حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 09-04-2018, 02:05 PM   #31


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( السابع و العشرون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 3



بيت النبوة





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث من دروس سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهم ، ومع زوجة النبي الأولى السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها ، وها نحن ننتقل في هذا الدرس إلى بيت النبوَّة . بيت النبوة قدوةٌ ومثل أعلى لكل بيت :
إنّ بيت النبوة شيءٌ كبير ، لأنه المثل الأعلى لكل بيت ، تقول أحياناً : هذا بيتٌ مسلم ، ترى الإسلام فيه واضحاً ، ترى الأدب ، ترى الحشمة ، ترى الاحترام ، ترى العبادات ، ترى الخير ، ترى التربية ، بيت مسلم ، فرقٌ كبير بين بيت المسلم وبيت غير المسلم ، أعلى هذه البيوت على الإطلاق بيت النبوة فهو قدوةٌ لكل بيت ، مثلٌ أعلى لكل بيت .
سكن النبي صلى الله عليه وسلَّم مع زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها في بيتها ، أحياناً امرأة صالحة عندها بيت يتزوجها رجل ، يأبى أن يسكن في بيتها ، إن كانت صالحةً وقدَّمت لك هذا البيت معونةً لك ، ما الذي يمنع أن تسكن عندها ؟ هذا النبي عليه الصلاة والسلام تزوَّج السيدة خديجة في بيتها فكانا أسعد زوجين ، وأكرم عروسين ، ونالت رضا الله عنها بشرفٍ كرَّمها الله به ، فكانت أم المؤمنين الأولى ، يقول الله عزَّ وجل : ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (6)﴾
( سورة الأحزاب )
هذه زوجة النبي الأولى ، وهي أم المؤمنين الأولى ، أي أن أعلى مرتبة في المجتمع الإسلامي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ، هي في مقام أمٌ لكل المؤمنين : ﴿ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (6)﴾
( سورة الأحزاب )
عاش النبي معها في بيتها ، وكان بيتاً كسائر البيوت . النبي عدَّ الغنى المُطغي أحد أكبر المصائب :
تذكرون أيها الأخوة أن سيدنا عمر حينما دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم وقد اضطجع على حصير ، وأثَّر في خدِّه الشريف فبكى عمر ، قال : يا عمر لماذا تبكي ؟ قال : " رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! " ، قال : يا عمر إنها نبوةٌ وليست ملكاً ، أنا لست ملكاً ، هذه النبوة . (( يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بَلْ نبياً عبداً أجوع يوماً فأصبر وأشبع يوماً فأشكر ))
[مسند أبي حنيفة عن إبراهيم النخعي]

يبدو أن التقشُّف ، والفقر ، والضعف أقرب إلى العبودية ، ليس هناك ما يمنع أن تكون قوياً ، أو أن تكون غنياً ، ولكن القوة مزلقٌ خطير ، والغنى مزلقٌ خطير قلَّما ينجو منه إنسان ، بين كل مئة فقير تجد ثمانين عبيدٌ لله ، لكن بين كل مئة غني لا تجد عشرة عبيدٌ لله ، الغنى مزْلق ، والقوة مزلق ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عدَّ الغنى المُطغي أحد أكبر المصائب .
كان بيتاً كسائر البيوت ، لم يكن كما تُصوره بعض الكتب قصراً كبيراً ، إنما هو بيتٌ صغير ، كلكم سمع مني كثيراً أن بيت النبي صلى الله عليه وسلَّم في المدينة كان صغيراً إلى درجة أنه لا يستطيع أن يصلي وزوجته نائمة ، فكانت تنحرف قليلاً كي يسجد ، ما هذا البيت الصغير وهو سيد العالمين ؟ فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال : أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا .
أيها الأخوة قدَّمت السيدة خديجة للنبي نفسها ، كما قدَّمت له مالها ، وقال بعض المفسِّرين : هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6)وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7)وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)﴾
( سورة الضحى )
هذه السيدة الشريفة الغنية نالت شرف أن تكون أم المؤمنين ، زوجة سيد المرسلين ، وأن تقدم له مالها ، وبيتها ، ونفسها . السيدة خديجة قدَّمت بيتها ومالها ونفسها للنبي الكريم :
أريد أن أعلِّق تعليقاً : إذا كان أخ طالب علم وأخ ثان يعمل ويقدِّم له ، هل تصدقون أن الذي يعمل ، ويقدم له لا يقل عن أجره ؟ الله عادل ، فأخ كريم قال لي : أنا طالب طب ، قلت له : من ينفق عليك ؟ قال : أخي يعمل بحرفة ، وهو الذي ينفق علي ، والله أيها الأخوة رأيت الثاني الذي ينفق على الأول بطلاً .
سمعت عن أحد الأشخاص له ابنٌ وابنة ـ هكذا سمعت ـ الابنة تعمل في الخياطة ، وهي التي أنفقت على أخيها حتى صار طبيباً ، كان من وصية الأب أن يقتسم الأخوان المال بالتساوي ، والله عزَّ وجل أكرم الطبيب بدخل كبير جداً ، فكان يعطي نصفه لأخته ، لأنها سبب نيله هذه الشهادة ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله .
إنسان يعمل ويقدم لطالب علم ، أنا أتصور أن له عند الله أجراً كبيراً ، أن هذا الذي يعمل ، ويقدِّم لطالب العلم لا يقل في الأجر عن طالب العلم .

في أحد الحفلات قام أحد الخطباء وألقى كلمة أعجبتني ، قال : إما أن تكون داعية وإما أن تتبنَّى داعية ، الآن في الشام آلاف طلاب العلم يأتون من أماكن بعيدة ؛ من الشمال ، من الشرق ، من الجنوب ، لو أن رجلاً تبنَّى طالب علم ؛ أنفق عليه ، اعتنى به ، يسَّر له منزلاً ، وعاد إلى بلده عالِماً كبيراً ، داعيةً ، خطيباً ، هل تصدق أن هذا الذي اعتنى به في الشام ، وقدم له المسكن ؛ الطعام والشراب والكساء له الأجر نفسه لهذا الداعية ، إن لم تكن داعيةً فتبنَّ داعياً ، إن لم تكن عالِماً فكن في خدمة عالِمٍ ، في خدمة دعوةٍ ، لا أٌقول في خدمة عالِم بالذات ، كن في خدمة دعوة .

مثلاً هذا المسجد ، هؤلاء الذين بنوه ، وزيَّنوه ، وكسوه ، وفرشوه ، أنتم تأتون إلى مكان لطيف ، جميل ، مهيَّأ ، منظَّف ، كل منا يتوهَّم أن الجنة له ، كل من ساهم في هذا المسجد له مثل أجر الذي تكلف ، الله عزَّ وجل كريم ، هذا بنى ، هذا خطب ، هذا درَّس ، هذا أدار المشروع ، هذا هيَّأ ، عند الناس قد تغيب بعض الحقوق ، أما عند الله سبحانه وتعالى لا يضيع حق أبداً .
ماذا فعلت هذه السيدة ؟ قدَّمت بيتها ومالها ونفسها للنبي ، كم تتصوَّر أجرها ؟ هيَّأت له جواً ، أحياناً تجد كتاب يقول الكاتب في إهدائه : إلى التي هيَّأت لي جو التأليف ، إلى التي حَبَتْنِي بعطفها ، إلى التي هيأت لي كل وسائل النجاح ، إلى زوجتي ، يرى أن هذا المؤلَّف الذي ألَّفه مدينٌ به لزوجته ، ماذا فعلت زوجته ؟ طبخت ، ونظَّفت ، وهيَّأت له الجو الهادئ ، وأطعمت الصغار ، وأبعدتهم عن أبيهم لئلا يُشَوَّش عليه ، يقول لك هذا المؤلَّف لولا زوجتي ما ألَّفته ، أي إنسان قدَّم معونة ؛ هذا نظف المسجد ، هذا هيَّأ الحاجات ، هذا هيأ الكهرباء ، هذا صلَّح أجهزة التدفئة ، كل من ساهم في دعوة له أجرٌ كبير ، نحن أسرة أخواننا الكرام ، افهم هذا المفهوم ، نحن أسرة كل واحد له دوره ، لا أحد أفضل من أحد . من عرف نفسه ما ضرَّه إن عُرِف أم لم يُعرَف :
امرأة غنية ، النبي عليه الصلاة والسلام في أمس الحاجة إليها ، هو يدعو إلى الله في زمنٍ عصيب ، هيأت له البيت ، هيأت له المال ، هيأت له نفسها ، هيأت له سكناً ، كانت مِعْواناً له ، كانت مسليةً له ، مصبِّرةً ، لا يعلم إلا الله الأجر الذي نالته بهذا العمل ، لا تظن أن أشخاصاً بالواجهة ، ثمة أشخاص هم جنود مجهولون ، تجده جامعاً ، إنسان في الواجهة يتكلَّم ؛ ولكن معه أناس قدَّموا مساعدات كبيرة جداً ، لا أحد يعرفهم ، لكن الله يعرفهم .
والله أيها الأخوة ، أنا تلوت على مسامعكم هذا الخبر كثيراً ، عندما جاء رسول من نهاوند يخبر سيدنا عمر بما جرى في هذه المعركة ، فقال له : " مات خلقٌ كثير " ، قال له : " من هم ؟ " ، قال له : " أنت لا تعرفهم " ، فبكى عمر وقال : " ما ضرَّني أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم " ، أي ومن أنا ؟
إن أخلصت لله وكنت بخدمة الدعوة ، الدعوة تحتاج إليك ؛ هذا نظف المكتبة ، وهذا نظم الدروس ، هذا ألَّف كتاباً ، هذا أعان الفقراء ، هذا لبَّى خدمة الأخوة الكرام ، هذا توسَّط حتى وظَّف هذا الأخ ، هذا هيَّأ زواج أخ ، هذا فرش المسجد ، هذا أنار الكهرباء ، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد فرآه متألِّقاً قال : " من نوَّره ؟ " ، قالوا : تميم الداري ، فقال له : " نوَّر الله قلبك كما نوَّرت المسجد " ، أثنى عليه النبي ثناءً كبيراً .

ملخَّص هذه التعليقات : إن لم تكن في قمة الدعوة فكن أحد أعوانها ، ليكن لك مساهمة بشكل أو بآخر .
ثمة إخوة ـ أنا والله ممتن لهم من أعماقي ـ ما من مشكلة صحية إلا ويتولونها بالرعاية ، والعملية ، والمستشفى ، والطبيب ، هذا يد يمنى ، هذا بالطب ، هذا بالهندسة ، قضية بالمسجد ، مشكلة ، تهوية ، إضاءة ، تحسين ، توسيع متمكن ، هذا مهندس وضع خبرته في سبيل هذه الدعوة ، هذا طبيب وضع علمه في سبيل هذه الدعوة ، هذا محام وضع خبرته في سبيل هذه الدعوة ، هذا مؤلِّف وضع علمه في سبيل هذه الدعوة ، ليكن لك مساهمة في هذه الدعوة ، وأنت عندئذٍ جنديٌ عند الله ، عُرِفت أو لم تُعرف سيَّان ، نوَّهوا بك أو لم ينوهوا ، أشاروا إليك أو لم يشيروا ، لك مساهمة .
في كثير من الأحيان أنا أعجب بأخ قال لي : أنا أعمل بالكهرباء أي خدمة تريدها أنا جاهز لها ، والله شيء جميل ! أنا عندي مَحافظ أحب أن أقدِّمها لطلاب المعهد ، بارك الله بك ، أنا عندي أحذية ، أنا عندي ملابس صوفية ، إخوة كثر جاؤوا بأشياء كثيرة جداً لطلاب المعهد ، طالب لبس ثوباً ، لبس حذاء ، أخذ محفظة ، ساعة ، إنسان نقلهم بالسيارة من مكان إلى مكان ، إنسان اعتنى بهم في الطعام والشراب ، لا بد لك أن تساهم إن كنت مخلصاً ، عُرفت أو لم تُعرف ، نوَّهوا بك أو لم ينوهوا ، أشاروا أو لم يشيروا ، من عرف نفسه ما ضرَّته مقالة الناس به ، أنا هذه وقفتي . إن لم تكن في قمة الدعوة فكن أحد أعوانها :
قدَّمت رضي الله عنها للنبي نفسها ، كما قدَّمت له مالها ، وتفانت في طاعته وخدمته ، وتهيئة كل أسباب السعادة والراحة له ، فكانت بحقٍ الزوجة المثاليَّة الكريمة الصالحة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ))
[كنز العمال عن أسماء بنت يزيد الأنصاري]
كيف إذا كان هذا الزوج نبياً ؟ كيف إذا كان هذا الزوج رسولاً ؟ كيف إذا كان هذا الزوج سيِّد الأنبياء والمرسلين ؛ بل سيد ولد آدم ؟ هنيئاً لها على هذا المقام ، والحقيقة أن الإنسان يُغبَط إذا كان له عمل في الدعوة ، بخدمة دعوة إلى الله خدمة خالصة .
أخ من أخواننا الكرام من الصين ، يأخذ بعض الدروس ويترجمها إلى اللغة الصينيَّة ، والله أنا قرأت مقالةً منها ، مستحيل أن أفهم حرفاً ، كل حرف صيني كلمة ، قال لي : هذه مقالتك ، مجلة كبيرة ، قال لي : نحتاج إلى غلاف ، لأن هذه المجلَّة تُرسل إلى الصين ، والله أكبرتهم ، يأخذون بعض الخطب أو بعض المقالات فيترجمونها إلى اللغة الصينيَّة ، ثم يطبعونها ، وهم بحاجة إلى غلاف ، أخ كريم من روَّاد المسجد يعمل في الطباعة ، قلنا له : نريد غلافاً ، قال : حاضر ، جاء بأجمل غلاف فيه خمسة ألوان ، وقال لي : هديَّة ، ساهم ، فحرفته ساهمت في الدعوة .
لا يوجد مصلحة ولا حرفة إلا ولها مساهم في الدعوة ، أستاذ فيزياء ، فهناك أخ بحاجة لعدد من الدروس ، وهو فقير ، فقال لي : أنا جاهز ، أستاذ إنكليزي ، أستاذ عربي ، أستاذ رياضيات ، هذا بالتعليم ، بالهندسة في مهندسين ؛ توسعة ، تزيين ، حل مشكلات ، مرافق عامَّة ، حُلَّت كل مشاكل المسجد ، أحد الأخوة المهندسين قدَّم كل علمه للمسجد ، أخ طبيب قدَّم كل خبرته للمسجد ، إذا ما كنت داعية كن في خدمة دعوة ، هذه كل القصة ، عُرفت أو لم تعرف ، هذا الذي أعلِّق عليه من قول المؤلِّف : " قدَّمت رضي الله عنها للنبي نفسها ، كما قدمت له مالها ، وتفانت في طاعته وخدمته " . تولي السيدة خديجة رضي الله عنها خدمة النبي بنفسها :
بصراحة الزوجة أحياناً تتمادى مع زوجها ، السبب هو يعيش معها في بيتٍ واحد وأزهد الناس في العالم أهله وأولاده ، لكن مقام النبي ، زوجته تفانت في طاعته وخدمته ، كل إنسان له مكانة ، ولكن أحياناً تُرفع الكلفة بينه وبين زوجته ، لكن مقام النبي ينبغي أن يكون عالياً جداً ، فمع أنه زوج كانت تتفانى في طاعته وخدمته ، فالآن تجد زوجة عمرها خمس عشرة سنة ، وزوجها عمره ثلاثة وثلاثون عاماً ، تقول له : سعيد ، تناديه باسمه وتتطاول ، والفارق بينهما في السن كبير ، أما زوجات النبي فيخاطبنه بالرسالة : يا رسول الله ، في البيت طبعاً بين الزوجة والزوجة هناك علاقة حميمة ، ومع ذلك مكانته عالية .

والله قال لي أحد الأشخاص : جلست زوجتي على الأريكة ، وهو جالس على الأرض ، وهذا الجهاز الرائي اللعين كان مفتوحاً ، قال لي : ركلتني برجلها أنْ غيِّر القناة ، هذه زوجة ؟ طبعاً طلَّقها .
كانت رضي الله عنها تتولَّى خدمة النبي بنفسها ، أحياناً تجد زوجة تقول لولدها والدك يريد كأس ماء ، اسقِه ، وهي جالسة مرتاحة ، والدك يريد كذا أحضره له ، تعطي أوامر فقط ، لكن أن تقوم الزوجة وتخدم زوجها بنفسها فهذه أعلى درجة من الاحترام .
كانت رضي الله عنها تتولى خدمة النبي بنفسها ، ولا تكلِّف أحداً غيرها بذلك ، معنى هذا أنها تعرف مقامه ، مع أن أكثر من يعمل في الحقل الديني أجهل الناس بمقامه أهله وأولاده ، كأن هناك تقصيراً في حقه ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فزوجته تعرف مقامه العالي . (( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ دققوا الآن قد يقشعر جلدكم ـ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
هذا الحديث في صحيح البخاري ، تلقَّت سلاماً من الله ، والذي تسمعونه كثيراً أن جبريل عليه السلام ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال : " يا محمد أقرئ صاحبك من الله السلام وبلِّغه إن الله راضٍ عنه ، فهل هو راضٍ عن الله ." حرص السيدة خديجة على رضا النبي بكل ممكن :
أنت عندما تخدم عباد الله عزَّ وجل ، تتفانى في خدمة العباد ، الله يحبك ، لأن الله وفي ، والله شاكر ، شكور ، فعندما تخدم أنت عباده ، ترحمهم ، تعطف عليهم ، تيسِّر لهم أمورهم ، اسمعوا هذا الحديث : (( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))
[مسلم عن أبي هريرة]

إنسان مقطوع ، إنسان مريض ، إنسان بحاجة إلى مساعدة ، عليه دين ، يسَّرت له أموره ، تنام ملء العين لأن الله راضٍ عنك :
(( إذا أراد الله بعبد خيراً صير حوائج الناس إليه ))
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
إذا أحبه . (( إن من الناس أناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس أناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه ))
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
يقول ابن حَجَر رحمه الله تعالى : " كانت السيدة خديجة حريصةً على رضا النبي بكل ممكن " ، والله مرَّة أحد أصدقائي توفيت والدته ، فذهبنا للتعزية ، والده بالثمانين بكى بكاءً مراً ، خففنا عنه مصابه في نهاية التعزية ، قال : والله قُرابة خمسين عاماً وأنا بصحبتها وما نمت ليلةً واحدةً وأنا غاضبٌ عليها ، ولا ليلة ، هذه زوجة ، وزوج آخر يقول لك : ولا ليلة كنت مرتاحاً ، فهذه زوجة ، وهذه زوجة ؟! وشتان بين الزوجتين : (( إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ))
[أحمد عن عبد الرحمن بن عوف]
أسوق هذا الكلام للأخوات المؤمنات : والله الزوجة إذا كانت زوجة مثاليَّة ، أحسنت تبعُّل زوجها وأولادها ، والله قد تجد لها مقاماً عند الله يفوق مئة ألف رجل ، والله ولا أبالغ ، قال : (( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت : من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم ))
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
تربية الأولاد عمل عظيم من أعظم القربات إلى الله عزَّ وجل :
امرأة تعتني بأولادها : (( أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة ))
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]
قعدت على بيت ، عند الجيران ، في استقبال ، الأولاد بالطريق بلا أكل ، شاردين ، ما كتبوا وظائفهم ، بيت خربٌ ، من بيت إلى بيت : (( أيما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة ))
[الجامع الصغير عن أنس رضي الله عنه]

