سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة

رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة (السيرة النبوية الكاملة ، سيرة سيدنا محمد عليه آفضل الصلاة والسلام)

الإهداءات

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 07-23-2018, 08:31 AM   #11


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الحادى العاشر )

الموضوع : زيارته لضعفاء المسلمين عامة ولأهل الصفة خاصة









الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الحادي عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وصلنا إلى زياراته صلى الله عليه وسلَّم لضعفاء المسلمين عامةً، ولأهل الصُفَّةِ خاصَّةً، أُذكِّركم بآيةٍ كريمة، وهي قوله تعالى:

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾
( سورة الكهف: من آية " 28 " )
إلى مَن ؟ إلى الكبراء، الأقوياء، الأغنياء..
﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
( سورة الكهف: من آية " 28 " )
معنى ذلك أن الإنسان إذا أحبَّ أن يجلس مع الأقوياء، مع الأغنياء، مع الكبراء هذا من زينة الحياة الدنيا ؛ أما إذا جلس مع الفقراء، مع المساكين، مع الضِعاف، مع البُسطاء، جلس بينهم، أحسن إليهم، استمع إلى شكواهُم، وجَّههم فهذا من العمل الصالح، فالجلوس مع الفقراء، والمساكين، والمتواضعين قربةٌ إلى الله ؛ والجلوس مع الأقوياء، والأغنياء، والكبراء، حظُّ نفسٍ..
﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
لذلك فإن الإنسان يرقى عند الله إذا زار أخاه الفقير، إذا زار أخاه المسكين، إذا دُعي إلى طعامٍ في مكانٍ بعيد، والطعام خشنٌ متواضع، هذا من العمل الصالح، هذا من العمل الذي ترقى به عند الله ؛ أما إذا دُعيت إلى وليمةً فاخرة عند أناسٍ أقوياء، أو كبراء هذا من الدنيا، هنا دنيا، وهناك آخرة..
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
لهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهمَّ احشرني مع المساكين))
فكأن المساكين المقصود بهم المفتقرون إلى الله عزَّ وجل، أما الذين ضيَّعوا الآخرة والدنيا معاً فأولئك فقراء اليهود، لا دين ولا دنيا، أقصد بالمسكين: الفقير المؤمن، المؤمن المحب لله عزَّ وجل، فماذا يعنينا من هذا الكلام ؟ أي إذا كان لك أخت، وزوجها فقير، تسكن في حي المخيَّم ـ مثلاً ـ ولك أخت ثانية تسكن في حي المالكي، أنت كل يوم عند الأخت الثانية، ابنها مريض، أو زوجها مسافر فأنت عندها، لمَ كل هذا الاهتمام ؟ والتي في المخيم يتركها شهراً، اثنين، ثلاثة، أربعة، و قد ينساها نهائياً، هذا التصرف من الدنيا.
فالشيء الذي يلفت النظر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور ضعفاء المسلمين، ويلاطفهم، ويؤانسهم، ويجلس معهم، ويعود مرضاهم، ويحضر جنائزهم وفي هذا تكريمٌ لهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
((أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَالُوا مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَفَلَا آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قَالَ فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِا ))
(متفق عليه)
امرأةٌ فقيرةٌ جداً كانت تقُمُّ المسجد ـ تكنس المسجد ـ ولا أعتقد في الدرجات الاجتماعية عمل أقل شأناً من هذا العمل، امرأةٌ فقيرةٌ جداً تقم المسجد توفيت، أصحاب النبي عليهم رضوان الله رأوا أن النبي عليه الصلاة والسلام أعظم وأجل من أن يُبلَّغ خبر موتها، فلم يبلِّغوه، فلما تفقَّد حالها بعد أيام قالوا: " ماتت "، قال:
((أَفَلَا آذَنْتُمُونِي ؟))
يا رسول الله ما شأنك بها ؟ امرأة فقيرة تقم المسجد وماتت، لماذا نعلمك ؟ " فغضب عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى قبرها، واستغفر لها، وقرأ القرآن على قبرها، هكذا علَّمنا النبي.
الأنبياء شيء، والطغاة شيءٌ آخر، الأنبياء شيء، والملوك شيء آخر.
فعندما تزور الفقير، تكرمه، تواسيه، تستمع إليه، تؤنسه، ترفع من قيمته، معنى هذا أنك من أهل الآخرة، وضعت مقاييس الدنيا تحت قدمك، وكرَّمت في الفقير إيمانه، وكرَّمت في الفقير استقامته، و كرَّمت في الفقير محبَّته لله عزَّ وجل، فأن تزوره، وأن تهتم به، وأن تعطف عليه، وأن تحترمه، وأن تثني عليه، وأن تؤانسَهُ هذا تكريمٌ لإيمانه، معنى ذلك أن قيَم الدنيا تحت قدمك، وقيَم الآخرة ملء سمعك وبصرك.
فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يأتي ضعفاء المسلمين، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم))
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: " جلست في عصابةٍ ـ عصابة أي جماعة، لكن هذه الكلمة لها معنى هامشي حديث، عصابة قُطَّاع طُرُق، عصابة لصوص، أما العصابة في أصل اللغة تعني الجماعة، لا شيء عليها عند الاستعمال ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض))
( من كنز العمال )
أي إن تهلك هذه الجماعة فلن تعبد بعد اليوم، الكلمة تأخذ معاني بحسب العصور، ما قولكم أن أحد الشعراء مدح خليفةً عظيماً هو المعتصم، وصفه بأنه جرثومة فقال له:
أنت جرثومة الدين والإسلام والحسبِ.
* * *

الجرثومة أصل الشيء، وحينما رأينا أمراضاً كثيرة، ثم عرفنا أصلها، كائنات صغيرة مجهريَّة، فسمينا هذه الأصول جراثيم، أما إذا قلت لإنسان الآن: أنت جرثومة الصف ـ لطالب ـ أو أنت جرثومة العائلة. معنى ذلك أنه شيء مهين جداً، فالكلمات تأخذ معاني عبر التاريخ، فكلمة عصابة قديماً لا تعني إلا الجماعة ـ مطلق الجماعة ـ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
((كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ إِنَّ بَعْضَنَا لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنْ الْعُرْيِ ـ فقر شديد ـ وَقَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَنَحْنُ نَسْمَعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ وَقَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدَ فِينَا لِيَعُدَّ نَفْسَهُ مَعَهُمْ فَكَفَّ الْقَارِئُ فَقَالَ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَحَلَّقَ بِهَا يُومِئُ إِلَيْهِمْ أَنْ تَحَلَّقُوا فَاسْتَدَارَتْ الْحَلْقَةُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي قَالَ فَقَالَ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الصَّعَالِيكِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُ مِائَةِ عَامٍ))
(أبو داود، وأحمد)
ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
( سورة الكهف: من آية " 28 " )
قال: ((... الحمد لله الذي جعل في أمتي من أصبر نفسي معهم))
أي أن هذا الإنسان أتاح لك أن تطيع الله عزَّ وجل.
إخواننا الكرام... هل تصدِّقوني أنك إذا ساعدت إنساناً وقَبِلَ هذه المساعدة، أنه تفضَّل عليك ؟ لأنك لو أردت أن تعمل صالحاً ولم يقبل أحدٌ أن يأخذ منك شيئاً، فقد منعك من المعروف، لذلك الصالحون، الأتقياء، المؤمنون يرون أن الذي يقبل منهم تفضَّل عليهم، أي سمح لهم أن يرقوا عند الله.
فقد كان الإنسان في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز يمشي مسافات شاسعة ولا يجد رجلاً يأخذ زكاة ماله، سيدنا عمر ضاق ذرعاً، إذْ لم يجد أحداً في عهده من يأخذ زكاة الأموال، فأعطى أمراً أن توزَّع الزكاة على الغارمين، الغارمون انتهوا، أعطى أمراً أن يزوَّج الشباب من بيت مال المسلمين ـ من أموال الزكاة ـ طبعاً لو طبقنا الإسلام لكنا في حال آخر غير هذا الحال، قال:
((... الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم. قال: فجلس عليه الصلاة والسلام وسطنا، ليعدل نفسه فينا...))
أي جلس في الوسط، والإنسان أحياناً إذا ذهب مع إخوانه فهو للجميع لا لواحدٍ أو لِاثنين، الأكمل أن تكون مع الجميع. أحياناً بجلسة تجد اثنين أو ثلاثة يتكلَّمون ـ فهو مهمين ـ بمعزل عن البقية، هذا مجلس لا يرضي الله عزَّ وجل، المجلس الذي يرضي الله عزَّ وجل هو الذي يتكلَّم فيه واحد ويستمع الباقون، أما بعض الأقطاب مع بعضهم يتحادثون والباقون في معزل !! هذا ليس من آداب الإسلام في شيء.
((... ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده هكذا ـ أي أشار إليهم ـ فتحلَّقوا حوله، وبرزت وجوههم له، فقال: أبشروا يا فقراء بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بخمسين سنة ))
فالفقر لا يقدح في قيمة الإنسان أبداً، الذي يقدح في قيمة الإنسان أن يعصي الله عزَّ وجل، والمجتمع الذي يقيِّم الناس بحجم أموالهم هذا مجتمعٌ فاسد، وهذا مجتمعٌ هالك، ينبغي أن يُقيَّم الإنسان بعلمه وبعمله، وأي مجتمعٍ يقيِّم الإنسان بماله فهو مجتمعٌ مادي في طريقه إلى الهلاك.
وكانت صُفّةُ المسجد النبوي ـ إذا أحدكم زار مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، خلف القبر الشريف في مكان مرتفع كالجامع الأموي، ترى منصَّة خلف المحراب، يجلس عليها كبار المدعوِّين، مثل هذه المنصَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يجلس بها في عهده فقراء المسلمين، اسمهم أهل الصُفَّة، يجلسون في هذا المكان ـ وكانت الصفة في المسجد النبوي مدرسةً للقُرَّاء، يأوي إليها فقراء الصحابة ممن لا أهل لهم، فيتدارسون القرآن، ويتعلَّمون أمور الدين وأحكامه، ثم يذهبون إلى نواحي البلاد ومختلف الآفاق كي يعلِّموا الناس.
و بعد فإلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام:
تفقُّده صلى الله عليه وسلَّم أصحابه في الليل واستماعه إلى قراءاتهم
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾
( سورة المزمل: من آية " 20 " )
روى الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ إِذَا لَقِيَ الْخَيْلَ أَوْ قَالَ الْعَدُوَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ))
أي أنه إذا مرَّ أمام بيت أحد، فمن صلاته بالليل، و من جهره بالقراءة، يعرف من هو، كان عليه الصلاة والسلام لا يعرف أين منازلهم في النهار، أما إذا مرَّ في أسواق المدينة، أو مر في أَزِقَّة المدينة، واستمع إلى قراءات أصحابه في الليل عرف من هم من قراءاتهم.
وروى أبو داود والترمذي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ قَالَ وَمَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ قَالَ فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ قَالَ قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَقَالَ لِعُمَرَ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ قَالَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ زَادَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا وَقَالَ لِعُمَرَ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا))
أي أنت ارفع قليلاً، وأنت اخفض قليلاً.
وفي روايةٍ لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ لَمْ يَذْكُرْ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ:
((ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا وَلِعُمَرَ اخْفِضْ شَيْئًا زَادَ وَقَدْ سَمِعْتُكَ يَا بِلَالُ وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ كَلَامٌ طَيِّبٌ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّكُمْ قَدْ أَصَابَ))
هكذا كان أصحابه رهباناً في الليل فرساناً في النهار.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
((اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ))
( رواه أبو داود )
أحياناً يكون مجلس علم في المسجد فيدخل أخ يصلي، يقتدي به بعض الإخوان فيرفع صوته: الله أكبر، نحن في مجلس علم، فاقرأ بصوت خفيض، أسمع من حولك فقط، أسمع الذين وراءك، أما بأعلى صوت و يجهر على مجلس علم، و يشوَّش على الحاضرين سماعهم للدرس، وهو يقرأ ويرفع صوته بلا مبرِّر، فليس هذا من الذوق في شيء، فقال عليه الصلاة والسلام:((أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ))
هكذا شأن المؤمن عنده حساسية، أحياناً يصلي مع الجماعة، هو شافعي فيرفع صوته بالقراءة: الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين اهدنا الصراط المستقيم... يعمل موجات في أثناء الصلاة، ألا فليخفض صوته، وليعلم أنّ قراءة الإمام قراءةٌ للمؤتَم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا قَالَ رَجُلٌ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ قَالَ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ))
(الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد)
الأكمل ألاّ تشوش على أحدٍ صلاته، أو عبادته، أو تلاوته.
الآن إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم:
ملاطفته صلى الله عليه وسلَّم لجفاةالأعراب لئلا يفتتنوا
فالناس أجناس، والناس درجات، والناس معادن، هناك أشخاص عندهم غلظة، عندهم فظاظة، عندهم شدَّة، عندهم قسوة، فكيف عامل النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء ؟ كان عليه الصلاة والسلام يتحمَّل جفوة الأعرابي ويلاطفه، فعَن الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ بَدَا جَفَا))
( مسند أحمد )
الإنسان قد يعيش في الريف، ليس له مجلس علم، ليس له مَنْ يهذِّبه، و لا مَنْ يوجِّهه، لا يحضر مجلس علم، لا يصغي إلى خطيب، لا يقرأ، لا يهتم بفهم و لا بعلم، يعيش بأعماله، هذا إذا أراد أن يحتكَّ بالناس ربّما كان فظّاً، ولذلك فالعلم يهذِّب.
فكان عليه الصلاة والسلام يتحمل جفوة الأعرابي، ويلاطفه، ويقابل غلظته بلطيف المقال والحال، وذلك لتثبيته أو من أجل ألاّ يُفتن، ويسلك به مسالك الرحمة، واللين، والتؤدة لئلا ينفر ويشرُد.
فسيد الخلق، زعيم أمة، قائد أمة، نبي، رسول، يمسكه أعرابي من ثوبه ويشده إلى أن يؤثِّر في صفحة عنقه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ))
(متفق عليه)
التعليم لنا، فصاحب الحاجة أرعن، صاحب الحاجة أعمى ـ أنت موظَّف مرتاح، مكتب فخم، مدير مكتب، موظَّفين، أُذَّان، أجراس، هواتف، الغرفة مكيَّفة، أنت مرتاح جداً، ويكون الشخص صاحب حاجة، تقول له: لطلبك ما في موافقة، لعلَّه ينفجر أمامك، انتظر، صاحب الحاجة أرعن، لعلَّه مقهور، لعله مظلوم، لعله مصاب، لعله مُبتلى، فهناك من يطرده شر طردٍ، ويمزق معاملته تمزيقاً كلياً ويطرده لأنه تجاوز الحد.
مع سيد الرسل أمسكه من ردائه وجذبه حتى أثَّر في عنقه، وقال: "يا محمد ـ باسمه ـ أعطني من مال الله فهذا ليس مالك ولا مال أبيك ". تبسَّم النبي عليه الصلاة والسلام وقال:
((صدق إنه مال الله أعطوه ما يريد))
هكذا كان عليه الصلاة والسلام يعامل جفاة الأعراب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " إِن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم يستعينه في شيء، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلَّم شيئاً ثم قال له: " أأحسنت إليك ؟ " قال الأعرابي: لا ولا أجملت. فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه. فأشار النبي الكريم إليهم أن كفوا، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام، وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال:
(( إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت " فزاده النبي الكريم شيئاً وقال: " أأحسنت إليك ؟ ))
قال: نعم ـ يعني الآن العطيّة معقولة ـ فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا. فقال النبي الكريم: (( إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم ـ الذي قلته لي قل لهم إياه ـ))
فلما جاء الأعرابي قال عليه الصلاة والسلام: (( إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال))
ـ و لم يعد قوله، أحياناً شخص يقول لك: قال فلان عنك: لا تفهم. لا تعدْها، إذا كانت كلمة سيئة فلا تعدها، له انتقادات، مزعوج، تكلَّم كلمة لا تليق، يعيد له نفس الكلمة حتى يهزَّه، النبي ما ذكر مقالته ـ بل قال: إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال، وإنَّا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي ـ أصحيح ـ ؟ فقال الأعرابي: نعم جزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً.
اسمعوا التعليق: فقال عليه الصلاة والسلام:
((إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجلٍ له ناقة، فشردت عليه، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم صاحب الناقة: خَلُّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها منكم، وأنا أعلم بها، فتوجَّه إليها صاحبها، وأخذ لها من قُمام الأرض ـ أي حشيش، أي من نبات الأرض ـ ودعاها حتى جاءت واستجابت وشدَّ عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار))
تعليق دقيق جداً.. ((إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجلٍ له ناقة فشردت عليه، فاتّبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها منكم، وأنا أعلم بها، فتوجَّه إليها صاحبها وأخذ لها من قمام الأرض ـ أي من نبات الأرض ـ ودعاها حتى جاءت واستجابت وشدَّ عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار))
قال له: " لا أحسنت ولا أجملت "، النبي زاده عطاء فقال: "أحسنت وأجملت وجزاك الله من أهل عشيرةٍ خيراً "، هذه القصَّة دقيقة جداً، إنسان غير مصقول، محدود التفكير، صاحب حاجة، أرعن، تكلَّم كلمة، فأنت امتصَّها، احتَوِهِ، امتصَّ هذه الكلمة، تجاوْز عنها تأخذ بيده، أما لو انتقمت منه أهلكته.
وننتقل إلى عنوانٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم وهو:
عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلَّم مع أصحابه
قال الله تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
( سورة الشعراء )
أمَرَ اللُه النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم أن يتواضع للمؤمنين، لكن هناك آيتان، الآية الأولى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
( سورة الحجر )
والآية الثانية:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
( سورة الشعراء )
ماذا يستنبط من الآيتين ؟ فأنت لك مسجد، لك مرشد، التقيت مع أخ من جامع آخر، يجب أن تُرَحِّب به، وأن تحبه، فهو مؤمن مثلك، هذا التحزُّب، وهذه النظرة الضيقة ممقوتتان، و هذه الآية تسدد الخطأ، وتحدد التوجه:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
لكن الآية الثانية:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
( سورة الحجر )
للمؤمنين عامةً، أيّ مؤمن، فأي إنسان مؤمن يعتقد ما تعتقد، يصلي ويصوم، يقيم أمر الله عزَّ وجل، يتَّجه للقبلة ـ لا نكفِّر أحداً من أهل القبلة ـ يصلي معك في اتجاه الكعبة، فالمؤمن الصادق المخلص لا يفرِّق بين جماعةٍ وأُخرى، كل من عرف الله وسار على منهجه على العين والرأس، أبداً من دون تفرقة، وليس من صالح المسلمين هذه التفرقة، ولا هذا التمايُز، ولا هذا التحزُّب الأعمى، ولا هذا الانحياز البغيض.
فقد كان عليه الصلاة والسلام المثل الأكمل في التواضع مع علو مقامه. و هناك شيء يلفت النظر..
((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))
( من صحيح مسلم: عن " عبد الله بن مسعود " )
لماذا الكبر. فمهما كان قليلاً يفسد العمل ؟ و عندنا مثل يوضِّح هذه الحقيقة، فلو عندك مئة كيلو حليب كامل الدسم، نقطة نفط واحدة تفسده، كذلك العبودية لله عزَّ وجل ماذا يفسدها ؟ الكبر، الكبر يتناقض مع العبوديَّة، فلذلك من علامات المؤمنين التواضع، فكان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في التواضع.
كيف كان متواضعاً ؟ كان من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم أن يخدم نفسه بنفسه..
((مَن حمل بضاعته فقد برئ مِن الكبر))
(البيهقي قي شعب الإيمان عن أبي أمامة)
شخص يحمل طعام أولاده، فاشترى خضاراً وفواكه، وحملها بنفسه، يزداد عند الله رفعة.. ((مَن حمل بضاعته فقد برئ مِن الكبر))
فمن علامة تواضعه صلى الله عليه وسلَّم أنه يخدم نفسه بنفسه، قالت عائشة رضي الله عنها: ((كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
( مسند أحمد )
أي إذا غسل الإنسان في بيته صحناً، رتّب غرفة، نقل حاجة من مكان إلى مكان، هذا لا ينتقص من قدره أبداً، هكذا كان عليه الصلاة والسلام.
في رواية أخرى:
((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ))
( من مسند أحمد: عن " السيدة عائشة " )
في رواية ثالثة: ((كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ))
( من صحيح البخاري: عن " السيدة عائشة " )
أي إذا كانت الزوجة مريضة، وأنت هيَّأت طعام الفطور لأولادك، فهذا الشيء يرفع من قدرك عند الله عزَّ وجل، إذاً كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً، ومن تواضعه أنه كان يخدم نفسه، ((مَن حمل بضاعته فقد برئ من الكبر))
((من أكثر من ذكر الله فقد برئ من النفاق))

(الطبراني في المعجم الأوسط عن أبي هريرة)
((ثلاث من كن فيه فقد برئ من الشح ؛ من أدى زكاة ماله، وقرى الضيف، وأعطى في النوائب))
(البيهقي في شعب الإيمان من قول الأوزاعي)
قاعدة.. قالت عائشة: ((كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
( من مسند أحمد: عن " السيدة عائشة " )
في رواية: ((يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلُبُ شَاتَهُ وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ))
( من مسند أحمد: عن " السيدة عائشة " )
ومن تواضعه أنه كان يركب الحمار أحياناً، ولا يخصُّ نفسه بركوب الخيل. أحياناً ترى إنساناً يقود سيارة، قد تكون ( بيك أب )، فيدعو صديقهُ أو شخصاً لركوبها: تفضَّل، فيقول: لا أركب، يا أخي اركبْ، وما المانع ؟ فمن الكبر أن تختار مركبة معيَّنة، إن لم تكن في مستواك لا تركبها، فاعلم أن هذا كبر، فكان عليه الصلاة والسلام ـ في زمانه كانت تعد الخيل مركبة فخمة، والأقل فخامة منها الحمار ـ فكان عليه الصلاة والسلام يركب الحمار، ولا يخصُّ نفسه بركوب الخيل كما هي عادة الملوك والأمراء.
وروى أحمد عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطبَ فَقَالَ
((إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَإِنَّ نَاسًا يُعْلِمُونِي بِهِ عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمْ رَآهُ قَطُّ))
والله يا إخوان مهما قلت لكم عن أثر عيادة المريض فربما لا أكون مبالغاً، فإذا كان لك أخ أقل منك شأناً، ومرض، وذهبت بنفسك وعدَّته، ومعك هديَّة لطيفة، فهذه الزيارة وهذه العيادة تترك في نفسه أعظم الأثر، كما قلت في بداية الدرس: هناك زيارات من عمل الدنيا وزيارات من عمل الآخرة ؛ أن تزور ضعيفاً، مسكيناً، فقيراً، متواضعاً، إنساناً مغموراً أن تزوره، و أن تعوده، أن تلبِّي دعوته، أن تجلس معه، أن تلاطفه، أن تؤانسه، أن تتواضع له، أن تأخذ بيده هذا من عمل الآخرة.
أما أن تزور الأقوياء، والأغنياء، والكبراء، وأن تستأنس بهم، أنت مع الفقير آنسته، أما هنا أنت تستأنس بهم، وقد يزوَّرُّون عنك، وقد يقيِّمونك تقيماً لا يرضيك، وقد يترفَّعون عنك، القاعدة الأساسيَّة: " لا تجالس من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له "، أي إذا أعطاك إنسان جنبه فأنت أعطه ظهرك، فأنت مؤمن كريم عزيز النفس، أما الذي يعطيك وجهه فأعطه روحك، أوضح كلامي ؟ الذي يعطيك وجهه أعطه روحك، والذي يعطيك جنبه أعطه ظهرك.." المتكبِّر على المتكبِّر صدقة ".
الإيمان فيه عزَّة، الدين عظيم، و الإنسان لا يخضع لغير مؤمن ! المؤمن إذا خضعت له فهذا من كرامتك عند الله، لأن الله عزَّ وجل قال:
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
(سورة المائدة: من آية " 54 " )
وبالمناسبة: الإنسان لا يشكو همَّه لكافر.. ((من شكا مصيبته لمؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، لكن من شكا مصيبته إلى كافر فكأنما اشتكى على الله))
ماذا سيقول لك الكافر ؟ سيشمت بك، والأكمل من هذا وذاك أن تشكو همك وحزنك إلى الله..
﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾
( سورة يوسف )
هذا الأكمل.

وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَازَةَ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ))
هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم.
كما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: " أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من خيْبر، وإني لرديف أبي طلحة، وكان عليه الصلاة والسلام يُردف خلفه بعض أصحابه ـ على الدابَّة، دابَّة صغيرة يركب هو ويركب خلفه صحابيٌ آخر، من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم ـ وصبيان أصحابه، ولا يستنكف من ذلك كما تأنف الكُبراء والأمراء ".
وفي الصحيحين، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " كنت وراء النبي صلى الله عليه وسلَّم ـ على الدابة ـ ليس بيني وبينه إلا مؤخِّرة الرحل. فقال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك... "
هذه ملاحظة مهمة جداً: أنت تجلس مع الكبراء، تؤخذ ببيوتهم، بمكاتبهم، بمركباتهم، لكن أن تجلس مع إنسان متواضع وتراه أنه أعظم الخلق، فهذا شيء عظيم جداً، المتكبرون حولهم رِياش، وأثاث، ومرفَّهون ببيوت واسعة، بمركبات فارهة، بأجهزة دقيقة جداً، فهذه تعطيهم هالة كبيرة جداً و لكنها زائفة، أما أن تجلس مع نبيٍ عظيم يركب دابةً، يردف خلفه صحابياً، يخصف نعله بيده، يخدم نفسه، يحمل حاجته، يقوم في خدمة أهله، وتراه أعظم إنسان، فهذا هو النظر الحكيم.
معنى ذلك أن الصحابة على مستوى رفيع جداً، نحن أحياناً نؤخذ بالمظاهر، فالذي يحيط نفسه بمظاهر كبيرة جداً نعظِّمه، أما إذا دخلنا إلى بيت صغير ؛ قبو، دهانه وسط، و الأثاث درجة خامسة، فقد يصغر بعينك، من ضعف إيماننا، من النظرة الماديَّة، من تأثُّرنا بقيَم الكفَّار إذا دخلت إلى بيت متواضع، وفرشه متواضع، وصاحبه فقير فقد يكون ولياً من أولياء الله، فأصحاب النبي كذلك و هو في أعلى درجات التواضع، والتقشُّف، والخشونة ومع ذلك قال له:
" يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك... ".
فقط قال له: " يا معاذ بن جبل ". اللهمَّ صلِّ عليه له أسلوب تربوي..
"... ثم سار ساعةً ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك ـ فلم يقل شيئاً ـ ثم سار ساعةً ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال:
ـ إخواننا الكرام فأنا أعلِّق أهميَّة كبرى على هذا القول، والله الذي لا إله إلا هو هذا القول قرأته قبل شهر تأثَّرت به بالغ الأثر ـ قال: " يا معاذ بن جبل ؟ قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حقًّ الله على العباد ؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم... ".
فالكلام كلمتين حق الله على العباد وحق العباد على الله، وهذا القول يعنينا جميعاً، فأقرب قول لحياتنا هذا القول... يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به... ".
إنّ حق الله عزَّ وجل عليك أن تطيعه، هذا كتابه وهذه سنة نبيِّه، افعل ولا تفعل، كل موضوع بحياتك حُكمه إما أنه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو مستحب، أو مباح، أو مكروه تنزيهاً، أو مكروه تحريماً، أو حرام، كل شيء في الحياة الدنيا لابدَّ له من حكمٍ شرعيٍ متعلِّقٍ به، فأنت كمؤمنٍ، إذا كنت مؤمناً صادقاً فأي عمل، و أي موقف اسأل عن حكمه الشرعي، هل يجوز أن أفعل كذا وكذا ؟.
البارحة كنا على مائدة، و معنا أُناس ليسوا متفقِّهين، انتهى من الطعام مبكراً، فقام يريد أن يغسل يديه، السنة ليست هكذا، إذا انتهيت من الطعام يجب أن تبقى في مكانك حتى ينتهي آخر واحد، عندما انسحبت أنت، وفلان انسحب، وفلان انسحب وهناك واحد مازال جائعاً، استحيا بحاله فانسحب وهو جائع، لا تقم من مكانك وأنت على الطعام حتى ينتهي آخر من على المائدة، فأنت لك أن تأكل حاجتك، و لك أن تتوقف عن الطعام، لا أن تنسحب من المائدة، لا تنسحب إلا إذا انتهى جميع من على المائدة من الطعام، فما من موقف إلا وله حكم شرعي ؛ فرض، واجب، مندوب، مستحب، مباح، مكروه تنزيهاً، مكروه تحريماً، حرام، قال له

((يا معاذ بن جبل، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به، وسكت النبي عليه الصلاة والسلام ثم سار ساعةً قال: يا معاذ بن جبل ـ فالمؤانسة، يقول له كلمة ويريحه ـ قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ألاَّ يعذِّبهم ))
لك عند الله حق ألاَّ يعذِّبك لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذا أطعته، بربكم ألا تكفينا هذه العبارة ؟ له عليك حق أن تطيعه، ولك عليه حق ألا يعذِّبك لا في الدنيا ولا في الآخرة. هذا الحديث يكفينا: (( يا معاذ بن جبل، لبيك رسول الله وسعديك، ما حق الله على العباد ؟ حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا. يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ألاَّ يعذِّبهم ))
هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هذا وحي غير متلو، لا ينطق عن الهوى، أتريد ألاّ تعذَّب في الدنيا ولا في الآخرة ؟ عليك بطاعة الله.
والله أحياناً التقي بإنسان سنة تقارب الثمانين، أو الخامسة والثمانين لا يشكو شيئاً، هذا من طاعة الله. يا سيدي ما هذه الصحَّة ؟ ـ ست وتسعون سنة ؛ قامته منتصبة، بصره حاد، سمعه مرهف، أسنانه في فمه، ذاكرته قوية، زوجته معه، أكرمه الله بأن أمدَّ في عمرها وبقيت معه، يا سيدي ما هذه الصحة ؟ ـ قال: " يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً، هل هناك أحد لا يتمنى أن يعيش حياة كلها صحة، وما يشكو من مشكلة ؟ الصحَّة تحتاج إلى طاعة، هذا الحديث والله يكفينا..

((ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ألاَّ يعذِّبهم ))
مطلقة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال: من تواضعه صلى الله عليه وسالَّم مشيته مع الأرملة، والمسكين، والأمة.
روى مسلم وغيره عَنْ أَنَسٍ

((أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا))
مع أنه في عقلها شيء، أحياناً يكون واحد محدود، مختل، يأتي يسلِّم عليك، يصافحك، يعانقك، طوِّل بالك عليه، كيف لو كنت مكانه ؟
حدَّثني أخ كريم: رجل تبرَّع ببيت لعمل خيري، أي مشغل لتعليم الخياطة للفتيات الفقيرات، البيت بثمانية ملايين ليرة قدَّمه هديَّة، جزاه الله خيراً، توفي الآن، فالجمعية التي قبلت هذا البيت، والتي عملت على تجهيزه بالوسائل المناسبة، أقامت لهذا المحسن حفل تكريم، تكريماً له على هذا التبرُّع السخي، ألقى الخطباء كلمات أثنوا بها على هذا المحسن، إلا أحد الإخوة الكرام ألقى كلمة تكلَّم فيها كلاماً آخر، خاطب المحسن قائلاً: أنت يا أيها الأخ الكريم لولا فضل الله عليك لكنت أحد المنتفعين بجمعيتنا، الله أعطاك فقدَّمت لنا هذا البيت، لو أراد لكنت أحد المنتفعين بهذه الجمعيَّة. فإذا الله أعطى إنساناً فهذا من فضل الله عزَّ وجل، و المؤمن يرى دائماً فضل الله عليه، كان من الممكن أن تكون مكان هذا المختل الذي عانقك، وقبَّلك، وتبرَّك بك، فالنبي على عظم شأنه أوقفته امرأةٌ في عقلها شيء فَقَالَتْ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا))
وروى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ ـ الطفلة الصغيرة ـ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
وفي رواية أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
قد يطول بك العمر فتصير جَداً، ولك ابن بنت أو ابن ابن، يمسك يدك ويمشي بك في أرجاء البيت، فامْشِ معه ـ سايره ـ يريد منك سُكّرة، هو يعرف مكان السكر، يسحبك للمكان، أعطني من هذه، فأنت كلَّما كنت متواضعاً كلَّما كنت عظيماً عند الله عزَّ وجل.
زرت مرَّة بلداً إسلامياً عندهم زعيم ديني له مكانة كبيرة جداً، مرسوم بلوحة وبنت صغيرة تمسكه من يده، وتمشي أمامه، قلت: هو يقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المشهد..
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
وفي رواية أحمد: ((فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
أي ليقضي لها حاجتها بنفسه الكريمة.
الصغار كلَّما تواضعت لهم أحبوك و استمعوا لك..
((من كان له صبي فليتصابَ له))
( من الجامع الصغير: عن " معاوية " )
فهذا دليل على عظمة الإنسان، والله سمعت اليوم قصَّة وقعت في الشام، طبعاً الذي حدَّثني بها من كَتَبَ التقرير ـ تقرير الحادثة ـ طفل بكى، أخٌ له أختٌ، ولهذه الأخت هذا الطفل، بكى فتضايق منه، قال لها: والله في نفسي أن ألقيه من النافذة، قالت له: ألقه، وهي تمزح معه، أمسكه، وألقاه من الطابق السابع، وبالطبع نزل ميّتاً، وهو الآن في السجن، قلوب بعض الناس كقلوب الوحوش.
وسمعت قصَّة وقعت في مدينة أبو كمال إنسان ذبح ستة أولاد ـ من أولادِهِ ـ ذبحهم واحداً واحداً.
انظر...
((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ))
أو ((فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا))
أي ليقضي لها حاجتها بنفسه الكريمة، هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم.
وروى النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ))
مرَّة عدي بن حاتم أتى المدينة ليلقى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يتوقَّع أن النبي ملك وليس نبياً، فلما رحَّب به النبي، أخذه إلى بيته، يقول عدي بن حاتم: " في الطريق استوقفته امرأةٌ فوقف معها طويلاً تكلِّمه في حاجتها، قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، إنه نبي ".
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلَّم تكريمه لعباد الله المسلمين. فقد روى الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما في حجة النبي، أن النبي صلى الله عليه وسلَّم أتى السقاية ـ أي أتى أناس يعملون في السقاية، سقاية الحجاج ـ فقال: " أنا عطش اسقوني " فقالوا: " إن هذا يخوضه الناس، ولكن نأتيك به في البيت "، قال: " لا حاجة لي فيه اسقوني مما يشرب منه المسلمون ".
أحياناً يخص الإنسان بشراب خاص، بإناء خاص، بكأس خاص، بشيء مختوم، شيء فخم، قال لهم: " اسقوني مما يشرب منه الناس ".
قد تكون في الطواف، في الحج، في العمرة، تجد مستودعات الماء، والصنابير، والحجاج يشربون، اشرب معهم، أنت من الناس، هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلَّم.
قال: " من تواضعه لم يقبل أن يؤتى بشرابٍ خاص، وأبى إلا أن يشرب مما يشرب منه الناس، ولو خاضت فيه أيديهم ".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلَّم
(( كان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين))
لأن المسلم طاهر.
سيدنا عمر استأذن النبي في العمرة فقال:
((لا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ))
( من سنن أبي داود: عن " عمر " )
النبي عليه الصلاة والسلام يطلب من سيدنا عمر أن يدعو له، هذا من تواضعه.
وآخر شيء في موضوعنا هذا ما رواه الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((... وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
البغي: العدوان، أي لا عدوان مادي، ولا عدوان معنوي، العدوان المعنوي الكِبْر، والمادي أن تأخذ ماله، أو أن تسلبه شيئاً من حاجاته.. ((وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع تواضعه، وكيف أنه اختار أن يكون نبياً عبداً لا نبياً ملكاً.



والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:34 AM   #12


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثانى العاشر )

الموضوع : اختياره أن يكون نبيا عبداً من أن يكون نبياً ملكاً - حلمه وعطفه - غضبه







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام... مع الدرس الثاني عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقفنا في الدرس الماضي، عند أمره بالتواضع صلى الله عليه وسلم، وها نحن ننتقل إلى عنوانٍ جديد من شمائله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو اختياره أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً.
فمن أعظم ما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنه لما خيره الله جلَّ جلاله أن يكون نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً، اختار أن يكون نبياً عبداً، أما التحليل، تحليل هذا الاختيار، أو التعليق على هذا الاختيار، فدقيقٌ جداً.
أيهما أقرب إلى العبودية، أن تكون قوياً أم أن تكون ضعيفاً ؟ أن تكون ملكاً أم أن تكون عبداً ؟
الحقيقة أن تكون عبداً أقرب إلى العبودية من أن تكون ملكاً، الإسلام عزيز، والمؤمن عزيز النفس، إلا أن القوة والغنى فيها مزلةٌ للأقدام، فما كل إنسان إذا أعطي منصباً رفيعاً بحيث يتملك رقاب الآخرين، يبقى محافظاً على عبوديته لله عز وجل، فالقوة أحياناً مزلةٌ للقدم، والغنى أحياناً مزلةٌ للقدم، فإذا اختار النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً، فذلك لأن العبودية أقرب إلى الطاعة منها إلى المُلك.
فأنت حينما تتملك رقاب الآخرين ربما تنجرف إلى أن تظلمهم، ربما تنجرف إلى أن تستعلي عليهم، ربما تنجرف إلى أن تأخذ ما في أيديهم، ربما تنجرف إلى أن تتكبَّر، هذه كلها مزالق قدم، فلذلك الأضمن ألا تتمنى أن تكون قوياً فتزل قدمك مع القوة، هذا الذي دفع النبي عليه الصلاة والسلام لاختياره العبودية على المُلك.
بالمناسبة فالنبي عليه الصلاة والسلام مشرّع، فحينما اختار أن يكون نبياً عبداً، جعل نفسه قدوةً لنا، أنا لا أقول لك ارفض منصباً بإمكانك أن تخدم به المسلمون، لا هذا واجب، و سيدنا يوسف قال:
﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾
( سورة يوسف )
لكن وأنت تختار أن تكون قوياً، وأنت تختار أن تكون غنياً، لا تنسَ أن في الغنى مزلة للقدم، وفي القوة كذلك مزلةٌ للقدم.
هذا الشيء ينقلنا إلى شيءٌ آخر، الإنسان أحياناً يرقى عند الله بقدر عمله الصالح، ويرقى عند الله بقدر الحظ الذي آتاه الله إيَّاه، كلما علا حظك في الدنيا اتسعت دائرة أعمالك الصالحة، أو ازدادت الأعمال الصالحة المُتاحة إليك، و النبي عليه الصلاة والسلام حينما خيّره جبريل الأمين بأمرٍ من الله عز وجل، أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً، اختار أن يكون نبياُ عبداً، وهذا لشدة تواضعه صلى الله عليه وسلم.
أما تفصيل هذا التخيير... فقد جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء فإذا ملكٌ ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خُلِقَ قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك أملكاً أجعلك أم عبداً رسولاً، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا بل عبداً رسولاً "، هكذا ورد في الترغيب.
أي أنك إذا خًيِّرت بين أن تكون قوياً، أو أن تكون ضعيفاً، فإن كانت هذه القوة للمسلمين فاختر أن تكون قوياً، ولا تنسَ أن في القوة مزلة قدم، و إذا خيرت أن تكون غنياً أو فقيراً، فإذا تأكدت أن غناك يعود على المسلمين، اختر الغنى لكن لا تنسَ أن في الغنى مزلةً للقدم، هذا هو القصد من هذا الاختيار الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم.
شيءٌ آخر... قال كتاب السيرة: مقام الملك يقتضي اتخاذ الجنود، ويقتضي اتخاذ الحُجَّاب والخيول، ويقتضي اتخاذ الخدم، والحشم، والقصور، ويقتضي الانتقام ممن يتعرض له بسوء ؛ أما مقام العبودية، فإنه يقتضي أن يخدم الإنسان نفسه، وأن يكون في معونة أهله كما كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً، ويقتضي العفو عما آذاه في نفسه، أما إذا انتهكت حُرُمات الله عز وجل فالله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نغضب له. لهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول:
((آكل كما يأكل العبد))
أي في القعود، وفي هيئة التناول، والرضا بما حضر، فالعبد يجلس جلسة مؤدَّبة، ويتناول الطعام بطريقةٍ مؤدبة، ولا يعترض على الطعام، هذا شأن العبد، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((آكل كما يأكل العبد))
أي في هيئته، و أتناول الطعام في هيئته، والرضا بالميسور.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام يقول:
((أجلس كما يجلس العبد، لا كما تجلس الملوك))
والحقيقة هذا يقودنا إلى أن المؤمن في جلسته متواضع، إذا جلس ليقود مركبةً، الجلسة متواضعة، إذا مشى، المشية متواضعة، إذا تناول الطعام، التناول متواضع، التواضع يبدو عليه في كل تصرُّفاته، لذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة لو شئتُ لسارت معي جبال الذهب، أتاني مَلَكٌ إلى حجرة الكعبة فقال: إن ربك يُقرئكَ السلام ويقول لك: إن شئت كنت نبياً ملكاً وإن شئت كنت نبياً عبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: بل نبياً عبداً آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: " فو الذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء))
و هذا شيء آخر، فهذه التي زهد بها لا قيمة لها، هذه الدنيا للبَرِّ والفاجر، لكن الآخرة للمؤمن وحده، إن هذه الدنيا يأكل منها البر، والفاجر، والآخرة وعدٌ صادق يحكم فيها ملكٌ عادل.
وفي سنن أبي داود وابن ماجة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَالَ:
((كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْعَةٌ - أي إناءٌ كبير يوضع فيه الثريد ليأكل الجماعة معه - يُقَالُ لَهَا الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا - أي دخلوا في وقت الضحى بعد طلوع الشمس - وَسَجَدُوا الضُّحَى - أي صلوا الضحى - أُتِيَ بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي وَقَدْ ثُرِدَ فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثَرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أي جلس على ركبتيه - فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا مِنْ حَوَالَيْهَا وَدَعُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا))
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام، بتواضعه علا شأنه.
و بعدُ فاسمحوا لي أن أقول لكم هذه الكلمة: هناك علاقات دائماً، علاقات مضطربة، وعلاقات متعاكسة، في هذا الموضوع كلما تواضعت لله رفعك الله عز وجل، وكلما تكبرت وضعك الله عز وجل، أنا لا أعتقد أن على وجه الأرض - وأنا أعني ما أقول ـ إنساناً واحداً رفع الله شأنه وأعزه، كالنبي عليه الصلاة والسلام، وأنت يجب أن تقتدي به، إذا تواضعت رفعك الله عز وجل، أن تجلس مع إنسان دونك هذا لا ينتقص من قدرك، بل يرفع قدرك، أن تُصغي إلى إنسان ضعيف، أن تلبِّي دعوة إنسان فقير، أن تجلس مع إنسان مسكين، أن تصافح إنساناً من الدَهْمَاء من سوقة المجتمع، أن تصافحه بحرارة، وأن تجلس معه، وأن تصغي إليه، وأن تعينه، وان تزور بيته الصغير، هذا لا يقدح في مكانتك، بل هذا يعلي قدرك.
لذلك إخواننا الكرام، هذا الموضوع علاقته متعاكسة، كلما تواضعت لله، رفعك الله عز وجل، وهؤلاء الجبابرة، الذين تكبروا، واستعلوا، هؤلاء قصمهم الله عز وجل، وأذل كبرياءهم، ومرَّغَهُم في الوحل، أقول لكم: ما من مخلوقٍ على وجه الإطلاق أعزَّه الله كالنبي عليه الصلاة والسلام، يكفي أن تذهب إلى الروضة الشريفة، وأن تقف لترى الألوف المؤلَّفة، بل مئات الألوف، بل بعض الملايين، يمرُّون أمام قبره الشريف وهم يبكون، ما هذا العز ؟ قال تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
( سورة الشرح )
وأية صفةٍ للنبي عليه الصلاة والسلام لك منها نصيب، أطع الله عز وجل، مرِّغْ وجهك في أعتاب الله، تواضع لله، تواضع للفقراء والمساكين، أصغ إلى ذوي الحاجة، أصغِ إلى الضعفاء، اجلس معهم، لبِّ دعوتهم، وانظر كيف أن الله يرفعك، يرفعك إلى أعلى عليين، ومن يكرم الله فما له من مهين، فهل تعتقدون أن إنساناً أعزه الله كالنبي ؟ انظروا كيف كان: ((أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد))
((ويا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً ؟ بل نبياً عبداً، قال: بل نبياً عبداً، أجوع فأذكره، وأشبع فأشكره))
وصدقوني ما من صفةٍ أيضاً على وجه الإطلاق، تُنَفّر الناس من صاحبها، كالكبر، لأن الكبرياء من أسماء الله عز وجل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ))
(سنن أبي داود)
والكبرياء، هذه الصفة تتناقض مع العبودية لله عز وجل.
والآن إلى آيات القرآن الكريم.. خالقنا جلَّ جلاله، لما أراد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا وصفه ؟ استمعوا..
الآية الأولى:
﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)﴾
( سورة الجن )
فهو عبد الله..
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾
( سورة الكهف: من آية " 1 " )
الآية الثانية..
﴿إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾
( سورة الأنفال: من آية " 41 " )
الآية الثالثة..
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾
( سورة البقرة: من آية " 23 " )
الآية الرابعة..
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾
( سورة الإسراء: من آية " 31" )
معنى ذلك بخمس آيات وُصف الله النبي بأنه عبد، إذاً كلمة عبد، هي أرقى صفة يوصف بها الإنسان، أي أنك عبد فشأنك أن تخضع لله، العبد عبدٌ والرب رب، لكن الكفار حينما غفلوا عن ربهم، وحينما نسوا خالقهم، وحينما كفروا بآخرتهم، ابتدعوا في أوروبا مُصطلحاً يُكتب في بعض الكتب ـ الإنسان إله يتحكم في مصيره ـ الله عز وجل قال:
﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)﴾
( سورة الواقعة )
الملوك يموتون، أليس عندهم أطباء ؟ عندهم أطباء من كل المستويات، ومع ذلك يموتون حينما قال الشاعر:
لا تأمن الموت في طرفٍ و لا نفس وإن تمنَّعت بالحجاب و الحرس
فما تزال سهام الموت نافــــذةً في جنب مُدَّرعٍ منها و متَّـرس
أراك لست بوقَّافٍ و لا حذرٍ كالحا طب الخابط الأعواد في الغلـس
ترجو النجاة و لم تسلك مسالكهـا إن السفينة لا تجري على اليبس
* * *

ويكفيه شرفاً صلى الله عليه وسلم أنه وصل إلى مقامٍ لا ينبغي إلا لواحدٍ من خلقه، فأنا حينما أقول سيدُ الخلق، وحبيب الحق فهذا القول حق، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))
(مسلم)
ألا نقول في الصلاة: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم الفضيلة والوسيلة.
وإليكم بعض الأدلة، فأحياناً يموت عالم فيقال: مشي في جنازته مليون إنسان، هذا العالم أصله دولاتي، لو بقي دولاتيًا، كم يمشي في جنازته ؟ لو لم يطلب العلم، لو لم يدع إلى الله عز وجل، لو لم يجنِّد طاقاته في سبيل الله، لكان إنساناً أقل من عادي، فأنا أقول لكم هذا الكلام لا حباً بالمكانة، لكن ليس من المعقول أن تخطب ود الله، وأن تلتزم أمره، وأن تقبل عليه، وإن تشتاق إليه، وأن تخدم عباده، دون أن يرفع شأنك ربك، فالمؤمن له مكانة، فهو ممنوع من أن ينال..
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾

( سورة النساء )
* * * * *
وننتقل إلى موضوعٍ آخر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو:
حلمه وعطفه
قال تعالى:
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)﴾
( سورة المائدة )
قال تعالى:
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 159 " )
كان عليه الصلاة والسلام عظيم الحلم، فكاد الحليم أن يكون نبياً، فالإنسان الحليم، إخواننا، مالك زمام نفسه، يتخذ قراره بهدوء، ويتصرف بهدوء، وغالباً ما يصيب في قراره، أما الإنسان إذا غضب اختل توازنه، واضطربت رؤيته، واصبح كالوحش، لهذا هناك أحاديث كثيرة جداً يقول فيها عليه الصلاة والسلام: ((لا تغضب كاد الحليم أن يكون نبياً))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
والحلم سيد الأخلاق، كان عظيم الحلم، لا يقابل السيِّئة بالسيئة، بل يعفو ويغفر، وما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمةٌ لله فينتقم لله تعالى، وهذا الدرس ليس للإعلام، أقول دائماً: العلم في الإسلام وسيلة، وليس هدفاً، نقل المعلومات، والاستماع إلى الحقائق، والاكتفاء بها، والتزيُّن بها، وتحليلها، وتنميقها، وعرضها، هذا لا يقدِّم، ولا يؤخر، الذي يقدم ويؤخر، أن تنقلب هذه الحقائق إلى سلوك.
كل إنسان له عمل، هناك من هو دونه، له بيت هناك من هو دونه فلا بيت له، له جيران الخ، فأنت بحلمك، وعفوك، وكريم خصالك تملك القلوب، والحقيقة أن الأقوياء يملكون الرقاب، لكن الأنبياء يملكون القلوب، فمثلاً بالجامعة للطلاب دوام، فلو غاب طالب ثلاث مرات في بعض المواد يحرم من الامتحان، تجد القاعة مليئة، هذا الانضباط خوفاً من الرسوب، لكن إذا رأيت مسجداً ممتلئاً فهذا الامتلاء طوعي، فالبطولة لا في أن تملك الرقاب، بل في أن تملك القلوب، من شأن الأقوياء أن يملكوا الرقاب، ومن شأن الأنبياء أن يملكوا القلوب، بطولتك لا في ملك الرقاب، بل في ملك القلوب، بطولتك، ليس للذي يقال في حضرتك خوفاً منك أو طمعاً بما عندك، بل بطولتك بالذي يقال في غيبتك من دون أن يخافك الناس أو يرجوا ما عندك.
وهذا يقودنا إلى فكرة دقيقةٍ جداً وهي: أن الله جل ثناؤه لحكمة بالغةٍ أرادها جعل معظم أنبيائه في مطلع الدعوة ضُعفاء، حيث لو أن إنساناً تهجَّم عليهم، أو تطاول عليهم، أو انتقص من قيمتهم، أو طعن في رسالتهم، أو كذَّبهم، أو سخر منهم، أو اتهمهم بالجنون، ساحر، كاهن، مجنون، فهذا الذي اتهمهم، وتطاول عليهم، ونال منهم، يذهب إلى بيته، وينام نوماً هانئاً.
فإذا كان شخص ضعيف بالطريق، تكلمت معه كلمةً جافيةً قاسية، هل تقلق ليلاً ؟ لا، فمن هذا الشخص ؟ إنه لا شأن له، أما إذا كان الشخص قوياً، وتورطت معه بكلمةٍ ينبغي ألا تقولها، أنا أرجح أنك لن تنام الليل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ضعيفاً، لماذا كان ضعيفاً ؟ ليكون الإيمان به ثميناً، لا خوفاً ولا طمعاً، والتعليق على الموضوع الأول، لو أن الله جعله ملكاً، أحياناً ملك يعطي إشارة، تجد الناس جميعاً هابوا سطوته، ونفذوا أمره، فهل هذا التنفيذ عبادة ؟ لا، بل خوف لا قيمة له أبداً.
إذاً، الفكرة الأولى: لما جاءه جبريل قال له: يا رسول الله أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً، فاختار عليه الصلاة و السلام نبياً عبداً، لأن العبودية طاعة و قرب من الله.
الحكمة الثانية: أنه لو كان نبياً ملكاً، وجاء بهذه الدعوة، وأعلنها للناس، ودعاهم إلى قبولها، لرأيت الملايين الطائلة تقبل عليها، أليس كذلك ؟ لأنه ملك قوي، شيء مخيف، لكن جعله الله ضعيفاً، حتى يكون الذي آمن به قد آمن به لا عن خوفٍ ولا عن طمع، فما عنده شيء مخيفٌ أو مغْرٍ، لذلك قالوا: ساحر، قالوا: مجنون، قالوا: كاهن، ومع ذلك ناموا مطمئنين، فلحكمةٍ بالغة، جعل الله النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، لذلك فالناس الذي آمنوا به، كان إيمانهم به ثميناً، لا خوفاً ولا طمعاً.
روى الشيخان وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا))
وقالوا: لقد اتسع حلمه لجميع خلق الله تعالى، حتى لأعدائه الذين آذوه، في غزوة أحد، كسرت رباعيَّته، وجرحت شفته السُفلى، وشُجَّ في جبهته، حتى سال منه الدم، ولقد شق ذلك على أصحابه فقالوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))
كسرت رباعيته، وجرحت شفته، وشج جبينه، فلما قيل له: ادع عليهم قال: ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))
هذه قصة تحمل عبرة، أحياناً يروي شخص فقرة منها، وهذه الفقرة مستنكرة، توقع في حرج، لكن لو قرأت القصة بأكملها تراها مستساغة، ورد عن زيد بن سعنة أنه قال: لم يبق من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما فيه هما: أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، قال زيد بن سعنة: فكنت أتلطَّف له أي بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمراً ـ اشتريت منه تمراً ـ إلى أجلٍ، فأعطيته الثمن، فأعطاه. وفي روايةٍ: " أعطاه زيدٌ قبل إسلامه ثمانين مثقالاً ـ أي أن هذا زيد اشترى من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمراً، أعطاه الثمن ولم يقبض البضاعة، طبعاً إلى أجل هكذا الشرط ـ فلما كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخذت بمجامع قميصه، ورداؤه على عنقه، ونظرت إليه بوجهٍ غليظٍ ثم قلت: ألا تقضين يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ ".
كان سيدنا عمر موجود، وهذا يهودي، قال له: " أي عدو الله تقول هذا لرسول الله، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك "، ماذا كان يحاذر سيدنا عمر ؟ كان هناك اتفاق مع اليهود، فلو ضربه لانتهِك هذا الاتفاق، كان عليه الصلاة والسلام ينظر إلى عمر بتؤدةٍ وسكونٍ وتبسم، ثم قال عليه الصلاة والسلام

((أنا وهو ـ أي أنا وزيد ـ كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن المقاضاة "، ثم قال: " اذهب يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً، مكان ما رعته ـ أي خوفته ـ أي مقابل فزعه))
ففعل ذلك عمر.
قال زيد: فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما هما: أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ـ يبدو أن هذه الصفات وردت في التوراة ـ فقد اختبرته بهما، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً.
أحياناً يذكر القارئ فقط الفقرة التي في منتصف الحديث، وهذه فيها إشكال كبير كثير، هذا الذي قرأ في التوراة صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما التقى به عرفها كلها إلا هاتين الصفتين، فأراد أن يتأكد، أيسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلماً ؟ فتلطَّف إليه حتى أقام علاقةً تجاريةً معه، دفع له ثمن التمر، ثم جاء يطلب الأداء قبل الأجل، ثم جذبه من ردائه وأغلظ له القول، بأن قال: فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطلٌ، سيدنا عمر أراد أن يفتك به، قال له:

((دعه يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك، أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن المقاضاة))
هذا اليهودي حينما رأى هذا الحلم الشديد سكنت نفسه، وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
في روايةٍ أخرى قال زيد: " وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلا أني كنت رأيت صفاته في التوراة كلها إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم، فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهدك أن هذا التمر وشطر مالي إلى فقراء المسلمين ".
و أسلم زيدٌ وأسلم أهل بيته كلهم إلا شيخاً كبيراً غلبت عليه الشِقْوَة، فهو أراد أن يسلم هو وأهل بيته جميعاً، قرأ في التوراة، فرأى كل الصفات التي في التوراة، رآها بعينه في النبي إلا صفة الحلم فاختبره بها، بدأ متطلفاً، عقد معه صفقةً، أعطاه الثمن مقدماً، وعده النبي بتسليم البضاعة بعد حين، جاء قبل أن يحل الحين، وأمسكه كما قلت قبل قليل، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((يا عمر مرني بحسن الأداء، وأمره بحسن المقاضاة، كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر))
روى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ فَحَدَّثَنَا يَوْمًا فَقُمْنَا حِينَ قَامَ فَنَظَرْنَا إِلَى أَعْرَابِيٍّ قَدْ أَدْرَكَهُ فَجَبَذَهُ - وفي روايةٍ جذبه، فبالطبع نحن عندنا قاعدة باللغة الفعل الثلاثي يمكن أن تتغير تراكيب حروفه فتقول: جذب وجبذ، أنعم النظر، وأمعن النظر، عبر، وعرب، وهكذا، ويبقى ذات المعنى، وله ذات الدلالة - بِرِدَائِهِ فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ - أي صار فيها حمرةٌ من أثر الجبذة - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ رِدَاءً خَشِنًا فَالْتَفَتَ فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِنْ جَبْذَتِكَ الَّتِي جَبَذْتَنِي فَكُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَهَا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ لَهُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرَيْهِ هَذَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرًا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ انْصَرِفُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى))
وفي رواية البيهقي: " فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((المال مال الله وأنا عبده، وأستغفر الله لا أحملك حتى تُقيِدَني، من جذبتك التي جذبتني بها))
ـ أريد أن آخذ حقي منك ـ فقال الأعرابي: والله لا أُقِيدكها ـ أي لا أعطيك أن تأخذ مني حقك ـ فقال عليه الصلاة والسلام: لمَ ؟ فقال الأعرابي: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة ". فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا النبي الكريم رجلاً وهو عمر ـ كما في الرواية ـ فقال: ((احمل له على بعيريه هذين على بعيرٍ تمراً وعلى بعيرٍ شعيراً))
هذه لو فعلها الأعرابي مع أي إنسان آخر قوي قطعت رقبته وانتهى الأمر، وهذه بالطبع تفاصيل القصة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي في نفسه عفا وصفح، ولكن إذا انتهكت حرمةٌ من حرم الله عز وجل غضب، لما شُجَّ وجهه الشريف يوم أحد عفا وقال:
((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون))
أما لما شغله اليهود عن الصلاة يوم الخندق، لم يعف عنهم بل قال: ((مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا))
( من صحيح البخاري: عن " علي " )
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يغضب كذلك قال: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ))
( من صحيح مسلم: عن " أم سليم " )
ولكن ما الذي كان يغضبه ؟ وأنا أقول لكم: قل لي أيها الأخ الكريم ما الذي يغضبك أقل لك من أنت ؟ فمثلاً إذا دخلت إلى البيت ولم يكن الطعام جاهزاً هل تغضب ؟ قد تغضب.
إذا نظرت إلى ابنتك وهي في ريعان الصبا قد خرجت إلى الشرفة دون أن تضع شيئاً على رأسها، ونظرت إليها هكذا وابتسمت، ولم تغضب ؟ هنا المشكلة، إذا انتهكت أوامر الله عز وجل لا تغضب ؟! و إذا فعلت المعصية لا تغضب ؟! أما إذا تأخر الطعام تغضب !!
أقول لكم أيها الإخوة: قل لي ما الذي يغضبك أقل لك من أنت ؟
الآن نحن مع غضب النبي عليه الصلاة والسلام، كان عليه الصلاة والسلام يغضب لله تعالى ويرضى لرضاه، لم يكن تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، ولم يكن يغضب لنفسه، بل كان يغضب لربه تعالى.
أحياناً الإنسان إذا كانت عنده آلة، وآخر خربها له، أو عنده أثاث فخم، وأفسده له إنسان، تقوم الدنيا ولا تقعد، تنطلق من لسانه كلمات لا يعلمها إلا الله، يتجاوز حده، لأنه أفسد له حاجة، أما إذا رأى معصيةً، أو رأى كبيرةً، أو رأى حرمةً تنتهك فلا يبالي.
وقد جاء في حديث هند بن أبي هالة الذي رواه الترمذي وغيره يصف النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعُرِّضَ للحق لم يعرفه أحد، ولن يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ". أي أنه لا يغضب إلا لله، أما لنفسه فلا يغضب.
مرةً غضب حينما رأى في البيت قِرَاماً فيه الصور كما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
((دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ))
فقد كان حديث عهد بالأصنام، هؤلاء الذين كانوا يصنعون الأصنام ويصورونها، هؤلاء يعيشون في مجتمع الشرك، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يغضب أشد الغضب من هؤلاء الذين يصورون هذه التصاوير، طبعاً خوفاً من أن تعبد من دون الله.
مِن هذا غضبه صلى الله عليه وسلم، مِن العمل الذي ينفِّر المؤمن، و قد ورد في الصحيحين وغيرهما عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ:
((وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ـ أي يطيل الصلاة بنا ـ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ))
كان عليه الصلاة والسلام يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، والسنة أن تقرأ في صلاة الفجر السور الطويلة، الواقعة مثلاً، الحجرات، من السنة أن تقرأها بأكملها في كل ركعة، وكان كما يروي كُتَّاب السيرة في أعلى درجات نشوته، وانغماسه في القرب من ربه، بدأ الصلاة، وقرأ الفاتحة، فسمع طفلاً يبكي، فقرأ أقصر سورةٍ وسلَّم، فعجب أصحابه من هذا، ليس هذا من عادته، كان إذا صلى الفجر قرأ طوال السور، فقد أراد أن يرحم أم هذا الغلام الصغير الذي كان يبكي ويناديها ببكائه، فالنبي الكريم قال: ((إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ))
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ، وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ))
( من سنن النسائي: عن " جابر " )
كان عليه الصلاة والسلام كما قال أصحابه يتخولنا بالموعظة، مخافة السآمة علينا وكان يقول: ((روحوا القلوب ساعةً بعد الساعة))
( من الجامع الصغير )
وأنت أيضاً إذا تكلمت مع أولادك، مع أهلك، مع أصدقائك، فكن كما تكون على الطعام تماماً، اجلس إليهم وحدِّثهم، حدِّثهم وهم يتمنون أن تحدثهم، واسكت وهم يتمنَّون أن تتابع، هذا هو المقياس، أجل، حدثهم وهم يتمنون أن تحدثهم، وكُفَّ عن الحديث وهم يتمنون أن تتابع الحديث، هذا هو المقياس، أحياناً يكون الإنسان مضطرباً مشوشاً، ويأتي إنسان يعظه، فليس هذا وقت الموعظة، أحياناً يكون في ظرف عصيب، في مرض مثلاً، في مشكلة، المفروض أنك تختار الوقت المناسب، أن يكون في صفاء ذهن، و أن يكون في راحة نفسية، فإذا حدثته فهو لا يسمع إليك و ربما تشاغل عنك، لا تحدث الناس إلا إذا كانوا مستعدين لهذا الحديث، فإذا حدَّثتهم فكفَّ في الوقت المناسب، قبل أن يبدو السأم على وجوههم.
ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم لما رأى النُخامة في المسجد كما في الصحيحين، ذلك لأن المساجد ينبغي أن يحرص المسلم على نظافتها وكرامتها، ولا يجوز إلقاء الوسخ فيها، و قد تقدَّم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنظافة المسجد.
فأنت لو حملت قشةً من المسجد، ووضعتها في جيبك لك أجر، فأحياناً الإنسان يكون عنده حساسية بالغة، يسجد، فيشم رائحة غير مستحبة من الأرض، معنى ذلك أنَّ واحداً يرتدي جرابات غير نظيفة، فإذا كان إنسان إيمانه ضعيف و يقف على شعرة، تجده يقول: " لا أصلي في المسجد"، المفروض أن يكون المسجد نظيفاً جداً، مريحاً جداً، فهذا الذي يأتي والتدفئة في المسجد، والمراوح في المسجد، والصوت الواضح في المسجد، والماء الساخن للوضوء في المسجد، والماء البارد للشرب في المسجد، فكل هذا مما يرغب الناس في المسجد فيقبل الناس على مساجدهم.
و معلوم أننا في عصر فيه الاعتناء بالأثاث والنظافة والترتيب شيء هام، والمفروض أن يكون بيت الله عز وجل في مقدمة كل مكانٍ فيه أناقةٌ وترتيبٌ ونظافة، و أحياناً المسجد النظيف المرتب يستقطب الناس، مرة جاء شخص من بلد عربي ـ والله لا أقولها افتخاراً ـ فأراد أن يقضي حاجةً، فدخل إلى دورات المياه فقال لي: ما رأيت في حياتي على الإطلاق دروات مياه نظيفة كما هي عندكم في المسجد، كأنها دورات مياه بيت. والفضل لإخواننا الكرام الذين يعتنون بها، شيء جميل جداً، ترى الميضأة نظيفة، والرخام يلمع، ونظافة ما بعدها نظافة، هذا مما يجلب الناس إلى المسجد، لذلك كنا قبل سنواتٍ طويلة نرى دورات المياه غير مريحة إطلاقاً، و السجاد غير نظيف، فذاك الوقت ولَّى، هذا بيت الله، و العناية به تستقطب وجود الناس جميعاً.
أنا عندما كنت صغيراً أذكر أنه إذا كانت عند واحد ثريا مكسورة يقول: خذوها على الجامع، سجادة نصفها تالف ونصفها سليم إلى حد ما، خذوها إلى المسجد، هذه الأحوال انتهت، نريد سجاداً جديداً، نريد ثريات جميلة، نريد نظافة، نريد أجهزة تنظيف، هذا الشيء ضروري الآن لكي يجلب الناس لمساجدهم.
ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم من شدة الإثقال، والإحراج، وشدة الإلحاح، ففي صحيح البخاري وغيره عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً - أي قبع في غرفته - مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيرًا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ))
النبي أراد أن يصلي نافلة، لو صلاها في المسجد لأصبحت سنة مؤكدة، فأثقل على أمته من بعده، فدخل إلى غرفته ليصلي هذه الصلاة، تبعه الرجال وصلوا معه هذه الصلاة، فغضب، و لم يفهموا عليه، هو إذا فعل شيئاً أصبح فرضاً، أو أصبح سنةً ثابتة، فلما دخل إلى غرفةً ليصلي تبعه الرجال وصلوا معه، صلوا بصلاته وكأنه إمامهم، واقتدوا به، فغضب عليه الصلاة والسلام، فخرج إليهم مغضباً، وقال لهم: ((مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ))
كانت الأشياء التي ترهق أمته يفعلها حيناً ولا يفعلها حيناً آخر، لم لا يفعلها لئلا يلزم بها الناس من بعده.
لكن النقطة الدقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب، إلا أن شدة غضبه مهما بلغت لم تكن لتخرجه عن الحق ـ هذه نقطة مهمة جداً ـ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول:
((عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ))
( من مسند أحمد: عن " ابن عباس " )
الحقيقة هي أن الإنسان معرض لأن يغضب لكن لا بد من كوابح، والأبلغ أن تتغاضب لا أن تغضب، ما الفرق بين التغاضب والغضب ؟ التغاضب أنت تملك زمام نفسك، أما إذا غضبت عندئذٍ لا تملك زمام نفسك، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب ملك زمام نفسه، والإنسان القوي الإرادة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
الحقيقة بطولتك أن تملك نفسك، حتى إن الدين كله في إجماله سيطرةٌ على الذات، و لقد قال بعضهم: حضارة الإنسان سيطرةٌ على الذات، وربما كانت حضارة غير المسلمين، سيطرةٌ على الطبيعة. فقد غاصوا في البحار، وصعدوا إلى الأجواء، ولكن المسلم كما قال أحد زعماء إنكلترا: ملكنا العلم ولم نملك أنفسنا. فالإنسان أمام نفسه ضعيف يتهاوى، ولكنَّهُ قد يملك القوة التي يفعل بها ما يشاء.
هناك شيء دقيق جداً فقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
((كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ))
الحق في الغضب والحق في الرضا وفي روايةٍ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ))
إذاً فالنبي كان يغضب، ولكن كان يغضب لله، و إذا غضب لله فلا يخرجه غضبه عن الحق، لكنّ الناس أحياناً إذا غضبوا خرجوا عن الحق، وإذا أحبوا خرجوا عن الحق، و قد تجد إنساناً يحب شخصاً لا يصلي يقول لك: قلبه أبيض، تقي، نقي، لكن تنقصه فقط الصلاة، هذا موقف فيه انحراف.
و إليكم هذه الطرفة خطب شخص بنت الملك، قال: أنا وأمي وأبي موافقون بقي عقبة صغيرة جداً أن توافق هي و أمها وأبوها. أما هو فموافق هو وأمه وأبوه، فأحياناً الإنسان رضاه عن شخصٍ يخرجه عن الحق، وغضبه على شخصٍ يخرجه عن الحق، فالبطولة أن تبقى مع الحق في الرضا والغضب.
والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع لكل المعاني التي سبقت:
((أمرني ربي بتسع ؛ خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً))
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى ننتقل إلى عظيم كرمه صلى الله عليه وسلم.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:37 AM   #13


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثالث العاشر )

الموضوع : كرمة - شجاعتة






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... نحن مع الدرس الثالث عشر من شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عظيم كرمه صلى الله عليه وسلَّم.
أيها الإخوة الكرام... بادئ ذي بدء المؤمن يبني حياته كلَّها على العطاء، والكافر يبني حياته كلَّها على الأخذ، فإذا أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة، اسأل نفسك هذا السؤال: ما الذي يفرحك ؛ أن تعطي أم أن تأخذ ؟ أُقدِّم لكم مثلاً صارخاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يوزِّع شاةً وكانت معه السيدة عائشة رضي الله عنها، فلمَّا وزَّعها، وكادت تنتهي، يبدو أن السيدة عائشة أرادت أن يبقي لها شيٌ تأكله، فعَنْ عَائِشَةَ

((أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْهَا قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا قَالَ بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا))
( الترمذي)
فقبل أن نخوض في موضوع كرمه صلى الله عليه وسلَّم، ما الذي يسعدك ؛ أن تعطي أم أن تأخذ ؟ ما الذي ترتاح له، أن تبذل أم أن تغتصب ؟ أهل الإيمان يسعدهم العطاء، يسعدهم البذل، تسعدهم المؤاثرة، وأهل الكفر يسعدهم أن يأخذوا، وأن يغتصبوا، وأن يعتدوا، لذلك عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا))
( رواه الشيخان )
أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، هذه الأوصاف الثلاثة هي أمهات الكمالات، فهو أحسن الناس صورةً ومعنىً، كان عليه الصلاة والسلام جميل الصورة، وأخلاقه جميلة، طيِّبة، مريحة، وكان أشجع الناس قلباً، وهو أجود الناس، وأنفعهم للناس، هذا الجود الذي اتصف به النبي صلى الله عليه وسلَّم، كما قال كتَّاب السيرة هو جودٌ لله تعالى، وجودٌ في الله تعالى، وجودٌ ابتغاء مرضاة تعالى، هو في الله، ولله، وابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل، لذلك كانت مصارف جوده كلها في طاعة الله ـ أحياناً الإنسان ينفق المال لا في طاعة الله، بل ينفق سخاءً و رياءً فهو سخاءٌ على عملٍ يرفعه عند الناس ـ لكن كانت مصارف جوده صلى الله عليه وسلَّم في الإنفاق على الفقراء والمساكين، والإنفاق في سبيل الله وفي الجهاد، وفي تأليف قلوب المؤلَّفة قلوبهم تمكيناً لهم وللمؤمنين، إذاً تارةً ينفق في سبيل الله وفي الجهاد، وتارةً ينفق إطعاماً للفقراء والمساكين، وتارةً ينفق تأليفاً لقلوب ضعاف الإيمان وتأليفاً لقلوب أعداء الإسلام لعلَّهم يميلون إلى الإسلام.
روى الإمام مسلمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))
دائماً يعطي، لأنه كان يسعده السؤال.
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجــةً وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ
* * *

