من تتبع عورة المسلمين, فضحه الله في عقل داره .
قالت له:

((يا أبا أمية, إني امرأة غريبة، ولا أعرف ما تحب وما تكره، فقل لي: ما تحب حتى آتيه، وما تكره حتى أجتنبه، فقال: أما بعد, فقد قلتِ كلاماً: إن تصدقي فيه, وتثبتي عليه, يكن لك ذخراً وأجراً، وإن تدعيه, يكن حجة عليك، أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما وجدت من حسنة فانشريها، وما وجدت من سيئة فاستريها))
لذلك من صفات المرأة الصالحة أنها سِتِيِرة، والمرأة السيئة تفضح زوجها، تتحدث عن دقائق العلاقة بينه وبينها، تتحدث عن شؤون تخص هذا البيت وحده .
قال عليه الصلاة والسلام:
((إني لأكره المرأة, تخرج من بيتها, تشتكي على زوجها))
عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ))
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((أَيُّمَا امْرَأَةٍ, اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]
فقال عبد الرحمن: فما شكر الأذنين؟ .
قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفنته، -لذلك النمام لا يدخل الجنة، المغتاب لا يدخل الجنة، المفتري لا يدخل الجنة، هؤلاء جميعاً يفرقون بين الأحبة .
قال عليه الصلاة والسلام:
((ليس منا من فرق))
قامة ممدودة، بصراً حاد، أذنان مرهفتان، أسنانه كلها في فمه، جسده ذو عزيمة، قيل له: يا سيدي, ما هذه الصحة التي متعك الله بها؟ قال يا بني: حفظناها في الصغر, فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً .
ألا تحبون جميعاً أن تتمتعوا بصحتكم، وسمعتكم، ومكانتكم؟ احفظوا الله يحفظكم، ثمن الحفظ معروف، حفظناها في الصغر, فحفظها الله علينا في الكبر، احفظ الله يحفظك، ومن أراد أن يتمتع بعقله ولا يخرف, فليتعلم القرآن .
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ وَحَفِظَهُ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]

ولا يفوتك يا عبد الرحمن -القول لأبي حازم-: أن من يقصر شكره على لسانه، ولا يشرك معه جميع أعضائه وجنانه, فمثله كمثل رجل له كساء، لولا أنه أخذ بطرفه ولم يلبسه، -كساء فاره, غالي الثمن، ضخم ممتاز، أمسك الرجل بطرف الكساء، ولم يرتد هذا الكساء- هذا الكساء لا يقيه الحر، ولا يقيه القر، فمن اكتفى بشكر اللسان، ولم ينتقل هذا الشكر إلى الأعضاء والجوارح والجَنان, لم يستفد من هذا الشكر))

يروى أنه في ذات سنة, نفر سلمة بن دينار مع جيوش المسلمين المتجهة إلى بلاد الروم, يبتغون الجهاد في سبيل الله مع المجاهدين، فلما بلغ الجيش آخر مرحلة من مراحل السفر, آثر الراحة والاستجمام قبل لقاء العدو في خوض المعارك، وقد كان في الجيش أمير من أمراء بني أمية، فأرسل رسولاً إلى أبي حازم يقول له:
((إن الأمير يدعوك إليه لتحدثه وتفقهه .
فكتب إلى الأمير يقول: أيها الأمير, لقد أدركت أهل العلم، وهم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا، العلم يؤتى ولا يأتي .