تربية الأولاد عمل عظيم من أعظم القربات إلى الله عزَّ وجل ، أنا أعرف بيوت هَمُّ المرأة أولادها وزوجها ؛ طعامهم ، وشرابهم ، ودراستهم ، وغرفتهم ، ونظافتهم ، ومستقبلهم ، فامرأة أنجبت خمسة أولاد ربتهم تربية عالية ، ثم توفَّاها الله ، إلى الجنة فوراً ، الأمومة الكاملة تكفي لدخول الجنة فقط ، ما فعلت شيئاً إلا أنها ربَّت أولادها .
طبعاً : (( انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من وراءك من النساء ـ يخاطب امرأةً مؤمنةً، مسلمةً ، مصليةً ، صائمةً ـ أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ))
[كنز العمال عن أسماء بنت يزيد الأنصاري]
قال : ولم يصدر منها ما يغضبه قط ـ إطلاقاً ـ أنا كلمة أتأثر بها تأثُّراً كبيراً ، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم ، يتحدث عن سيدنا الصديق يقول : " ما ساءني قط ، ولا بكلمة ، ولا بموقف " ، (( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر ))
[من مختصر تفسير ابن كثير ]
ما ساءني قط أعطاني ماله وزوجني ابنته فاعرفوا له ذلك ، (( ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ))
[كنز العمال عن أبي الدرداء]
لم يصدر منها ما يغضبه قط ؛ لا كلمة ولا نظرة ، أحياناً يزورك أحدهم ، يقول لك : ما تكلَّمت بشيء ، أحياناً النظرة القاسية ، النظرة الحادة هذه إساءة ، هناك ابتسامة ، وأدب ، وبشاشة ، وتهذيب ، فزوجة متعبة جداً ، سحقت زوجها ؛ كل يوم مشكلة ، كل يوم قضية ، قال لها : أريحيني يوماً فقط ، اتفقوا أن تزعجه يوماً ، وتريحه يوماً ، ويوم الراحة تقول له : غداً سأزعجك ، غداً سأزعجك ، ما ارتاح يوماً منها . آيات من القرآن الكريم عن مكانة نساء النبي :
أشار ابن حجر رضي الله تعالى عنه إلى ما حدث عندما سألت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يوسِّع عليهن بالنفقة ، طالبنه ببعض الرفاهية ، ببعض النفقة الزائدة ؛ بطعام أطيب ، ببيت أوسع ، فغضب عليه الصلاة والسلام ، وهذا حينما قال تعالى : ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)﴾
( سورة الأحزاب )
وقال : ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)﴾
( سورة الأحزاب )
وقال : ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28)﴾
( سورة الأحزاب )
السيدة خديجة لم تسأل النبي أبداً أن يوسِّع عليها بالنفقة كما فعلت بقية نسائه :
لمَّا سألت أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلَّم أن يوسِّع عليهنَّ بالنفقة ، غضب ، واعتزلهنَّ شهراً في غرفةٍ عالية ، حتى أنزل الله تعالى آيتي التخيير : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28)وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)﴾
( سورة الأحزاب )
يروى أن السيدة خديجة لم تسأل النبي هذا إطلاقاً ، راضية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( أعظم النساء بركةً أقلَّهن مهراً ))
[أحاديث الإحياء عن السيدة عائشة]
(( أعظم النساء بركةً أقلَّهن مؤونةً ))
[الجامع الصغير عن السيدة عائشة]
طلباتها خفيفة ، قال لي مهندس : دخلت زوجة صاحب البيت ـ وقد كَلَّف الحمام ثلاثمئة وخمسين ألفاً سيراميك ـ فقالت له : كسِّره كله ، ليس جميلاً ، قال لي : كسَّرناه .
ما علاقة أن سيدنا جبريل بشَّرها ببيتٍ في الجنة ؟ قال : لأنها كانت سيدة بيتٍ أولى في الدنيا ؛ بيت منظَّم ، نظيف ، فيه خدمات عالية ، فيه راحة للزوج ، فيه تصبير ، فيه عناية ، لأنها كانت سيدة بيتٍ مثالية في الدنيا فبشَّرها جبريل عليه السلام ببيتٍ في الجنة ، إذاً حينما بشرها جبريل عليه السلام ببيتٍ في الجنة لا نصب فيه ولا صخب ، لأنها كانت في الدنيا سيدة بيتٍ مثالي لا نصب فيه ولا صخب ، وفَّرت الراحة لرسول الله . السيدة خديجة رغبت أن تكون زوجة النبي لما ألهمها الله أنه سيكون له شأنٌ كبير :
دعاها إلى الإيمان فأجابت عفواً ، فكانت أول امرأةٍ أسلمت ، ولم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعلُ الزوج إذا تغضَّبت عليه حليلته ـ فأكثر الأزواج ينشأ خلاف ، فيغضب منها ، ويرفع صوته ، ويتألَّم ، ويخرج من البيت غاضباً ، قال : لم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعل إذا تغضَّبت عليه حليلته ، واحد أراد أن ينصح ، أو أن يفصح عن طباعه لمخطوبته فقال : إن في خُلُقي سوءاً ، قالت له مخطوبته : إنّ أسوأ خلقاً منك من أحوجك لسوء الخُلُق ـ ولا أن ينصب ، بل أزالت عنه كل نصب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوَّنت عليه كل مكروه ، وأراحته بمالها من كل كدٍ ونصب .
عبارات دقيقة أعيدها على مسامعكم ، قال السهيمي رحمه الله : دعاها إلى الإيمان فأجابته عفواً ، ولم تحوجه أن يصخب كما يصخب البعل الزوج إذا تغضَّبت عليه حليلته ، ولا أن ينصب بل أزالت عنه كل نصب ، وآنسته من كل وحشة ، وهوَّنت عليه كل مكروه ، وأراحته بمالها من كل كدٍ ونصب ، امتلأ قلبها بحب النبي وتقديره واحترامه ، وهي ترجو أن يكون له شأنٌ كبير .
والله وردت قصة في فتح الباري سأرويها على مسامعكم : (( كان النبي صلى الله عليه وسلَّم عند أبي طالب ، فاستأذنه أن يتوجَّه إلى خديجة ، فأذن له ، وبعث بعده جاريةً يقال لها نبعة ، فقال لها : انظري ما تقول له خديجة ـ وقت الخطبة ـ فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها ، ثم قالت : " بأبي أنت وأمي والله ما أفعل هذا لشيء ، ولكن أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيُبعث ، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي ، وادع الإله الذي يبعثك لي " ، فقال لها : والله لئن كنت أنا هو فقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبداً))
[الفاكهي عن أنس]
أي أنها رغبت أن تكون زوجة النبي لما ألهمها الله أنه سيكون له شأنٌ كبير ، وقالت : " إن كنت كذلك فلا تنسَ أن تسأل الله لي أن أكون معك " .
النبي عليه الصلاة والسلام ـ دققوا في هذه العبارة ـ عرف للسيدة خديجة أم المؤمنين حقها ومنزلتها ، أحياناً إنسان يكون فقير يتزوج ، هذه الزوجة تتحمَّل معه ألوان الفقر ، فإذا اغتنى أراد أن يغيِّرها ، نسي الماضي . النبي الكريم أوفى الأوفياء عرف للسيدة خديجة أم المؤمنين حقَّها ومنزلتها :
عرف النبي صلى الله عليه وسلَّم للسيدة خديجة أم المؤمنين حقَّها ومنزلتها ، وبادلها حباً بحب ، ووفاءً بوفاء ، فلم يتزوج غيرها في حياتها إكراماً لها ، وصان قلبها من الغيرة عليه ، وعاش معها وحدها أكثر مما عاش مع غيرها ، فقد عاش صلى الله عليه وسلَّم بعد أن تزوج السيدة خديجة ثمانيةً وثلاثين عاماً ، انفردت خديجة منها بخمسةٍ وعشرين ، عاش ثمانيةً وثلاثين عاماً ، منها خمسة وعشرون مع خديجة وحدها ، هذا هو الوفاء ، إذا تزوج الرجل امرأة ، وماتت ، وتزوج الثانية ، يقول لك : خلصنا منها ، وأراحنا الله منها ، ليس ثمة وفاء ، كان عليه الصلاة والسلام أوفى الأوفياء ، وبقي على محبتها ، والوفاء لها إلى أن توفَّاه الله تعالى ، وقد صرَّح بحبه لها للسيدة عائشة رضي الله عنها ، وقال لها : (( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ))
[مسلم عن السيدة عائشة ]
ما قولك ؟ رزقت ، معنى هذا أن الإنسان إذا كان يحب زوجته هذه نعمة الله ، هذا رزق من الله ، أحياناً يكرهها ، جالسة في وجهه طوال النهار ، لا يحبها ، شيء صعب هذه التي يسكن معها طوال حياته ولا يحبها ، النبي ما عدَّ أنه أحسن اختيارها ، بل : (( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ))
[مسلم عن السيدة عائشة ]
بصراحة أيها الأخوة إذا غضَّ الإنسان بصره عن محارم الله يرزق حب زوجته ، اطمئنوا ، إذا غضَّ بصره عن محارم الله يرزق حب زوجته : (( إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا ))
[مسلم عن السيدة عائشة ]
قال : فحبه صلى الله عليه وسلَّم للسيدة خديجة فضيلةٌ تفضَّل الله تعالى بها عليه صلى الله عليه وسلَّم .
إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم نتابع الحديث عن هذه السيدة الأولى التي كانت أول زوجات النبي ، وكانت أحبَّ نسائه إليه ، وقد عرف قدرها وحبها .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 02:07 PM   #32


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثامن و العشرون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 4



الارهاصات قبل البعثة






لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الرابع من سيرة صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم أزواجه الطاهرات ، ونتابع الحديث عن السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
اقترب النبي من الأربعين من عمره وبدأت تباشير النبوة وإرهاصاتها تلوح في أفق حياته :
مرَّت الأعوام والأعوام على أكرم زوجين ، ويا أيها الأخوة كلما ازداد إيمان الزوجين ، ازدادت سعادتهما ، وكلما ضعف إيمان أحدهما أو كليهما افترقا عن بعضهما ، فالإيمان يجمع ، وضعف الإيمان يفرِّق ، وهذه حقيقة ، فإذا أردت أن تكون زوجاً سعيداً فكن من الله قريباً ، ولتكن الزوجة من الله قريبةً ، هذا يُعين على تمام السعادة الزوجية .

نَعِمَا فيها بأسعد الأوقات وأهنأ الساعات ، ولما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من الأربعين من عمره الشريف ، بدأت تباشير النبوة وإرهاصاتها ، تلوح في أفق حياته ، الله عز وجل حكيم ، وربنا عز وجل يربِّي ، فلو أن النبوة جاءت فجأة ، لو جاءه جبريل فجأةً من دون مقدِّمات ، من دون إرهاصات ، ربما لم يحتمل قلب النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أول مرة ، ولكن نحن الآن مع مقدمات ، مع تباشير ، مع إرهاصات ، هذه من شأنها أن تمهِّد للوحي الذي هو عمادُ ديننا القويم .
(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة ، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً))
[روى ابن سعدٍ عن برة بن أُبي]
يجب أن تعلموا طبيعة الحياة التي عاشها النبي ، أو يجب أن تعلموا خشونة الحياة التي عاشها النبي ، فكان إذا أراد أن يقضي حاجة لا بد أن يذهب إلى مكانٍ بعيدٍ بعيد حتى لا يراه أحد ، حتى لا يرى بيتاً من أجل قضاء حاجة ، لم تكن الحمَّامات قد عُهدت في البيوت . من تباشير النبوة :
كان النبي إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً ، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية من أجل أن يقضي حاجته ، قال : فلا يمر بحجرٍ ولا شجرٍ إلا قال له : " السلام عليك يا رسول الله " ، يسمع صوت السلام عليك يا رسول الله ، كان يلتفت عن يمينه وعن شماله ومن خلفه فلا يرى أحداً .
هذه أولى تباشير النبوة ، صوتٌ يلقى في أذنه أن : " السلام عليك يا رسول الله " دون أن يرى أثراً أو أن يرى أحداً ، يؤيِّد هذا ما جاء في الحديث الصحيح : (( إني لأعرف حجراً كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ))
[صحيح عن سمرة بن جندب رضي الله عنه]

نسمي هذا شفافية ، فالإنسان كلما اقترب من الله عز وجل رأى ما لا يراه الآخرون ، سمع ما لم يسمعه الآخرون ، أحس بما لم يحسّ به الآخرون ، شعر بما لا يشعر به الآخرون ، هذه الشفافية ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال :
(( لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ أَوْ عَلَى طُرُقِكُمْ ))
[ابن ماجة عن حنظلة]
كان عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع نخلة ، فلما صنع له أصحابه منبراً وانتقل إلى المنبر حن إليه جذع النخلة فكان عليه الصلاة والسلام يضع يده عليها تكريماً لها ، هل عندك هذه الشفافية ؟
دخل إلى بستان أحد الأنصار فرأى جملاً ، فلما رآه الجمل حن ، وذرفت عيناه وصار يبكي ، فدخل عليه الصلاة والسلام ، وأمسك برأس الجمل : (( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثاً لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَداً مِنْ النَّاسِ ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفاً أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ ، قَالَ : فَدَخَلَ حَائِطاً لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ : مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ . ))
[أبو داود فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ]
كأنه يفهم على الحيوان ، كأنه يسمع كلام الحيوان ، كأنه يشعر على الجماد : (( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن ))
[ورد في الصحيحين عن جابر بن سمرة]
السيدة خديجة رضي الله عنها كانت أقرب الناس إلى النبي روحاً وجسداً :
قالت السيدة خديجة : إن أول بشارات الوحي ، إن أول بدايات الوحي أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سار ما من حجرٍ إلا يقول له : " السلام عليك يا رسول الله ".
لكن سبحان الله الحكمة التي ما بعدها حكمة أن هذه الزوجة آتاها الله من العقل ، ومن النُضج ، ومن بُعد النظر ، ومن سعة الأفق ، ومن قوة القلب الشيء العجيب ، كان عليه الصلاة والسلام يخشى على نفسه ، ما هذا الذي أسمعه ؟! لا يرى أحداً ، فلو سمع أحدٌ صوتاً ولم ير صاحبه يضطرب .
كان عليه الصلاة والسلام حينما تعرض له هذه الحوادث الغريبة الخارقة للعادة ، تثير في نفسه شيئاً من القلق والخوف ، ويصبح محتاجاً إلى شخصٍ يثق به يبثه ما يجده ، فالله عز وجل ماذا قال ؟ قال : ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً(21)﴾
( سورة الروم )

الإنسان بحاجة ماسة إلى شخص يبثه وجده ، يبثه قلقه ، يبثه تساؤله ، فكان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى البيت ، ويحدِّث السيدة خديجة بما يشعر به ، والسيدة خديجة رضي الله عنها كانت أقرب الناس إلى النبي روحاً وجسداً ، فهي أهله ، وسكنه ، وأُنس روحه ونفسه رضي الله عنها ، وقد ذكرت بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قد حدَّثها بما يعتريه .
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ : (( إِنِّي أَرَى ضَوْءاً وَأَسْمَعُ صَوْتاً وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ ، قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : إِنْ يَكُ صَادِقاً فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيُّ فَسَأُعَزِّزُهُ وَأَنْصُرُهُ وَأُومِنُ بِهِ))
[أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]
قالت : "إن الله لا يفعل ذلك بك ، إنك تصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم " . خالق هذا الكون لا يفعل شراً بإنسانٍ صادق وأمين :
أيها الأخوة ، أنا أشعر بحاجةٍ إلى وقفةٍ متأنيةٍ عند هذا النص ، السيدة خديجة هل جاءها وحيٌ ؟ لا ، هل كان الحق معروفاً قبل بعثة النبي ؟ لا ، لكن كيف عرفت أن هذا الذي يصدق الحديث ، ويؤدي الأمانة ، ويقري الضيف ، ويحمل الكل ، أن هذا الإنسان لا بد أن يكرمه الله ، ومستحيلٌ أن يفعل الله به شراً ، ما هذا ؟ من أين جاءت بهذه الحقيقة ؟ من الذي علمها إيَّاها ؟ أين سمعت هذه الحقيقة ؟ من الذي أخبرها بها ؟ قال لها : (( إِنِّي أَرَى ضَوْءاً وَأَسْمَعُ صَوْتاً وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ))
[أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]

إنك تصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم .
الجواب : هذه هي الفطرة ، كل إنسان على وجه الأرض جبله الله جبلةً عالية ، خالق هذا الكون لا يفعل شراً بإنسانٍ صادق ، بإنسانٍ أمين ، بإنسانٍ مُحسن ، بإنسانٍ كريم ، بإنسانٍ مُنصف ، إنك تصل الرحم ، إنك تحمل الكل ، إنك تعين على نوائب الدهر ، إنك صادق ، إنك أمين ، ما كان الله ليفعل بك ذلك ، لكن نحن ماذا نستفيد من هذا النص ؟
هذا النص يهمنا كثيراً ، أي أنك أيها الأخ الكريم إن صدقت مع الناس ، إن كنت أميناً ، إن كنت مُنصفاً ، إن كنت رحيماً ، إن كنت باراً بوالديك ، إن كنت مُحسناً إلى جيرانك، إن كنت كريماً مع من يزورك ، ماذا تنتظر من الله عز وجل ؟
الفطرة تقول : ينبغي أن تنتظر من الله كل خير ، ينبغي أن تنتظر من الله كل نصر ، وكل تأييد ، وكل عطاء ، وكل تكريم ، ربُ محمدٍ ربُنا ، وإلهُ محمدٍ إلهُنا ، والذي خلق محمداً هو الذي خلقنا ، وقوانينه هيَ هي ، سُننه هيَ هي ، فأنت أيضاً أصدق ، وكن أميناً ، وكن نصوحاً ، وكن باراً ، وكن منصفاً ، وكن رحيماً ، وينبغي أن تنتظر من الله كل خير ، ينبغي أن تعلم علم اليقين أن الله لن يضيِّعك ، ينبغي أن تعلم علم اليقين أن الله لن يخذلك ، لن ينالك بسوء ـ إنك تصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر ، ما كان الله ليفعل بك ذلك ـ هذا كلام السيدة خديجة رضي الله عنها . لحكمة بالغة كانت السيدة خديجة سكناً للنبي وعوناً له ومثبتاً :
إذاً لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل الله هذه الزوجة ذات القلب الكبير ، والإدراك العميق ، والصدر الواسع ، وقوة التحمُّل ، كانت سكناً للنبي ، وعوناً له ومثبتاً .
بربكم أيها الأخوة هل تظنون أن هذه المرأة ، بهذه الأخلاق ، وهذا النُضج ، تعد أقل من الرجل ؟ المرأة لها عند الله شأنٌ كبير ، لذلك في بعض الآيات : ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)﴾
( سورة الأحزاب )
لماذا ذكر المؤمنات ، والصائمات ، والمسلمات ، والصادقات ؟ ليبيِّن الله لنا أن المرأة في شأن التكليف مساويةٌ للرجل تماماً ؛ تكليفاً ، وتشريفاً ، ومسؤوليةً .
الحقيقة من أدق كلمات هذه السيدة ، هذا الكلام الذي ينبع من الفطرة ، ما كان الله ليفعل بك ذلك : (( إِنِّي أَرَى ضَوْءاً وَأَسْمَعُ صَوْتاً وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ))
[أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]
إنك تصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، فهل يصح أن نقول : وراء كل رجلٍ عظيمٍ امرأة ؟ هذه مقولة قالها بعض الحكماء ، أحياناً ترى أنها تصدُق على بعض البيوت . الله لا يخزي من كان أميناً ومخلصاً وورعاً :
الآن انتقلنا إلى مرحلة ثانية ، أول بشائر الوحي ، أول إرهاصات الوحي ، أول تمهيد للوحي ، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى حجراً قال : " السلام عليك يا رسول الله " ، فقط ، يلتفت النبي يمنةً ويسرةً فلا يرى أحداً ، قلق ، وخاف على نفسه أن يكون كاهناً ، عرض هذا على السيدة خديجة قالت له : " لا إنك تفعل كذا وكذا ، وما كان الله يخزيك أبداً " ، وفي الكلام له عدة روايات : ((والله لا يخزيك الله أبداً))
[الزهري عن عائشة]

اسمحوا لي أيها الأخوة أن أقول لكل شاب في مطلع حياته : كن صادقاً ، وكن أميناً ، وكن منصفاً ، وكن محسناً ، وكن ورعاً ، وكن مطيعاً ، والله لن يخزيك أبداً ؛ لا في زواجك ، ولا في عملك ، ولا في مستقبل أيامك ، ولا في صحتك ، الله جل جلاله يقول :
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾
( سورة القلم )
وقال : ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
( سورة السجدة )
وقال : ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (61)﴾
( سورة القصص )
بداية نزول الوحي كانت الرؤيا الصادقة :
الآن دخلنا في طورٍ جديد ، ثم ابتدأ الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة ، كما جاء في الحديث الشريف الصحيح عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : (( أَوَّلُ مَا ابْتُدِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّبُوَّةِ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ أَنْ لَا يَرَى شَيْئاً إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ))
[البخاري عَنْ عَائِشَةَ ]
أحياناً الإنسان لتكريم الله له ، يريه رؤيا صادقة ، رؤيا واضحة ، رؤيا لا تحتاج إلى تفسير ، كلما اتضحت الرؤيا ، وكلما أصبحت واضحة المعالم ، هذه الرؤيا من الله عز وجل ، وهي نوعٌ من الإعلام المباشر ، إذا أراد الله أن يعلمك إعلاماً مباشراً ، إذا أراد الله أن يطمئنك ، إذا أراد الله أن يكرِّمك ، إذا أراد الله أن يُلقي في روعك شيئاً ، ماذا يفعل بك ؟ يريك رؤيا صادقة ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ ))
[مالك عن عطاء بن يسار]
قد تكون الرؤيا الصالحة بشارة ، وقد تكون لفت نظرٍ أو تحذير .
كان عليه الصلاة والسلام يسكن إلى هذه السيدة المصون ، ويرتاح لها ، ويطمئن لها ، وكان يبثها بعض أحزانه ، وكان يسألها أحياناً ، كلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا قصَّها على السيدة خديجة رضي الله عنها ، فتثبته وتبشِّره ، تُعَدُّ المرأة أحياناً ركناً من أركان الأسرة ، وأحياناً تعد عبئاً على زوجها.
رأى عليه الصلاة والسلام مرةً في منامه ، أن سقف بيته نزعت منه خشبة ، وأدخل فيه سلمٌ من فِضَّة ، ثم نزل إليه رجلان ، فأراد أن يستغيث فمُنع من الكلام ، فقعد أحدهما إليه والآخر إلى جنبه ، فأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه ، فأدخل يده في جوفه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجد بردهما ، فأخرج قلبه ، فوضعه على كفه ، فقال لصاحبه : نعم القلب قلب رجلٍ صالح ، فطهَّر قلبه وغسله ، ثم أدخل القلب مكانه ، وردَّ الضلعين ، ثم ارتفعا ، ورفع سُلَّمُهُا ، فإذا السقف كما هو ، هذه رؤيا . اتصالك بالله هو سبب تطهير قلبك وهذا إرهاصٌ من إرهاصات النبوة :
الله عز وجل يعتني بهذا النبي عنايةً فائقة ، ألم يقل الله عز وجل في بعض الآيات الكريمة : ﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾
( سورة طه)
ألم يقل الله عز وجل : ﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا (48)﴾
( سورة الطور )