أحياناً الإنسان يتضَجّر، فمجرد سؤالين أو ثلاثة، طلبين أو ثلاثة يتضجر، و لو تزاحمت عليه الأسئلة لَخرج عن طوره، لكن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يسعده السؤال، هذه أخلاق النبي، لذلك فالمؤمن صدره واسع، يطرق الناس بابه صباحاً، ومساءً، وظهراً، وفي القيلولة، وقبل الفجر، وبعد الفجر، وفي ساعةٍ متأخرة من الليل يطلبون منه حاجاتهم ؛ قضايا، وساطة، معاونة.
المؤمن الكامل يتسع صدره لكل هؤلاء، المؤمن الكامل لا يَتَضجر، و لا يتأفَّف، لأن هذا الذي يطرق بابه إنما هو ضيفٌ ساقه الله إليه، والله سبحانه وتعالى ينظر ماذا تفعل، كيف تردَّه ؟ فالإنسان إذا طُرق بابه أو التجأ إليه أحد، فالله عزَّ وجل بهذا يمتحنه، والذي أرسله هو الله عزَّ وجل، إذا كنت مَرْضيّاً عند الله عزَّ وجل، وكنت قريباً منه، تشعر أن الله أرسله إليك، أن الله دلَّه عليك، أن الله سبحانه وتعالى جعله يأتيك لترقى إليه، ولو تأفَّفت لصرفه إلى غيرك، لذلك هؤلاء الذين اختصَّهم الله بالنعم يُقِرُّهم الله عليها ما بذلوها، وإذا منعوها صرفها إلى غيرهم، أحياناً يكون إنسان دخله جيد، له إخوة بنات، له أقرباء كلُّهم يطمعون به، ما في مانع، بارك الله به، فهو مظنة صلاح، ومظنة كرم فلا يأس، ولا حرج، أختك طلبت منك، أخوك طلب منك ساعدهما، أختك الثانية ابنها يحتاج إلى عمليَّة فقالت لك: والله ما لنا غيرك يا أخي، لا تضجر، لأن الله عزَّ وجل قادر على أن يجعلك تقف على أبوابه.
هناك شيء لفت نظري ـ قصة قد ذكرتها لكم على ما أعتقد من قبل ـ رجل محسن قدَّم بيتاً بثمانية ملايين ليرة لجمعية خيرية ـ ليكون مشغلاً للخياطة، وقد كان ـ فأعضاء الجمعية أرادوا أن يكرِّموه، فأقاموا له وليمة، حفل تكريم وطعام، وبدأ الخطباء يتبارون في كَيْل الثناء على هذا المحسن الكريم، لكن أعجبني أحد إخواننا الكرام عندما ألقى كلمة خاطب المحسن من خلالها، وقال له: أنت أيها المحسن يا أبا فلان ـ و قد توفي من بعد رحمه الله ـ كان من الممكن أن تكون أحد الفقراء المنتفعين من جمعيتنا، ولكن الله سبحانه وتعالى أعطاك فأعطيت، فينبغي أن تشكر أنت ربَّك، لا أن نشكرك نحن، أن تشكر أنت ربك على أنه منحك فمنحت، وأعطاك فأعطيت، ومكَّنك فبذلت.
إخواننا الكرام... و قد تجدون إنساناً لضعف إيمانه يفهم الأمور معكوسة، إذا كان ضعيف الإيمان وأنفق، يقول لك: يا أخي أنا أعطيتهم، وأنا أعطي من مالي، أما إذا كان إيمانه قوياً يرى أن الله سبحانه وتعالى فضَّله، وكرَّمه، ومكَّنه من أن يعطي فيحمد الله على ذلك، فقد كان من الممكن أن يكون ممن يُعْطَى، فقيراً محتاجاً. أي أنك إذا أعطيت، و إذا كانت يدك هي العُليا، فاحمد الله كثيراً. إذ لم تكن يدك هي السفلى..
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)﴾
( سورة إبراهيم )
فالنقطة الدقيقة إذا كنت قد أعطيت يجب أن تذوب شكراً لله عزَّ وجل على أن مكَّنك من أن تعطي.
روى الإمام مسلمٌ عن أَنَسٍ قَالَ:
((مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ قَالَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))
أنا لا أبالغ أيها الإخوة إذا قلت لكم: إن عدداً كبيراً جداً من المؤمنين آمنوا لا لأنهم اقتنعوا بحقائق الإيمان، بل لأن مؤمناً أحسن إليهم، فملك قلوبهم، فآمنوا حباً به، فممكن أن يكون العطاء سبب الإيمان.
و أنا أذكر رجلاً كان يركب سيارة فاخرة جداً بين مدينتين، رأى إنساناً يركب دراجة، وقد قُطع جنزيرها، فهو مقطوعٌ في قارعة الطريق، هذا الرجل الذي يركب سيارة فارهة مؤمن، أوقف مركبته على يمين الطريق، ونزل وأعان هذا الإنسان على إصلاح دراجته لأنه يعرف كيف يصلحها، قال لي: كنت أعمل من قبل في إصلاح الدراجات، أصلحها له، وجعله ينطلق إلى هدفه، إصلاح هذه الدراجة كان سبب إيمانه، وسبب توبته، واستقامته، فصاحب الدراجة أسره صنيع المعروف، ورده إلى الصلاح والإيمان.
العمل الصالح يلفت النظر، العمل الصالح ؛ الإحسان، العطاء، الكرم يملك القلب، وأنت لن تستطيع أن تدعو إلى الله إلا إذا أحسنت إلى الناس، لذلك قالوا: القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، قبل أن تتكلَّم، وتتفلسف، وتشقِّق، وتحلِّل، وتأتي بالدليل، وتشرح، وتفصِّل، قبل أن تفعل هذا مع الناس أحسن إليهم، إنك إن أحسنت إليهم فتحت قلوبهم، وبعد أن تُفتح قلوبهم لك يفتحون لك عقولهم، العقل يأتي بعد القلب.
فصفوان بن أمية أعطاه النبي غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال:
((يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ))
والنبي عليه الصلاة والسلام امتُحِن مرَّتين ؛ امتحن مرَّة بالفقر، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: ((يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ قَالَتْ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا قَالَ مَا هُوَ قُلْتُ حَيْسٌ قَالَ هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا قَالَ طَلْحَةُ))
( مسلم)
وامتحن مرَّةً بالغنى فلمَّا سأله أحدهم: " لمن هذا الغنم ؟ " قال: " هو لك ". قال: " أتهزأ بي ؟ "، قال: " لا والله هو لك "، قال: " أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر".
إخواننا الكرام... أحد أسباب كرم المؤمن يقينه القاطع أن كل شيءٍ ينفقه يخلفه الله عليه.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾
( سورة سبأ: من آية " 39 " )
اليقين القاطع بأن الذي تنفقه يأتيك عشرة أضعاف، هذا الذي يجعلك تُعطي، فهذا الكلام أقوله للدعاة إلى الله، هناك أشخاص العطاء المادي يملك قلوبهم، والمؤمن عنده هداية إنسان أغلى من الدنيا وما فيها، فرضاً إذا ابنك سيلتزم الشرع بمبلغ من المال طلبه منك، أنت الرابح، إذا كان سَيَلتزم بالدين إن زوَّجته، فأنت الرابح، إذا كان سيسلك طريق الإيمان إذا أمَّنت له بيتاً، فأنت الرابح، الإنسان أغلى من كل شيء، هدايته أغلى من الدنيا وما فيها، فإذا ثبت لك أن هذا العطاء يسهم في هداية هذا الإنسان، فأعطِ، وأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً، وظِّف المال في خدمة الخلق، أهِن المال من أجل الحق، لا تجعل المال يأسرك، كن أنت سيده و آسره.
قال: " وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يوم حنينٍ أناساً من الطُلَقاء ليتألَّف قلوبهم على الإسلام، أعطاهم مئةً من الإبل ـ أي عشرة آلاف ـ وكان من جملة من أعطى مالك بن عوف فامتدحه بقصيدة".
أنت قد تعجب أنه يعطي إنساناً عطاء كبيراً ؟‍! هذا الإنسان إذا أسلم، وإذا اهتدى فهذا نصر وَ غُنمٌ كبيران، لذلك فهداية إنسان قضية ليست من السهولة بمكان، لو أنك التقيت مع أناس بعيدين عن الدين فمهما جئتهم بالأدلَّة، والآيات الواضحة، والحجج الواضحة، والقصص المؤثِّرة، فهي كالكتابة على الماء، فأن تجد إنساناً يلتفت إلى الله، يلتزم، يضع شهوته تحت قدمه فهذه بطولة، فإذا كان ثمن هذه الهداية العطاء والبذل فما من مانع و كن معطاءً جواداً.
فالمؤمن إخواننا الكرام مجنَّد في خدمة الحق، مستعد ليبذل وقته، وماله، وإمكاناته، وخبراته، وعضلاته، ووجاهته، ومكانته، وقلمه، ولسانه، في سبيل هداية الخلق، وهذا الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلَّم.
أذكر، أنني كنت قد ذكرت لكم قصَّة: أن إنساناً دخل عند أخته فرأى أن هناك شجاراً بينها وبين زوجها، واتسع الخلاف بينهما ـ و موضوع الشجار أنّ زوجها من أصحاب الدخل المحدود ـ وهي تطالبه بمبلغ شهري للإنفاق على بناتها، هو يقول: المعاش كله للطعام وللشراب، ولا يكفي، هذا موضوع الخلاف، وهذا الأخ الذي دخل بيت أخته ورأى هذا الشجار و هو ليس من الأغنياء، لكن أراد أن يتقرَّب إلى الله فقال لها: يا أختي هذا المبلغ ـ ثلاثمئة ليرة عليّ، خذيها مني أول كل شهر، وأنهوا الموضوع. قال لي: والله كنت أول كل شهر أطرق الباب وأعطيها ثلاثمئة، ما خطر في باله أبداً أن يكون هذا المال سبباً لهداية هذا البيت، قال: بعد ستة أشهر من شدة الميل والمحبة قيل له: يا أخي خصص لنا وقتاً لدرس أسبوعي.
بدأ يقوم بدرس أسبوعي لأخته وبنات أخته وأولاد أخته، قال لي: آية قرآنية، حديث شريف أشرحه لهم، حكم فقهي، تلاوة قرآن، وتجويد، كل جمعة، الله عزَّ وجل بعد حين تحجبت بنات أخته، و لم يلبثن حتى أكرمهن الله عزَّ وجل و أكرمه بتزويجهن بشبابٍ مؤمنين.
قلت: سبحان الله ! ثلاثمئة ليرة بالشهر على ستة أشهر سبب هداية أسرة بأكملها ؟! فلا تبخل أيها المسلم، أحياناً يكون عندك صانع، وأنت ميسور، و يتقاضى أجارته وهذا صحيح، له بالشهر خمسة آلاف، و بعد حين أراد أن يتزوج، فأعطه في هذا الشهر خمسة وعشرين ألفاً، عليه نفقات باهظة ؛ غرفة نوم، وغرفة ضيوف، وصيغة، ومَهر. يا أخي ليس له عندي أي حق، و أنا أعطيته كل حقه. إعطاؤه حقه، هذا العدل، و لكن أين الإحسان ؟.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾
( سورة النحل: من آية " 90 " )
ألا تريد أن يميل قلبه لك ؟ ألا تريد أن يميل قلب هذا الموظف لسيده ؟ ألا تريد من هذا الموظَّف لو قال له سيده: صلِّ، أن يصلي ؟ لو قال له: تعال معي إلى درس العلم أن يأتي معه ؟ بالبر يستعبد الحر، فأنا لا أفهم الدين مجرد كلام، إذا فهمنا: " الدين كلام ويظل كلاما"، فالصحابة الكرام ما رأوه كلاماً بل رأوه بذلاً، فأنت بصراحة إذا كنت تطمع بهداية الناس، يجب أن تعطي من مالك، من وقتك، من جهدك، فلا تستصغر معروفاً، لعلَّ هذا المعروف يكون سبب هداية أسرة، والأسرة تجر أسرة، أحياناً تجد شخصاً آمن بِيُسْر، فسبحان الله ! واستقام والتزم، جرَّ كل من حوله، يقول لك: فلان أخي، أهلاً وسهلاً، هذا صهرنا، أهلاً وسهلاً، الثالث هذا ابن أختي، أهلاً وسهلاً، كل يوم يأتي بواحد لأنه محسن، ليست هذه قضية حكي، فالكلام قد ملَّ منه كل الناس، نقولها بصراحة، وشبعوا منه، فهناك حكي يملأ الأرض، الناس يريدون فعلاً، يريدون مسلماً، لا يريدون من يحدِّثهم عن الإسلام بل يريدون مسلماً حقاً، يريدون مسلماً يبذل، مسلماً ملتزماً، مسلماً مطبِّقاً، مسلماً محباً، مسلماً صادقاً، مسلماً أميناً، مسلماً وفياً، هذا الذي يؤثِّر في الناس.
وروى الترمذي عن سعيد بن المسيِّب عن صفوان بن أمية أنه قال:
((لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي))
هذا مصداق ما قلته قبل قليل، فأنت تستطيع بمالك وحده أن تقنع الناس بالهدى، والله الذي لا إله إلا هو لا أغبط إنساناً كما أغبط إنساناً غنياً مؤمناً، بإمكانه بهذا المال أن يصل إلى أعلى عليين، بإمكانه بهذا المال أن يكون أكبر داعية في الأرض، أحياناً الإنسان الفقير لا يحتاج إلى إقناع، يحتاج إلى دراهم ليحل مشاكله، إذا أنت أمَّنت لإنسان بيتاً، أمَّنت له زواجاً، أمَّنت له عملاً، انتعش، أكل، لبس، تزوَّج، صار له بيت، فبهذا أنت ملكت قلبه، أنت شيخه.
والله مرَّة ذكر لي شخص قصَّة، إنسان يعمل في تجارة الساعات، قال لي: أفلست، له أخ هكذا قال لي ـ و أنا لا أدري الحقيقة ـ: والله أخي حجمه المالي مئتا مليون هكذا قال، و ما قدَّم لي شيئاً، ولا أمدني و لو بليرة، ولا مساعدة، ولا مواساة، قال لي: فسافرت إلى بلد مجاور ـ لبنان ـ و تعرفت على تاجر ساعات كبير، قال لي: من كثرة تأثري حكيت له القصَّة فبكيت أمامه. قال: أتبكي ؟! ثم طيب خاطري: و بعثني إلى فندق من أفخر فنادق لبنان، وقال له: ابق فيه يومين أو ثلاثة حتى ترتاح، وبعد ذلك تعال، فأقمت في الفندق على شاطئ البحر وكان معي زوجتي.
و بعد يومين ذهبت إليه ـ والقصة من اثنتي عشرة سنة ـ فقال له: هذه خمسون ألفاً لترمِّم نفسك بها، وهذه كمية ساعات بمئة ألف، وارجع، واعمل، ثم قال: والله أنام، وأراه في المنام، و في النهار لا يغادر ذهني إطلاقاً، و قال أخيراً: أحببته أكثر من أقرب الناس إلي.
الإنسان عبد الإحسان، أنت إذا أردت هداية الناس لا تحكِ كثيراً بل افعل كثيراً، اخدمهم، حل مشاكلهم، أعطهم، عاونهم، ساعدهم، الصحابة الكرام كان أحدهم يرى أنه ما له حق من الدنيا إلا بحاجاته الأساسيَّة، وما سوى ذلك فبإمكانه أن يحل آلاف المشكلات، فهل من المعقول عُرس يكلِّف عشرين مليوناً، و تجد عشرين ألف شاب لا يجدون غرفة يسكنون فيها، أمعقول هذا ؟! أنا والله كما قلت قبل قليل: أغبط إخواننا الأغنياء المؤمنين على أنهم يستطيعون بمالهم أن يمسحوا الدموع عن آلاف الأسر، و يقدر بماله أن يرقى كل يوم سبعين درجة، المال يجب أن تبذله في الحق، أن توظِّفه في الحق:
((أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً))
( من أحاديث الإحياء: عن " أبي هريرة " )
وهذا الذي قال عن رسول الله: ((لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فبما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي))
أنا أقسم لكم بالله أنك إذا تألَّفت قلباً قاسياً، شارداً، جافياً بالمال لان القلب، لا تنسوا هذه الكلمة: " بالبر يستعبد الحر "، قد يقول أحدكم: أنا لست غنياً، إذاً استمعوا لهذا الحديث الثاني: ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم))
( من شرح الجامع الصغير )
ألا تستطيع أن تكون باش الوجه، ليِّن الجانب، لين العريكة متواضعاً ؟ ألا تستطيع أن تعاون إنساناً بجهدك، بخبرتك ؟ قال لك: أنا لا أعرف كيف أشتري غرفة نوم، قل له: على عيني، أنت خبير، انزل معه مرتين، ثلاثاً، أربعاً على سبعة أيام، در معه، وانتقِ له غرفة نوم سعرها مناسب، وجيدة لأنك نجَّار وتعرف، هذا الوقت كله صدقة، ليس شرطاً أن تكون الصدقة مالاً، تصدَّقت بوقتك، بخبرتك، أحياناً بجاهك، قال لك: فلان صاحبك وأنا مضطر و لي عنده حاجة، وهو يرفض أن يلبيها لي، فامشِ معه.
لا تنسوا إخواننا الكرام أن سيدنا ابن عبَّاس ابن عم رسول الله كان معتكفاً في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه رجل يشكو ديناً ركبه، قال له: " من صاحب الدين ؟ " قال: فلان. قال: " أتحب أن أكلِّمه لك؟ " قال: إذا شئت، قام سيدنا ابن عباس المعتكف، نسي اعتكافه، فقال له واحد فضولي: أنسيت أنك معتكف ؟ قال له: " لا. ولكني سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب.. يقول:
((لأن أمشي مع أخٍ في حاجته خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا))
عندما نفهم الدين خدمة، وبذلاً، وتضحية، ومؤاثرة، فالله يحبنا جميعاً ؛ وإذا فهمنا الدين شعائر، عبادات نؤديها جوفاء نزهو بها، ولا نطلع عن الضربة ـ بالتعبير العامي ـ عندئذٍ لا يرضى الله علينا، الحياة تعاون، الله قال:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾
( سورة المائدة: من آية " 2 " )
لا تظن أن الناس متعلقون بالدين لأن الدين حق، فالدين هو حق، لكن أبلغ من أنه حق، عندما التقى المؤمن بالمؤمنين و رأى البذل، والتضحية، والاهتمام، والخدمة، والحرص، والأنس، فسُر و انخرط في صفوفهم راضياً.
وفي مغازي الواقدي أن صفوان طاف معه صلى الله عليه وسلَّم يتصفَّح الغنائم يوم حنين، إذ مرَّ بشعبٍ مملوءٍ إبلاً وغنماً فأعجبه، فجعل ينظر إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب؟". قال: " نعم "، قال: " هو لك بما فيه"، فقال صفوان: " أشهد أنك رسول الله ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نفس نبي "، و بعد فهل من الممكن في زماننا أن يقول لك شخص: أخي هذا البيت كله لك ؟‍‍! فما هذا الكلام ؟!! يقول الناس عندئذٍ: أعطهِ هدية، أعطهِ مبلغاً من المال ألفاً ألفين مثلاً، يمكن أن تعطيه شيئاً يلبسه، أو تعطيه ثمنَ طعامِ شهرٍ، أما هذا بيت فخذه، هذا فوق مستوى الأشخاص الآن، أما النبي قال له: " خذه "، قال: " ما طابت بهذا نفس أحدٍ قط إلا نفس نبي "، فالإنسان عندما يقدِّم شيئاً ثميناً جداً عن طيب نفس، وعن سماحة نفس، وعن شعور بخدمة الخلق، قال العلماء: فهذا الذي يرفع الإنسان.
وكان عليه الصلاة والسلام من أجود الناس، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا))
(متفق عليه)
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((حُمِل إليه تسعون ألف درهم، ووضِعت على حصيرٍ ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها))
إخواننا الكرام... الإنسان إذا دعا إلى الله عليه أن يكون خبيراً بالنفوس، فالنفس تحب من أحسن إليها، وفي الأثر القدسي: (( يا داود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها))
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ((أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ))
(متفق عليه)
إذا تعفَّفت يعفَّك الله، إذا استغنيت يغنِك الله، إذا تصبَّرت يصبِّرك الله، و هنا أشعر أننا انتهينا إلى الطرف الثاني ـ الطرف الآخذ ـ قال: احتجْ إلى الرجل تكن أسيره، واستغنِ عنه تكن نظيره، وأحسن إليه تكن أميره.
و إذا أحب شخص أن يتعفَّف فالله يعفَّه، أي يغنيه من فضله، و إذا أحب أن يتصبَّر، فالله يصبِّره، و إذا أحب أن يستغني، فالله يغنيه، كذلك شخص أخذ، ما في مانع، فالأخذ مقبول.
وكان عليه الصلاة والسلام كريم النفس، يكرِّم السائل بنفسه ـ خذوا أعطوه ـ كان عليه الصلاة والسلام ينهض، ويتوجَّه نحو الفقير، ويعطيه بيده، هذا تكريم للفقير، لا يكفي أن تعطيه، و تكون آمراً الطرف الآخر أن يعطيه: أعطوا، أعطوا، بل بنفسك أعط، بيدك أعط، تحرَّك إلى الفقير، كان عليه الصلاة والسلام يُكْرِم السائل بنفسه، ولا يأنف أن يقوم إلى السائل فيعطيه الصدقة، بل كان لا يَكِلُ صدقته إلى غير نفسه حتى يكون، فهو الذي يضعها في يد السائل، معنى ذلك أن إنفاق المال بيدك فضيلة.
وروى ابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكِلُ طُهُورَهُ إِلَى أَحَدٍ وَلَا صَدَقَتَهُ الَّتِي يَتَصَدَّقُ بِهَا يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ))
فإذا جلس الإنسان مع فقير، و تناول معه الطعام فهذا تواضع من جهة و جبر لخاطر الفقير من جهة أخرى، حدَّثني أخ، سبحان الله ! يوم أن كان طفلاً صغيراً يعمل في معمل، لرجل صالح، هذا الطفل فقير، ويتيم، ولا يملك من الدنيا شيئاً، قال لي: تعطيني والدتي بطاطا مسلوقة، ورغيف خبز بمحرمة، كان صاحب المعمل كل يوم يجلس مع عاملين أو ثلاثة، يا ابني أين أكلك ؟ تعال لِتأكل معي ؟ قال له: آكل معك شرط أن تأكل معي، يضع البطاطا المسلوقة، والثاني يحضر طعاماً نفيساً، يأكل كل يوم مع عاملين أو ثلاثة لتأليف قلوبهم، يكرمه، عيديَّة، و بمبلغ إضافي، و الإنسان يسعد بالعطاء، أنا أحياناً أغبط أصحاب المعامل، عندك اثنا عشر عاملاً هؤلاء زادك إلى الله، ممكن أن تصل للجنة عن طريقهم، اخدمهم، اعتنِ بهم، تفقَّد أحوالهم، كيف أوضاعهم في البيوت ؟ يا ترى أهم متزوجون ؟ أم غير متزوجين ؟ جاءهم أولاد، أعنده حالة ولادة ؟ من الممكن لِلْإنسان أن يصل إلى الجنة عن طريق عُمَّاله، للجنة عن طريق موظفيه، للجنة عن طريق أولاده، عن طريق جيرانه، عن طريق أصحابه.
سيدنا الصديق وما أدراكم ما الصديق، " ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر"، ومع ذلك كان يحلب الشياه لجيرانه بنفسه، خدمة لهم، فلما صار خليفة، أمعقول ؟ بعد أن أصبح خليفة المسلمين يحلب الشاة للجيران، طُرق باب أحد جيرانه في صبيحة اليوم التالي لتسلُّمه الخلافة، قالت الأم لابنتها: يا بنيتي افتحي الباب. ثم قالت: من الطارق يا بنيتي ؟ قالت: جاء حالب الشاة يا أُماه، ما استأنف، ما استنكفت نفسه، ما ترفَّعت نفسه عن حلب الشاة لجيرانه !! أنت تبقى عظيماً جداً إذا خدمت الناس. قالت: يا أمي جاء حالب الشاة. سيدنا الصديق ذهب ليحلب شياه جيرانه المساكين الفقراء.
وروى ابن سعدٍ عن زياد مولى عيّاش عن أبي ربيعة قال: " خصلتان كان عليه الصلاة والسلام لا يكلهما لأحد ؛ الوضوء من الليل حين يقوم، والسائل يقوم صلى الله عليه وسلَّم حتى يعطيه بنفسه ".
وفي سنن أبي داود والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْهَوْزَنِيِّ قَالَ لَقِيتُ بِلَالًا مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَلَبَ فَقُلْتُ يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ كُنْتُ أَنَا الَّذِي أَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ـ أي أنا المتولي أمر مال رسول الله ـ مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْإِنْسَانُ مُسْلِمًا فَرَآهُ عَارِيًا يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِي لَهُ الْبُرْدَةَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ...))
كان النبي يقترض ليكسو مسلماً عارياً، أجل يقترض، والله أنا أعرف بعض المؤمنين جزاهم الله خيراً، لشدة حرصهم على العطاء، إن لم يكن معهم، وحدث أمر ضروري جداً فإنه يقترض ويعطي.
وروى الترمذي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم فسأله أن يعطيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: " ما عندي شيء ولكن ابْتَعْ عليّ ـ دين علي ـ فإذا جاءني شيءٌ قضيته "، قال عمر: " يا رسول الله قد أعطيته فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه". فالله ما كلَّفك أن تقترض وتعطي، فكره النبي صلى الله عليه وسلَّم قول عمر ـ تضايق منه ـ فقال له رجل من الأنصار: " يا رسول الله أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً "، فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم، وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري، ثم قال: " بهذا أُمرت ".
أحياناً الإنسان يضع سكاكر في جيبه، و كلَّما رأى شخصاً يعطيه سكرة، و يعطي ابنه المرافق سكرتين، العطاء لو كان قليلاً فاسمه عطاء، يورث مودة، و محبة، و سروراً، أحياناً الإنسان يعطي شيئاً قد يكون قليل القيمة لكن معناه كبير، لذلك فالمؤمن لا ينظر إلى قيمة الشيء بل ينظر إلى المعنى الذي قُدِّم هذا الشيء من أجله.
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ لَا))
(متفق عليه)
وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))
(متفق عليه)
لذلك، يتضح مما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لا يُجَارى في كرمه، ولا يُساوى بل ولا يدانى، ولقد بلغ من كرمه صلى الله عليه وسلَّم أنه كان ينفق المال مرةً للفقير والمحتاج، ومرةً في سبيل الله والجهاد، وتارةً يتألَّف به فيعطي عطاءً تعجز الملوك عنه، حتى لا يبقى عنده قوت ليلة، فيطوي جائعاً هو وأزواجه كلُّهن، وقد اخترن ذلك لمَّا خيرهن الله جلَّ جلاله، فالله عزَّ وجل خيَّر زوجات النبي بين أن يسرحهن سراحاً جميلا، وبين أن يصبرن كما يصبر النبي، والحياة ماضية، و يبقى الخير وتذهب المتاعب، وتبقى التبعة وتذهب الملذَّات.
انظروا إخواننا الكرام مهما تمتعت بالحياة، هذه المتع كلها تُنسى، وتبقى التبعات، ومهما تعبت في الحياة هذه المتاعب تنسى، ويبقى الأجر والثواب من الله عزَّ وجل.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))
(متفق عليه)
وقد علَّقت تعليقات عديدة على هذا الموضوع من أنه بإمكانك أن تجعل من مالك أداةً في تعريف الناس بالله.
تعليق آخر وأخير: والله الذي لا إله إلا هو لو أنك أنفقت المال في سبيل تليين قلوب الناس وتأليفهم، وفي سبيل ربطها بهذا الدين، والله الذي لا إله إلا هو لَزوال الكون أهون على الله من أن يجعلك فقيراً بعد هذا العطاء، الله كريم، تنفق من أجل أن تؤلِّف القلوب، من أجل أن تنهض بالنفوس، من أجل أن تُلَيِّن النفوس، وتبقى أنت فقيراً ؟! لا، ثم لا، قد ينفق الرجل مالاً و تقول له الشركة: على حسابنا، قيده على حسابنا، أحياناً ينفق الإنسان عينات للدعاية فيعطونه حساباً خاصاً لتوزيع المساطر، فإذا كانت شركة عادية، وأنت روَّجت بضاعتها حُسِمت لك هذه المبالغ، و سجلت على حساب الشركة، فكيف إذا روَّجت الحق للناس عن طريق المال ؟ هذا شيء بدهي.
* * * * *
ومن عظيم شجاعته صلى الله عليه وسلَّم قال سيدنا علي رضي الله عنه في وصف النبي:
((كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس صبراً، وأشجعهم قلباً، وأصدقهم لهجةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اعترت الصحابة المخاوف أسرع بنفسه إلى كشفها وإزالتها))
فالحقيقة أن السيطرة على قلوب الناس لها أسلوبها ؛ فهناك سيطرة ماديَّة، قد تكون أنت أقوى منهم من حيث السُلطة، أنت رئيس هذه الدائرة، هذه سلطة مادية لكن لن تستطيع أن تكون سيَّدهم حقيقةً إلا إذا تفوَّقت عليهم، فرضاً مدير مستشفى، قد يكون طبيباً عادياً، و عنده أطبَّاء كبار، في نظام هذه المستشفى هو المدير وأمره هو النافذ، وبإمكانه أن يعاقب ويكافئ، لكن هؤلاء الأطباء الكبار الذين معه هو ليس عندهم مديراً، هم أقوى منه في علمهم، وفي خبرتهم، وفي مهارتهم، أما لو تصورنا مدير المستشفى هو أعلى طبيب في المستشفى من حيث الخبرة الفنيَّة، فهو عندئذٍ حقاً مدير المستشفى فعلاً قلباً وقالباً.
فالنبي الكريم اللهم صلِّ عليه ما أحبَّه أصحابه لأنه رسول فقط، أو لأنه جاء بالقرآن، بل لأنه كان بكل الكمالات البشريَّة متفوِّقاً، فالشجاع إزاءه صغير، والكريم إزاءَه صغير، والحليم كذلك إزاءه صغير، تفوق في كل مكارم الأخلاق، فأحياناً إنسان يحضر مجلس علم، وهو مختص اختصاصاً عادياً، وتطرح في الدرس قضية في اختصاصه بسيطة، فتكلَّم الأستاذ، ولكن هذه فكرة بسيطة، وهو يرى نفسه أقوى، لكن لو أنه فرضاً ـ وهذا الشيء مستحيل الآن ـ أن هذا الداعية يتكلَّم بكل اختصاص، بشكل يبدو أنه أعلم من أصحاب الاختصاص ؟! فهم يتحجَّمون كلهم، يقول لك: هذا مثل الزبديَّة الصيني ـ مثلاً ـ فأنت لا تقدر تسيطر بالسلطة، بل تسيطر بالتفوق، فتفوق النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي جعل أصحابه يخضعون إليه، تفوق بالكمال بكل أنواعه، أحياناً تجد شخصاً له مكانة عليَّة جداً، عندما يكون في خطر تجده يرتجف، فبهذا انتهى عند مرؤوسيه، إذا رجف انتهى، فسيدنا النبي كان شجاعاً.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ))
( رواه الشيخان )
سُمعت أصوات مخيفة، لَعلَّهُ غزوٌ مفاجئ، لعلها غارة صاعقة، فهم خافوا، فخرجوا، فإذا بالنبي قد استطلع الخبر وعاد على فرسٍ عريٍّ وفي عنقه سيف وقد استطلع الخبر وقال: ((لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا))
كان اللهمَّ صلِّ عليه شجاعاً.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " ما رأيت أشجع، ولا أنجد، ولا أجود، ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا ألمَّت بهم الملمَّات وأحاطت بهم المخاوف لاذوا بجنابه الرفيع، واحتموا بحماه المنيع صلى الله عليه وسلَّم "، سبحان الله !
وقال سيدنا علي كرَّم الله وجهه: " كنا ـ أي معشر الصحابة ـ إذا حمي البأس أو اشتد البأس واحمرَّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه "، حتى في الحرب هو الأول، أقرب إنسان للعدو هو رسول الله، كان أصحاب النبي يحتمون به من بأس العدو.
بالتعبير العامي شيء يكسر العين، بالكرم كريم، بالشجاعة شجاع، بالحلم حليم، بالشدة شديد، بالعلم عالِم، بالحلم حليم قال: " ولقد رأيتني يوم بدرٍ ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلَّم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً على الأعداء ".
أما يوم حنين ـ كما تروي كتب السيرة ـ والله عزَّ وجل قال:
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
( سورة التوبة )
في يوم حنين وقد ألقى الله الرعب في قلوب الصحابة، لأنهم قالوا: " لن نغلب من قلَّة "، فاعتدّوا بقوَّتهم، فعَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ: ((يَا أَبَا عُمَارَةَ أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلَاحٌ أَوْ كَثِيرُ سِلَاحٍ فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَقَالَ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّهُمْ))
(متفق عليه)
وهذه نقطة مهمة جداً: لو كان النبي يدعي النبوة لكان في حنين ولَّى هارباً، أما لأنه نبيٌ صادق، و هو واثق من نصر الله له فهو ثابت في أرض المعركة، أحياناً الإنسان يتكلَّم كلاماً هو ليس قانعاً به، أما إذا صار على المِحَك.. لو فرضنا مثلاً صنع دواء غير واثق من فعاليته، وغير واثق من سلامته، وأراد أن يبيعه للناس، وروَّجه، و قال له واحد: استعمله أنت. فإذا رفض، فمعنى ذلك أنه غير واثق به، استعمله أنت، فعندما أقدم النبي اللهم صلِّ عليه والموت محقق، لولا أنه نبيٌ صادق لما أقدم، و لولى هارباً، قال: " أنا النبي لا كذب ـ أي ليست نبوتي كذباً ـ أنا ابن عبد المطلب ".
وروى البيهقي في الدلائل عن عروة بن الزبير
أن أُبَيَّ بن خلف المشرك قال يوم أحد: أين محمد لا نجوت إن نجا ". قال: " وقد كان أبيّ يقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم حين افتدى يوم بدر: " عندي فرسٌ أعلفها كل يومٍ فرقاً ـ أي مكيالاً كبيراً ـ من ذرةٍ لأقتلك عليها"، فقال عليه الصلاة والسلام: " أنا أقتلك إن شاء الله " ـ هذه الثقة ـ فلما رأى أبيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم يوم أحد، شدَّ أبي بن خلف على فرسه، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فاعترضه رجالٌ من المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام هكذا: " تنحوا ولا تحولوا بيني وبين أبيّ بن خلف "، وتناول النبي الحربة من الحارث بن الصمَّة الصحابي، فانتفض النبي بها انتفاضةً ـ أي قام بالحربة قومةً سريعةً ـ تطايروا، أي أبيّ بن خلف ومن معه من الكفار، تفرقوا فارِّين بسرعة كالطيور، ثم استقبل النبي أبيّ بن خلف بالحربة، فطعنه في عنقه طعنةً تدأدأ ـ أي سقط ـ منها عن فرسه مراراً. وقيل: بل كُسر ضلعٌ من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف إلى قريش وهو يقول: " قتلني محمد "، وهم يقولون: " لا بأس بك " فقال لهم: " لو كان ما بي من الألم والشدة لجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق علي لقتلني".
ثم مات أبي بن خلف بشرفٍ في قفولهم إلى مكة، أي حين رجعوا إلى مكة. ما أشقى هذا الإنسان الذي أراد أن يقتل النبي، قال له: " أنا أقتلك إن شاء الله "، و قال أبيّ: " لو بصق عليَّ لقتلني ".
أيها الإخوة... تحدَّثنا اليوم عن الشجاعة والكرم، والمؤمن كريم وشجاع اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، كريم لأنه يعلم علم اليقين أن أي شيءٍ ينفقه يخلفه الله عليه، وشجاع لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر كلَّه بيد الله، وأن الله مع المؤمنين، وهذه الثقة التي يثق بها المؤمن بربه هي أثمن ما في إيمانه، الثقة بالله عزَّ وجل، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((والثقة كنز))
وفي درسٍ قادم ننتقل إلى صبره صلى الله عليه وسلَّم على أذى المشركين، وتحمُّله الشدائد في سبيل الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين



 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:40 AM   #14


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الرابع العاشر )

