سَمَاءُ الأُنسِ تُمطِر حَرْفًا تُسْقِي أرْضَهَا كلِمة رَاقِيَة وبِـ قَافِيَة مَوزُونَة و نبْضُ حرْفِ يُفجِّرُ ينَابِيع الفِكْرِ سَلسَبِيلًا، كُن مَع الأُنِسِ تُظِلُّ بوارِفِ أبجدِيَتِهَا خُضْرَة ونُظْرَة وبُشْرَى لـ فنِّ الأدبِ و مَحَابِرَهُ. وأعزِف لحنًا وقَاسِم النَاي بِروحَانِيَة وسُمُوِ الشُعُور و أَرْسُم إبْدَاعًا بِـ أَلْوَانٍ شَتَّى تُحْيِ النَفْسَ بِـ شَهقَةِ الفَنِّ نُورًا وسًرُورَا كَلِمةُ الإِدَارَة







جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 08-21-2018, 08:12 AM   #21


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الحادى و العشرون )

الموضوع : سيدنا سراقة بن مالك








الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف نشبه الإسلام ؟
أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس الحادي والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضوان الله عليهم أجمعين, صحابي اليوم سيدنا سراقة بن مالك .
يمكن أن نستنبط من سيرته، حقائق كثيرة تفيدنا في حياتنا المعاصرة، فالذي ينبغي أن نعلمه من السيرة، أن مواقف الصحابة مواقف مثالية، فإذا عرفنا بواطن مواقفهم، وأسرارها، يمكن أن نكون قد تعلمنا تفاصيل كثيرة عن الدين من خلال سيرتهم، قبل أن نبدأ الحديث عن هذا الصحابي الجليل، يمكن أن نشبه الإسلام بهرم، مقسم إلى أربعة أقسام، القسم الأعلى هو القرآن الكريم، كلام الله عز وجل، القسم الثاني السيرة النبوية التي بيَّنت، وفصلت القرآن الكريم, قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
(سورة النحل الآية: 43 ـ 44)
كيف فسر النبي القرآن ؟
قد يسأل سائل، ما تفسير كتاب الله تعالى؟ الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام فسره من خلال السنة النبوية، فالسنة هي التفسير العملي للقرآن الكريم، حتى إن الإمام الشافعي حينما قال في تفسير قوله تعالى:﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
( سورة الجمعة الآية: 2)
الحكمة هي السنة، إذاً: القرآن الكريم جاء موجزاً, قال تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾
(سورة النساء الآية: 23)
﴿وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف﴾
, عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا))
[ أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله]

للعلة نفسها، فالقرآن الكريم أمر بدفع الزكاة، لكن النبي فصل نصاب الأموال، نصاب الأبقار، نصاب الأغنام، فالسنة تبين، وتفصل، وتوضح، وتقيد المطلق، وتطلق المقيد، وتعطي حالات خاصة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قطع يد السارق بأثناء الحرب، مع أنّ حكم قطع يد السارق ثابتٌ بالكتاب الكريم, قال تعالى:

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
(سورة المائدة الآية: 38)
لماذا؟ لأن هذا الإنسان إذا تلبس بجرم السرقة، وعلم أن يده سوف تقطع ينتقل إلى العدو، يعطيهم المعلومات، وينجو من قطع اليد، فحكم قطع يد السارق تعطل في أثناء الحرب .
النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((ادرؤوا الحدود بالشبهات))
فلو أن إنساناً اشتبه عليه أن له حقاً عند زيد أو عبيد وسرق منه يسجن، ويعذر، ويحاسب، ويغرم، لكن ما دام هناك شبهة فلا تقطع يده، السنة بينت، فالقرآن الكريم ستمئة صفحة، لكن النبي الكريم ترك أكثر من ستمئة ألف حديث، كلها تبيِّن، وتفصِّل، وتوضِّح، وتقنِّن .

الصلاة والوضوء ذُكِرا في القرآن بشكل موجز، والنبي فصّل كيف تتوضأ؟ فهناك خمس وسبعون سنة، أو ست وثمانين سُنَّة للصيام واردة في كتب الفقه، القرآن قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
(سورة البقرة الآية: 183)
السنة بينت الواجبات والسنن والمستحبات والمكروهات والمندوبات .
الجزء الثاني من الهرم, هو السنة القولية، لكن أفعال النبي أوسع من أقواله، فإذا درستَ السنة الفعلية التي فعلها النبي يمكن أن تكوِّن الجزءَ الثالث من الهرم، قد لا نفهم السنة القولية إلا من خلال السنة الفعلية، صلوا كما رأيتموني أصلي، كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل كذا، ولا يفعل كذا، تبيِّن أحواله، وحركاته، وسكناته، وسكوته، وهناك سنة فعلية، وإقرار.

النبي عليه الصلاة والسلام شخصٌ واحد، لكن أصحابه كثر، صحابيٌ غني جداً، صحابيٌ فقير جداً، صحابيٌ شاب صغير، صحابيٌ شيخ فانٍ، صحابيٌ حاد المزاج، صحابيٌ هادئ الطباع، فكأن أصحابه يمثلون نماذج بشرية، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((سَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِي اخْتِلافًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفــَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالأمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَة))
[أخرجه ابن ماجه في سننه]
إذاً: القسم الرابع من الهرم: سيرة أصحابه، لأنها تمثل نماذج متعددة .
والذي أراه أنَّ معرفة سيرة أصحاب النبي الذين رضي الله عنهم جزءٌ من الدين، فماذا فعل هذا الصحابي الذي رضي الله عنه، وأقرَّ النبيُّ فعلَه؟ هذا فعله كامل، يمكن أن اقتدي به، فضلاً عن أن هناك آيات بيناتٍ يمكن أن تستنبط من أفعال رسول الله، وهذا الصحابي الجليل سيدنا سراقة بن مالك، يمكن أن نفهم من سيرته الشيء الكثير . إليكم هجرة النبي وأبو بكر من مكة إلى المدينة حينما أمر مشركو قريش بقتله :
على كلٍ, عودة إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم سرى نبأُ هجرته في مكة كان نبأ غريبًا، أن محمداً قد بارح مكة، مستتراً بجنح الظلام، فلم يصدِّق زعماء قريش النبأ، واندفعوا يبحثون عن النبي في كل دارٍ من دور بني هاشم، وينشدونه في كل بيت من بيوت أصحابه، حتى أتوا منزل أبي بكر، فخرجت إليهم ابنته أسماء، قال لها أبو جهل: أين أبوك يا بنت ؟ قالت: لا أدري أين هو الآن؟ فرفع يده ولطم خدها لطمة أهوت بقرطها على الأرض، وصار يغلي غضباً، يعني كلهم يظنون أن محمداً في قبضتهم، وأنه بالتعبير الحديث الورقةُ الرابحة التي في أيديهم، فجأةً غادر هذا النبي الكريم مكةَ المكرمة، انطلق زعماء قريش في كل اتجاه، يبحثون عن محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن أيقنوا أنه غادر مكة، وكان عند العرب قفاةٌ للآثار, أي خبراء، فتتبَّع قُفاةُ الآثارِ آثارَ النبي فوصلوا من خلال آثاره إلى غار ثور، مكان اختباء النبي وصاحبه الصدِّيق، قال خبراء الآثار حينما وصلوا غار ثور: والله ما جاوز صاحبكم هذا الغار، ولم يكن هؤلاء مخطئين فيما قالوه لقريش، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه داخل الغار، وكانت قريش تقف فوق رأسيهما .
ماذا نستنبط من فعل النبي أثناء هجرته من مكة إلى المدينة , وما الفرق بين جزاء التقصير وبين القضاء والقدر؟
ونحن هنا أمام مجموعة استدلالات دقيقة جداً، ونحن كمسلمين في أشد الحاجة إليها، والنبي الكريم حينما هاجر من مكة إلى المدينة، أخذ بكل الأسباب، فسار مساحلاً, عكس الطريق المألوف إلى المدينة، خرج في جنح الظلام، عيَّن رجلاً يمحو الآثار، رجلاً يتتبع الأخبار، وشخصًا يأتيه بالزاد، فما من ثغرةٍ إلاَّ وسدَّها، وما من احتياط إلا وغطاه، ما من خطة إلا وأحكمها، ومع ذلك وصل كفار قريش إلى الغار .

وماذا يعني أن يصل كفار قريش إلى الغار؟ السؤال موجَّهٌ إليكم، وأعِينكم على الإجابة بسؤال فرعي، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بهذه الأسباب واعتمد عليها، وفوجئ أن كفار قريش كانوا على باب الغار، فماذا يمكن أن يحصل؟ ينبغي أن ينهار النبي، لأنه أخذ بالأسباب واعتمد عليها, لكن النبي أخذ بالأسباب واعتمد على الله .
أقول لكم دائماً أيها الأخوة, ولو أعدتها كثيراً، هذه حقائق أساسية، ينبغي أن ترسخ عندكم، القرآن الكريم أعاد بعض القصص سبع عشرة مرة، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، وإن لم تأخذ بها فقد عصيت، وخيطٌ دقيق يبعدك عن الشرك، وعن المعصية، أن تأخذ بالأسباب، وأن تعتمد على الله، وهكذا فعل النبي، أخذ بكل الأسباب، واعتمد على الله تعالى.
التي يمكن أن تستنبط من فعل النبي أنه إن لم تكفِ الأسباب التي أخذتها لنجاتك، فعندئذٍ يتولى الله رعايتك بطرق خاصة، بخرق العادات، وإن لم يكف أخذُ الأسباب لبلوغ هدفك، فأنت أخذت بالأسباب تأدباً مع الله عز وجل، وطاعةً له، لكن هذا الأخذ بالأسباب إن لم يكفِ تولّى اللهُ عز وجل خرقَ العادات من أجلك، لأنك أخذت بالأسباب، وهذه مشكلة المسلمين اليوم .

يا أخي, هناك فرق تكنولوجي، وفرق حضاري، وفرق بالأسلحة كبير جداً بين المسلمين وبين أعدائهم، ما الحل إذاً؟ أنت خذ بالأسباب، وتوكل على الله، واللهُ يكمل، قال تعالى:

﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
(سورة آل عمران الآية: 126)
وصل كفار قريش إلى غار ثور، وبقي النبي رابطَ الجأش، واثقاً من نصر الله عز وجل له، لم تلِن له قناة، وما خارت قواه، فأنت افعل ما تؤمر، وعليك أن تأخذ بالأسباب، فإن لم تكفِ الأسباب خَرَقَ اللهُ لك العادات .
بالمناسبة لن يكون خرق العادات إلا بعد الأخذ بالأسباب، فأي إنسان قال: أنا مؤمن والحمد لله وهؤلاء كفار، الله لا يحبهم، إنه يحبني وحدي، هو سينصرني عليهم من دون أن أفعل شيئًا، هذا هو الغباء بعينه، وهذه هي المعصية بعينها، وهذا هو الجهل بعينه، إن أخذت بالأسباب ولم تكفِ الأسباب خَرَق الله لك العادات، فإن لم تأخذ بها دفعتَ الثمن باهظاً .

لذلك كنت أقول دائماً هذه العبارة وأنا أتأثر بها: إن بعض المصائب التي تصيب المسلمين، بعضها يسمى جزاء التقصير، وبعضها يسمى قضاءً وقدراً، فإن أخذت بكل الأسباب، وانتهت مهمتك وجاء شيءٌ فوق إرادتك، وفوق قدرتك فهذا هو القضاء والقدر، أما إن لم تأخذ بها ، وجاء مكروه فإياك أن تسمِّيه قضاءً وقدراً، هو قضاء وقدر، ولكن سمِّهِ جزاء التقصير، وهو مرض يعاني منه المسلمون اليوم، ما أسعفوا المريض, يقولون لك: جاء أجله، هكذا كتب الله له، هذا الذي قصّر في إسعافه ينبغي أن يحاسَب كقاتل، فلا تُدخِل القضاء والقدر في تقصير المسلمين ، أهملنا العلاج فتفاقم المرض، أمّا كلام العوام، وكلام الجهلاء، وكلام السخفاء فمردود .

هل يدل فعل النبي وهو في الغار والمشركون على بابه على أنه مشاعر إنسانية أم هي مشاعر تدل على الإيمان واليقين بالله؟
سيدنا الصديق لما رأى أقدام القوم تتحرك فوق الغار دمعت عيناه، وفي روايات تفصيلية أن قطرةً من دمع الصديق وقعت على يد النبي، فانتبه النبي وقال:
((أتبكي يا أبا بكر؟ قال : واللهِ ما على نفسي أبكي، -وهو صادق- ولكن مخافة أن أرى فيك مكروهاً يا رسول الله, -أنا واحد، لكنْ أنت أمة .
مرة سيدنا أبو حنيفة رأى طفلاً على مقربةٍ من حفرة، فقال:

((يا غلام إياك أن تسقط، كان هذا الطفل ذكياً ونبيهاً، فقال: أنت يا إمام إياك أن تسقط، أنا إن سقطتُ سقطتُ وحدي، وأنت إن سقطت سقط معك العالَم))
ما من مصيبة في الدنيا أكبر من أن تهتز عندك القدوة، من أن يهتز المثل، مِن أن يخيب ظنك بمن ظننته مثلاً أعلى، لذلك فسقوط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عينه مَثلُه الأعلى- .

فقال عليه الصلاة والسلام مطمئناً: لا تحزن يا أبا بكر فإن الله معنا, -والله هذه الكلمة (إن الله معنا)، كبيرة عظيمة, فإذا كان اللهُ معك فمَن عليك؟ لو أن الدنيا كلها اجتمعت عليك لم تستطِع أن تغبِّر عليك، وإذا كان الله عليك فمَن معك؟ هناك أبناء يضربون آباءهم، وهناك زوجات يكِدْنَ لأزواجهن، وهناك حوادث يندى لها الجبين، أكثر الناس مودةً لك يقلب لك ظهر المجن إذا كان الله عليك فمَن معك؟ وقد أثبت القرآن هذه الرواية، فقال عز وجل:
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
(سورة التوبة الآية: 40)
فأنت كل بطولتك أن يكون الله معك، كن مع الحق وانتهى كل شيء، إذا كنت بطلاً كن مع الحق ، ولا تخشَ في الله لومة لائم- .
فأنزل الله السكينة على قلب الصديق، -وفي الآية ملاحظة لطيفة,(فأنزل الله سكينته عليه)، بالضمير المفرد، لأن النبي ساكن بالأصل، والنبي مرتاح، السكينة احتاجها الصديق فقط، (فأنزل الله سكينته عليه)يعني على الصديق وحده، لأن النبي من الثقة بالله عز وجل حيث لم يهتز-
((فقال الصديق: يا رسول الله, لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا، فقال: يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما))
بل هناك في رواية ثابتة لم ترد هنا، يبدو أن عين أحد كفار قريش وقعت على عين الصديق، عين على عين، فقال: ((لقد رأونا، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر, ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
( سورة الأعراف الآية: 198)

فإذا حفِظَ اللهُ إنسانًا فليس عليه بأس، وإذا أَحَبَّ اللهُ أنْ ييسِّر لك أمرًا تجده قد تمَّ لك كلمح البصر بتيسير الله عزوجل، فإذا كان الله عليك, فمَن معك؟ لذلك مِنَ الدعاء النبوي:

(( اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً))
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾
( سورة الليل الآية: 5 -10)
قيل لأمية بن خلف: كان في الغار، فقال أمية بن الخلف ساخراً: ألم ترَ إلى هذا العنكبوت قد عشَّش على بابه قبل ميلاد محمد .
سؤال ورد :
ولْنسْأَلْ هذا السؤال: لماذا ينصر الله عز وجل نبياً، كريماً، عظيماً، وينصر دينه بخيوط عنكبوت؟ هذه هي العظمة، لأن الله عز وجل جعل الدين هو رسول الله، فإن قتل انتهى الدين، إله عظيم، بيده أن يزلزل من تحتهم الأرض، بيده أن ينسف الجبال نسفاً، بيده أن يجعل البحر طريقاً ، بيده أن يجعل هؤلاء الكفار أصناماً فجأةً، نصر دينه عن طريق العنكبوت، وعن طريق حمامةٍ، هذه عظمة الله عز وجل .

فرعون رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه، فالتدابير عنده سهلة جداً، إذاً: سنذبح كل أطفال بني إسرائيل، أما هذا الطفل الذي سوف يقضي على ملكه تربى في القصر عنده, قال تعالى:

﴿فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
(سورة القصص الآية: 8)
هذه آيات الله عز وجل: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
(سورة طه الآية: 36 ـ 39)
فعل الله عجيب، كن مع الله فقط، لكنّ أبا جهل وكأنّ عنده حاسة سادسة غريبة، قال: واللات والعزى إني لأحسبه قريباً منا، يسمع ما نقول، ويرى ما نصنع، ولكن سحره ران على أبصارنا، والموقف محيِّرٌ، أنا أشعر أن محمدًا في الغار . ما هو موقف سراقة بن مالك حينما سمع بهذه الجائزة الثمينة على من يقبض على النبي حياً كان أم ميتاً؟
حينما يئست قريش أن تقبض على النبي وضعت جائزة مئة رأس من الإبل، أقدِّر أن ثمنها الآن مئة وخمسون ألف ناقة، مائة وخمسون ألف ضرب مئة، يعني خمسة عشر مليون ليرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وسراقة صحابي هذا الدرس، سراقة بن مالك كان في بعض أندية قومه قريباً من مكة
فإذا برجل يدخل عليهم، ويذيع فيهم نبأ الجائزة التي بذلتها قريش لمن يأتيها بمحمدٍ حياً أو ميتاً، رقم يغري, ثروة طائلة, من أجل قتل محمد قضية سهلة، قال: فما كاد سراقة يسمع بالنوق المئة حتى سال لعابه، واشتد عليها حرصه، ولكنه كان ذكيًّا جداً، فضبط نفسه، ولم يَفُهْ بكلمة واحدة حتى لا يلفت نظر الآخرين، وقبل أن ينهض سراقة من مجلسه، دخل على مكان وجوده رجلٌ, يقول: واللهِ لقد مرّ بي الآن ثلاثة رجال، وإني لأظنهم محمداً وأبا بكرٍ ودليلهما، فقال سراقة: إنهم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلّوها، يريد أن يصرف الناس عن هذه الجائزة، فقال الرجل: لعلهم كذلك، وسكت .
مكث سراقة قليلاً حتى لا يثير اهتمام أحدٍ، فلما دخل القوم في حديثٍ آخر انسل من بينهم، ومضى خفيفاً مسرعاً إلى بيته، وأَسَرَّ لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة من أعين الناس ، وأن تربطه له في بطن الوادي، وأمر غلامه بأن يعد له سلاحه، وأن يخرج به خلف البيوت حتى لا يراه أحد، وأن يجعل السلاح في مكانٍ قريبٍ من الفرس، ولبس سراقة درعه، وتقلد سلاحه، وركب صهوة فرسه، وطفق يغذُّ السير ليدرك محمداً قبل أن يدركه أحدٌ سواه، ويظفر بجائزة قريش .
لم لم يتابع سراقة بالإلحاق بالنبي وما هو العهد الذي أخذه من رسول الله ؟
من السذاجة أن تظن أن الله يسلِّم أولياءه إلى أعدائه، ومن الحمق، ومن الغباء، وكان سراقة بن مالك فارساً من فرسان قومه، طويل القامة، عظيم الهامة، بصيراً باقتفاء الأثر، من خبراء الآثار، صبوراً على أهوال الطرق، وكان إلى ذلك أريباً، لبيباً، شاعراً، وكانت فرسه من عتاق الخيل، مضى سراقة يطوي الأرض طياً، لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها، فتشاءم، وقال:
((ما هذا؟ تباً لكِ من فرس، وعلا ظهرَها، غير أنه لم يمضِ بعيداً حتى عثرت به مرةً أخرى، فازداد تشاؤماً، وهمَّ بالرجوع، فما ردّه عن همّه إلا طمعه بالنوق المئة، فلم يبتعد سراقة كثيراً عن مكان عثور فرسه حتى أبصر محمداً وصاحبه، فمدَّ يده إلى قوسه، ولكن يده جمدت في مكانها، -اليد بيد مَن؟ بيد الله .
ذلك بأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض، شيء غريب! فدفع الفرس فإذا هي قد ساختْ ثانيةً في الأرض، كأنما سمرت بمسامير من حديد- فالتفت إلى النبي وصاحبه, وقال بصوت ضارع، وقد أدْرَك هذا الإنسان لا بعقله ولكن بفطرته أن خالق الكون مع محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الفطرة: يا هذان, ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي, -وهذا يذكِّرنا بفرعون، ماذا ادّعى؟ ادّعى بأنه إله, قال تعالى:

﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
( سورة النازعات الآية: 24)
ولما أصيب قوم فرعون بمصائب عديدة ما كان موقف فرعون من موسى:
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
( سورة الأعراف الآية: 134)
يعني أنّ ادعاءه سخافة، ودجل، أدرك سراقةُ بفطرته أن هذا رسول- ثم قال: ولكما عليّ أن أكفّ عنكما، فدعا له النبي فأطلق الله له قوائم فرسه فأُطلِقتْ، لكنه تذكّر مئة ناقة، فما لبثت أطماعُه أن تحركت من جديد، فدفع فرسه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل، -وسعي النبي لا يكفي لنجاته من سراقة رغم توكُّله، فماذا فعل الله عز وجل؟ خرق العادات، ونصر نبيه، وهذا هو محور الدرس، فأنت عليك أن تأخذ بالأسباب، فإنْ لم تكفِ خرق الله لك العادات، أما إن لم تأخذ بالأسباب لم يخرق الله لك العادات، وهذه للنبي معجزة، ولغيره من المؤمنين كرامة .