هذه سمَّاها العلماء : إرهاصات ، فحينما يأتي الوحي هناك تمهيد ، والإنسان إذا اتصل بالله عز وجل يطهِّر الله قلبه ، فهذا الشيء المؤمن إذا اتصل بالله اتصالاً عميقاً طهَّر الله قلبه من الحقد ، من الغيرة ، من الكِبر ، من العُجب ، من الأمراض المُهلكة ، فالقلب الطاهر هو أثمن رأس مالٍ يملكه الإنسان ، والدليل قوله تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
( سورة الشعراء )
الإنسان أحياناً بإقباله على الله يطهر الله قلبه ، هذا التطهير جاء بشكل مجسَّد ، أن نزل ملكان من سقف الغرفة ، نزعا قلبه ، غسلاه ، وطهراه ، وأعاداه إلى مكانه . ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)﴾
( سورة الأحزاب )
تطهير القلب هكذا يكون ، اتصالك بالله هو سبب تطهير قلبك ، هذا إرهاصٌ من إرهاصات النبوة . نذكر هنا قول السيدة خديجة ، حينما سمعت هذه الرؤيا التي قصها النبي صلى الله عليه وسلَّم قالت له : " أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيراً " ، هذا خيرٌ فأبشر ، أرأيتم أيها الأخوة إلى التمهيد ، كيف أن الله جل جلاله يمهِّد لهذا النبي الكريم الوحي عن طريق الرؤيا الصادقة ، وعن طريق أن يرى نوراً وصوتاً دون أن يرى شيئاً ، وعن طريق السلام عليه بالرسالة .
شقّ الصدر وتطهير القلب معنىً شريف أراد الله أن يمهد به الوحي الذي سينزل على محمد :
طبعاً شق صدره هو من إرهاصات النبوة ، وقد وردت به أحاديث صحيحة ، أما أن نفهم شقَّ الصدر فهماً آخر ، من أن كل قلبٍ فيه علقةٌ سوداء ، الملكان نزعا هذه العلقة من صدر النبي فصار نبياً ، هذا الفهم أن كل إنسانٍ لو شُقَّ صدره ، ونزعت منه العلقة السوداء ، وهي حظ الشيطان منه ، صار نبياً ، هذا كلام مرفوض ومضحك ، لو صدَّقنا بهذا التفسير ، لما كان من قيمةٍ لهذا النبي ، هو إنسان عادي ، ولكن نُزعت منه هذه العلقة السوداء ، وأي إنسانٍ آخر يقول لك : أنا لو نزعت مني هذه العلقة لكنت نبياً ، هذا تفكير وتحليل ساذج مرفوض ، إلا أن شق الصدر وتطهير القلب معنىً شريف أراد الله أن يمهد به الوحي الذي سينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسيدنا عيسى حينما قال وهو لا يزال صغيراً قال : ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31)﴾
( سورة مريم )
ماذا نسمي هذا ؟ إن قلنا : هذه معجزة ، المعجزة تكون لنبيٍ أتاه الله رسالةً ، فهو يتحدَّى بها ، أما أن يقول مولودٌ صغيرٌ ولِد لتوِّه : ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31)﴾
( سورة مريم )
هذا ليس معجزةً ، هو خرقٌ للعادات ، ولكن العلماء ـ علماء العقيدة ـ سمَّوه : إرهاصاً ، أي بشارات مبكِّرة للنبوة ، وهذه الرؤيا أن ملكين نزلا ، وغسلا قلب النبي أيضاً إرهاصٌ من إرهاصات النبوة . حبب الله تعالى إلى نبيه الكريم في أثناء هذه المرحلة الخلوة لنفسه والعزلة عن الناس :
استمرَّت مرحلة الرؤيا الصادقة ستة أشهر ، وكانت رحمة الله تعالى قد عمَّت هذا البيت الكريم ، لأن هذه الرؤيا الصادقة ـ كما قال علماء السيرة ـ فيها توطئةٌ لنزول الوحي عليه يقظةً ، هذا في المنام ، رأى في المنام كذا ، وقد حبب الله تعالى إليه في أثناء هذه المرحلة الخلوة لنفسه والعزلة عن الناس .

أخواننا الكرام ، لا بد لك من خلوةٍ مع الله ، أن تكون مع الناس دائماً ، هذا يبعدك عن الله عز وجل ، لا بد من خلوةٍ مع الله ، ولا بد من شحنةٍ روحيةٍ مع الله ، فكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في غار حراء الليالي ذوات العدد ، وكل إنسان بإمكانه أن يصلي الفجر ، وأن يذكر الله ، وأن يتلو القرآن ، وأن يناجي ، وأن يستغفر هذه خلوةٌ مجزأة ، النبي عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة مع الله .
ألم يقل أحد العلماء : " ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة " ، أي لا بد لك من خلوة مع الله ، لا بد لك من قوتٍ تناجي به ربك .
حدثني أخ كان بالحج ، قال لي : تمنَّيت يوم عرفات أن أخلو بنفسي مع الله ، أنا جالس في الخيمة مع أُناسٍ كثيرين يتحدَّثون في شؤون الدنيا ، فلا بد أن أستمع لهذا أو لذاك ، وكأن هؤلاء الذين كانوا معي كانوا حجاباً بيني وبين الله ، قلت له : لمَ لمْ تذهب إلى خارج الخيمة ، وتجلس في مكان تناجي الله فيه ، وأنت في أشرف أيام حياتك يوم عرفات ؟ فالخلوة تشحنك ، الخلوة تجعلك تتصل بالله عز وجل . كان أنس النبي بالله شديداً في غار حراء حتى غلب أنسه بالله وحشة المكان :
إذاً حبب الله تعالى إليه الخلوة لنفسه والعزلة عن الناس ، والعلماء قالوا : الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس ، فهناك إنسان ليست لديه إمكانية أن يجلس وحده أبداً فهو دائماً مع الناس ؛ يتحدث ، ويستمع ، ويعلِّق ، ويسأل ، ويجيب ، ويلقي بعض الطُرَف أما وحده يمل ، المؤمن يأنس بالله وحده .
كان عليه الصلاة والسلام يخرج إلى غار حراء ، إن شاء الله عز وجل يكرمكم بزيارة بيت الله الحرام حجاً أو عمرةً ، اذهبوا إلى سفح جبل النور ، وانظروا ، الشَّاب الجَلْدُ الرياضي الذي في ريعان شبابه ، لا يستطيع أن يصل إلى غار حراء إلى جبل النور في ظاهر مكة إلا بين ساعتين أو ثلاث من الجُهد الجَهيد ، والطريق هكذا ، جدار ، قلت : سبحان الله كيف كان عليه الصلاة والسلام يصعد إلى هذا الغار ، لو أن الإنسان صعد إلى هذا الغار وجلس وحده والله في وحشة لا تحتمل ، كم كان أنسه بالله عظيماً حتى غلب على وحشة المكان !! فالجبال في الليل ، أن تكون وحيداً في جبل ، شيء مخيف ، يوجد مفاجآت ، تصوّرات ، تخيُّلات ، كم كان أنس النبي بالله شديداً ، حتى غلب أنسه بالله وحشة المكان ؟!

هناك أخوان صعدوا إلى هناك ، فالإنسان بعد الأربعين أو الخمسين من الصعب عليه أن يذهب إلى غار حراء ، ولو أن هناك طريقاً لكانت القضية سهلة جداً ، وأنا أتمنى أن يكون هناك طريقٌ سهلٌ إلى غار حراء ، لترى المكان الذي نزل على النبي الوحي ، هذا الدين العظيم من هنا بدأ :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
( سورة العلق )
كان عليه الصلاة والسلام يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وتزوِّده السيدة خديجة رضي الله عنها بما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب ، فإذا نفد زاده ، رجع صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة ، معه طعام وشراب يكفيه أيام معدودات ، يجلس وحده يتأمَّل ، يفكر ، يناجي ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ : (( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا . ))
[متفق عليه عن عَائِشَةَ رضي الله عنها ]
هذا كلام السيدة عائشة تروي عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء. السيدة خديجة كان يسعدها ما يسعد النبي ويسرها ما يسُره :
احتملت رضي الله عنها بُعد النبي عنها ، فالحقيقة أحياناً هناك زوجات غيورات ، وهناك زوجات لا يحتملن أن يبتعدن عن أزواجهن ، لذلك إذا ابتعد عنهن أزواجهن كن عبئاً عليه ، يضايقنه ، يزعجنه ، السيدة خديجة كان يسعدها ما يسعد النبي ، يسرها ما يسُر النبي ، فإذا كان عليه الصلاة والسلام يسعد بالخلوة بربه فكانت ترضى بذلك ، هي قدوةٌ لكل امرأةٌ مؤمنة ، فأحياناً تكون الزوجة أنانية ، تحب أن يكون زوجها لها وحدها ، ولا تعبأ بعمله الصالح ، ولا بسعيه في سبيل نشر الحق ، لذلك تكون عبئاً عليه ، أما السيدة خديجة هي في خدمته ، فأيَّة امرأةٍ ترضى أن يغيب زوجها عنها أياماً طويلة ، وتبقى وحدها في البيت ، شيءٌ لا يقبل ، لكن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تحتمل بعد النبي عنها ، وكانت تصبر على مفارقته لها ما دام ذلك يعجبه ، واللهِ هذه أخلاق عالية جداً ، الذي يسعده ترضى به ، والمعروف من أحوال المرأة أنها تغضب إذا ما ابتعد زوجها عنها ، تدركها الغيرة عليه ، وتخشى أن يكون إعراضه عنها بسبب كرهه لها ، أو ميله إلى غيرها ، ولكنها رضي الله عنها خالفت جميع النساء في هذا الشأن ، فجوهرها الصافي يختلف عن جوهَرهن رضي الله عنها .
كانت تحبُّ كل ما يحب رسول الله ، وما دام يحب العزلة والخلوة بنفسه فليكن له ما يحب ، كانت فقط تقلق عليه ، وتخشى أن يصيبه مكروه .
ما هذه الأخلاق ؟ هذه زوجة ملء السمع والبصر ، يسعدها ما يسعده ، يرضيها ما يرضيه ، يسرُّها ما يسرُّه .
أحياناً كان عليه الصلاة والسلام يتأخَّر في العودة إليها ، فترسل غلمانها وخدمها في طلبه والبحث عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد خرجت معه مرةً إلى غار حِراء ، وصحبته هُناك في عزلته وخلوته .
جاء في بعض الروايات : أنه صلى الله عليه وسلم خرج في بعض المرَّات إلى غار حراء ومعه أهله . المرأة الصالحة هدية الله تعالى للإنسان المؤمن :
لا زلنا نقترب من الوحي ، بدأنا بهذه الأحجار التي تسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم : " السلام عليك يا رسول الله " . ثم الرؤيا الصادقة ، ثم هذه الخلوة مع الله في غار حراء ، وكلما دنا الموعد الذي قدَّره الحكيم العليم ببدء نزول القرآن الكريم ، زادت هواتف الحق واشتد النور ، وكلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً جديداً ، لجأ إلى السيدة خديجة رضي الله عنها ، فتثبِّته وتبشِّره ، وبهذا ظهرت حكمة الله تعالى عندما قدَّر أن تكون السيدة خديجة زوجةً للنبي .
أي أن من إكرام الله لهذا النبي الكريم أن جعل هذه المرأة العاقلة ، الرشيدة ، الكريمة ، ذات القلب الكبير ، والصدر الواسع ، والأفق الواسع زوجةً لهذا النبي ، الحقيقة أيها الأخوة صدقوني في هذا الكلام ، في الأعم الأغلب المرأة للمؤمن هدية الله إليه ، المرأة الصالحة : (( إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَة ُ))
[النسائي عن عمرو بن العاص]
التي : (( إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ))
[الجامع الصغير عن عبد الله بن سلام]

هذه الزوجة هدية الله للإنسان ، لذلك :
(( ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً ))
[ ورد في الأثر ]
استمر عله الصلاة والسلام يرى الضوء ويسمع الصوت ، حتى جاءه مرةً وعرَّفه جبريل بنفسه دون أن يراه ـ هذه مرحلة رابعة ـ وقال له: " يا محمد أنا جبريل " ، صوت بلا صورة ، لا توجد صورة ، " يا محمد أن جبريل " ، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة وقال لها : " والله خشيت أن يكون هذا أمراً " ، قالت له رضي الله عنها لكي تثبته وتزيل قلقه واضطرابه : " معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك ، إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، ما كان الله ليفعل بك ذلك " .
في ليلةٍ من الليالي أسمعه جبريل صوته مُسَلِّمَاً ، قال : " السلام عليكم " ، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة مسرعاً ، قالت : "ما شأنك ؟ " ، فأخبرها ، فقالت : " أبشر فإن السلام خير " .
لعل هذا كان بعيداً عن معلوماتكم ، لم يأت الوحي فجأةً لأن النبي بشر قد لا يحتمل . ظهور جبريل للنبي على هيئة إنسان :
أيها الأخوة الكرام ، مرَّت الشهور كان فيها تمهيد للوحي ؛ رؤيا صادقة ، وجاء شهر رمضان المبارك ، وصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء يتعبد فيه ، وزوَّدته السيدة خديجة رضي الله عنها بما يحتاج إليه من الطعام والماء ، وفي ليلةٍ من ليالي رمضان بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في غار حراء مستغرقاً في تأمُّلاته وأفكاره ، إذا بالنور الذي كان يراه يظهر أمامه في أفق السماء من جهة البيت العتيق ثم يدنو منه ، وكلما اقترب ازداد قوةً وسطوعاً ، ثم بدا له في وسط النور أمين وحي الله تعالى جبريل عليه السلام ظهر جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في هيئة إنسان ، وجاءه يحمل نمطاً من ديباج ، وخيَّم على الكون هدوءٌ عجيب ، وكأنه يُنصت إلى كلمات الله تعالى ، الجبل الشامخ بهامته العالية ، وصخوره ، وذرات ترابه ، وحبات رماله ، والنباتات الصغيرة ، والشجيرات التي تطرز سفوحه ، كلها أنصتت ، وأرهفت سمعها ، حتى النجوم في قُبة السماء ازدادت تألُّقاً وسطوعاً كأنها تدنو من جبل النور ، الذي لفَّه النور من كل جانب ، وحرست السماوات ، ومنعت الشياطين والجان من الاقتراب من السماء الدنيا ، وهاهو جبريل عليه السلام يقف في غار حراء .
كان في البداية : " السلام عليك يا رسول الله " ، بلا صوت وبلا صورة ، بعد ذلك رؤيا صادقة ، ثم ابتعاد عن الناس والخلوة بالله عز وجل ، ثم نور يراه من بعيد ، ثم سلام ؛ " أنا جبريل السلام عليك " ، ثم رأى هذا النور في أفق السماء ، فاقترب شيئاً فشيئاً حتى تشكَّل على صورة إنسانٍ ، كان عليه الصلاة والسلام يراه بعينه يقظةً لا في المنام ، والدليل : ها هو ذا جبريل عليه السلام يقف في غار حراء أمام محمدٍ بن عبد الله الهاشمي القرشي يلقي إليه الرسالة الإلهية الأولى التي يفرق فيها كل أمرٍ حكيم : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(6)﴾
( سورة الدخان )
اللقاء والاتصال بين الأمينين أمين وحي السماء وأمين وحي الأرض في رمضان :

قال تعالى :
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2)لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)﴾
( سورة القدر)
وقال : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (185)﴾
( سورة البقرة : من آية " 185 " )
سابقاً كان في منام ، أما الآن يقظة ، والدليل أنْ تم هذا اللقاء والاتصال بين الأمينين ؛ أمين وحي السماء جبريل عليه السلام ، وأمين وحي الأرض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وضَمَّ الأمين السماوي الأمين الأرضي ليتم الاتصال ، ويسري النور ، ضمه إليه ضمةً شديدة ـ أي أنك لست في منام ، أنت في يقظة ـ ضمه إليه ضمةً شديدة حتى التصق الجسد الأرضي بالجسد النوراني السماوي ، ثم ألقى عليه هذه الكلمة : اقرأ ، ديننا كله علم ، أول كلمة في القرآن اقرأ . بدء الوحي السماوي إلى الأرض :
قالت عائشة رضي الله عنها في حديث بدء الوحي : (( حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ))
[الزهري عن عائشة]
أي يجب أن تستخدم علمك في معرفة الله ، اقرأ باسم ربِّك الأكرم ، اقرأ لتعرف ربك الأكرم ، استخدم القوة الإدراكية لتتعرَّف إلى ربك الأكرم ، لماذا ضمني ؟ ليس في المنام في اليقظة ، لئلا يقول أحدهم لعلها رؤيا رآها ، لعله وهمٌ توهمه ، لعله شعورٌ راوده ، لا ، رآه رأي العين ، رأى جبريل عليه السلام رأي العين ، لم يكتف بأن رآه ، لو كان رآه ، هو نور ، شيء غير مادي ، لم يكن ضمه هذه الضمة ، لمّا ضمه صار شيئاً مادياً ، هو في أعلى درجات اليقظة ، وجبريل ضمَّه ، وغطاه حتى بلغ منه الجهد ، وقال له : " اقرأ " ، أول مرة قال : " ما أنا بقارئ " ، قال : " اقرأ " ، قال : " ما أنا بقارئ " ، قال : اقرأ ما في الكون من آيات ، اقرأ من أجل أن تعرف الله ، هذا بدء الوحي :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
( سورة العلق )
أرأيتم أيها الأخوة إلى هذا التدرج في إرهاصات النبوة ، وفي الرؤيا الصادقة ، وفي السلام الذي كان يطرحه الحجر والمدر عليه ، ثم في قول جبريل : أنا جبريل ، ثم في قول جبريل : السلام عليك يا محمد ، ثم في رؤية النور في الأفق ، ثم في تجميع هذا النور إلى أن صار على هيئة إنسان ، ثم أمسكه وضمَّه وقال : اقرأ ، الآن بدأ الوحي السماوي إلى الأرض ، بدأت رسالة السماء إلى بني البشر .
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نتابع هذا الحدث الخطير الذي هو من أخطر أحداث الدعوة الإسلامية ؛ إنها نزول الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 02:10 PM   #33


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( التاسع و العشرون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 5



مرحلة اول البعثة وايمانها بة




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن ، ومع قصة السيدة خديجة أم المؤمنين .
السيدة خديجة امرأةٌ كأية امرأة لكنها انتصرت على نفسها :
أيها الأخوة الكرام ، قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الصحابيَّة الجليلة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأولى ، أم المؤمنين ، أقف وقفةً متأنيةً عند حقيقةٍ هي أن الإنسان حينما يقف مواقف بطوليَّة ، والأيام تمضي ، هذه المواقف تبقى خالدة ، نحن بعد ألفٍ وخمسمئةٍ عام نجتمع في هذا المسجد لنذكر مواقف هذه السيدة الجليلة ، ما الذي جعلها تَخْلُد ؟ مواقفها .
ملايين مَلايين النساء أتين إلى هذه الدنيا ، وعشن وقتهن ، وتزوَّجن ، وأنجبن ، وطوتهم الحياة ، ولم يذكرهم أحد ، لماذا نحن نذكر هذه السيدة الجليلة ؟ لأنها وقفت مواقف بطوليَّة ، هذا درسٌ أيها الأخوة ينبغي أن يوضع بين أيدينا ؛ نأكل ، ونشرب ، ونعمل ، ونتزوج ، وننام ، هذا شأن الإنسان في كل مكان ، ولكن الذي يبقي ذكره إلى أبد الآبدين معرفته بالله ، وطاعته له ، وموقفه البطولي .
كلكم يعلم من الدرس السابق أن جبريل حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " اقرأ " ، قال : " ما أنا بقارئ " ، قال : " اقرأ " ، قال : "ما أنا بقارئ " ، قال : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
( سورة العلق )
النبي صلى الله عليه وسلَّم بشر ، وبشريَّته هي التي تُعلي مقامه ، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام لأنه بشر ، وانتصر على بشريَّته ، وسَمَت نفسه إلى الملأ الأعلى ، هو الذي جعله سيِّد الخلق ، وحبيب الحق ، والسيدة خديجة زوجته امرأةٌ كأية امرأة لكنها انتصرت على نفسها . الله سبحانه وتعالى لكرامة النبي عنده قيَّض له هذه الزوجة العاقلة الوفية :