الموضوع : صبرة على اذى المشركين - عدلة







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... مع الدرس الرابع عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى صبره صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين.
أيها الإخوة الكرام... لأن الله سبحانه وتعالى شاء أن تكون الدنيا دار ابتلاء، حيث قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
( سورة الملك )
ولقوله تعالى:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
( سورة المؤمنون )
ولقوله تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
( سورة العنكبوت )
لأن مشيئة الله جلَّ جلاله شاءت أن تكون الدنيا دار ابتلاء، لذلك لا بدَّ أن يمتحن الإنسان فيما يكره، لا فيما يحب، أنت إذا سبحت في نهرٍ، وقد اتجهت مع حركة النهر، ترى يسراً وراحةً في الحركة، لكنك إذا أردت أن تسبح على عكس اتجاه النهر تحتاج إلى جهد كبير، فإذا كان الهدف على عكس اتجاه التيار، وكنت صادقاً في الوصول إلى هذا الهدف، تأخذ الطريق المعاكس لاتجاه النهر، عندها تبذل جهداً كبيراً.
أردت من هذه المقدمة ومن هذا المثل، أنك إذا أردت الآخرة، لو أن الآخرة كانت مُيَسَّرةً مع الدنيا، مع الشهوات، مع المصالح، لا يتضح من هو الصادق ولا من هو الكاذب، ولكن حينما تكون الآخرة، أو حينما تتعارض الآخرة مع مصالح الدنيا عندئذٍ يظهر الصادق، ويظهر المخلص، ويمتحن الإنسان.
إذاً لن يصل الإنسان إلى الجنة إلا إذا امتحن، والامتحان ليس فيما يحبه الإنسان، في الأعم الأغلب فيما لا يحبه، الإمام الشافعي سُئل: نسأل الله التمكين أم الابتلاء، فقال رضي الله عنه: " لن تمكن قبل أن تبتلى".
الآن النبي عليه الصلاة والسلام لو أن حياته كانت محفوفةً بالمسرَّات، لو أن الله سبحانه وتعالى ما خلق له أعداءً، ولا كفاراً، ولا من عارضه، لو أنه لم يهاجر إلى المدينة، لم يذهب إلى الطائف، لم يأتمر عليه كفار قريش، وسارت الدعوة هكذا بيُسر، فأين الامتحان ؟ كيف يكون النبي قدوةً لمن بعده من الدعاة إلى الله عز وجل ؟ لذلك حياة النبي كانت قدوةً، وكانت مثلاً، وكانت أسوةً، فلا بدَّ من أن يسير النبي في طريقٍ صعب، ليكون قدوةً لمن بعدَه، ولأن أساس الامتحان يقتضي ذلك، فلذلك قال تعالى:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾
( سورة الأحقاف: من آية " 35 " )
أي أنك كمؤمن نحن جميعاً نسأل الله العافية، نسأل الله التوفيق، نسأل الله البَحبوحة، اليُسر، الصحة، ولكن يجب أن توطِّن نفسك على أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يمتحنك، فلابدَّ أن تهيِّئ نفسك لهذا الامتحان، إذا أردت أن تمتحن مركبة، هل تمتحنها في الطريق النازلة أن في الطريق الصاعدة ؟ لا شك أنك تمتحنها في الطريق الصاعدة.
روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ))
إذا خاف الإنسان، وكان في ظرف عصيب وخاف، والخوف من طبيعة البشر، فله في النبي عليه الصلاة والسلام أسوة، النبي خاف، فخرج منها خائفاً، أن تخاف من قويٍ، ظالمٍ، غاشمٍ، ليس هذا ضعفاً فيك، ولا نقصاً فيك، كمالك، النبي عليه الصلاة والسلام وهو رسول الله، وهو نبي الله، وهو المكرَّم عند الله، وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق، أصابه خوف، العبرة أن تكون في طاعة الله، أما إذا خفت لا يوجد مانع، تمتحن، وقد تنجح، وقد ترقى، فالإنسان ينبغي أن يحرص على شيءٍ واحد، ينبغي أن يحرص على أن يجده الله حيث أمره وأن يفتقده حيث نهاه، هذا الذي ينبغي أن تحرص عليه، أما أن تخاف، إذا خفت فهذا لا يقدح في مكانتك، ولا في كمالك، أما أن تفتقر، النبي كان أحياناً يدخل بيته ولا يجد طعاما، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: (( دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ))
( مسلم)
أن تفتقر ليس هذا عيباً، أن تخاف ليس هذا عيباً، أن تؤذى ليس هذا عيباً، لك في النبي عليه الصلاة والسلام أسوةٌ حسنة، ((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ))
أما إذا هرب الإنسان بضاعة وخاف، فهل هذه في الله ؟ لا ليست في الله، لأنه مهَرِّب، هذا الخوف لا علاقة له بالدين، إذا الإنسان خالف النظام، خالف القوانين، والعقاب شديد جداً، وخاف، فهذا خوفٌ متعلقٌ بالدنيا، نتحدث نحن هنا عن الخوف في الله، ((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ))
أي لأنك مؤمنٌ تخاف، لأنك تقيم أمر الله تخاف، أحياناً يكون هذا.
﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾
( سورة البروج )
((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ))
( الترمذي وأحمد)
النبي عليه الصلاة والسلام يبيِّن ما أصابه من خوف، وما أصابه من أذى. على كلٍ بونٌ شاسع بين المسلمين المتأخِّرين، وبين المسلمين السابقين، المسلمون السابقون حملوا الإسلام، وفتحوا البلاد، ووضعوا أرواحهم على أكُفِّهم، وتحملوا من الشدائد ما لا يتحمَّله أحد، والمسلمون اللاحقون المتأخرون أخذوا هذا الإسلام جاهزاً، أخذوه مُيَسَّراً، كل شيء الآن ميسر ؛ المساجد مفتوحة، دروس العلم قائمة، لك أن تقرأ القرآن، المصاحف ميسَّرة، الأشرطة ميسرة، فالأمور اختلفت اختلاف كبير جداً، فلذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))
(متفق عليه)
لأنهم حملوا الإسلام، وفتحوا البلاد، وجاهدوا، وقتلوا، وعذبوا، وأخرجوا من ديارهم.
لكن والله الذي لا إله إلا هو لو يعلم الإنسان المشاعر أو السكينة التي ينزلها الله على قلب المُبتلى في سبيل الله، فإذا أنت كلفت إنسان تكليف يتحمل مشقة كبيرة، لو قلت له: ضع عندك هذه الحاج، وكتب من أجلها ضبط تموين، في أمامه محاكمة، أنت تحار كيف تكرمه، كيف تكافئه على عمله ـ مثلاً ـ لكن عندما ربنا عز وجل يكلف إنسان بطاعته، وهذا الإنسان يعيش في مجتمع قاسٍ، ويدفع ثمن طاعته باهظاً، هذا لا يعلم أحدٌ إلا الله كم ينتظره من جزاءٍ من الله تعالى.
((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ))
( الترمذي وأحمد)
أذىً، على خوف، على جوع، من هو ؟ سيد الخلق وحبيب الحق، وأنت لست مكلف بشيء، مكلف أن تحضر درس علم، مكلف تطبق الإسلام في بيتك، في عملك، لكنك لست مكلفًا أن تبذل جهدًا كبيرًا، وتضحي بمستقبلك، وتضحي بسلامتك، وتضحي بأهلك.
وقد روى الإمام الطبراني عن الحارث بن الحارث قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة ؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئٍ لهم... "
نحن الآن إذا ذكرنا النبي عليه الصلاة والسلام نصلي عليه، ونعظمه، ونبجِّله، ونوقِّره، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء بالدعوة عومل معاملة قاسية، قال: " يا أبتِ ما هذه الجماعة ؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئٍ لهم، قال: فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل ".
إخواننا الدعاة الآن يتكلم أمامهم إخوة مؤمنون، طيبون، محبون، مشتاقون، متأدِّبون، مجتمعون، القضية سهلة جداً، أما أنت الآن اجلس مع إنسان مُلحد، ذكي، وقح، متعجرف، متكبِّر، وتفضَّل ناقشه، والله نحت الجبل بإبرة أهون، كما قال الإمام عليه مرةً: " والله واللهِ مرتين لحفر بئرين بإبرتين، وكنس يوم الحجاز في يوم عاصفٍ بريشتين، ونقل بحرين ذاخرين إلى أرض الحجاز بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون علي من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين ".
فنحن نجلس مع إخواننا فالقضية سهلة، في محبة، في مودة، وفي قواسم مشتركة، إذا قلت له: قال الله تعالى، يقول لك: جلَّ جلاله، وإذا قلت: قال عليه الصلاة والسلام. يصلي عليه معك، قضية سهلة جداً، أما اجلس مع إنسان مُلحد، مُنكر، متكبِّر، متعجرف، وقح، غير مؤدب، وناقشه، والله أصعب من نحت الصخر.
قال: " فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل، والإيمان، وهم يردون عليه ويؤذونه... "، إذا تعوَّد الرجل على الإكرام، وشخص ناداه باسمه المفرد، يشعر في داخله بالإهانة، طيب إذا ناداه بالمفرد لا بالجمع، يرى حاله مهينًا، إذا أمسكه من يد وجذبه رأى نفسه صغيرًا، فالنبي الكريم سيد الخلق وحبيب الحق قال
(( يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان، وهم يردون عليه ويؤذونه، حتى انتصف النهار، وانصدع الناس عنه، فأقبلت امرأةٌ وهي تحمل قدحاً ومنديلاً، فتناوله صلى الله عليه وسلم، فشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه فقال: يا بُنيتي خَمِّري عليك، أي غطي، ولا تخافي على أبيكِ قلنا: من هذه ؟ قالوا: هذه زينب بنته صلى الله عليه وسلم ))
ابنته تأتي تمسح عنه العناء، تخفف عنه، تصور المشقة التي تحمَّلها، نحن ماذا فعلنا من أجل الدين ؟ ماذا تحمَّلنا من أجل الإسلام ؟ ماذا بذلنا ؟ لو تمحورنا حول مصالحنا، وحول بيوتنا، وحول أقواتنا، وحول دخلنا، وحول تجارتنا، فلم نعبأ ببقية المسلمين، ولم نعبأ بنشر الدعوة ولم نعبأ بإنصاف المظلوم، ولم نعبأ بمساعدة الفقير، ولم نهتم إلا بأنفسنا، فيكف يتجلى الله علينا ؟ كيف يحبنا ؟ كيف يرفعنا ؟ كيف ينصرنا ؟ كيف يؤيدنا ؟
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قُلْتُ لَهُ:
((مَا أَكْثَرَ - الحقيقة ما أكثرُ، إذا قلت: ما أكثرُ، فما استفهامية، أما ما أكثرَ أصبح التركيب تعجبيًا - مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ قَالَ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِدًا فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ قَالَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ قَالَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ))
(أحمد)
إذا كان للإنسان كلمات وهو يمشي في الطريق، ورفع طفل صغير صوته، وقلَّده بهذه الكلمات، ألا يشعر أنه خدش، أنه جرح.
أنتم تتطاولون، تسخرون، تكفرون، تستهزؤون، لكم مصيرٌ صعب "
((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ))
ـ أي القتل ـ فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجلٌ إلا على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم فيه بإيذائه تكلَّم كلاماً حسناً، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً ".
يبدو أنهم بالغوا بإيذائه، أول مرة، وثاني مرة، والثالثة، في الثالثة اللهم صلي عليه غضب، ورأى في تطاولهم هلاكاً لهم فقال:
((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ))
فمن كان أشد الناس عداوةً أصبح أشدهم ليناً، قال: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً، وهذه كما قال سيدنا جعفر: " حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه وعفافه، ونسبه ".
فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم قبل البعثة وبعد البعثة، السبب لو أن الله سبحانه وتعالى عصمه بعد البعثة، وله أخطاء قبل البعثة، ثم جاء بهذه الدعوة، لا هم لخصومه إلا أن يعيِّروه بأخطائه التي كانت قبل البعثة، لكن الأنبياء باتفاق علماء التوحيد والعقيدة معصومون قبل النبوة وبعدها، إذا جاء النبي برسالة، خصوم الدين مهما نقَّبوا في سيرته ـ الآن أحياناً يكون رئيس دولة بالدول الغربية، له خصوم، ينقبوا في تاريخه السابق، له علاقة مع فتاة ينشروها بالصحف، له قضية مالية، له ملف خاص، هكذا يفعلون ـ لكن النبي عليه لصلاة والسلام لو أنه لم يكن معصوماً قبل البعثة، ثم جاء بهذا الدين الذي عاب فيه آلهتهم، وعاب فيه عقيدتهم، ما كان له من همٍ إلا أن ينقبوا في ماضيه عن أخطائه مهما دقَّت، فيكبروها، ويشهروا بها لينالوا منه، ولكنهم مهما نقبوا في سيرته قبل النبوة لا يجدون إلا كمالاً، وعفةً، وأمانةً، واستقامةً، وخلقاً حسناً.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغدو اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعضٍ: " ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا جاهركم محمد بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجلٍ واحد، فأطافوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لمَ كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم أنا الذي أقول كذا وكذا ".
أحياناً الإنسان من ضعاف الإيمان يتكلم كلمة الحق، فإذا حوسب تجده يقول: لا أنا ما قلت هذا الكلام. لماذا التراجع، الحق حق، والباطل باطل، الحق لا يستحيا منه، الحق لا يخضع للبحث، لا يحتمل المداهنة، قال: نعم أنا الذي أقول ذلك، والله عز وجل قال:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
( سورة القلم )
إذا المؤمن على حساب دينه تكلم كلام لا يرضي الله انتهى.
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)﴾
( سورة الأحزاب )
لو أن المؤمن أو الداعية خشي غير الله، فسكت عن الحق إرضاءً لهذا الذي خشي منه، أو تكلم بالباطل إرضاءً لهذا الذي خشي منه، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهى، وسقط، وأصبح في مزبلة التاريخ.
فيقول عليه الصلاة والسلام: " نعم أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه صلى الله عليه وسلم، وقام أبو بكرٍ رضي الله عنه دونه يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله ؟! ـ فالأمر وصل إلى الشادة، أمسكه رجل بمجامع ثوبه، فقام أبو بكر يدافع عنه بكل طاقته ثم انصرفوا عنه قال: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط ". هذا الموقف، فهو أصعب موقف مر به النبي عليه الصلاة والسلام.
ولقد مات عمه صلى الله عليه وسلم ـ أبو طالب ـ وحينما مات عمه أبو طالب اشتد إيذاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقابلوه بأنواع العداوة والشدائد، فتوجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، لعل ثقيفاً يقومون له ردءاً، وعوناً، وأنصاراً على قومه في مكة، لكنه خاب ظنه، وكان بالتجائه إليهم كما يقول المثل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإذا بهم يقابلونه أسوأ مقابلة، ويردون عليه أقبح رد، وإنما قصدهم لأنهم كانوا أخواله، ولم يكن بينه وبينهم عداوة، ومع ذلك بالغوا في الكفر، وبالغوا في السخرية، وبالغوا في الإيذاء، وقد جاءهم مشياً بعد أن كفرت قريش برسالته.
روى الشيخان أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))
أحياناً الله عز وجل يكرم إنسان، يعطيه، يرفع شأنه، يرفع ذكره، يجعل كلامه مقبول، يلقي محبَّته في قلوب الناس، لكن لا تعلم ماذا تحمَّل هذا الإنسان من شدائد، وماذا صبر، وكم صبر على ملمَّات إرضاءً لله عز وجل، فالله عز وجل الميزان عنده دقيق جداً، الله يقدِّر الليل والنهار، البذل، التضيحة، الصبر، تحمل الأذى، تحمل المكاره، تحمل المعارضة، تحمل الفتن، هذا كله عند الله حسابٌ جزيل.
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت::
((هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ))
وحده شريدًا، طريدًا، كفر به، ردت دعوته، سُخِرَ منه، الآن إذا الإنسان له مستوى ثقافي معين، وكان جالس إلى جانبه أقل بكثير، دهماء، لا يطاق هذا جاهل، الله عز وجل أرسل أكمل الخلق، أعلم الخلق لأناس جهلة، لأناس كفرة، مشركون، غلاظ، فظاظ، الأخلاق قاسية جداً، أصعب.
قال:
((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: ـ طبعاً هنا النبي الكريم يشير إلى الطائف، حينما عرض نفسه على أهل الطائف، وكذبوه، وردوا دعوته، وبالغوا في إيذائه، وأغروا به صبيانهم ـ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))
وللقصة روايةٌ أخرى رواها أبو نعيم في الدلائل، عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: " ومات أبو طالب، وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدةً، فعمد إلى ثقيفٍ يرجو أن يؤوه وينصروه، فوجد ثلاثة نفرٍ منهم سادة ثقيف، وهم إخوةٌ، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه ـ الآن اسمعوا ـ فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيءٍ قط ـ أي أنت كذاب ـ وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمةً واحدةً أبداً، لإن كنت رسولاً لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أكلمك، وقال الآخر: أيعجز الله أن يرسل غيرك ـ لم يجد غيرك لأن يبعثه ؟! هذا الرد، هذا رد أهل الطائف على دعوة النبي ـ وأفشوا ذلك في ثقيف ـ ما كتموا هذا الخبر، مجيء النبي وعرض نفسه عليهم، أشاعوه في ثقيف ـ واجتمعوا يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعدوا له على صفين على طريقه، فأخذوا بأيدهم حجارةً، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة، وهم في ذلك يستهزؤون ويسخرون، فلما خلص من صفَّيهم وقدماه تسيلان بالدماء، عمد صلى الله عليه وسلم إلى حائطٍ من كرومهم، فأتى ظل حبلةٍ من الكَرم، فجلس في أصلها مكروباً موجعاً تسيل قدماه بالدماء ".
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، أنه لما توفي أبو طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشياً إلى الطائف فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرةٍ من عنبٍ فصلى ركعتين وقال:
((اللهم إن أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين، إلى من تكلني، إلى عدوٍ بعيدٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملَّكته أمري ))
وفي روايةٍ: ((إن لم يكن سخطٌ ))
وفي روايةٍ: ((إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات والأرض، وأشرقت له الظُلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو أن يحل بي سخطك وفي روايةٍ: أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل علي سخطك ـ ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))

فالمصائب تأتي على الإنسان أحياناً فتضعضع الحب، المصائب تضعضع الثقة، هل هناك من مصيبةٍ أبلغ من هذه المصيبة ؟ هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام، أليس لنا به أسوةٌ حسنة، أقول لكم: ليسأل الإنسان نفسه ماذا قدمت لهذا الدين ؟ الأمور ميسَّرة جداً، قدمت شيء من مالك ؟ قدمت شيء من علمك ؟ قدمت شيء من وقتك ؟ دعيت إلى الله عز وجل ؟ ماذا قدمت ؟
يوم القيامة إذا وقف الخلائق أمام الله عز وجل، كل إنسان معه عمل طيب، معه عمل جليل، معه عمل نفيس، فألا يخجل الإنسان أن لا يكون له عمل، ماذا عملت ؟ أنا أرجو الله سبحانه وتعالى أن تسأل نفسك كل يوم هذا السؤال: ماذا سأقدم من عملٍ إلى الله عز وجل حينما ألقاه.
أيها الإخوة الكرام... هذه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها مختارة على محورٍ واحد ؛ محور صبره صلى الله عليه وسلم، فأحياناً الإنسان يكون دخله قليل، قد يكون زوجته، قد يكون بيته صغير، قد يكون في متاعب بعمله، متاعب بصحته، متاعب مع أولاده، لو وازن هذه المصائب التي يراها كبيرةً كبيرة، مع ما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام من مصائب ليست بشيء، وكل شيء بثمنه، فالمؤمن الكامل يوطِّن نفسه على الابتلاء.
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ))
( الترمذي، ابن ماجه)
والمؤمن لابد من مرحلةٍ يعالج بها، ولابد من مرحلةٍ يبتلى بها، ولابد من مرحلةٍ مديدة يكرَّم بها، أنت بين ابتلاءٍ ومعالجةٍ وتكريم.
* * * * *
وننتقل إلى عدله صلى الله عليه وسلم
كان عليه الصلاة والسلام أعدل خلق الله تعالى في حقوق الله تعالى، وفي حقوق عباد الله تعالى، قوَّاماً بالقسط، أكثر الناس، يموت الأب، الأولاد الأقوياء يأخذون كل الميراث، البنات ليس لهم شيء، متزوجة، ساكنة مع زوجها، اغتصاب، فليس هناك وقوف عند الحقوق، يصلي، وعليه حقوق، يصوم، وعليه ذمم، يحج، ويغتصب محل تجاري، عمل على شريكه مقلب جعله بالخارج، فمثل هذه النماذج لا قيمة لها عند الله، لا قيمة لها عند الله أبداً ما لم تؤدي الحقوق، أداء الحقوق مقدمٌ على كل أنواع العبادات، لا الحج مقبول.
فالنبي الكريم هل هناك أبلغ ممن استشهاد في سبيل الله ؟ فهذا أعلى عمل على الإطلاق، ما قدم ماله، قدم روحه، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يسأل أهل الشهيد: أعَليه دين ؟ فإن قالوا: عليه دين، لا يصلي عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلا الدَّيْنَ))
( من صحيح مسلم: عن " عمرو بن العاص " )
شهيد لكن كل شيء بحسابه، إخواننا الكرام حقوق العباد مبنيةٌ على المشاححة، وحقوق الله مبنيةٌ على المسامحة.
" فترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام "
فالبطولة أن تؤدي الحقوق.
كان عليه الصلاة والسلام أعدل خلق الله تعالى في حقوق الله تعالى، وفي حقوق عباد الله تعالى، قوَّاماً بالقسط، منتصراً للحق، حيث كان الحق، مع القوي أو مع الضعيف، مع الغني أو مع الفقير، فالناس من ضعف نفوسهم يجاملوا الغني، إذا احتكم لك غني وفقير، وأنت لا تشعر مع الغني، حكمنا لك ـ أعوذ بالله ـ مع القوي والضعيف، مع القوي مع الغني دائماً، هو كان مع الحق مع القوي أو مع الضعيف، مع الغني أو مع الفقير، فهو كان مع الحق، مع القوي أو مع الضعيف، مع الغني أو مع الفقير، مع الكبير أو مع الصغير، مع الرجل أو مع المرأة، أهل الفتاة مع ابنتهم، ابنتهم على حق دائماً، ولا يتنازل الأب يسأل الصهر: ماذا فعلت معك ابنتي ؟ يأخذ من ابنته الكلام وانتهى الأمر، أخذ من ابنته كل شيء، انحياز أعمى، ظلم، عدل ساعةٍ أفضل عند الله من أن تعبد الله ثمانين عاماً، عدل ساعة، أن تعدل بين ابنتك وزوجها، الحق على ابنتك، قل لها: الحق عليكِ. محاباة، أهل الزوج مع ابنهم ولو كان وحشًا، وأهل الزوجة مع ابنتهم ولو كانت ابنتهم ماكرة وخادعة.
مع القوي أو الضعيف، مع الغني أو الفقير، مع الكبير أو الصغير، مع الرجل أو المرأة، مع الحُر أو العبد.
روى الشيخان واللفظ للبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
((أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))
المجتمع الراقي المبادئ كبيرة جداً، والأشخاص صغيرون جداً، المجتمع المتخلف المبادئ صغيرة والأشخاص كبيرون، أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله ـ لا أعرف ـ فلما كان العشي قام صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، وحسنت توبتها بعد ذلك، وتزوجت، وقالت عائشة عنها: أنها كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
هذا مجتمع العدل، لا يوجد فيه تفاوف، بدأ بابنته صلى الله عليه وسلم،
((وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))
يقولون عن قاضٍ طرق بابه، فسأل غلامه: من الطارق ؟ قال رجلٌ قدم لك هذا الطبق من الرطب، وكان هذا القاضي معروفاً في المدينة بحبه للرطب في بواكيرها، فقال القاضي لغلامه: صف لي هذا الرجل، وصفه له، فعرف هذا القاضي أن هذا الرجل أحد الخصوم عنده، فرد له الطبق، ولم يأخذه منه، بعد حين رفع إلى الخليفة طلباً بإعفائه من منصبه، فقل الخليفة له: لماذا ؟ قال والله جاءني متخاصمان، بعث إلي أحدهما بطبقٍ من الرطب في بواكيره، فرددته، في اليوم التالي وأنا أفصل بينهما تمنَّيت أن يكون الحق مع الذي قدَّم لي هذا الطبق، هذا مع أني رفضته، فكيف لو قبلته ؟ الطبق رفضه، وتمنى أن يكون الحق مع الذي قدَّم طبق الرطب، قال: فكيف لو قبلته ؟ هكذا النزاهة.
وقد روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ
((أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا فَقَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أي سألت ابن أبي حدرد عن حاله ـ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ هَا دُونَكَ هَذَا بِبُرْدٍ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ))
كيف كان الحق عظيم ؟! يهودي اشتكى على مسلم له عليه أربعة دراهم، فالنبي قال له: ادفع له حقها، أول مرة والثانية والثالثة، ما كان من هذا الصحابي إلا أن لف نفسه بعمامته وباع ثوبه، ودفع لليهودي حقه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
((كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا فَقَالَ لَهُمْ اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَقَالُوا إِنَّا لَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا هُوَ خَيْرٌ مِنْ سِنِّهِ قَالَ فَاشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَوْ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً))
(متفق عليه)
أي أن الله سمح له أن يغلظ له بالقول، ليظهر كمال النبي، ليظهر حلمه، ليظهر عدله ـ حتى هَمَّ به بعض القوم ـ إذا كان الصحابة الكرام مع رسول الله، وواحد تكلم كلمة يمكن يطلعون بروحه من شدة حبهم لهم ـ وكان أعرابياً، فقال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالً ـ اسمع منه، واحد مظلوم، واحد مقهور، واحد فقير له حاجة، اسمع منه، قال: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ـ ثم قال: أعطوه فطلبوا سنَّه ـ أي الناقة التي في السن التي دفعها للنبي ـ فلم يجدوا إلا سناً فوقها ـ أي أحسن منها ـ فقال عليه الصلاة والسلام: أعطوه، فقال الرجل أوفيتني أوفاك الله تعالى. فقال عليه الصلاة والسلام: (( فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ، أَوْ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً))
أيضاً هذه القصة وقف فيها النبي الموقف الكامل، الأعرابي كان فظاً، غليظاً، تجاوز حده، لكن لقي في صدر النبي السعة والحلم، وكان النبي حريصاً على أداء الحق وزيادة، أعطوه ناقةً في سنٍ فوق السن التي أخذها منه النبي.
وكان صلى الله عليه وسلم يتحاكم إليه قبل البعثة أيضاً الخصوم، لمَ عرفوا من عدله وأمانته، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: " كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام ".
وروى ابن أبي شيبة عن أبي رافعٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "

((والله إني لأمينٌ في السماء، أمين في الأرض))
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ((أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ قَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ))
( مسلم)
وسوف ننتقل في درسٍ قادم إن شاء الله تعالى إلى رحمته صلى الله عليه وسلم.
أرجو الله أن يكون واضحاً عندكم أن هذه الأخلاق، اليوم درسنا في العدل وفي الصبر، فلا تنحز لأحد، لا تنحز لابنتك، لا تنحز لابنك، لا تنحز لشريكك، كن مع الحق، هذه بطولتك، لعل شريك على خطأ، انصره ظالماً بالأخذ على يده، لعل ابنك مخطئ، انصره بالأخذ على يده، لعل ابنتك مخطئة، انصرها بالأخذ على يدها، هذا الإيمان، أما المحاباة، والتعصب، والانحياز الأعمى هذا يسقط الإنسان ولا يرفعه.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 08:42 AM   #15


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الخامس العاشر )

الموضوع : رحمته بالمؤمنين - بالمنافقين - بالكفار - بالصبية - بالأولاد







الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... مع الدرس الخامس عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد وصلنا في الدرس السابق إلى رحمته صلى الله عليه وسلَّم، قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
( سورة الأنبياء )
الرحمة أيها الإخوة كلمةٌ جامعةً لكل الخير ؛ المادي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، كل أنواع الخير المادي، والمعنوي، الدنيوي، والأخروي مجموعٌ في كلمة الرحمن، فقد قال الله عزَّ وجل:
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
( سورة هود: من آية " 119 " )
ينبغي أن تعتقد ـ وهذا جزءٌ من العقيدة الصحيحة ـ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، فإذا رأيت إنساناً معذَّباً فهذه حالةٌ طارئة، حالةٌ استثنائيَّة اقتضت المُعالجة، فالأصل أن الإنسان خُلِق ليُرحم، أما إذا شذَّ عن الطريق، واستوجب العقاب، يأتي العقاب لا انتقاماً، ولا تشفياً، ولكن يأتي العقاب إصلاحاً وحملاً له على التوبة، أما أن يقول الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
( سورة الأنبياء )
أي أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم لجميع العالمين، والعالمين جمع عالَم، أرسله رحمةً للمؤمنين، ورحمةً للكافرين، ورحمةً للمنافقين، ورحمةً لجميع بني الناس، ورحمةً للرجال، والنساء، والصبيان، والطير، والحيوان، فهو رحمةٌ مهداة، ونعمةٌ مزجاة كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلَّم.
أيها الإخوة الكرام... هذا كلامٌ دقيق وخطير، وله أبعادٌ إن فهمناها حق الفهم ربَّما تركت أثراً واضحاً في حياتنا، أما رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالمؤمنين فبهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وباهتمامه لما يُصلح أمرهم في الدنيا والآخرة، وتحذيره إيَّاهم مما يفسد عليهم دنياهم وأخراهم، هذه رحمته بالمؤمنين، قال تعالى:
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
( سورة التوبة )
وقد فرَّق العلماء بين الرأفة والرحمة، والفرق هو أن الرأفة تمنع ما يؤذي، لكن الرحمة تجلب ما ينفع، فهو صلى الله عليه وسلَّم..
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
رأفته تقتضي أن يحذِّرهم من كل ما يؤذيهم في دنياهم وأخراهم، ورحمته تقتضي أن يجلب لهم الخير في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام... الآن دخلنا في موضوع دقيق، الله جلَّ جلاله يقول:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
كيف نفسِّر هذه الآية ؟ النبي صلى الله عليه وسلَّم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، هذه الآية تعني أنه مهما تصوَّرت، ومهما توهَّمت، ومهما تخيَّلت، بل ومهما اعتقدت، ومهما تيقَّنت أن صالحك في هذا الطريق، أو في هذا الجانب، ورأيت حديث رسول الله ينهاك عن هذا الطريق، ويأمرك بهذا الطريق، هو أولى بك من نفسه، إن طبقت أمره، وطبقت سُنَّته عاد عليك الخير كله، مهما حاولت أن تفكر، وأن تتفنَّن في تشعيب الأمور، ورأيت مصلحتك في ترك السُنَّة، إن مصلحتك كل مصلحتك، إن فوزك كل الفوز، والتفوُّق كل التفوق، والفلاح كل الفلاح في تطبيق السنة.
طبعاً هذا قد يكتشفه الإنسان بعد فوات الأوان، أما إذا عرفه وهو شاب، أي بماذا أمرنا النبي ؟ عن أي شيءٍ نهانا عنه ؟ لا تعتقد أن تكون مصلحتك بخلاف أمره ونهيه، لا تعتقد أن أمره يقيِّد من حريتك، ولكنه يضمن سلامتك، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
قد ترى الخير الدنيوي في هذا العمل، في سلوك هذا الطريق، في التعاون مع هذه الفئة، في التقرُّب من هذا الإنسان، وقد ترى أن النبي ينهاك عن هذا، وأنت قد ترى أن مصلحتك هنا، أما النبي يأمرك أن تفعل كذا، يجب أن تعتقد أن كل شيءٍ أمرك به النبي عليه الصلاة والسلام، وأن كل شيءٍ نهاك عنه النبي عليه الصلاة والسلام هو لك، ولصالحك، ولرقيك، ولسعادتك في الدنيا والآخرة، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
فهل هناك من إنسان أحرص على ذاته من نفسه ؟ هل هناك من إنسان أحرص على سلامة وجوده من ذات الإنسان ؟ على استمرار وجوده، على سلامة وجوده، على كمال وجوده، على بقاء وجوده، لو قرأت سُنة رسول الله القولية والعملية، واتبعت سُنته القولية، وتأسيت بسُنته العمليَّة، لوجدت أن كلمته هي وحدها ولا شيء سواها يحقق لك سعادة الدنيا والآخرة.
لكن حتى يكون الكلام واضحاً الحياة فيها امتحانات، لولا أنه يبدو لك أن خيرك في مخالفة السنة لما كان لك أجرٌ في اتباع السُنة، لولا أنه يبدو لك للنظرة الأولى أن الخير في هذا الطريق والنبي نهاك عنه، ما كان لك من أجرٍ ولا ترقى باتباعك السُنة، شيء طبيعي جداً أن تختلف الظواهر مع الحقائق، لو أنها تطابقت لأُلغيت العبادة.
فمثلاً لو أن الكسب الحلال سهلٌ جداً، وأن الكسب الحرام صعبٌ جداً، لأقبل جميع الناس على الحلال لا حباً في الله، ولا طمعاً برحمته، ولا تقرُّباً إليه، ولا تمنِّياً لدخول جنَّته بل لأنه سهل، معنى ذلك أن العبادة أُلغيت، لكن شاءت حكمة الله أن يجعل الحلال صعباً والحرام سهلاً، هنا الامتحان، لولا أن الظاهر يتناقض بعض الشيء مع الحقيقة، الظاهر، لما كان من عبادة، ولما كان من رقي، لذلك الإنسان العاقل ما الذي يرفع قدره عند الله ؟ إنه يسارع إلى تطبيق أمر رسوله من دون أن يجري محاكمةً حول الخسائر والأرباح، شأن المؤمن..
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 36 " )
أنت تختار هذا البيت أو هذا البيت، هذه الفتاة أو هذه الفتاة للزواج، أن تسافر أو أن تقيم، أم أن تخيِّر نفسك بين أمرٍ، وأن تأتمر، أو لا تأتمر، عندئذٍ لست مؤمناً..
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 36 " )
أي أن شأن المؤمن إذا دعي إلى تنفيذ أمر الله يقول: سمعنا وأطعنا، لعلمه أن هذا الأمر فيه كل الخير، وفيه كل السعادة، أضرب لكم مثلاً، أو أوضِّح لكم هذه الحقيقة من خلال آيتين، الله عزَّ وجل قال:
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
( سورة البقرة:من آية " 5 " )
على تفيد العُلو، أي أن هذا الهدى الذي في حقيقته كلُّه قيود، فحياة الكافر تفلُّت كامل، ما في عنده شيء حرام أبداً، ما في شيء ممنوع، ما في شيء ما يصير، يأكل ما يشاء، يذهب إلى أي مكانٍ يشاء، يلتقي مع من يشاء، يمتِّع بصره بمن يشاء، كل شيء يمارسه، يقول لك: أنا حر. المؤمن في عنده منظومة قيَم، ومجموعة من الأوامر والنواهي كبيرة جداَ، هذا حرام، هذا مكروه، هذا يجوز أو لا يجوز، هذا يرضي الله، يسخط الله..
﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾
( سورة البقرة:من آية " 5 " )
الذي اهتدى الهدى يرفعه، مع أن الهدى كله قيود، و..
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)﴾
( سورة الزمر )
والضَّال دخل في شيء، دخل في قيْد ؛ إما أنه دخل في السجن، أو دخل في كآبة، أو دخل في قلق، أي هو دائماً مع طلاقته يقيِّده الشقاء، ومع قيود يسعده الإيمان ويطلقه..
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾
( سورة المدثر )
لذلك هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
اعتقد هذا، اعتقد اعتقاداً جازماً السُنة في هذا، السنة في أن تستقيم، في أن تصدق، في أن تفي بالعهد، في أن تُنجز الوعد، في أن تكون عفيفاً، في أن تتحرَّى الحلال ولو كنت في فقرٍ مدقع، في أن تضع قدمك فوق الحرام ولو كان بالملايين، هذا الإيمان.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ))
الحقيقة هذا الحديث له مجال آخر، هذا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام لا يتحدَّث عن نفسه كنبي، لكنه يتحدث على نفسه على أنه وليّ أمر المسلمين، النبي مقام ديني، أما ولي أمر المسلمين مقام زمني ـ إن صحَّ التعبير ـ لذلك ولي أمر المسلمين يجب أن يتحمل عن رعيته كل تبعاتهم، ((وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ))
أما إن ترك مالاً فلورثته، فالمواطن المسلم إذا اغتنى تغتني بغناه الدولة، وإذا افتقر تفتقر، أحياناً حينما يُكلَّف الإنسان فوق طاقته عندئذٍ ينسحب من الحياة، لا يعمل، لا ينتج، هذه القضية متعلِّقة بالنظام الاقتصادي، ونظام متعلِّق بالسياسة الشرعية، فأي مؤمنٍ ترك مالاً فلورثته، ترك ديناً أو ضياعاً أو عيالاً فليأتني فأنا أولى الناس به.
النبي في هذا الحديث الشريف يتحدث لا على أنه نبيٌ مرسل، بل على أنه ولي أمر المسلمين، فكل مجتمع عندما يغتني، القائمون على هذا المجتمع يغتنون بغناه، أما إذا أُفقِر الإنسان أُلغيت القوة الشرائية، هذه قاعدة عامة، فلو فتحنا مؤسَّسة في بلد فقير لا تربح إطلاقاً، أنَّا لها أن تربح، لا توجد قوة شرائية، لا يوجد مال مع الناس، أما إذا اغتنى الناس فأي مشروع ينجح ويربح، وتأتي الدولة فتأخذ الضرائب من هذه المؤسَّسات الناجحة، لذلك هذا الحديث متعلِّق بالسياسية الشرعيَّة، أي أنه إذا اغتنى المواطن تغتني معه كل شيء ؛ تغتني معه المؤسَّسات، تغتني فيه المشروعات، تغتني الدولة كلها، فهذا الحديث يعلمنا الشيء الكثير، أن ولي أمر المسلمين ينبغي أن يسعى لإغناء رعيته، فإن اغتنوا اغتنت الدولة بغنى الرعيَّة.
وفي رواية أحمد:
((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْ مَالَهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانَ))
هذه رحمته بالمؤمنين، حرص على سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحذَّرهم مما يفسد سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأمرهم بما يصلحهم في الدنيا والآخرة، وهو أولى بهم من أنفسهم، لكن أدق نقطة في الموضوع أن المؤمن العميق الإيمان يعتقد أن كل مصلحته، وكل فوزه، وكل نجاحه، وكل سعادته، وكل تفوّقه في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
كثير من الأشخاص ـ مثلاً ـ يطلب الخاطب طلبًا غير شرعي، يخافون أن يذهب فيتساهلون معه، ويتركون السُنة، ثم يفاجؤون أن الخاطب ترك ابنتهم وقد أمضى معها سَنةً، الموضوع دقيق ؛ بالتجارة، بالبيع، بالشراء، بكسب المال، بإنفاق المال، بالعلاقات الاجتماعية، بالزواج، بالطلاق، في كل شيء حينما ترى أن السُنَّة تقيدك، يا أخي دعونا من السُنَّة الآن، فإذا تحرك الإنسان بخلاف السنة وفق هواه، وفق مصالحه التي يراها فإنه يدفع الثمن باهظاً، هذه الآية دعها في ذهنك..
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأحزاب: من آية " 6 " )
فأحياناً يتوهَّم الأهل أن الفتاة إن لم تبد زينتها أمام الأجانب لا أحد يخطبها، أما إذا حجَّبناها، وأبقيناها في البيت، وعلَّمناها، من يعرف ما عندها من قيم جماليَّة ؟ إذاً لا أحد يتقدَّم لخطبتها، الذي يحدث العكس، المرأة التي طبَّقت سُنة النبي عليه الصلاة والسلام الله جلَّ جلاله يهيِّئ لها شاباً مؤمناً يعرف قيمتها ويرعاها، لا تفكِّر أبداً تنجح بخلاف شريعة الإسلام، لا في حياتك الخاصة، ولا حياتك الزوجية، ولا في حياتك الاجتماعية، ولا في تجارتك، ولا في أعمالك كلها، حتى الإنسان أحياناً يخالف السنة ويطيع من هو أقوى منه، كأن يقول: الآن أنا مضطر تلافيت الشر. هذا الذي أطاعه وعصى الله عزَّ وجل لابدَّ أن يسخط عليه.. ((ومن أعان ظالماً سلَّطه الله عليه))
((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))
( من سنن ابن ماجة: عن " أبي هريرة " )
ولا يوجد أخ ما عنده تجارب سابقة، كأن يكون عمل عملا تمليه عليه مصالحه، فتساهل في تطبيق السُنة، دفع الثمن باهظاً، أبداً.
قال: أما برحمته بالمنافقين فبالأمان من القتل والسبي نظراً لظاهر إسلامهم في الدنيا. أي هم تزيّوا بزَي الإسلام، وأظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، فهذا الذي أظهروه حماهم من أن يعاملوا كالكفار، هذه رحمة النبي بهم، وكما علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر والله يتولَّى السرائر.
أما رحمته بالكفار كيف ؟ قال: فبرفع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، فمن علامات قيام الساعة ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ هلاك العرب لا هلاك استئصال ولكن هلاك ضعف وتمزُّق. فكأن الله سبحانه وتعالى ضمن للنبي عليه الصلاة والسلام من أن يهلك أمَّته إهلاك استئصال، فقوم عاد، وثمود، وتبَّع، وقوم لوط أُهلِكوا هلاك استئصال..
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾
( سورة الحجر: من آية " 74 " )
لكن أمة النبي عليه الصلاة والسلام، طبعاً إذا قلت: أمة النبي أقصد الأمة التي هنا في هذا الموطن هناك أمة الاستجابة، وهناك أمة التبليغ، فكل إنسان بحكم ولادته، وبحكم والديه، وبحكم مكان ولادته، كان من أبوين مسلمين هذا من أمة التبليغ، قد يكون علمانياً، قد يكون مُلحداً لكن هو من أمة التبليغ، هذا الذي كفر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة النبي له أنه لا يهلك هلاك استئصال، بل يعذَّب عذاب معالجة، هذا من رحمة النبي بالكفار.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
( سورة الأنبياء )
قال: " من آمن تمَّت له الرحمة في الدنيا وفي الآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم من عاجل الدنيا من العذاب، من المسخ، والخسف، والقذف ".
أما قول الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
( سورة الأنفال: من آية " 33 " )
فهذه الآية أفضنا الحديث عنها سابقاً، أي مادامت سُنة النبي صلى الله عليه وسلَّم مطبَّقةً في حياتهم فالله لا يعذبهم، لِمَ يعذبهم ؟ يعذبهم إذا خالفوا منهج الله، أما إذا طبَّقوا سنة النبي فهم في أمانٍ من أن يعذَّبوا، إذاً وأنت فيهم تعني وأنك بين ظهرانيهم في حياتك، وشريعتك في حياتهم بعد مماتك..
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾
بعضهم فهم الآية فهماً آخر، تأكيداً لهذا المعنى ـ معنى رحمته بالكفار ـ أن النبي صلى الله عليه وسلَّم ما دام مُرسلاً إلى هذه الأمة فلن تُهلك هلاك استئصال، هذا المعنى الثالث.
المعنى الأول: ما دامت سنة النبي قائمةٌ في حياتهم لن يعذَّبوا، ما دام النبي بين ظهراني أصحابه لن يعذبوا، ما دامت سُنته في أمَّته من بعد وفاته لن يعذَّبوا.
المعنى الثالث: ما دام النبي صلى الله عليه وسلَّم قد أُرسل لهذه الأمة، ما دامت هذه الأمة قد أُرسل إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فهي في أمانٍ من أن تعذَّب عذاب استئصال، العذاب الكامل الشامل، عذاب الإهلاك، عذاب الإبادة، هذه الأمة معافاةٌ من أن تعذَّب هذا العذاب، لكن كيف نوفِّق بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
( سورة الأنفال: من آية " 34 " )
هناك عذاب إفرادي، عذاب فِئَوي، أما عذاب شامل لا يوجد، فهذه الآية تشير إلى العذاب الفردي، فالإنسان الله عزَّ وجل يعالجه أحياناً، يضيِّق عليه، أما أن يهلك الأمة إهلاك إبادة، إهلاك استئصال هذا مما ضمنه الله للنبي تكريماً له ولأمَّته من بعده، هذا المعنى الثالث.
أما المعنى الأول أوجه معنى، أنه أنت متى تعذَّب ؟ تعذب إذا خالفت منهج الله، أما إذا طبقته فلماذا العذاب ؟ وهذا يؤكد معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾
( سورة النساء: من آية " 147 " )
كان عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ))
( من صحيح مسلم: عن " أبي موسى الأشعري " )
وحينما دُعِيَ عليه الصلاة والسلام ليلعن الكفار، أو يدعو على المشركين قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً))
( من صحيح مسلم: عن " أبي هريرة " )
فأنت مهمتك لست أن تكون قاضياً تحكم على الناس، أنت داعي إلى الله، لست قاضياَ، كن داعياً ولا تكن قاضياً، كن رحيماً ولا تكن قاسياً، كن يسروا ولا تعسِّروا، سدِّدوا وقاربوا، بَشِّروا ولا تنفِّروا، كن مبشراً ولا تكن منفراً، سدِّد وقارب، يسِّر ولا تعسِّر.
وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ))
(الدارمي)
نحن علاقتنا بهذه الأحاديث والآيات، أنت كمؤمن، في مؤمن كله خير، أو المؤمن كله خير، أساس حياته العطاء، أما الكافر أساس حياته الأخذ، أي أنَّه باني حياته بالتعبير الحديث ـ باستراتيجيته ـ على الأخذ، كلَّما أخذ يسعد، المؤمن باني حياته على العطاء، فلذلك إذا أراد المؤمن أن يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع فليكن رحيماً، ليرحم، ليعطي ؛ من وقته، من ماله، من جهده، من خبرته، من عضلاته، من كل ما أعطاه الله عزَّ وجل حتى يكون رحمةً للناس بشكل مصغَّر جداً، أي أنه نموذج مصغَّر لرحمة النبي عليه الصلاة والسلام، المؤمن أينما حَل يتبارك الناس به.
والمعنى المخالف لقوله تعالى:
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾
( سورة الدخان: من آية " 29 " )
المؤمن تبكي عليه السماء والأرض، الأرض التي كان يطأها تبكي عليه، المكان الذي كان يجلس فيه يبكي عليه، لأن كله خير.
هذه رحمته بالمؤمنين وبالكافرين وبالمنافقين، أما رحمته بالأهل والعيال، فقد روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن عمرو بن سعيد، عن أنسٍ رضي الله عنه قال ـ دققوا في هذه الأحاديث ونحن في أمس الحاجة إليها ـ:
((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم))
فأحياناً تجد أب رحمته غير طبيعيَّة، زائدة، هذا الأب من أسعد الآباء، والذي يكون في النهاية أن أهله يحبونه حباً لا حدود له، ويتنافسون في خدمته، فأنا أرى أن أحد أسباب سعادة الإنسان أسرته، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بالعيال، ((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم))
" كان إبراهيم ـ ابنه ـ مسترضعاً له في عوالي المدينة ـ أي بمكان بعيد في المدينة ـ فكان ينطلق ونحن معه. ينطلق النبي أي تقريباً واحد ساكن بالمهاجرين وابنه بالمخيَّم، مسافة طويلة، سيقطع قطر المدينة. فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت فيأخذ ابنه المسترضع فيقبِّله ثم يرجع " ـ هكذا ورد ـ من شدة محبته لأهله كان ينطلق مع أصحابه من بيته، أو من مسجده إلى طرف المدينة، ليرى ابنه إبراهيم عند مرضعته فيقبله ويرجع، ما الذي دفعه إلى هذا ؟ حُبه لأهله، رحمته بهم.
قال عمرو: " لما توفي إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام:
((إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي ـ أي رضيع، أي في سِن رضاع الثدي ـ وإنه له لظئرين ـ أي مرضعتين ـ تكمِّلان رضاعته في الجنَّة، فإنه توفي وله ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً))
ومن رحمته بأهله أنه كان يعاونهم في الأمور البيتيَّة، كما تقدَّم عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ))
(البخاري)
فأحياناً تجد شخص في البيت دائماً في خدمة أهله ؛ يرتِّب، ويقوم بأعمال من أعمال البيت، إذا كان مرتاح وما عنده شغل، وزوجته مرهقة فعاونها هذا من سُنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: " فما كان صلى الله عليه وسلم من جبابرة الرجال، بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه... " ـ هناك رجال جبابرة، أي يضرب، ويكسِّر، ويسب، إذا دخل البلاء للبيت، تجده وحش وشيء مخيف، النبي عليه الصلاة كان رحيماً، في إنسان دخوله يبعث الفرح للبيت ـ " فما كان صلى الله عليه وسلَّم من جبابرة الرجال بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه " ـ أي أن مؤنته خفيفة، العيال نائمين يتعشَّى لوحده، فيتناول لقمتان، أما يقيم القيامة لماذا ناموا قبل أن يأتي ؟ يوقظهم قوموا اعملوا عشاء، إذا كان قميصه غير مكوي تقام قيامة المرأة، تُطلَّق، تتقلَّع على بيت أهلها ؟! نسيت قميص، نسيت زر لم تقطبه، هذا جبَّار. قال: ما كان صلى الله عليه وسلم من جبابرة الرجال، بل كثيراً ما كان يخدم نفسه بنفسه.
ففي مسند أحمد وغيره عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ:
((مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))
هذه رحمته بأهله ـ أي بزوجاته ـ.
أما رحمته بالصبيان فقد روى الشيخان وغيرهما عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))
أي كثيراً ما كان، وفي صلاة الفجر التي سَنَّ لنا أن نقرأ فيها أربعين آية، أو ستين آية، في صلاة الفجر إذا سمع بكاء طفلٍ، وأمه تصلي خلف رسول الله، كان يقرأ أقصر سورةٍ ويسلِّم، رحمةً بهذه الأم التي يناديها ابنها ببكائه هكذا.
ومن رحمته بالصبيان أنه كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم ـ أحياناً، وهذا الشيء يكاد يكون واقع ـ اللقطاء في العالَم الغربي أصبحت نسبتهم وبائيَّة، أي احتمال الشخص الذي أمامك واحد من اثنين لقيط، واللقطاء لا رحمة في قلوبهم، لأن الرحمة يرضعها الطفل من ثدي أمه، الطفل عندما ينشأ في بيت بين أمه وأبيه، كيفما كان هذا البيت، هذا العطف، وهذا الضَّم، وهذا التقبيل، وهذه العناية، وهذا الإطعام، وهذه المداعبة، هذا يتغذَّى بالرحمة، فإذا كبر وصار بمنصب في عنده رحمة، يقول لك: هذا مربى. تربيته المنزلية عالية لا يؤذي أحد، يعامل الناس كأنهم أولاده، هذا من رحمته في قلبه، أما هناك أشخاص تعجب لحالهم يتلذَّذون بإيذاء الخلق، يتلذَّذون بإيقاع الأذى، يتلذَّذون بتعقيد الأمور، فإذا قدر يعذب إنسان ويجعله يرتبك يشعر بسرور، فهذا ما رضع الرحمة من ثدي أمه، هذه أخلاق اللقطاء، الذي عاش في الطُرقات ؛ لا عرف رحمة الأب، ولا رحمة الأم، ولا إنسان عطف عليه، ولا أُعطي درساً في العطف، فلذلك والعياذ بالله عندما ينحرف الإنسان أو أن يهمل أولاده ـ فأنا دائماً وأبداً عندما أعالج قضية زواج أو خلاف زوجي نعد للمليار قبل أن أٌقول له: طلِّق ـ لي كلمة أقولها لإخواننا الكرام دائماً: أنت تتزوَّج وهي تتزوَّج، من الضحية ؟ الأولاد، هذا الابن صفي مشرَّد، أبوه ضد أمه، أمه أمّه، وأبوه أبوه، والأب والأم مختلفين، فلذلك في الأعم الأغلب يتشرَّد، أن أعرف شخص طلَّق، كان أبًا ناجحًا جداً، طلَّق زوجته، الزوجة الجديدة ما قبِلت أن تعيش معه ومع أولاده، فوضعهم عند أهله، أهله كبار في السن ـ والده ووالدته ـ لم يستطيعوا يضبطوا الأولاد، الابن الأول الأكبر صار له ثمانية سنوات لا يعرف أين هو، اختفى، وابنتان انحرفتا، هو تزوج، وهي تزوجت، من الذي انحرف ؟ الأولاد.
فلذلك الموضوع عندما ينشأ الطفل مع أمه وأبيه ؛ يرضع الحنان، يرضع العطف، يرضع الحُب، يرضع الرحمة، فهذا إذا كبر تجد عنده أصول تردعه، لاحظوا إذا امرأة ما تزوجت تجدونها قاسية جداً، لأنها لم تنجب ولد، هي لا تعرف معنى الأمومة، لا تعرف قيمة الابن، أما إذا كانت امرأة متزوِّجة وتعلم فرضاً، لها أولاد، الملاحظ على المعلمات اللواتي ما عندهن أولاد ـ أي لم يتزوجن ـ تجدونهن قاسيات بشكل غير معقول، ما ذاقت لذَّة الأمومة، ولا ذاقت طعم البنوَّة.
لذلك ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بالصبيان ما ثبت عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ:
((لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ فَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَإِنِّي مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ))
(أحمد)
أنت تلاحظ إذا قبَّلت طفل ولم تقبِّل أخوه يتطلَّع فيك هكذا، جرح، النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمرنا أن نعدل ولو في القُبَل، والحقيقة أحياناً يكون في عندك ولدين أو ثلاثة، أو أولاد ابنتك أو أولاد ابنك، واحد أذكى من الثاني، واحد أجمل من الثاني، لا تنساق مع هواك فتعتني بالأجمل، والأذكى، أنت الآن تمشي مع هوى نفسك، أما الأكمل أن تعتني بالآخر نفس العناية حتى تأخذ بيده، ما تعقده، أما مجتمعنا قاسي أحياناً يعتني بالذكي والجميل، والأقل ذكاء والأقل جمال تجده مهمل، هذه من قسوة المجتمع، حتى في التعليم المعلم الناجح يجد الطفل الذي وضعه العام أقل من غيره، أفقر، أقل جمال، أقل ذكاء يعتني فيه، يرفع له معنوياته، يبث فيه الحماس، يثني على اجتهاده، وإذا أجاب إجابة صحيحة يثني عليها ثناءً كبيراً فينعشه، كن رحمانياً لا تكن شهوانياً، حتى في معاملة الأبناء والاثنين أولادك، اعتني بالأقل، بالأقل ذكاء، بالأقل جمال اعتني فيه، ارفع له معنوياته، عاونه على نفسه.
ومن رحمته بالصبيان أنه صلى الله عليه وسلم " كان يمسح رؤوسهم ويقبِّلهم ". كما جاء في الصحيحين عن عائشة. قالت: " قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الحسن والحسين ابني علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرةً ما قبَّلت أحداً منهم قط. فنظر إليه عليه الصلاة والسلام ثم قال:
((من لا يرحم لا يُرحم))
هذه الأطفال ـ أطفالنا ـ هم عدة المستقبل، الحقيقة يجوز الإنسان يكون نفض يديه من الكبار، فالأمل أين الأمل ؟ في الصغار، إذا نشَّأناهم نشأة طيبة، نشأة إسلاميَّة، علَّمناهم أمر دينهم، المعوَّل عليه هم الصغار، كل واحد عنده ابن أو بنت ممكن يدخل الجنة من أوسع أولادها من خلال أولاده فقط، علِّمه القرآن، علمه أدب النبي، علمه السُنَّة، خذه معك على الجامع، احترمه، دلِّله، أكرمه، حتى ينشأ على حب الله ورسوله.
((علموا أولادكم حب نبيَّكم وحب آل بيته))
اذكر له مآثر النبي، رحمة النبي، مواقف النبي، كيف كان أصحابه.
وفي الصحيحين حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ))
أي ماذا أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك ؟ فهناك كثير من الآباء إذا دخل إلى بيته يمضي وقت طويل في مداعبة أولاده الصغار، لكي يتألَّف قلبهم، حتى يحبوه.
وروى الشيخان والترمذي عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ ـ أي يركبه على أكتافه ـ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ))
وروى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ ادْعِي لِيَ ابْنَيَّ فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ))
وكان يقول لابنته فاطمة: ((أين ابناي الحسن والحسين؟))
فقد عدَّهم أولاده.
ومن رحمته بالصبيان وحبه لهم إدخال السرور عليهم، أنه صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بأول ما يُدرك من الفاكهة، يعطيها لمن يكون في المجلس من الصبيان. إذا قُدِّمت له الفاكهة أول مرَّة في موسمها ينظر إلى أصغر الحاضرين سِناً، ويعطيه لهذا الطفل الصغير.
كما روى الطبراني عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما
((أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان إذا أوتي بباكورة الثمرة أي أولها، وضعها على عينيه ثم على شفتيه، وقال: اللهمَّ كما أريتنا أوله فأرنا آخره، ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان))
هذه لها معنى عميق، الطفل يحب الفاكهة، ولا يعرف أن والده ما معه ثمن الفاكهة، فعندما يرخِّص الإنسان الفاكهة ويجعلها متوافرة بين أيدي الناس، الآن كم الناس هم فرحين بموضوع الموز، القضية سهلة ثلاثة كيلو بمئة ليرة، أما عندما يجد الطفل أن ثمن كيلو الموز مئة وستين ليرة، ويقول لأبيه: بابا اشتر لي الموز، والأب ليس معه ثمن الموز، ما معه ثمن كيلو هذا الموز، فالطفل الصغير يحب الفاكهة، وتأمين الطعام للطفل الصغير متعة كبيرة، لأن جسمه ينمو، يحتاج إلى غذاء، إلى شيء يعينه على بنائه الجسدي، فلذلك عندما يتشتغل الأب ويتعب، يذهب إلى شغله من الساعة السادسة، يتاجر، يقيم مشروعًا زراعيًا صناعيًا لكي يؤمن لأولاده الطعام والشراب، هذه عبادة بكل معنى الكلمة.
ليس في الإسلام إثنينيَّة، أنت في طاعة الله، وأنت في منهج الله عزَّ وجل، وأنت في عملك ؛ المعمل، المكتب، مدرس، محام، طبيب، صيدلي، مزارع، بأي مكان، أنت في عملك من أجل أن تأتي بقوت أولادك، ولحكمةٍ بالغة جعل الله الحلال صعباً لترقى، الحلال صعب لهذا قال عليه الصلاة والسلام:

((من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له))
أحياناً يأتي الواحد على البيت ميت من التعب، الحياة صعبة، كسب المال صعب، وكسب المال الحلال صعب، وإذا كنت أنت إنسان عادي كذلك فكسبه صعب أكثر، إذا كان الواحد عادي وما له أي ميزة وحلال، فهذا صعب على صعب، فإذا جاء بهذا المال وأمَّن فيه طعام لأولاده، أمن لباس لأولاده، هذا عمل من العبادة، من الدين، أنت ما خرجت عن الدين، فالعمل عبادة.
ومن رحمته دمع عينيه لفراق ولده إبراهيم، فعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه ـ أي في حالة الاحتضار ـ فجعلت عينا رسول الله تذرفان بالدموع، فقال عبد الرحمن بن عوف: " وأنت يا رسول الله تبكي؟ ". فقال:

(( يا ابن عوف إنها رحمة " ثم أتبعها بأخرى قال:" إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))
( رواه البخاري وروى بعضه مسلم )
إذا بكى الرجل فلا مانع، ولكن لا يتكلم كلام لا يليق بإيمانه، أحياناً يموت الأب فيقول لك: انهدَّ الجسر ـ الله موجود ـ خرب بيتنا ـ ما خرب بيتكم، الله الموجود، الله هو الرزَّاق ـ مات المعيل ـ هو كان معال معكم كله كلام كفر ـ أما الإنسان يتألَّم..
"... وإن عليك يا إبراهيم لمحزونون ".
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رُفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله بالدموع، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال:
((هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُحَماء))
الواحد يرحم الصغار، يعتني فيهم، يكفيهم، ينيِّمهم نومة مريحة، يطعمهم أكلة طيبة، يأخذهم سيران. والله أحياناً إذا أخذت أولادك سيران تكون في أعلى درجات العبادة، من لهم غيرك ؟ يأتون إلى المدرسة فيقولون: والله بابا أخذنا إلى هنا، كل ابن يتكلَّم عن والده أين أخذه، وأنت خذه مشوار، عطِّل وقتك ما في مانع، ابذل جهد ما في مانع، فالعناية بالأولاد جزء من الدين لكي ينشأ على محبة رسول الله، أن أباه مؤمن اعتنى فيه.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لثقل مرض بعض أصحابه كما ورد في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاس، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فبكى رسول الله، فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا فقال: ألا تسمعون إن الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذِّب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه ))
لا يعذب ببكاء العين ولا بحزن القلب، مُعفى، أما إذا تكلَّم الإنسان كلام كفر ـ واحد توفيت زوجته، ولها أخت أكبر منها بعشر سنوات فقال: كنت خذ تلك التي ما لها زوج، أخذت لي هذه ـ طبعاً هذا كلام فيه كفر، فيه عدم معرفة بحكمة الله عزَّ وجل، فالإنسان لا يعذب لا بعينه ولا بقلبه إنما يعذَّب بلسانه.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة ـ أحياناً يكون في أشخاص عندهم قدرات قيادية، وحولهم أشخاص كثيرون، ولكن ذكاء وخبرة في جمع الناس، ولا رحمة في قلبه، أما النبي عليه الصلاة والسلام في رحمة في قلبه، يحب أصحابه حباً حقيقياً، أصحابه أهله، وهكذا المؤمنون، حب حقيقي، مودَّة حقيقيَّة.
فأنا أقول لكم هذا المقياس، وأرجو الله أن يكون صحيحاً: أخوك المؤمن إذا الله أكرمه بشيء كأن اشترى بيت، أو تزوج امرأة ممتازة، أو أخذ دكتوراه، أو تعيَّن بمنصب رفيع، أو حقَّق مكانة اجتماعية كبيرة، إذا فرحت له وسررت من أعماقك هذه علامة إيمانك، وإن تضايقت علامة النفاق..
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾
( سورة التوبة: من آية " 50 " )
المنافق يتألَّم من الخير إذا أصاب أخيه، يتألَّم، هذا المقياس لا يخيب أبداً، ما في إنسان ما في حوله أصدقاء مؤمنين، يا ترى أخوك أخذ دكتوراه ؟ وأنت تضايقت ؟ متى أخذها ؟ هذه أخذها بالأموال، على الفور يطعن فيه، إذا تزوَّج أخوك يحاول يبحث عن نقاط ضعف لكي يرتاح، من حسده يبحث عن نقاط ضعف، أما إذا كان فرحا لأخيه بشهادته، بزواجه، بعمله، بتجارته، فرحت له فأنت مؤمن ورب الكعبة، تعد نفسك معه بخندق واحد، لأن الله عزَّ وجل قال في آية دقيقة جداً:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
( سورة النور: من آية " 19 " )
ليس له ذنب، لم يتكلَّم ولا كلمة، ولا تكلَّم بحرف، ولكن لأنه أحب..
﴿أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
الله جعله في خندق المنافقين، وخندق الكفَّار، أنت مع المؤمنين يجب أن تفرح للخير إذا أصابهم، أو تحزن لما أصابهم من شر، فإن قلت: ما دخلني، هذا الكلام لا يليق بالمؤمنين.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلَّم بكاؤه لموت صاحبٍ من أصحابه، وذلك ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو صلى الله عليه وسلم يبكي ".
وفي رواية ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها " قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: فرأيت دموع النبي تسيل على خد عثمان ".
يرحم أصحابه، يحبهم، يعرف قدرهم، يعرف قيمتهم، يعرف ميزاتهم.
وعند ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(( لما مات عثمان بن مظعون كفَّ النبي الثوب عن وجهه، وقبل بين عينيه ثم بكى طويلاً، فلما رُفع على السرير قال: طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ))
أي مت فقيراً لم تصب من الدنيا ولم تصِب منك.
وأما رحمته بالمساكين والضعفاء، فقد تقدم ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: " إن كانت الأمة ـ أي المملوكة ـ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فتنطلق به حيث شاءت ـ أي إذا في بنت صغيرة في البيت، أحياناً الطفل يعرف أن هنا توجد سكرة، أو بسكوت مغلق عليه، فيمسك يد والده ويشدَّه، هذا قبل أن يدرك، قبل أن يتكلَّم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا طفلة صغيرة أمسكت بيده، وسارت به سار معها ـ فتنطلق به في حاجتها أي ليقضي لها حاجتها من شراء طعامٍ أو متاعٍ أو نحو ذلك ".
وروى النسائي عن ابن أب أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم " كان لا يأنف ـ أي لا يتكبَّر ـ أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما الحاجة ".
وعن سهل بن حنيفٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم "كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم ".
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن رحمته باليتيم، ورحمته بالحيوان، ورحمته بالطيور وما إلى ذلك.






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:00 PM   #16


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السادس العاشر )

الموضوع : رحمته على اليتيم - الحيوان - الطيور







الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى رحمته صلى الله عليه وسلم باليتيم، فقد قال تعالى:
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)﴾
[ سورة الضحى ]
والنبي عليه الصلاة والسلام شاءت حكمته تعالى أن يكون يتيماً تطييباً لقلوب اليتامى من بعده، فسيد الخلق، وحبيب الحق كان يتيماً، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن إلى اليتامى، ويبرهم، ويوصي بكفالتهم، والإحسان إليهم، ويبيّن الفضائل المترتبة على ذلك فقد روى البخاري وغيره عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ))
وهذه ليست إشارة نصر، لا، فهذا موضوع آخر، وروى ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ))
خير، اسم تفضيل، إذا أكرم الله عز وجل إنساناً بيتيم ورعاه، فرعاية هذا اليتيم كافية لدخول الجنة، وكذلك امرأة مات زوجها، وذكر فضلها عليه الصلاة والسلام، فحبست نفسها على تربية أولادها، يعني أحياناً يتوفى الزوج بحادث، أو بمرض غير متوقع، أو في سن مبكرة جداً، قد يموت الزوج في الثلاثين من عمره، وعنده زوجة بالاثنين وعشرين، في ريعان شبابها ترك لها أولاداً، طبعاً لها أن تتزوج، لكنها إذا تزوجت لعل الأولاد يضيعون، يُشَرّدون، الزوج الجديد لا يرضاها مع أولادها، تضع أولادها عند أهلها، وقد يكون أهلها متقدمين في السن، فالطفل الصغير مع رجل كبير قد يتفلت من سيطرته.
فامرأة شابة في ريعان الشباب حبست نفسها على تربية أولادها، وآثرت هذا العمل الطيب على حظها من الأزواج، فهذه امرأة مدحها النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا))
ما معنى امرأة سفعاء الخدين ؟ قال شراح الحديث: المرأة التي حبست نفسها عن الزواج فيصبح لونها إلى الكمودة والسواد أقرب، لأن المرأة خلقها الله عز وجل لتكون زوجةً، فحينما يبتعد عنها زوجها لعل هذا الحرمان يؤثر في مُحياها، وهذا واضح حينما جاءت امرأة إلى السيدة عائشة رضي الله عنها،،وقد رأتها السيدة عائشة مهملةً لنفسها، وهي امرأة سيدنا عثمان بن مظعون، فلما شكت زوجها بأنه صوام قوام استدعاه النبي، وقال له: يا عثمان أليس لك بي أسوة ؟ فأفهمه أنّ عليه حقوقاً متعلقة به، فجاءت في اليوم التالي زوجته كما تقول السيدة عائشة عطرةً نضرة ـ متألقة ـ من أين جاءها التألق ؟ حينما التفتَ إليها زوجها، قالت: ما حالك ؟ قالت امرأة عثمان: أصابنا ما أصاب الناس.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((... فَلا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا))
[ البخاري ـ مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ أبو داود ـ ابن ماجة ـ أحمد ـ الدارمي ]
الإسلام متوازن، يمكن أن تصل إلى أعلى مرتبة عند الله، وأنت تؤدي الحقوق، أما إذا أكثرت من العبادة، وأهملت حقوق العباد فهناك مسؤولية، وهناك محاسبة.
فهذه المرأة التي حبست نفسها على أولادها، وآثرت هذا العمل الطيب على حظها من الرجال أصبحت سفعاء الخدين، يعني في كمودةِ حرمانٍ، كمودةِ البعدِ عن الزوج،
((أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا))
آمت أي أصبحت أيماً ـ ترملت ـ يعني ربت أولادها، ولم تتزوج، والسؤال الآن: هذا الطفل الصغير كم هو غال على الله ؟ حيث إنك إذا رعيته تستحق الجنة، فالله شهيد أني لا أرى في الحياة الدنيا عملاً أعظم من أن تغرس الإيمان في نفس أولادك، من أن ترعاهم، من أن تدخل على قلوبهم السرور، وأن تنشئهم على حب الله، وحب رسوله، وحب آل بيته، وحب كتاب الله عز وجل، وأن تربيهم تربيةً إسلامية، وأن تعلمهم أحكام الفقه، وأن يكونوا معك دائماً على محبة الإيمان والصلاح، فهذا العمل كبير جداً.
لذلك ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الإنسان يشقى بشقاء أولاده شقاء حكماً، مهما بلغت، مهما ارتقيت، مهما حصلت من المال، لي قريب مات منذ ثلاثين عاماً، ترك مئة مليون ليرة، فقبل أن يموت بأيام قال لامرأته: ضيعنا الذهب ـ ويقصد بالذهب أولاده، فقد أهملهم، فنشؤوا منحرفين ـ وتبعنا العراط أي الفحم.
عبر عن خطأه الفاحش أنه أهمل أولاده، واهتم بتجميع الأموال، فلما توفي ترك هذا المال بأيدٍ شقية، منحرفة، فضاع المال والأولاد.
أيها الإخوة، ما للرجل من عمل أعظم على الإطلاق من تربية أولاده، وتنشئتهم تنشئة إسلامية، واللهِ من يقم بهذا العمل فأنا أكبره أشد إكبار، الإنسان يكون في بلاد الغرب، أو في أمريكا، وهو في أعلى درجات النجاح والتفوق، لكن يتخذ قراراً في ظاهره صعب، أما في حقيقته فهو والله أحسن قرار، فيعود إلى بلده حفاظاً على تربية أولاده، حفاظاً على دين أولاده، فهذا إنسان عظيم راجح عقله.
نناقش اليوم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم، والله شيء لا يكاد يصدق، كافل اليتيم مع رسول الله في الجنة، امرأة مات زوجها، وترك لها أولاداً فحبست نفسها على تربيتهم، وحرمت نفسها من الزواج، فهي مع رسول الله في الجنة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ:
((امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ))
[ أحمد ]
أحياناً قد يكون هذا اليتيم في غده مصلحاً اجتماعياً، قد يكون عالماً كبيراً، قد يكون محسناً كبيراً، فهذا الذي نشأه هذه التنشئة الطيبة ثوابه عند الله عظيم، أنا أعرف رجلاً والله حينما ألتقي به ملء سمعي وبصري، توفي أخوه، وترك له أولاداً ذكوراً وإناثاً، ربى أولاد أخيه تربيةً لا تقل درجة واحدة عن تربية أولاده، اختار لبنات أخيه أزواجاً طيبين، وأقام لبنات أخيه احتفالات في عقود قرانهن كاحتفالات بناته تماماً، على نفقته، هناك أسر، وأنا أكبر هذه الأسر، إذا مات الأخ فبقية الأخوة كالآباء تماماً لأولاد أخيهم، رعاية الأطفال من أعظم الأعمال، تربية الأولاد من أعظم الأعمال، ((.... أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا))
لي صديق توفي بحادث سيارة، وكان عمره خمسة وثلاثين عاماً، ترك زوجة وثلاثة أولاد، مرةً التقيت بأحد أولاده يوم كان في صف البكالوريا، وقلت له: هل أنت بحاجة إلى شيء ؟ قال لي: نعم، أريد بعض التوجيهات في اللغة العربية، قلت له: تعال إليّ، جلست معه، فإذا هو ضعيف جداً في هذه المادة، فإكراماً لصديقي المتوفى اعتنيت به كما يرضى الله عز وجل، أعطيته كل يوم درساً حتى أصبح قوياً في هذه المادة، ونجح وتفوق، فرأيت والده في المنام يشكرني.
اليتيم ليس له أب، فكل مؤمن أب له، وإذا شعر هذا اليتيم أن الناس يعطفون عليه، ويكرمونه أحبهم، سواء كانوا من أهل والده، أو من أصدقائه، لذلك فالمجتمع المؤمن مترابط، متعاون، متكاتف، ألم يخطر في بالك هذا السؤال ؟ قال تعالى:
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
[ سورة الماعون ]
لماذا اختار الله سبحانه وتعالى كصفة قبيحة أشد القبح بالذي يكذب بالدين أنه يدع اليتيم ؟ أعجبني هذا التفسير قال العلماء: اليتيم ينبغي أن يكرم، فإذا لم تكرمه فقد وقعت في خطأ كبير، فكيف لو دفعته بصدره، فالخطأ الكبير في عدم تكريمه، فكيف إذا دفعته في صدره، وأهنته، وقسوت عليه.
لي صديق قال: له قريبة توفيت ـ وأنا لا أذكر هذا كحجة، لا، ولكن للاستئناس ـ رأيتها في المنام بحالة صعبة جداً، يعني مغموسة في ألسنة لهب، يقسم بالله العظيم أنه رآها بمعدل مرة أو مرتين بالسنة لمدة ثماني سنوات، وهي بهذه الحالة، قال لي: بعد ثماني سنوات رأيتها بحالةٍ طيبة ففرحت لها، وأشعرتها أنني مسرور جداً بهذه الحالة، وقلت لها: ماذا أصابك، وكيف أنت ؟ قالت يا فلان: الحليب، هو يعرف قصتها في الدنيا، كان لها أولاد من زوجها الثاني، ولها أولاد أيتام من زوجها الأول، فكانت تسقي أولادها حليباً كامل الدسم، وتسقي الأولاد الأيتام كأس حليب نصفه ماء ونصفه حليب، ثماني سنوات، وهي تعذب في القبر، وليس هذا الكلام حجةً كمنهج، بل يستأنس به، عندك يتيم تسقيه حليباً مغشوشاً، وتعطي ابنك حليباً كامل الدسم، فهذا عمل قبيح وشنيع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ:
((امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ))
[ أحمد ]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: كَالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ))
[ البخاري ـ مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ ابن ماجة ـ أحمد ]
السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، أي الذي يسعى فيما ينفع الأرملة والمسكين، هذا الحديث رواه الشيخان، وإذا رأيتم حديثاً شريفاً رواه الشيخان فالحديث من أصح الأحاديث على الإطلاق، وله رواية يرويها ابن ماجة: ((...قَالَ السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ...))
أما رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان فكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرحمة بالحيوان، وينهى صاحبه أن يجيعه، أو أن يدئبه، أو أن يتعبه بإدامة الحمل عليه، أو إثقاله، فعَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: ((مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً))
[ أحمد ـ أبو داود ]
بالمناسبة لي قريب كان عنده فرس فيما مضى - توفي رحمه الله - وكان يرعاها رعايةً تامة، يقدم لها الطعام المنقى من الحصى، وكان إذا أراد أن يرقدها أرقدها على فراش من الذبل، طبعاً تستريح به، مرةً كانت ابنته على ظهرها، وكانت على الشارع العام فحينما جاءت الحافلة الكهربائية فزعت ـ وبالتعبير الفروسي جفلت ـ وهي تدرك أن على ظهرها ابنة صاحبها، فحنت ظهرها إلى الأرض ودفعت بالطفلة إلى الأرض سليمةً، وعادت لا تلوي على شيء، فالحيوان يعرف الذي يحبه، والذي يعتني به، والذي يطعمه، فلذلك من صفات المؤمن الرحمة بالحيوان.
((... مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً))
لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، أي ضمر من شدة الجوع، العناية بالحيوان جزء من دين المؤمن، والآن ليس لدينا حيوانات، ولكن هناك حيوانات من نوع آخر، وبيوتنا كانت سابقاً فيها هرر، والآن لا شيء من هذا كله، ولكن الإنسان إذا رأى حيواناً في بستان فعليه أن يعتني به إذا دعته حاجة لذلك.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:
((أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))
[ مسلم ـ أبو داود ـ ابن ماجة ـ أحمد ـ الدارمي ]
أنا والله لقد رأيت مرةً بعيني كلبةً تبكي، دَهستْ أولادها سيارةٌ، فوقفت أمام أولادها الصغار، والدموع تتقاطر من عينيها، الحيوان نفس، سيمر معنا بعد قليل كيف أن امرأة استحقت دخول النار بهرة، ((... فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ ـ وهو موضع الأذنين من مؤخر الرأس ـ فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَفلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))
وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن إجاعة الحيوان، وإتعابه، إما بكثرة العمل عليه، أو بتحميله فوق طاقته، بعض من يعملون مع الدواب يأتون بمخرز أحياناً، ويخزوها فيه، فهم يسيئون إلى هذه الدابة إساءة بالغة، مثل هؤلاء الأشخاص يحاسبون عند الله أشد الحساب.
منطلق المؤمن: أن هذه المخلوقات ربُها اللهُ سبحانه وتعالى وهو حسيبها، وهو يقتص ممن يؤذيها، ذكرت لكم مرة أني رأيت في طريق المطار إنساناً دهس كلباً، ولكن أراد أن يظهر براعته في القيادة فقطع يدي الكلب، وأبقاه حياً، كلب في أيام الشتاء يشعر بالبرد جالس على الزفت، والزفت لونه أسود يمتص الحرارة، وحرارته أعلى من حرارة التراب، والكلب الصغير جالس على يمين الطريق، وهذا السائق بقيادة ماهرة دهس يدي الكلب فقطعهما، وأطلق ضحكةً هستيريةً يعبر عن مهارته في قيادة السيارة، يركب إلى جانبه شخص زارني في مكان عملي قبل سنوات، وهو شاهد عيان، قال لي: والله بعد أسبوع واحد في المكان نفسه تعطلت سيارته، فجاء ليرفعها بالرافعة المخصصة لذلك، فاضطربت، ووقعت العجلة على رسغيه، وطرف العجلة حاد، فمزقت عظام رسغيه، فلما أخذ إلى المستشفى كانت يداه قد اسودتا، فصار لزاما مِن قطعهما فبعد أسبوع واحد كان بلا كفين، فالله كبير، وهو عزيز جبار منتقم.
لأن الحيوان ليس له أحد، وإذا دهست دجاجة يخرج أصحابها بروحك، والخروف كذلك، أما الكلب فليس له أحد، ليس له صاحب، وأنا أقول: له الله تعالى.
لذلك فهذه البغي التي سقت الكلب، وهي تعلم أنّه ليس له صاحب يشكرها، وليس حولها أحد ترائي له فيبدو أنها سقت هذا الكلب مخلصةً في إروائه من العطش فغفر الله لها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا و لا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ))
[ البخاري ـ مسلم ـ الدارمي ]
يقاس على ذلك إنسان يدوس بقدمه نملة، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)﴾
[ سورة النمل ]
لدينا حكم شرعي مفاده ليس كل حيوان ندهسه مشيا، كله عند العرب صابون، تفقه، فهناك حيوان لا يجوز أن يقتل، قال تعالى:
﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
[ سورة الفرقان (68)]
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ ـ يعني واقفون على دواب يتحادثون ـ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا هِيَ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ))
[ أحمد ـ الدارمي ]
هذه الدابة المركوبة ربما كانت عند الله خير من راكبها، لأن الله عز وجل قال:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً(44)﴾
[ سورة الإسراء ]
فإذا كان الراكب غافلاً والمركوب ذاكراً، فالمركوب أصبح خيراً من الراكب.
عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن الله يوصيكم بهذه البهائم العجم مرتين أو ثلاثاً فإذا سرتم عليها فأنزلوها منازلها))
أحياناً يبيعون سمكاً طازجاً يصطاد من البحيرة، أو من الحوض لتوه، والقائمون على بيع السمك جهلة، سمك يضطرب يُفتح بطنه، وتُنزع أحشاؤه، هذا السمك لا يجوز أن يفتح بطنه، وهو حي، إلى أن تموت حقاً، وتكون قد وجبت جنوبها، لا تعذبَ سمكةً ما تزال تشعر، وتتألم، فوق أنك اصطدتها، وأخرجتها من الماء، وتتلوى من قلة الأوكسجين تفتح بطنها، وتنزع أحشاءها، كائن فيه روح، فالإنسان ليس له حق إذا اشترى سمكاً من الماء أن يسمح لهذا الذي يعمل في بيع السمك أن يفتح بطن السمك، وينظفه قبل أن تجب جنوبها.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ:
((ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَوَاءً وَذَكَرَ الضُّفْدَعَ يُجْعَلُ فِيهِ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ))
[ أحمد ـ النسائي ـ الدارمي ـ أبو داود ]
وقال نقيقها تسبيح.
والحديث الذي ورد في ترغيب المنذري والمعروف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا و لا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ))
[ البخاري ـ مسلم ـ الدارمي ]
امرأة استوجبت دخول النار لأنها حبست هرة، فإذا أودع رئيس مخفر شخصاً بالنظارة من دون تحقيق، من دون اهتمام، ثم مات في النظارة فهو قاتل. فبالهرة وجبت لها النار، فما قولكم بما فوق الهرة، الهرة توجب النار لمن يحبسها من دون سبب وهي بريئة فكيف بإنسان مظلوم.
والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تسليط الحيوانات بعضها على بعض بالأذى، وتهييجها بالإفساد والتحريش، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ))
[ أبو داود ـ الترمذي ]
قد يجري بين الديكة أحياناً اشتباك، وكذلك صراع بين الثيران مثلاً، فهذه اللعبة كلها حرام، إلا أن يكون ثيران تصارع ثيراناً من تلقاء ذواتها، فهذا موضوع آخر، أما أن يكون لعبًا، رياضة هوايات، مبنية على تعذيب الحيوان، أو على قتله فهذا ما لا يجوز في الإسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالطيور، دققوا في هذه الأحاديث، كان عليه الصلاة والسلام يحذر من أن يفجع الإنسان الطيور في أولادها، وذلك من باب الرحمة، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ))
[ أبو داود ـ أحمد ]
الحمرة طائر صغيرٌ كالعصفور، تفرش: أي تقف، وتضطرب بجناحيها اضطراباً وقلقاً على أولادها.
قد يضعون عقرباً ضمن فحم، ويشعلون الفحم، هذا تعذيب، والتعذيب بالنار محرم أشد التحريم، فلا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار.
عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّرِيدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ))
[أحمد ]
أنت مسافر، وأصابك جوع شديد، وليس هناك طعام تأكله، فلك أن تصطاد طيراً، وتأكله، أما أن تجعل الصيد هوايةً، تقتل الطير من دون أن تأكله، وتحقيقاً لهواية الصيد فهذا بإجماع الفقهاء حرام.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا قَالَ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا ولا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا))
[ أحمد ـ النسائي ]
الآن إذا أردت أن تذبح عصفوراً، أو دابةً، أو خروفاً، أو شاةً، فما حكم الشرع فيما تفعل ؟ روى الطبراني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أضجع شاةً وهو يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتريد أن تميتها موتتين هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها))
والذي ذبح شاةً أمام أختها أيضاً عنفه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((تريد أن تميتها مرتين هلا حجبتها عن أختها))
وبعد أن أُحدِثت مسالخ للقطاع الخاص استشارني أخ من إخواننا الكرام، فهو يشتري غنماً، ويذبحها، ويبيعها، قلت له: اجعل غرفةً للذبح خاصة في منأى عن بقية الغنم، لأنك إذا ذبحت الشاة أمام أختها فقد وقعت في معصية، غرفة ولو من قماش أذبح في هذه الغرفة، أما أن تذبح الشاة أمام أختها فكأنما ذبحتها مرتين.
والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ الحيوان وكل ذي روح غرضاً ـ أي هدفاً للرمي ـ روى الشيخان عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:
((مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنِ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا))
[ البخاري ـ مسلم ـ النسائي ـ أحمد ـ الدارمي ]
سمعت عن أكلة يأكلونها في جنوب شرق آسيا، يأتون بقرد يضعونه تحت كرسي خشب مفتوح فتحة دائرية، حيث يظهر رأسه فَيُسلخ جلد رأسه، تقطع جمجمته، ويأكلون من دماغه، وهو حي، هذه أكلة رآها بعض الأصدقاء في جنوب شرق آسيا، ورآها صديق لي بأم عينه في أمريكا، فهناك جهل كبير، أفلا يخشى هذا أن يُمسخ قرداً، وهذا الذي يأكل قرداً لعله يُمسخ قرداً، الإنسان حينما يقسو قلبه إلى هذه الدرجة حتى لو قتلت عقرباً، لو قتلت أفعى يجب ألّا تعذبها.
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ:
((ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))
[ مسلم ـ الترمذي ـ النسائي ـ ابن ماجة ـ أبو داود ـ أحمد ـ الدرامي ]
حتى لو قتلت حيواناً سمح الله لك أن تقتله فلا يجوز لك أن تعذبه، أما إذا عذبته فالله سبحانه وتعالى شديد الانتقام.
لذلك أرسل صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما ذكر الله عز وجل قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
[ سورة الأنبياء ]
فكل الأعمال الطيبة التي تفعلها أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي بتوجيهات النبي، المؤمن يسير على منهج، وعنده قيم ومبادئ، وبُلّغ بالأوامر والنواهي، والقضية ليست عشوائية، أما الإنسان الكافر الجاهل فهو دابة شَموس، لكن المؤمن مخلوق مكرم عند الله، ومنضبط، فكل شيء يفعله وفق ما يأمر به الشرع.
لاحظت أنهم أحياناً يذبحون في سوق الدجاج، فالدجاجة وهي لا تزال حية تضطرب توضع في ماء يغلي من أجل نتف ريشها، أليست لديهم رحمة ؟ الإنسان يجب أن يعرف ماذا يأكل، اذبح لي هذه الدجاجة، يذبحها لتوها، ويضعها في ماء يغلي حتى يسهل عليه نتف ريشها، ولا تزال حيةً تضطرب، فليتقِ الله.
لذلك فالمؤمن المستقيم يحفظه الله عز وجل، ويحفظ أولاده، إنسان أعطى ابنه عصفوراً، ربطه بخيط، كلما طار يشده حتى خلع له رجله بعد يومين كُسِرتْ رِجْلُ الابن، وانتكست مرة واثنين وثلاثاً، دقق قبل أن تسمح لأولادك أن يلعبوا بعصفور، هذا مخلوق، الرجُلُ راع في بيته، وهو مسؤول عن رعيته.
ورد في السنة المطهرة في مسند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ اضْرِبْ مَثَلَ هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ فَقَالَ إِنَّ مَثَلَهُ وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حِبَرَةٍ ـ حلة حريرية فخمة ـ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَتَتَّبِعُونِي، فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَ فَانْطَلَقَ بِهِمْ فَأَوْرَدَهُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ: لَهُمْ أَلَمْ أَلْقَكُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بِكُمْ رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا رُوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي فَقَالُوا: بَلَى قَالَ فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبَ مِنْ هَذِهِ وَحِيَاضًا هِيَ أَرْوَى مِنْ هَذِهِ فَاتَّبِعُونِي قَالَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ صَدَقَ وَاللَّهِ لَنَتَّبِعَنَّهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ))
[ أحمد ]
القصة رمزية ذات دلالة، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاءنا بهذا الدين القويم وجاءنا بهذا المنهج المستقيم، وجاءنا بهذه السنة المطهرة وهذه السنة تحقق مصالح الدنيا والآخرة، فلو أن الإنسان طبق هذه السنة صلحت دنياه، ورفع ذكره، ويسرت أموره، وسعد قلبه، واكتفى بالدنيا ضيع عليه الآخرة، فالنبي الكريم يقول هناك مكان أعشب من هذا، وأكثر ماءً، وهو الآخرة.
فإذا طبق الإنسان منهج الله في الدنيا، وقطف الثمار يانعةً فعليه أن يسعى للآخرة كي تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة، فأحياناً يكون الإنسان في الدنيا بأحسن حال، ولكن أمامه مطب كبير، وهو الموت، وبعد الموت يفقد كل شيء، ولكن السعداء في الدنيا هم الذين تتصل عندهم نِعَمْ الآخرة بنِعَم الدنيا، فهو في الدنيا مِن أسعد الناس، وإذا جاء الموت من أسعد الناس ؟ فمن أجل أن تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة ينبغي أن تطبق منهج رسول الله في الدنيا وأن تطلب الآخرة من أجل أن تكون في الدارين من السعداء.
لقد تحدثنا اليوم عن رحمته باليتيم، ورحمته بالحيوان، ورحمته بالطيور، وعن رحمته العامة، وفي درس قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى حيائه صلى الله عليه وسلم.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:03 PM   #17