وفي روايات كثيرة, أن سيدنا الصديق كان يمشي مرةً عن يمينه، ومرةً عن شماله، ومرةً أمامه، ومرةً وراءه، فالنبي الكريم تحيَّر، قال:

((ما هذا يا أبا بكر؟ قال: والله يا رسول الله, أخاف أن تُطلَب من خلفك فأمشي من ورائك، وأخاف أن يأتي الطلب من أمامك فأمشي أمامك، وعن يمينك أكون عن يمينك، -وأنا لا أعتقد أنّ إنسانًا على وجه الأرض يحب إنسانًا كحبِّ الصديق لرسول الله، ومع ذلك حينما مات عليه الصلاة والسلام, قال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ما هذا التوحيد؟ وكان سيدنا الصديق حريصاً على ألاّ يُصاب الرسول عليه الصلاة والسلام بأدنى أذى- وقال له مرة ثانية: والله ما على نفسي أخاف ولكن أخاف عليك، إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك أمة))
هذا كلام سيدنا الصديق- .
للمرة الثانية: فاستغاث بهما، وقال: إليكما زادي، الآن يريد أنْ يقدِّم دليلاً آخر، إليكما زادي، ومتاعي، وسلاحي، ولكما عليّ عهد الله أن أردَّ عنكما مَن ورائي من الناس، -لأنه أول مرة كذب، وخان العهد، حتى يؤكد عهده الجديد- قال: خذوا مالي، زادي، ومتاعي، وسلاحي، ولكما عليّ عهد الله عز وجل أن أرد عنكما من ورائي من الناس، فقالا له: لا حاجة لنا بزادك، ومتاعك ، ولكن رد عنا الناس، ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرسه، فلما همَّ بالعودة ناداهم قائلاً: تريثوا، فو الله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه
فقال له النبيُّ: ما تبتغي منا؟ فقال: والله يا محمد, إني لأعلم أنه سيظهر دينك، ويعلو أمرك فعاهدني إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني، واكتب لي بذلك، أريد وثيقة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصديق فكتب له على لوح عظمٍ، ودفعه إليه، ولما همَّ بالانصراف, قال له النبي عليه الصلاة والسلام، ويبدو أن هذا وحي من الله: كيف بك يا سراقة لو لبستَ سواري كسرى؟ فقال سراقة في دهشة: كسرى ابن هرمز؟- معنى ذلك أن لكسرى شأنًا كبيراً، كانت دولة الفُرسِ من العظمة ما لا يُتصوَّر، والعرب كانوا ضعافًا، وهم قبائل متناحرة، متباغضة جياع، عراة، ما الذي أعزهم؟ الإسلام، أعزهم الله بالإسلام، ومهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله- قال رسول الله: نعم كسرى بن هرمز)) وهذا من إعلام الله له، وليست مِن عنده, قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾
(سورة الجن الآية: 26 ـ 27)
ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يَعلَمَ بنفسه أنّ هذا الإنسان الذي جاء يلاحقهما سوف يلبس سِوارَيْ كسرى وتاجه .
هل أفشى سراقة السر عن رسول الله ومتى أذاع بخبر النبي ؟
هذه المرة أصبح سراقةُ وفيًّا، وعاد أدراجه، فوجد الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ارجعوا فقد نفضتُ الأرضَ نفضاً بحثاً عنهم، فلا تغلبوا نفسكم، لم أعثُر على أحدٍ، وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر
فرجعوا، ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة، وأصبحا في مأمنٍ من عدوان قريش، عند ذلك أذاع الخبر، فلما سمع أبو جهلٍ بخبر سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفه منه لامه على تخاذله، وعنفه، وعنف جبنه، وتفويته الفرصة .
قال له: أبا حكمٍ، والله لو كنت شاهداً لأَمرِ جوادي إذ تسيخ قوائمه لعلمتَ، ولم تشكك بأن محمداً رسول ببرهانٍ، فمَن ذا الذي يقاومه، ثم إنّ الأيامَ دارت، والنبي عليه الصلاة والسلام الذي خرج من مكة طريداً، شريداً، مستتراً بجنح الظلام، يعود إليها سيداً، فاتحاً، تحفُّ به الألوف المؤلفة من بيض السيوف، وإذا بزعماء قريش الذين ملؤوا الأرض عنجهيةً، وغطرسةً، وكبراً، واستعلاء، يقبلون على النبي خائفين واجفين، يسألونه الرأفة, ويقولون: ماذا عساك أنْ تصنع بنا يا محمد؟ فيقول عليه الصلاة والسلام في سماحة الأنبياء:
((اذهبوا فأنتم الطلقاء))
متى أسلم سراقة بن مالك ؟
عند ذلك أعدّ سراقة بن مالك راحلته، ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، ومعه العهد الذي كتبه له قبل عشر سنوات، قال سراقة:

((لقد أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، فدخلتُ في كتيبة الأنصار، فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح, ويقولون: إليك إليك، ماذا تريد؟ فما زلتُ أشقُّ صفوفهم حتى غدوتُ قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب، وقلت: يا رسول الله, أنا سراقة بن مالك، وهذا كتابك لي، فقال عليه الصلاة والسلام: يوم وفاء وبر، ادنُ، فأقبلت عليه، وأعلنتُ إسلامي بين يديه، ونلتُ من خيره، وبره، ولم يمضِ على لقاء سراقة بن مالك برسول الله غير زمن يسير حتى اختار الله نبيه إلى جواره .
حزن سراقة أشد الحزن، وجعل يتراءى له ذلك اليوم الذي همَّ بقتله، من أجل مئة ناقة))

وكيف أن نوق الدنيا كلها قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة من ظفر النبي؟ هذا الإيمان، قال أبو سفيان لخبيب بن عدي: ((أتحبُّ أن تكون مع أهلك ومحمد مكانك يُصلَب؟ قال له: واللهِ ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة))
الإسلام كله حب، وإيثار، وإخلاص، ووفاء، وحينما لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه، وحينما يفرغ الدين من قيمه، ويصبح طقوساً، وعباداتٍ جوفاء، فاقرأْ على المسلمين السلام . هل لبس سراقة تاج كسرى وسواريه وفي أي عهد من الخلفاء ؟
ثم دارت الأيام دورتها كرةً أخرى، وآل أمر المسلمين إلى الفاروق رضوان الله عليه، وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس، فطفقت تدكُّ الحصون، وتهدم الجيوش، وتهز العروش، وتحرز الغنائم .
وفي ذات يوم من أواخر أيام خلافة عمر قدم على المدينة رسل سعد بن أبي وقاص يبشرون خليفة المسلمين بالفتح، ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غنمه الفاتحون ، فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر نظر إليها في دهشة، فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر ، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب، ووشاحه المنظوم بالجوهر، وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط، ومالا حصر له من النفائس الأخرى، فجاء عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيبٍ كان بيده، ثم التفت إلى من كان حوله، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وإلى جانبه سيدنا علي, فقال له:
((ما الذي يبكيك؟ أعجبت من أمانة هؤلاء؟ فقال له الفاروق: إنّ قومًا أدُّوا هذا لأُمناء حقًّا، -تاج كسرى ثمنه مئات الملايين، لو أن هذا الذي أخذه ذهب به إلى أنطاكية لعاش أغنى الأغنياء- قال له: يا أمير المؤمنين، لقد عففتَ فعفُّوا، ولو وقعتَ لوقعوا))

دعا الفاروق رضوان الله عليه سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى، وسراويله، وقباءه ، وخفيه، وقلده سيفه، ومنطقته، ووضع على رأسه تاجه، وألبسه سواريه، عند ذلك هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر، لقد تحققت نبوءة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذه النبوءة ليست من عند النبي، إنما هي وحي أوحي إليه، ثم التفت عمر إلى سراقة, وقال:
((بخٍ بخٍ يا سراقة أعرابيٌ من مدلج على رأسه تاج كسرى‍، وفي يديه سواراه، ثم رفع عمرُ رأسه إلى السماء، وقال : اللهم إنك منعتَ هذا المال لرسولك، وكان أحبَّ إليك مني، وأكرمَ عليك، ومنعته أبا بكرٍ، وكان أحبَّ إليك مني, وأكرمَ عليك، وأعطيتنيه، وأعوذ بك أن تكون قد أعطيتنيه لتمكر بي، ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين فقراء المسلمين))
وانتهى الأمر .
هكذا كان أصحاب النبي، وهكذا كان عطاؤهم، وورعهم، وتواضعهم، وهذه بعض الحقائق التي يمكن أن نستنبطها من قصة هذا الصحابي الجليل سراقة ابن مالك .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:14 AM   #22


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثانى و العشرون )

الموضوع : سيدنا ربيعة بن كعب






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
هل أحب ربيعة بن كعب رسول الله وهل هناك دليل عن حبه له ؟
أيها الأخوة الكرام, مع بداية الدرس الثاني والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا ربيعة بن كعب، وكما تعلمون سابقاً أن كل موقف من مواقف الصحابة يعدّ لنا درساً بليغاً، نهتدي به في حياتنا وعلاقاتنا .
فقال ربيعة بن كعب:
((كنت فتى حديث السن، يعني صغير السن، لما أشرقت نفسي بنور الإيمان, -وأنا بفضل الله تعالى أعلق أهمية كبرى على الأخوة الأكارم الشباب، لأن هؤلاء لهم مستقبل كبير، ومن لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة, وريح الجنة في الشباب, وما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب، وإن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب، يقول:
((انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
- قال: كنت فتىً حديث السن لما أشرقت نفسي بالإيمان، وامتلأ فؤادي بمعاني الإسلام، ولما اكتحلت عيناي بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة أحببته حباً ملأ علي كل جارحة من جوارحي .

-أيها الأخوة, إسلام بلا حب جسد بلا روح, لا إيمان لمن لا محبة له, لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له, فالحب أحد أركان الإسلام، ليس بالمعنى الاصطلاحي, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن أنس بن مالك]
وأولعت به ولعاً صرفني عن كل ما عداه، فقلت في نفسي ذات يوم: ما قيمة الحب من غير عمل تقدمه؟ -ما قيمة الحب من غير ترجمة تترجم له؟ ما قيمة الحب من دون شيء يؤكده؟ لما كثر مُدَّعوا المحبة طولبوا بالدليل، ادعاء المحبة سهل جداً، وكل إنسان بإمكانه أن يدعي أنه يحب رسول الله، أو يحب الله, ولما كثرت هذه الدعوى طولب هؤلاء المُدَّعون بالدليل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
(سورة آل عمران الآية: 31)

فقلت في نفسي ذات يوم: ويحك يا ربيعة, لِمَ لا تجرد نفسك لخدمة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ اعرض نفسك عليه, فإن رضي بك سعدت بقربه, وفزت بحبه, وحظيت بخَيْرَي الدنيا والآخرة .
-والخدمة من أجل الأعمال التي يقدمها الإنسان تعبيراً عن حبه وإخلاصه لمن يحب، وهي برهان صادق, لأن المؤمن الموصول بالله سعيد، وكل من خالطه يسعد بقربه، ويسعد بصحبته، فكيف برسول الله؟ كل واحد منا إذا التقى أخًا بالله مؤمنًا خالص الإيمان، صادقاً في إيمانه، له عمله الطيب، يأنس بقربه، ويسعد بصحبته، ويسعد برفقته، هذا مع مؤمن، فكيف إذا التقيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكيف إذا كنت من أقرب الناس إليه؟ إنه شيء مسعد جداً أن تكون مع رسول الله قريبًا منه- .

قال: ثم ما لبثت أن عرضت نفسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجوت أن يقبلني في خدمته فلم يخيب رجائي

وصدق الفرزدق حين قال:
ما قال لا قطّ إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نَعَمُ
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يرفض طلب إنسان إلا إذا كان غير معقول، لذلك هذه أخلاق الله عز وجل، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخلق بأخلاق الله, عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: ((إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا أَوْ قَالَ خَائِبَتَيْنِ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن سلمان]
انظر إلى خدمة ربيعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام :
قال:
((منذ ذلك اليوم ألزمَ للنبي الكريم من ظله, صار خادمًا، -وكلمة خادم للعظماء وسامُ شرف, أما لغير العظماء فهي وصمة عار, ومَلِك يسمِّي نفسه خادم الحرمين, هذا شرف، أما إذا خدمت غنياً ابتغاء ماله, كما قال عليه الصلاة والسلام:
((من دخل إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه))
[أخرجه البيهقي عن ابن مسعود في سننه]
أسير معه أينما سار، وأدور في فلكه كيفما دار, فما رام بطَرْفه مرةً نحوي إلا مثلت واقفاً بين يديه, -كان ذكيًّا لا حاجة أن ينادي له, من نظرة يفهم, الفطِنُ يفهم بالإشارة, وما تَشَوَّف لحاجة من حاجاته إلا وجدني مسرعاً في قضائها .

الحُبُّ إذا نما بين شخصين فهِمَ المحب عندئذٍ على المحبوب خواطرَه قبل أن ينطق بها- قال: وكنت أخدمه نهاره كله، فإذا انقضى النهار وصلى العشاء الآخرة، وأوى إلى بيته، أهم بالانصراف، لكني ما ألبث أن أقول في نفسي: إلى أين تمضي يا ربيعة؟ هل لك مكان أجمل من هذا المكان؟ فلعل تعرض للنبي عليه الصلاة والسلام حاجة في الليل فأجلس على بابه، ولا أتحول عن عتبة بيته .
-إذا أحب الإنسانُ رسولَ الله سعِدَ في الدنيا والآخرة، لأن النبي شفّاف، إن أحببته فحبك له عين حب الله، فليس بينهما انفصال، قال تعالى:
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾
(سورة التوبة الآية: 62)

حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عينُ حب الله، وحبُّ الله عزوجل عينُ حبِّ رسول الله، لو أن إنسانًا قال لك: أنا أحب الله فقط، نقول له: أنت كذاب، لأنّ مَن أحبَّ الله أحبَّ رسولَ الله، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام ليس له ذات يدعو إليها، إنما يدعو إلى الله، وهو يمثل الكمال البشري ، ومن هذا المعنى لو أن إنسانًا لم يطبق سنة النبي، ثم اصطلح مع الله, فإنّ الله لا يقبله إلا إذا اصطلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾
(سورة النساء الآية: 64)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ:
((إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ, فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ, ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا, ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ, وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص]

سيدنا ربيعة يجلس على عتبة باب النبي، فربما اضطجع على عتبة الباب، والأذن تسمع ماذا يفعل النبي في الليل؟ وقد كان عليه الصلاة والسلام يقطّع ليله قائماً يصلي، فربما سمعته يقرأ بفاتحة الكتاب فما يزال يكررها هزيعاً من الليل, -فالإنسان أحيانًا يطرب لآية يعيدها، يعيدها ولا يمل من سماعها، وقد ورد في بعض قصص الصحابة والتابعين أنهم كانوا إذا صلوا قيام الليل ووقفوا عند آية وترنموا بها أعادوها طوال الليل- فهذه إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بفاتحة الكتاب، وما يزال يكررها هزيعاً من الليل حتى أمل فأتركه، أو تغلبني عيناي فأنام, قال تعالى:

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
(سورة المزمل الآية: 20)
وربما سمعته, يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يحمده، فما يزال يرددها أطول من ترديد فاتحة الكتاب
وذات مرة رابعة العدوية ناجت ربها في الليل, وقالت: يا رب أغلقت الملوكُ أبوابَها، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، ثم توجهتْ إلى الله في صلاتها, فإذا انعقدت صلة المسلم بالله عزوجل في جزء من الليل فهو في سعادة ما بعدها سعادة .
أحد كبار العلماء ترك مؤلفات كثيرة، رآه تلميذ له في المنام، قال يا سيدي: ما فعل الله بك؟ قال: يا بني طاحت تلك العبارات، وذهبت تلك الإشارات، ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل، كل مسلم يقدر أن يصلي قيام الليل قبل الفجر إذا هيَّأَ المنبه ليوقظه قبل الفجر بنصف ساعة، وبإمكانه أن يصلي أربع ركعات مثلاً . هل كافأ رسول الله ربيعة على خدمته وما هي المكافأة ؟
أيها الأخوة, وقد كان من عادة رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه ما صنع أحد له معروفاً إلا أحبَّ أن يجازيه عليه بما هو أجلُّ منه, وسقتُ هذه القصة كلها، وأردت منها هذه الفقرة لأبيِّن لكم أخلاق النبي, وليس في الأمر ضريبة الخدمات التي تقدم للنبي، فيعدها النبي ديًان عليه، دققوا في هذه الناحية, النبي وما أدراكم ما النبي؟ سيد الخلق، حبيب الحق، سيد ولد آدم, المعصوم الذي يوحى إليه، قمة البشر إذا قدمت له خدمةً، هل يراها فرضاً عليه؟ هل يراها ضريبة يجب أن يؤديها؟ أما النبي كان يرى خدمة ربيعة له ديناً عليه .

يا أيها الأخوة الأكارم, أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني لتوضيح هذه الحقيقة, لن يرضى الله عنك إلا إن قُدِّمتْ لك خدمة يجب أن تراها دينً عليك، ويجب ألاَّ تنساها حتى الموت، وإن قدمتَ خدمة لأحدٍ فينبغي أن ترى أن تقديم هذه الخدمة من فضل الله عليك، ويجب أن تنساها فورا, وإن قدمتَ خدمة ينبغي أن تراها فضلاً من الله ساقها إليك, لأنه سمح لك أن تفعل هذا, فهل هناك من دليل يؤكد هذه الحقيقة؟ الدليل: عندما سيدنا موسى سقى للمرأتين تولى إلى الظل, قال تعالى:
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
(سورة القصص الآية: 24)
فإذا تكلم أحدكم عن الله عزوجل، وأجاد، فينبغي أن يذوب شكراً لله أن أطلق لسانه، وسمح له أن يكون داعية إلى الله عزوجل, فإذا وفقت إلى عمل صالح لا ينبغي أن تُدلَّ به على أحد، بل ينبغي أن تشكر الله عزوجل أن سمح لك بفعله, و قيض لك مالاً تنفقه, و صحةً تبذلها .
قال ربيعة:
((وقد أحبَّ النبي أن يجازيني على خدمتي له، فأقبل عليَّ ذات يوم، وقال: يا ربيعة بن كعب، قلت: لبيك يا رسول الله، وسعديك، -وبالمناسبة فإنّ النبي الكريم مرةً طرق باب أحد أصحابه فما ردَّ عليه، ثم قال: يا فلان، فما أجابه أحد، وفي المرة الثانية لم يردَّ عليه أحد، وكذا في الثالثة، فانطلق, ثم فُتِح الباب بعد أن انطلق، ولحقه الصحابي الجليل ليستقبله, فقال له: لمَ لمْ تردَّ عليَّ؟ فقال: والله يا رسول الله, كنت حينما أسمع صوتك يناديني أشعر برحمة تتغّشى قلبي ، فأردت أن أسمعها مرة ثانية وثالثة، إنه شيء يذيب القلب، نبي كريم، سيد الخلق, يقول لك: يا فلان, ويناديك باسمك، فهذه سعادة- .
قال: سلني شيئًا أعطِه لك, أنت خدمتنا, اطلب مني حاجة, تروّيتُ قليلاً، ثم قلت: أمهلني يا رسول الله, لأنظر فيما أطلبه منك، ثم أعلمك, -كان ذكيًّا جداً، فأَحبَّ أن يستغل هذا الطلب إلى أبعد الحدود، وأحب أن يفكر، والأذكياء دائماً، والناجحون في حياتهم لا يتخذون قراراً سريعاً, هل تقبلون هذه النصيحة؟ إنْ أغضبك أحدٌ فلا تتخذ أي قرار وأنت غاضب، قل: سأتخذ قراري بعد أسبوع، فتجد نفسك بعد أسبوع إنسانًا هادئًا، ونفسك سمحت وعفت, فأي قرار تتخذه وأنت غاضب فهو قرار فيه خطأ، أو فيه تسرع، أو فيه حمق، أو فيه عدم نضج، وأي طلبٍ طُلِبَ منك فخذ مهلة بالمقابل, وإذا أردت إنفاذ أمر فتدبَّرْ عاقبته، وكلما زدت الأمرَ فكراً زدت رؤية صحيحةً، وأصحُّ قرارٍ تتخذه هو القرار الذي تتخذه وأنت هادئ النفس، وقد جمعت المعلومات الضرورية حوله- .

فقال عليه الصلاة والسلام: لا بأس عليك, وكنت يومئذ شاباً فقيراً لا أهل لي ولا مال ولا سكن, وإنما كنت آوي إلى صفة المسجد، -فإذا أكرمَ الله أحدَنا بزيارة الروضة الشريفة فلينظرْ خلف الروضة، ترى في المسجد الأموي منصة مرتفعة، وفي أثناء الاحتفالات يجلس عليها كبار الضيوف، ففي الحرم النبوي الشريف منصة مرتفعة، وهذا المكان كان مكان أهل الصُّفة، وهم فقراء المسلمين، هناك يجلسون وهناك ينامون- .
وإنما كنت آوي إلى صفة المسجد مع أمثالي من فقراء المسلمين، وكان الناس يدعوننا بضيوف الإسلام, فإذا أتى أحد المسلمين بصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها كلها إلينا ؛ -ولي تعليق لطيف, فبعض الأشخاص يظنون أن صلة الرحم أن تكتفي بزيارة أقاربك, الأقارب الفقراء ليس معنى صلتهم أن تزورهم، معنى صلتهم أن تهديهم، وتقدم لهم هديةً, أن تدخل عليهم ويدُك ملأى ببعض الحاجات، هذه هي الصلة- فكان المسلمون يأتون بالصدقات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عليه الصلاة والسلام يدفعها كلها إلى صُفّة المجلس -وكان النبي بأعلى درجات الورع، ولقد قرأت مرةً أن الوحي انقطع عنه قليلاً، فحار في هذا الانقطاع, فقال للسيدة عائشة:

((لعلها يا عائشة تمرة أكلتها من تمر الصدقة))
لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام لا يأكل الصدقة أبداً, أما الهدية فيأكل منها، ويهدي بعضها, وإذا أهدى له أحد هدية أخذ منها شيئاً، وجعل باقيها لنا, أخذ حاجته، والباقي أعطاه لفقراء المسلمين- فحدثتني نفسي أن أطلب من النبي عليه الصلاة والسلام من خير الدنيا, يزوجني ، وأطلب بيتًا، وأغتني به من فقر، وأغدو كالآخرين ذا مال وزوج وولد, لكني ما لبثت أن قلت: تباً لك يا ربيعة بن كعب، إنّ الدنيا زائلة فانية، وإنّ لك فيها رزقاً كفله الله عزوجل، فلا بد أن يأتيك، والنبي عليه الصلاة والسلام له منزلة عند ربه، فلا يرد معها طلب، فاطلب منه أن يسأل الله لك من فضل الآخرة, -انظروا إلى العقل الراجح- ثم جئت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي : ما تقول يا ربيعة؟ قلت يا رسول الله: أسألك أن تدعو لي الله سبحانه وتعالى أن يجعلني رفيقاً لك في الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: من أوصاك بذلك؟ قلت: لا، والله ما أوصاني به أحد، ولكنك حينما قلت لي: سلني أعطك، حدثتني نفسي أن أسألك شيئاً من خير الدنيا، ثم ما لبثت أن هديت إلى إيثار الباقية على الفانية، فسألتك أن تدعو الله لي أن أكون رفيقك في الجنة, فصمتَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام طويلاً، ثم قال: أَوَ غيرَ ذلك يا ربيعة؟ -أحيانا يقدم لك شخصٌ خدمة كبيرة جداً، تقول له: ماذا تطلب؟ فيقول لك: ادعُ لنا, فتقول: وفّقك الله، لا تقل له ذلك، فالدعاء وارد، ونريد شيئًا آخر، لا تقبل بخدمة ثمينة إلاّ غاية ثمينة، أمّا دعاؤك فلعله وارد منه بصورة عفوية .

عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ, وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ, وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ, وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ))
[أخرجه النسائي في سننه عن ابن عمر]
علَّمنا النبيُّ أن نقدِّم مقابلَ كل خدمة خدمة, ومقابل كل هدية هدية، وكل معروف معروفاً، لئلا نمنع الماعون، هؤلاء الذين لا يردون على الهدية بمثلها يمنعون الماعون، ولنَعُدْ إلى ربيعة- قلت: لا يا رسول الله، فما أعدل بما سألتك شيئاً, ما أريد إلا الذي سألتك, فبماذا أجاب النبي؟ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ, قَالَ:
((كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ, فَقَالَ لِي: سَلْ, فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ, قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ, قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ, قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن ربيعة بن كعب الأسلمي]

-طلبتَ شيئاً عظيماً, وقد كنتُ أوضِّحُ هذا بمثل: ملِك له ابن، قال له: اطلب يا بني, فإذا قال له: أريد قصرًا، فالقصر شيء سهل, فقال له ذات مرة: أرغب أن أكون أستاذ جامعة, قال له : هذه عليك، وليست عليّ, فكل شيء ممكن إلا هذه, إذا أردت هذا المنصب العلمي فادرس إذاً, الفكرة دقيقة .
فَكِّرْ في الكون كثيراً، عمِّق إيمانك، تعرَّف إلى الله عز وجل، استقِمْ على أمره، ابذلْ من مالك، ومن وقتك، ارتقِ في معرفة الله حتى تستحق هذا المقام- .
قال ربيعةُ:
((فجعلت أدأب بالعبادة حتى أحظى بمرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة, كما حظيت بخدمته وصحبته في الدنيا))
إنه طمِعٌ, قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
(سورة المطففين الآية: 26)
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
(سورة الصافات الآية: 61)
ما هي المكافأة المادية التي عرضها رسول الله على ربيعة ؟
قال:
((ثم إنه لم يمض على ذلك وقت طويل حتى ناداني رسول الله عليه وسلم -إذْ لم يقبل مقابل خدمة مادية إلا أن يكافئه عليها بخدمة مادية, استنباط آخر, غِناه في قلبه, من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً- قال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قلت: لا أحب أن يشغلني شيء عن خدمتك يا رسول الله, -وفي حديث يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
((جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ, وَقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه عن يعلى العامري]
ثم إنه ليس لي ما أمهر به الزوجة, فسكت عليه الصلاة والسلام, ثم رآني ثانية، فقال: يا ربيعة ألا تتزوج، فأجبته بمثل ما قلت له في المرة السابقة، لكني ما إن خلوت إلى نفسي حتى ندمت على ما كان مني، وقلت: ويحك يا ربيعة, فو اللهِ إنّ النبي لأعلمُ منك يا ربيعة بما هو أصلح لك في دينك ودنياك، وأَعْرَفُ منك بما عندك، واللهِ لأن دعاني النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه المرة للزواج لأجيبنَّهُ, ثم لم يمض على ذلك طويل وقت حتى قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ربيعة، ألا تتزوج، للمرة الثالثة,-انظر إلى حرص النبي على أصحابه، وعلى استقرارهم, وعلى سعادتهم, وعلى طمأنينتهم, هو أب وأرقى من أب, أرحم الخلق بالخلق- .