بيَّنت لكم في دروسٍ سابقة كيف أن الزوجة ترغب أن تبقى إلى جانب زوجها ، أو أن يبقى زوجها إلى جانبها ، لكن هذه الزوجة الجليلة كان تُسَرُّ بما يُسَرُّ به النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان يتركها ، ويخلو بربه الليالي ذوات العدد في غار حراء ، وهي سعيدةٌ بهذا لأنها تعلم علم اليقين أن هذا يسعده .
ذكرت قبلاً أن المرأة إما أن تكون عبئاً على زوجها ، وإما أن تكون في خدمة زوجها ، تكون عبئاً عليه حينما تحمِّله ما لا يطيق ، حينما تسفِّه دعوته ، حينما لا تقدِّر رسالته ، وتكون في خدمة زوجها وشريكته في دعوته إلى الله عزَّ وجل حينما تكون عوناً له في أداء رسالته .
قد ذكرت لكم من قبل أن المرأة لا تسعد زوجها إلا في حالةٍ واحدة ؛ إذا عرف زوجها ربه ، وسعد بقربه ، وعرَّفها بربها ، فسعدت بقربه ، بعدئذٍ تسعده لأنها تعرف حق الزوج ، وتعرف عِظَم الرسالة التي جاءت من أجلها .
بالمناسبة أيها الأخوة ، كل إنسانٍ ذو رسالة ، لأنك من بني البشر :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72)﴾
( سورة الأحزاب )
أي إنسانٍ لمجرَّد أنه إنسان عُرضت عليه الأمانة وقَبِلها ، وحينما قبلها شرَّفه الله عزَّ وجل فجعله المخلوق الأول ، وجعله المخلوق المكرَّم ، وجعله المخلوق المكلَّف ، ما دام قد قَبِلَ حمل الأمانة ، سخَّر الله له الكون تسخير تعريفٍ وتكريم .
الفكرة الأولى في هذا اللقاء ، هناك مَلايين ملايين النساء أتين إلى الدنيا ، وعشن وقتهن ، وتزوجن ، وأنجبن ، وطواهم الردى ، ولم يذكرهن أحد ، لكن المرأة التي عرفت ربها ، وعرفت رسالتها ، وعرفت عِظَم المسؤوليَّة التي أُلقيت عليها ، هذه تكون في خدمة زوجها ، وليست عبئاً عليه ، فلعل الله سبحانه وتعالى لكرامة النبي عنده قيَّض له هذه الزوجة العاقلة الوفية ، التي ندر أن يأتي الزمان بمثلها ، لذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : (( خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ قَالَ تَدْرُونَ مَا هَذَا فَقَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِين ))
[أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
الزوج والزوجة متكاملان هذه مشيئة الله عزَّ وجل وهذه هي سنته في خلقه :

أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جاءه الوحي كان يرتجف من هول ما حدث ، عاد إليها ، الزوجة سكنٌ لزوجها ، الزوج حينما يعود إلى البيت ويجد زوجته في انتظاره ، وفي خدمته ، تخفِّف عنه آلام الحياة ، إنها تؤدِّي رسالتها على أحسن ما يكون ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (21)﴾
( سورة الروم )
تكون الزوجة سكناً لزوجها لأن الرجل يكمِّل نقصه فيها ، ويكون الزوج سكناً لزوجته لأنها تكمِّل نقصها فيه ، هما متكاملان ، وهذه مشيئة الله عزَّ وجل ، وهذه هي سنته في خلقه .
كان عليه الصلاة والسلام يرتجف من هول ما حدث ، عاد إليها وهو يقول : (( زَمِّلُونِي زمِّلُوني ))
[متفق عليه عن عائشة]
مرَّةً ثانية إن حذفت من رسول الله بشريته ألغيت تفوقه ، وألغيت كماله ، لأنه بشر وتجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر ، انتصر على بشريَّته ، فزمَّلته رضي الله عنها ، وقد ورد أيضاً أنها دعته إلى أخذ قسطٍ من الراحة ، فقال لها صلى الله عليه وسلَّم : انقضى عهد النوم يا خديجة .
الآن معظم الناس حينما يأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان ، حينما يتمتعون بصحةٍ طيبة ، ومالٍ وفير ، وأولادٍ كثيرين ، وبيتٍ مريح يقول لك : على الدنيا السلام . النجاح الحقيقي حينما يؤدِّي الإنسان الرسالة التي حمَّله الله إيَّاها :

قلت لكم من قبل أن سيدنا عمر رضي الله عنه أدخل شاعراً اسمه الحُطيئة السجن لأنه هجا رجلاً هو الزبرقان بأهجى بيتٍ قالته العرب ، قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
***

أي أن كل إنسان جعل تحقيق أهدافه الماديَّة نهاية المطاف هو إنسان ينطبق عليه هذا البيت :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
***

أي أنت أيها الإنسان على عاتقك رسالةٌ ينبغي أن تعيها ، مثل بسيط : أمةٌ متفلِّتَةٌ تحتاج إلى علمٍ جيد ، أرسلت شاباً في بعثةٍ دراسيَّةٍ إلى بلد غربي ، هذا الشاب أُرسل على حساب أمتِه ليدرس ، ويتعلَّم ، الآن مقيم في بلد أجنبي ، بقدر وعي هذا الشاب يشعر أنه يحمل رسالة ، أتى هنا ليتعلَّم ، وليعود لينفع أمته بعلمه ، فكلَّما عرضت له نزوةٌ أو شهوةٌ يجب أن يذكر رسالته ومهمته ، الشاب الواعي وهو في بلاد الغرب وقد أرسلته أمته ليدرس ، وينال أعلى الدرجات ، وليعود لينفع أمته بعلمه ، يشعر دائماً بهذه المسؤولية ، وتلك الرسالة ، وعِظم هذه المهمة التي أُنيطت به ؛ وكلَّما كان ضعيف الإدراك ، ضعيف الوازع الداخلي كلَّما تفلَّت من تلك المسؤوليَّة ، وعاش لحظته ، وانساق مع شهواته .
أنتم أيها الأخوة وأنا معكم كلَّما ارتقينا شعرنا بعظم رسالتنا ، وكلما ضعفنا تفلَّتنا من هذه الرسالة ، فالإنسان لو حقَّق أهدافه المادية ؛ لو أكل ، وشرب ، وسكن ، وتزوج ، وعمل ، وجاءه دخلٌ كبير لن يحقِّق شيئاً ، النجاح الحقيقي حينما تؤدِّي الرسالة التي حمَّلك الله إيَّاها ، النجاح الحقيقي حينما تحقق قوله تعالى : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
( سورة الشمس )
قال : أحاطته برعايتها وعطفها وحنانها ، ولم تبادر إلى سؤاله عمَّا حدث ، وهذا من ذوقها الرفيع ـ أحياناً الإنسان سكوته كمال ، أحياناً حديثه غير الهادف نقص ، أحياناً إن سكت في موقف ، فالسكوت أعلى درجات الكمال ـ بل انتظرت حتى هدأت نفسه الشريفة ، وذهب عنه ما كان يجد من اضطراب ، عندئذٍ سألته ، فقصَّ عليها ما رأى وأخبرها بما سمع وقال لها : " لقد خشيت على نفسي " ، فقالت له رضي الله عنها بكل ما أوتيت من ثقةٍ وحزمٍ : " كلا والله ما يخزيك الله أبداً " ، وفي رواية للبخاري : " كَلاَّ أَبْشِرْ " ، هذا هو الدعم الداخلي ، هذا هو التثبيت ، هذا هو العقل ، " كلا والله ما يخزيك الله أبداً " ، هذا النص له روايات كثيرة:
" إنك تحمل الكَل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر ، وما يخزيك الله أبداً " .
[الزهري عن عائشة]
الكمال البشري حازه النبي في أعلى درجة :
ذكرت لكم في درسٍ سابق أن كل إنسانٍ له عملٌ طيب ينبغي أن يثق بالله عزَّ وجل ، والله لن يخزيه أبداً .
بعض كتَّاب السيرة له تعليقٌ لطيف على هذا الموقف الرائع ، يقول : " لكِ الله يا أم المؤمنين ما أعقلكِ ، وما أحزمكِ ، وما أصدق فراستكِ ، وما أعظم ثقتكِ بربكِ سبحانه ، من في النساء من تقول مثل كلمتكِ هذه ، وتقف من زوجها مثل موقفكِ الكريم هذا ؟! " . هناك نساء كثيرات يُسَفِّهن موقف أزواجهن ، الموقف الكامل ، الموقف المُخلص ، الموقف الذي ينمُّ عن حبٍ لله عزَّ وجل ، وعن إيثارٍ لطاعته ورضوانه ، زوجةٌ جاهلةٌ تسفِّه موقف زوجها ، وتكون عبئاً عليه ، وليست في خدمته .

قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " صدَّقته في أول وهلة " ، لذلك قالوا : إن السيدة خديجة هي أول إنسانٍ ـ وكلمة إنسان تشمل الذكور والإناث ـ أول إنسانٍ تؤمن برسول الله تؤمن به نبياً ورسولاً ، قال : وهذا يدل على قوة يقينها ، ووفرة عقلها ، وصحَّة عزمها . الحقيقة أن المرأة جعلها الله عزَّ وجل محبَّبةً للرجال ، ولكن المرأة العاقلة ، المرأة المؤمنة لها مكانةٌ عند ربها وعند زوجها أضعاف مضاعفة ، بل أضعاف لا تعدُّ ولا تحصى .
مرَّةً ثانية : ذكَّرته بعمله الطيب :
(( إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ))
[الزهري عن عائشة]
وفي روايةٍ للإمام البخاري : (( إنك تصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ))
[البخاري عن عائشة]
هذه الخصال التي جمعتها للنبي عليه الصلاة والسلام كمال الإنسان ، فالكمال البشري حازه النبي في أعلى درجة ، السيدة خديجة كما ذكرت في درسٍ سابق لم تكتف رضي الله عنها بهذا ، بل ذهبت مع رسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، الذي سبق أن حدَّثته عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قبل زواجها منه ، وأخبرها ورقة أنه سيكون في هذه الأمة نبيٌ حان أوان ظهوره كما مرَّ معنا . المعركة بين الحق والباطل تُعلي قدر أهل الحق وتؤكِّد ثباتهم وصدقهم :
تضيف بعض الروايات أن النبي كان قد ذهب إلى ورقة مع صاحبه أبي بكر قبل هذه المرَّة أيضاً ، ففيها أن النبي قال للسيدة خديجة رضي الله عنها : (( إني إذا خلوت وحدي أرى ضوءاً ، وأسمع نداءً : يا محمد أنا جبريل ، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً ، فقالت : معاذ الله ما كان الله ليفعل هذا بك ، إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث ))
[الزهري عن عائشة]
لما دخل أبو بكرٍ ذكرت خديجة حديثه لها وقالت : " اذهب مع محمدٍ إلى ورقة بن نوفل فإنه رجل يقرأ الكُتُب فيذكر له ما يسمع " ، فانطلقا ، فقصَّا عليه فقال : إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي : يا محمد أنا جبريل ، فأنطلق هارباً ، قال ورقة : سبوحٌ سَبوح ، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي يعبد فيها الأوثان ، جبريل أمين الله تعالى على وحيه بينه وبين رسله ، لا تفعل إذا أتاك ، فاثبت حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني " .
إذاً يستنبط أن ورقة بن نوفل كان على علمٍ بأمر النبي عليه الصلاة والسلام وما يحدث له .
أيها الأخوة ، لهذا الرجل الحصيف العاقل الذي يقرأ الكُتُب قولٌ آخر ، قال :

" هذا الناموس الذي نزَّله الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ))
[البخاري عن عائشة أم المؤمنين]
قال : " نعم لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عوديَ ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً " ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
هناك تعليقٌ لطيف على هذه الرواية : لحكمةٍ أرادها الله جعل الحق والباطل في كل مكان وفي كل زمان ، والمعركة بين الحق والباطل معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة ، ولولا أهل الباطل لما ارتقى أهل الحق ، إن هذه المعركة بين أهل الحق وأهل الباطل هي التي تُعلي قدر أهل الحق ، وتؤكِّد ثباتهم ، وصدقهم ، وحبهم ، وشوقهم لربهم .
تصور أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كانوا في مكة ، وليس فيها مشركٌ ولا كافر ، ليس فيها مشكلة ؛ ولا معارضة ، ولا تكذيب ، ولا تسخيف ، ولا تنكيل ، ولا إخراج ، ولا تضييق ، جاء الوحي فسعد به النبي ، ونطق به ، وسعد به أصحابه ، ليس هناك خروج من مكة ، ولا هجرة ، ولا قتال ، ولا بدر ، ولا أُحد ، ولا خندق ، ولا شيء إطلاقاً ، كيف يرقى أصحاب رسول الله ؟ الإنسان لا يرقى إلا حينما يقابل المتاعب ويصبر ، لا يرقى إلا إذا ظهر صدقه ، وظهر ثباته ، هذا ينقلنا إلى موضوعٍ آخر . الإنسان حينما يلتزم جانب الصواب يدفع ثمن هذه الطاعة حتى يشعر بقيمتها :
لو أن إنسان له دخلٌ كبير من معصية شنيعة ثم تاب من توِّه عن هذه المعصية ، لو أن الله جدلاً أعطاه دخلاً أكبر بمجرَّد أنه قد تاب ، هذا الإنسان الذي تاب لا يشعر بقيمة توبته ، ما نقص عليه شيء ، أما حينما يقل دخله بعد أن تاب إلى الله ، ويدفع ثمن طاعته ، وثمن إيثاره ، هذه المتاعب التي يعانيها هي التي تثمِّن عمله ، هي التي تسمو به عند الله عزَّ وجل ، فالإنسان حينما يلتزم جانب الصواب هناك ما يسمى بثمن هذه الطاعة ، ثمن هذه الطاعة إن لم يدفعه لا يشعر بقيمة هذه الطاعة .
مثلاً أحياناً يلتزم شاب في أسرة ، ويستقيم ، يدع كل سهرةٍ مختلطة ، يدع كل نُزهةٍ مختلطة ، يدع كل وليمةٍ مختلطة ، يدع كل شيءٍ يبعده عن ربه ، يلزم دروس العلم ، يأتي المساجد ، فالظاهر هذا الشاب حُرم هذه الولائم ، وحُرم هذه السهرات ، وحرم هذه النزهات ، وحرم هذه المباهج ، لولا أنه حُرمها لما كان لطاعته معنى .
أيها الأخ الكريم لا تتألَّم حينما تدفع ثمن طاعتك ، أبشر ، واستبشر ، وكن سعيداً إذا دفعت ثمن طاعتك ، يؤكد هذا المعنى قول الله عزَّ وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (28)﴾
( سورة التوبة )
أي أن هؤلاء المؤمنين حينما رفضوا دخول المشركين مكة تنفيذاً لأمر الله عزَّ وجل ؛ قلَّ دخلهم ، وقلَّت رواج سلعهم ، وضاقت عليهم الدنيا قليلاً ، هذا هو ثمن الطاعة ، فإذا دفعوه في المستقبل عوَّضهم الله عزَّ وجل كل شيءٍ فاتهم : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (28)﴾
( سورة التوبة )
هذا الدرس لنا ، فأنت حينما تلتزم قد تضيع منك فرصٌ كثيرة ، قد يضيع منك أعمالٌ كثيرة ، دخولٌ كثيرة ، هذه إذا ضاعت منك معنى ذلك أنك دفعت ثمن طاعتك ، معنى ذلك أنك ارتقيت بهذا ، أما لو أن كل إنسان آثر الحق ، جاءته الدنيا كأكثر ما تكون مباشرةً ، ما عاد لهذه الطاعة من معنى ، ولا عاد لهذه الطاعة من ثمن . حال النبي الكريم بعد نزول جبريل بأول آيات القرآن :
أيها الأخوة الكرام ، وبعد أن نزل جبريل بأول آيات القرآن الكريم ، نزولاً كما مرَّ معناه : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
( سورة العلق )
فتر نزول الوحي بعض الوقت ، كما جاء في حديث السيدة عائشة فقالت :
" ثم فتر الوحي ، ثم أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلَّم قوله الكريم : ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
( سورة المدثر )
بعد أن ظهر له جبريل بهيئته المَلَكِيَّة ، روى الطبري عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال : (( جاورت بحراء ـ بغار حراء ـ فلما قضيت جواري ـ أي جاورت ربي ، خلوت مع ربي الأيام ذوات العدد ـ هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، أتيت خديجة فقلت : دثروني دَثروني ، وصوبوا عليَّ ماءً بارداً قال : فدثروني وصبوا عليَّ ماءً بارداً فنزلت :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
( سورة المدثر )
وفي روايةٍ ثانية : ((بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زمِّلُوني ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
( سورة المدثر )
فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ )) [البخاري عن جابر بن عبد الله]
بعد الظهور الكامل من جبريل عليه السلام عرف النبي الكريم مهمته وتمَّت له النبوة :