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( السابع العاشر )

الموضوع : حياء الرسول







الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى عظيم حيائه صلى الله عليه وسلم، وقبل أن أمضي بالحديث عن حيائه صلى الله عليه وسلم أريد أن أضع بين أيديكم حقيقةً لعلها تلقي ضوءاً على موضوع درسنا.
أيها الإخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون سيد الخلق وحبيب الحق، وهو صفوة الله من خلقه، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم بنصوص قطعية الدلالة والثبوت، فلما أراد ربنا سبحانه وتعالى أن يثني عليه، فلو أنه وصفه بخطابته التي لا تعلو عليها خطابة، ولو وصفه بعلمه، ولو وصفه بقيادته، لو وصفه باجتهاده، لو وصفه باستنباطه، لو وصفه بفتواه، لو وصفه بقضائه، لكانت هذه الأوصاف صحيحة، وهي صفات فذّة، لكن الله جل جلاله حينما أراد أن يثني على نبيه الكريم ما أثنى عليه إلا بحسن خلقه، وهذه هي الصفة العظمى، قال تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
[ سورة القلم ]
هذه قضية يجب أن تكون ماثلةً نصب أعيننا، الإنسان إذا آتاه الله قدرةً عقليةً فائقة ربما تفوق في اختصاصه، تفوق في كتابته، تفوق في إلقائه، تفوق في استنباطه، في حفظه، هذه قدرات عقلية لا ترفع صاحبها عند الله ما لم تستخدم في الحق، لكنَّ الذي يسعدك في الجنة إلى أبد الآبدين أن تكون ذا خلق حسن، والله سبحانه وتعالى حينما أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما أثنى عليه إلا بالخلق الحسن، فإذا أردت أن تكون قريباً من الله عز وجل فكن ذا خلق حسن.
الآن ندخل في شميلة من شمائله صلى الله عليه وسلم ألا وهي حياؤه، فقد كان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس حياءً، لأنه أعظمهم إيماناً، وثمَّةَ علاقةً طردية مترابطةً بين الحياء والإيمان، فالحياء والإيمان قُرِنا معاً، فإذا زال أحدهما زال الآخر، الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فالذي لا يستحيي لا خير فيه، الذي لا يخجل لا خير فيه، الوقح لا خير فيه، الذي لا يبالي بسلامة سمعته لا خير فيه، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ))
[ الترمذي ـ أحمد ]
إذا كان في المرء حياء ففيه إيمان، وإذا كان فيه إيمان ففيه حياء، إذا أَثبتَّ أحدهما أثبتَّ الآخر، إذا أثبتَّ لإنسان أنه مؤمن فهو حيِيٌّ طبعاً، وإن أثبتّ له الحياء فهو مؤمن وربِّ الكعبة، إذا أثبتَّ الحياء فهو مؤمن، وإذا أثبتَّ الإيمان فهو حيِيّ، فالذي لا يستحي ليس مؤمنًا، يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام استأجر أجيراً في بناء، فاغتسل عرياناً، فقال له: خذ أجارتك، لا حاجة لنا بك، فإني أراك لا تستحيي من الله.
الآن درسنا خطير، كلمة حياء تعني إيمان، إنْ لم يكن الحياء عند الرجل فلا إيمان له، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا))
[ البخاري ـ مسلم ـ ابن ماجة ـ أحمد ]
المؤمن يستحيي، يخجل، وفي رواية البخاري في وصف النبي صلى الله عليه وسلم... ((وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ))
فمن شدة حيائه فهو يستحيي أن يواجه الناس بأخطائهم، فإذا تجاوز إنسان حدَّه معه، وإذا فعل إنسان نقيصةً أمامه، وهو يستحيي أن يواجه بخطأ الناس، عرفنا ذلك من وجهه.
أما القول الذي ذكرته قبل قليل:
((... أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا))
فمن هي العذراء ؟ هي البكر المستترة في ناحية بيتها أو خيمتها، تكون في الأعم الأغلب شديدة الحياء، ولقد كان عليه الصلاة والسلام أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، ماذا نستنبط من هذا الكلام ؟ أن الله سبحانه وتعالى فطر الفتاة على الحياء، فأي إنسان بَدَّل فطرة هذه الفتاة من الحياء إلى التبذل، إلى الوقاحة، وإلى الترجل، فقد أفسد طبيعتها، فالذي عنده فتاة فالأصل أنها تستحيي، هكذا فطرها الله عز وجل، فالإنسان إذا أراد لابنته أو لمن يربيها أن تنطلق، كما يقول أهل الدنيا، أن تكون جريئةً، فهذا يخرجها عن فطرتها التي أرادها الله.
إن بعض العلماء يقول: إن أجمل ما في الفتاة حياؤها، ومن علامات قيام الساعة أن النخوة ترفع من رؤوس الرجال، وأن الحياء يذهب من وجوه النساء، وأن الرحمة تنزع من قلوب الأمراء، هذه من علامات آخر الزمان.
إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.
لذلك أيها الإخوة ؛ مِن الدعاء النبوي الشريف:

((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.))
يا رب إذا كانت الحياة خير لي فأحيني، وإن كان الموت ستراً لي وراحةً لي فأمِتْنِي، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى جنازةً كما روى ذلك أَبُو قَتَادَةَ بُنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ))
[ البخاري ـ مسلم ـ النسائي ـ أحمد ـ مالك ]
فأنت بين أن تكون مستريحاً، وبين أن تكون مستراحًا منه، وشتان بين الحالين، يقول لك: الناس يخافون مني، فهذا الكلام لا يعد مزيةً، فَعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتِ: ((اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَنَا مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ فِيهِ مَا قُلْتَ ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنْ ضَحِكْتَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ))
[متفق عليه، واللفظ لمالك ]
إنما أنا رحمة مهداة، ونعمة مزجاة، كما قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه، ولدينا تعليق أحبُّ أنْ أسوقه لكم، وأنتم تفهمون عليَّ مقصدي، كان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس وإلى جنبه سيدنا علي بن أبي طالب، فدخل سيدنا الصديق وسيدنا علي بن أبي طالب قام من مكانه وأجلس سيدنا الصديق، فالنبي سر سروراً عظيماً فقال:
(( لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل.))
الحياء أيها الإخوة خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
[ الترمذي ـ أحمد ]
هذه العين، هذه النعمة العظيمة هل تنظر بها إلى عورات المسلمين، هذه الأذن النعمة الجليلة هل تستمع بها إلى ما يغضب الله عز وجل، إلى غناء، أو نميمة، أو فسق، أو فجور.
((... أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى...))
هل تسمح لنفسك أن تُدخِل إلى معدتك طعاماً حراماً، في الرأس عينان، وأذنان، ولسان، والبطن فيه معدة، والمعدة فيها طعام، فإذا حفظت الرأس وما فيه من حواس من أن تعصي الله عز وجل، وحفظت البطن من أن تدخل عليه مالاً حراماً أو طعاماً حراماً فقد استحييتَ من الله تعالى حقًّا.
((... وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى...))
فإذا فعلت ذلك فقد استحييت من الله حق الحياء، ولهذا الحديث تتمة في رواية أخرى: ((... وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ))
[ الترمذي ـ أحمد ]
معنى ذلك أن الحياء يحملك على فعل الخيرات، وفعل الكمال، وفعل الجميل، وأن الحياء يمنعك من فعل السيئات، وفعل القبائح، وفعل المنكرات، فالحياء والإيمان واحد، الحياء والإيمان قُرِنا جميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر، إذًا هناك مؤشران للحياء والإيمان ؛ هذان المؤشران يتحركان معاً.
لكن أريد أن أنبه أيها الإخوة أن الحياء شيء، والخجل شيء آخر، الخجل أن تستحيي أن تطلب حقك، أن تستحي أن تُدليَ بالحق، أن تذكِّر بأمر الله، أن تأمر بالمعروف، أن تنهى عن المنكر، تستحيي أن تقول للمخطئ إنك مخطئ، هذا ليس حياءً، فالحياء فضيلة، لكن الخجل نقيصة.
الخجل أُدْرِج في علم النفس مع الأمراض النفسية، لكن الحياء أدرج مع الفضائل، الحياء فضيلة، لكن الخجل رذيلة، وفي حديث صحيح عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ))
[ البخاري ـ مسلم ـ أبو داود ـ أحمد ]
أحياناً الحياء يحجبك عن معصية، عن فعل شنيع، عن فعل قبيح، عن إيقاع أذى، وقد بلغ من حياء النبي صلى الله عليه وسلم - دققوا -أنه لم يواجه أحداً بما يكره، هناك إنسان طبيعته وقحة، يرى إنساناً جالسًا بين مجموعة فيقول له: أنت غلطت، وقلت كذا، لا يراعي كرامته، وإحساسه الرقيق، ومشاعره، بل يَفْضحه بين الناس، أنت ممكن أن تنصحه بين الناس بألطف عبارة، وبأدق إشارة من دون قسوة، من دون تجريح، من دون فضح، لذلك قالوا النصيحة شيء، والفضيحة شيء آخر.
وهذه نصيحة أيها الإخوة، إذا أردت أن يتشنج الإنسان، وأن يركب رأسه، وأن يقول لك قولاً غليظًا جرحًا فوَجِّهْ إليه نقداً أمام ملأ من الناس، عندئذٍ لن يكون منطقياً، ولا واقعياً، ولا متفهماً لكلامك، لأنك ربطت بين النصيحة والفضيحة، أما إذا أردت الخير فلا تفضح أحداً على ملأ من الناس، ولكن انفرد به، وانتقِ أجمل عبارةٍ، وأدق إشارةٍ، وكن مخلصاً في إسداء هذه النصيحة حتى يتقبلها أخوك، وفي هذا عمل جليل.
وقد بلغ من حيائه صلى الله عليه وسلم أنه لم يواجه أحداً بما يكره، بل يعرِّض بذلك، أو يأمر بعض أصحابه من يصارح ذلك الرجلَ المقصر، مثلاً قد يرتدي إنسان ثوبًا بالصيف أبيض من دون بنطال، أو سروال تحته، فيجلس من دون عناية، وتبدو عورته، وهو لا ينتبه، إذا سكتنا، وما تكلمنا ولا كلمة لم نكن له ناصحين، وإذا نصحناه أمام الناس أيضاً فهذه مشكلة، من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه أن يوجهوا صحابياً إلى خطئه، لأن النبي مقامه كريم، فإذا هو نصحه أمامه يصغر، ويقع في إشكال، فإذا كان الإنسان يستيحي منك فلا تدقق كثيرًا، ولا تحرجه، ولا تقتحم عليه عالمه الخاص، فلو فرضنا إنسانًا دخل على غرفة ابنه، فقد يكون ابنه في تلك اللحظة قائمًا يغيِّر ملابسه، فليُحْدِثْ حركةً أو صوتًا قبل أنْ يدخل عليه، وقد يكون جالسًا جلسة غير مقبولة ففاجأته، فاقْرَع الباب حتى يشعر أنك تريد أنْ تدخل غرفته، أو نادِ أخاه الثاني أمام غرفته، فيأخذ حذره، ويتهيَّأ، أو يعتدل في شأنه، الإنسان الذي يستحيي فاستَحْيِ منه، والذي يستهابك استهَبْهُ، الذي يحسب لك حسابًا فلا تدقق عليه حتى تبقى أنت في مكانتك، فإِنْ كان الشخص يهابه ابنُه، لكنه يقتحمه، ويقتحمه، فبعد ذلك يفجر الابن، وكذلك المعلم، والمدرس، والقاضي، فإذا استحيا منك شخصٌ فحاول أن تحفظ مكانته.
وقد روى أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ صُفْرَةً فَكَرِهَهَا قَالَ لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَغْسِلَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ قَالَ وَكَانَ لَا يَكَادُ يُوَاجِهُ أَحَدًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ))
تذكرون كما ورد في السيرة عندما كان النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في دعوة غذاء، وقد تناولوا لحم الجزور، يبدو أنه ظهرت رائحة تؤكد أن أحد الحاضرين انتقض وضوءه، فلما أذن العصر فكل الصحابة متوضؤون، فمَن الذي سوف يتوضأ ؟ هذا الذي انتقض وضوءه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لعظيم كماله، وعظيم حيائه قال:
((من أكل لحم جزور فليتوضأ))
قالوا: كلنا أكلنا، قال: كلكم توضؤوا.
من أجل أن يستر حال هذا الذي انتقض وضوءه، هذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، أحياناً الخطيب يلقي خطبة يتحدث فيها عن فساد المجتمع، والنساء الكاسيات العاريات كيف يرتدين الثياب، ويذكر أعضاء المرأة عضوًا عُضوًا على منبر رسول الله، واللهِ إنّ ذكر الأعضاء على منبر رسول الله أمرٌ لا يليق، والناس تفهم على الطائر، يكفي أنْ يقول: ثيابهن متبذلة، وانتهى الأمر، وصار مفهومًا أنّ ثياب النساء متبذلة، فاضحة وليست محتشمة، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ:

((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))
(مسند الإمام أحمد)
أين العظم ؟ العظم لا يظهر في مواطن كثيرة، وما ذكر شيئًا مٍن أعضاء المرأة.
هناك شيء آخر سأقوله لكم، قد يرتكب الإنسان غلطة فلا تواجهه صراحةً، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ويكون واحد هو الذي ارتكب الغلطة، وهو عندما قال أقوام ضيعه، دققوا، فمِن الممكن أن يغلط الإنسان غلطة بمفرده، أنت يمكنك أن تقول: هناك عدد كبير من الناس يفعلون هذا، فالجمع ضَيَّعه، أحياناً ترى مخالفة في مجلس العلم، إذا ذكرتها في أثناء وقوعها اتَّجهتْ كلُّ الأنظار إلى المخالف، ولكن بعد العشاء، وبعد أن انتهت الصلاة والأماكن تغيرت والمخالف حكماً مخالفته زالت إذا نبهتَ إليها فلا مانع، فالمسلم يجب أن يكون نبيهًا ولطيفاً، قال تعالى:

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
[ سورة آل عمران ]
العلماء لهم عند هذه الآية وقفة رائعة، قالوا: الباء باء السببية، أيْ بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليّناً لهم، فلما كنت ليّناً معهم التفّوا حولك، وأقبلوا عليك، وأحبوك، وطبقوا سنتك، وارتقوا إلى الله عن طريقك، ونجوا من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وسعدوا بك، لأن رحمة استقرت في قلبك أدَّت إلى لينك معهم، واللين جذبهم، ولو لم تكن هذه الرحمة في قلبك لكنت فظاً غليظاً، وحينما تكون فظاً غليظاً ينفض الناس من حولك رغم أنه يوحى إليك، أخي في حيِّنا دكتور قاسٍ، دكتور بأخلاقه العالية، إذا كان لديه قسوة، وإجحاف وكبر، انصرف الناسُ عنه، مهما كانت علمه وكانت خبرته، واعلمْ أنّ شهادتك هي أخلاقك.
ومن ذلك حياؤه صلى الله عليه وسلم من القوم الذين أطالوا الجلوس عنده بعد الأكل، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم انصرفوا، كلمة (انصرف) وقعُها صعب على المؤمن أنْ يتحملها، فكان لا يتكلم كلمة جارحة، فهناك أشخاص لو جرح بكلمة يراها فعلتْ جرحاً بليغاً، وبذلك تخسره.
اسمعوا هذه القاعدة أيها الإخوة ؛ مجموعة تصرفات كثيرة وذكية، ومجهدة، تشدّ إنسانًا إليك، تصرُّفٌ واحد أحمق ينصرف به عنك، فالانصراف يكفي بحادث واحد أحمق، كلمة قاسية، كلمة غير لبقة، كلمة فيها تعجرف، فمئةُ تصرف ذكي، وكامل، ولطيف تُبذل حتى تشده إليك، أما التنفير فيكفيه تصرف واحد ليبعده عنك.
أنا أسأل أحياناً بعض الذين انضموا إلى جماعة ثم انتكسوا، وتركوا الدين كله، وهذه ممكن أن تكون بدراسة، فعندنا ظاهرة مفادها إنسان انضم إلى مسجد، وأقبل على الدين بكليته، وفجأةً انتكس، وانقلب على عقبيه، فلو كانت هناك دراسة اجتماعية نفسية تجد أنّ إنسانًا أساء إليه، فلضعف تفكيره لم يفرق بين الدين وبين هذا الإنسان، بل جمعهما معاً، فَكَرِهَ الدين بسبب هذا الإنسان، نخبة قليلة وقلة قليلة تستطيع أن تفرق بين الدين، وبين رجال الدين، بين القيم، وبين من يدعي هذه القيم، بين المبادئ والأشخاص، لكن الكثرة الكاثرة لا تستطيع أن تفرق، تصرف قاسٍ واحد، تصرف مجحف واحد، تصرف واحد فيه كبر ربما صرفتَ به إنسانًا عن هذا الدين العظيم الذي كان من الممكن أن يكون سبب سعادته، فقبل أن تقول كلمة، قبل أن تبتسم، جاءك سؤال سخيف وابتسمت، هذا السائل لن يسألك بعدُ طيلة حياته أبدًا، لقد منعتَ عنه العلم لأنك سخرت منه، أما أنْ يطرح عليك سؤالاً، وأن تصغي إليه بأدب، وأن تقول: السؤال وجيه، وهذا جوابه، فقد شجعته أن يسأل، فاللهم ألهمنا الحكمة قولاً وعملاً، والإنسان إذا صدق في خدمة الخلق ألهمه الله سلوكَ الطريق الصحيح.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
((مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ: ادْعُ لِي رِجَالاً سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ...))
وبالمناسبة أذكرُ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قُدِّم إليه طعام فأكله وحده أبداً، قدَّم هذا الصحابي الجليل هديةً لرسول الله فأمره أنْ يدعوَ قومًا ليأكلوا معه ؛ ((... قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ...))
[ البخاري ]
والنبي الكريم قال: أذيبوا طعامكم بذكر الله ولا تناموا عليه.
الإنسان إذا جلس للطعام مع أولاده يرتِّب جلسة لطيفة، فالأكل نشاط اجتماعي، هناك من يأكل كما تأكل البهائم، أما المؤمن فيأكل بهدوء.
شكا بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطعام لا يكفيهم فقال: لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم.
مع الاجتماع على الطعام فوائد.
أولاً: الطعام الذي يجتمع عليه الناس يبارك الله فيه، لاحظ أحياناً أنّه قد زادت بقية طعام، لو جلس كل أفراد الأسرة على هذه البقية لكفتهم، أما إنْ أكلوا فرادى فلا تكفيهم.
ثانياً: الطعام مناسبة لذكر الله عز وجل فقال: أذيبوا طعامكم بذكر الله، يبدو أن الطعام يزداد هضمه أو يسهل هضمه إذا مزج بذكر الله عز وجل، فإذا كان إنسان غضبان فلا يأكل، لِيأكلْ، وهو مرتاح، ويأكل مع أخيه، ولا يبقى ساكتًا، وعينه في الطعام، كُلْ ببطء، وحِّدث أخاك في أثناء الطعام، وهذا من السنة.
ولا تناموا عليه، فإذا نام على الطعام، يعني أكل من دون جهد، تراكَمَ الغذاء من دون عمل، هذا الغذاء يترسب في الشرايين، وإذا تصلِّبت الشرايين تعبَ القلب.
ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم، القلب يضخ الدم، والشريان، قلب آخر !! فهل تصدقون ؟
أخ من إخواننا قال لنا هذا، الذين يعملون في الصحيات، أنبوب الماء يضخ اثني عشر بارًا، البار وحدةٌ تحمّل الضغط، طبيب من أطباء القلب الذين اختصوا في موضوع البالون قال: يدخلون بالونًا عن طريق الوريد الفخذي إلى الشريان الذي في القلب المسدود، فإذا دخل هذا البالون توسع حتى يفتح المجرى، فسئل هذا الطبيب ألا ينفجر هذا الشريان ؟ قال له: لا، لأن هذا الشريان يتحمل عشرين باراً، فقد جهَّز الله عز وجل الشرايين بعضلات مرنة طولية وعرضية، فلما يضخُّ القلب الدمَ يتوسَّع الشريان بحسب مرونته، ولأنه مرن يجب أن يعود إلى حجمه الطبيعي فيتقلص، ولما يتقلص ينقل الدم إلى الجهة الثانية، فصار الشريان قلبًا أيضاً، فكلما كان الشريان مرنًا ارتاح القلب، لكن الشريان عندما تترسب فيه الدهون يفقد مرونته، ويتعب القلب.
انظروا إلى دقة الحديث:
((أذيبوا طعامكم بذكر الله ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم))
يتعب القلب، وإذا تعب تضخّم، بعد أن يتضخم يسترخي، وأخطر شيء في الإنسان شرايينه ومرونة هذه الشرايين، ودواؤها الأول زيت الزيتون، عشرين سنة والأطباء ينهون عن زيت الزيتون، ويحذِّرون منه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ))
[ الترمذي ـ ابن ماجة ]
الآن، العالم كله يقول الدواء الوحيد لتصلب الشرايين زيت الزيتون، وهو الزيت الذي تركيبه غير مشبع، بمعنى أنه يلتقم ذرات الدهن في الدم، فالزيوت غير المشبعة تخفض الشحوم الثلاثية في الدم، أما الزيوت المشبعة فترفعها، يخفض الكولسترول، ويخفض الضغط، لأنه صنع الله عز وجل، ((أذيبوا طعامكم بذكر الله ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم))
والنبي عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم، وبعد أنْ أطعمهم رآهم استمروا في جلوسهم، فتضايق واستحيا منهم، عندئذٍ أنزل تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق﴾
[سورة الأحزاب]
((... حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ))
[ البخاري ]
والإنسان أحيانا قيد دخل بيته الساعة الثالثة، وعنده الساعة الرابعة موعد، فلديه إذًا ساعة فراغ واحدة، فإنْ لم يسترِح قليلا فلن يستطيع أنْ يستأنف العمل، فيأتيه إنسان بعد الساعة الثالثة بقليل بلا سبب وجيه، بلا أمر مهم، وبلا أمر قاهر، مستأنس فقط، الإنسان يحتاج إلى ملاحظة أنّ هذه الفترة ساعة راحة المرء الوحيدة، وقد يجري بعضهم اتصالاً الساعة الثانية ليلاً، والموضوع يتعلق بالميراث، هل من المعقول الاتصال بالليل لفتوى على الهاتف الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أصحاب القضية سهروا فاختلفوا، يقولون: نسأل الأستاذ فلانًا، فهذا ليس معقولاً إطلاقاً، الإنسان يحتاج إلى ذوق، هناك أوقات نوم وراحة، يطُرق الباب، وما فُتِح، فصاحب الببت يتوضأ في الحمام، أو يصلي الظهر، فالأدب أن تنتظر ما يساوي أربع ركعات، فلو أنه قال: الله أكبر، وأنت طرقت الباب فماذا يفعل ؟ والطَّرق المستمر يشوش الصلاة.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ولا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ...))
[ مسلم ـ أبو داود ـ أحمد ]
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾
[الأحزاب: الآية 53]
لذلك قال النبي الكريم: ((العيادة فواق ناقة))
مريض متألم، ومضطر لتناول دواء، حقنة، جرعة، يريد أن يأكل، جاء الطبيب يريد أن يغير له الضمادة، فهذا حال لا يصح، وليس مقبولاً لا عقلاً ولا ذوقًا ولا دينًا.
﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَق﴾
[الأحزاب: الآية 53]
والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي حياء كرم، فلن يقول لضيوفه: انصرفوا، فهذه ثقيلة، إذا قلت لإنسان: انصرف فمن الممكن ألاّ يدخل بيتك في حياته، وهذا شيء وقع، فالنبي كان يستحيي، وإذا كان يستحيي فالمفروض على الطرف الثاني أيضاً أن يكون لطيفاً، قالوا: المراد أنه صلى الله عليه وسلم يستحيي حياء كرم أن يقول لضيوفه: انصرفوا، واللهُ لا يستيحي من بيان الواجب اتباعه، وهذا لا ينافي أنه سبحانه و تعالى متصف بحياء الكرم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا))
[رواه أبو داود]
أي خاليتين، فالله عز وجل كريم، إنْ قلت: يا رب بإخلاص ثم لا يلبِّي دعاءك، فهذا غير صحيح، أما إذا كان الطلب غير معقول فلن يجيبك، فاجهد أن تطلب من الله الشيء الذي يرضيه.
العلماء ذكروا أن للحياء أنواعاً، النوع الأول: حياء الكرم، وسببه كرم النفس كاستحيائه صلى الله عليه وسلم من القوم لما أطالوا الجلوس عنده، ضيف دخل بيتك، وليس عندك شيء لتضيفه فتستحيي، هذا حياء الكرم، و من ذلك حياء الإجلال، حياء الكرم زارك ضيف ولم تكرمه، أو طلب منك شيئاً، ولم تلبِّه، أو وسّطك لقضية فخيَّبتَ ظنه فيها، أذكر مرة أنّ سيدنا عليًّا قال كما ورد في نهج البلاغة: " واللهِ والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين، و كنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، و نقل بحرين زاخرين بمنخلين، و غسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين "، تقف بباب اللئيم ثم يردك، لذلك فالنبي عليه الصلاة و السلام ما سئل عن شيء فقال: لا، رجل وضع ثقته بك، والله كريم لا تخيب ظنه بك، هذا حياء الكرم، أما حياء الإجلال فهو حياء سببه المعرفة بعظمة المستحيا منه، أي أنت طالب والأستاذ حضر عندك درس ومذاكرة فخجلت من مقامه، طلاب العلم المخلصين يستحيون ممن تفوَّق عليهم بالعلم، أن يتفلسفوا أمامه، أو يتطاولوا، والإنسان إذا كان عنده هذا الأدب لا يتجاوز حده مع من علَّمه، فهذا حياء الإجلال، والنبي عليه الصلاة و السلام قال:
((وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ قَلْبًا))
[ رواه أحمد عَنْ عَائِشَةَ]
فكان أصحابه الكرام أمامه لا يتكلمون إجلالاً لمقامه العلمي، يقال: سكت إجلالاً لعلمك، أحياناً تجد رجلاً علمه قليل ومِن دون دقة، ومن دون دليل، من دون برهان، و بحضرة عالم جليل هو يتكلم خمس دقائق، ربع ساعة، نصف ساعة، وكلامه كله أغلاط، أو كله ضحالة، فالإنسان يجب أن يستحيي ممن تفوَّق عليه، أحيانًا طبيب ناشئ مع طبيب كبير، تاجر صغير فتح محلاً البارحة مع تاجر قضى أربعين سنة بالتجارة، ممرض أمام طبيب مثلاً، إنسان برتبة دنيا أمام إنسان برتبة عالية، الحياء دليل الإيمان، هذا حياء الهيبة والإجلال، الإنسان من الأكمل أمام من تفوّق عليه أن يقف بحياء، حياء المحبة، وهذا حياء المُحبِّ من محبوبه، فيستحي أن يسيء إليه لأنه يحبه.
وهناك حياء العبودية، حياء العبودية فيه محبة وخوف، رغباً ورهباً، يرجو ويخاف، يطمع برحمة الله ويخاف عقابه، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، هذا حياء العبودية يجب أن يجمع بين الخوف والرجاء، أمّا خوف فقط معه يأس، ورجاء معه تفلُّت، فربنا عز وجل قد يؤدِّب فاعلَه، مثلاً يرى المؤمن حين تزداد ثقته بنفسه، وثقته بأن الله يحبه يتساهل قليلاً، إذا تساهل فالله عز وجل يحجبه، ينكمش لكنه يرجع بعد حين أكثر أدبًا، وحتى لا ييأس فقد يفتح الله عليه، أمّا التأديب فإنّ الله سبحانه وتعالى يقلبك من حال إلى حال، إذا كان حالك حال الثقة الزائدة مع التفلت يأتي الحجاب، حال اليأس مع القنوط يأتي الفتح، وعلى كلٍ حياء العبودية يجب أن يجمع بين الخوف والرجاء.
بقي حياء المرء من نفسه، الإنسان أحيانًا يكون في غرفته، والباب مقفل، والنوافذ كذلك، فإذا عمل عملاً لا يليق بمكانه كإنسان فيستحيي من نفسه ويتوقف، إذا نظف الإنسان نفسه تنظيفًا جيدًا فالنظافة احترام للذات، فالإنسان وحده لا يعبأ لأنّه لا أحد يراقبه، لكن ألاَ يستحيي من نفسه ؟ ألاَ يستحي من الله الذي يراه ؟.
فهذا حياء الحشمة، قالوا: هذا الحياء سببه الاحتشام، وتَوِّقي إبداء ما يُطلَب منه الإخفاء، كلما كان أكثر حشمة فالحياء من النفس، حياء العبودية، حياء المحبة، حياء الإجلال، حياء الكرم، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ قَالَ:
((خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلاءِ وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ أَبْعَدَ))
[ النسائي ـ ابن ماجة ـ أحمد ]
أخبرني إنسان سافر إلى بلد شرقي حينما كان ملتئم الشمل، وانتسب إلى جامعة من أكبر الجامعات هناك، طبعاً دخل في المدينة الجامعية، ففوجئ في أول يوم عطلة حين أراد أن يغتسل قال: صالون ضخم كلها منابع ماء، ويغتسل كل الطلاب ذكوراً وإناثاً عراةً مختلطين، المراحيض بصالون يضمُّ خمسين مرحاضًا ليس بين اثنين حواجز، إنهم وحوش، فإذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء، أين نحن المسلمين، الحمد لله لدينا بقية حياء، بقية احترام للذات.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرْضِ))
[ الترمذي ـ أبو داود ]
أنا ألاحظ أناسًا يلبس أحدهم ثوبًا في الصيف يشمره إلى مكان عالٍ بلا سبب، يدَّعي أنه يتهوى، ويمشي في الطريق بلا حياء أبداً، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المِرفَق ـ دورة المياه ـ لبس حذاءه وغطى رأسه، ((وكان عليه الصلاة والسلام يغتسل من وراء الحجرات وما رأى أحد عورته قط))
[ وإسناد هذا الحديث حسن ]
أيها الإخوة ؛ هذا حياء النبي، والمؤمن يستحيي، والحياء من الإيمان، والحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، وإذا أثبت الحياء أثبت الإيمان، وإذا نقضتَ الحياء نقضتَ الإيمان، وإذا أثبتَّ الإيمان أثبتَّ الحياء، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء من لوازم الإيمان والحياء من الله، ألا يستحي أحدنا من الله عز وجل ؟ قال له: ابن آدم عظ نفسك فإذا وعظتها فعظ غيرك وإلا فاستحْيِ مني.
شيء مخجل، وقاحة في الإنسان أنْ ينصح الناس ولا ينتصح، يأمرهم ولا يأتمر، ينهاهم عن شيء ثم يقترفه، هذا من الوقاحة ومن قلة الحياء، فاستحيِ من الله حق الحياء، أجل، حق الحياء:
((... وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
[ الترمذي ـ أحمد ]
إذًا الرأس وما حوى؛ العين والأذن واللسان، والبطن وما حوى ألاّ نأكل طعاماً حراماً، في الدرس القادم إنْ شاء الله ننتقل إلى عظيم مهابته صلى الله عليه وسلم.





والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:06 PM   #18


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( الثامن العاشر )

الموضوع : مهابتة صلى الله علية وسلم






الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا، و زدنا علما، وأرنا الحق حقا و ارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الثامن عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه و سلم، و موضوع البحث اليوم مهابتُهُ العظيمة صلى الله عليه و سلم وفخامته الكريمة.
أيها الإخوة الكرام ؛ في شخصية الإنسان شيء يخرج عن كل قاعدة، و يهزأ بكل أصول، هذا الشيء سرٌّ من أسرار الله تعالى، إنه المهابة فإنسان قد يكون من أقوى الأقوياء، أو من أغنى الأغنياء ومع ذلك ينزع الله منه المهابة، و إنسان من أضعف الضعفاء، ومع ذلك قد يلقي الله عليه المهابة.
قلت لكم مرة: إن الإمام الحسن البصري حينما أدى واجبه كعالم، و تكلم بالحق الذي رآه أغضب الحجَّاج، فلما نُقل إليه ما قاله الحسن البصري، قال بالحرف الواحد: ( يا جبناء، و اللهِ لأسقينكم من دمه، و جاء بالسياف فورا، وأمره بقطع رأسه، وطلب الحسن البصري عن طريق أعوانه، فالحسن البصري حينما دخل على الحجاج، ورأى السياف ينتظر قدومه، والنطع قد مُدَّ على الأرض، ولم يبق على قطع رأسه إلا أن يصل، ما كان من الحجاج ساعة دخوله إلا أن وقف له، واستقبله، ودعاه إلى الجلوس على سريره، ثم سأله عن حاله، ثم استفتاه ثم قال له: أنت يا أبا سعيد سيد العلماء، ثم عطَّره ثم شيَّعه إلى باب القصر، وودَّعه توديعا لائقا، فالذي صُعق هو السياف والحاجب، فلما خرج تبعه الحاجب، وقال له: يا إمام لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فماذا قلت ؟ فذكر أنه حينما دخل توجَّه داعيًا الله سبحانه وتعالى: و اللهِ قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي عند وحشتي، اِجعل نقمته عليَّ بردا و سلاما، كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم)، ما الذي حدث ؟ لا أحد يستطيع أن يفسَّر ما حدث، لكن في شخصية الإنسان شيء يخرج على كل قاعدة، و يهزأ بكل أصول، هذا الشيء هو أن الله عز وجل يلقي على بعض المؤمنين المهابةَ، وهناك أشخاص تُنزع عنهم المهابة، تراه تافها لا قيمة له، يبدو ظاهرُه على أنه قويٌّ، وعلى أنه غنيٌّ، ثم تراه حقيقة سخيفَ العقل، مضطربَ الفؤاد، إذًا هذا حال لابد أنْ يفهمه المؤمن، لأنه من لوازم حياته، وقد ورد في الأثر أنه:
((من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه اللهُ من كل شيء ))
المؤمن معه سرٌّ عجيب، هذا السر قاعدته الاستقامة على أمر الله، والإخلاص لله، استقامة بالسلوك، والإخلاص بالقلب، ففي القلب إخلاص، وفي السلوك انضباط، فالله عزوجل يمنحك هيبةً بقدر إخلاصك له، وبقدر استقامتك على منهجه، وعندئذ تبدو لك هالةٌ حول شخصك كبيرة جدًّا، ما هذه الهالة ؟ هو أنه مَنْ تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر وضعه، هارون الرشيد حينما قدِم إلى الديار المقدَّسة ليحجَّ بيت الله الحرام قال: (ائتوني بأحد العلماء الكبار كي أستفيد منه فذهبوا إلى الإمام مالك، قالوا له: إنّ الخليفة يرجو أن يلتقي بك كي يسألك بعض الأسئلة، فقال: قولوا له: يا هارون، إن العلم يؤتى، ولا يأتي، قال لهم: صدق، ثم قال لهم: و اللهِ إن جاء لن أسمح له بتخطَّي رقاب الناس، فبلَّغوه ذلك وقال لهم: معه الحق و هكذا السُّنة فلما جلس قال: من تواضع لله رفعه و من تكبَّر وضعه )، أي إذا كان الإنسان مع الله ألقى عليه هيبةً، وهيئة وقورة، أما إذا كان الإنسان غير مخلص اتَّجر بالدين، وابتغى بالدين عرض الدنيا نزع عنه كلَّ مهابة، ويروون قصةً سمعتها من أحد الأشخاص الذين عاصروا أحداثها، السلطان عبد الحميد أراد أن يدعوَ الشيخ بدر الدين الحسني شيخ الشام إلى استنبول لحضور احتفالات، أرسل له الصدرَ الأعظم، أي أعلى شخصية بعد السلطان، ركب بارجة من البوسفور إلى بيروت، ومنها إلى الشام، ودخل على الشيخ ليدعوَه باسم السلطان، قال له: يا أبي، أنا لا أرضى بمثل هذه الحفلات، ولا أحد يجرؤ أن يكرِّر الطلب عليه ثانيةً، رجع الصدر الأعظم، ووصل في طريق عودته إلى إسكندرون، لكنه كبُر عليه الأمر، الصدر الأعظم يبعثه السلطانُ ليدعو عالما إلى حضور احتفال في استنبول، فيرفض، ماذا سيقول له السلطان ؟ أخذته الحميةُ، قال: واللهِ لآخذنَّه بالقوة، فعاد إلى بيروت مرة ثانية، ووصل إلى الشام، ودخل عليه، وفي نيته أن يأخذه قسرًا، كان الشيخ يصلي، فلما سلَّم رآه في غرفته، قال له: يا أبي رجعت ؟ قال له: نسيت أن أقبِّل يدك يا سيدي، هات إخلاصًا، واستقامة، وخذْ تكريمًا ومهابة، وإذا فَتَرَ الإخلاص عند المسلمين، وضعفت الاستقامة تهاوى قدر الإنسان، واستُهين به، واستخفَّ به، واستهزأ به، فاللهُ عزوجل له مقاييس دقيقة، فالمؤمن من لوازمه أنه مُهاب، واللهُ عزوجل يلقي عليه هيبة، وهذه الهيبة ترفعه بين الناس، من دون قصد منه، وطبعا سيِّدنا رسول الله سيد الأنبياء و المرسلين، كان عليه الصلاة و السلام عظيم المهابة، وقد توَّجه اللهُ تعالى تاج العزَّة والكرامة، وكساه حُلَّة الفخامة، أنا لا أعتقد على الإطلاق أن على وجه الأرض من دون استثناء رجل أعزَّه اللهُ كرسول الله، مع أنه كان في منتهى التواضع، وإذا دخلت إلى الحرم النبوي الآن ترى الذي لا يُصدَّق، مئات الألوف، خمسمائة ألف ومليون يمشون أمام قبره، ويبكون، ولم يروه أبدًا، وما التقوا به، و ما سمعوا منه، و ما أخذوا منه شيئا، قال تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
[سورة الشرح]
و لكل مؤمن من هذه الآية نصيب، بقدر إيمانه، قال تعالى:
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾
[سورة فاطر]
العزُّ كلُّه عند الله، والعز كلُّه في طاعة الله، و الكرامة كلها للمؤمنين، ما اتَّخذ اللهُ وليًّا ذليلا، و ما اتَّخذ الله وليًّا جاهلا، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعِز من عاديت، فكان عليه الصلاة و السلام عظيم المهابة، قد توَّجه الله تعالى تاج العزة و الكرامة، و كساه حلة الفخامة، فقد روى الترمذي في الشمائل وغيره من حديث هند بن أبي هالة يصف النبي صلى الله عليه و سلم فقال: ((كان رسولُ الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخَّما))
وعلى ضوء التفسير العلمي، فالإنسان إذا وجدتَ عليه مأخذًا كبيرًا إنْ ؛ في كسب المال، أو إنفاقه، أو في علاقته مع النساء، ووجدته يسترق الطرف، لا يبالي أكان المالُ حلالا أم حراما، إن وجدت زوجته ضعيفة، وورعه قليلاً، و نفسه "خضراء " بالتعبير العامي" وماديًا، سقط من نظرك، رغم أن له ألقابا كبيرة، وشارات علمية ونعوتًا، انتهى، فالقضية أن توقن أن فلانا مستقيم، والاستقامة تعطي قدسية، كما أنّ القدسية نظيرة المهابة.
الحقيقة أنك أحيانا قد لا تعلم عن الإنسان شيئا، ثم هو يفضح حاله، مرة أنا التقيت مع شخص يحمل اثنتين من الدكتوراه، في الفيزياء و في التربية، كنت أتمنى ألاَّ يقول لي هذه الكلمة، لكنه قال لي كلمة من دون قصد فنزلت مكانته مِن عيني، أو هبطت به، والإنسان قد يقول: أنا لا أصلي، ألاَ تصلي، وأنت في الأربعين ؟ أعاقل وراشد هذا ؟! بينما الدين واضح كالشمس، والكون الذي يحيط به معجِز يدلّ على الله، والأمر بالصلاة قطعي، فتشعر بضعف في عقله، إنسان يأكل مالا حراما، أين عقله ؟ إنسان يسلك سلوكا خاطئا أين عقله ؟ فروى الترمذي في الشمائل و غيره من حديث هند بن أبي هالة يصف النبيَّ صلى الله عليه و سلم فقال:
((كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخَّما يتلألأ وجهُه تلألؤ القمر ليلة البدر))
و قال سيدُنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم: (من رآه بديهة هابه و من خالطه معرفة أحبَّه)
و يا أيها الإخوة الكرام ؛ كتطبيق عمليٍّ لهذا النص، كلُّ مؤمن ينبغي أن يكون على شيء من هذه الصفة، من رآه بديهة هابه، و من خالطه معرفة أحبه، على المخالطة هناك أشخاص على ظاهر المنظر هو رائع، فإذا عاملتَه تستعيذ بالله، مرة ذكرتُ أن الإنسان حينما تراه أول مرة تدرسه من ثيابه، من شكله، ومن أناقته، ومن نظافته، ومن تناسب الألوان، ومن أناقة اختياره للألبسة، أما إذا تكلَّم، وكان كلامه سخيفا نسيتَ أناقته، أو سقطت هيبته، ولو أنه تكلم كلاما طيِّبا، لكنه عاملك معاملة سيِّئة نسيت عذوبة كلامه، إذًا فأولُ شيء في تقييم الإنسان الشكل، ثم الكلام ثم المعاملة، أكثر الناس على الاحتكاك الشديد ينزل قدرُه عندك، على الاحتكاك الشديد، وعلى المخالطة، وعلى السفر، وعلى المجاورة، وعلى الشراكة وعلى المحاككة بالدرهم والدينار، أو في الجوار تسقط هالته الكبيرة، قد يكون ماديا، وقد يكون أنانيا، لا يؤدِّي واجبه في السفر، يأكل فقط، قد يكون وصوليا، و قد يكون فوقيا، لكن الأشخاص الذين على الاحتكاك الحميم، وعلى ضوء العلاقات الحميمة الزائدة تزداد حبًّا لهم، هؤلاء عظماء، و الشيء المألوف من شخص بأنه عن بُعدٍ جيِّد، أما عن قرب فقد يكون غيرَ جيِّد، وعن بُعد قد يكون مقبولاً، أما على المحاككة اليومية فغير مقبول، غير محتمل أساسا، رضي الله عن سيدنا عمر لما أراد من رجل أنْ يأتيه بمَن يشهد له، قال له: (ائتني بمن يعرفك، أولاً قال له كلاما في منتهى الأدب، قال له: لا أعرفك، ولا يضرُّك أني لا أعرفك )، انظُر إلى هذه الكلمة ما أدقّها إني لا أعرفك و لا يضرُّك أني لا أعرفك، ثم طلب منه مرةً أنْ يأتيه بمَن يشهد له، لأنه مرة أرسل جيشا إلى بلاد فارس، نعم، وجاء الرسول، و قال له: (يا أمير المؤمنين مات خلقٌ كثير إنك لا تعرفهم، فبكى سيدُنا عمر، وقال له: من هم ؟ قال: إنك لا تعرفهم، فبكى سيدنا عمر، قال: وما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان اللهُ يعرفهم )، ومَن أنا؟ انظُر إلى الإخلاص لله عزوجل، و ما ضرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم،انتهى الأمر، فهذا الشخص قال له: ( إني لا أعرفك، و لا يضرُّك أني لا أعرفك، مكانتك هي هي، لكن لا بدَّ من شاهد، فجاءه برجل ليعرِّف به، قال له: هل جاورته ؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه ؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال: لا، قال: فأنت إذًا لا تعرفه)، وبشكل عام من الصعب، وهذا كلام دقيق و خطير، من الصعب، أو من المستحيل أن تعرف حقيقة الإنسان مائة بالمائة، قد تعرف من المائة خمسا وعشرين، معي دليل قطعي مُسكِت، إنَّ النبيّ عليه الصلاة و السلام سيدُ الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، لما جاءه وفدٌ، وطلب علماءَ و قرَّاء، وقتلوهم في الطريق، وقد غدروا بهم، لِمَ لمْ يعرف ؟ اسمعوا الجوابَ ؛ ليس من شأن البشر أن يعرف حقيقة الإنسان المعرفة المطلقة التامة، قد تعرف من المائة خمسا وعشرين، من المائة ثلاثين، من المائة خمسين، و بالمائة ستين، أما المعرفة التامة فهي فوق طاقة البشر، لذلك أنصح لكم ألاّ تزكُّوا على الله أحدًا، قل: فلان أرى أنه صالح، والله أعلم، ولا أزكِّي على الله أحدا، أظن أن فلانا صالحٌ، أظنه مستقيما، أظنه ورِعا، أظنه عالما، والله أعلم، ولا أزكي على الله أحدا، فإذا لم تكنْ مكلَّفا بأن تزكِّيَ أحدا فليكن في الكلام تحفُظ، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبَّه، وقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم لا يستطيعون إمعان النظر فيه، لقوَّة مهابته، ومزيد وقاره، أكرر: لا يستطيعون إمعان النظر فيه لقوة مهابته، ومزيد وقاره، ومِن ثَمَّ لم يصفه إلا صغارهم، هذا الذي تأمَّل فيه مليَّا، ورأى لون جلد وجهه ونوع خدِّه، وخدُّه أسيل، دقَّق في ملامح وجهه و في خطوطه، هؤلاء صغار الصحابة، أما كبار الصحابة فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه لعِظم مهابته صلى الله عليه وسلم قال: ومن ثَمَّ لم يصفه إلا صغارهم، أو من كان يعرفه قبل النبوَّة، الذي كان معه، كابن عمِّه رضي الله عنه، كهند بن أبي هالة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:
((صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبةً طويلة و سمعت منه أحاديث كثيرة، و حفظت عنه ألف مثَل ومع ذلك ما ملأتُ عينيَّ منه قط، حياء منه و تعظيما له، و لو قيل لي: صِفه لما وصفته))
لذلك إذا زار الإنسان النبيَّ عليه الصلاة والسلام فمن السُّنة أن تقف بعيدا عن مقامه كما لو كان حيًّا، أحيانا الإنسان يقترب من زميله أو صديقه زيادة يكاد أنفه يلتصق بوجهك، مما يؤدِّي إلى مضايقته، فهذه عدم لباقة، اترُك مسافة أربعين سنتيمترًا بين شخصين، فالاقتراب الشديد جدًّا ليس من الأدب، فكان كبارُ المؤمنين إذا زاروا مقام النبيِّ عليه الصلاة والسلام يقفون أمام مقامه مسافة تتناسب كما لو كان حيًّا.
ومن عظيم مهابته صلى الله عليه وسلم، وكمال وقاره أنّ مَنْ جلس إليه هابه، و ربما أخذته رِعدةٌ شديدة من قوة الهيبة المحمَّدية، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يباسطهم، ويلاطفهم ليسكِّن من روعهم، أقول لكم نقطة دقيقة، إذا كان الشخصُ في منصب قيادي، مثلاً معلِّم مدرسة، رئيس دائرة مستشفى، مدير ثانوية، فهذا اسمه منصب قيادي، فإذا لم تكن له مهابة من الله، فلو عصرت نفسك لن تكون لك مهابة، وإذا كانت هناك مهابة، ولو كنت لطيفا، ولو تباسطت، ولو مزحت، فلك هيبتك، ثم إنّ مزاحك اللطيف مع من دونك، و مؤانستك لمن دونك، سؤالك عن صحَّتهم، وعن أحوالهم، وعن أولادهم، فهذه لا تنقص مهابتك، والهيبة سر من الله عزوجل يلقيه اللهُ على بعض المؤمنين.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
((أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ))
[رواه ابن ماجه]
كان سيدنا رسول الله مرةً مستلقيا على حصير و قد أثَّر في خدَّه الشريف كما جاء ذلك في حديث طويل عن عمر قال: ((... فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ))
[رواه البخاري]
أنا لست ملِكا، ولكنني نبيٌّ، فالمعنى أنّ هذه قاعدة أساسية، وهي أن ملوك الأرض ملكوا الرقاب، ولكن الأنبياء ملكوا القلوب، وشتَّان بين المُلكين، كلُّ إنسان قويٍّ يملك الرقاب، لكن البطولة والعظمة أن تملك القلوب، البطولة أن يكون المديح في غيبتك لا في حضرتك، المديح في حضرتك تملُّق إليك، أو خوف منك، لكن المديح الذي يُساق في غيبتك، دليل محبَّتك، دليل استقامتك، ودليل أخلاقك العالية، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: أنا لست بملك، ولا بجبَّار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، فعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))
[رواه أبو داود]
و التواضع من صفات المؤمنين الصادقين.
وعَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ
((أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَشِعَ وَقَالَ مُوسَى الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ))
[رواه أحمد]
وهذه ملاحظة أتمنى أن تكون واضحة، أحيانا ترى إنسانا فتجده شخصا له قيمته، فإذا فحصتَه اضطرب، والإنسان إذا كان في موقع الفاحص، أو موقع الحاكم، كالقاضي مثلاً، فكمال أخلاقه يؤكِّد إخلاصه لله عزوجل، فإنْ كنتَ كذلك فتواضعْ، واجعَل غيرك يأنس بك، ويُروى أن أحد كبار العلماء، وكان مفتيًا فيها، لعله الشيخ عطا الكسم فيما أذكر، وكان قاضيا، فدخلت امرأةٌ صحتُّها زائدة فيما يظهر، وهناك درج، فلما صعدته سُمِع منها صوتٌ قبيح، فغشيَ وجهَها الخجلُ، والحياء غمسها، وغطَّاها، قالت لأختها: لقد سمعنا القاضي، فلما وصلت، أدرك القاضي ذاك الشيء، و لما وصلت إليه قال: ما اسمكِ يا أختي ؟ فأجابتْ، قال: ما سمعت، ارفعي صوتَكِ، ثم قال: ما سمعت، أنا سمعي ضعيف، قالت: إذًا ما سمعَنا، يعني أنه لم يسمع الصوتَ الذي خرج منها، وليس بيدها ما صدر منها مِن صوتٌ، "فلقد انسلق بدنها " بالتعبير العامي، وذابت ذوبانا خجلاً، لكنه خفَّف عنها، عندما قال لها: أنا سمعي ضعيف، ما سمعت، ارفعي صوتكِ،ففهمت أنه لم يسمعها، والنبيُّ قال: ((لا تحمِّروا الوجوه))
لا تخجِل، ولا تُحرج الناس، لا تضعه في موقف يستحيي منك، وقد ترى شخصا يحمل دخينة، فتجده كأنه يريد أن ينعصر خجلاً، أدِرْ وجهك، ولا تؤكِّد زيادة، هو استحيا منك، وخجل منك، أدر وجهك ولا تدقِّق، لقد هابك فأعِنه على هيبتك، كلُّ إنسان يريد أن يحاسب زيادة تذهب هيبتُه، إن كنتَ أبا، أو كنت معلِّما، أو كنت رئيس دائرة، كثرة الحساب تذهب الهيبة، وبعد ذلك يتواقح، ويكسر، ثم بعد ذلك يفجر، قال: يا مسكينة عليكِ السكينة، قال: فلما قالها أذهب اللهُ ما بها من الخوف.
و من ذلك عن أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
((كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي، فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا))
[رواه مسلم]
وأنا أتمنى أن الإنسان إذا أدَّب ابنَه، والتأديب وارد أحيانا، فقال لك: لوجه الله فأوقِف، حتى يشعر أن الله عظيم عندك، قال لك: لوجه الله، فلا تُعِدها، انتهى وأوقف، وعلى المؤدِّب ألاّ يضرب الوجه، فالوجه مكرَّم، وكرامة الإنسان في وجهه، فضربُ الوجه منهيٌّ عنه ؛ و في رواية فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ))
[رواه مسلم]
قالوا: وقف رجل بين يدي الحجَّاج، و كان سيقتله، قال له: ( أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدرُ منك على عقابي، فعفا عنه، ذكَّره بالله عزوجل، قال له: أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدرُ منك على عقابي).
وعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ:
((كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ))
[رواه البخاري]
مِن حليِّكن، أي من الأشياء الثمينة، إنك رجلٌ خفيف ذات اليد - أي قليل المال - و الحقيقة في أحكام الزكاة يجوز للمرأة أن تعطي زكاة مالها لزوجها، وهو أقرب الناس إليها، لكن الرجلَ لا يجوز أن يعطيَ زكاة ماله لزوجته، لأنه مكلَّف بالإنفاق عليها، فإذا أعطاها من زكاة ماله فقد تحايل في دفع الزكاة، ولا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول مهما علوا، و لا إلى الفروع، ولا إلى الزوجة، فإذا كانت المرأة ميسورة وأنفقتْ على وزوجها الفقير فلها أجران، أمّا الآن فقد ترى المرأة زوجها معدَمًا من الفقر، ومعها ذهب، ومعها سيولة نقدية، ولا تعطيه، و لا تشارك في المصروف شيئا، إنّ المرأة مالها صعب عليها، فالنبيُّ الكريم قال: لهما أجران ؛ أجر القرابة و أجر الصدقة.
طبعا هناك استنباطات كثيرة من هذا الحديث، والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف أصحابه معرفة دقيقة، وفتواه تناسب، وأحيانا يكون الرجلُ غنيًّا، ويسأل: أعلى المال المدين زكاة ؟ فنقول له: أنت عندك مال فائض عن الدين ؟ فيجيب: نعم، طبعا، لك مائة ألف دينًا على آخر، ومعك مليون، وهذه مائة الألف ثابتة، معترف بها، واسترجاعها يقيني، ادفع زكاتك، وشخص آخر يسأل: أعلى الدَّين هناك زكاة ؟ نسأله: أمعك مال فائض ؟ لا، ليس معي، إذًا حينما تقبض دَينك تدفع الزكاة، فالفتوى في أحيانٍ كثيرة يجب أن تكون متعلقة بحال الإنسان، والنبي سأل واستفسر.
أيها الإخوة الكرام ؛ مهابته صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، طبعا الدرس له حالة تطبيقية، فمن تطبيقات الدرس، أن الإنسان كلما اشتدَّ إخلاصُه، واشتدَّت طاعتُه لله، فمن المكافآت في الدنيا قبل الآخرة أن الله سبحانه وتعالى يلقي عليه المهابةَ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))
[رواه البخاري]
والإنسان إذا عصى اللهَ عزوجل تُنزع منه المهابةُ، لذلك فالنبي الكريم ماذا قال ؟ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))
[رواه أبو داود]
مليار ومئتا مليون مسلم لا حول لهم ولا طول، هذا هو الوهن، أرجو الله سبحانه و تعالى أن تكون هذه القصص وهذه الحقائق دافعا لنا إلى مزيد من الإخلاص، ومزيد من الطاعة، حتى نكسب نصيبا قليلا مما أكرم الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم من هذه الهيبة، تجد شخصا له هيبته في البيت، وهناك شخص في بيته ليس له هيبة، فمن الممكن أن تتطاول عليه زوجته أو أولادُه، والمهابة إذا نُزِعت مشكلة كبيرة، الحياة لا يُطاق العيش فيها بلا مهابة، إذا كان الإنسان في بيته غير محترَم، تتطاول عليه زوجته، وأولاده، وفي عمله ليس محترما، فالمعنى أن لديه خللا كبيرا، فأنت كن مع الله عزوجل، يقول الإمام الشعراني: أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي، فكلما كان مستقيما مع الله أكثر، وله اتِّصال بالله أكثر، كانت له مهابة أكثر، و من دلائل هذه المهابة أن أهله يحترمونه احتراما بالغا، أما إذا كان لا الشخصُ بلا استقامة، وبلا إخلاص لله عزوجل تُنزَع هذه المهابة، عندئذٍ يجترئ عليه من حوله.
أرجو الله سبحانه و تعالى أن ننتفع بهذه الحقائق وبهذه السير، و اللهُ سبحانه و تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، وسنعالج في الدرس القادم إن شاء الله تعالى خشيته صلى الله عليه وسلم من الله سبحانه.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:10 PM   #19


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( التاسع العاشر )

الموضوع : خشيتة صلى الله علية وسلم وخوفة من الله






الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس التاسع عشر من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، و قد وصلنا في الدرس الماضي إلى خشيته صلى الله عليه و سلم و خوفه منه تعالى.
فقد كان عليه الصلاة و السلام أشدَّ الناس خشية من الله تعالى، وذلك لأنه أعلمهم بالله، ويجب أن نربط دائما بين الخشية والعلم، فحجم خشيتك بحجم علمك، وأنت تخشى اللهَ لأنك تعلم مقامه، ولن تزداد الخشية إلا إذا ازداد العلمُ، ولن يُفسِّر انعدامُ الخشية إلا بانعدام العلم، وهذه الحقيقة ثابتة في الحياة، الطبيب يزداد خوفُه من الطعام الملوَّث لأن علمه بالجراثيم، وطرق العدوى شديد، فكما قال عليه الصلاة و السلام:
((رأس الحكمة مخافة الله))
[ السيوطي في الجامع الصغير عن ابن مسعود]
فإذا شبَّهنا الحكمة بإنسان فرأسها مخافة الله فإذا ألغيَ الرأسُ أُلغي الإنسان، لذلك كان عليه الصلاة و السلام أشدَّ الناس خشية من الله تعالى، وذلك لأنه أعلمهم بالله تعالى، و الخشيةُ من الله تعالى تكون على حسب العلم، ويمكن أن تعدَّ هذه قاعدة ثابتة مطّردة لا تخيب و لا تتأخَّر، فإن وجدتَ نفسك تتفلَّت من منهج الله فلا بد أن تَحْكُم عليها بضعف العلم، لأن النبيَّ عليه الصلاة و السلام كان يدعو ويقول كما في حديثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ: ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا))
[رواه الترمذي]
فالخشية تسبب الاستقامة، و العلم يسبِّب الخشية، وهذه قاعدة صحيحة ؛ العلم يؤدِّي إلى الخشية، والخشية تؤدِّي إلى الاستقامة، فأنت تخشى بقدر ما تعلم و تستقيم بقدر ما تخشى، إذا أردنا دليلا قطعيا من كتاب الله ناصعًا كالشمس، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
[سورة فاطر(28)]
العلماء وحدهم يخشون الله، و:
﴿إِنَّمَا﴾
تفيد الحصر، أيْ أنه لا يخشى اللهَ أحدٌ إلا العلماء فقط، وليس المقصود العالم الذي له عمامة، لا، بل الذي عرف مقام ربه، قال تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾
[سورة النازعات]
الذي عرف مقام ربه هو الذي يخشاه، علمٌ، وخشية، واستقامة، أمّا ضعف علم، وضعف خشية، وضعف استقامة، يعني انعدام علم، انعدام خشية، وانعدام استقامة.
هذه قاعدة ذهبية في طريق الإيمان، كلما وجدتَ نفسَك تتفلَّت من منهج الله، أو تتساهل في تطبيق أمر الله، أو لا تبالي إذا كان هذا العملُ مشروعا أو غير مشروع، إن كنتَ لا سمح الله بهذه الحالة فاحكم على نفسك حكما قطعيا بأنّ خشيتك ضعيفة، لأن علمك بالله ضعيف، هذه حقيقة.
قَالَتْ عَائِشَةُ:
((صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً))
[رواه البخاري]
أيضا هذه مواقف غير أدبية، أن تفعل شيئا زيادة على ما فعله النبي وهو أشدُّنا خشية، وأشدنا علما، فهذا عمل فيه مجاوزة، و فيه رياء، و أحد الصحابة أراد أن يحرم قبل الميقات الذي أحرم منه النبي، فقال له صحابيٌّ جليل: ( ويلك تُفتن، قال: و لِمَ أُفتن ؟ قال له: وهل من فتنة أشدّ أن ترى نفسَك سبقتَ رسول الله)، والنبيُّ تزوج، فإذا ترك شخصٌ الزواج خوفا من الله، وورعا، فهذا رياء، لأن أشدَّنا خوفا هو النبي الكريم، أشدنا ورعا هو النبي، أشدنا علما هو النبي، ومع ذلك تزوَّج، أبو العلاء المعري ما أكل اللحم أبدا، قال: "هذا اللحم مذبوح، وهو حيوان، ونحن اعتدينا عليه"، معناه أن أبا العلاء المعري الشاعر يرى نفسَه أشد خشية من رسول الله، لا، بل هو كذَّاب أَشِرٌ، عندنا مقاييس، فالنبي رسولُ الله، و يُوحى إليه، وهو أشدُّنا علما وخشية، والذي فعله نفعله، والذي لم يفعله لا نفعله، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: ((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
[رواه البخاري]
هذه نقطة مهمة، إيَّاك أن تفعل شيئا لم يفعله النبيُّ، ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه.
مرة زارنا أخٌ، وكان عليَّ أنْ أحضر عقدَ قران، جلست معه وقتا كافيا، وأردت أن ألبِّي الدعوة، فدعوته ليذهب معي، فقال: يا لطيف، وانتفض، وقال: أنا لا أذهب إلى منكرات، قلت له: عقد قران، وأخ ضيف قادم من بلد آخر، ومعه حق، وعندهم في بلدهم عقود القران فيها اختلاط، وفيها غناء، ثم قلت: تعال معي، أخذنا مجلسنا، وقرأ القارئ القرآن الكريم، وأنشد المنشدون أناشيد رائعة حول أسماء الله الحسنى، ثم ألقيتُ أنا كلمة، ووُزِّعت الحلوى، فقال لي: أهذا هو العقد ‍! يا خجلي منك، عقد قران ليس فيه شيء، بالعكس من السنَّة أن تحضره، الأخ الكريم قاس الأمرَ على بلده، عقود القران عندهم فيها اختلاطات وغناء، فالإنسان لا بد أن يحسن الظنَّ برسول الله، وما فعلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو أكمل شيء، أكمل شيء على الإطلاق، بإمكانك أن تفعله و أن تزداد به من الله قربا، أمَّا أن تفعل شيئا ما فعله النبيُّ، أما أن ترفض الزواج، أن ترفض العمل فلا ثم لا، والنبي قد أمسك بيد أحد الصحابة فوجدها خشنة، رفعها أمام الملأ وقال:

((هذه اليد يحبُّها اللهُ ورسولُه))
إذا وجدتَ أخا عمله يدعوه للتعري، وهو لابس ثياب العمل ويعمل بنشاط، فما المانع ؟ العمل شرف، إني أرى الرجل ليس له عمل، فيسقط من عيني، هكذا قال سيدنا عمر: (يسقط من عيني )، قال: من يطعمك ؟ هذا إنسان يصلي في رمضان في المسجد، فيما بين الصلاتين، لكنه بلا عمل، مَن يطعمك ؟ قال له: أخي، فالنبي قال: "أخوك أعبد منك " الذي عمل و يكسب المال و ينفقه في طاعة الله و في إطعام المساكين و خدمة المحتاجين، هذا إنسان عظيم، فالانسحاب من الحياة ليس من الدين، ويجب أن تكون لك حرفة، ويجب أن تتقنها، ويجب أن تنفع بها المسلمين، ويجب أن تكون إيجابيا، وهكذا النبيُّ تألم، أكرِّر رواية الحديث: قَالَتْ عَائِشَةُ:
((صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً))
[رواه البخاري]
أحيانا أخ اجتهد اجتهادا فرغِب أن يعتكف اعتكافا مستمرا، ترك دراسته وعمله، من قال لك: هذا هو الصواب، يجب أن تعمل، وأن تتاجر، وأن تتوظف، وأن تتفوَّق في دنياك وفق منهج الله، هذا الذي ترقى به، لذلك عالم واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
هناك استنباط، قال: يُستنبط من هذا الحديث الحثُّ الشديد على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنهي عن التَّعمق، وفيه الذمُّ عن التنزُّه عن المباح شكًّا في إباحته، رجل اصطاد سمكة، فقال في نفسه: لعلّ هذه السمكة قد اصطادها أحدٌ قبلي فامتلكها، ثم تفلَّتت منه، ورجعت إلى البحر، لقد صارت هذه السمكة ملكه، فقال: أنا الآن آكلها حراما، هذه اسمها وسوسة غير مقبولة، إنّ الورع جميل، لكنه إذا تجاوز الحدَ المعقول صار هذا مرضا، فنحن لا نريد التفلت من الورع، و لا نريد وسوسة، كلاهما حدَّان ليسا من الدين في شيء، والصواب لا أن تتساهل ولا أن تتوسوس.
و اللهُ سبحانه و تعالى أعطى النبيَّ صلى الله عليه و سلم أفضل وأكمل مقام في المعرفة والخشية، فإذا عرفت، وخشيت الله عزوجل فقد نِلت كلَّ شيء، لأن المعرفة ثمارها الطبيعية الخشية، وإذا حصلت الخشية فقد انتهى الأمر، لذلك مِن الدعاء الشريف: " اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك"، والحديث الشريف:
((أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان ))
هذه أعلى درجة في الإيمان، أن ترى أن الله معك حيث كنت، عبَّر عنه بعضُهم بمقام المراقبة، أي أن تشعر دائما أنَّ الله يراقبك، و هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
[النساء: من الآية 1]
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح استشرفه الناسُ فوضع رأسه على رحله متخشِّعا، و في رواية البيهقي، دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح و ذقنه على راحلته متخشِّعا، و بعضهم قال: كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، من شدَّة الخوف و الخشية من الله))
و هذه الكلمة أقولها لكم بدقَّة، الإنسان عند المصيبة يخشع، وهذا شيء طبيعي، لكن الإنسان عند الرخاء قد ينسى، وقد يغترُّ، وقد يتجبَّر، قد يقول كلاما فوق مقامه، فإذا كنتَ تخاف عند الشدَّة مرة فينبغي أن تخاف عند الرخاء ألف مرة، لأن في الرخاء منزلقات كثيرة، منزلق الغرور، ومنزلق التجبُّر، ومنزلق العنجهية، ومنزلق الفوقية، ومنزلق التفلُّت، ومنزلق الطمأنينة الساذجة، الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا لها، وفي رواية الواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح حتى وقف بذي طُوى، و توسط الناس، و إن لحيته لتمسُّ وسط رحله أو تقرب منها تواضعا لله عزوجل، حين رأى ما رأى من فتح الله و كثرة المسلمين، ثم قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة))
وهذا تعليم النبي عليه الصلاة والسلام، أحيانا الإنسان يدخل إلى بيته فيجده بيتا واسعا مرتَّبا منظَّما، ودخلُه جيِّد، وزوجته وأولاده يستقبلونه، وهم بخير، فالأولى أن يقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، لأن هذا لا يدوم، وإنْ ركب مركبة فخمة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وكذا إذا نظرت إلى بيت جميل، هناك بيوت جميلة، هكذا علَّمنا النبيُّ، كلما رأيت شيئا من مباهج الدنيا، من زينتها، من بساتينها، من بيوتها، من مركباتها، فكلما نظرت إلى الدنيا هذه النظرة فتذكَّر الآخرة، هذه الدنيا زائلة، وقل: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، أحيانا أقوم بواجب تعزية في بيت فخم، أوازن بين هذا البيت وبين المثوى الأخير، الذي استقرَّ فيه صاحبُ هذا البيت، غرفة رخام، وورق جدران، وثريات جميلة، وسجَّاد يدوي فخم، وصاحب البيت في مقبرة الباب الصغير، في قبر صغير، ليس فيه بلاط، ولا رخام، ولا طلاء، ولا كهرباء، ولا تدفئة، ولا تبريد، ولا فراش وثير، ولا " سليب كونفورت "، على الأرض ضعوه، ثم تركوه، أما قال الله في الحديث القدسي: ((عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحيُّ الذي لا يموت))
هذه قاعدة ذهبية فاحفظها، مركبة فخمة وبيت جميل، وآلة فخمة، فقل: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، دائما تذكَّر الآخرة.
وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الْآيَةَ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ أُمَّتِي، أُمَّتِي، وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ))
[رواه مسلم]
أمتك، ومن هي أمتك ؟ التي استجابت لك، والتي آمنتْ بك، والتي طبَّقت سنَّتك، والتي أحبَّتك، والتي والت مَن توالي، و عادت من تُعَادي، هذه أمتك، مرة ثانية أيها الإخوة ؛ وهمٌ كبير أنْ تعتقد أنك من أمة محمد، ولستَ متَّبعا لمحمد، إنك عند العلماء من أمة التبليغ لا من أمة الاستجابة، و أمة التبليغ ليس لها أيَّة ميزة عن بقية الأمم، أمة تبليغ، أي بَلِّغت الرسالة، أما الأمة التي عناها النبيُّ حينما قال: أمَّتي أمّتي هي التي استجابت له ونفَّذت أمره وطبَّقت سنَّته، والآية تؤكَّد هذا المعنى، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
[سورة الأنفال]
أي ما دامت سنَّتُك قائمة في حياتهم فهم مُبعدون من العذاب.
طالب دخل الجامعة، وقدَّم عشر مواد، ونجح في المواد كلها، ونقصته ثلاث علامات في مادة، فهذا تناله شفاعة مجلس الكلية، لكن طالبًا آخر لم يداوم إطلاقا، وما قدَّم امتحانا إطلاقا، وما اشترى كتابا، وما قرأ الكتاب، وما حضر ولا محاضرة، هذا الإنسان لا تناله شفاعةُ مجلس الكلية، شفاعة النبيِّ بالحديث الصحيح:
((لمن مات غير مشرك))
لمن مات موحِّدا، والتوحيد قضية كبيرة، والتوحيد نهاية العلم.
و مما جاء في عظيم خوفه صلى الله عليه و سلم من الله تعالى ما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي و كان بيده سواك، فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضبُ في وجهه، كلَّفها بعمل فأطالت الغياب كثيرا، و خرجت أمُّ سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة تلعب ببهمة - بغنمة صغيرة - فقالت أم سلمة:
((ألا أراكِ تلعبين بهذه البهمة و رسول الله يدعوكِ فقالت: و الذي بعثك بالحق ما سمعتُك، فقال عليه الصلاة و السلام: و اللهِ لولا خشية القَوَد - والقود هو القصاص، أي لولا خشية القصاص - لأوجعتكِ بهذا السواك))
لو أنت حاولت أنْ تعاقب إنسانا بسواك، فلن يؤثِّر العقاب فيه، والنبيُّ الكريم يقول: ((واللهِ لولا خشية القصاص لأوجعتكِ بهذا السواك))
سمعتُ في السيرة النبوية ((أن النبي صلى الله عليه و سلم دُعِي إلى التمثيل بقتلى قريش، لأنهم مثَّلوا بقتلى المسلمين، ومنهم سيدنا حمزة، فقال عليه الصلاة والسلام قولا لا يُنسى، قال: و اللهِ لا أمثِّل بهم فيمثِّل الله بي، و إن كنتُ رسولَه))
يجب أن تعلم أن عدالة الله من الدقة بحيث كنْ من تكون، إذا تجاوزت الحدودَ جاء العقابُ الإلهي، فالذي يرقى عند الله هو المستقيم، أما هذا المتساهل والذي تجاوز الحدود و يدَّعي أنه مع الله، فاللهُ عزوجل لا يقبل إلا الكامل.
وكان عليه الصلاة و السلام دائم الخشوع والانكسار والتواضع في سائر مواقفه الكريمة، و مشاهده العظيمة، في صلاته وفي عباداته وفي شؤونه وقضاياه، وقد بلغ من خشوعه صلى الله عليه وسلم في صلاته أنه سُمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل، بكاء، كما روى النسائي عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ يَعْنِي يَبْكِي))
ليس من السهل أن تبكي، بعض الناس يقول لك: أنا في عمري ما بكيت، لكن أن تبكي في أثناء الصلاة، أن تبكي وأنت حول الكعبة، وأن تبكي أمام مقام النبي هذا دليل إيمان، لأن البكاء من علامات الإيمان، فإنْ لم تبكِ فتباكَ، هذا بكاء الرحمة، وإذا سألت مؤمنا عريقَ الإيمان فأسعد لحظاته على الإطلاق حينما يبكي من خشية الله تعالى، هذا بكاء الخشية، و بكاء الرحمة، و في رواية أخرى، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ))
[رواه أبو داود]
أيها الإخوة مرة ثانية أقول لكم: البكاء يجلب الرحمة الذي تتنزَّل على قلب المؤمن في أثناء اتِّصاله بالله، وهذا الاتِّصال ثمرة من ثمرات الطاعة لله، والطاعة ثمرة من الخشية، والخشية ثمرة من المعرفة، إذًا معرفة فخشية فاستقامة فاتِّصال فرحمة، قال تعالى:
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
[سورة الزخرف]
فالإنسان إذا أُتيح له أن تتنزَّل على قلبه تلك الرحمة بسبب العبادة التامة التي يؤدَّيها، أو بسبب الطاعة التامة التي يمارسها، وهذا بسبب استقامته على أمره، و بسبب معرفته، وخشيته، فقد حقَّق من الدين جوهرَه، الدين فيه نشاطات كثيرة، يمكن أن تعمّر جامعا ولك واللهِ أجر كبير، لكن هذا النشاط يحتاج إلى وقت وإلى جهد، لكن الإنسان حين يستقيم وتنعقد صلتُه مع الله، فهذا الشيء متميِّز، هناك إنسان مقيم على أكثر الشهوات، لكن يفعل بعض الأعمال الصالحة، وقد تكون هذه الأعمال مادية، لكن بطولتك حينما تستطيع أن تصل إلى الله، حينما تستطيع أن تقبل عليه، حينما تستطيع أن تنعقد معه الصلة، فهذه هي البطولة، وهي تحتاج إلى جهاد متواصل، جهادِ النفس والهوى.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يقبلنا، وأن يبارك لنا فيما بقي من شهر رمضان الذي نسعد به هذه الأيام، وأن يعيننا فيه على الصيام، والقيام، وغضِّ البصر، وحفظ اللسان.