قلت: بلى يا رسول الله، أريد أن أتزوج، ولكن من يزوجني وأنا كما تعلم؟ فقال: انطلق إلى آل فلان، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة, فأتيتهم على استحياء, فهل من المعقول أن يزوِّجوني وأنا لا أملك شيئًا؟ وقلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة, قالوا: فلانة, -ويبدو أنها على مستوى رفيع جداً- قلت: نعم على استحياء، ولم يرتفع صوته, قالوا: مرحباً برسول الله، ومرحباً برسول رسول الله, والله لا يرجع رسولُ رسولِ الله إلا بحاجته, وعقدوا لي عليها، فأتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قلت له : يا رسول الله، لقد جئت من عند خير بيت، وزوجوني .
-أعجبني مرة في عقد قران حيث ما قدمت قطعة ذهبية أو غيرها إطلاقاً، وقام خطيب الحفل، وقال: مجموع هذه الهدايا زوَّجْنا بها شاباً فقيراً, أخ كريم من أخوانا ذهب إلى أمريكا لإجراء عملية في قلبه، وصدفةً كان الطبيب من هذه البلدة، فلما رآه أخًا له من بلدته أكرمه إكراماً ما بعده إكرام، وأجرى له عملية بالغة التعقيد، والعجيب أنه رفض أن يأخذ قرشاً واحداً, هذا الذي ذهب رجل ميسور الحال، قال له: أنا ميسور الحال، ولا أقبل بهذا، فقال الطبيب: هذه العملية هدية لك، ثم عاد إلى الشام، والمبلغ الذي كان مقرَّرًا أن يدفعه لهذا الطبيب الذي أجرى عمليته رصده لعملية قلب لفقير، وأرسل للطبيب في أمريكا صورة لهذا الفقير الذي أجريتْ له العملية، وأن هذا الأجر الذي لم تأخذه أنت خصَّصتُه أنا لإنقاذ رجل أصيب قلبه، وهو فقير، ولا يملك أجر علاجه ، وهذا شيء جميل حقًّا .
قال العلماء: سعيد بن المسيب من كبار التابعين، خطب ابنتَه عبدُ الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك الذي أنشأ مسجد بني أمية، فرفض سعيد الخطيب، وعنده تلميذٌ فقيراً جداً، غاب درسين، فلما تفقده أخبره قائلاً: زوجتي توفيت يا سيدي، فقال له: لمَ لمْ تعلمنا فنعزيك؟ أفتريد زوجة؟ قال له: نعم، ولكني فقير، فقال سعيد: أزوَّجك ابنتي، فهذا التلميذ الفقير لا يملك من حطام الدنيا شيئاً, طبعاً وافق، ولكن دخل في همٍّ كبير، ولكن في الليلة نفسها قرع الباب، فقلت: من الطارق؟ قال: سعيد، فقال: خطر في بالي أربعون سعيداً إلا سعيد بن المسيب، لأنه من أربعين عاماً ما خرج عن خط واحد, من البيت إلى مجلس القضاء
فلما فتحت الباب رأيت شيخي سعيد بن المسيب، ووراءه ابنته، فدفعها إليَّ, في يوم واحد تمَّ العقد ثم الزواج، وكلما عقَّدْنا الزواج في زماننا يكثر السفاح, وكلما سهَّلنا الزواج قلَّ السفاح, النكاح يرضي الله، والسفاح يغضبه, ليس الآن مِن عمل عظيم كأن تسهِّل إجراءات الزواج، غرفة تكفي مبدئياً, ولا داعي للحلي الثمينة، فقد سمعت بقريةٍ في الريف، واللهِ أنا أكبرتُ عملهم, اجتمع وجهاؤها، وقرروا أنَّ أيَّ شاب يخطب امرأة يقدم خاتم سحب، وساعة فقط، هذا هو المصاغ الذي يقدم فقط، وهذا تسهيل كامل وأعظم النساء بركةً أقلهن مؤونةً, وأعظم النساء بركة أقلهن مهرا, إنّ عقود القِران التي يبالغ بالبذخ فيها لا يسعد بعدها الزوجان في أغلب الأحيان، والعقود المتواضعة ترى بعدها الزواج قطعة من الجنة-

قال ربيعة: صدَّقوني، ورحَّبوا بي، وعقدوا لي على ابنتهم، فمِن أين آتيهم بالمهر يا رسول الله؟ فاستدعى النبي بريدة بن الحصيب، وكان سيداً من سادات بني أسلم، وقال له: يا بريدة, اجمع لربيعة وزن نواة ذهباً، فجمعوها لي, فقال لي عليه الصلاة والسلام: اذهب بهذا إليهم ، وقل لهم: هذا صداق ابنتكم, -وهكذا التعاون، فإذا كانت مجموعة المؤمنين في ولاء وفي محبة أمكن ذلك, هذا ابن أخيك، وأنت ميسور، ادفع له المهر لزواجه، وهكذا مجتمع المؤمنين، قال تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
(سورة المائدة الآية: 2)

فأتيتهم ودفعته لهم، فقبلوه، ورضوا به، وقالوا: كثير طيب, -هذه العادة سيِّئة, أنّ كل شيء قدِّم لك تسأل عن سعره، فأنت إنسان مادي، فمن جاءك ورضيت دينه وخلقه ففيه الخير فارض به- .
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: ما رأيت قوماً قط أكرم منهم، فلقد رضوا ما أعطيتهم على قلته، وقالوا: كثير طيب، فمن أين ما أولم به؟ -والوليمة من السنة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبريدة: اجمعوا لربيعة ثمن كبش, فابتاعوا لي كبشاً عظيماً سميناً, فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة، وقل لها: أن تدفع لك ما عندها من الشعير, فأتيتها, فقالت: إليك المكتل، ففيه سبعة آصع, لا، والله ما عندنا طعام غيره, فمن عند رسول الله الشعير، ومِن بريدة الكبش والمهر .
فانطلقتُ بالكبش والشعير إلى أهل زوجتي، فقالوا: أما الشعير فنحن نعدُّه، وأما الكبش فأْمُرْ أصحابك أن يعدُّوه لك، فأخذتُ الكبشَ أنا وأناسٌ من أسلم وذبحناه، وسلخناه، وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب دعوتي))
إليك هذا الموقف لربيعة علام يدل ؟
قال:

((ثم عليه الصلاة والسلام منحني أرضاً إلى جانب أرض أبي بكر، فدخلتْ عليَّ الدنيا, حتى إني ذات مرةٍ اختلفت مع أبي بكر رضي الله عنه على نخلة، فقلت: هي في أرضي، فقال: بل هي في أرضي, فنازعته، فأسمعني كلمة، فلما بدرت منه الكلمة ندم، وقال: يا ربيعة رُدَّ عليَّ بمثلها، حتى يكون قصاصاً، فقلت: لا والله، لا أفعل، فقال: إذاً آتي رسول الله، وأشكو له امتناعك عن القصاص مني، وانطلق إلى النبي فمضيتُ في إثره، فتبعني قومي بنو أسلم، وقالوا: هو الذي بدأ بك، ثم يسبقك إلى رسول الله فيشكوك, فالتفتُّ إليهم، وقلت لهم: ويحكم أتدرون من هذا؟ هذا الصديق، وذو شيبة المسلمين، ارجعوا قبل أن يلتفت فيراكم، فيظن إنما جئتم لتعينوني عليه، فيأتي رسولَ الله فيغضب النبيُّ لغضبه، ويغضب اللهُ لغضبهما فيهلك ربيعة, -يعرفون مقام بعضهم- ثم أتى الصديقُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وحدثه الحديث كما كان، فرفع النبي رأسه إلي, وقال: يا ربيعة, مالَك وللصديق؟ فقلت له: يا رسول الله, أراد مني أن أقول له كما قال لي، فلم أفعل, فقال : نعم، لا تقل له كما قال لك .
-لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل- و لكن قل: غفر الله لأبي بكر, فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فمضى وعيناه تفيضان من الدمع, وهو يقول: جزاك الله عني خيراً يا ربيعة بن كعب, جزاك الله عني خيراً يا ربيعة بن كعب))

خلاصة القصة :
هذا سيدنا ربيعة بن كعب، صحابي جليل من أصحاب رسول الله، كان فقيراً، وقد أكدتْ هذه القصةُ أشياءَ كثيرة، يمكن أن نلخصها بسرعة:

1- إذا قُدِّمتْ لك خدمة فينبغي أن تراها قرضاً أو دينًا، ينبغي ألاَّ تنساها, وإذا قدَّمتَ خدمة فهي من فضل الله عليك، وينبغي أن تنساها .
2- إذا لم يتمكن الإنسانُ أن ينفق من ماله ولا من قوته يمكنه أن يقدم خدمات، أعرف شخصًا يحب أن يخدم المسجد، وينظِّف سجاده، واللهِ هذا عمل عظيم، وإذا أعان أخوانه فهذا عمل جليل, ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
3- هذا الخيرُ لا يأتيك إلا بجهدك، قال تعالى:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾
(سورة النجم الآية: 39)
4- التأدب مع الأولياء, فهذه هي القصة، واللهُ أعلم أنها صحيحة، فموقف سيدنا ربيعة كامل .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نستفيد من هذه القصص, وأن تنعكس على حياتنا سلوكاً وسعادةً, لأن هذه المعلومات لا قيمة لها كمعلومات إلا أن تترجم إلى وقائع .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:16 AM   #23


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثالث و العشرون )

الموضوع : سيدنا نعيم بن مسعود



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
بماذا كان يتصف نعيم بن مسعود في جاهليته الأولى ؟
أيها الأخوة الكرام, مع بداية الدرس الثالث والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا نعيم بن مسعود، مرة بعد مرة أوضح لكم أن وقائع هذه السير ربما كانت معروفة عندكم, إلا أن محور هذه الدروس أن نستنبط منها حقائق وأساليب وطرائق تعيننا على تعاملنا مع الله أولاً، ومع مَن حولنا ثانياً، فالعبرة في التحليل.

هذا الصحابي الجليل يتمتع بقدْرٍ عالٍ جداً من الذكاء, واخترتُ هذا الصحابي لأبيِّن لكم أنه يمكن أن يوظَّف الذكاء في سبيل الحق, ربما كانت معركة الخندق والنصر الذي حصل فيها، ربما في جزء كبير منه يرجع الفضل فيه إلى هذا الصحابي الجليل لذكائه الذي استخدمه في سبيل الحق، فما أكبَرَ خسارة ذلك الإنسان العاقل الذكي الذي يوظف ذكاءه للإيقاع بين الناس، أو لجمع الدرهم و الدينار، أو لاقتناص المناسبات، ويأتي يوم القيامة صفر اليدين .

هذا الصحابي الجليل كان فتىً يقظَ الفؤاد، ألمعي الذكاء، خرّاجًا ولاّجًا, وهو تعبير يشفُّ عن مرونته، وعن ذكائه الاجتماعي, مرة سأل معاويةُ بن أبي سفيان عمرَو بن العاص وكانا من دهاة العرب، قال يا عمرو:

((ماذا بلغ من دهائك, قال: واللهِ ما دخلتُ مدخلاً إلا أحسنت الخروجَ منه، فقال يا عمرو: لست بداهية، أمّا أنا فو اللهِ ما دخلتُ مدخلاً أحتاج أن أخرج منه))
وكان خراجاً ولاجاً، لا تعوقه معضلة، ولا تعجزه مشكلة، متَّقدَ الذكاء, بالتعبير الحديث , الخط العريض في المجتمع مَن يتمتع بدرجة ذكاء تساوي مئة، والمئة تساوي المتوسط، والعباقرة درجتهم بالذكاء تزيد عن مئة وأربعين
لكن هذا الحظ من الذكاء قد يؤدي بصاحبه إلى أعماق جهنم مرة بعد مرة, والحظوظ التي تنالها من الله إمّا أنها درجات إلى الجنة، وإما أنها دركات إلى النار, بالصوت الحسن قد تقرأ القرآن، وقد تغني, والمهارات بأنواعها قد توظفها في الحق أو بالباطل .
هذا الصحابي الجليل يتمتع بصحِة حدث، وسرعة بديهة، وشدة دهاء، ولكنه كان في الجاهلية صاحب صبوة، وخَدِين متعة، وكان يَنشُدُهما أكثر ما يَنشُدُهما عند يهود يثرب, وسوف ترون كيف أنّ المؤمن إذا تعرف إلى الله أقل ما يقال بأنه غَيَّر سلوكَه مئة وثمانين درجة؟ رجُل بْسطٍ, رجل شراب, رجل نساء, كان ينشد هذه المتعة عند يهود يثرب في المدينة، هذا في الجاهلية، ولكن ما قولكم: إنّه من رحمة الله تعالى أنْ فتح باب التوبة لعباده، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
(سورة الزمر الآية: 53)
باب التوبة مفتوح على مصراعيه, كان كلما تاقت نفسه لقينة، أو هفَّ سمعه لوتر شدّ رحاله من منازل قومه في نجد، ويَمَّمَ وجهه شطر المدينة، حيث يبذل المال ليهودها بسخاء، ليبذلوا له المتعة بسخاء أكثر, هذه صفحة من جاهليته, ومن هنا كان نعيم بن مسعود كثير التردد على يثرب، وثيق الصلة بمَن فيها من اليهود، وبخاصة بني قريظة, هذا قبل أن يسلم .
ما سبب إعراض نعيم عن رسالة الإسلام ؟
لما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام إلى العالمين، أعرض هذا الصحابي عن الدين الجديد أشد الإعراض، خوفاً من أن يحول هذا الدين بينه وبين متعه وملذاته.
هذا الوهم الكبير الذي عند معظم الناس أنه إذا تديَّن فسوف يحرم من مباهج الحياة, من متع الحياة, من الملذات, ومن المسرات, ومن السهرات المختلطة, ومن النزهات, من السهرات الصاخبة، هكذا يتوهم بعضهم، ولو علم هؤلاء المتوهمون أن في الدين سعادةً لا تعدلها سعادة، ولو اطلع عليها الملوك لقاتلوا عليها أهلها، ولكنهم لا يعلمون, فقد تستمتع بشيء منحه الله بعض الجمال، فكيف إذا أقبلت على منبع الجمال؟ أبيت عند ربي يطعمني ويسقين, صدق القائل:
لو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيــــرنا

هذا الصحابي وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام شاء أو أبى إلى خصوم الإسلام, والإنسان لا يستطيع أن يخفي هويته دائماً، فأحياناً تضعه الظروف في مواقف حرجة، فإن لم يعلنها مدوية أنه مسلم، فسوف يجر إلى مواقف محرجة جداً، كثير من الأشخاص يعتذر عن شرب الخمر، ويقول: يصيب معدتي منها حموضة, لا هذه فلسفة فارغة, أنا مسلم لا أشرب الخمر
لأنك إذا امتنعت عن معصية لأسباب غير دينية، لم تكن داعية إلى الله عزوجل, أما إذا امتنعت عن معصية لأسباب دينية، فلعل الناس يقتدون بك, ويرونك مثلاً أعلى، لا تَخَفْ، فكلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً .
أيها الأخوة أتمنى على الله عزوجل أن تضعوا أيديكم على هذا الموقف الخطير, لحظة تفكير سليمة, محاكمة منطقية, مراجعة مع نفسه, تأمل دقيق, تبَصُّر عميق, لقد استخدم عقله، وحقَّق كل سعادته في الدنيا وفي الآخرة، بفضل هذه المحاكمة, فلا ينبغي للإنسان أن يمضي مع الحياة دون تأمل, دون توقف, دون تبصر, ودون مراجعة .
هذا الصحابي في غزوة الأحزاب فتح صفحة جديدة في علاقته بهذا الدين، ووقف موقفًا لا ينسى, إن صح التعبير وقف موقفاً تاريخياً, لأن التاريخ سجله له، وكل سعادتك أحياناً سببها تفكير صحيح، ومحاكمة منطقية، وإعمال العقل . ماذا أعدت تلك الطائفة من يهود بني النضير لحرب النبي ورسالته ؟
أنا أبحث عن قصة لهذا الصحابي يرويها هو عن نفسه، فهذا الصحابي ما الموقف الذي وقفه؟ لا بد من تمهيد لهذا الموقف بما يسمى بفرش تاريخي .
قبيل غزوة الأحزاب بقليل هبَّت طائفة من يهود بني النضير في يثرب، وقام زعماؤها يُحزِّبون الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، والقضاء على دينه, فقدموا على قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، وعاهدوهم على الانضمام إليهم عند وصولهم إلى المدينة، وضربوا لذلك موعداً لا يخلفونه، ثم تركوهم، وانطلقوا إلى غطفان في نجد، قوم نعيم بن مسعود، فأثاروهم ضد الإسلام ونبيه، ودعوهم إلى استئصال الدين الجديد من جذوره، وأسرُّوا بينهم بما تم بينهم وبين قريش، وعاهدوهم على ما عاهدوهم عليه، وآذنوهم بالموعد المتفق عليه، فما الذي حصل؟ .
خرجت قريش بقضها وقضيضها، وخيلها ورَجِلها, بكل ما تملك، وبكل وزنها، وبكل ثقلها ، وكل طاقاتها، بقيادة زعيمها أبي سفيان بن حرب متجهةً شطر المدينة، كما خرجت غطفان من نجد بعدتها وعددها، بقيادة عيينة بن حصين الغطفاني زعيمها، وكان في طليعة رجال غطفان نعيم بن مسعود صاحب هذا الدرس .
ماذا فعل النبي حينما سمع بهذا الخبر ؟
فلما بلغ النبيَّ نبأُ خروجهم جمع أصحابه، وشاورهم في الأمر، فقرَّ قرارُهم على أن يحفروا خندقًا حول المدينة، ليصدوا عنها هذا الزحف الكبير الذي لا طاقة لها به, فغزوة الخندق كانت زلزلة شديدة للمؤمنين، قال تعالى:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 11)
هذا أسلوب اسمه الفرزُ العلمي, فمن غير امتحان الناس كلهم متشابهون, وبالامتحان يفرز الناس, بين صادق، وبين رجل أقل صدقاً، وبين رجل خائف، ورجل كاذب منافق، والحدث هو الذي يفرز, والواقع أنّ رجلاً منافقًا, قال: أيَعِدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، و أحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته, لكن كما قال الله عز وجل:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 23)
إليكم نقض بني قريظة العهد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة, ما كاد الجيشان الزاحفان من مكة ونجد يقتربان من مشارف المدينة حتى مضى زعماء بني النضير إلى زعماء بني قريظة القاطنين في المدينة، وجعلوا يحرضونهم على الدخول في حرب النبي، ويحضونهم على مؤازرة الجيشين القادمين من مكة ونجد، فقال لهم زعماء بني قريظة: لقد دعوتمونا إلى ما نحبُّ ونبغي، ولكنكم تعلمون أن بيننا وبين محمدٍ ميثاقاً, على أن نسالمه ونوادعه لقاء أن نعيش في المدينة آمنين مطمئنين، وأنتم تدرون أن مداد ميثاقنا له لم يجفَّ بعد, معاهدة مغلظة, ومداد المعاهدة لم يجف بعد، فكيف نخون محمدًا؟ نخشى إذا انتصر محمد في هذه الحرب أن يبطش بنا بطشة جبارةً، وأن يستأصلنا من المدينة استئصالاً، جزاء غدرنا به، لكنَّ زعماء بني النضير ما زالوا يغرونهم بنقض العهد، ويزيِّنون لهم الغدر بمحمد، ويؤكدون لهم بأن الدائرة ستدور على المسلمين في هذه المرة لا محالة، ويشدون عزمهم بقدوم الجيشين الكبيرين, فما لبثت بنو قريظة أن لانت، ونقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبينه، وأعلنوا انضمامهم إلى الأحزاب في حربه . إليكم حال المسلمين في غزوة الأحزاب أو الخندق :
أيها الأخوة, فوقع الخبر على المسلمين وقوع الصاعقة، قال تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾
(سورة الأحزاب الآية: 10)
النبي عليه الصلاة والسلام يواجه الأحزاب خلف الخندق، وخلفه في المدينة نقض اليهود عهدهم، وأصبح محاصرًا, وصدِِّقوا أيها الأخوة أن الإسلام بتقدير الخبراء قد انتهى, لم تنته المعركة فحسب، بل الإسلام انتهى بتقديرهم، وهذه الحرب كان هدفها القضاء على الإسلام كلياً، لأنها حرب إبادة، فهؤلاء المسلمون يجب أن يبادوا عن بكرة أبيهم, هنا عظمة الدين، وهذا دين الله عزوجل, وزوال الكون أهون من أن يزول هذا الدين، وهذا الدين كلما ضُغِطَ عليه قويَ، لأن الله معه .

حاصرت جيوشُ الأحزاب المدينةَ، وقطعت عن أهلها الميرة والقوت، وشعر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع بين فكي كماشة، بالتعبير الحديث, فقريش وغطفان معسكرون قبالة المسلمين خارج المدينة، وبنو قريظة متربصون متأهلون خلف المسلمين داخل المدينة, وعندك الطابور الخامس، هؤلاء هم المنافقون ضمن المدينة، وهم عند المسلمين مسلمون، لكنهم منافقون حقًّا، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أخذوا يكشفون عن مخبآت نفوسهم، ويقولون: كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر، وها نحن اليوم لا يأمن الواحد منا على نفسه أن يذهب إلى بيت الخلاء ليقضي حاجته, رجل موعود أن يفتح أمريكا والشرق كله، ووجد نفسه محاصرًا في بيته, أين يا سراقة؟ كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ والإسلام في نظر أعدائه بقي موضوع ساعات, ساعات وينتهي الإسلام, أنت أحيانًا تمر باختناق في حياتك, وأنت كمؤمن تمر باختناق شديد، قال تعالى:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
(سورة آل عمران الآية: 146)
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
(سورة هود الآية: 49)
لكنَّ الإيمان ألاَّ تقنط من رحمة الله, وألاّ تيأس من رحمة الله، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾
(سورة يوسف الآية: 110)

ربنا عزوجل يؤخر النصر، وبهذا التأخير تنكشف النفوس كلها, ثم طفق المنافقون ينفضون عن النبي جماعة إثر جماعة، بحجة الخوف على نسائهم وأولادهم وبيوتهم من هجمة يشنها عليهم بنو قريظة, قال تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 13)
حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى بضع مئات من المؤمنين الصادقين, عشرة آلاف مقاتل حول المدينة، وبنو قريظة بأكملها نقضت عهدها، وهي وراء ظهر النبي، والمنافقون يثبطون العزائم، ويحبطون المساعي, أعتقد أنه ما مرت الدعوة الإسلامية بمأزق أشد من هذا المأزق، قال تعالى:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 11)

وفي ذات ليلة من ليالي الحصار الذي دام تقريبًا عشرين يوماً لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وجعل يدعوه دعاء المضطر، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى, قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ, فَقَالَ:
((اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ))
[متفق عليه، أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
يا أيها الأخوة, تعلموا هذا السلوك من رسول الله، كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة ، والإنسان المسلم إذا وقع في مشكلة، أو في ورطة كبيرة، أو في مأزق حرج، وغلا دمه في عروقه فعليه أن يلجأ إلى الله, وأنا أنصح نصيحة مشابهة, إذا حزبك أمر فبادرْ إلى ركعتين قبل الفجر، لأن الله عزوجل يقول: ينزل إلى السماء الدنيا، كما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة]
إليكم قصة إسلام نعيم بن مسعود بعد تفكير عميق وتأمل :
نعيم بن مسعود مع معسكر الكفار والمشركين، أحد زعماء غطفان وهو مستلقٍ على فراشه في الخيمة، يتقلب على مهاده أرقاً، كأنما سمر جفناه، فما ينطبقان لنوم، فجعل يسرح ببصره وراء النجوم السابحة على صفحة السماء الصافية، ويطيل التفكير، وفجأةً رأى نفسه تسأله قائلةً:
((ويحك يا نعيم, -هذا هو الحوار الداخلي- ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب هذا الرجل، ومن معه؟ هل هي حرب مقدسة، أم حرب قذرة؟ فأنت لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب، ولا حمية لعرض مغصوب، وإنما جئت لتحاربه لغير سبب معروف ))
-لا تكن أحدكم إمعة، وتقول: أنا مع المجموع, لعل المجموع على خطأ, أنا مع أهلي, لعل أهلك على خطأ, أنا مع أبناء الحي، ولعل أبناء الحي على خطأ, أنا مع أصدقائي لعلهم على خطأ , لا تكن أحدكم إمعة، وتكن أداة رخيصة، ولا تكن منديلاً تُمسَح به أقذر عملية، ثم يرمى, لا تكن كذلك، لا تكن أداةً, لا تكن صنيعةً, لا تكن وسيلة، بل كن حراً تتحرك من قناعتك، وتتحرك بوحي من إيمانك, وبوحي من عقيدتك, تحرَّكْ بوحي من الحق والإنصاف، ولا تكن رقمًا مع الأرقام، ولا تكثر سواد الباطل .