الآن مقدماتٌ كثيرة ، وإرهاصاتٌ كثيرة ، ورؤيا صادقة كفلق الصُبح ، ونداءٌ من مجهول : " أنت نبي هذه الأمة يا رسول الله " ، ثم جاء الوحي ، ثم نزل قوله تعالى :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
( سورة العلق )
ثم رأى النبي جبريل بصورته الكاملة يملأ ما بين السماء والأرض ، ثم استقر عند النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه نبيُّ هذه الأمة وأن الله أرسله ليكون رحمةً مهداة للعالمين .
بعد الظهور الكامل من جبريل عليه السلام ، ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلَّم طبيعة المهمة المكلَّف بها ، وعرف صلى الله عليه وسلَّم مهمته ، وتمَّت له النبوة ، واستبانت معالم الرسالة ، وهذا معنى قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)﴾
( سورة الشرح )
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام شرح الله له صدره ، ما الذي كان يقلقه قبل شرح الصدر ؟ يقلقه أنه عرف الله ، ولكن لم يعرف السبيل إلى هداية قومه ، عرف الله ورأى قومه في ضلالٍ مبين ، عرف الله وسمت نفسه ورأى قومه في مستنقعٍ آسن ، عرف الله وأشرقت روحه ، ورأى قومه يتناحرون ، ويأكل بعضهم أموال بعض ، ويعتدي بعضهم على أعراض بعض ، رأى مجتمعه في مستنقعٍ آسن ، ورأى جاهليةً هي حضيض المستوى الذي وصلت إليه البشريَّة . السيدة خديجة رضي الله عنها أول سبَّاقةً إلى الإسلام :
أيها الأخوة الكرام ، هذه السيدة خديجة رضي الله عنها كانت سبَّاقةً إلى الإسلام . بالمناسبة يقول عليه الصلاة والسلام : (( ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبو بكر))
[رواه رزين والديلمي بمعناه في مسند الفردوس عن ابن مسعود]
الدعوة إلى الإسلام عامَّة ، ولكن الاستجابة متفاوتة ، فالسيدة خديجة كانت أول سبَّاقة إلى الإسلام ، بادرت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، والتصديق بنبوَّته ، فهي سبَّاقة الخلق إلى الإيمان والإسلام رضي الله عنها وأرضاها . واتفق العلماء على هذه الحقيقة :
قال ابن عبد البر : " هي أول من آمن بالله عزَّ وجل ورسوله صلى الله عليه وسلَّم " ، وهذا قول قتادة ، والزُهري ، وعبد الله بن محمد ، وابن إسحاق ، وجماعة .
قالوا : "خديجة أول مَن آمن بالله عزَّ وجل من الرجال والنساء " ، ولم يستثنوا أحداً ، إذاً حينما آمنت برسول الله كانت الإسلام كلَّه .
قال ابن الأثير : " خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة " .
بالمناسبة هذا السبق له قيمة كبيرة جداً ، أحياناً الإنسان حينما يقوى الحق ويظهر ويأخذ مكانه الطبيعي ، ويصبح الحق ذا قوةٍ ظاهرةٍ ، الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، أما حينما يكون الحق ضعيفاً ، يحتاج إلى من يدعمه ، الناس ينصرفون عنه خوفاً على سلامتهم ، أو خوفاً على أموالهم ، لذلك ليسوا سواء ، من آمن قبل الفتح له عند الله مكانة كبيرة ، فهذا الوقت له قيمة كبيرة جداً ، أحياناً يكون الشيء إذا انتسبت إلى هؤلاء كان انتسابك إليهم مغرماً أما حينما يكون انتسابك إليهم مغنماً ليس لك أجر ، فالبطولة لهؤلاء الذين أسلموا وكانوا سبَّاقين في إسلامهم . أقوال بعض العلماء في السيدة خديجة رضي الله عنها وإسلامها المبكر :
قال محمد بن كعب : " أول من أسلم في هذه الأمة برسول الله خديجة رضي الله عنها " .
قال : اتفق العلماء على هذا ، بينما اختلافهم في أول من أسلم بعدها ، الخلاف لا على أنها أول من أسلمت ، الخلاف أول من أسلم بعدها .
قال ابن هشام في السيرة : " وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدَّقت بما جاءه من الله ، وآزرته على أمره ـ أي أعانته على أمره ـ وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدَّق بما جاء به ، فخفَّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلَّم ، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها ؛ تثبِّته ، وتخفِّف عنه ، وتصدِّقه ، وتهوِّن عليه أمر الناس رحمها الله تعالى " .
هذه عبارة لطيفة أعيدها على أسماعكم : " ، وكانت أول من آمن بالله ورسوله ، وصدَّق بما جاء به ، فخفَّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلَّم ، لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها ؛ تثبِّته ، وتخفِّف عنه ، وتصدقه ، وتهوِّن عليه أمر الناس رحمها الله تعالى " .
قال بعضهم : "إن سبب إسلامها السريع هو ما رأته من إرهاصاتٍ ، ومبشراتٍ ، ودلائل مبكِّرة على نبوة النبي عليه الصلاة والسلام" .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " ومن مزايا خديجة أنها ما زالت تعظِّم النبي " .
الإنسان أحياناً التعامل اليومي المباشر لا يبقي للإنسان عند أهله هذه المكانة الكبيرة التي يراها الناس له ، أما زوجةٌ هو زوجها ، وقد أنجب منها الأولاد ، وله عندها مكانةٌ عظيمة ، رأته نبياً عظيماً ، والعلاقات الحميمة دائماً تُضْعِف هذه النظرة ـ أي بالمألوف ـ العلاقات الحميمة بين الزوج وزوجته تضعف مكانة الزوج عند زوجته ، هذا شأن معظم الناس ، أما هذه السيدة العظيمة مع أنها زوجته ، وقد رزقه الله منها الولد ، ومع ذلك كانت ترى نبوَّته ، ورسالته ، وكماله ، وكانت لا تعامله على أنه زوجها بقدر ما تعامله على أنه نبيٌ ورسول ، هذا شيء ليس من السهل على المرأة أن تكون فيه . نصب النبي الراية على قبر خديجة عند فتح مكة إعلاماً لفضلها وسبقها في الإسلام :
كانت تعظِّم النبي ، وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها ، وبعد أن دخلت في دين الإسلام ، علَّمها النبي صلى الله عليه وسلَّم الوضوء والصلاة كما علَّمه جبريل عليه السلام .
قال ابن هشام : " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خديجة فتوضَّأ ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل ، فتوضَّأت كما توضَّأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما صلَّى به جبريل ، فصلَّت بصلاته ، وهكذا أصبحت خديجة بنت خويلد القُرشيَّة ، الزوجة الأولى للنبي عليه الصلاة والسلام ، وتبوَّأت مقام أم المؤمنين " .
أي أن جبريل علَّم النبي الوضوء ، وعلَّم النبي خديجة الوضوء ، وجبريل صلى برسول الله فتعلم كيف يصلي ، وصلى النبي بالسيدة خديجة فعلَّمها كيف تصلي ، إذاً هذه مكانةٌ عليَّة لا ينبغي أن تكون إلا في أعلى مقام ، والدليل :
عندما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلَّم مكة المكرَّمة ـ هكذا قرأت ـ قال انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة ، وقد ورد معنا قبل درسين أو ثلاثة أنه نصب راية المسلمين عند قبر خديجة ، لأنها رضي الله عنها ما فرحت بالنصر ، توفِّيت قبل أن يفتح الله على نبيِّه مكة ، جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، خديجة رضي الله عنها لم تعش إلى هذا الوقت الذي متَّع الله به النبي صلى الله عليه وسلَّم بالفتح والنصر المبين لذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يشير إلى فضلها في معاونته ، فنصب الراية على قبر خديجة إعلاماً لفضلها وسبقها في الإسلام .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 02:15 PM   #34


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثلاثون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 6



موقف السيدة خديجة ومؤازرتها لة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سيَر الصحابيات رضوان الله تعالى عليهم ، ومع السيدة خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى .
السيدة خديجة مثل أعلى للمرأة التي لها دورٌ كبير في نشر الحق ودعمه :
أيها الأخوة الكرام ، كلما تعمَّقنا في معرفة وتحليل شخصيات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ازددنا يقيناً أن للمرأة دوراً خطيراً في حياة المجتمع الإسلامي ، تستطيع المرأة وهي نصف المجتمع أن تكون سنداً للحق ، وأن تكون مشارِكةً مشارَكةً فعالةً في دعم الحق ، وتثبيت دُعاة الحق ، والسيدة خديجة رضي الله عنها مثل أعلى للمرأة التي لها دورٌ كبير في نشر الحق وفي دعمه .

دورها السابق كان دور التثبيت ، دورها الجديد دور المؤازرة ، والمصابرة ، انتهينا في الدرس السابق من الحديث عن تثبيت هذه السيدة الجليلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واليوم ننتقل إلى دورٍ جديد من أدوارها البطولية في مؤازرة رسول الله ، والمصابرة معه على تحمُّل المشاق .
أقف قليلاً لأستفيد من هذا الدرس في حياتنا ، هناك زوجات ؛ ما دام الزوج غنياً فله عندهن ولاءٌ كبير ، فإذا افتقر الزوج ، أو تراجعت أحواله ، أو قَلَّ دخله ، أو مرض ، ازورت عنه هذه الزوجة ، هذه الزوجة لا خلاق لها عند الله ، لأن أقدس عقدٍ بين إنسانين عقد الزواج . ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21)﴾
( سورة النساء )
الميثاق الغليظ أقدس عقدٍ بين إنسانين ، الزوجة مع زوجها على السرَّاء والضرَّاء في إقبال الدنيا وإدبارها ، معه في غناه ومعه في فقره ، معه في صحته ومعه في مرضه ، معه في ضيقه ومعه في انطلاقه ، هذه الزوجة التي مع زوجها في كل أحواله تستحق كل تكريم .
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة نصب الراية عند قبر خديجة ، ليشعر الناس جميعاً أن لهذه الزوجة المخلصة دوراً كبيراً في نجاح الدعوة ، فإن لم يتح لها أن تكحِّل عينيها بهذه النتائج الباهرة الرائعة للدعوة ، فلا أقل من أن يشعر الناس أن لها فضلاً كبيراً . السيدة خديجة كانت وزيرة رسول الله الأولى آزرته على أمره فخفف الله عنه بها :
أيها الأخوة الكرام ، الوفاء الزوجي شيء مهم جداً ، أما حينما ينطلق الرجل من أنه رجل ، هو كل شيء ، وأن امرأته لا شيء ، يقع في جاهليةٍ معاصرة ـ هذه جاهلية ـ الزوجة كالرجل تماماً ، قد تؤمن ، وقد ترتقي ، وقد تسمو ، وقد يكون لها عملٌ صالحٌ كبيرٌ جداً ، أليست تربِّي أولادها ؟ أليست تدفع للمجتمع عناصر طيِّبة ؟

صدقوني أيها الأخوة أن كل امرأةٍ تقدم عنصراً للمجتمع أخلاقياً ، مؤمناً ، مُنصفاً ، هذا الابن البار شهادةً لأمه .
إذاً هذه السيدة عاونت رسول الله في تبليغ الدعوة ، ومواجهة عناد المشركين ، وإعراضهم ، وعدوانهم ، وقد قال ابن هشام : " ووازرته ـ كأنها وزيرة صدقٍ معه ، الوزير أي معاون ، الملك لا يستطيع أن يدير أمور البلاد كلها ، يحتاج إلى وزراء كي يعاونوه ـ أي يعينوه ـ يمكن أن نقول بصدق : أن السيدة خديجة كانت وزيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى ـ آزرته على أمره فخفف الله بذلك على نبيه " .
أنا أقول لكم أيها الأخوة : الزمن صعب ، البيت المسلم الذي فيه حنان زوجي ، الذي فيه تفاهم ، الذي فيه تعاون ، الذي فيه مشاركة ، هذا البيت يقوى على مواجهة مصاعب الحياة ، الحياة فيها صعوبات كثيرة ، لكن لو أكلت مع زوجتك أخشن الطعام ، ولو كان البيت صغيراً جداً ، التفاهم والود يغنيك عن كل شيء .

إذاً وازرته على أمره فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، أي أن الله عز وجل إذا أراد بك خيراً هيَّأ لك زوجةً صالحة تسرك إن نظرت إليها ، وتحفظك إن غبت عنها ، وتطيعك إن أمرتها ، والزوجة الصالحة هي حسنة الدنيا :

﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾
( سورة البقرة )
قيل : ما حسنة الدنيا ؟ قال : المرأة لصالحة . (( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة .))
[مسلم عن عمرو بن العاص]
الحقيقة أقول لكم هذه الكلمة وسأوِّجهها لأخواننا الشباب : ما من شابٍ يعفُّ عن الحرام إلا كافأه الله في الدنيا قبل الآخرة ، يكافئه بزوجةٍ صالحة تسعده ، وتحصنه ، وتعينه على أمر دنياه ، أنا لا أقصد أبداً حينما نروي قصص الصحابيات الجليلات ، أولئك قومٌ احتلوا عند الله مكانةً كبيرة ، لا مدحنا إيَّاهم يرفعهم ، ولا ذمنا لهم يخفضهم ، إنما نستفيد منهم ـ من حياتهم ـ دروساً تعيننا على متابعة الطريق إلى الله عز وجل . السيدة خديجة بذلت نفسها ومالها في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس :

هذه السيدة الجليلة وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تَشُدُّ أزره ، وتواسيه، وتقويه ، وتأسو جراح نفسه ، وما أكثر ما لقي عليه الصلاة والسلام من عناد المشركين ومن أذاهم ، وصبرت وهي بجانبه وصابرت ، وساعدته بكل ما تستطيع ، بذلت نفسها ومالها في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس .
أيها الأخوة الكرام ، صدقوني أن المال مهما كثُر لا معنى له إطلاقاً ، والله وأقسم على ذلك ، المال مهما كثر بين يديك لا معنى له إلا أن تنفقه في سبيل الله ، خذ منه حاجتك ، كل ، واشرب ، واسكن في بيت ، وأطعم أهلك وأولادك ، وألبسهم ؛ أما الذي يفيض عن حاجتك والله لا معنى له ، وسوف تحاسب عليه إلا أن تنفقه في سبيل الله .

إذاً أنفقت مالها في سبيل الله ، فأحياناً بالمال تحل مشاكل كبيرة جداً ، بالمال أحياناً تُضمَّد الجراح ، بالمال أحياناً ترسم البسمة على وجوه الصغار ، أنا لا أنسى أحد أخوتنا الكرام أصيب بمرض قلبي عضال ، ذهبت إلى بيته أزوره ؛ بيت كله كئيب ، الأولاد ، شعرت أن حزناً يخيم على هذا البيت ، هذا الأخ يقول لي : اتصلت به امرأةٌ محسنة ، وأبلغته أنْ قابل غداً الطبيب الفلاني ، ليجري لك العملية الجراحية في القلب ، وهي تكلف ربع مليون ليرة ، والمبلغ مغطى ، هذا اتصل بالطبيب ، وأعطاه وعداً ، وبعد حين أجريت له عملية ، ونجحت نجاحاً باهراً ، وعاد إلى البيت .
ذهبت إلى بيته بعد أن نجحت العملية ، طبعاً أواسيه ، وأهنئِّه على نجاح العملية ، والله الذي لا إله إلا هو رأيت أولاده كادوا يرقصون فرحاً لصحة أبيهم ، فهذه المرأة التي دفعت هذه المبلغ أين وصلت عند الله ؟ هذا المال ، ليس له معنى آخر المال إلا أن تنفقه رخيصاً في العمل الصالح ، في خدمة الحق ، في إطعام المساكين ، في نشر العلم ، في طبع الكتب ، في تأسيس المراكز الإسلامية ، في تأسيس دار للأيتام .
والله دخلت إلى دار أيتام فيها عناية ، ونظافة ، وأناقة ، ومطاعم ، وترتيبات ، ومهاجع ، ومكاتب ، ومصلى ، بناء فيه إما أربعة أو خمسة طوابق ، هؤلاء الذين بذلوا حتى رعوا هؤلاء الأيتام ، هؤلاء لهم عند الله وسام شرف . السيدة خديجة كانت وزيرة صدقٍ للنبي الكريم :

أخواننا الكرام ، أقول لكم كلاماً دقيقاً : مرةً لي صديق له أخٌ توفي فجأةً ، هو في نزهة ، في بلد جميل جداً ، بالفندق أصيب بسكتة دماغية ، سألته في الطريق : كم عمره ؟ قال : خمسة وخمسين عاماً ، ليس كبيراً جداً في السن ، كم ترك من الأموال ؟ أكثر من أربعة آلاف مليون ، مبلغ ضخم ، ماذا كان يأكل ؟ مثلنا تماماً ، فهذا الذي تركه ما قيمته بعد الموت ؟ صفر ، كم كان من الممكن أن يفعل بهذا المبلغ الضخم ؟ كم من مستشفى يؤسس ؟ كم من مستوصف ؟ كم دار أيتام ؟ كم معهد علم شرعي ؟ كم من إنسان يجعله يدرس على نفقته ؟
أنا كنت أقول لكم أيها الأخوة : إما أن تكون داعيةً ، وإما أن تتبنى داعية ـ كلام دقيق وطيِّب ـ وهي صنعة الأنبياء ، وإما أن تتبنى داعيةً ، فإذا أنفقت من مالك على طالب علم شرعي مخلص مستقيم ، كي تحميه من بذل ماء وجهه للناس ، من عملٍ مهين ، أنفقت عليه ، وطلب العلم بهدوء وبراحة نفسية ، وصار داعية ، كل دعوته في صحيفتك .
سمعت مرةً قصة أبٍ عنده بنتٌ وابن ، يبدو أن الأب فقير ، وهذه البنت تعمل في الخياطة ، فكانت تعمل ليلاً نهاراً لتنفق على أخيها ، أخوها صار طبيباً ، فالأب أوصى الطبيب أنه لولا أختك ، وعملها ليلاً نهاراً ، وكسبها المال ، وإنفاقه عليك لما كنت طبيباً ، لذلك أوصيك أن تجمع دخلك ، ودخلها مدى الحياة ، ويقسَّم إلى نصفين ، ويأخذ كل طرفٍ نصف الدَخلين معاً ، كلام عدل ، لولا أخته لما كان بهذا المنصب .

أنت كم تستطيع أن تفعل بالمال الزائد ؟ أحياناً تدفع لإنسان ألف أو ألفين تحل له مشكلة كبيرة جداً ، ذكر لي أحد العلماء عن طالب علم ، خطب ، وعقد قرانه ويؤسس البيت ، وصل لمبلغ بسيط بضع آلاف ، فقال أحد أخواننا الدعاة : والله هذا طلبه مني ، وأنا تمكنت أن أؤمنه له ، فلما أبلغته أن المبلغ جاهز فوجئت أنه خر على الأرض ساجداً لله ، شكراً لله على نعمة تأمين هذا المبلغ ، أنت لا تعرف بإنفاق عشرة ، خمسة آلاف ، ثلاثة آلاف ، على طالب علم كم تسعده ؟ أما هذا الذي ينفق ستين مليون في عقد قرانه ، أنت ألا تشعر أن هذا الإنسان يتلف المال ؟ السيدة خديجة إذاً أنفقت مالها على رسول الله .
عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أن السيدة خديجة بنت خويلد ، أول من آمنت بالله ورسوله ، وأول من صدَّق محمداً فيما جاء به عن ربه ، وأول من آزره على أمره ـ الآن دققوا ـ فكان لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له ، إلا فرَّج الله بها عنه ، " يقول لها : هكذا قالوا ، هكذا كذبوني ، هكذا فعلوا ، هكذا سخروا ، هكذا ردّوا ، هكذا عارضوا ، هي في البيت تثبته ، وتصبره ، وتشد من عزيمته ، وتخفف عنه ، وتهون عليه ما يلقى من قومه .
مرة ثانية :" كانت رضي الله عنها وزيرة صدقٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يسكن إليها " .
شقاء الزوج شقاءٌ حتميٌ لزوجته :

يا أخواننا الكرام الإنسان عنده زوجة ، هو يحسنها ، وهو يجعلها سيئة ، أحد الأشخاص قال لمخطوبته : إن في خلقي سوءاً ، فقالت له : إن أسوأ خُلقاً منك من حاجك لسوء الخلق " ، فأحياناً الرجل بأخطائه الكثيرة يقود زوجته إلى سوء الخلق ، وأحياناً الزوجة بحماقتها تقود زوجها إلى سوء الخلق ، وبحكمة الزوج يفجِّر في زوجته طاقات الخير ، وبحكمة الزوجة تفجِّر في زوجها طاقات الخير .
الحياة تحتاج إلى حكمة ، أنت بزوجة متوسطة تسعد بها ، وبزوجة بارعة تشقى بها ، إذا كنت حكيماً تسعد بالمتوسطة ، وإن لم تكن حكيماً تشقى بالبارعة .
كانت رضي الله عنها وزيرة صدقٍ للنبي ، وكان يسكن إليها ، يرتاح إلى عقلها وإلى إيمانها ، هذه السيدة الجليلة تعلم وعورة الطريق وصعوبة السير فيه منذ أن سمعت ابن عمها ورقة بن نوفل يقول : " لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي " .
دائماً وأبداً ونحن في هذا الزمان وطن نفسك على أن طريق الحق ليس محفوفاً بالزهور ، طريق الحق محفوف بالأشواك ، فيه معارضون ، ومنتقدون ، وساخرون ، ومشككون ، وحُسَّاد ، ومبغضون ، وفيه أُناس يعملون ضدك في الخفاء ، وأناس يسفِّهون عملك ، هذه سنة الله في خلقك ، معركة الحق والباطل أزليةٌ أبدية .