والحمد لله رب العالمين






 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 07-23-2018, 03:13 PM   #20


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: الشمائل المحمدية



بسم الله الرحمن الرحيم

الشمائل المحمدية

الدرس : ( العشرون )

الموضوع : صفاتة صلى الله علية وسلم








الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
جمال الوجه هو الصفاء و الروحانية و الطهر في صفحة وجه الإنسان :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس العشرين من شمائل النبي صلى الله عليه و سلم، وصلنا إلى جوامع من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة، وقد يسأل سائل: ماذا يعنينا وصفُ النبي الظاهري؛ لونه، وشكل وجهه، وشعره؟ هذه الأوصاف الظاهرة ماذا تعنينا؟
للإجابة عن هذا السؤال أقول: لو أن الإنسان رأى النبيَّ صلى الله عليه و سلم في منامه على خلاف هذه الأوصاف فلا تُعدُّ هذه الرؤيا صحيحة إذا كانت على خلاف هذه الأوصاف، هذه واحدة.
الشيء الثاني: ورد في الأثر "لو أن الوجه الحسن رجلٌ لكان رجلاً صالحاً "، الوجه الحسن لا يعني أنه أبيض اللون، الوجه الحسن فيه صفاء، فيه نور، فيه براءة، فلو نظرتَ إلى سيدنا بلال لرأيت في وجهه من الصفاء، والطهر، والبراءة ما يسبي، فإذا قلنا: وجه حسن فلا نعني لوناً، و لا نعني تلك الشروط التي اتَّفق الناسُ على أنها مقياس الجمال، لكن المؤمن في وجهه نور، ووجه المؤمن صفحة نفسه، وجه المؤمن مرآة نفسه، صفاؤه في وجهه، وعفافه في وجهه، وحياؤه في وجهه، وإخلاصه في وجهه، وبراءته في وجهه، وذاتيته في وجهه، فلذلك من علامات الإنسان المقبل على الله عز وجل أنك ترى إقباله في وجهه، والإنسان لو نظر إلى وجهه و كان فاتر الهمة نحو الله لرأى في وجهه اختلافاً، لو نظر في وجهه و كان بعيداً عن الله عز وجل لا يعجبه وجهه، فجمال الوجه الذي نتحدَّث عنه لا علاقة له إطلاقاً بصفات الجمال التي اتفق الناسُ عليها، بل أقصد بجمال الوجه هذه الروحانية، وذاك الصفاء، وذاك الطهر الذي يبدو على صفحة وجه الإنسان، فالنبي عليه الصلاة والسلام كما روى السيوطي في الجامع الصغير عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة و كان وصَّافاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئاً أتعلَّق به فقال هند بن أبي هالة:
((كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم فخماً مفخَّماً))
معنى فخماً أي: كان ذا هيبة عند نفسه وعند الناس. النبي الكريم كان فخماً مفخّماً :
بالمناسبة أيها الأخوة المؤمنون؛ لا أقول هذا كبر، ولا استعلاء، ولكن المؤمن يحترم ذاته، لأنه طاهر، ولأنه مستقيم، ولأنه صادق، ولأنه أمين، فاستقامته وطهرُه يورثان احتراماً لذاته، لذلك لا يضع نفسه موضع صغار، ولا موضع تهمة، ولا يقبل أن يكون في موضع مهانة، والمؤمن كما قال عليه الصلاة و السلام:
((شرف المؤمن قيامه في الليل و عزُّه استغناؤه عن الناس))
[لحاكم في المستدرك عن سهل بن سعد]
ولا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه، فالنبي كان فخماً، ذا هيبة عند ذاته، والإنسان إذا احترم نفسه لا يضعها في موضع التهمة، وهأنذا أذكر لكم أمثلةً طفيفة، لو أن إنساناً كلَّفك بشيء ونسيت أن تؤمِّن له هذا الشيء، وسألك بعد حين، فبإمكانك أنْ تقول مثلاً: إني وجدتُ المحلَّ مغلقاً، فلو قلت خلاف الحقيقة سقطت من عين نفسك، ولا تغدو محترِماً لها، فينبغي أن تكون صادقاً، أن تقول له: واللهِ نسيت، إذا قلت له نسيت ربما عاتبك، أو ربما لامك على نسيانك، لكنك تبقى فخماً عند نفسك، فكان عليه الصلاة و السلام فخماً مفخَّماً، المؤمن لا يكذب، ويُطبع المؤمن على الخلال كلِّها إلا الكذب والخيانة، و إذا كذب سقط من عين نفسه، وقد تبدو عند الناس عظيماً، والأقوياء عند الناس عظماء، والأغنياء عند الناس عظماء، لكن لو أنهم كسبوا مالاً حراماً، أو وصلوا إلى هذه القوة على أنقاض الآخرين، عندئذ يسقطون من أعين أنفسهم، وأنا ألِحُّ على فكرة يجب أنْ تحترم ذاتك، يجب أن تقدِّر ذاتك، كلما كنت مستقيماً وعفيفاً وصادقاً وذا مبدأ ولا تساوم على مبادئك، ولا تقول إلا حقاً، ولا تداريِ، ولا تجامل، ولا تنافق، ولا تزوِّر، شعرتَ أنك عظيم عند نفسك، و المعوَّل عليه أن تحترم ذاتك، فعلماء السيرة يقولون: كان فخماً مفخَّماً، أي فخماً عند ذاته ذا هيبة، و مفخَّماً عند الآخرين، هذا من أين يأتي؟ يأتي من أن المؤمن خلوتُه كجلوته، وسرُّه كعلانيته، والذي في قلبه على لسانه، وما نطق به لسانُه يؤكِّده قلبُه، ليس هناك اثنينية، وليس هناك ازدواجية، ليس هناك موقف معلن و موقف حقيقي، ليس هناك شيء يفعله في العلانية يستقطب به إعجاب الناس، وهناك مخازٍ يفعلها فيما بينه وبين نفسه فيحتقر نفسه، فكلمة: ((كان فخماً مفخَّماً))
تعني أن الإنسان المؤمن سريرته كعلانيته، خلوته كجلوته، وهو في بيته مثله خارج بيته، بأكمل وضع، لذلك ليس هناك في حياته ازدواجية ولا اثنينية، هذا معنى: ((كان فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر))
الصفات الخَلقية للنبي صلى الله عليه وسلم :
هذا الجمال الذي يكسبه الإنسان إذا أقبل على الله، و اللهِ هو سرٌّ، وكل واحد منا يلاحظ نفسه أحياناً عقب صلاة متقنة، عقب ذكر صحيح، عقب تلاوة قرآن مع بكاء، فلو نظر إلى وجهه في المرآة لرأى وجهه كالبدر، هو نفسه عقب انشغال بالدنيا، عقب دخول في مشكلة، لو نظر إلى وجهه لوجد هناك فتورًا، وجمودًا، فالجمال الذي نعنيه بهذه الأوصاف جمال الروح، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، المربوع بين القصير والطويل، كان عليه الصلاة والسلام أطول من المربوع، و أقصر من المشذَّب، لا طويل بائن، ولا قصير، فوق المربوع بقليل، هذا طوله صلى الله عليه و سلم، عظيم الهامة، رأسه ليس صغيراً، لا يتناسب مع جسمه، و ليس مفرطاً في الكِبر، رأسه يتناسب مع جسمه، وهذا من صفات الجمال في الإنسان، أن يكون متوافقاً مع جسمه، عظيم الهامة، رَجِل الشعر، أي في شعره بعض الجعد، هناك أشخاص شَعرهم إذا رجَّله يبدو جَعِداً، فالذي وصف النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول:
((رجِل الشعر، إذا انفرقت عقيقتُه فرقها))
أي كان يفرق شعره يمنة ويسرة، العقيقة هي الشعر، أزهر اللون، كان أبيض اللون، مُشرباً بحُمرة خفيفة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أزهر اللون، واسع الجبين، وسعة الجبين صفة رائعة في الإنسان، واسع الجبين، أزَجَّ الحواجب، حواجبه دقيقة، سوابغ في غير قرَن، أمُّ معبد حينما وصفت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: كان أزجَّ أقرن، وهنا أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، العلماء قالوا: إذا نظرت إليه من بعيد ظننته أزجَّ أقرن، أما إذا نظرت إليه من قريب رأيت حواجبه دقيقة، و غير متَّصلة، و هذه الصفة أيضاً تصبغ على الوجه جمالاً، بينهما عِرق يدِرُّه الغضبُ، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب في حاجبيه عرق ينبض، أقنى العِرنين، أي أنفه عالٍ، ومحدَّب، وهذا أيضاً جمال في الأنف، له نور يعلوه، كثَّ اللحية، غزير الشعر، سهل الخدَّين، ليس فيه نتوء، هناك تعبير آخر أسيل الخدِّ، ضليع الفم، فمه واسع، من أجل الفصاحة، مفلج الأسنان، بين أسنانه فراغات، وهذه صفة أيضاً رائعة في الأسنان، دقيق المسربة، هناك خطُّ شعر من تُرقوته إلى سُرَّته، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جلدُ دُمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، أي لا هو مفرِط في الحجم، ولا هو نحيل، معتدل الخلق، بادن أي ممتلئ، متماسك، أحيانا تكون عضلات الرَّجُل رخوة، متهدِّلة، لكن عضلاته صلى الله عليه وسلم مشدودة، بادن متماسك، سواء البطن و الصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، والكراديس رؤوس العظام، أنور المتجرَّد، أي لو رفع عن عضده ليتوضأ، كانت أعضاؤه منيرة، أشعر الذراعين، و المنكبين، وأعالي الصدر، كان في ذراعيه ومنكبيه وأعالي صدره شعر كثير، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفَّين والقدمين، أي كفَّاه وقدماه متماثلتان مع جسمه، سائل الأطراف أي أطرافه متناسبة في طولها مع جسمه، خمصان الأخمصين، فلان أخمص، أي هناك مساحة في قدمه لا تلتصق بالأرض، هذه تعينه على المشي، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، أي قدماه على انسياب تام، لو صببت الماء عليهما لسال، لا توجد تعرُّجات، إذا زال زال قِلعا، و إذا مشى يرفع رجله وكأنه يقلعها، و يمشي هوناً، ذريع المشية، أي واسع الخطوة، إذا مشى كأنه ينحطُّ من صبب، أي من منحدر، و إذا التفتَ التفت جميعاً، خافض الطرف تواضعاً لله عز وجل ‏، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، ألم يقل عليه الصلاة و السلام: ((أُمرتُ أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة))
يسوق أصحابه، كان يقدِّمهم أمامه، ويبدر من لقي بالسلام، طبعاً هذه صفات النبي عليه الصلاة و السلام، وقد جمعها سيدنا حسَّان بن ثابت في هذين البيتين: وأحسن منكَ لم تر قطُّ عيني و أجمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرّأً من كـــــــــــل عيــب كأنك قد خُلقت كما تشــــــاء
***

أوصافه الظاهرة صلى الله عليه وسلم :
ولكن في خلُقه، وفي دعوته، وفي جهاده، وفي أخلاقه، وفي أمانته، لا مانعَ من خلال هذه الدروس عن شمائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن نقف مرة واحدة عند أوصافه الظاهرة صلى الله عليه و سلم. قال الحسنُ رضي الله عنه لهند بن أبي هالة:
((صِف لي منطق رسول الله صلى الله عليه و سلم - كما تعلمون: جمال الرجل فصاحته - فقال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان))
لماذا ؟ التفسير سهل، لو أن أمًّا لها ابن موقوف، لو وُضع الطعام بين يديها، ولو أخذت إلى أجمل الأمكنة، فقلبها حزين دائماً على ابنها، لأن النبي عليه الصلاة و السلام أرحم الخلق بالخلق، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
[سورة التوبة: 128]
من شدَّة رحمته على الخلق كان متواصل الأحزان، لأنه يرى مصير الخلق، أما نحن فإذا أكرم اللهُ عز وجل‏ الإنسان بالهدى والاستقامة يقول: الناس هالكون، فليس في قلبه رحمة، هو يفرح باستقامته، ويفرح أنه نجا، لكن لا يشعر بحُرقة لهؤلاء الناس الذي شردوا عن الله عز وجل‏، و مصيرهم معروف، فمن عِظم رحمة النبي، ومن عِظم كمال أخلاقه، أنه كان متواصل الأحزان، لأنه يرى الخلق كلَّهم عيال الله، وأكثرهم هالكون، دائم الفكرة، هذا العقل أثمن شيء أكرمنا الله به، هذا يعمل دائماً، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، كما وصف اللهُ عز وجل المؤمنين: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
[سورة السجدة: 16]
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: ((إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ))
[ أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ]
المؤمن الصادق لا يركن إلى الدنيا، لأنها تغرُّ، وتضرُّ، وتمرُّ، مهما اعتنى بحياته الخاصة، لا بدَّ من نزول القبر، مهما اعتنى ببيته لا بدَّ من مغادرته، عشْ ما شئت فإنك ميِّت و أحبب من شئت فإنك مفارق، و اعمل ما شئت فإنك مجزيِ به، طويل السكوت، والإنسان كلما خزن لسانه كبُر عقلُه، فهو عليه الصلاة والسلام طويل السكوت، لا يتكلَّم في غير حاجة، لا يتكلم إلا عند الضرورة، كان طويل السكوت، متواصل الأحزان، ليست له راحة، دائم الفكرة، يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى، المؤمن إنْ دخل بيته قال: السلام عليكم، وإنْ جلس سمَّى، وإنْ جلس ليأكل سمَّى، وإذا دخل إلى بيته سلَّم، بين السلام والتسمية، و بين الحمد و الشكر، دائما يذكر الله عز وجل‏، إذًا يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى، ويتكلَّم بجوامع الكلِم، كلامه موجز، وكلامه بليغ، ليس هناك تفاصيل ممِلَّة، وليس في كلامه جزئيات تافهة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا))
[ البخاري عن أبي هريرة]
كلامه فصل، لا فضول فيه، ولا تقصير، ليس فيه إيجاز مخِلٌّ، ولا إطناب مملٌّ، ليس بالجافي، أي مؤنِس، يألف، ويُؤلف، هناك إنسان عنده جفاء، وغلظة، ليس بالجافي، ولا المهين، أي هناك شخص نفسه دنيئة، خانع، يقبل الذلَّ، ليس بالجافي، ولا المهين، يعظِّم النعمة، وإن دقَّت، فمشيُ الإنسان وحركتُه نعمةٌ، وحين ينام كذلك، أنا أعرف أخًاً بقي أكثر من سنة لا ينام الليل، أنا أتصوَّر لو قيل له: أتدفع كلَّ ما تملك من أجل أن تنام ليلة واحدة لما تردَّد أبدا، يمشي، وينام، ويرى، ويسمع، وينطق، وعقله سليم، وله بيت، كان عليه الصلاة والسلام يعظِّم النعمة مهما دقَّت، والإنسان حينما يعظِّم النعمة يزيدها الله عليه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
[سورة إبراهيم: 7]
و لا يذمُّ منها شيئاً، هناك إنسان يسبُّ بيته، يقول: لعن الله هذا البيت، والساعة التي اشتريته فيها، فليعلمْ أنّ هناك أناسًا لا يملكون بيتًا، وهناك أناساً ليس عندهم غرفة واحدة، أحياناً الإنسان يسبُّ أهله، ويسبُّ ماله، ويسبُّ نفسه، النبيُّ عليه الصلاة والسلام لا يذمُّ منها شيئاً إطلاقاً، ولم يكن يذمُّ طعاماً ولا يمدحه، فإذا ذمَّ الإنسانُ طعاماً فماذا يعني ذلك؟ أنه متكبِّر، وإذا مدحه فهو ذو بطنة، إذا ذمَّه متكبِّر، وإذا مدحه يكون غارقاً في لذائذ الطعام، أحيانًا بعض الناس يصف لك الأكل وصفاً دقيقاً، هذه مثل الفستق، وهذا الطعام نضج تماماً، كان عليه الصلاة و السلام لا يذمُّ طعاماً، ولا يمدحه، مدح الطعام دليل أنه عبد بطنه، وذمُّ الطعام دليل أنه متكبَّر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ))
[البخاري عن أبي هريرة]
لو دُعيت إلى كراع بالغميم لأجبت - كراع مأدم فقط، بالغميم مكان بعيد عن مكة- كأنْ يكون الشخص يسكن في الشام، والدعوة بمنطقة الكسوة، ولا بدَّ أن يأخذ سيارة أو اثنتين، ويكابد مشقَّة السفر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ))
[البخاري عن أبي هريرة]
اللهم صلِّ عليه، أي على مأدم خارج المدينة يجيب الدعوة، وإجابة الدعوة أدب مع الله، وإجابة الدعوة مودَّة مع الناس، وجبر خاطر، لا تغضبه الدنيا، ولا ما كان لها، أيْ شيء فَقَده، شيء ما أدركه، شيء فاته، لذلك وُصِف سيدُنا الصدِّيق رضي الله عنه بأنه لم يندم على شيء فاته من الدنيا قط، أحياناً تجد شخصاً زوجته من سنِّه، فهو مغموم طوال حياته، يقول: هي من سنِّي، أي أنها كبيرة السن بالنسبة له، قال لي شخص: أكبر مني بشهرين، أي فاتته الزوجة الرائعة، لأنّ زوجته كبيرة السن كما يدّعي، يقول لك: أنا لو لم أدخل في هذه الوظيفة لكنت الآن تاجراً، ولكن كل عمري دخلي محدود، لأن أباه أراد أن يكون فلهويًا فتركه يكمل دراسته، أما أخوه الذي أخرجه من المدرسة، فصار معه ملايين، حُرِق قلبه أسفًا على حاله، لكنّ الصدِّيق لم يندم على شيء فاته من الدنيا قط، لأن الدنيا عنده صغيرة، بمالها، ونسائها، وبيوتها، ومركباتها، ومساكنها، ولأنها مؤقَّتة، يقول لك: أُتيحت لي بعثة، وشطبوا اسمي آخر لحظة، يعيد لك القصة مئة مرة، واللهِ هذه القصة حفظناها، شطبوا اسمك آخر لحظة، فاعلمْ إذًا أنّ هذا قدرك فارضَ، واللهُ يعوِّضك، ولا تغضبه الدنيا، ولا ما كان لها، فإذا تُعدِّي الحقُّ لم يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له، النبيُّ عليه الصلاة والسلام كلُّ غضبه للحق، فلا يغضب لنفسه، وإذا انتُهكت حرمات الله غضب، ولا يغضب لنفسه أبداً، ولا ينتصر لها، لذلك المؤمن يغضب لله، ويحبُّ لله، ويوادد لله، ويعادي لله، أمّا لذاته فلا، وإلا صار أنانياً، إذا أشارَ أشار بكفِّه كلها، هذا من الأدب، وإذا تعجَّب قَلَبَها، أي في أثناء كلامه يقوم بحركات أو إشارات، وضرب براحته اليمنى بطنَ إبهامه الأيسر، هكذا، هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، ألم يقل له: صِف لي منطقه؟ وإذا غضب أعرض، وأشاح، هناك إنسان إنْ غضِب لم يترك عليه ستراً مغطَّى، يسب أباه على أبي أبيه، والأب الذي خلَّفه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام إذا غضب أعرض، وأشاح فقط، هذه أخلاق لا لأخذ العلم، و لكن كي نقتدي بها، دروسنا هذه ليست لأخذ العلم، ولكن كي تكون قدوة لنا، وإذا غضب أعرض، وأشاح، المنافق إذا خاصم فجر، المنافق عنيف جدًا، وإذا فرح غضَّ طرفه، من شدَّة تواضعه لله عز وجل‏، كل إنسان يسمع خبراً طيِّباً، كأنْ ينجح في الامتحان، أو يفوز بشيء، ينال شهادة مثلاً، يشتري بيتاً، يتزوج، تجده شاكرًا ربِّه دائماً، إذا فرح غضَّ طرفه، جلُّ ضحكه التَّبسّم، هناك إنسان إذا ضحك ينقلب نصفين، ينقلب إلى الوراء، و أحياناً إلى الأمام، يخرج معه صوتٌ كأنه صراخ، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾
[سورة لقمان: 19]
قال: جلُّ ضحكه التبسُّم، يفترُّ عن مثل حَبِّ الغمام، و قال الحسين رضي الله عنه: " سألتُ عليًّا رضي الله عنه عن دخول النبيِّ صلى الله عليه و سلم إلى بيته - فمثلاً رجل يدخل بيتَه، وكلُّ إنسان له طبع، هناك إنسان لا يخلع ثيابه، بل يجلس فورًا، بينما غيرُه ينزع ثيابه رأسًا ويبعثرها، وإنسان ينزعها ويعلِّقها، فالنبي عليه الصلاة و السلام كيف يكون إذا دخل بيتَه؟ - قال: كان عليه الصلاة و السلام إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله عز وجل- البيت ليس قبراً، ليس للنوم، المنافقون جيفة في الليل، دابة في النهار، عمل شاقٌّ في النهار، ونوم طويل في الليل، وما درى أنّ هناك صلاة الفجر، وهناك تلاوة قرآن، وهناك جلسة مع الأهل، هناك أمر بالمعروف، وهناك مطالعة، وهناك مؤانسة، وهناك ذكر، هناك دعوة إلى الله هناك قيام ليل، قال -إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله عز وجل - لي ساعة مع ربي- كما قال عليه الصلاة و السلام: ((لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها نبيٌّ مرسل، ولا ملك مقرَّب))
تقول السيدة عائشة: ((كان عليه الصلاة و السلام يحدَّثنا ونحدِّثه - إنسان لطيف مؤنس - فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لا يعرفنا و لا نعرفه))
هذا وقت الله عز وجل‏، أحيانا تلاحظ موظَّفًا في دائرة يطلبه الوزير، يقف أمام المرآة، ويركِّز وضعه، ويصلح ثيابه، وينظر إلى شعره، لأنه داخل لمقابلة وزير، النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل وقت الصلاة، قالت: كأننا لا نعرفه، ولا يعرفنا، هذا وقت الصلاة -وجزء لأهله وجزء لنفسه " قسم يرتاح فيه، وينام، وقسم لأهله، كلما رُفعت إليَّ قضية زوجية أسأل سؤالاً، وألِحُّ عليه، فأتبيَّن أن أحد أكبر أسباب الخصومة الزوجية، أنه يذهب باكراً، ويعود في منتصف الليل، فقد جعلَ البيت فندقاً، يتعشَّى، وينام، في الصباح الباكر ينطلق إلى العمل، هذه الزوجة تصعد روحها، فلابد أنْ يخصِّص جزءاً لأهله، إذًا وقته جزءٌ لربِّه، وجزءٌ لنفسه، وجزءٌ لأهله، هذا وضع النبي في البيت، قال: ثم جزَّأ جزءَه الخاص به بينه وبين الناس، أي وقته الخاص، وهو في البيت كان يحلُّ به بعض المشكلات، هناك حالة خاصة، هناك صديق، هناك مشكلة هناك فتوى خاصة، هناك حلُّ مشكلة، هناك خصومة زوجية، هناك أخ له سؤال معقَّد مثلاً، فهذا الجزء الخاص به قسمه جزأين، بينه وبين الناس، وكان من سيرته في جزء أُمَّته إيثار أهل الفضل، الناس عنده مراتب، هناك شخص قريب، شخص له مكانة في المجتمع، فهو يعرف منازل الناس، فعَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ: ((أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ))
[أبو داود عن مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ]
سيرته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه :
و كان من سيرته صلى الله عليه و سلم في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمة ذلك على قدر فضلهم، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذوُو الحوائج، فيتشاغل بهم، أي كان عليه الصلاة والسلام يرى أن حلَّ مشكلات الناس عبادة، يا من كانت الرحمةُ مهجتَه، والعدل شريعته، والحبُّ فطرته، ومشكلات الناس عبادته، يشغل وقته بما يصلحهم في دنياهم وأخراهم، وكان عليه الصلاة و السلام يقول: ((ليبلغ الشاهد الغائب منكم، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة أو حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبَّت الله قدميه يوم القيامة))
كان أصحابه عليهم رضوان الله يدخلون عليه روادًا، ولا يفترقون إلا عن ذواقٍ، أي كان يكرمهم في بيته، يقدِّم لهم ضيافة، من شدَّة كرمه عليه الصلاة و السلام، يستقبلهم، ويحلُّ مشكلاتهم، ويقدِّم لهم طعاماً يأكلونه، ويخرجون من عنده، وهم أدلَّة على الخير، امتلؤوا محبَّة لهذا النبي، وإعجابا بعلمه، وكرمه، وإيناسه، وتواضعه، فأصبحوا أدلّة عليه.
أما إذا خرج من بيته فكان عليه الصلاة والسلام يخزن لسانه، إلا فيما يعنيه:
احفظ لسانك أيها الإنســــــــــــان لا يلدغنَّــــــــــــــك إنه ثعبــــانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
***

الإنسان لو ندم على السكوت أفضل من أن يندم على الكلام، الساكت في أمان، أما المتكلِّم فله، أو عليه، فكان عليه الصلاة و السلام إذا خرج من بيته يخزن لسانه، إلا فيما يعنيه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ))
[ الترمذي عن أبي هريرة]
النبي عليه الصلاة و السلام يؤلِّف ولا ينفِّر ويجمع ولا يفرِّق :
وكان عليه الصلاة و السلام يؤلِّف ولا ينفِّر، يجمع ولا يفرِّق، يقرِّب ولا ينفِّر، ويكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، أي يضع الكريم أميراً لا اللئيم، أحياناً تجد مجموعة موظَّفين متقدِّمين في السنِّ أصحاب خبرة يقودهم شابٌ أرعن، هذا خطأ كبير، مدرسة فيها ثلاثون أو أربعون مدرَّساً يشكلِّون نخبة، تجد المدير أحياناً أقلَّهم سنًّا، وأشدهم رعونة، وكذلك في مستشفى مثلاً، أو في دائرة، فمِن سياسة النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه كان يكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، ويحذر الناسَ، ويحترس منهم من غير أن يطويَ عن أحد منهم بِشره، وخلُقه، مؤنس، ولطيف، و بشوش، طليق الوجه، لكنه ليس ساذجاً، شخص لا تعرفه فعليك أنْ تكون حذراً، النبيُّ علَّمنا فقال: ((المؤمن كيِّس فطِن حذر))
فالمؤمن الصادق ليس من السذاجة حيث يُخدَع، ولا من الخبث حيث يَخدع، المؤمن لا يُخدع، ولا يَخدَع، له أكمل موقف، ليس من الخبث بحيث يَخدع، و لا من السذاجة حيث يُخدع، فكان عليه الصلاة السلام يكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطويَ عن أحد بِشره، وخُلقه، ويتفقَّد أصحابَه، كان مربِّياً، هناك مدرِّس يلقي درساً، وينصرف، لكن هناك مدرِّساً آخر يسأل عن زملائه: فلان ما رأيناه، و فلان ما أخباره؟ وفلان لعله مريض؟ فلا بد من عيادته، لعله سافر، اسألوا لنا عنه، زوروه إذا كان مريضاً، هذه محبَّة، محبَّة، ورحمة، وإخلاص، ووفاء، وتربية، بعكس ما إذا سأل عنك أخٌ، يقال له: ما دخلُك فيه؟ أنت مخطئ، كثَّر اللهُ خيرَه، جزاه الله عنا كلَّ خير، إذا تفقَّدك، ولو بهاتف، وقال لك: أمسِ ما رأيناك في الدرس، انشغل قلبنا عليك، وأنت غالٍ علينا، فتجد مَن يصفه فيقول: هذا حشري، لا ليس حشريًا، أنت لست فهِماً، هذا مؤمن كريم، يريد أن يأخذ بيدك إلى الله عز وجل ‏، يتفقَّد أصحابه، و في السيرة وردت مواقف كثيرة، يسأل: أين فلان؟ أين فلانة؟ مرة في تبوك تفقَّد بعض الصحابة فقال: أين فلان؟ شخص غمز بأنه شغله بستانُه عن الجهاد معك يا رسول الله، ففقام صحابيٌّ آخر وقال: لا واللهِ يا رسول الله، لقد تخلَّف عنك أناس ما نحن بأشدَّ حبًّا لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدوًّا ما تخلَّفوا عنك، ابتسم النبيُّ، وأعجبه ذلك، أعجبه دفاع الصحابة عن بعضهم بعضاً، أعجبه هذا الموقف النبيل، كن سيفاً عند غياب أخيك، سيفاً تدافع عنه، والمؤمن له حرمة، من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، و ظهرت عدالته، ووجبت أخوَّته، و حرمت غيبته، ومن أحسنَ الظنَّ بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه.
واللهِ أنا أعدُّ إلى المليون قبل أن أقول: المؤمن يكذب، ليس معقولاً أن يكذب، وليس معقولاً أن يأكل مالاً حراماً، مؤمن يعرف اللهَ، فإذا اتَّهمتَ كل الناس الجيِّدين، معناه أن الدين باطل، من أحسن الظن بأخيه المؤمن فكأنما أحسن الظن بربه، أنت تتَّهم المنهج عندما تتهم المؤمنين، فلا تفعل، فهذا المنهج من لوازمه الاستقامة، من لوازمه الصدق، والأمانة، والعفة، والورع، فكيف تتَّهم أخاك اتِّهاماً كبيراً بلا مبرِّر وبلا دليل؟ يتفقَّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ليس منعزلاً يعيش ببرج عاجي، لا، هو مع الناس، معهم في مشكلاتهم، معهم في أفراحهم، معهم في أتراحهم، معهم في مصائبهم، معهم في مكتسباتهم، معهم بكل أحوالهم، إذا لم تعِش مع الناس فكيف يعنيك أمرهم؟ و كيف يحبُّونك؟ يجب أن تعيش همومهم.
النبي الكريم كان أرحم الناس وأعظمهم منزلة :
الحقيقة أخواننا الكرام، المؤمن الصادق إذا أراد أن يكون داعية إلى الله عز وجل ‏ يجب أن يشعِرَ المدعو أن مشكلته مشكلة الداعي، هذه رحمة، يسأل الناس عما في الناس، كان سيدنا عمر رضي الله عنه أول سؤال يطرحه على ولاته إذا لقيهم: كيف الأسعار عندكم؟ مثلاً قد يأتي أخ من جهة الشمال في بلادنا، كيف الأمطار عندكم؟ كيف العمل؟ الأهل؟ انظر إلى هذا السؤال فإنه يرقِّق القلب، أهلك، أولادك، عملك، المنطقة عندكم جيِّدة، الأمطار جيِّدة إن شاء الله، أجد هذا الكلام فيه محبَّة، وفيه مودَّة، هناك شخص يقول: يا ليت المطر لم ينزل الآن، لأني ألبس بدلة، تجده أنانياً، صغيراً في التفكير، الله يرحم الناس بالمطر فما بالك؟ ويحسِّن الحسن، ويقوِّيه، إذا وجد عملاً طيِّباً يشجِّعه، ويقبِّح القبيح، ويوهِّيه، أي العمل الطيِّب يشجِّعه، والعمل السيِّئ يضعفه، أمّا إذا كسب شخصٌ مالاً حراماً، وقال آخر: إنه يدبر حاله، فهذه انتكاسة، وقد شاركه في الإثم، وهو لا يدري، معنى هذا أنك شجَّعته، كسب مالاً حراماً، وتعتبره ذكياً، يقول: لا ليس سارقاً، ولكنه ذكي، فإذا وهَّنت الباطل وضعَّفته فأنت مؤمن، وإذا حسَّنت الحسن وقوَّيته فأنت مؤمن، تلك تحجَّبت، فبدت مثل البومة، المغتابون الأدب عندهم معدوم، هذه لا بدَّ أن تشجِّعها، و تقول لها: ما شاء الله، نسأل الله أن يكرمُك، بينما آخر يصفها: كيس أسود، هناك أشخاص ليس فيهم أدب، يعيبون الحسن، ولكنه كان يحسِّن الحسن ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح، ويوهِّيه، معتدل الأمر غير مختل، أي ليس عنده أوامر فيها شطح، كأن يقال: شيء لا يُطاق، قال: إذا أردتَ أن تُطاع فسل ما يُستطاع، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو أن يميلوا، ولا يتساهل مع أصحابه في العبادات، إذا تساهل يسيِّبونها بعد ذلك، همَّته عالية ودائماً يحثُّ أصحابه على الهمة العالية، لا يقصِّر عن حق، ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أقرب الناس لك يكون أكمل الناس، الإنسان يُعرف بمن حوله، لذلك صحبة الأراذل تجرح العدالة، إذا كان الإنسان ساقطًا بذيء اللسان، شارب خمر، وجلست معه، وآنسته، واستقبلته، ورحَّبت به، وأكرمته، ما شاء الله حولك، تحسب أنك فهيم ذكي!! أعوذ بالله، أنت اقترنت به، لذلك الذين يلونه من الناس خيارهم، الإنسان ينتقي أحسن منه دائماً، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، لا يُقدِّر المنافقين، فكل إنسان قوي تجد حوله أناسًا ينافقون له، فليحذر أحدُنا من هؤلاء، هذا الصحابي الجليل الحباب بن المنذر لما اختار النبي موقعاً ببدر جاء إلى النبيّ، في أعلى درجات الأدب، قال له: يا رسول الله هذا الموقع وحي أوحاه اللهُ إليك أم رأي و مشورة ؟ ذكي جدًّا، إذا كان وحيًا فلا مجال لأتكلم ولا بحرف، أما إذا كان رأياً فالأمر يختلف، قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال له: ليس هذا بموقع، رجل نصوح، فمن هذا الموقف علَّمنا النبيُّ أن نقبل النصيحة، أنت قرِّب الذي ينصحك، أقول لكم كلمة: الذي يمدحك يثبِّطك، أما الذي ينصحك فإنه يرفعك، كلما نصحك نصيحة تجد نفسك ارتفعت، فالعاقل بصير، ماذا قال سيدنا عمر:" أَحَبُّ ما أهدى إليَّ أصحابي عيوبي" إذا كنت مؤمناً متواضعاً تحبُّ من؟ الذي ينصحك، لا الذي يمدحك، الذي ينصحك يحبُّك، أما الذي يمدحك فيتملَّقك، أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى آدابه الجمَّة في مجلسه مع أصحابه رضوان الله عليهم.


والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المحمدية, الشمائل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 1 )
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشمائل المحمدية - إنبساطه مع أهله وذوي القربى ، مباسطته مع زواره آفراح رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 12 04-16-2021 06:03 PM
من معالم الرحمة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 8 07-14-2014 05:14 AM
عموم الرسالة المحمدية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 06-10-2014 01:04 AM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 05:50 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.