الإنسان أحيانا ينجرُّ إلى معاداة أهل الحق انجرارًا، وله أخ مثلاً متفوق عليه بالدراسة ، ولهذا الأخ شيخ، فحسده، وأكل قلبه اتجاه أخيه، مما جعله يبغض شيخه، فيسوق القصص الواهية، ويطعن فيه، ويسخر منه من دون أن يدري ماذا يفعل؟ فلا تكن إمّعة- .
قال: إنك لا تحاربه انتصارًا لحق مسلوب، أو حمية لعرض مغصوب، وإنما جئت تحاربه لغير سبب معروف, أيليق برجل له عقل مثل عقلك أن يقاتل فيقتل، أو يقتل لغير سبب؟ -ومن علامات قيام الساعة موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لِمَ يقتل، ولا المقتول لما قُتِل, وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ, وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة]

لا يوجد سبب- ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح, ولم يعرِّفه بنبيّ ، الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟ ويحك يا نعيم, ما الذي يحملك على أنْ تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق, -هذه المناقشة التي كانت سبب سعادته إلى أبد الآبدين, وأنا أقسم لكم أن أناسًا كثيرين ماتوا على الشرك، لا لأنهم كانوا فعلاً مشركين، إلا أنهم كانوا مع أتباعهم هكذا, لم يفكر، وإنما يعيش مع المجموع، ومع التيار العام، فسق على فسق, ولم يحسم هذا الحوار العنيف بين نعيم ونفسه إلا القرار الحازم الذي نهض من توئه لتنفيذه .

أنت عندك إمكانية أن تتخذ قرارًا حازمًا, يا رب أعاهدك على طاعتك مهما كلف الثمن , لك مهنة لا ترضي الله، فعليك أن تستقيل منها سريعًا, لك تصرف ليس في صالح الشرع، فلتنزع عنه مباشرة- .
تسلل نعيم بن مسعود من معسكر قومه تحت جنح الظلام، ومضى يحث الخطى إلى النبي صلى الله عليه وسلم, مشرك مع الأعداء جاء ليقاتل المسلمين، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ماثلاً بين يديه, قال:
((نعيم بن مسعود! قال: نعم يا رسول الله, قال: ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال يا رسول الله: جئت لأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله, وأنّ ما جئتَ به الحق، ثم أردف يقول: لقد أسلمت يا رسول الله))
ما هي الوظيفة التي كلفها رسول الله لنعيم ؟
قال:
((لقد أسلمت يا رسول الله، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمُرْني بما شئت, -كنت أقول لكم دائماً: الإيمان ما إن يستقر في قلب المؤمن حتى يعبِّر عن نفسه بالحركة, ليس هناك مؤمن سلبي, المؤمن إيجابي، ويدعو إلى الله، والمؤمن يعطي من كل شيء, فالإيمان أساسه العطاء، وأن يعطي من كل شيء عنده, فكل إنسان يدَّعي أنه مؤمن، ولو فرضنا أنه بقي في مكانه وآمن, أنا أمنتُ، والدين معقول، وأنا يجب أن أسلم، ويقبع في مكانه, لا، لا يجوز له أن يبقى في مكانه، عندما أسلم نهض، وتوجه إلى رسول الله- وقال له: مُرْنِي بما شئت, -النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة عشرة آلاف رجل بأسلحتهم الفتاكة، واليهود نقضوا العهد، والإسلام صار موضوع ساعات, فماذا يفعل رجل واحد؟- فقال عليه الصلاة والسلام: إنما أنت فينا رجل واحد، فاذهب إلى قومك وخذِّلْ عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة))
الآن، سيوظف ذكاءه، وعقله الكبير، وسرعة بديهته، وفطانته، وكل أساليبه الذكية، الآن سيوظفها لصالح الدين الجديد, قال: نعم يا رسول الله، وسترى ما يسرك إن شاء الله .
الله عزوجل يقدر نصر حركة كبيرة، والمرجح أن المسلمين سيفوزون بها على يد رجل واحد . ماذا فعل نعيم ؟
((مضى نعيم بن مسعود من توئه إلى بني قريظة، وكان لهم من قبل صاحباً ونديماً، وقال لهم: يا بني قريظة، لقد عرفتم وُدِّي لكم، وصدقي في نصحكم، فقالوا: نعم، والله ما أنت عندنا بمتهم، فقال: إن قريشًا وغطفان لهم في هذه الحرب شأن غير شأنكم، قالوا: وكيف؟ .قال: أنتم هذا البلد بلدكم، وفيه أموالكم، وأولادكم ونساؤكم، وليس بوسعكم أن تهجروه إلى غيره, أما قريش وغطفان فبلدهم وأموالهم وأولادهم ونساؤهم في غير هذه البلد، وقد جاؤوا لحرب محمد، ودعوكم لنقض عهده، ومناصرتهم عليه، فأجبتموهم، فإن أصابوا نجاحاً في قتاله اغتنموه، وإن أخفقوا في قهره عادوا إلى بلادهم آمنين، وتركوكم وحدكم، فينتقم محمد منكم شر انتقام، وأنتم تعلمون أنه لا طاقة لكم به إذا خلا بكم, فقالوا: صدقت واللهِ، وهذا رأي حصيف, تحليل دقيق جداً, فقالوا: واللهِ أشرتَ ونصحتَ، بارك الله بك، ثم خرج من عندهم .
وأتى أبا سفيان بن حرب قائد قريش، وقال له ولمن معه: يا معشر قريش، قد عرفتم ودي لكم، وعداوتي لمحمد، فقالوا: نعم، وقد بلغني أمر فرأيت حقاً عليَّ أن أفضي به إليكم، نصحاً لكم، على أن تكتموه، ولا تذيعوه, قالوا: لك علينا ذلك, قال: إنّ بني قريظة قد ندموا على مخاصمتهم محمدًا، فأرسَلوا إليه يقولون: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، وعزمنا أن نعود إلى معاهدتك ومسالمتك، فهل يرضيك يا محمد أن نأخذ لك من قريش وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافهم، ونسلمهم إليك لتضرب أعناقهم، ثم ننضم إليك في محاربتهم حتى نقضي عليهم؟ فأرسل إليهم النبي، وقَبِلَ منهم ذلك, فإنْ بعثت اليهود يا أبا سفيان تطلبُ منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحداً, قال أبو سفيان: نِعْمَ الحليف أنت، بارك الله بك، وجزيت خيراً، فقد أنقذتَنا .
ثم خرج نعيم من عند أبي سفيان حتى أتى قومه غطفان، فحدثهم بمثل ما حدث به أبا سفيان، وحذرهم مما حذره منهم، وهنا انتهت مهمته, أراد أبو سفيان أن يختبر بني قريظة، فأرسل إليهم ابنه، فقال لهم: إن أبي يقرئكم السلام، ويقول لكم: إنه قد طال حصارنا لمحمد وأصحابه، حتى مللنا، وإننا قد عزَمْنا على أن نقاتل محمداً، ونفرغ منه، وقد بعثني أبي إليكم يدعوكم إلى منازلته غداً، فقالوا له: إن اليوم يوم سبت، ونحن لا نعمل فيه شيئاً، ثم إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين من أشرافكم، وأشراف غطفان، حتى يكونوا رهائن عندنا, يعني أنّ كلام ابن مسعود صحيح, فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم، وتتركونا لمحمد وحدنا، وأنتم تعلمون أن لا طاقة لنا به .

-والخطة نجحت مئة بالمئة- امتحنهم أبو سفيان، وطلبوا رهائن، والرهائن من أجل أن يذبحهم النبي, فلما عاد ابن أبي سفيان إلى قومه، وأخبرهم بما سمعه من بني قريظة، قالوا بلسان واحد: خسئ أبناء القردة والخنازير، واللهِ لو طلبوا منا شاة رهينةً ما دفعناها إليهم, وهكذا دبَّتْ بينهم الوقيعة ))

-اللهم اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرجنا منهم سالمين, نجح نعيم بن مسعود في تمزيق صفوف الأحزاب، وتفريق كلمتهم- أرسل اللهُ على قريش وأحلافها ريحاً صرصراً عاتية , فجعلت تقتلع خيامهم، وتكفأ قدورهم، وتطفئ نيرانهم، وتصفع وجوههم، وتملأ أعينهم تراباً, فلم يجدوا مفراً من الرحيل ، فرحلوا تحت جنح الظلام ، ولما أصبح المسلمون وجدوا أعداء الله قد ولوا مدبرين، وجعلوا يهتفون بعد أيام عيد الفطر السعيد، ومن الأوراد المتعارف عليها ما ورد في الصحيحين, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ, وَنَصَرَ عَبْدَهُ, وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ))
[البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة]
ظلّ نعيم بن مسعود بعد ذلك اليوم موضع ثقة رسول الله, فهذا عمل, ولمثله فليعمل العاملون .
إليك مقولة أبو سفيان حينما رأى راية الإسلام بيد نعيم ؟
أيها الأخوة, ما منكم واحد إذا طلب من الله عملاً عظيماً إلا يجريه على يديه إلاّ يسّره له، وأجراه على يديه، فكن طموحًا, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
(سورة التوبة الآية: 38)

تعلم العلم، وانشر العلم، وادعُ إلى الله، وكن مثلاً أعلى لأخوانك ولأصحابك، وكن نجمًا متألقًا.

فولي نعيم للنبي عليه الصلاة والسلام الأعمال، ونهض له بالأعباء، وحمل بين يديه الرايات، فلما كان يوم فتح مكة, هنا وقف أبو سفيان بن حرب يستعرض جيوش المسلمين، فرأى رجلاً يحمل راية غطفان، فقال لمن معه:
((من هذا؟ فقالوا: هذا نعيم بن مسعود، قال: بئس ما صنع بنا يوم الخندق, واللهِ لقد كان أشدَّ الناس عداوة لمحمد, وها هو ذا يحمل راية قومه بين يديه، ويمضي لحربنا تحت لوائه))
إنّ المؤمن كيس فطن حذر, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً﴾
(سورة النساء الآية: 71)
ما هو محور هذه القصة ؟
أيها الأخوة, محور هذه القصة أن هذه الطاقة الفكرية العالية التي تمتع بها هذا الصحابي الجليل وظّفها في الحق، ولا تنسوا قوله تعالى حينما خاطب الله عزوجل قارون، فقال في كتابه العزيز: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
(سورة القصص الآية: 77)

سمعت عن امرأة صالحة كان لها بيت مساحته أربعمئة متر، باعته واشترت بيتًا مساحته مئة متر، والباقي وزّعته على الفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمحتاجين، ولقيت ربَّها بثلاثمئة متر فائضًا عن حاجتها, فلا بد من عمل تقدِّمه بين يديك, ولا بد من عمل يعرض على الله عزوجل، ولا بد من عمل ترقى به في الجنة, أليس لك شيء؟ ولو دللتَ إنسانًا واحدًا على الله عزوجل, أمَا ساهمت أبداً في هداية واحد, أما أقنعت واحدًا يؤمن بالله عزوجل, أما حاولت أنْ تزور إنسانًا لوجه الله, أما حاولت أن تحضر مجلس علم حتى تتعلم وتُعلِّم .
أيها الأخوة الأكارم, كما ورد في بعض الأدعية, يا رب لا يحلو النهار إلا بخدمة عبادك, ولا يحلو الليل إلا بمناجاتك, فمن عرف طريق السعادة لزمها، قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه:
((عرفت فالزم، وإني لك ناصح أمين))


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:18 AM   #24


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الرابع و العشرون )

الموضوع : سيدنا عبدالله بن سلام







الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
تمهيد لهذه الشخصية التي نحن بصددها :
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس الرابع والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا عبد الله بن سلام، ولهذا الصحابي قصة مؤثرة، لكن قبل أن نمضي بالحديث عن تفاصيلها لا بد من مقدمة نوضح فيها جوانب هذه الشخصية الفذّة .

مما يطرح في العصور الحديثة أن الإنسان ابن بيئته، ابن ثقافته، ابن مورثاته، ابن عاداته وتقاليده، وهذا الطرح يصور الإنسان منفعلاً وليس فاعلاً، فالإنسان مسلمٌ لأنه كان من أبوين مسلمين، فلو وُلد من أبوين غير مسلمين لما كان مسلماً، نشأ في بيت فيه علم وصلاح ، وأبوه ربَّاه هكذا، ولو نشأ في بيت آخر لما كان كذلك, هذا الطرح يمهد لإلغاء المسؤولية، ويقرر أن الإنسان منفعل، وهو ابن المعطيات الكبرى في حياته .
لذلك هذا الصحابي الجليل سوف يثبت لنا أن الإنسان أكبر من أي شيء حولنا، أكبر من بيئته، أكبر من محيطه، أكبر من وراثته، وألصق شيء في الإنسان دينه، وهذا الصحابي كان يهودياً، ليس مسلماً انتقل من دين إلى دين، فكل إنسان يرى أنه مستحيل أن ينتقل من دين إلى دين لأنه هكذا نشأ، هذا كله كلام لا قيمة له إطلاقاً في حقل الإيمان .
من هو عبد الله بن سلام وما هو دينه الذي كان معتنقه وكيف كان سلوكه قبل الإسلام ؟
اسمه الحصين بن سلام، واسمه له ضبطان: سلاَم أو سلاّم، وكان حبراً من أحبار اليهود، أيْ أحد كبار رجال الدين اليهودي، وكلكم يعلم أن الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، ويرفضون أي دين آخر لِمَا يتمتعون به، ومن ميزات كبيرة، ومن منزلة بين قومهم .
فكان هذا الرجل الحصين بن سلام حبراً من أحبار اليهود في يثرب، وكان أهل المدينة على اختلاف مللهم ونحلهم يجلُّونه ويعظِّمونه، وهذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: ((تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا, وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً, وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ, وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في صحيحهما]
الناسُ معادن، ولدينا حلقات دينية كثيرة في البلد، وفي كل حلقة أناس مستواهم الأخلاقي رفيع، وأناس مستواهم الأخلاقي وضيع، ومِن الخطأ أن تعمِّم، الذهب ذهب في أي مكان، وغير الذهب ليس ذهباً في أيِّ مكان، هذا من أحبار اليهود، ويبدو أنه يتمتع بأخلاق رفيعة، هي التي حملته على أن يسلم، فمن الممكن أن تعتقد، وأنت مصيب في اعتقادك أنّ الإنسان الأخلاقي أخلاقياته لا بد أن تسوقه في النهاية إلى الإيمان، إن رأيت إنسانًا أخلاقه عالية جداً فتفاءل له بالخير، أخلاقه الرضية لا بد أن تقوده في وقت ما إلى أن يكون في صف المؤمنين، هل عندكم برهان قرآني على هذه الفكرة؟ قال تعالى:
﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾
(سورة الأعراف الآية: 196)

الصالح يتولاه الله، فقد كان الحصين بن سلام معروفاً بين الناس بالتُّقَى والصلاح، موصوفاً بالاستقامة والصدق، وكان يحيا حياةً هادئةً وديعة، ولكنها كانت في الوقت نفسه جادةً نافعة، فقد قسم وقته أقساماً ثلاثة: شطرًا في الكنيس للوعظ والعبادة، وشطرًا في بستان له يتعهد نخله بالتشذيب والتأبير، وشطرًا مع التوراة للتفقه في الدين، هكذا وصفوه، وكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة، يتمم رسالات الأنبياء السابقين، ويختمها .
الإيمان أنْ تأخذ كل ما في القرآن، أما إذا اخترت ما يعجبك، وأغفلت ما لا يعجبك فلست مؤمناً، و ما الذي أهلك اليهود؟ إنهم اختاروا من توراتهم ما يعجبهم، والذي لم يعجبهم رفضوه، فالآيات التي تتحدث عن مجيء نبي في العرب اسمه أحمد، هذه الآيات أغفلوها، وأنكروها، وألغوها إلا ما جاء في بعض الأناجيل، كما قال تعالى على لسان السيد المسيح عيسى بن مريم:
﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
(سورة الصف الآية: 6)

إذاً: المؤمن يأخذ كل ما في القرآن، أما أن يختار فليس مؤمناً، هذا له دين خاص، يختار ما يعجبه من النصوص ليؤكد رأيه، وأخطر فئة في المجتمع هم أصحاب الرأي, دينهم رأيهم ، أما النصوص فيأخذون منها ما يعجبهم، ويدعون ما لا يعجبهم، إذاً: هم لم يحتكموا إلى النص، ولكن تحكَّموا به .
فكان هذا الصحابي الجليل ينتظر مجيء هذا النبي، فإذا كنت تعبد الله، واللهُ سبحانه وتعالى أرسل لك رسولاً، فينبغي أن تتبعه، أما أن تصرّ على اتِّباع النبي السابق فأنت إذاً لا تعبد الله، هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
(سورة آل عمران الآية: 19)
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
(سورة آل عمران الآية: 85)

أنت مأمور، جاءك الأمر باتباع سيدنا عيسى فاتبعته، جاء أمر آخر باتباع سيدنا محمد، فإذا رفضت هذا الأمر فأنت لست عبداً لله، بل أنت عبد لنزواتك، لذلك قال الله عز وجل:

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
(سورة آل عمران الآية: 19)
إنك رفضت آخر كتاب، إنسان قيادي يرسل أمرًا إلى موظف عنده, أنْ كن في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، فأخذ هذا الأمر ونفّذه، ثم جاء أمر آخر, فقال له: أنا لا أنفِّذ هذا الأمر الثاني، فهذا ليس موظفاً مخلصًا، هذا ليس عبداً لله عز وجل، فقد تمسك بأمر ورفض أمراً آخر .

سيدنا عبد الله بن سلام كان عبداً لله عز وجل، نفذ أمر الله كله، فكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة، يتمم رسالات الأنبياء السابقين، ويختمها، وكان يستقصي أوصاف هذا النبي المرتقب وعلاماته، ويهتز فرحاً، لأنه سيهجر بلده الذي بُعِث فيه، وسيتخذ من يثرب مَهْجراً له ومقاماً, وكان كلما قرأ هذه الأخبار، أو مرّتْ بخاطره يتمنى على الله أن يفسح له في عمره حتى يشهد ظهور هذا النبي المرتقب، ويسعد بلقائه، ويكون أول المؤمنين به .
العجيب أن أهل الإيمان متقاربون، فقد تلتقي بإنسان على مستوى عالٍ من الإيمان، وببساطة تتعارفان، وببساطة تأتلفان، ويحب كل منكما الآخر، وببساطة تتوافقان في الأفكار، فما سر هذا؟ الإيمان يصبغ الناسَ صبغةً واحدة، فأنت تأنس بمن يشبهك، تأنس بمن تتوافق معه في أفكاره وفي قيمه وفي منطلقاته .
وقد استجاب الله جل جلاله دعاء الحصين بن سلام، فنسأ له في أجله، ومدّ في حياته حتى بُعث نبي الهدى والرحمة، وكُتِبَ له أن يحظى بلقائه وصحبته، وأن يؤمن بالحق الذي أنزل عليه .
إليكم قصة إسلامه :
فلنترك الآن كما هي العادة لعبد الله بن سلام الكلام ليسوق لنا قصة إسلامه، فهو لها أروى وعلى حسن عرضها أقدر .
قال الحصين بن سلام:
((لما سمعت بظهـور رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أتحرى عن اسمه وعن نسبه وصفاته وزمانه ومكانه، وبين ما هو مسطور عندنا في الكتب حتى استيقنت من نبوته، -معنى ذلك بحسب هذا النص أنّ هناك أوصافًا ثانوية كثيرة وردت في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حتى استيقنت من نبوته، لذلك فالعقل مهمته قبل النقل التحقُّقُ من صحة النقل، ومهمته بعد النقل فهمُ النقل، أما أن يحلَّ العقلُ محلَّ النقل فهذا انحراف خطير- .
قال: إلى أن كان اليوم الذي خرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قاصداً المدينة، فلما بلغ يثرب، ونزل بقباء أقبل رجل علينا، وجعل ينادي بالناس معلماً قدومه، وكنت عند رأس نخلة لي أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسةً تحت الشجرة، فما إن سمعتُ الخبر حتى هتفتُ: الله أكبر الله أكبر، وأنا على رأس النخلة، فقالت لي عمتي حينما سمعت التكبير : خيّبك الله، واللهِ لو كنت سمعتَ بموسى بن عمران قادماً ما فعلت شيئاً فوق ذلك, أنت يهودي، ما هذا التكبيـر؟ فقلت لها: أي عمة، إنه واللهِ أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وقد بُعث بما بُعث به،))

-الرسالات واحدة، والمشكاة واحدة، والنور واحد، والمصدر واحد، والهدف واحد، قال تعالى:
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾
(سورة البقرة الآية: 285)

فسكتت، وقالت: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدقاً لما قبله، ومتمماً لرسالات ربه؟ فقلت: نعم، قالت: فذلك إذاً، ثم مضيت من توئي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت الناس يزدحمون على بابه، فزاحمتهم حتى صرت قريباً منه، فكان أول ما سمعته, وهو قول: أيها الناس أفشوا السلام، -سلم وأنت على الهاتف، وفي الطريق، روى لي أحد أخواننا الخطباء قصةَ فتاةٍ صغيرة، عمرها أربع سنين، وضعها في دار حضانة، فمرة استيقظوا متأخرين، فهيأ لها شطيرة لتأكلها في الطريق، فقالت له: يا أبت, قال عليه الصلاة والسلام: الأكل في الطريق دناءة, فخجل أبوها منها، الطفل إذا تعلم العلم فهذا شيء جميل جداً، وهو في صحائف والديه، وشيء رائع جداً، فعلِّمْ ابنك السلام حتى وهو على الهاتف، وإذا دخل إلى البيت، أو التقى معك، أو مع والدته، وإن التقى بصديقه فليقلْ: السلام عليكم .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ:
((لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، ثَلَاثًا فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ, وَصِلُوا الْأَرْحَامَ, وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
هذا أول حديث سمعه عبد الله بن سلام من رسول الله، قال: فجعلت أتفرس فيه وأتملى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب، -ومن تكريم الله لك يا أخي أنه زودك بحاسة سادسة، تشعر أن هذا صادق، وتشعر أن ذاك كذاب، مخادع .
رجل أحب أن يذهب إلى الحج، ومعـه مبلغ ضخم، فأراد أن يودعه أمانة عند رجل صالح، فدخل إلى المسجد، فرأى شخصًا صلاته فيها خشوع، وتفرس فيه خيراً، فقال له: أحببت أن أضع عندك بعض مالي، فقال له: أنا صائم أيضاً، فقال له: صيامك لم يعجبني .
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ
(( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري]

ويقال: إن سيدنا عثمان، وهو على المنبر دخل رجل بعد أن جلس فترة طويلة، قال: أيدخل أحدكم وأثر الزنا بين عينيه، فقالوا: أَوَحْيٌ بعد رسول الله, قال: لا، ولكنها فراسة صادقة- .
ثم دنوت منه وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: ما اسمك؟ فقلت: الحصين بن سلام، فقال عليه الصلاة والسلام: بل عبد الله بن سلام، -ومِن الناس مَن اسمه حرب، وذاك اسمه عدوان، فغيِّروا الأسماء إنْ كانت تعيب صاحبها، فلا مانع، إذا كنت معلمًا، أو كنت مدير مؤسسة، أو عندك موظف اسمه يثير الضحك فغيِّر له اسمه، ولا مانع من تغييره، بل هو من السنة .
قال رسول الله:
((من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل، فقال له: بل زيد الخير))
غيَّر له اسمه، فمن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغيِّر أسماء أصحابه إن لم ترق له، ومن السنة أيضاً أن تنادي أخاك بأحب الأسماء إليه, فالنبي كان ينادي أصحابه بأحب الأسماء إليهم، وإذا كان في الاسم مشكلة غيره، فقد يكون بين أطفال المدارس مَن له اسم يثير بعض السخرية، فالمعلمون المؤمنون يغيِّرون هذا الاسم طوال العام الدراسي، لكن في دفاتر التفقدات، ويوم الامتحانات، وفي الشهادة يكتب الاسم الحقيقي، فأنت تريحه وتهدئه، وسمعت أنّ من حق الإنسان في النظام المدني أن يغيِّر اسمه- .
قال: والذي بعثك بالحق ما أحبُّ أن لي اسماً آخر بعد اليوم، -المؤمن مطواع- ثم انصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، ودعوت زوجتي وأولادي إلى الإسلام فأسلموا جميعاً، وأسلمتْ معهم عمتي خالدة، وكانت شيخة كبيرة)) لماذا كتم عبد الله إسلامه , وما هي الخطة التي كان يرسمها وما الهدف منها ؟
قال: ((ثم إني قلت لهم: اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى آذن لكم، فقالوا: نعم، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت له: يا رسول الله, إن اليهود قوم بُهْتان وباطل، فهو يعرفهم، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك، وأن تسترني عندك في حجرة من حجراتك، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام .
قال: فإنهم إنْ علموا أنني أسلمت عابوني، ورموني بكل ناقصة، وبهتوني، فأدخلني النبي عليه الصلاة والسلام في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضُّهم على الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه بالحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم, قال لهم: ما منزلة الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا: الحصين سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، فقال عليه الصلاة السلام: أرأيتم إن أسلم، أفتسلمون؟ قالوا: حاشا لله، ما كان له أن يسلم، أعاذه الله من أن يسلم ، قال: فخرجت إليهم، وقلت لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به محمد، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، وتجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وصفته، وإني أشهد إنه لرسول الله، وقد آمنت به وصدقته، وأنا أعرفه، فبهتوا, وقالوا: كذبت، والله إنك لشرُّنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به، -ليسوا أهل إنصاف، ومعظم الناس الآن كذلك، ليس لديهم إنصاف، ويظن أحدهم أنك على سجيته، وعلى مذهبه، وعلى خطته في الحياة، أكل المال الحرام، والاختلاط، ويثني على ذكائك، وفصاحتك، وأنك حكيم، وما شاء الله، فلما امتنعتَ أن تصافح زوجته، وامتنعتَ أن تأكل المال الحرام, يقول عنكَ: هذا مجنون، قبل قليل كان ذكياً حصيفاً ولبقاً ومهذباً وحكيماً، فلما عرف أنك متمسك بدينك اتهمك بالجنون، وهذه القصة تعاد دائماً- .