كانت رضي الله عنها أول من سار على هذا الطريق ، متحديةً كل ما فيه من عقباتٍ وصعاب ، سارت إلى جانب النبي ، وتعرَّضت لكل ما تعرَّض له عليه الصلاة والسلام من أذى ، أذكركم بقول الله عز وجل :
﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)﴾
( سورة طه )
تشقيا ، يكفي تشقى ، لأن شقاء الزوج شقاءٌ حتميٌ لزوجته ، أول أذىً أوذيت به السيدة خديجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زوَّج السيدة رقية من عتبة بن أبي لهب ـ قبل البعثة ـ وزوج السيدة أم كلثوم من عُتيبة بن أبي لهب ـ زوج ابنتيه لابني أبي لهب ـ ولما أراد المشركون أن يؤذوا رسول الله طلبوا من عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقاهما ، والأب وحده الذي زوَّج ابنته يعلم ما معنى أن تطلَّق ابنته . النبي صلى الله عليه وسلم سيِّد البشر
تجري عليه كل خصائص البشر : المرأة كسرها طلاقها ، المرأة نجاحها بزواجها ، وطلاقها يعني أن أخفقت في حياتها ، وكسرها طلاقها ، فأراد المشركون أن يؤلموا رسول الله ، أن يزعجوه بتطليق ابنتيه ، والسيدة خديجة أول خبرة مؤلمة عانتها بعد البعثة أن ابنتيها طُلقتا .
رواية ثانية : النبي عليه الصلاة والسلام زوَّج عُتبة بن أبي جهل السيدة رقية ، فمشى إليه بعض المشركين فقالوا له : طلِّق بنت محمد ، ونحن نزوجك أيَّة امرأةٍ من قريشٍ شئت ، انتقِ ، هذا الرجل هو ذكي ، استغل هذا العرض ، وقال : زوجوني إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص ، أو بنت سعيد بن العاص ، يبدو أنها أفضل امرأة في قريش ، إن زوجتموني هذه المرأة طلقتها ، واستجبت لكم ، فزوجوه بنت سعيد بن العاص ، وفارق رقية بنت محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن دخل بها .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام جعله الله أسوةً لأمته من بعده ، ما معنى أسوة ؟ أي أنه ذاق تطليق البنت ، وذاق موت الولد ، وذاق حديث الإفك ، والله الذي لا إله إلا هو ما في واحد من الحاضرين يحتمل هذا الحديث ، أن يتهامس الناس عن زوجتك أنها زانية ، فما قولك ؟ هل أحد يحتمل هذا ؟ ذاق النبي ترك الوطن ، هاجر ، ذاق النبي الفقر والجوع ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ :
(( يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ ))
[مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]
ذاق الغنى فكان كريماً ، ذاق القهر في الطائف ، وذاق النصر في مكة ، ذاق القهر ، وذاق النصر ، وذاق الغنى ، وذاق الفقر ، وذاق موت الولد ، وذاق تطليق البنت ، وذاق ترك الولد ، وذاق كل شيء ، ووقف الموقف الكامل من كل شيء ، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر .
لا تظن أن رسول الله هكذا ، بل عانى ما عان ، فأحياناً الخبر ليس كالعيان ، فقل لواحد : آلام الأسنان ، فهذه كلمة ، وإنسان إلى الساعة الرابعة لم ينَم من آلام الأسنان ، أنت تقولها كلمة ، أما هو ما ذاق طعم النوم من شدة الألم ، تقولها كلمة وهو يعانيها ، فرق كبير بين المعاناة وبين الخبر . العبادة نوعان عبادة مطلقة وعبادة مقيَّدة :
سيدنا عثمان من شدة الضغط على الصحابة الكرام سافر مع زوجته إلى الحبشة فراراً بدينهما ، فالإنسان ببلده مستقر ، ببيته ، له مكانته ، بتجارته ، يذهب إلى بلد بعيد ، ويقيم هناك فراراً بالدين !! إذاً ذاقت السيدة خديجة فراق ابنتها ، سافر بها عثمان ، ويروى عن رسول الله فيما رواه أنس بن مالك أنه قال : (( عثمان ورقية أول من هاجر إلى أرض الحبشة ، وهما أول من هاجر بعد لوط ))
[الجامع الصغير عن زيد بن ثابت]
أول إنسان هاجر بعد سيدنا لوط هو سيدنا عثمان ، فقد هاجر بأهله إلى الحبشة ، أنت الآن لو سافرت إلى بلد لا تعرفه أين تنام ، في غرفة قد تكون مريحة أو غير مريحة ، على فراش وثير أو غير وثير ، معك نفقات الطعام أو لا يوجد معك ، السفر قطعة من العذاب.
سيدنا عثمان رجع مع زوجته السيدة رقية إلى مكة المكرمة ، ثم هاجرا معاً إلى المدينة ، ومرضت في أثناء غزوة بدر .

دققوا الآن : النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه كلهم متجهون إلى بدر ليحاربوا قريشاً ، وسيدنا عثمان زوج ابنته وابنته مريضة ، ماذا فعل النبي ؟ خلَّف عثمان بن عفان على المدينة من أجل العناية بزوجته المريضة ، صدقوا ، هل لأن زوجته بنت رسول الله ؟ لا ، كل إنسان تمرض زوجته ، أو يمرض ابنه ، أو يمرض أباه ، ولا يبالي بهذا المرض فقد خالف سُنَّة النبي .
أنا أقول لكم هذه الكلمة : العبادة نوعان ؛ عبادة مطلقة ، وعبادة مقيَّدة ، فواحد من أخواننا الكرام ، يوم الاثنين في درس في جامع العثمان يجب أن يحضر ليكون صادقاً ، يجب أن يحضر ليثبت للأخوان أنه لا يغيب ، لا بد أنْ يحضر ، يجب أن يحضر ، لا سمح الله ولا قدر ابنه مرض مرضاً شديداً ، ماذا يفعل ؟ ينبغي أن تعالجه قبل كل شيء ، والدك مرض لا سمح الله ، زوجتك مرضت ، ابنك مرض ، العبادة التي يرضاها الله منك الآن أن تعتني بهذا المريض .
النبي أعفى عثمان من الجهاد معه من أجل أن يمرِّض زوجته ، توفيت السيدة رقية في مرضها هذا ، فأكثر الناس إذا توفيت زوجته يقولون : هو نحس عليها ، أماتها ، ماذا فعل النبي ؟ زوجه أختها ، السيدة أم كلثوم ، وتوفيت أيضاً ، لهذا لُقِّب سيدنا عثمان بن عفان بذي النورَين . سنوات المقاطعة الظالمة الثلاث كانت من أقسى المِحَن :
لكن أيها الأخوة السيدة خديجة لم تحضر وفاة ابنتيها ، لأنها توفِّيت قبلهما .
أما الشيء الدقيق جداً موضوع المقاطعة ؛ محنة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سنوات المقاطعة الظالمة الثلاث أقسى المِحَن ، ذلك أن قريشاً لما رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة ، قد نزلوا بلداً أصابوا فيه أمناً وقراراً ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر بن الخطاب قد أسلم ، وكان رجلاً ذا شكيمةٍ لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله ، وبحمزة عم النبي ، وبدأ الإسلام يفشو بين القبائل ، هذه خطيرة جداً ، أنْ تتسع دوائر الإسلام ، يزداد أتباعه ، تزداد شكيمته ، يدخل فيه رجال أقوياء ؛ سيدنا حمزة من كبار شخصيات قريش أسلم ، سيدنا عمر من كبار الشخصيات أسلم ، فالأمر يتفاقم .
أجمع أهل قريش وأهل مكة واتفق رأيهم على قتل رسول الله وقالوا : قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا ، فقالوا لقومه : خذوا منا ديةً مضاعفة ، وليقتله رجلٌ من غير قريش ، ويريحنا ، وتريحون أنفسكم .
يفاوضون قومه بني هاشم ، نحن عندنا تقاليد إذا قتل إنسان إنساناً فعليه دية ، إذاً نعطيكم دية مضاعفة ، ونسمح لإنسان بقتله من غير قريش ، وتأخذون الدية ، وينتهي الأمر ، هذه المفاوضة مع بني هاشم قوم النبي .
رفض قوم بني هاشم هذا العرض وانضم إليهم بنو عبد المطلب بن عبد مناف ، فلما عرفت قريش أن رسول الله قد منعه قومه ، منعة عصبيةً ، هم لم يؤمنوا به ، وكذلك بنو عبد المطلب ، ولكن منعوه عصبيةً ، فلما رأت أتباع النبي يزدادون ، والإسلام تتسع دوائره ، وشخصياتٌ راقيةٌ جداً دخلت في الإسلام ، أرادوا قتل النبي . بدء المقاطعة :

فاوضوا بني هاشم على دفع ديةٍ مضاعفة ، فلما رفض بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، وآثروا حماية النبي لا بد من موقفٍ مضاد ، ماذا فعلت قريش ؟
أجمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب ـ هذه المقاطعة الاقتصادية قديمة وليست جديدة ، قاطعوا بلاداً ، صار فيها غلاء ، سرقات ، زنا ، قهر ، موت ، موت أطفال بعدد كبير جداً ، وثمة تقارير يندى لها جبين الإنسانية عن بلاد قوطعت اقتصادياً ، فصارت فيها مآس لا تعد ولا تحصى ـ وكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه ألا ينكحوهم ، ولا ينكحوا إليهم ـ لا يزوجوهم ، ولا يتزوجوا منهم ـ ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، ولا يقبلوا منهم صُلحاً ، ولا تأخذهم به رأفةٌ ، حتى يسلموا رسول الله للقتل ـ فهي مقاطعة إلى أن تأتوا برسول الله نقتله ، وإلا لا نبيعكم ، ولا نشتري منكم ، ولا نزوِّجكم ، ولا نتزوج منكم ، أي أنها كالمقاطعات التي تسمعون عنها في هذه الأيام تماماً ، وكان فيما سمعت أن الدينار كان مبلغه ضخماً جداً ، صار ألف وثلاثمئة دينار تساوي دولاراً ، بالمقاطعة طبعاً ـ فلما عرفت قريش علقوا صحيفة المقاطعة في جوف الكعبة ، توكيداً على أنفسهم ، وقطعوا عن بني هاشم وبني عبد المطلب الأسواق ، ولم يتركوا طعاماً ، ولا إداماً ، ولا بيعاً إلا بادروا إليه واشتروه واحتكروه .
عملية تجويع ، عملية إذلال ، عملية تحطيم ، وانحاز أبو طالب إلى شعبٍ له في مكة ، وانحاز معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، إلا أخاه أبو لهب ، وكان أبو طالب طول مدتهم في الشِعب يأمر النبي ألا ينام في فراشه خوفاً عليه ، ويأمر أحد أبنائه أن ينام على فراش رسول الله . معاناة المسلمين بسبب المقاطعة :
استمرت المقاطعة ثلاث سنوات ، عانى فيها المسلمون من قلة المؤن والطعام .
والله نحن لم نذق شيئاً ، فهناك أصحاب النبي دفعوا ثمناً باهظاً لهذا الدين ، واحد أراد أن يبيع بيته لإنسان غير مسلم قال له : يجوز ، قال له : اسأل سيدنا خالداً كم دفع ثمن فتح هذه البلاد ؟ اسأل أصحاب رسول الله كم دفعوا ثمن إيمانهم ، ونشر هذا الدين في هذه البلاد ؟

قال : كان عليه الصلاة والسلام عندما يقوم من الليل إلى الصلاة يسمع بكاء الأطفال من شدة الجوع ، أحياناً الإنسان يتحمَّل بعض المصائب ، أما الشيء الذي لا يحتمل أن يبكي ابنك جوعاً ، ولا تملك ثمن الطعام ، أو أن يبكي من ألمٍ ألمَّ به ولا تملك ثمن الدواء ، هذا شيء لا يحتمل ، كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل ليصلي فيسمع بكاء الأطفال من شدة الجوع .
مرة حدثني أخ كان مقيماً مع قطعة عسكرية ، وداهمت الثلوج هذه القطعة ـ خمسة أمتار من حوالي خمس أو ست سنوات ـ وانقطعت هذه القطعة عن كل اتصالٍ خارجي ، من شدة الجوع ، ذهب هؤلاء العناصر إلى القُمامة ليأكلوا ما فيها ، الواحد قد لا يفهم هذا إطلاقاً ، أما حينما يجوع جوعاً لا يحتمل قد يفكِّر في أكل ما في القمامة ، أنا أعرض على مسامعكم صورة من صور المجاعة .
بعض أصحاب رسول الله قال : " كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله ، وشدته ، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وصبرنا له ، ولقد رأيتُني بمكة ، حيث خرجت من الليل لأقضي حاجتي ، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيءٍ تحتي ـ كأنها ورقة يابسة ـ فإذا قطعة جلد بعير ، فأخذتها ، وغسلتها ، ثم أحرقتها ، ثم أكلتها ، وشربت عليها الماء ، فقويت عليها ثلاثة أيام " . هذه صورة من صور المقاطعة ، الصحابة الكرام دفعوا ثمناً باهظاً ، حملوا هذا الدين . وقوف السيدة خديجة إلى جانب النبي وانضمامها إليه أثناء المقاطعة :
وقفت السيدة خديجة رضي الله عنها بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ، وانضمَّت إليه في شعب أبي طالب . (( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلَا لِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ ))
[أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
تهريباً ، بذلت رضي الله عنها مالها لتؤمِّن ما تستطيع من طعام المسلمين ـ السيدة خديجة بذلت مالها لتؤمن ما تستطيع من طعامٍ للمسلمين ـ خلال سنوات مقاطعة ، واستعانت لهذا الأمر بابن أخيها حكيم بن حزام رضي الله عنه ، وكان حينئذٍ لا يزال على شركه ، لم يسلم بعد .
كان يشتري الطعام ، ويرسله إلى عمته السيدة خديجة ليلاً ، ولقيه في إحدى المرات أبو جهل ، ومع حكيم غلام يحمل قمحاً ، يريد عمَّته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه في الشعب ، فتعلق به ، وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ـ خرقت المقاطعة ـ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ، فجاء ابن هشام بن الحارث فقال : مالك وله ؟ قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ؟ فقال أبو البُختري : طعامٌ كان لعمته بعثت إليه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ، خلي سبيل هذا الرجل ، فأبى أبو جهل ، حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البُختري لحى بعيرٍ فضربه به فشَّجه ، ووطئه وطأً شديداً ، إنها معاناة شديدة جداً .
مرت سنوات المقاطعة الظالمة ، وهلك فيها من هلك من أطفال المسلمين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو ممن ولد في الشعب : " حوصرنا في الشعب ثلاث سنين ، وقطعوا عنا الميرة ـ القمح ـ حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع ، حتى هلك من هلك ـ معه مال ولكن لا يوجد من يبيع بضاعة ، لا توجد بضاعة ـ وسلَّط الله سبحانه وتعالى الأرضة على الصحيفة الظالمة ، فأكلت ما في الصحيفة من عهدٍ وميثاق ـ أي حشرة أكلت هذه الصحيفة ـ وقام بعض رجالات قريش من المشركين فسعوا في نقض الصحيفة بعد أن رأوا شدة ما يعاني المحصورون في شعب أبي طالب ، وكان عليه الصلاة والسلام قد أخبر عمَّه أبو طالب بما فعلت الأرضة بالصحيفة ، وأخبر أبو طالب وجوه المشركين ، وطالبهم بإحضار الصحيفة ، فلما أحضروها ونظروا فيها وجدوها كما أخبر النبي الكريم ، وقد ساعد على نجاح هذه المساعي لإخراج المسلمين من هذه الحلقة القاسية ". النبي الكريم أسوة حسنة لنا :
إن شاء الله أيها الأخوة في درسٍ قادم نتحدث عن عام الحُزن ، في هذا العام توفي أبو طالب وتوفيت السيدة خديجة .
هذا النبي الكريم لاقى ما لاقى ، ذاق وفاة الزوجة ، ذاق وفاة العم ، ذاق يُتم الأب، ذاق يُتم الأم ، ذاق الهجرة ، ذاق موت الولد ، ذاق فضيحة الزوجة ، ذاق المقاطعة ، ذاق تطليق ابنته ، لا يوجد شيء لم يذقه النبي اللهم صلِّ عليه ، من هنا قال الله عز وجل : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ (21)﴾
( سورة الأحزاب )
نرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون النبي أسوة حسنة لنا ، أي اصبروا إذا كان هناك مشكلة ، معاناة ، ما دمت على الحق اصبر ولا تخش في الله لومة لائم .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 02:25 PM   #35


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الحادى و الثلاثون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد -7



عام الحزن





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس السابع من سير الصحابيات الجليلات ، ومع السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها زوجة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأولى زمناً ومرتبةً .
عام الحزن :
في الدرس الماضي بينت لكم الأعوام الثلاثة الشديدة التي أتت على المسلمين ، أعوام المقاطعة ، والحصار الاقتصادي ، وكيف ذاق المسلمون ، وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأهل بيته الطيبين ، كيف ذاقوا ألوان الحرمان والجوع والمقاطعة ، وبعد انتهاء أعوام المقاطعة ، جاء عام الحزن .

قبل أن نشرح عن عام الحزن ، إذا كان سيد الخلق ، وحبيب الحق ، إذا كان سيد ولد آدم ، إذا كان صفوة الله من خلقه ، إذا كان خيرة عباد الله ابتلاه الله بالحزن ، فلأن نحزن نحن شيء طبيعي جداً ، هذه الدنيا مركبة هكذا ، هي دار ابتلاء ، دار امتحان ، دار أحزان ، دار أتراح ، وليست دار أفراح ، لأنه من عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى .
في هذا العام توفي أبو طالب عم النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان أكبر مدافع عنه من الخارج ، وتوفيت السيدة خديجة أكبر داعم له من الداخل ، فانهار الدعم الداخلي ، وانهار الدعم الخارجي ، لذلك سمَّى كُتَّاب السيرة هذا العام الذي توفي فيه أبو طالب عم النبي أكبر داعم له من الخارج ، والذي توفيت فيه السيدة خديجة زوجه الحبيبة إلى قلبه أكبر داعم له من الداخل ، سمى علماء السيرة ، وكتاب السيرة هذا العام الذي مر به النبي عام الحزن .
شيء آخر : إن كان لك قريب تحبه حباً جماً ، ووافته المنية ، ويغلب على ظنك أنه إلى الجنة ، تحزن ، ولكن الذي يخفف من هذا الحزن أنه من أهل الجنة ، أنه انتقل من دار البلاء إلى دار البقاء ، من دار الامتحان إلى دار الاستقرار ، من دار التكليف إلى دار التشريف ، من دار المتاعب إلى دار المسرات ، مما يخفف الحزن على أهل المتوفى أن يكون المتوفى من أهل الجنة ، مؤمناً .
إلا أن الذي ضاعف حزن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عمه أبا طالب مات كافراً ، هذا الذي دعمه أشد الدعم ، طلب إليه أن يلفظ بشفتيه لا إله إلا الله ، فلم يقل ، وكم تمنى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمه الهداية ، وألح عليه ، وهو في سياق الموت لكي يسلم ويقول لا إله إلا الله . (( لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ : يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ : هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... الآيَة َ))
[ متفق عليه عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ ]
أخطر شيء في حياة المسلم العقيدة الصحيحة :
أيها الأخوة ، لي وقفة دقيقة جداً عند هذا الموقف ، قال عليه الصلاة والسلام : ((أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ))
[ متفق عليه عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ ]
فنزل قوله تعالى :
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)﴾
( سورة التوبة )
ماذا نستنبط من هذه الحادثة ؟ عم النبي ، أقرب الناس إليه ، أكبر من دافع عنه ، الذي وقف أمامه كالطود ، الذي تحمل المشاق من أجله لكن تحملها عصبية ، ولم يتحملها اعتقاداً ، تحملها حميةً ، ولم يتحملها عبادةً ، تحملها انحيازاً ، و لم يتحملها طاعةً لله عز وجل ماذا نستنبط إذاً ؟ كم هي العقيدة خطيرة عند الإنسان ، لا يمكن أن تقدم للنبي عليه الصلاة والسلام عملاً أعظم مما قدمه عمه أبو طالب ، ومع ذلك مات كافراً : ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم ﴾
( سورة التوبة )
إذاً أخطر شيء في حياة المسلم العقيدة الصحيحة ، اعتقد عقيدةً صحيحة ، وكل شيء بعدها يحل أما إن لم تعتقد عقيدة صحيحة ، لو قدمت للنبي كما قدم أبو طالب لا تنجو . الرسول صلى الله عليه وسلم فقد الدعم الخارجي بموت أبي طالب :
أخوة الإيمان ، حقيقة خطيرة أضعها بين أيديكم ، إن أحداث السيرة من الخطورة حيث إن كل شيء في السيرة له دلالة عظيمة ، ويمكن أن نستنبط منه حقائق كبيرة ، فمن زاغت عقيدته لو كان أقرب الناس إلى نبي ، لو كان أقرب الناس إلى أكبر عالم ، إلى أكبر داعية ، لو كان يلوذ بأقرب الناس إليه .
كان رئيس المنافقين يجلس على يسار النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما توفي طلب قميصه ، وتروي كتب السيرة أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألبسه قميصه بيده ، فلما وافته المنية قال : الآن استقر في جهنم حجر كان يهوي به سبعين خريفاً ، لا تنفعك قرابتك ، ولا ينفعك عملك ، ولا ينفعك شيء إلا أن تكون صحيح العقيدة بالله ، صحيح العمل وفق مقتضى هذه العقيدة وأنزل الله قوله : ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)﴾
( سورة التوبة )
ونزل في أبي طالب : ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
( سورة القصص )
وقال : ﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (272)﴾
(سورة البقرة )
لست عليهم بجبار . ﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾
( سورة الغاشية )
أي أنهم مخيرون ، النبي يدعوهم إلى الحق ، أما هم يستجيبون أو لا يستجيبون ، ويدل قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ))
[ متفق عليه عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ ]
يدل هذا على أن شدة الحزن الذي أصاب النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاً بسبب موت عمه أبي طالب على الكفر ، وحزن أيضاً على موت أبي طالب لأنه فقد نصرته ، ووقوفه في وجوه المشركين ، فقد الدعم الخارجي ، ومن وفائه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا الذي دعمه مات كافراً ، فكان حزنه عليه شديداً . الرسول الكريم فقد السند الداخلي بموت السيدة خديجة رضي الله عنها :
قال ابن هشام ، أحد كتاب السيرة : كان أبو طالب للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عضداً وحرزاً في أمره ، ومنعةً ، وناصراً على قومه ، وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنوات ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذى ما لم تكن تطمع في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه التراب وقال عليه الصلاة والسلام : ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ، ومع ذلك مات على الكفر .
أيها الأخوة ، قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ :
(( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هذه أكبر حقيقة ، تحر العقيدة الصحيحة ، التي إذا مت عليها قبلها الله منك وكان مصيرك الجنة .
الشيء الذي يقصم الظهر أن هذا الذي كان يدعمه خارج البيت مات ، ففقد هذا الدعم ، ومات كافراً ، فتضاعف حزن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أما حينما توفيت السيدة خديجة فقد الدعم الخارجي ، والسند الداخلي ، طبعاً السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها وأرضاها واست رسول الله ، وحاولت أن تخفف من حزنه على عمه أبي طالب ، كما هو حالها وشأنها دائماً في كل ما يعرض له النبي الكريم ، و لكن مواساتها انقطعت بوفاتها هي أيضاً رَضِي اللَّه عَنْها ، إذ وافاها أجلها في بعض الروايات بعد موت أبي طالب بزمن قصير ، وقال بعض كتاب السيرة : بثلاثة أيام ، فحُقَّ لكُتَّاب السيرة أن يسموا هذا العام الذي مر به النبي عامَ الحزن ، بين موت عمه أبي طالب ، وموت زوجته السيدة خديجة ثلاثة أيام . تتابع الأحزان على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفاة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها :
سؤال يهمنا كثيراً : هل يتناقض الألم الشديد على مصاب أليم أصاب المؤمن ، هل يتناقض هذا الألم الشديد مع الصبر ؟ أبداً ، لا يتناقضان ، هذه طبيعة الإنسان ، هذه فطرته ، لا يحاسبك الله عز وجل على حزن ألم بقلبك لوفاة عزيز ، ولكنه يحاسبك على كلمة تتفوه بها تتناقض مع التوحيد ، يحاسبك على كلمة تعبر بها عن ضجرك ، يحاسبك عن كلمة تعبر بها عن شكك برحمة الله عز وجل : (( إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
[ رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه ]
روى الحاكم أن موتها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام ، في رواية أخرى بشهرين وخمسة أيام ، والرواية الأولى ثلاثة أيام ، على كلٍ زمن قصير بين وفاة عمه أبي طالب ، ووفاة زوجته السيدة خديجة ، تروي كتب السيرة أن السيدة خديجة توفيت لعشر خلون من رمضان ، وهي في سن خمسة وستين عاماً .
عن حكيم ابن حزام أنها توفيت سنة عشر من البعثة ، بعد خروج بني هاشم من الشعب ، ودفنت بالحجون في مكة ، ونزل النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبرها ، ولم تكن صلاة الجنازة قد شرعت بعد ، وتتابعت الأحزان على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفاتها رَضِي اللَّه عَنْها ، وعرف العام الذي توفيت فيه كما قلت قبل قليل بعام الحزن ، وأصبح النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عاد إلى بيته عاد مهموماً مكروباً من كثرة ما يلقى من أذى المشركين وكيدهم ، ولا يرى وجه خديجة ، وهي تستقبله بإشراقة وجهها ، وصفائه ، وابتسامته ، يعني حقاً أن الله عز وجل جعل الزوجة الوفية المخلصة سكناً لزوجها ، تصور نبياً عظيماً يواجه صعوبات كالجبال ، إذا دخل إلى بيته استقبال زوجته بابتسامة وديعة ، بكلمة طيبة ، بدعوة إلى الصبر ، بتثبيت ، قدمت عملاً لا يقدر بثمن ، لا تقلل من قيمة زوجتك في البيت ، لا تقلل من قيمة أنها أحياناً تمتص بعض المتاعب ، لا تقلل من قيمة زوجةٍ صالحة تعينك على متاعب الحياة ، النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ابتسامة الثقة والأمل التي كانت تستقبله بها ، فقد كانت كلمات التثبيت والتبشير التي كانت تبثه بها رَضِي اللَّه عَنْها ذات أثر كبير في نفسه ، الآن انتهت هذه الكلمات .
تروي كتب السيرة أن هذه السيدة العظيمة تبسمت للنبي وهي تجود بنفسها ، تبسمت له وهي تفارق الحياة ، أروع ما كتب عن هذا التبسم قيل : لعلها كانت تبتسم له كي تواسيه بنفسها عن نفسها ، أو لعلها تبسمت حين رأت مقامها وقصرها في الجنة .
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الزوجة الصالحة تمتلك أجراً كأجر المجاهد في سبيل الله :