-والقصة الشهيرة لهارون الرشيد حينما قدم المدينة، وسأل عن بعض علمائها، وهو الإمام مالك، فقال الإمام مالك:
((أبلغ الأمير, أن العلم يؤتى ولا يأتي، فقال هارون الرشيد: صدق, نحن نأتيه .
فلما أتاه, قال الإمام مالك: قولوا للأمير: أن لا يتخطى الرقاب, فقال: صدق، فجلس حيث انتهى به المجلس، لكن حاشيته وضعوا له كرسياً، فقال الإمام مالك: من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه، فقال الخليفة: خذوا عني هذا الكرسي, فجلس حيث انتهى به المجلس مع عامة المستمعين))

فقال: أيها الأمير, لقد أدركت أهل العلم, وهم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا، ولا أحسبك تريدني أن أكون أول من يفعل ذلك، فإن كانت لك بنا حاجة فأتنا، والسلام عليك، وعلى من معك، فلما قرأ الأمير الرسالة, مضى إليه وحياه وبياه، معنى بياه؛ دعا له بالرفعة، وقال: يا أبا حازم، لقد وقفنا على ما كتبته لنا، فازددت به كرامةً عندنا، وعزةً لدينا، فذكرنا وعظنا, جزيت عنا خير الجزاء .
فقال أبو حازم: انظر ما تحب أن يكون معك في الآخرة, فاحرص عليه في الدنيا، وما تكره أن يكون معك في الآخرة, تزهد فيه في الدنيا، واعلم أيها الأمير, أنه إن نفق الباطل عندك، أقبل عليك المبطلون المنافقون، والتفوا حولك، وإن نفق عندك الحق, التف حولك أهل الخير، وأعانوك عليه, واختر أيها الأمير باسمك ما يحلو .
-لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز، اختار أحد كبار العلماء مستشاراً له، وقال له:
((كن معي دائماً، وانظر في أحكامي، فإن رأيتني ضللت, فأمسكني من ثيابي، وهزني هزاً عنيفاً، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت))
ولما أقبل الموت على أبي حازم قال له أصحابه: كيف أنت يا أبا حازم؟ قال: لأن نجونا من شر ما أصبناه من الدنيا فما يضرنا ما زوي عنا منها)) الإنسان في الدنيا يحصّل ما يحصّل، ويزوى عنه ما يزوى، فإن نجا منها ما ضره ما زوي عنه، لذلك الدعاء الشريف:
((اللهم ما رزقتني مما أحب, فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويتَ عني ما أحب، فاجعله فراغاً لي فيما تحب))

كنت قد وعدتكم في درس سابق, أن نتابع الحديث من إحياء علوم الدين حول آفات اللسان، ووصلنا إلى الشعر والغناء، وقد أرجئت الغناء إلى درس قادم، وها أنا ذا أفي بوعدي.
وصل الإمام ابن الجوزي آراء أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، فجميعاً قالوا: بتحريم الغناء المقرون بالمعازف، والخالي منه إذا وصف النساء والخمور .
بادئ ذي بدء, لو أن المرأة أذنت لكان أذانها حرامًا، لأن صوتها عورة، فكيف إذا غنت؟ أما إذا غنى الرجل، ووصف النساء والخمور, فغناؤه حرام، بمعازف أم بغير معازف، لم يبق من المباح إلا أن ينفذ الرجل في مديح النبي عليه الصلاة والسلام، وفي ذكر الله عز وجل، وفي التشوق إلى الأماكن المقدسة، وفي حداء القوافل، ورد بعض الآفات في هذا .
ففي الحديث عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِي اللَّه عَنْه يَقُولُ:

((كَانَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَقُولُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا، فَأَجَابَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخرة فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَة


[أخرجه البخاري في الصحيح]

عَنِ الْبَرَاءِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ:
((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَحْزَابِ, يَنْقُلُ التُّرَابَ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ, وَهُو يَقُولُ:
لَوْلا أَنْـتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سـَكِينَةً علَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَي ْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَـا


[أخرجه البخاري في الصحيح]
في أعمال شاقة، في غزوات مع الكفار، في رحلة طويلة، فإذا كان هناك صوت حسن, يصف عظمة الخالق، أو يصف الشوق إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فكل ما كان تعريفاً بالله، وذكراً له، ومديحاً للنبي الكريم، كل إنشاد لم يُخرِج عن حدّ الاعتدال، وإذا كان النغم راقصاً، وتناوم المستمعون وطربوا، ففيه شبهة، وفيه انحراف عن الطريق المعتدل الذي سمح الشرع به .
ذات مرة دميت إصبع النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الغزوات، فعَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ، وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ, فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ


[أخرجه البخاري في الصحيح]
ما أجمل الأدب إذا احتوى الحق، إذا عبر عن الحق، صدق القائل:
لَوْلا أَنـْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَـكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَي ْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَـا

فنحن حديثنا في موضوع, أن المرأة إذا غنت فصوتها عورة، وأن الرجل إذا غنى, فوصف النساء والخمور، فالمضمون عورة، وأي غناء اقترن بالمعازف, فهذا أيضاً بنص الشرع محرم، لم يبق إلا الذي سمح لنا به الشرع، وهو الذي لا يخرج عن حد الاعتدال .
يروى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قيل له:
((يا أبا عبد الله, هذه القصائد الرقاق التي فيها ذكر الجنة والنار، ما تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ فقال: يقولون:
إذا ما قال لي ربــي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتينــي
فقال أحمد بن حنبل: أعِد أعِدْ علي, فأعدت عليه، فقام ودخل بيته، وردّ الباب، فسمعت نحيبه من داخل البيت، وهو يقول:
إذا ما قال لي ربـــي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتينــي
ربما كان الكلام موزونًا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

ربما كان الكلام الموزون، والصوت الحسن، يفعل في النفس فعل السحر، إذا كان المضمون مضموناً, يدل على الله عز وجل، أو يؤدي إلى الله عز وجل، فجمهور أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى، كما قال الإمام بن الجوزي: كلهم قاموا بتحريم الغناء المقرون بالمعازف، أو الخالي عنه، ولكنه يصف النساء والخمور، هذا إذا كان المغني رجلاً، أما إذا كانت امرأة, لتقل ما شاءت، ولو أنها أذّنت, فصوتها عورة, هذا حكم الأئمة الأربعة .

أما الأدلة: فقد استدل أصحابنا بالقرآن والسنّة، فأما في استدلال القرآن فبثلاث آيات، الآية الأولى: قول الله عز وجل:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾

[سورة لقمان الآية: 6]

قال ابن مسعود:
((هو الغناء))
وعن إسماعيل بن سعيد بن يسار قال: سألت عكرمة عن لهو الحديث, فقال:
((هو الغناء))
وقال الحسن, وسعيد بن جبير, وقتادة, وإبراهيم النخعي: مثل قول هؤلاء, قال تعالى:

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾

[سورة لقمان الآية: 6]
فلهو الحديث هو الغناء .
والآية الثانية:

﴿وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾

[سورة النجم الآية: 61]

عن عكرمة، عن ابن عباس, أنه قال:
((وأنتم سامدون: وأنتم تغنون))
قال تعالى:

﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾

[سورة النجم الآية: 59-61]
سامدون أي تغنون، وقال مجاهد عن هذه الآية:
((هو الغناء بلغة أهل اليمن))
وأما الآية الثالثة، فقول الله:

﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ﴾

[سورة الإسراء الآية: 64]

عن سفيان الثوري، عن ليث, عن مجاهد، قالوا:
((هو الغناء والمزامير))
هذه الآيات الثلاثة التي تحرم الغناء .
وأما السنّة: فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
((أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيم، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِ؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لا, وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ, خَمْشِ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ، وَفِي الْحَدِيثِ كَلامٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا))

[أخرجه الترمذي في سننه]

نهيت عن صوتين: أي عن الغناء، وعن النحيب بصوت مرتفع، هذان من الشيطان، هذا حديث صحيح .
كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إذا سافروا, قرؤوا سورة يس، وجعلوها تحديداً لمراحل السفر .
وسأل رجل القاسم بن محمد عن الغناء, فقال: أنهاك عنه، وأكرهه لك، فقال: أحرام هو؟ قال: انظر يا بن أخي, إذا ميّز الله الحق من الباطل, ففي أيهما يجعل الغناء: مع الحق أم مع الباطل؟ قبل أن تغني أنت قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، يا رب أعني على هذا الغناء .
عمر بن عبد العزيز قال لمؤدب ولده:

((ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدأها الشيطان، وعاقب عليها الرحمن، فقد بلغني من الثقاة من حملة العلم, أن حضور المعازف, واستماع الأغاني, واللهَجَ بها, ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب))
وقال الفضيل بن عياض:
((الغناء رقية الزنا))
وقال الضحّاك:
((الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب))
وقال يزيد بن الوليد:
((يا بني أمية, إياكم والغناء، فإنه يزيد الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لا يذوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السُكُر، وقد ذكرت الأصوات بالغناء من عامل وزاهد))

أيها الأخوة, هذه الأدلة من القرآن, والسنّة، وقول السلف الصالح, يكفي للتأكيد على أن أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله تعالى، وقد قالوا: إن اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، اتفقوا جميعاً على أن الغناء المقرون بالمعازف حرام، وأن الغناء الخالي من المعازف, إذا وصف النساء والخمور حرام أيضاً، أما صوت المرأة فعورة ولو أذّنت، ولو قالت: لا إله إلا الله, فهذا حكم الأئمة الأربعة في الغناء .
أما الأشعار التي لا تُخِرج عن حد الاعتدال في وصف النبي وصحابته، في وصف الكعبة وشرفها، في وصف المقام التي تحض على الجهاد في سبيل الله، هذه الأشعار إن لم تخرج عن حد الاعتدال, فلا بأس بها، كما سمعتم من خبر الإمام أحمد بن حنبل حينما سمِعَ:

إذا ما قال لي ربــي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتينــي

آخر كلمة: إن الذي يقرأ القرآن, يلقي الله في قلبه من الطرب، ومن السرور، ومن الوجد، ومن الغبطة، ومن الفرح, ما لو اجتمع ذواقو الغناء في العالم, لا يستمتعون بما يحبون من غناء, كما يستمتع قارئ القرآن في القرآن, لذلك قالوا: القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى قبله، فعليكم بتلاوة القرآن، وليس منا من لم يتغن بالقرآن .
سمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يتغنى, فقال:
((ويحك! أبغير كتاب الله تتغنى؟))
هذا الذي يستعذب الغناء، ويستعذب القرآن في أحدهما, هو منافق، وأغلب الظن أنه منافق في استعذاب القرآن، لأن الغناء ينبت النفاق، ولا يجتمع في جوف المؤمن غناء, ولا قرآن، هذا طاهر, هذا كلام رب العالمين، وهذا فيه مفاسد، هذا بعض ما ورد في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى .





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 05-09-2018, 11:40 AM   #6



الصورة الرمزية آفراح
آفراح متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 20
 تاريخ التسجيل :  Sep 2012
 أخر زيارة : اليوم (07:17 AM)
 المشاركات : 15,169 [ + ]
 التقييم :  1818
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



بورك فيك وجوزيت كل خير
تحية


 
 توقيع : آفراح


كلمة شكر لا تفي حقك على الاهداء مصممتنا المبدعة سوالف احساس على الرمزية والتوقيع


رد مع اقتباس
قديم 05-09-2018, 04:11 PM   #7


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف رياض الصالحين



تسلمين اختى افراح


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الحديث, الصالحين, الشريف, رياض, شرح


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 1 )
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
علم الحديث الشريف السعيد ريآض الآحاديث النبوية 6 11-11-2018 08:29 AM
شرح الحديث الشريف السعيد ريآض الآحاديث النبوية 25 11-05-2018 10:37 AM
الحديث الشريف فى بر الوالدين وصلة الارحام السعيد ريآض الآحاديث النبوية 3 05-09-2018 11:39 AM
كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين الأخ تامر مسعد رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 11-23-2016 09:43 PM
مضمار الصالحين منال نور الهدى رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 6 09-08-2013 01:12 PM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 11:02 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.