فقلت للنبي عليه الصلاة والسلام: ألم أقل لك يا رسول الله, إن اليهود قوم بهتان وباطل ، وإنهم أهل غدر وفجور، معنى هذا أنه يعرفهم، و يعرف خبث نفوسهم, وقد روى البخاري قصته العجيبة, عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ, فَقَالَ:

((إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ, مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ, وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ, وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ, قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا, قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ, قَالَ: أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ, وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ, وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ, قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ, قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَجَاءَتْ الْيَهُودُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ, قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَأَفْضَلُنَا وَابْنُ أَفْضَلِنَا ,فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ, قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ, فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ, فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ, فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَتَنَقَّصُوهُ, قَالَ: هَذَا كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هي البشارة التي بشر بها عبد الله بن سلام من رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
أقبل عبد الله بن سلام على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد، وأولع بالقرآن، فكان لسانه لا يفتأ رطباً بآياته البينات، وتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى غدا ألزم له من ظله، ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشَّره بها النبي صلى الله عليه وسلم بشارة ذاعت بين الصحابة, وليس من السهل أن تنتقل من دين إلى دين، لكن الإسلام أقوى من كل شيء، والإيمان أقوى من كل شيء، والإنسان ليس منفعلاً، بل فاعلاً، ليس ابن بيئته، ولا ابن وراثته، ليس ابن أبويه، ولا ابن محيطه، ولا ابن معطياته، ولكنَّه ابن نفسه، وابن قناعته، قال تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾
(سورة لقمان الآية: 21)
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾
(سورة المائدة الآية: 104)
إليكم قصة هذه البشارة :
وكانت لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عبادة وغيره, قال الراوي: ((كنت جالساً في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، -وبالمناسبة يقولون: محلّق، فما معنى محلق؟ صوابها الحلْقة، ويقال: الحلَقة، قال لي أحدهم: هذا المحلق الجنوبي خط ممتاز، قلت له: إنْ حلقت في الجو فأنت المحلق، قال: المحلق الجنوبي، هذا غلط، لأنّه حلّق يحلِّق يعني هذا أنه طريق جوي، لكن الصواب المتحلق الجنوبي، فهناك دقة في اللغة- .
وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس، ويستروح به القلب، فجعل يحدث الناس حديثاً حلواً مؤثراً، فلما قام قال القوم: من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، قلت من هذا؟ فقالوا: عبد الله بن سلام, فقلت في نفسي: والله لأتبعنه، فتبعته، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه فأذن لي، قال: ما حاجتك يا بن أخي؟ قلت: سمعت القوم يقولون عنك لما خرجت من المسجد: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فمضيت في إثرك لأقف على خبرك، ولأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة؟ .
قال: بينما أنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجل فقال لي: قم، فقمت، فأخذ بيدي فإذا أنا بطريق عن شمالي، فهممت أن أسلك فيها, فقال لي: دعها فإنها ليس لك، فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني، فقال لي: اسلك هذه))

-المؤمن مسدد ، والدليل القرآني قال:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾
(سورة الكهف الآية: 13)
الهدى الأول: الهدى العام، هدى الحواس، والقدرات التي أودعها الله بالإنسان .
الهدى الثاني: هدى الوحي .
الهدى الثالث: هدى التوفيق .
الهدى الرابع: الدخول إلى الجنة, قال تعالى:
﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾
(سورة محمد الآية: 5-6)
قال: اسلكها، فسلكتها، حتى أتيت روضة غناء واسعة الأرجاء، كثيرة الخضرة، رائعة النضرة، وفي وسطها عمود من حديد، أصله في الأرض، ونهايته في السماء، وفي أعلاه حلقة من ذهب، فقال لي: ارقَ عليَّ، قلت: لا أستطيع، فجاءني وصيف فرفعني، فرقيت حتى صرت في أعلى العمود، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما، وبقيت متعلقًا بها حتى أصبحت، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصصت عليه رؤياي, عَنْ قَيْسِ ابْنِ عُبَادٍ, قَالَ: ((كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ, فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ, فَقُلْتُ: إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ, قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ, رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ, وَرَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ ذَكَرَ مِنْ سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ, فَقِيلَ لِي: ارْقَ, قُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ فَأَتَانِي مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهَا فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ, فَقِيلَ لَهُ: اسْتَمْسِكْ فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ, وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ, وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ, وَذَاكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن قيس ابن عباد في صحيحهما]

إنّ الإنسان إذا اقترب من الله سبحانه وتعالى قرباً شديداً يريه رؤيا مثل فلق الصبح، وأعرف رجلاً دعا ربه دعاءً من كل قلبه، وبإخلاص شديد، وحضور قلب، أن يرزقه زوجة صالحة، فأقسم بالله أنه رأى في المنام أن اذهبْ إلى المكان الفلاني، والشارع الفلاني، والحارة الفلانية، والبناء الفلاني، والطابق الفلاني، والبيت الفلاني، فدل أمه على هذا البيت، فذهبت وخطبت له فتاة صالحةً هي الآن زوجته, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في صحيحهما]
موضوع الإيمان أكبر بكثير من أن يهتز، ترى في بعض المركبات التي لها مقطورة وقاطرة عروة، وهناك معامل متخصصة في صنعها، لأنها تجر ثلاثون طنًا، من سبائك معينة ، ومن خلائط معينة، ولو أنها تفلتت لحدثت كارثة كبيرة جداً، فهي عروة متينة حقًّا، قال تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
(سورة البقرة الآية: 256)
المؤمن ارتباطه بالدين ارتباط مصيري، ولا شيء في الأرض يزعزعه، ولا شيء يثنيه عن خط سيره، والنبي عليه الصلاة والسلام, قال: ((والله يا عمّ, لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه))
تفسير معاني القصة :
فهذه القصة تروي كيف كان هذا الصحابي الجليل؟ كان يهودياً، وكان حبراً من أحبار اليهود، وكيف أن انتقال الإنسان من دين إلى دين شيء صعب جداً، وسوف يلاقي عِداءً وحقداً، وربما قتالاً، ومع ذلك فإيمانه كان أكبر، والهدى الذي عرفه كان أقوى من كل معطيات البيئة؟ فهذا الذي يزعم أن بيئته صعبة، وهو ناشئ في بيئة معينة، وظروفه صعبة وقاسية، وأهله فيهم شدّة وغلظة، هذا الكلام مرفوض تماماً، والإنسان إذا عرف الله عز وجل حقًّا يهون أمام هذه المعرفة كلُّ شيء، وأمام طاعة الله لا يعبأ بشيء، وإليكم هذا الدليل، قال تعالى:

﴿قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
(سورة طه الآية: 71)
كانوا موعودين، وكانوا بمناصب رفيعة جداً، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
(سورة الأعراف الآية: 113-114)
وعندما آمنوا, قالوا له: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(سورة طه الآية: 72-73)
فهذا الصحابي الجليل حجة على كل من يزعم أن بيئته صعبة، ويقول: معطياتي صعبة ، ونشأت في بيئة معينة، وأنا على دين كذا، فهذا مرفوض .
وأنا أعرف رجلاً ترك طريق الدين وانحرف، لأن مصلحته فيها معصية، فآثر مهنته ومصلحته على دينه، ولو أنه غيرها لرزقه الله من فوقه ومن تحت رجليه، ولكنَّه ما عرف الله عز وجل في حياته فهوى


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 08:21 AM   #25


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الخامس و العشرون )

الموضوع : السيدة اسماء بنت ابى بكر





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هو النسب المعترف فيه في الإسلام ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس الخامس والعشرين من دروس سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابية اليوم السيدة أسماء بنت أبي بكر .

أيها الأخوة الأكارم، لا فرق في البطولة بين رجل وامرأة، فالإسلام يصنع المعجزات, يصنع الأبطال رجالاً كانوا أم نساءً, فصحابيَّتُنا الجليلة جمعت المجد من أطرافه كلها, أبوها صحابي جليل، وجدها صحابي جليل، وأختها صحابية، وزوجها صحابي، وابنها صحابي، وحسبها بذلك شرفاً وفخرًا, وبما أننا ذكرنا النسب فليَ تعليق عليه, النسب تاج لا يوضع إلا على رأس المؤمن، فإن لم يكن مؤمناً فلا قيمة له، والدليل قال تعالى:

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
(سورة المسد الآية: 1-2)
أبو لهب عم النبي، وإذا كان هناك إيمان فالنسب تاج يزيد الشريف شرفاً، ويزيد ذا المروءة مروءةً، أما إن لم يكن هناك إيمان فلا قيمة للنسب إطلاقاً، بل هو حجة على صاحبه، وأقوى دليل حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الطويل، وفيه:
((وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة]
فمن دون إيمان فلا قيمة للنسب .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: ((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ, قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في الصحيح]
لا تقل: أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أنس بن مالك]
فأبو سفيان زعيم قريش وقف بباب عمر ساعات طويلة فلم يُؤذن له، وبلال وصهيب يدخلان ويخرجان بلا استئذان فآلمه ذلك فلما دخل عليه, قال: زعيم قريش يقف ببابك ساعات طويلة ولم يؤذن له, وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان, فأجابه بكلمة واحدة, قال: يا أبا سفيان أأنت مثلهما؟ هذا هو الجواب, فالنسب والحسب والأسرة والعائلة والرفعة هذه من دون إيمان لا قيمة لها إطلاقاً، لكن إذا آمنت فربما كان النسب تاجاً تتوِّج به إيمانك، هذا موضوع النسب .
قال عليه الصلاة والسلام:
((سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ))
[أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن عمرو بن عوف]
هذا موضوع النسب لا يُتكلم به، ولا يُفتخر به، ولا يُذكر إلا مع الإيمان، وهو تاج يتوِّج الإيمان, فإن لم يكن هناك إيمان فلا أحد يعبأ به, أبوها سيدنا الصديق خليل النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وخليفته بعد مماته, جدها أبو عتيق والد أبي بكر رضي الله عنه, أختها أم المؤمنين عائشة الطاهرة المبرَّأة, زوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام.
ما هو موقف سيدنا معاوية من رسالة ابن الزبير ؟
يروي التاريخ أن سيدنا معاوية جاءه كتاب شديد اللهجة فيه تجاوز, أما بعد, فيا معاوية معاوية باسمه فقط، من دون لقب، لا أمير المؤمنين، ولا خليفة المسلمين، ولا شيء من هذا القبيل, إن رجالك قد دخلوا أرضي فانهَهُم عن ذلك، وإلا كان لي معك شأن، والسلام .

دفع معاوية بكتابه إلى ابنه يزيد، فقال له:

((يا يزيد, ماذا نصنع؟ لما قرأ الكتاب غلا الدم في عروقه، وقال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده، وآخره عندك، يأتونك برأسه, وكان معاوية حكيمًا حليم، فقال: يا بني غيرُ ذلك أفضل, أملى على الكاتب، وقال له: اكتبْ, أما بعد, فقد وقفتُ على كتابِ ولد حواري رسول الله, ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، ولقد نزلت له عن الأرض ومَن فيها .
فردّ عليه ابن الزبير: أما بعد, فيا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل, واستدعى ابنه يزيد، وقال له: انظر ماذا كان اقتراحك؟ أن نرسل له جيشاً أوله عنده، وآخره عندنا، يأتون برأسه, انظر إلى الجواب، قال: يا بني, من عفا ساد، ومَن حلم عظُم، ومَن تجاوز استمال إليه القلوب))

بماذا لقبت أسماء بنت أبي بكر ولماذا سميت بهذا اللقب ؟
كانت أسماء من السابقين إلى الإسلام، إذ لم يتقدم عليها في هذا الفضل العظيم غير سبعة عشر إنساناً، بين رجل وامرأة, فكان ترتيبها المسلمة الثامنة عشرة، فهذه الصحابية الجليلة لقبت بذات النطاقين, أنا أقول الجليلة لأن الإسلام يصنع الأبطال، ذكوراً كانوا أم إناثاً، وأنا أشهد الله أن في مجتمعاتنا من النساء ما إن إحداهن لتَعْدِل عند الله مئة ألف رجل، بطاعتها لله، وتفانيها بخدمة زوجها، وأولادها، وتقديمها للمجتمع عناصر طيبة، وحسن تربيتها، وصبرها على أسرتها.

عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها قالت:

((يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الرجال فُضِّلوا علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج، والعمرة، والرباط، فقال عليه الصلاة والسلام: انصرفي أيتها المرأة وأعلمي مَن وراءك من النساء أنَّ حسنَ تَبَعُّلِ إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله))
[ورد في الأثر]
هذه السيدة الجليلة الصحابية الكريمة لقبت بذات النطاقين، لأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيها يوم هاجرا إلى المدينة زاداً، وأعدَّتْ لهم سقاءً، فلما لم تجد ما تربطهما به شقت نطاقها شقين, فربطت بأحدهما المزود، وبالثاني السقاء, فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام أنْ يبدلها الله منهما نطاقين في الجنة، فلقِّبَتْ يومئذٍ أسماءُ بنت أبي بكر ذات النطاقين .
من هو زوجها وكيف كانت تعامله ومن قام بتحنيك ابنها عبد الله وهو في المهد ؟
أيها الأخوة, تزوج بها الزبير بن العوام وكان شاباً مرملاً، يعني فقيراً, وليس له خادم ينهض بخدمته، وليس له مال يوسع به على عياله غير فرس اقتناه, والبطولة أن تزوج ابنتك للمؤمن، فقيراً كان أم غنياً، ولا تعبأ بالمال، لأنه إن كان فقيراً، وكان مؤمناً فسوف يغنيه الله من فضله .
سعيد بن المسيب من كبار التابعين، وكان قاضياً من كبار القضاة في عهد عبد الملك بن مروان، وكان له ابنة من خير النساء، تحفظ كتاب الله، فقيهة، وتحفظ الحديث الشريف، وعلى مستوىً رفيع من الكمال الخُلقي والخَلقي، ولأنها من أعلى النساء علماً وخَلقاً وخُلقاً خطبها عبد الملك لابنه الوليد، والقصة طويلة، لكن آخر فقرة في القصة عنده تلميذ فقير جداً، غاب عنه أسبوعين، فلما تفقّده قال: يا سيدي، ماتت زوجتي، قال: لمَ لمْ تخبرنا؟ فقال: استحييت أن أخبرك، وكنت قد هيأتها للدفن، فقال له: هل لك من زوجة؟ فقال: لا يا سيدي، أنا فقير، فقال له: أزوجك ابنتي, فما صدق من شدة الفرح، ولا يملك شيئاً، وفي الليلة نفسها طُرِقَ الباب، فقلت: من الطارق ؟ قال: سعيد، قال هذا التلميذ الفقير: استعرضت كلَّ مَن اسمه سعيد، فلم يخطر على بالي أن يكون الطارق سعيد بن المسيب, فلما فتح الباب رأى شيخه، ومعه ابنته التي عقد له عليها بالنهار ، ودفعها إليه، وقال: خذْ زوجتك، لقد كرهتُ أن تنام الليلة وحدك .
الآن لا يصل إليها الخاطب، يقضي سنتين ونصف في الخِطبة، يكاد يموت، وغرفة النوم لم تنتهِ، فتعقيد الحياة يذهب برونقها في زماننا هذا, عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
((إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنْ كَانَ فِيهِ, قَالَ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أبي حاتم المزني]
كانت أسماء نِعْمَ الزوجة الصالحة لزوجها، تخدمه, وتسوس فرسه, واحد خطب امرأة ، فأراد أن ينصحها، قال: يا فلانة, إن في خلقي سوءاً, فأجابته إجابة مفحمة، قالت له: إن أسوأ خلقاً منك من حاجك إلى سوء الخلق, هكذا المرأة المؤمنة .

كانت له نِعْمَ الزوجة الصالحة، تخدمه، وتسوس فرسه, ترعاه، وتطحن النوى لعلفه، حتى فتح الله عليه، فغدا من أغنى أغنياء الصحابة, ولما أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فراراً بدينها إلى الله ورسوله، كانت قد أتمَّتْ حملها بابنها عبد الله بن الزبير, وعبد الله بن الزبير هذا الذي كان مع غلمان يومًا يلعبون، فمر عمر بن الخطاب، فلما رأوه، وكان ذا هيبة شديدة تفرَّقوا إلا عبد الله بن الزبير، بقي واقفاً بأدب, شيء يلفت النظر، فلما وصل إليه قال: يا غلام، لمَ لمْ تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريقُ يسعُني ويسعُك .
لم يمنعها الحمل من تحمّل مشاق الرحلة الطويلة، فما إن بلغت قباء حتى وضعت وليدها عبد الله بن الزبير في أثناء الهجرة، فكبّر المسلمون، وهلّلوا، لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة, فحملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعته في حجره، فأخذ شيئاً من ريقه الشريف، وجعله في فم الصبي, ثم حنكه ودعا له، ومن السنة تحنيك المولود عند ولادته، والأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى, فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم . إليكم شمائلها :
وقد اجتمع لأسماء بنت أبي بكر من خصال الخير، وشمائل النبل، ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلا للقليل النادر من الرجال، فقد تجد امرأة تعدل عند الله مئة ألف رجل، برجاحة عقلها، وصدق إيمانها، واستقامتها، وإخلاصها، وتفانيها في خدمة زوجها وأولادها
ويجب أن نعرف أن المرأة كالرجل في التكليف وفي التشريف، لكن لها خصائص تميزها عن الرجل، وله خصائص تميزه عن المرأة، وليست مجال انتقاص لكليهما, مثلاً: الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم نقص أم كمال؟ كمال, أمّا الأمية فينا فنقصٌ, إنّها صفة واحدة، لكنها في النبي كمال، وفي المؤمنين نقص, هذا مثل واقعي, المكان المعد للبضاعة في السيارات إذا كان واسعاً جداً في الشاحنات نقص أم كمال؟ كمال، أما في السيارات التي مهمتها نقل الركاب؟ فهو نقص .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ, تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ, فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ, قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ, قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ, قَالَ: أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ))
[متفق عليه، أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمر]
لم يقصد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذم المرأة، لكن عقل المرأة مع عاطفتها مجموعهما واحد، وعقل الرجل مع عاطفته مجموعهما واحد، فحينما تُهَيَّأَ المرأة لتكون أمًا فلا بد من عاطفة جياشة، ولا بد من إحساس مرهف، ولا بد من رقّة في المشاعر, أمّا حينما يُهَيَّأُ الرجل ليقود أمةً، أو يكسب رزقاً فلا بد من عقل يزيد على عاطفته، ولا بد من أجل تربية الأم أولادَها من عاطفة تزيد على عقلها، إذاً: فالمجموع ثابت، فكمالها في زيادة عاطفتها على عقلها، وكماله في زيادة عقله، ومجموع العقل والعاطفة في النوعين واحد .
لكن هناك طُرفة، إنّ امرأة في الطريق رأت شيخاً أزهرياً، فقالت: يا سيدي, أيحق للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول عنا: ناقصات عقل ودين؟ فقال: لا والله، ليس له حقّ، لكنْ هذا ليس الآن، بل هذا للصحابيات، أمّا أنتن هذه الأيام فلا عقل ولا دين، أجابها إجابة مفحمة .

ولنضربْ مثلاً: جاء الزوجُ إلى البيت الساعة الثانية ظهرًا، الغرف مضطربة، والمطبخ غير نظيف، والأولاد غير مرتَّبين، والبيت في أعلى درجات الاضطراب والفوضى وعدم التنظيف, دخل إلى البيت فإذا امرأته تلقي عليه محاضرةً في أيديولوجيات معينة، أيرضيه منها ذلك؟ فمهما كان عقلها راجحاً جداً، وإدراكها عميقاً جداً، واطلاعها واسعًا جداً، وألقت عليه محاضرة، والبيت هذا حاله, أيرضيه ذلك؟ لا بد أن تكون أحاسيسها مرهفةً .
قيل: هذه أسماء بنت أبي بكر كانت من الجود حيث يضرب بها المثل, حدث ابنها عبد الله فقال: ما رأيت امرأتين قط أجود من خالتي عائشة وأمي أسماء، لكن جودهما مختلف، أما خالتي فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها ما يكفي قسمته بين ذوي الحاجات، وأما أمي فكانت لا تمسك شيئاً إلى الغد .

يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سائل, فقال له:

((اذهب إلى فلان، يقصد أحد الصحابة، فانطلق إلى داره فإذا هو يلتقط الحَبّ من الأرض، حبَّ القمح المتناثر, فقال في سرِّه: هذا الذي يلتقط الحب أيعقل أن يعطيني شيئًا الآن؟ مستحيل، فقال الصحابي: يا رجل, لِمَ أتيت إليَّ ؟ فاضطرب، وقال: واللهِ لقد أرسلني النبي الكريم إليك لتعطيني مما أعطاك الله، فلما رأيتك تلتقط الحب توقعت ألاّ تعطيني شيئاً, فقال له: يا أخي, نجمع هكذا لننفق هكذا, اذهب وخذ أيّة ناقة شئت ، فأخذ ناقة فتبعها عشرة من أولادها، فقال: خذهنّ جميعاً، فقال له: عجبت لأمرك! تلتقط الحَبَّ من الأرض، وتنفق هذا الإنفاق, فأجابه قائلاً: يا أخي, نجمع هكذا لننفق هكذا))
إليكم أحد مواقفها التي خدمت به الإسلام وأهله :
عندما خرج الصديق مهاجراً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل معه كل ماله, ومرة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
((يا أبا بكر, ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله، -لم يُبقِ عليه إلا جبته، حمل ماله كله ومقداره ستة آلاف درهم، ولم يترك لعياله شيئاً- فلما علم والده أبو قحافة برحيله، وكان ما يزال مشركاً جاء إلى بيته، وقال لأسماء: واللهِ إني لأراه قد فجعكم بماله، بعد أن فجعكم في نفسه، فقالت له: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا مالاً كثيراً، ثم أخذت حصى، ووضعته في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال، وألقت عليه ثوباً ثم أخذت بيد جدها، -وكان مكفوف البصر- وقالت: يا أبتِ, ضع يدك على المال، وانظر كم ترك لنا من المال؟ فوضع يده عليه، وقال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا كله، فقد أحسن))

فقد حلّت مشكلة لئلا يغضب وينفجر على ابنه الذي أخذ المال كله، وقد عرفت حكمة أبيها وشدة قلقه على النبي عليه الصلاة والسلام، وهما يقدِمان على رحلة مجهولة، فأخذ المال كله لينفق عليه، لذلك عليه الصلاة والسلام قال: ما ساءني قط، فاعرفوا له ذلك, وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
وعَنْ عَلِيٍّ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ, زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ ,وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ, وَأَعْتَقَ بِلَالاً مِنْ مَالِهِ, رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا, تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ صَدِيقٌ, رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلَائِكَةُ, رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وسيدنا الصديق ما عبد صنمًا قط، ولا شرب خمرًا قط, ليس له جاهليـة, أرادت أسماء أن تسكن نفس الشيخ، وألاّ تجعلـه يبذل لها شيئاً من ماله الخاص، ذلك لأنها كانت تكره أن تجعل لمشرك عليها يداً حتى لو كان جدها، وهذا الموقف من أبرز مواقف السيدة أسماء الذي يدل على رجاحة عقلها، وقوة إيمانها، وشدة حزمها . إليكم هذا الحوار الذي دار بين أسماء وابنها عبد الله بن الزبير بشأن مبايعة عبد الملك بن مروان على الخلافة :
وحينما لقيت ولدها قبل أن يموت بقليل, ابنها هو عبد الله بن الزبير، بُويِع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، ودانت له الحجاز ومصر والعراق وخراسان، وأكثر بلاد الشام، لكن بني أمية ما لبثوا أن سيّروا لحربه جيشاً عرمرماً بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، فدارت بين الفريقين معارك طاحنة، أظهر فيها ابن الزبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كَمِيٍّ مثله, غير أن أنصاره جعلوا ينفضُّون عنه شيئاً فشيئاً، فلجأ إلى بيت الله الحرام، واحتمى هو ومن معه في حمى الكعبة المعظمة، وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمه أسماء وكانت عجوزاً فانيةً، قد كُفّ بصرُها، وكانت سنها تزيد عن مئة، قال لها:

((السلام عليك يا أمي ورحمة الله وبركاته, قالت: وعليك السلام يا عبد الله, ما الذي أقدمك في هذه الساعة، والصخور التي تقذفها منجنيقات الحجاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزاً, قال: جئت لأستشيرك, قالت: تستشيرني في ماذا؟ قال: لقد خذلني الناس, وانحازوا عني رهبة من الحجاج، أو رغبة بما عنده، حتى أولادي وأهلي انفضوا عني، ولم يبق معي إلا نفر قليل من رجالي، وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين، -لأنه ليس ثمة تكافؤ, دولة بني أمية ألقتْ بكل ما عندها من قوة لإنهاء هذه الخلافة التي ظهرت إلى جانب خلافة يزيد, ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا, يبدو أنه كان أصلح من يزيد- ولما جمع معاوية وجهاء القوم ليأخذ البيعة لابنه يزيد تكلم الجميع، فأثنوا على يزيد إلا الأحنف بن قيس بقي ساكتاً، فأربك بسكوته المجلس، فقال معاوية: يا أحنف، لمْ تقل شيئاً, فقال: أخاف الله إنْ كذبت، وأخافكم إن صدقت, فكان تلميحاً أبلغ من تصريح.
ورسلُ بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا، إذا أنا ألقيت السلاح، وبايعت عبد الملك بن مروان, فما ترين من رأي؟ أن ألقي السلاح، وآخذ من الدنيا ما شئت، وتنتهي الحرب, فماذا تتوقعون مِن أمٍّ يأتيها ابنها بين خيارَيْن صعبَيْن: الأول أن يموت, والثاني أن يبقى حياً، على يصبح غنياً، ويدع هذا الأمر .
فقالت له: الشأن شأنك يا عبد الله, أنت أعلم بنفسك, فإن كنت تعتقد أنك على حق، وتدعو إلى حق فاصبر، وجالدْ كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك, -فهل هي قضيةُ مزاح؟ لا، إنها حق أو باطل، وليس من مساومة على الحق- وإن كنت إنما أردت الدنيا بهذه الخلافة فلبئس العبد أنت, أهلكت نفسك، وأهلكت رجالك, -كان هذا رأيها, فهل بعد هذا العقل من عقل؟- قال لها: ولكني مقتول اليوم لا محالة, وأنا على حق، وأردت الحق، وإن فعلت كما تريدين فأنا مقتول لا محالة, قالت: ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختاراً، فيلعب برأسك غلمان بني أمية, موتك أشرف لك ألف مرة من أن تستسلم, قال: لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثلوا بي, قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء فإنّ الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ, هل هذه امرأة؟ نعم، هذه امرأة تقول هذا الكلام لابنها الذي على وشك الاستشهاد, قال لها: فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت، واللهُ يعلم أني ما وهنت، ولا ضعفت، وهو الشهيد عليَّ أني ما قمت بما قمت به حباً في الدنيا وزينتها، وإنما غضب لله أن تستباح محارمه، وها أنا ذا ماض إلى ما تحبين، فإذا أنا قُتِلت فلا تحزني عليَّ، وسلمي أمرك لله))

ما هو الأمر الذي كانت السيدة أسماء تخشى منه , وكيف استقبلت وداع ابنها عنها ؟
قالت: ((إنما أحزن عليك يا بني لو قتلت على باطل، قال: يا أمي كوني على ثقة بأن ابنك لم يتعمد إتيان منكر في حياته، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكمٍ، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يكن شيء عنده آثر من رضا الله عز وجل، لا أقول ذلك تزكيةً لنفسي، فالله أعلم مني بي، وإنما قلت لأدخل العزاء على قلبك يا أمي, قالت: الحمد لله الذي جعلك الله على ما يحب، وعلى ما أحب أنا, اقترب مني يا بني كي أتشمَّم رائحتك، ولألمس جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك
فأكبَّ عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما لثماً وتقبيلاً، وأجالت هي أنفها في رأسه ووجهه وعنقه وتشمَّمَتْهُ، وقبَّلته، وأطلقت يديها تتلمس جسده، ثم ما لبثت أن ردتهما عنه، وهي تقول: ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله؟ قال: درعي، قالت: ليس هذا يا بني لباس من يريد الشهادة، قال: إنما لبستها كي أطيب خاطرك، وأسكن قلبك، قالت: انزعها عنك، فذلك أشد لحميَّتك، وأقوى لوثبتك، وأخف لحركتك، ولكن البسْ بدلاً منها سراويل مضاعفة، حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك، نزع عبد الله بن الزبير درعه، وشد عليه سراويله، ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال، وهو يقول: لاَ تَفتُري عن الدعاء لي يا أمي، فرفعتْ كفيها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل، والناس نيام، اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر المدينة ومكة، وهو صائم، اللهم ارحم بره بأبيه وأمه، اللهم إني سلمته لأمرك، ورضيت بما قضيته له، فأثبني عليه ثواب الصابرين، ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وعبد الله بن الزبير قد لحق بجوار ربه، ولم يمضِ على مصرعه سوى أربعة عشر يوماً إلا وأمه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به، وقد بلغت من العمر مئة عام لم يسقط لها سن))

الآن تخطب بنت ثلاثة عشر عامًا السن محشاة، عمرها ثلاثون سنة أو خمس وعشرون نصف أسنانها ساقطة، وقد بدلت، لكن أسماء لم يسقط لها سن ولا ضرس، ولم يغب من عقلها شيء .
اللهم ارزقنا الزوجة الصالحة، لأن الزوجة الصالحة كنز، والدنيا كلها متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة، فهي المربية لأولادها كي يكونوا مؤمنين صادقين . ما مضمون الكتاب الذي أرسله سيدنا عمر لسيدنا حذيفة ؟
سيدنا عمر بن الخطاب أرسل كتاباً إلى واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان الصحابي المعروف، والكتاب أرسله لحذيفة بعد أن بلغه أنَّه تزوج كتابيةً، وهذا من حقه، أليس كذلك؟ قال تعالى:
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾
(سورة المائدة الآية: 5)
وقال له فيه:
((إذا أتاك كتابي هذا فطلِّق، -هذه الكلمة (طلق) تستلزم أن يكون هذا الزواج صحيحاً، ولا يقع الطلاق إلا على أساس زواج صحيح، لكن سيدنا عمر أمره عجيب، أمره خطي يخاطب به واليه على بلاد فارس حذيفة بن اليمان، يقول فيه: إذا جاءك كتابي هذا فطلق, سيدنا حذيفة من كُتَّاب الوحي، وكان فقيهًا وعالمًا جليلاً- فردّ على الخليفة بكتاب آخر قال فيه: يا أمير المؤمنين, أحلال هذا الزواج أم حرام؟ -أنا أنفذ أمرك، لكن أريد أن أطمئن، وهو يراد أن يذكَّره بقوله تعالى:
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
(سورة المائدة الآية: 5)
أنّه يحل التزوج بهن, فردّ عليه العمر الخليفة بما ينبئ أنه عالم بالحل والإباحة، ومع ذلك طلب إليه أن يطلق لأمر آخر برَّره- قال سيدنا عمر: إني أعلم هذا، أنا أعلم أن زواجك حلال، ولكني أخشى الفتنة بين المسلمات
يعني هذه المسلمة المؤمنة الطاهرة العفيفة إذا تزوّجتَ أنت بغير مسلمة فمَن يتزوج المسلمة؟ . كيف فسر محللو السيرة زواج حذيفة بن اليمان من الكتابية ؟
أيها الأخوة, لكنّ كتَّاب السيرة حلّلوا هذا الموقف تحليلات كثيرة:
1- تحليل مصلحة عامة ومصلحة خاصة، وربما تحققت مصلحة سيدنا حذيفة الخاصة، لأنها تناقضت مع المصلحة العامة، وهو والي أمير المؤمنين على بلاد فارس، فإن كانت زوجته كتابية ربما تتسرب إليها بعض الأسرار فتنقلها إلى قومها .
2- عندمـا يعزف الشباب المؤمنون عن الزواج من المسلمات فهذا يجعل بينهن فتنة، فهن لمن إذاً؟ كلما ذهب طالب إلى أوربا فإنّه يتزوج هناك، ويعود بامرأة أجنبية ليس لها عاداتنا، ولا تقاليدنا، ولا إيماننا، ولا قيمنا
حدثني صديق, قال: جاء ابني من بلاد الغرب بزوجة، وبيتهم له شرفة واسعة جداً، فصارت تستلقي بثياب السباحة، وتقول: هذا حمام شمسي، وكل الأبنية مُطِلّة على هذه الشرفة .
سيدنا عمر أدرك أن الإسلام حينما أباح الزواج بالكتابية لئلا يستوحش أهل الكتاب، أما حينما تكون الزوجة مصدر خطر على المسلمين، أو حينما تنشأ فتنة بين المسلمات لعزوف الشباب عن الزواج بهنّ فهذا من شأنه أن يكون محرماً لحكمة سماها علماء الأصول سد الذرائع ، وأنا أعرف عشرات القصص، بل بضع عشرات مفادها أن مَن تزوج امرأة أجنبية نشأ أولاده على غير دين الإسلام، وهناك نساء عُدن إلى بلادهن مع البنات، وزوجها لا يدري، وليس بإمكانه أن يفعل شيئاً، لذلك فإنّ موقف سيدنا عمر عندما قال له: طلِّقْ، موقف سليم، لأنه يخشى الفتنة على المسلمات، وهذا من العمل الصالح .
هذه أضفتها للدرس لأن طبيعة الدرس متعلقة بالسيدة أسماء بنت أبي بكر، فمثل هؤلاء النساء الطاهرات العفيفات ينبغي أن يبحث الشباب عنهن، ولأن الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 12:36 PM   #26


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( السادس و العشرون )

الموضوع : سيدنا عدى بن حاتم الطائى



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة مختصرة عن موضوع الدرس :
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس السادس والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم: عدي بن حاتم الطائي، والده حاتم الطائي كان مضرب المثل بالكرم، وعدي بن حاتم له قصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى المعاني التي تستنبط منها، وكما قلت لكم دائماً: الذي يعنينا أن نربط السيرة النبوية وسيرة صحابة الرسول رضوان الله عليهم أجمعين بحياتنا وواقعنا .
ففي السنة التاسعة للهجرة دان للإسلام ملِكٌ من ملوك العرب بعد نفور شديد، ولان للإيمان بعد إعراض و صدٍّ، وأعطى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد طول إباء، إنه عدي بن حاتم كان ملكًا من ملوك الجزيرة العربية، والحقيقة ترونها بعد قليل أن بطولة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في هذه القدرة الفائقة التي أكرمه الله بها على استجلاب أعدائه قبل أصدقائه .
من السهل جداً أن تجلب من يحبك لكن ليس من السهل أن تلين قلوب أعدائك الذين امتلئوا بغضاً لك .

دخل على النبي عليه الصلاة والسلام رجلٌ, وقال:

((واللهِ يا رسول الله ما على وجه الأرض رجل أبغض إليَّ منك، والآن ما على وجه الأرض رجل أحب إليَّ منك))
فهذه القدرة التي أكرم الله بها نبيه على امتلاك قلوب أعدائه، بينما نحن ننفر الأصدقاء، فضعاف المؤمنين بسبب نقص ثقافتهم، وعدم اتباعهم للسنة النبوية، فمن يلوذون بهم يبتعدون عنهم، وقلت لكم مرةً: العاجز هو الذي يعجز عن اكتساب الأصدقاء، ولكنّ الأعجزَ منه هو الذي يعجز على الاحتفاظ بهم
أن تصل إلى القمة أمرٌ ليس سهلاً، ولكن إذا قيس ذلك بقدرتك على بقائك في القمة فهو سهل جداً، أن تصل إلى مكتسبات شيء وأن تحافظ عليها شيء أعظم، أن تحقق إنجازاً في مسيرة الإيمان، وأن تثبت عليه شيء أعظم، وأن تقفز قفزة نوعية في رمضان، وأن تحافظ عليها على مدار العام شيء أعظم، وأن تهتدي إلى الله شيء، وأن تتابع الهدى شيء آخر، أن تنطلق بسرعة معينة وأن تحافظ على هذه السرعة شيء آخر .
فالعاجز هو الذي عجز عن اكتساب أخ في الله، والأعجز منه هو الذي لم يستطع أن يحافظ على هذه الأخوّة، ولأسباب مادية، ولأسباب تافهة خسر أخوَّته، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان من شدة كماله ورحمته وحبه للخلق يتألف أعداءه قبل أصدقائه، وهذا عدو لدود من أعداء النبي، وسترون بعد قليل كيف أنّ قلبه لان بالإحسان؟ وبالبر تستعبد قلوب الكثيرين، الأقوياء يملكون القوالب، بينما الأنبياء يملكون القلوب، الأقوياء يملكون القوالب بقوتهم المادية، لكن الأنبياء يملكون القلوب بكمالهم، أنت بكمالك بإمكانك أن تملك القلوب . لماذا عادى عدي بن حاتم الطائي النبي عليه الصلاة والسلام قبل إسلامه ؟
ورث عدي الرئاسة عن أبيه، فكان ملكاً في الجزيرة، كان يرأس قبيلة طيىء، وفرضت له الربع في غنائمها، وأسلمت له القيادة، ولما صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الهدى والحق، ودانت له الجزيرة العربية حيًّا بعد حي، رأى عدي في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم زعامة واسعة النفوذ، يوشك أن تقضي على زعامته، وستفضي إلى إزالة رياسته، فعادى النبيَّ، ولماذا عاداه؟ حفاظاً على مصالحه، وما أكثرَ الأشخاص في كل زمان وفي كل مكان، حفاظاً على مصالحهم، وعلى مكتسباتهم، وعلى مراكزهم، وعلى جاههم، وعلى تبجيل الناس لهم ، وعلى تعظيم الناس إياهم، يعادون الحق .
يا أيها الأخ الكريم, إيّاك ثم إيّاك ثم إيّاك أن تقف في خندقٍ معادٍ للحق من أجل مصالحك، ولا بد عندئذ أن تخسر الاثنتين معاً، وإذا وقفت مع الحق ربحت الدنيا والآخرة، وإذا وقفت مع الباطل حفاظاً على مصالحك خسرت الآخرة، وخسرت مصالحك، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
(سورة الأنفال الآية: 36)

لا، لأن الله مع الحق، ولن تستطيع أن تطفئ نور الله، ولن تستطيع أن تضعف قوة الحق، إياك أن تكون في درب الحق معترضاً، فإن الحق لا يلوي على شيء مهما كان شأنه، وما ضر السحاب نبح الكلاب، ما ضر البحر العظيم أن ألقى فيه غلام بحجر، إن الذين يحبون أن يغبروا على الإسلام كمن يكنس الطريق ليغبر على السماء، وما يغبرون إلا على أنفسهم، لأن هذا الإسلام دين الله، بقي شامخاً كالطود على مدار العصور والحقب، ولولا أنه دين الله لقُضِيَ عليه منذ ألف عام ، ولكن هذا الدين العظيم كلما وقفتَ في وجهه ازداد قوةً، كلما أردت أن تقضي عليه ازداد مضاءً ، فهذا عدي بن حاتم رأى في زعامة النبي زعامةً تطغى على زعامته، ورأى في رئاسة النبي رئاسةً ستزيل رئاسته، فماذا يفعل؟ عليه أن يعادي النبي .
أيها الأخوة, يقف الحسد وراء خمسة أعشار معارضات الحق، الإنسان أحياناً يرفض الحق حسداً من عند نفسه، والمثل المأثور:
((إذا عزَّ أخوك فهن))
كن معيناً له يقبلك الله، ويقبله، ويرفع شأنك، ويرفع شأنه، وفضلُ الله عز وجل واسع، رحمة الله تسع الخلق كلهم، ولقد قرأت بيتين من الشعر ذات يوم: ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حد الأدب

أنا عدلت فيه كلمة واحدة قلت: ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
لأن الله عادل، يتعامل مع عباده وفق قواعد ثابتة . ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حد الأدب
إذا وجدت أخاك متفوق ًا فنافسه، قال تعالى:


﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
(سورة المطففين الآية: 26)
ظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قريباً من عشرين عاماً، لكن الله حليم، فالإنسان يضيق ذرعاً بالكفار، يا رب لماذا هؤلاء يعيشون، وحياتهم بيدك, ورزقهم بيدك؟ وحينما خلق الله عز وجل الإنسانَ سمح له أن ينكر وجوده ورزقه، أليس كذلك؟ لا إكراه في الدين، ترى إنسانًا ملحدًا، وله قلب، ودسامات, وشرايين، ورئتان، وكليتان، وأمعاء، وأعصاب، وكذا ألف عضو يعمل في جسمه بانتظام، وعنده فكر وذكاء وحرفة، ويكسب مالاً، وينفق، ويشتري بيتاً، ويتزوج، وهو ملحد، واللهُ لم يضق به ذرعاً، لا إكراه في الدين .
لذلك أعطي الإنسان في الدنيا الكثير، قال له: ابنَ آدم لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك, فالبطولة أن يأتي الإنسان ربه طائعاً، راغباً محباً، فظل عدي بن حاتم على عداوته للإسلام قرابة عشرين عاماً ثم أسلم ، ولإسلام عدي قصة لا تنسى .
لماذا هاجر عدي إلى الشام ؟
يقول عدي بن حاتم: ((ما من رجل من العرب كان أشدَّ مني كراهةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعت به، فقد كنت امرأ شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، معه أموال طائلة، ربع أموال قومه، -وله زعامة وملك وشرف، ووالده أكرم العرب وربع دخلهم له وحده، فماذا يريد من الإسلام؟ بالمنطق المادي هو وصل إلى قمة الدنيا- .
فأخذت الربع من غنائمهم، كما كان يفعل غيري من ملوك العرب، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرِهتُه، ولما عظم أمره، وامتدت شوكته، وجعلتْ جيوشُه وسراياه تشرِّق وتغرِّب في أرض العرب، قلت لغلام لي يرعى إبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي نوقاً سماناً سهلة القياد، واربطها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد أو بسرية من سراياه قد وطئت هذه البلاد فأعلِمْني، -فقدْ هيَّأ الطائرة، ولكل عصر أساليبه- .
وفي ذات غداة أقبل علي غلامي، وقال: يا مولاي, ما كنت تنوي أن تصنعه إذا وطئت أرضَك خيلُ محمد فاصنعه الآن، فقلت: ولِمَ ثكلتك أمك؟ فقال: إني رأيت رايات تجوس خلال الديار، فسألت عنها فقيل لي: هذه جيوش محمد قد قدمت، فقلت له: أعدد لي النوق التي أمرتك بها ، وقربها مني، ثم نهضت من ساعتي، فودعت أهلي وأولادي إلى الرحيل عن أرضي التي أحبها ، وجعلت أعد السير نحو بلاد الشام للِّحاق بأهل ديني من النصارى، وأنزل بينهم، لكنه وقع في غلطة كبيرة ارتكبها، فكانت سببَ إسلامه، وقد أعجلني الأمر عن استقصاء أهلي كلهم، فلما اجتزت مواقع الخطر، تفقدت أهلي فإذا لي أن تركت أختًا لي في مواطننا بنجد، مع من بقي هناك من طيىء، ولم يكن مِن سبيل إلى الرجوع إليها، فمضيت بمَن معي حتى بلغت الشام، وأقمت فيها بين أبناء ديني، أما أختي فقد نزل بها ما كنت أتوقعه وأخشاه))

أخته سفانة من أذكى نساء العرب، ولها قصة مع رسول الله في كتاب آخر . إليكم قصة سفانة أخت عدي مع رسول الله :
قال: ((ولقد بلغني وأنا في ديار الشام أن خيل محمد صلى الله عليه وسلم أغارت على ديارنا، وأخذت أختي في جملة من أخذته من السبايا، وسيقت إلى يثرب، وهناك وضعت مع السبايا في حظيرة عند باب المسجد، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فوقفت، -وكانت ذكية جداً، وقالت: يا رسول الله، خاطبته بالرسالة وهذا عقل راجح، وهي لم تسلم- وقالت له: يا رسول الله، هلك الوالد ، وغاب الوافد، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: ومَن وافدُك؟ الوالد معروف حاتم الطائي، الوافد من؟ قالت: عدي بن حاتم، فقال عليه الصلاة والسلام: الفار من الله ورسوله، ثم مضى، وتركها صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم بشيء، فلما كان الغد مر بها، فقالت له مثل قولها بالأمس، وقفت، وقالت: يا رسول الله, هلك الوالد، وغاب الوافد، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك، قال: من الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، ثم تركها ومضى، فلما كان بعد الغد مرَّ بها، وقد يئست فلم تقل شيئاً، وكان وراء النبي رجلٌ أشار لها من خلفه أن قومي وكلميه كما كلمته بالأمس، فقامت إليه، وقالت: يا رسول الله, هلك الوالد، وغاب الوافد، فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك، وفي رواية أخرى أوسع قالت: يا رسول الله, هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلِّيَ عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، لأنها شريفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((أكرموا عزيزَ قومٍ ذلَّ، وغنيًّا افتقر، وعالماً ضاع بين الجهال))
قالت: فإن أبي كان سيد قومه، يفكّ العاني، ويعفو عن الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذِّمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكَلَّ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فردَّه خائب، أنا بنت حاتم الطائي .

-هناك تعليق للنبي عميق جداً- فقال عليه الصلاة والسلام: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً لترَحمْنا عليه، -معنى ذلك أنّ الإنسان قد يكون بعقل راجح جداً ، وبذكاء لامع، قد يعمل أعمالاً طيبة فيثني عليه الناس بها، ولكنها ليست طاعة لله عز وجل، فرق كبير بين أن تكون كاملاً لتنتزع إعجاب الناس, وبين أن تكون كاملاً لتتقرب إلى الله عز وجل، الأول سلوك اجتماعي ذكي، أمّا الثاني فهو عبادة، والسلوك الاجتماعي الذكي تحصل ثماره في الدنيا فقط، لكن العبادة تحصل نتائجها في الدنيا و الآخرة معاً .
ومرةً ذكرت ذلك في موضوع الأمانة، أنك استقرضتَ مئة ألف، ووقعت سندًا، وأديته في وقته، يا أخي أنا أمين، لا، لست أمينًا، ليست هذه هي الأمانة، أنت موقع على سند، وخصمك مر, وإذا لم تدفع شهَّرَ بك، وأقام عليك دعوى، وحجز على أموالك، وأخذ منك المبلغ عنوة في المحاكم، وأنت حينما دفعت هذا المبلغ دفعته طلباً للسلامة، وحفاظاً على مكانتك وسمعتك، الأمين رجل أعطاك مئة ألف في سيارة، ثم وقع حادث في هذه السيارة، ومات في هذا الحادث، ولم يعلم أحد في الدنيا كلها بهذا المبلغ، لا شركاؤه، ولا ورثته، ولا أيّ إنسان كائنًا من كان، وليس في الأرض كلها من يطالبك به، ولا من يُدِينُك به، فتوجهتَ بمحض اختيارك إلى ورثته، وأعطيتهم هذا المبلغ، هذه هي الأمانة دفعت هذا المبلغ إرضاء لله عز وجل .