أخواننا الذين زاروا مكة المكرمة ، ورأوا جبل النور ، إنْ أراد رجل في ريعان شبابه ، قوي البنية ، أن يصل إلى هذا الجبل ، أو إلى هذا المكان يحتاج إلى ثلاث ساعات .
امرأة مسنة تصعد هذا الجبل كله لتقدم للنبي طعامه وشرابه ، كم هذه الخدمة ؟ ماذا نستفيد من هذه القصة ؟ أي أن هذه المرأة التي تحسن تبعل زوجها ، تهيئ له طعامه ، وشرابه ، وثيابه النظيفة ، وأولاده الذين تربيهم تربية صالحة ، هذه المرأة التي تفعل هذا إنها تمتلك أجراً كأجر المجاهد في سبيل الله ، وهذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام : (( أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت : بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك ، وأعلم نفسي ـ لك الفداء ـ أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي ، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك ، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات ، قواعد بيوتكم ، ومقضى شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابكم ، وربينا لكم أموالكم ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال : هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه ؟ فقالوا : يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها : انصرفي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، وإتباعها موافقته يعدل ذلك كله ، فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً ))
[ البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية ]
آه لو تعلم النساء ما هذا الحديث ، لا ينطق عن الهوى ، إن حسن تبعل المرأة زوجها ، إذا وفرت له جواً هادئاً في البيت ، وفرت له الطعام المريح ، والفراش الوثير ، والثياب النظيفة ، وخدمات كثيرة جداً ، كم لها عند الله من أجر : (( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ . ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
قال : لعلها ابتسمت حينما رأت مقامها في الجنة . كلما نضج إيمانك اعتقدت أن المرأة مساوية للرجل في حقل الدين :

دلت بعض الأحاديث الشريفة على أن المؤمن عند الاحتضار يبشر بالجنة ، ويكشف له حتى يرى مقعده فيها عند الموت ، المؤمن لأن الله يكرمه ، ويبشره ، ويرى مقامه في الجنة ، ويرى مكانه فيها ، إما أنها ابتسمت تواسيه بنفسها عن نفسها ، أو أنها ابتسمت حينما رأت هذا القصر الذي وعدها الله به في الجنة ، على كلٍ قال :
(( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ماذا قالت ؟ يا الله من أية جامعة تخرجت ، هل تحمل دكتوراه في الشريعة ! قالت : هو السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبريل السلام ، لو أنها قالت : وعليه السلام ، انظر إلى فهمها العالي ، قالت : هو السلام ، مادام هذا السلام جاءها من ربها ، إذاً هو السلام ، لا يصح أن يرد عليه السلام ، هو السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبريل السلام .
أنا أعتقد أنه كلما نضج إيمانك اعتقدت أن المرأة مساوية للرجل في حقل الدين ، وقد تسبقه ، ما هذه المرأة ؟ ما هذه الإجابة ؟ منك السلام يا رب ، ومنك السلام ، وعلى جبريل السلام ، في رواية ثانية عند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ : (( أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ))
[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ليس شيئاً قليلاً أن يحبك الله ! شيء لا يستهان به أن تكون أثيراً عند الله ، أن يقرئك الله السلام ، إن الله يقرأ خديجة السلام ، فقالت : إن الله هو السلام ، وعلى جبريل السلام ، وعليك يا رسول الله السلام ، ورحمة الله وبركاته ، كيف كانت تخاطبه في البيت ؟ تقول له : يا رسول الله ، الآن انظر إلى النساء ، النساء المثقفات لا تخاطب زوجها إلا باسمه المجرد ، وقد يكون زوجها كبيراً ، وعظيماً ، وله شأن كبير ، هذا من سوء الأدب ، أما السيدة خديجة تخاطب زوجها تقول له : يا رسول الله . الله هو السلام يدل على فقه السيدة خديجة وفهمها وحسن أدبها مع الله تعالى :
قال العلماء : يدل قولها أن الله هو السلام على فقهها ، وفهمها ، وحسن أدبها مع الله تعالى ، فالله سبحانه وتعالى لا يرد عليه بالسلام كما يرد على المخلوقين ، لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى ، وهو أيضاً دعاء بالسلامة ، وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله ، فكأنها قالت : كيف أقول عليه السلام ، والسلام اسمه ، ومنه يطلب ، ومنه يحصل ، فيستفاد من ذلك أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فقط ، فأثنت عليه سبحانه ، ثم غايرت ما يليق بالله تعالى ، وما يليق بغيره ، فقالت : هو السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبريل السلام ، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته ، كلمات قليلة لكنها تعبر عن أدب جم ، وعن فهم عميق ، وعن إيمانٍ قوي .
ذكرت بعض الروايات أن السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها رأت جبريل وهو في صورة رجل ، أخرج ابن السني بسنده عن خديجة أنها خرجت تلتمس رسول الله ، بأعلى مكة ومعها غداؤه ، تبحث عن طعام .

يقول الزوج لزوجته ألف مرة أتمنى أن يكون الطعام في هذه الساعة جاهزاً ، لا تبالي ، يأتي إلى البيت لا طعام ، ولا شيء معد جاهز ، فتنشأ الخلافات .
تتبعه بطعامه ، وتبحث عنه ، وتأخذ معها طعامها ، فلقيها جبريل في صورة رجل ، فسألها عن النبي فهابته ، ولما ذكرت ذلك للنبي قال لها : هو جبريل ، وقد أمرني أن أقرأ عليك السلام ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ، ولا نصب .
أيها الأخوة الكرام ، السيدة خديجة ماتت ، ماذا بقي بعد موتها ، بقيت ذكراها رحلت السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها عن الدنيا وتركت رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في ذروة المعاناة ، لما يلقى من أذى المشركين ، وإعراضهم ، وكيدهم ، وبقيت ذكرى السيدة خديجة في قلبه الشريف حيةً قويةً ، فلم تبرحه حتى آخر يوم في حياته ، كان وفاءه لها عجيباً فلما فتح مكة أين نصب الراية ؟ نصبها عند قبر خديجة ، لماذا ؟ ليؤكد لها بعد موتها أن هذا النصر الذي حققه النبي ، كان بسبب صبرها ، ومعاناتها ، وتثبيتها لقلب النبي ، وما نسي فضلها أبداً . شدة وفاء النبي للسيدة خديجة و ذكرها دائماً عند أحبّ زوجاته إليه :
ما يلفت النظر أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تشغله الأعمال الجليلة الكبيرة التي تملأ حياته عن تذكر زوجته السيدة خديجة ، الدعوة إلى الله ، تلقي الوحي ، تبليغه للناس، عرضه على القبائل ، الهجرة إلى المدينة ، تأسيس الدولة الإسلامية ، بناء المجتمع المسلم الجديد ، الجهاد في سبيل الله ، الخروج إلى الغزوات ، إرسال السرايا ، بعث البعوث ، إرسال الرسائل والكتب إلى الأمراء والملوك ، استقبال الوفود ، كل هذه الأعمال الجليلة التي نهض بها النبي لم تشغله عن تذكر السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها ، بقيت مع كل هذه الأعمال ذكرى خديجة رَضِي اللَّه عَنْها عالقة في قلبه الشريف لا تفارقه ، كأنها أصبحت جزءاً منه لا تكاد تنفصل عنه .
الذي يلفت النظر أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج بعد وفاتها أمهات المؤمنين ، واجتمع عنده في وقت واحد تسع منهن ، وكن رَضِي اللَّه عَنْهن مع كل ذلك تسع نسوة يتنافسن على خدمته ، ومحبته ، وتوفير راحته ، ومع ذلك لم ينس السيدة خديجة ، هذا الوفاء ، هذا الوفاء الزوجي ، ما من زوج على وجه الأرض أكثر وفاء لزوجته الأولى من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

من مظاهر وفائه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يذكر السيدة خديجة عند أحب زوجاته إليه ، السيدة عائشة ، يعني قيل : إنها حبيبته ، إنها حبيبة رسول الله ، وكانت رَضِي اللَّه عَنْها تغار من كثرة ذكر النبي لها ، طبعاً تعليق سريع ، غيرة المرأة تنبع من تصور وتخيل أن رسول الله يحبها أكثر منها ، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة ، ولنستمع إلى السيدة عائشة رَضِي اللَّه عَنْها ، وهي تعترف بغيرتها من السيدة خديجة ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
(( مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ : كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ : إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا ))
[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ]
أحياناً الإنسان أمام زوجته الحبيبة الصغيرة التي تعلق قلبه بها كان من الممكن أن يصمت عن ذكر خديجة ، من شدة وفائه لها كان يذكرها عند أحب زوجاته إليه ، والحقيقة قول السيدة عائشة كأن لم يكن في الدنيا غيرها ، حقيقة ، عاش النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع خديجة أنضر سنوات عمره ، أمضى خمساً وعشرين سنة مع السيدة خديجة وحدها . غيرة السيدة عائشة من السيدة خديجة رضي الله عنها :
والله أيها الأخوة ، أستمع الآن إلى قصص طلاق بعد ثلاثين عاماً عاشت معه زوجته ، على مر الحياة وحلوها ، ثم طلقها ، وأولادها كبار ، لها أولاد ، ولها بنات ، ولها أصهار ، ومع ذلك طلقها لأسباب تافهة ، أهذا هو الوفاء ، ثلاثون عاماً عشت معها ، وبعدها تنتهي هذه الأعوام بالطلاق ، وَاللَّهِ جاءت امرأة في بعض المساجد في دمشق ، وقالت لي : أنا زوجة فلان ، وهي محجبة حجاباً كاملاً ، أنا زوجة فلان ، عشت معه ثلاثين عاماً ، وهو قد طلقني ، معقول !
قال ابن حجر رحمه الله في شرح كلمات السيدة عائشة ، ما غرت على أحد من نساء النبي ، قال : " فيه ثبوت الغيرة ، وأنه ليس مستنكر وقوعها من فاضلات النساء ، فضلاً عمن دونهن ، يعني أيها الزوج لا تتألم كثيراً إذا كانت زوجتك غيورةً ، فالغيرة من صفات النساء ، فليس بمستغرب أن تقع الغيرة من فاضلات النساء فضلاً عمن دونهن ، وأن عائشة رَضِي اللَّه عَنْها كانت تغار من نساء النبي ، فكانت تغار من السيدة خديجة أكثر غيرة والسبب طبعاً أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكثر من ذكرها كثيراً ، وقولها هلكت قبل أن يتزوجني ، يعني هي لم تعرفها ، ولم تر وجهها ، هلكت قبل أن يتزوجني ، فلو أنها رأتها لكانت غيرتها أشد ، ثمة حالات نادرة أسوقها لكم ، يعني أحياناً تغار منها كثيراً تندفع إلى التعريض فيها ، هذا الشيء الجديد ، فيغضب عليه الصلاة والسلام ، ويرد عن أم المؤمنين عائشة ، يرد عليها ، يذكرها ببعض المناقب والفضائل التي انفردت بها السيدة خديجة ، والتي لا يشاركها فيها غيرها من أمهات المؤمنين ، كلم السيدة عائشة على ما بدر منها ، وتقول معلنةً توبتها وندمها : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بالخير ، شيء واقعي ، السيدة عائشة امرأة غيورة لا تحتمل أن يذكرها النبي دائماً ، لذلك كان النبي يرد عليها ، ويدافع عن السيدة خديجة ، تقول : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا اليوم إلا بالخير ، القصة كاملة رويت في بعض الكتب ، استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على النبي الكريم ، يبدو أن الصوتين متشابهين ، بعد موت خديجة سمع صوتاً يشبه صوت زوجته ، فارتاح لذلك وقال : اللهم هالة ، فغرت فقلت : ما تذكر من عجوز ـ الآن صارت عجوزاً ـ ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين ، يعني ليس في فمها سن ، وكبيرة في السن ، خمسة وستون عاماً .
قال لي أحد الأشخاص : والله ما في فمي سن ، فقلت له : وشعرك ، قال لي : لا شعري طبيعي ، خفت أنْ يكون شعره مستعاراً ، الإنسان بعد سن معين لا بد له من قطع غيار كثيرة ، فقالت له : حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خير منها ، يعني هذه ساعة غيرة شديدة . ميزات السيدة خديجة كما رآها النبي الكريم :
قالت ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيراً منها ، فقال لها : إنها كانت وكانت وَكانت ، وكان لي منها الولد ، فسر بعضهم قوله الشريف ، إنها كانت فاضلةً ، وكانت عاقلة ، وكانت ، وكانت ، وكان لي منها الولد ، أما أجمل دفاع عنها فهو مرويٌّ في مسند أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا قَالَ مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ))
[أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ]
انظر إلى ميزاتها ، وفي الحقيقة أروع ما في الأخلاق ألا تنسى فضل الناس عليك ، النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع أن الأنصار وجدوا عليه في أنفسهم جمعهم وقال : يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ، جمعهم ، وكان أقوى رجل في الجزيرة ، وكان بإمكانه أن يفعل كما يفعل بعض الأقوياء أن يلغي وجودهم ، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم ، وكان بإمكانه أن يهملهم ، وكان بإمكانه أن يعاتبهم ، وكان بإمكانه أن يذكرهم بفضله عليهم ، فماذا فعل ؟ جمع الأنصار وهو في أعلى درجات القوة ، وذكرهم بفضلهم عليه ، ما هذه الأخلاق ! قال : يا معشر الأنصار أما إنكم لو شئتم لقلتم ولصدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، طريداً فآويناك ، عائلاً فأغنيناك ، يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ، وعالةً فأغناكم الله ، وأعداء فألف بين قلوبكم ، إلى آخر القصة . (( ... مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ))
[أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ]
قالت السيدة عائشة ، هكذا تروي الروايات ، أبدلك الله حديثة السن بكبيرة السن ، فغضب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً فخافت فقالت : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بالخير ، هذه مشكلة نشأت في بيت النبي صاحب ود ووفاء لزوجته السيدة خديجة ، وهي صاحبة غيرة . من فضائل خديجة أن النبي الكريم قرن بينها وبين السيدة مريم في الخيرية والفضل :
تعليق لطيف ، ما معنى حمراء الشدقين ؛ نسبتها إلى كبر السن ، لأنه من دخل في سن الشيخوخة مع قوة في بدنه ، يغلب على لونه غالباً الحمرة المائلة إلى السمرة ، والذي يتبادر أن المراد بالشدقين ما في باطن الفم ، فكانت في ذلك عن سقوط أسنانها ، حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها ، وبهذا قال النووي ، ما معنى حمراء الشدقين ؟ أي لا يوجد أسنان ، ولا يوجد في فمها غير لثة حمراء وباطن الفم أحمر .

يؤكِّد الإمام النووي رحمه الله تعالى أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلماته كلها يظهر من كلماته حسن العهد ، وحفظ الود ، وحرمة الصاحب ، والمعاشرة ، حياً وميتاً ، أحياناً عندما يموت إنسان يستخف به ، أما عليه الصلاة والسلام فقد كان وفياً لها في حياتها ، وبعد موتها ، كان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذبح شاةً يقول : أرسلوا إلى صديقات خديجة ، قالت : فأغضبته يوماً فقلت : خديجة ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني قد رزقت حبها .
من فضائل خديجة أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن بينها وبين السيدة مريم في الخيرية والفضل ، فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ))
[البخاري ومسلم عن علي]
يقصد خير نساء من على الأرض ، ومن تحت السماء ، خديجة بنت خويلد ، ومريم ابنة عمران ، السيدة مريم شهد الله لها بالاصطفاء : ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾
( سورة آل عمران )
شهد لها بالصديقة ، وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبي ، فإذا كان النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جمع بين السيدة مريم والسيدة خديجة في الفضل ، فمعنى ذلك أن السيدة خديجة في مرتبة الصديقة . المرأة مساوية للرجل في التكليف والتشريف :
شيء آخر : ((خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ قَالَ : تَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ))
[أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]
نستفيد من هذه القصة أن المرأة مساوية للرجل في التكليف والتشريف ، وأن الذي حباه الله عز وجل زوجة صالحة فقد أعطاه شيئاً كثيراً ، أعطاه نعمة عظيمة ، أعطاه حسنة الحياة الدنيا . ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾
( سورة البقرة )
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((خَيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أمَرْتَها أطاعتكَ وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْكَ في نَفْسِها ومالِكَ.))






 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 02:34 PM   #36


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( الثانى و الثلاثون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 8



قلادة خديجة





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الثامن والأخير من سيرة السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها زوجة رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأولى .

البطولة أن تعطي الناس حقهم وأن تكون منصفاً :
هناك موضوع في سيرة السيدة خديجة عنوانه قلادة خديجة ، موضوع دقيق ومؤثر ، فالسيدة زينب رَضِي اللَّه عَنْها ، كبرى بنات السيدة خديجة من النبي عليه الصلاة والسلام ، زوجها عليه الصلاة والسلام من أبي العاصي بن الربيع ، زوجها النبي في الجاهلية من أبي العاص بن الربيع ، وهو ابن أخت السيدة خديجة ، أمه هالة بنت خويلد ، وكانت السيدة خديجة تعد أبا العاصي بن الربيع بمنزلة ولدها ، ولما زفت السيدة زينب إليه أهدتها أمها خديجة قلادةً هدية زفافها ، هذه بدايات القصة ، ولما أراد المشركون أن يؤذوا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بناته كما مر من قبل ، وكلموا أبا العاصي أن يطلق السيدة زينب ، وعرضوا عليه بالمقابل أن يزوجوه أية امرأة من قريش يشاء ، هذا الموقف الشريف الأخلاقي رفضه رَضِي اللَّه عَنْه ، وقال لهم : لا والله إني لا أفارق صاحبتي ، هناك أصهار رسول الله بعضهم طلق زوجاته ، أما أبو العاصي فقال : والله لا أفارق صاحبتي ، وما أحب أن لي بامرأتي امرأةً من قريش ، لهذا أثنى عليه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال : زوجت أبى العاصي فحدثني ، وصدقني ، ووعدني فوفى لي ، وحينما رآه عليه الصلاة والسلام بين الأسرى في موقعة بدر قال : والله ما ذممناه صهراً ، والبطولة أيها الأخوة أن تعطي الناس حقهم ، البطولة أن تكون منصفاً ، رأى صهره بين الأسرى ، جاء ليقاتله ، ولكنه ما ذمه صهراً ، لما عرضوا عليه أن يطلق زوجته ليؤذوا بتطليق زوجته النبي عليه الصلاة والسلام قال : لا والله لا أفارق صاحبتي ، وما أحب أن لي بامرأتي امرأةً من قريش ، فكان زوجاً وفياً ، والنبي عليه الصلاة والسلام حفظها له ، وعاشت السيدة زينب رَضِي اللَّه عَنْها معه وهي مسلمة ، وبينما هو لا يزال على شركه ، هي مسلمة وهو مشرك ، بسبب أن الآيات التي حرمت زواج المسلمات بالمشركين لم تنزل بعد ، ليس هناك تشريع ، فالآيات التي حرمت المسلمات على المشركين ما كانت قد نزلت بعد ، وقدر الله تعالى أن يكون أبى العاصي بن الربيع من جملة أسرى المشركين في غزوة بدر ، موقوف ، مقيدة حريته ، أسير مع أسرى قريش وهو صهر النبي عليه الصلاة والسلام ، وزوجته في مكة ، وهي بنت النبي عليه الصلاة والسلام . تواضع النبي عليه الصلاة والسلام :
إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يفاجأ أن ابنته زينب رَضِي اللَّه عَنْها بعثت القلادة التي أهدتها إليها أمها خديجة يوم زفافها ، بعثت بهذه القلادة إلى النبي عليه الصلاة والسلام لعله يأخذها ، ويفك صهره من الأسر ، تروي بعض الروايات أن النبي بكى ، يعني ابنته وصهره ، وجاء أخو صهره مع قلادة ابنته يعرضها على النبي فلعل النبي يقبلها ، ويفك أسر صهره المشرك ، ولما رأى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القلادة رقّ لها رقةً شديداً ، لقد أثارت القلادة في قلبه الشريف ذكريات زوجته السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها ، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه وعواطفه ومشاعره تطرب في قلبه وصدره ، ابنته وصهره ، وهو النبي ، وهو القائد ، وهو قمة المجتمع الإسلامي ، انظروا إلى تواضعه ، فقال لأصحابه : إن رأيتم أنتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها مالها فافعلوا إن شئتم ، أن تردوا لها أسيرها ، وتردوا عليها مالها فافعلوا ، فقالوا : نعم يا رسول الله ، الأمر لأصحابه ، وما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج عن النظام العام الذي وضعه هو ، وطلب النبي عليه الصلاة والسلام من أبي العاصي ، وكانت قد نزلت آيات تحرم زواج المسلمات بالمشركين طلب النبي عليه الصلاة والسلام من أبي العاصي قبل أن يطلق سراحه أن يفارق السيدة زينب ، بأن يطلقها ، هذا أمر الله عز وجل ، أنه يحبها ، أنها تحبه ، أنه متعلق بها ، أنها متعلقة به ، شرع الله عز وجل فوق كل شيء ، فإذا أصر على شركه وكفره فلا بد أن يطلق زوجته زينب ، فالإسلام فرق بينهما ، والحكمة أيها الأخوة تعرفونها جميعاً ، الزوج هو الآمر ، هو المسيطر ، إن كانت تحته امرأة مشركة يمكن أن يحملها على طاعة الله ، أما إن كانت امرأة مسلمة تحت مشرك يمكن أن يحملها على الشرك ، لأنه هو الآمر ، فيصح أن تكون امرأة مشركة تحت مسلم ، ولا يصح أن تكون امرأة مسلمة تحت مشرك ، وأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ، ورجلاً من الأنصار ، وأمرهما أن ينتظرا السيدة زينب خارج مكة ببطن يأجج ، على الطريق إلى المدينة المنورة لكي يكونوا بصحبتها حتى تصل إلى المدينة ، أرسل سيدنا زيد بن حارثة ، وأرسل رجل آخر من أجل أن يأتيا بزينب من مكة إلى المدينة ، لأن صهره مشرك ، ولا يمكن أن يبقى معها ، ولا أن تبقى معه ، فالإسلام فرق بينهما ، أبو العاصي وفى بما وعد رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأمر السيدة زينب أن تسافر إلى أبيها رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة المنورة ، وفارقت السيدة زينب زوجها الذي أحبها وأحبته ، فحبها لدينها أعظم عندها من حبها لزوجها ، الآن تقول له أحياناً زوجته شيئاً فيقول لها : أنا أو هذا الجهاز ، فتقول له : لا الجهاز ، أنت لا أريدك ، أما الصحابيات فحينما خيرن بين طاعة الله ورسوله وبين زوجها ، اختارت طاعة الله ، وخرجت مسافرة إلى المدينة في هودج على بعير يقوده كنانة بن الربيع أخو زوجها ، واعترضها بعض سفهاء المشركين ، وكانوا حديثي عهد بمصابهم في غزوة بدر ، وسبق إليها هبار بن الأسود ، ومعه رمح يلوح به فروعها بالرمح ، وهي في الهودج ، يعني آذى بنت رسول الله ، وكانت حاملاً فأسقطت . الإنسان بخاتمة عمله والماضي يطوى بلمحة :
تذكر رواية أخرى أن هباراً نخس البعير برمحه ، فنفر البعير بها ، وأسقطها على صخرة مما أدى إلى نزف دمها ، وإسقاط جنينها ، وبرك كنانة على الأرض ، ونثر كنانته ، ثم قال : والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهماً ، وكنانة أخو زوجها ، فرجع الناس عنه ، وأتى أبو سفيان ومعه رجال من قريش ، فقال له : أيها الرجل كفَّ عنا نبلك حتى نكلمك ، فكفَّ ، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه ، فقال : إنك لم تُصِب ، يعني إنك أخطأت ، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ، ونكبتنا ، وما دخل علينا من محمد ، فيظن الناس إذا خرجت بابنته علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن وجل أصابنا ، عن مصيبتنا التي كانت ، وأن ذلك منا ضعف ووهن ، ولعمري مالنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا من ذلك من ثؤرة ، أي طلب ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات ، وتحدث الناس أن قد رددناها ، فسلها سراً ، وألحقها بأبيها ، كلام طيب ، وكلام معقول ، لأننا نحن الآن مصابون ، الجراح لا تزال نازفة ، الألم شديد مما أصابنا في بدر ، فأنت إذا خرجت بابنة محمد عليه الصلاة والسلام علانية ، على رؤوس الناس ، متحدياً فكأن في هذا ضعفاً لنا وإهانة ، فأرجعها الآن ، وبعد أيام قليلة ، سلها من بيننا ليلاً ، وألحقها بأبيها ، ولا نعترض على ذلك ، ففعل كنانة بمشورة أبي سفيان ، وأقام السيدة زينب ليالي في مكة ، ثم خرج بها ليلاً حتى سلمها لزيد بن حارثة والأنصاري ، فقدما بها على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وغضب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَا تعرضت له ابنته السيدة زينب ، فأراد أن يفعل شيئاً ، ثم كفَّ عن ذلك .
ذكر ابن كثير ، أن هبار بن الأسود الذي نخس ناقة زينب ، وقد وقعت من على الناقة ، ونزفت ، وأسقطت ، أن هذا من جملة من ماتوا في السنة الثالثة عشر من الهجرة ، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي عليه الصلاة والسلام يوم خرجت من مكة حتى أسقطت ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه ، وقتل بأجنادين رَضِي اللَّه عَنْه ، الإسلام يجُبُّ ما قبله ، الذي سبب هذا الألم الشديد للنبي عليه الصلاة والسلام ، ونخس بعير زينب ، وأوقعها من على البعير ونزفت ، وأسقطت ، تاب ، وأسلم ، وحسن إسلامه ، ومات شهيداً إذاً رَضِي اللَّه عَنْه ، إذاً هبار ابن الأسود رَضِي اللَّه عَنْه ، العبرة مما سبق أن الإنسان بخاتمة عمله ، فالإنسان لا ينبغي أن يقف كثيراً عند ماضيه ، ينبغي أن ينظر إلى مستقبله ، الماضي يطوى بلمحة ، الصلحة بلمحة .
إجارة السيدة زينب ابنة النبي لزوجها :
مرت سنوات والسيدة زينب رَضِي اللَّه عَنْه مفارقة لزوجها ، وبينما كان أبو العاصي زوجها قافلاً بتجارة فيها أموال لقريش ، عن طريق مكة المحاذي للمدينة ، اعترضت سرية من سرايا المسلمين هذه القافلة فأخذوا ما معه من أموال ، وتمكن أبو العاصي من الفرار ، فلم يقع في أيدي رجال السرية ، إلا أن رجال السرية أخذوا كل البضائع وبالملايين ، قافلة كبيرة جداً ، والأموال كلها لقريش ، وأبو العاصي كان تاجراً ، ثم تسلل إلى المدينة المنورة ليلاً حتى دخل على زوجته السيدة زينب ، فاستجار بها ، فأجارته ، وانتظرت السيدة زينب حتى إذا خرج النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صلاة الفجر ، وكبر للصلاة ، وكبر الناس ، صرخت رَضِي اللَّه عَنْها من بين صفوف النساء : أيها الناس إني أجرت أبا العاصي بن الربيع ، فلما سلم النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على الناس فقال : ((أيها الناس هل سمعتم الذي سمعته قالوا : نعم ، قال : والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم ـ من غير تخطيط ، أنا سمعت معكم ، انظر إلى التواضع ، تبرئة النفس ، ابنته وصهره ، وهو سيد الخلق ، وهو نبي هذه الأمة ، وهو قائد هذه الأمة ، قال : أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت ، قالوا : نعم ، قال : والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم ، وإنه يجير على المسلمين أدناهم))
[البيهقي عن أم سلمة]
عد ابنته أدنى المسلمين ، ومن حقها أن تجير ، قال ذلك عليه الصلاة والسلام حتى لا يظن أحد أن النبي اتفق مع ابنته السيدة زينب لتجير أبا العاصي بن الربيع ، ثم دخل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنته زينب فقال لها : أي بنيّة أكرمي مثواه ، ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له ، قال ذلك لأن أبا العاصي لا يزال على كفره ، ثم بعث صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجال السرية فحثهم على رد ما كان مع أبي العاصي من أموال ، فاستجابوا لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وردوا عليه كل ما أخذوه منه ، فأخذ البضاعة كلها .
هنا نقطة أيها الأخوة لا تقدر بثمن ، رجع أبو العاصي بتجارته إلى مكة ، وأعطى كل إنسانٍ حقه ، أعطى كل إنسان ما كان له ، ثم قال : يا معشر المشركين هل بقي لأحد منكم مالٌ لم يأخذه ؟ قالوا : لا ، فجزاك الله خيراً ، فقد وجدناك وفياً كريماً ، فقال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .
وفاة السيدة زينب رضي الله عنها :
بالمناسبة أيها الأخوة ، عرضوا عليه أن يأخذ البضاعة كلها ، إذا أسلم عادت هذه البضاعة غنائم ، لأن المسلمين في حالة حرب مع المشركين ، وقد أخذوا أموالاً طائلة ، فمجرد أن يعلن أبو العاصي إسلامه عندئذٍ تغدو كل هذه الأموال غنيمة للمسلمين ، ماذا قال أبو العاصي ؟ قال : والله لا أبدأ إسلامي بهذا ، أنا مقتنع بالإسلام ، إن أسلمت بهذه الطريقة ، وأخذت كل هذه الأموال ماذا يفهم الناس ؟ أنني أسلمت لأكل أموالهم ، أنني أسلمت وأصبحت هذه الأموال غنائم من أجل أن آكل أموال الناس ، والله لا يصدقونني ، عاد إلى مكة ، وأعاد إلى كل ذي حقٍ حقه ، هل لكم عندي شيء ؟ قالوا لا ، جزاك الله خيراً ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، والله يا معشر قريش ما منعني عن الإسلام عنده في المدينة إلا خوفُ أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم ، وفرغت منها أسلمت ، أداها الله إليكم ، ثم خرج رَضِي اللَّه عَنْه حتى قدم على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد عليه زينب على النكاح الأول هي زوجته : ((رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِي بْنِ الرَّبِيعِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحاً))
[الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]
لما أصر على شركه فرق الإسلام بينهما ، فلما أسلم عادت إلى حكمه الأول .
لم يدم اجتماع الزوجين الكريمين طويلاً ، إذ قدر الله سبحانه وتعالى أن يفرق الموت بعد اجتماعهما بزمن قصير ، ففي أول السنة الثامنة من الهجرة توفيت السيدة زينب رَضِي اللَّه عَنْها ، ولحقت بأمها السيدة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها ، وحزن صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على موت ابنته ، وكفنها بإزاره ففي الحديث الشريف :
(( دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ : اغْسِلْنَهَا ثَلاثاً ، أَو ْخَمْساً ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُوراً ، أَوْ شَيْئاً مِنْ كَافُورٍ ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ : أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ ))
[البخاري عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِي اللَّه عَنْهَا]
أعطاها قماشاً خاصاً به فلفَّت به في الكفن ، ومات أبو العاصي بعدها بأربع سنين من وفاتها . مواقف كثيرة يمكن للإنسان أن يفعلها وهو صادق لكن الناس لا يصدقونه :
ولدت السيدة زينب من أبي العاصي ولداً اسمه علي ، عاش حتى ناهز الاحتلام ، توفي في حياة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وولدت أيضاً بنتاً اسمها أُمامة ، كان صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبها كثيراً ، ويدنيها منه ، ففي الصحيحين قَالَ : (( خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصيِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا ))
[ متفق عليه عن أَبِي قَتَادَةَ ]
أهديت للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة هدية فيها قلادة ، فدعا أمامة فعقدها بيده في عنقها ، كأنها ذكرته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقلادة خديجة رَضِي اللَّه عَنْها ، من تزوج أمامة ؟ تزوجها علي بن أبي طالب رَضِي اللَّه عَنْه بعد موت خالتها السيدة فاطمة ، وبعد استشهاد علي رَضِي اللَّه عَنْه تزوجت أمامة المغيرة بن نوفل الهاشمي وماتت عنده رَضِي اللَّه عَنْها ولم تلد لعلي ولا للمغيرة ، هذه قصة القلادة .
أبرز ما في هذه القصة أنه أدى الأموال إلى أصحابها ، وبعدها أعلن إسلامه ، هناك مواقف كثيرة يمكن أن تفعلها أنت صادق لكن الناس لا يصدقونك ، قال والله لا أبدأ إسلامي بهذا .
أيها الأخوة الكرام ، هؤلاء أصحاب رسول الله ، وأصهار رسول الله ، وبنات رسول الله كانوا قدوة لنا جميعاً ، ويحسن بنا أن نقف عند هذه القصص وقفةً متأنية ، لعل الله سبحانه وتعالى يعلمنا الشيء الكثير من هذا الفهم الدقيق لما فعله أصحاب النبي رضوان الله عليهم .
انقسام العلماء في موضوع التفضيل بين السيدة خديجة والسيدة عائشة رضي الله عنهما :
في بحث قصير عن السيدة عائشة والسيدة خديجة ، أقرأ لكم ما تيسر منه إلى أن يؤذن العشاء ، قال عليه الصلاة والسلام : ((كمل من الرجال الكثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام))
[من مختصر تفسير ابن كثير عن أنس بن مالك]
العلماء ينقسمون في موضوع التفضيل بين عائشة وخديجة رَضِي اللَّه عَنْهما ، إلى فريقين ، فريق ذهب إلى فضل السيدة خديجة على السيدة عائشة وفريق فضّل السيدة عائشة على السيدة خديجة ، إلا أن الكلام الطيب إذا أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فهذا لا يعلمه إلا الله ، التفضيل يتوقف ، وإن أريد بالتفضيل كثرة العلم فعائشة هي الأولى ، وإن أريد بالتفضل شرف الأصل ففاطمة لا محالة ، وإن أريد بالتفضيل النصرة والسبق إلى الإسلام فالسيدة خديجة ، كل واحدة لها نصيب من الفضل ، النبي عليه الصلاة والسلام قال مرة للسيدة فاطمة : (( يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين .))
[الشيخان عن فاطمة]
طبعاً هذا الحديث في صحيح مسلم ، فهو يعدها صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدة نساء المؤمنين ، وفي رواية أخرى : (( يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ، أو نساء المؤمنين.))
[متفق عليه عن عائشة]
بعضهم يعلق ويقول : إن أريد فضل كثرة العلم فعائشة ، ولو قدر للسيدة خديجة أن تسمع من النبي ما سمعت السيدة عائشة ، وأن تروي ما روت لبلغت من العلم درجة عالية رفيعة كما بلغت السيدة عائشة رَضِي اللَّه عَنْها .
أيها الأخوة الكرام ، هؤلاء أهل بيت النبي قدوة لنساء المؤمنين ، إن شاء الله تعالى نتابع الحديث عن زوجاته الطاهرات زوجةً زوجة ، ثم ننتقل إن سمح الله لنا أن ننتقل إلى بناته الجليلات ، ونأخذ ما كتب عنهن من مواقف كاملة فلعلنا بهذه المواقف وتلك القصص نعرف قدر هؤلاء الصحابة الكرام الذين أيدوا النبي عليه الصلاة والسلام .





الختام


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 11-18-2018, 09:48 AM   #37
سليلة الأبجدية



الصورة الرمزية عاشقة الأنس
عاشقة الأنس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 390
 تاريخ التسجيل :  Jun 2014
 أخر زيارة : 07-22-2023 (09:39 AM)
 المشاركات : 4,471 [ + ]
 التقييم :  2789
 الدولهـ
Algeria
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



رضوان الله عليهن
في ميزان حسناتك وبارك الله فيك


 
 توقيع : عاشقة الأنس


كل الشكر للأستاذة المصممة البارعة سوالف احساس على التوقيع


رد مع اقتباس
قديم 01-12-2019, 04:09 PM   #38



الصورة الرمزية منال نور الهدى
منال نور الهدى غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  Sep 2012
 أخر زيارة : يوم أمس (09:41 PM)
 المشاركات : 22,812 [ + ]
 التقييم :  6713
 الدولهـ
algeria
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Darkgreen


افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بارك الله بك وجزاك الله خير جزاء وأسعدك البارئ ووفقك للخير لطرح القيم
في أمان الله وحفظه


 
 توقيع : منال نور الهدى





أطروحاتكم وردودكم الراقية تعكس ما مدى توازن فكركم و ثقافتكم.
جملوا حضوركم بتفاعلكم الذي يترك أثار طيبة وينثر روائح زكية.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الجليلات, الصحابيات, سيرة


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من قصص الصحابيات رضي الله عنهن السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 46 08-26-2020 01:39 PM
سيرة الائمة الاربعة السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 12 05-28-2019 02:51 AM
نبذة عن شجرة الدر منال نور الهدى رِيَاض ضَوْءُ المَعرِفَة و التَارِيخ العربِي والعَالمِي 8 12-20-2016 04:38 PM
فندق عبارة عن عش فوق شجرة في غابة بالسويد محمد العتابي رِيَاض إبْنُ بَطُوطَة لِسْيَاحَة والسَفَر 7 09-26-2014 05:39 PM
شجرة تنتج 40 نوعا من الفاكهة محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 5 08-05-2014 02:07 PM


الساعة الآن 08:22 AM