والإنسان أحيانا يأخذ موقفًا رحيمًا، وهو ليس رحيماً، يأخذ موقفًا عادلا، وهو ليس عادلاً ، هذا سلوك ذكي تمليه عليه مصلحته، وبهذه الطريقة نفسر كل ما عند الأجانب الكفار من تصرفات تعجبنا، يا أخي أخلاق المسلمين، لا ليست أخلاق المسلمين، ولكنهم أذكياء جداً، وهكذا تقتضي مصالحهم، أما إذا أردت أن ترى وحشيتهم فاستمع إلى الأخبار، يبحثون عن حقوق الحيوان، مستشفيات للحيوانات، وقيود نفوس للحيوانات، ألبسة خاصة للحيوانات، ومكان تسوُّق خاص للحيوانات، ولحوم خاصة للحيوانات، وما حالُ بني البشر الذين تذبحونهم؟ وما موقفهم من شعوب العلم الثالث؟ ظلم، ونهب ثروات، واضطهاد, واستعباد, وقتل, وتشريد- .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ارْحَمُوا ثَلاَثَةً: عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال))
[ورد في الأثر]
-قد تكون في المطار، ورأيتَ رجلاً تعرفه من أهل العلم، جالس بين السياح، ضائعًا بينهم، غير معروف، فإذا سلمت عليه باحترام، وأكرمته بمكان خاص فقد عملت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارْحَمُوا ثَلاَثَةً: عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افِتَقَرَ، وَعَالِماَ بَيْنَ جُهَّال))
[ورد في الأثر]

وامتن عليها بقومها، فأطلقهم جميعاً تكريماً لها، فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمةً عن كريم إلا جعلك سبباً في ردِّها عليه .
-أحيانا تخدم إنسانًا فيرفس ويجحد، وقد تخدم إنسانًا، ويكون كريمًا فلا ينسى لك هذا المعروف طوال حياته، اللهم ارزقنا العمل الصالح مع الكرماء, يقول سيدنا علي:
((والله والله مرتين لحفر بئرين بإبرتين، -فهل هذا يكون؟ بئر ارتوازية عمقها تسعون مترًا تُحفَر بإبرة- وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، -صحراء كلها رمال أيمكن هذا بريشة طائر؟‍‍‍- ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، -عشر مرات بالليفة الخشنة، ويبقى أسود- قال: أهون عليَّ من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين))
سيدنا عليٌّ سئل: ما الذل؟ قال: ((أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده))

لما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها فإنّ أباها يحب مكارم الأخلاق، -والآن اسمعوا دقة موقف النبي-
((قال لها: يا جارية إلى أين تريدين أن تذهبي؟ قالت: أريد اللحاق بأهلي في الشام، فقال: ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك، ليبلغك بلاد الشام، فإذا وجدت الثقة فأعلميني، وكأنها ابنته لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام سألت عن الرجل الذي أشار إليها أن تكلمه, فقيل لها: إنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله, لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، فكساها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنحها ناقة تحملها، وأعطاها نفقة تكفيها، وأطلق سراح قومها كلهم إكراماً لها، ولم يسمح لها بالخروج إلا مع من تثق به، كي يبلغها أهلها بسلام، فخرجت مع الركب))
إليكم قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي :
فلْنعُدْ إلى عدي بن حاتم في بلاد الشام، وهو هارب، قال عدي: ((ثم جعلنا بعد ذلك نتنسم أخبارها، ونترقب قدومها، فو الله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت علينا بادرتني بقولها القاطع الظالم، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك وعورتك، فقلت: أيْ أُخَيَّة لا تقولي إلا أنْ تقولي خيراً، وجعلتُ أسترضيها حتى رضيت، وقصَّتْ علي خبرها، فإذا هو كما تناهى إليَّ، فقلت لها وكانت امرأة حازمة عاقلة: ما ترين في هذا الرجل، يعني محمداً، قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن نبياً فلسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل عنده، وأنت أنت، -وعلى الحالتين الذهاب إليه غنيمة، فإذا كان نبياً فأنت من السابقين، وإذا كان ملكًا فلن تذلَّ عنده، وديننا كله مكارم أخلاق صريحة، والإسلام كله صدق وأمانة وأخلاق واستقامة- .
قال عدي: فهيأت جهازي، ومضيت حتى قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، -لا تقل: جِهازي بكسر الجيم, صوابها جَهازي بفتح الجيم, قال تعالى:

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾
(سورة يوسف الآية: 59)

((ومضيتُ حتى قدمتُ إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير كتاب ولا أمان، وكان عديّ بن حاتم يتصور أن يقتله النبي، وكان بلغني أنه قال: إني لأرجو أن يجعل الله يد عدي في يدي، نتعاون، وقد بعث له بهذا الخبر، فدخلت عليه وهو في المسجد، فسلمت عليه، قال: من الرجل؟ قلت: عدي بن حاتم، فقام إلي، وأخذ بيدي، وانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لماضٍ بي إلى البيت إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة، ومعها صبي صغير، فاستوقفته، وجعلت تكلمه في حاجة لها، فظل معها حتى قضى حاجتها، وأنا واقف، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملِك، ثم أخذ بيدي حتى أتينا منزله، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فألقاها إليَّ، وقال: اجلس على هذه، فاستحييت منه ، وقلت: بل أنت تجلس عليها، قال: بل أنت، فجلستُ عليها، وجلس رسول الله على الأرض، إذْ لم يكن في بيته سواها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم التفتَ إليَّ وقال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسياً تدين بدين بين النصرانية والصابئة؟ قلت: بلى, قال: ألم تكن تسير في قومك بالمرباع، تأخذ ربع أموالهم، فتأخذ منهم ما لا يحل لك في دينك، فقلت: بلى، وعرفت عندئذٍ أنه نبي مرسل، يعلم ما نجهل، ثم قال لي: لعلك يا عدي, إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة المسلمين وفقرهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم، حتى لا يوجد من يأخذه،-إذا رأيت أخوانك كلهم فقراء، والأغنياء ليسوا في المسجد، الأغنياء في النوادي والفنادق والملاهي، فلا تنكمش- ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من قلة المسلمين وكثرة عدوهم، فو الله لتوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف إلا الله، ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن المُلْك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله لتوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، وإن كنوز كسرى قد صارت إليهم، فقلت: كنوز كسرى؟ قال: نعم كنوز كسرى، قال عدي : عندئذ شهدت شهادة الحق، وأسلمت))
هل صدق النبي في الوعد الذي قطعه لعدي ؟
عُمِّرَ عدي طويلاً، وكان يقول:

((لقد تحققت اثنتان، وبقيت الثالثة، وإنها والله لا بد كائنة ، فقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئاً، حتى تبلغ البيت، وكنتُ في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، هو نفسه وأخذتها، وأحلف بالله لتجيئَن الثالثة، ولقد شاء الله أن يحقق قول نبيه عليه الصلاة والسلام، فجاءت الثالثة في عهد الخليفة الزاهد العابد عمر بن عبد العزيز، حيث فاضت الأموال على المسلمين حتى جعل مناديه ينادي: من يأخذ أموال الزكاة؟ من فقراء المسلمين؟ فلا يجد أحداً))
سيدنا عمر بن عبد العزيز لا يجد فقيرًا يعطيه الزكاة، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، وبرّ عدي بن حاتم بقسمه .
لا تنكمش أيها الأخ عن التوبة إلى الله أنْ ترى المؤمنين ضعافًا أو فقراء أو أمرهم بيد عدوهم، لكنَّ الله معهم، وسينصرهم إن شاء الله تعالى .





 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 12:38 PM   #27


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( السابع و العشرون )

الموضوع : سيدنا عكرمة بن ابى جهل

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
العداوة التي ورثها عكرمة بن أبي جهل عن أبيه لرسول الله والأذى الذي لحق بالمسلمين من عكرمة
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس السابع والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا عكرمة بن أبي جهل .
أيها الأخوة الأكارم، هذه القصة لها دلالات عظيمة، ومن أبرز دلالاتها أن أشدّ الناس عداوةً إذا اهتدى إلى الله عز وجل يكون من أشدِّ الناس نصرة، والمؤمن لا ييأس من أعداء الله، مهما تكن العداوة شديدة، ومهما يكن البُعدُ واسعاً، هذا العدو اللدود، وهذا الخصم العنيد، وهذا المقاتل في سبيل الطاغوت إنسان لو اهتدى إلى الله سبحانه وتعالى لصار أقربَ الناس إليك، فلذلك هذه القصة تعطينا تفاؤلاً، ودلالةً عظيمةً في أن المؤمن يطمع حتى في أعدائه، وسوف ترون كيف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته البالغة، ورحمته الواسعة، وعطفه الشديد، وبُعدِ نظره ، كيف أنه صنع من ألدِّ أعدائه نصيراً وصحابياً؟ .
هذا الصحابي كان في أواخر العقد الثالث من عمره، فسِنّه ما بين خمس وعشرين وثمانٍ وعشرين سنة، يوم صدع نبي الرحمة بدعوى الهدى والحق، وكان من أكرم الناس حسباً، وأكثرهم مالاً، وأعزهم نسباً، من علية القوم، ومن الفرسان، وكان جديراً أن يسلم كما أسلم نظراؤُه، من أمثال سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير، وغيرهما من أبناء البيوت المرموقة في مكة، لولا عنادُ أبيه، فمَن هو أبوه؟ إنه أبو جهل، زعيم الضلال، وزعيم المناوأة والشرك، وزعيم القسوة، وحتى أيامنا هذه إذا أردتَ أن تصف إنساناً بالقسوة والغلظة والبطش وقسوة القلب تقول عنه: أبو جهل، هذه كلمة يستعملها الناس إلى يومنا هذا .
عكرمة بن أبي جهل وجد نفسه مدفوعاً بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر خطأ، أنْ يتحرك الإنسانُ بلا وعي، وينطلق بلا هدف مع الناس، إن أحسنَ الناس أحسنتَ، وإن أساؤوا أسأت، هذا هو التيار الجارف، إنها بلوى عامة، وهكذا المجتمع، وتقول الزوجة: هكذا زوجي يريد، أكبر غلط للإنسان أنْ ينساق مع مَن حوله بلا وعي، يخاصم بلا سبب، ويناوئ بلا مبرر، ويرتكب المعاصي بلا قناعة، ويقاتل من دون فهم، ويسالم من دون سبب وجيه، هذا هو الإمعة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يكون أحدُنا إمَّعة، والإمّعة هو الذي يقول: أنا مع الناس, إن أحسنوا أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأت، هكذا كلام العوام، هذا هو الجهل بعينه، وهذا هو التخلف العقلي, هذا هو ضعف الشخصية .
عكرمة بن أبي جهل بحكم بيئته، وانسجاماً مع عداوة أبيه، وانطلاقاً ممن حوله ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم أشدّ العداوة، وآذى أصحابه أفدحَ الإيذاء، وصب على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرّتْ به عينُ أبيه، فقد قرَّت عينُ أبيه لشدة ما نال من أصحاب رسول الله، وما نكّل بهم، ولشدة ما ناصب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من العداوة والبغضاء والتجريح و الطعن .
هل تحققت رغبة أبو جهل يوم بدر وما هي النتيجة التي حصل عليها ؟
لما قاد أبوه معركة الشرك يوم بدر، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا بعد القضاء على الإسلام بهزيمة محمد صلى الله عليه وسلم .

أيها الأخوة الأكارم, إياك أن تحتمي بغير الله، وأن تلوذ بغير الله، فما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلتُ الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعتُ أسباب السماء بين يديه .
فأبوه زعيم الشرك، قاد معركة الشرك، وأقسم باللات والعزى ألاّ يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمداً صلى الله عليه وسلم، ونزل ببدر، وأقام بها ثلاث ليالٍ ينحر الجُزُر، ويشرب الخمور ، وتعزف له القيان بالمعازف، خمر على النساء، على الغناء، على قسم باللات والعزى ليهزمنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يعود إلى مكة، لكن اللات والعزى لم يلبِّيان نداء أبي جهل، لأنهما لا يسمعان، قال تعالى :
﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
(سورة فاطر الآية: 14)

هذه الآية رائعة جداً في وصف أهل الشرك، وعلى فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لكم, فلم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان، ولم يسمعاه لأنهما أصمّان، فالويل لمَن يعتمد على أصمّ وعاجز، لكن الله سبحانه وتعالى أينما توجهتَ إليه يسمعك، وحيثما أقبلتَ عليه يستجبْ لك، وهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، في معركة بدر خرَّ أبو جهل الطاغية الكبير صريعًا، ورأى ابنُه عكرمةُ بعينه رماحَ المسلمين تنهل من دمه، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه .
عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خلف جثّةَ سيد كفار قريش في بدر، فقد أعجزته الهزيمة أنْ يظفرَ بجثة أبيه ليدفنها في مكة, تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع هذه الجثث في قليب ، أي في بئر، وناداها واحداً واحداً، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ, فَقَالَ:
((يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ, يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ, يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ, يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ, أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا, فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ, وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا, ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أنس بن مالك]
ما هو الموقف الذي اتخذه عكرمة بعد وفاة أبيه ؟
أيها الأخوة, لكن بعد مقتل أبيه أخذ عكرمة موقفًا آخر، كان في بادئ الأمر يعادي النبي صلى الله عليه وسلم حَميَّةً لأبيه، فأصبح يعاديه اليوم ثأراً لأبيه، ومن هنا انبرى عكرمة ونفر ممَّن قُتِل آباؤُهم في بدر يؤجِّجون نار العداوة في صدور المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم, حتى كانت موقعة أحد، فخرج عكرمة بن أبي جهل إلى أحد وأخرج معه زوجته أمُّ حكيم، لتقف مع النسوة في بدر وراء الصفوف، وتضرب معهنّ على الدفوف، تحريضاً لقريش على القتال، وتنديداً لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار، خرج عكرمة بن أبي جهل، وأخذ معه زوجته أم حكيم كي تكون الزوجة دافعًا لزوجها في اقتحام الأخطار، ولإحراز النصر، لعل هذا النصر يكون ثأراً لموقعة بدر .
جعلت قريش على ميمنة الجيش خالد بن الوليد، وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل، وكان قائداً لامعاً جداً، وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاءً رجّح كفة قريش على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين عصوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وتحقق للمشركين النصر الكبير، مما جعل أبا سفيان يقول: هذا يومٌ بيوم بدر، وفي يوم الخندق حاصر المشركون المدينة أياماً طويلة، فنفذ صبر عكرمة بن أبي جهل، وضاق ذرعاً من الحصار، ونظر إلى مكان ضيق من الخندق، وأقحم جواده فاجتازه، ثم اجتازه وراءه بضعةُ نفر في أجرأ مغامرة، ذهب ضحيتها عمرُو بن عبد وُدٍّ العامري أمَّا هو فلم ينجُ إلا بالفرار . ما هو الرأي الذي أجمعت عليه قريش ومن خالف هذا الرأي ولماذا فر عكرمة إلى اليمن ؟
أيها الأخوة, لكن العقدة في القصة يوم فتح مكة، في يوم الفتح رأت قريش ألاّ قَبَلَ لها بمحمد صلى الله علي وسلم وأصحابه، فأجمعت على أن تُخلِيَ له السبيل إلى مكة، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن النبي عليه الصلاة والسلام أمَر قواده ألاّ يقاتلوا إلا مَن قاتلهم من أهل مكة، لكن عكرمة بن أبي جهل، انظروا إلى عداوته وإلى إصراره على ذلك، وإلى شدة حقده وبغضه للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لكن عكرمة بن أبي جهل ونفرٌ ممّن معه خرجوا على إجماع قريش، وتصدَّوا للجيش الكبير، فهزمهم خالد بن الوليد، والذي أسلم قبل فتح مكة بعام، هزمهم في معركة صغيرة، قُتِل فيها من قُتِل، ولاذ بالفرار من لاذ، وكان في جملة الفارِّين عكرمة بي أبي جهل .
خرج عكرمة مِن مكة موطنه الذي نبت به، وبعد أن خضعت للمسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام عفا عما سلف من قريش تجاهه، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام استثنى منهم نفراً سمّاهم بأسمائهم واحداً واحد، وأمر بقتلهم، وإنْ وُجِدوا تحت أستار الكعبة، منهم عكرمة، عفا عن كل أهل قريش غير فلان وفلان, وهؤلاء أمرَ بقتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمَهم، وقد مَّر معنا من قَبلُ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾
(سورة الزمر الآية: 37)
كانت عزَّتُه عليه الصلاة والسلام تقتضي أنْ يعاقب أعداءه، هكذا كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ دمَهم، وأمر بقتلهم، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة عكرمةُ بن أبي جهل، عداوة ما بعدها عداوة، تذكروا أول الدرس, فقد قلت: هذه القصة لها دلالة كبيرة، لأنّ أَلَدَّ أعداء المسلمين، وأشدَّ خصومهم إذا اهتدى إلى الله يصبح أقرب الناس إليهم .
لي صديق حدثني أنه زار بلدًا في أمريكا الشمالية، كندا، وفي مونتريال زار مركزاً إسلامياً، وهناك في أثناء تفقد المركز الإسلامي وهو من ثلاثة طوابق، قال لي: وَجدتُ رجلاً في غرفة في زاوية المسجد يصلي، فأردت أن أصغي إلى قراءته، أدهشني أنه يصلي ويبكي، ويصلي ويدعو وتنهمر دموعه، قال لي: شيء لا يصدق، ركعتان تستغرقان معه ساعتين، بينما التراويح عشرون ركعة تتم في ساعة في مساجدنا، وأنا مصرٌّ على أن أستمع إلى دعائه وابتهاله ، وتهجده وتلاوته للقرآن، وبعد أن انتهى من صلاته، معه فراش صغير اندسّ فيه، ونام على شقه الأيمن، فالمضيف الذي جاء بي إلى هذا المركز أخذته من يده في الطابق الأسفل، وصعدت به إلى الطابق الثالث، وقلت له: أرأيته، قال: نعم، قلت له: مَن هذا؟ قال: هذا من أبناء كندا الأصليين، اهتدى إلى الله عز وجل، وكان يمضي عطلة نهاية الأسبوع على سواحل البحار، وفي النوادي الليلية، ويرتكب هو وزوجته كل الموبقات، فلما دُعِيَ إلى الإسلام، وأناب إلى الله، واصطلح معه نذر أن يمضي يومين من كل أسبوع معتكفًا في هذا المسجد هو وزوجته، قلت له: أين زوجته؟ قال: في قسم النساء، مثله تصلي وتتهجد، ولا يبدو من جسمها شيء حتى إنها تلبس القفازين، وعليها جلباب كامل، ووجهها مستور، قلت: يا سبحان الله !! إنسان متفلت غارق في المعاصي والآثام يصبح من العباد الخلص، وهو من سكان كندا، هذه القصة غريبة جداً .
كان عكرمةُ في طليعة هؤلاء النفر الذين أهدر النبيُّ عليه الصلاة والسلام دمَهم وأمر بقتلهم, لذلك تسلَّل متخفياً من مكة، ويَمَّمَ وجهه شطر اليمن، إذ لم يكن له ملاذٌ إلا هناك, وهذا بالتعبير الحديث يُسمَّى اللجوء السياسي, هرب من الجزيرة العربية إلى اليمن في جنوبها .
من هي أم حكيم وكيف أسلمت وماذا طلبت من رسول الله ؟
أيها الأخوة, أم حكيم زوجتُه، فمَن هي أم حكيم؟ زوجته مضت مع هند بنت عتبة إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما هذه الجرأة؟ زوجة أعدى أعداء النبي عليه الصلاة والسلام التي مضغت كبد سيدنا حمزة ذهبت إلى بيت النبي عليه الصلاة و السلام, ومعها عشرة نسوة، ليبايعن النبي عليه الصلاة والسلام، فدخلن عليه، وعنده اثنتان من أزواجه، وابنته فاطمة، ونساء من بني عبد المطلب, تنقبت هندٌ، أيْ سترت وجهها بالنقاب, وقالت: ((يا رسول الله! الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، وإني لأسألك أن تَمُسَّنِي رحمتُك بخير، فإني امرأة مؤمنة مصدقة, ثم قالت له: أنا هند بنت عتبة يا رسول الله! فقال عليه الصلاة و السلام: مرحباً بك, -امرأة من ألدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، حرّضت القرشيين كانت في معركة أحد خلف الرجال، ولها أبيات من الشعر لا يليق أن أذكرها لكم في هذا الدرس في تحريض الرجال على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- قالت: يا رسول الله! واللهِ ما كان على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليَّ أن يذلّ من بيتك, ولقد أصبحتُ و ما على وجه الأرض بيتٌ أحبَّ إليّ أن يعزّ من بيتك, صريحة، فقال عليه الصلاة والسلام: وزيادة أيضاً، فقامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت، وقالت: يا رسول الله! قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً أن تقتله فأَمِّنْه أَمَّنك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: هو آمن، -فالنبيّ كريم اللهم صلِّ عليه، والكريم هذا شأنه، سريع الرضى، هناك أشخاص لو قبَّلتَ رجله لا يرضى، إذا حقد لم يرض- .

فخرجت من ساعتها في طلبه، ومعها غلام لها رومي، فلما أوغلا في الطريق، راودها الغلام عن نفسها فجعلت تمنِّيه، وتماطله حتى قدمت على حيِّ من العرب، فاستعانتهم عليه فأوثقوه ، وتركوه عندهم، ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة تهامة ، وهو يفاوض نوتياً، والنوتي هو الملاَّح صاحب السفينة، هذا النوتي مسلم، والنوتي يقول له: أخلص حتى أنقلك، فقال عكرمة: وكيف أخلص حتى تنقلني؟ قال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال عكرمة: ما هربت إلا منها، هذا النوتي اشترط عليه أن يسلم حتى يأخذه بسفينته، وفيما هو كذلك أقبلت أم حكيم على عكرمة، وقالت: يا بن عمي, جئتك من عند أفضل الناس، جئتك من عند خير الناس، جئتك من عند أبرِّ الناس، مِن عند محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ولقد استأمنتُ لك منه، وأمّنك فلا تهلك نفسك، قال: أنت كلمتِه؟! قالت: نعم ، أنا كلمته، وأمّنك، وما زالت به تؤَمِّنه، وتطمئنه حتى عاد معها، ثم حدثته حديث غلامها الرومي فمرّ به وقتله قبل أن يسلم، ليس لنا علاقة بالأحكام قبل أن يسلم .
وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلوَ بزوجته فأَبَت ذلك أشدّ الإباء، وقالت: إني مسلمة، وأنت مشرك، فتملكه العجب, قال: إن أمراً يحول دونك ودون الخلوة بي لأمر عظيم))

فهل للإنسان شيءٌ أقرب من زوجته؟ وكان ذكاؤه شديداً، ما هذا الدين؟ أنت زوجتي، وأنا زوجك، قالت له: إني مسلمة، وأنت مشرك . إليكم قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل ؟
((فلما دنا عكرمة من مكة, قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا فلا تسبُّوا أباه، فإن سبَّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت، -قال تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
(سورة القلم الآية: 4)
ما هذه الأخلاق السامية؟ ينهى النبيّ عليه الصلاة والسلام أن يسبَّ أصحابُه أبا جهل زعيمَ الشرك والكفر .
أحيانًا قد يلتقي الإنسانُ بأخ يقول له: أبوك لا يصلي، فليس فيه دين، كلام ليس فيه لباقة ، الرسول عليه الصلاة والسلام راعى مشاعر عكرمة في أبيه الكافر المشرك، العدو اللدود الصنديد- .

وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وثب إليه مِن غير رداء فرحًا به، والرداء مثل العباءة، فمِن شدة فرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه وثَب إليه من غير رداء فرحًا بإسلامه, -لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام أرحمُ الخلق بالخلق، هل عندك إمكانية إذا كان لك عدو لدود نال منك أشدّ النيل، ثم رأيته رجع إلى الله، وأقبل عليه واصطلح معه أن تحترمه كما لو أنه أخوك؟ -
ولما جلس عليه الصلاة والسلام وقف عكرمة بين يديه، وقال: يا محمد عليه الصلاة والسلام، إنّ أم حكيم أخبرتني أنك أمّنتي، فقال عليه الصلاة والسلام: صَدَقَتْ، فأنت آمن، قال عكرمة: إلامَ تدعُ يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أنه لا إله إلا الله، وأني عبد الله ورسوله، وأن تقيم الصلاة، وأن تؤتي الزكاة، حتى عدَّ أركان الإسلام كلَّها، فقال عكرمة: والله يا رسول الله ما دعوتَ إلا إلى حق، وما أمرتَ إلا بخير، ثم أردف يقول: يا رسول الله، قد كنتَ فينا واللهِ قبلَ أن تدعوَ إلى ما دعوتَ إليه، وأنتَ أصدقُنا حديثاً، وأبَرُّنا براً، ثم بسط يده، وقال: إني أشهد أنه لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله، ثم قال: يا رسول الله, علِّمني خير شيء أقوله، فقال عليه الصلاة والسلام: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فقال عكرمة: ثم ماذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تقول أُشْهِد الله، وأُشْهِد مَن حضر أني مسلم مجاهد مهاجر فقال عكرمة ذلك، عند هذا قال عليه الصلاة والسلام: اليوم لا تسألني شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيك إياه .
-وأنتم كمؤمنين ينبغي أن تفرحوا أشدّ الفرح إذا اصطلح أحد خصومكم مع الله عز وجل، ويجب أن ترحِّبوا به، وأن تقدّموا له كل طلباته، وهذه فرصة نادرة- اسمعوا ما قاله عكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام، قال:
((يا رسول الله، إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتك، أنا كنت عدُوًّا لدودًا لك، أو كل مقام لقيتُك فيه، وكل كلام قلتُه في وجهك، أو في غيبتك، فاستغفر لي الله عز وجل، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسيرٍ سار به إلى موضع يريد به إطفاء نورك، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي، أو أنا غائب عنه، فتهلّل وجه عكرمة بِشْراً، وقال: أمَا واللِه يا رسول الله, لا أدع نفقًة كنتُ أنفقتها في الصَّدِّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفَها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلتُهُ صداً عن سبيل الله إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله
-هكذا الاصطلاح مع الله، أيام الجاهلية سيجعل مكانها أيام جهاد وصبر وعطاء وخدمة ودعوة وطلب علم، وأيام الإساءة حل محلَّها أيامُ الإحسان، وأيامُ الجفاء حلَّ محلها أيامُ الود- ومنذ ذلك اليوم انضمَّ عكرمةُ إلى موكب الدعوة فارسًا باسلاً في ساحات القتال، وعابدًا قوّامًا قرّاءً لكتاب الله في المساجد، فقد كان يضع المصحف على وجهه, ويقول: كتاب ربي، كلام ربي، وهو يبكي من خشية ربه))

ما هذه النقلة أيها الأخوة؟ لا أعتقد بوجود قصةِ إنسانِ انتقل هذه النقلة الحادة من قصة عكرمة إلى درجة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أهدر دمه، وأمر بقتله، ولو تعلق بأستار الكعبة، ثمّ إنه أصبح عابداً قارئاً مصلياً مجتهداً، وعاهد نفسه كل على أنّ كل نفقة أنفقها في الصدِّ عن سبيل الله سينفق ضعفها في سبيل الله، وكل قتال قاتل فيه بالصد عن سبيل الله سيقاتل عنه ضعفين في سبيل الله . هل وفى عكرمة بوعده وفي أية معركة صدر هذا البر وكيف كان موقفه ؟
أيها الأخوة, الآن جاء وقتُ البَّرِّ بقَسَمِه, في معركة اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم الحارِّ، ولما اشتد القتالُ على المسلمين في أحد المواقف الصعبة نزل عن جواده، وكسر غمد سيفه، وأوغل في صفوف الروم، فبادر إليه سيدنا خالد، وقال :
((يا عكرمة لا تفعل، فإنَّ قتْلَك سيكون شديداً على المسلمين، فبماذا أجابه؟ قال له: إليك عني يا خالد، لقد كان لك مع رسول الله سابقة، أمّا أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم عداوةً، فدعني أكَفِّر عمَّا سلف مني .
أنت لك مواقف، وقد أسلمتَ في وقت مناسب، وقاتلتَ، وأحرزتَ النصر، أمّا أنا فقد قاتلتُ رسول الله في مواقف كثيرة أَوَ أفرُّ من الروم اليومَ, إنّ هذا لن يكون أبداً، ثم نادى في المسلمين: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمئة من المسلمين، فقاتلوا دون فسطاط خالد بن الوليد أشد القتال، وذادوا عنه أكرم الذود، ولما انجلت معركةُ اليرموك عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين، كان يتمدّد على أرض المعركة ثلاثةُ مجاهدين أثخنتهم الجراح، هم الحارث بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، أمّا عكرمة فقد استشهد .

-أرأيتم إلى شوقه إلى الاستشهاد، أرأيتم إلى رغبته الجامحة في التكفير عن سيئاته، فإذا كان من أخوانا المؤمنين مَن له جاهلية ألا ينبغي أن يبذل في الطاعات ضعفَ الوقت الذي بذله في المعاصي؟ ألا ينبغي أن يعاهد الله على أنْ يكون قوله وعمله وطاقته في سبيل الله؟ فهذا عكرمة, فلا تيئس من أعداء المسلمين .
غارودي زعيم حزب في فرنسا ينكر وجود الله عز وجل، وهو اليوم من المسلمين، ويدعو إلى الإسلام، وله مؤلفات، فلا تيأس من أعداء المسلمين، لكن كن موَّفقاً في حسن مخاطبتك إياهم، فمهمة الداعية توضيحُ الحق وتبيينُه، لأن هذا العدو إنسانٌ له نفس وفكر وله فطرة وطبيعة ، وسيدنا عكرمة كان عدُوًّا لدودًا مهدور الدم، فإذا به من محبِّي رسول الله، والحقيقة ما عرف التاريخ أبطالاً عاشوا قِيَماً مثل أصحاب رسول الله- .
الحارث دعا بماء ليشربه، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة، وهو جريح ينازع سكرات الموت، وهذا لا يعرفه إلا الجرحى، فالجريح يشعر بعطش لا يقابل ويتمنى كأس ماء، فدعا الحارث بماء ليشربه، فلما قُدِّم له نظر إليه عكرمة، فقال: ادفعوه إليه، فلما قرّبوه إليه نظر إليه عياش، فقال: ادفعوه إليه، فلما دنا من عياش وجدوه قد قضى نحبه، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد قضيا نحبهما، لقد آثروا بعضهم، وهم على أرض المعركة في النزع الأخير))

رضي الله عنهم أجمعين، وسقاهم من حوض الكوثر شربةً لا يظمؤون بعدها أبداً . مغزى القصة :
أيها الأخوة, المغزى من هذه القصة أنه لو كان لك عدو لدود فكن معه محسناً، وخاطِبْه بالمنطق، وكن مثالياً معه لعل الله سبحانه وتعالى يكرمك بإسلامه وهدايته، فإذا اهتدى فهو في صحيفتك، ولا تنسوا أن سيدنا عمر لما دخل عمير بن وهب على النبي, قال: دخل عمير والخنزير أَحَبُّ إليَّ منه، وخرج من عند رسول الله وهو أحبُّ إليّ من بعض أبنائي .
ليس في الإسلام عداوة، هناك عداوة مؤقتة، أنت تبغض عمله، ولا تبغضه, هو عبد لله تكره عمله فقط، فأَحسِنْ إليه عسى الله أن يهديه ويجزيك أجره .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 12:41 PM   #28


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثامن و العشرون )

الموضوع : سيدنا عمير بن سعد الانصارى



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف نشأ عمير بن سعد الأنصاري ؟
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس الثامن والعشرين من دروس صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين
وصحابيّ اليوم سيدنا عمير بن سعد، وقصته وقعت يوم كان في السنة العاشرة من عمره، انظروا إلى عظمة الإسلام شيخ في الثمانين يجاهد في سبيل الله ليصل إلى القسطنطينية، ويدفن هناك، وطفل في العاشرة من عمره، كأن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم يمثِّلون كل النماذج البشرية، ويمثِّلون كل الأعمار، وكل الأحوال، وكل الأطوار، وكل البيئات، وكل المستويات، وكل القدرات والإمكانات، والإسلام يجعل من الإنسان بطلاً ولو كان صغيراً، ويجعل من الشيخ بطلاً ولو كان متقدماً في السن .

الغلام الصغير عمير بن سعد الأنصاري تجرّع كأس اليُتْم والفاقة منذ نعومة أظفاره، فقد مضى أبوه إلى ربه، ولم يترك له مالاً ولا معيلاً، لكن أمه ما لبثت أن تزوجت رجلاً ثريًّا من أثرياء الأوس في المدينة يدعى الجلاَّس بن سويد، فكفل ابنها عميراً، ولقي عمير مِن برِّ الجلاس وحسنِ رعايته وجميل عطفه ما جعله ينسى أنه يتيم .
أحب عمير الجلاس حبَّ الابن لأبيه كما أولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده، كأن عمير ابن الجلاس، وكأن الجلاس والد عمير، وكان كلما نما عمير وشب يزداد الجلاس له حباً وبه إعجاباً كما كان يرى به أمارات الفطنة والنجابة التي تبدو في كل عمل من أعماله .
يا أيها الأخوة الأكارم, إذا كان لأحدنا طفل صغير فليتأمّل منه خيرًا إن شاء الله، فهذا عمير في العاشرة من عمره كان بطلاً، وسوف ترون من قصته العجب العجاب، والذي عنده طفل عليه أن يعتني به، وعليه أن يرعاه، وأن يعلمه, عليه أن يؤدِّبه، فعليه أن يربِّيَه على قراءة القرآن ، وعليه أن ينشئه على حب النبي العدنان عليه أتم الصلاة والسلام . متى أسلم عمير , وهل أسعد إسلامه والدته ؟
أسلم الفتى عمير، وبايع النبيَّ عليه الصلاة والسلام وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكاناً خالياً فتمكن منه .

أيها الأخوة الأكارم, كلما بكّرتم بالإيمان كلما تمكّن الإيمان في قلوبكم، وكلما كانت نشأتكم منذ البداية على طاعة الله وطاعة رسوله وحب القرآن وحبِّ أهل الإيمان، كلما نما الإيمان وترعرع حينما تكبرون, مَن لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة، ريح الجنة في الشباب، هذه القصة عجيبة جداً لطفل في العاشرة مِن عمره .
مرة قلت لكم: دخل وفدٌ من الحجازيين على عمر بن عبد العزيز فانزعج الخليفة منهم، لأن فيهم غلاماً صغيراً، وكأن هذا الغلام انتقص من قدره، والأغرب من ذلك أن هذا الغلام وقف ليتكلم, فقال له الخليفة عمر:
((اجلس، وليقمْ مَن هو أكبر منك سناً، فقال: أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا وهب اللهُ العبدَ لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الأمة مَن هو أحقُّ منك بهذا المجلس))
الغلام الثاني دخل على أحد الخلفاء الكبار مِن بني أمية, هشام بن عبد الملك، فلما رأى طفلاً صغيراً بين الوفد عاتب الحاجب، وقال: ((ما شاء أحدٌ أن يدخل عليَّ إلاّ دخل، حتى الأطفال، فقال هذا الغلام الصغير: أيها الأمير, إنّ دخولي عليك لن ينقص من قدرك، ولكنه شرَّفني, أصابتنا سَنَة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقَّت العظم، ومعكم فضولُ مالٍ، فإن كانت هذه الأموال لكم فتصدقوا بها علينا، وإن كانت لله فعلام تحبسوها عن عباده، فقال الخليفة: واللهِ ما ترك هذا الغلام لنا في واحدة عذرًا))
ومِن البطولات الغلمان، يُذكر أنّ عبد الله بن الزبير لما مرّ به سيدنا عمر، وكان مع جمع غفير من غلمان المدينة يلعبون، وكان عمرُ ذا هيبة عظيمة، فلما رأوه فرّوا وولّوا هاربين إلا عبد الله بن الزبير, فلَفَت نظرَ عمر بن الخطاب وقوفُه وأدبهُ، فقال: ((يا غلام, لِمّ لمْ تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير, لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريقُ يسعني ويسعك))
ما هذا الإسلام الرفيع؟ ما هذا الأدب؟ وما هذه الفصاحة؟ بل ما هذه الجرأة؟ .

تفتح قلب عمير للإيمان، وتمكن الإيمان من قلبه، وألفى الإسلامُ في نفسه الصافية الشفافة تربةً خصبةً فتغلغل فيها، فإذا نشأ الإنسان في طاعة الله، أو أسْلم على كِبَرٍ فلا بأس، جزاه الله الخير، لكن الكبير في السن لا يعلم كثيراً مِن دينه، قال لي أحدُهم وهو يُعَبِّر عن تقدمه في السن: أنا الدولاب عندي ماسح، والعداد قالب، لا يكاد يعلم ما حوله، تكلمه عشر ساعات فيبقى محدودا، ومَنْ شبَّ على شيء شاب عليه، ومَن شاب على شيء مات عليه، ومَن مات على شيء حُشِرَ عليه، ومَن بلغ الأربعين ولم يغلب خيرُه شَرَّه فليتجهز إلى النار، فأروع ما في الحياة أن ترى شاباً ناشئاً في طاعة الله، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن, فيقول:
((انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ))
[أخرجه أحمد عن عقبة بن عامر في مسنده]

همّه فهمُ القرآن وحفظه, همه حضور مجالس العلم, همه صلاة الليل, همه فهم العلم, هذا الشاب المؤمن يساوي وزنه ذهباً كما يقولون، إنه شيء ثمين جداً .
أيها الأخوة الأكارم, أقول هذا لآباء الشباب المؤمنين: واللهِ أيها الأب, لو أنك تملك ملء الأرض ذهباً فإنّ هذا لا يقاس بابنٍ لك نشأ في طاعة الله، لأن هذا الابن ثروة حقًّا، وكل ثروتك تتركها في الدنيا, لكن هذا الابن المؤمن ثروة دائمة دنيا وأخرى, هذا الابن المؤمن الذي ينفع الناس مِن بعدك, هذا الابن المؤمن الذي يعلم الناس مِن بعدك, هذا الابن المؤمن الذي يعد استمراراً لك من بعدك, وهو الثروة الكبرى، لذلك فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ, قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ))
[أخرجه أبو داود في سننه عن عائشة]
كانت أمُّه كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو آيباً منه تغمرها الفرحة، ويملأ قلبها السرور، وإذا كنتُ أعجب لشيء لا أعجب إلا مِن أبٍ ينهى ابنه عن الصلاة في المساجد، ولا أعجب حائرًا إلاَّ من أبٍ لا يريد ابنه أن يسلك طريق الإيمان، فيضغط عليه بكل الوسائل ليصرفه عن طريق الحق، إن أخبره ابنه أنه كان مع رفاق السوء وفي دور الملاهي فلا يتكلم كلمة راشدة، ولا يعترض، أمّا إذا بلغ الأب أن الابن كان في مجلس علم أو في مسجد يقيم الدنيا ولا يقعدها، فما أشقى هذا الأب الذي يمنع ابنه عن سلوك أهل الإيمان؟ .
إليكم التجربة القاسية التي تعرض لها عمير ؟
سارت حياة الغلام عمير بن سعد على هذا النحو هانئة وادعة، لا يعكِّر صفوها معكر، ولا يكدِّر هناءتها مكدِّر حتى شاء الله، وها نحن الآن دخلنا في العقدة
أول قسم في فنّ القصة اسمه البداية، والبداية تنتهي حينما تستقرّ الأحداث، أما إذا تأزّمت وتداخلتْ ونشأت المشكلة فهذه هي العقدة، حتى شاء الله أن يُعرِّض الغلام اليافع لتجربة من أشدّ التجارب عنفاً، وأعظمِها قساوةً ، وأن يمتحنه الله امتحاناً قلّما مرّ بمثله فتىً في سنه, في السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على غزو الروم في تبوك، وأَمَر المسلمِين بأن يستعدّوا، ويتجهزوا لذلك، هذه من أصعب الغزوات لبعد المسافة، والوقت كان في أشد أشهر الصيف حرارةً، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوة لم يصرِّح بها، وأوهم أنه يريد جهةً غير الجهة التي يقصد إليها، لأن الحرب خدعة، إلا في غزوة تبوك فإنه بيَّنها للناس لِبُعْدِ الشُّقَّة، وعِظَم المشَقَّة، وقوة العدو، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، وليأخذوا للأمر أهبتَه، ويعدّو له عدّته، وعلى الرغم من أن الصيف كان قد دخل، وأنّ الحرّ قد اشتدّ، والثمار قد أينعت، والظلال قد طابت، والنفوس قد ركنت إلى التراخي والتكاسل, على الرغم من كل ذلك فقد لبّى المسلمون دعوةَ النبي عليه الصلاة و السلام، وأخذوا يتجهزون، ويستعدَّون، فالمؤمن الصادق أداؤه للواجبات الدينية ليس على مزاجه، ولا حسبَ فراغه، ليس له خِيار .

غير أن طائفة من المنافقين أخذوا يثبِّطون العزائم، ويوهنون الهمم، ويثيرون الشكوك, و يغمزون الرسول صلوات الله عليه، ويطلقون في مجالسهم الخاصة من الكلمات ما يدمغهم بالكفر دمغاً دائماً، فالمنافق دائمًا يشكِّك, ويقول: أنا لا أقبض فلانًا، دائماً يطعن، دائماً يثبِّط العزائم، دائماً يبثُّ الشكوك، ويثير الفتنَ، ويشقُّ الصفوفَ، ويوهن العزائمَ، هذه مهمة المنافق، إنه طابور خامس ، يضعف معنويات المؤمنين، ويضخم مِن قوة أعدائهم، ويحلُّ بينهم الشقاق بين المؤمنين، ويضعف عزائمهم، ويطعن في نواياهم .
وفي يوم من هذه الأيام التي سبقتْ رحيلَ الجيش عاد الغلامُ عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد، وقد امتلأت نفسُه بطائفة مشرقة من صور بذل المؤمنين وتضحيتهم، لقد رآها بعينه، وسمعها بأذنه، رأى نساء المهاجرين والأنصار يُقْبِلن على رسول الله، ينزعن حليهن ، ويلقينها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وأبصر الغلامُ عميرُ بعين رأسه عثمانَ بنَ عفان يأتي بجرابٍ فيه ألف دينار ذهباً، وقَدَّمه للنبي عليه الصلاة والسلام .

مَن الذي قال لك: قوةُ المال أقلُّ من قوة العلم؟ المال قوةٌ كبيرة في الحياة، والعلم قوة كبيرة، وإذا تعاون المال والعلم تحقّق المستحيل، أُناس آتاهم الله علماً، وأناسٌ آتاهم الله مالاً، أناس آتاهم الله وجاهةً وقوةً، هذه القُوى الثلاث تشكِّل القوة الكبرى في المجتمع، لذلك فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة]
لا بد من التفوق، وإنّ علو الهمة من الإيمان، لأنك إذا كنت كذلك كنت عوناً للمسلمين، وكنت قوةً لمجموع المسلمين .
وحملَ عبدُ الرحمن بن عوف على عاتقه مئتي أوقية من الذهب، وألقاها بين يدي النبي الكريم، هذا ما جاد به هؤلاء الأغنياء، أمّا الفقراء فصحابي جليل حمل على كتفه فراشه الذي لا يملك غيره، وَعَرَضَه للبيع، ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به في سبيل الله، فالكبير والصغير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، كل هؤلاء الصحابة الكرام بذلوا لهذه المعركة الحاسمة الشاقة والطويلة.
هذا الطفل الصغير عمير بن سعد استعاد هذه الصورة الفذة الرائعة، لكنه عجب أشَدّ العجب لتباطؤ الجلاس زوج أمه عن الاستعداد للرحيل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعجِب لتأخره عن البذل على الرغم من قدرته ويساره، وحينما عرض عمير بن سعد على عمه زوج أمه هذه الصور الفذّة، وهذه البطولات الرائعة، وهذا البذل السخي، وهذه التضحية، أراد أن يستثير حماسة عمّه، فقصَّ عليه أخبار ما سمع، وأخبار ما رأى، وخاصةً خبر أولئك النفر من المؤمنين الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه في لوعةٍ أن يضمّهم إلى الجيش الغازي في سبيل الله فردَّهم النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يجد عنده من الركائب ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألا يجدوا ما يبلغهم أمنيتَهم في الجهاد .
لكن الجلاس زوج أم عمير بن سعد الذي أحبّه حبًّا جمًّا ما كاد يسمع من عمير ما سمع حتى انطلقت من فمه كلمة أطارت صواب الفتى المؤمن، قال الجلاس:
((إن كان محمّدٌ صادقاً فيما يدّعيه من النبوة فنحن شرٌّ من الحمير، -ما هذه الكلمة؟ هذه كلمة الكفر بعينها- فدهش عمير مما سمع، ولم يكن يظن أن رجلاً له عقل عمّه وسنّه تندُّ من فمه مثل هذه الكلمة، التي تُخرِج صاحبَها من الإيمان دفعة واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه))

هنا المشكلة، غلام في سن العاشرة حُمِّل ما لا يطيق فإنْ سكت على عمّه، وتستر عليه فقد خان الله ورسوله، لأن النبي يحسبه مؤمناً، بينما هو منافق وليس مؤمناً، بل كافرٌ محسوب على النبي أنه من أصحابه، وإنْ أذاع هذا الكلام كان عقوقاً لعمّه، وهو الذي أنقذه من الفقر واليتم ، وأكرمه، وأطعمه، وألبسه، ورعاه، وقدّم له كل ما يحتاج، إنه موقف عسير وخطير وشديد، وإنه لصراع عنيف، وكان على الفتى أنْ يختار بين أمرين، أحلاهما مُرٌّ, إن أبلغ النبي فقد عقَّ عمّه، وإن سكت عنه فقد خان النبي .
ما هو موقف عمير من الجلاس حينما سمع منه تلك الكلمة, وهل أنكر الجلاس كلام عمير أمام رسول الله وكيف تبينت الحقيقة ؟
أيها الأخوة, التفت عمير بن سعد إلى الجلاس، وقال: ((واللهِ يا عمّ ما كان على ظهر الأرض أحدٌ بعد محمد بن عبد الله أحبّ إليّ منك، وقد كنتَ آثرَ الناس عندي، وأجلَّهم يداً عليّ، ولقد قلتَ مقالةً: إنْ ذكرتُها فضحتْكَ، وإنْ أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكت نفسي وديني، وقد عزمتُ على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت، فكن على بيِّنة من أمرك, وتصرف الفتى هذا لم يكن من خلف ظهر علمه .
-طبعاً العم كبير وثري، ومن وجهاء المدينة، والطفل عمره عشر سنوات، فهل يُعقَل أنْ يقبل التحدِّي؟- فمضى الفتى عمير بن سعد إلى المسجد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما سمع من عمه الجلاس بن سويد، فاستبقاه النبي عليه الصلاة والسلام عنده، وأرسل أحدَ أصحابه ليدعو له الجلاس، وما هو إلا وقت قليل حتى جاء الجلاس فحيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
(سورة المجادلة الآية: 8)
وجلس بين يدي النبي، وقال عليه الصلاة والسلام: يا جلاس، مقالةٌ سمعها منك عمير بن سعد، وذكر له ما قاله، فقال: يا رسول الله, كذب عليَّ وافترى، فما تفوهت بشيء من ذلك، فكيف صار وضع هذا الطفل الصغير؟ وأخذ الصحابة ينقِّلون أبصارهم بين الجلاس وفتاه عمير بن سعد، كأنهم يريدون أن يقرؤوا على صفحتيْ وجوههما ما تكنُّه صدورهما، وجعلوا يتهامسون، فقال واحد من الذين في قلوبهم مرض: فتى عاق، أبَى إلا أن يسيء لمَن أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه فتىً نشأ في طاعة الله، وإن قسمات وجهه لتنطق بالصدق, التفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير فرأى وجهه محتقنًا بالدم، والدموع تنحدر من عينيه، وتتساقط على خديه وصدره، وهو يقول: اللهم أنزل على نبيك بيانَ ما تكلمتُ فيه .
هذا الطفل الصغير يدعو الله عز وجل أن ينزل وحياً يصدِّق مقالته، فانبرى الجلاس، وقال: إنّ ما ذكرته لك يا رسول الله هو الحق، وإن شئتَ تحالفنا، نقسم بين يديك، وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئاً مما نقله إليك عمير، فما إن انتهى من حلفه، وأخذت عيونُ الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى غشيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه السكينةُ، فعرف أصحابُه أنه الوحي، نزل الوحي مباشرةً، فلزموا أماكنهم، وسكنت جوارحهم، ولاذوا بالصمت، وتعلقت أبصارهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهنا ظهر الخوف والوجل على الجلاس، وبدا التلهُّفُ والتشوُّفُ على عمير، وظل الجميع كذلك حتى سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله جل جلاله:
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
(سورة التوبة الآية: 74)

فارتعد الجلاس مِن هولِ ما سمع، وكاد ينعقد لسانه من الجزع، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: بل أتوب يا رسول الله، بل أتوب، صدق عمير يا رسول الله، وكنت أنا من الكاذبين ، اسأل اللهَ أنْ يقبلَ توبتي، جعلت فداك يا رسول الله، وهنا توجّه النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى الفتى عمير بن سعد، فإذا دموعُ الفرح تبلِّل وجهه المشرق بالإيمان، فمدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام يدَه الشريفة إلى أذنه، وأمسكها برفق، وقال: وفّتْ أذنُك يا غلام ما سمعت، وصدَّقك ربك ، وعاد الجلاس على إثر هذه الحادثة إلى حظيرة الإسلام، وحسُن إسلامُه .
-أمّا أروع ما في القصة- وقد عرف الصحابة صلاحَ حاله ممَّا كان يغدقه على عمير من بر، فعوضاً أنْ يطردَ عميرًا ضاعف له إكرامه، وأغدق عليه من البر الشيء الكثير، وكان الجلاس يقول كلما ذكر عميرًا: جزاه الله عني خيراً، فقد أنقذني من الكفر، وأعتق رقبتي من النار)) هذه صورة من حياة عمير بن سعد، وكانت سنه لا تزيد عن عشر سنوات، فما قولكم أليس الإسلام عظيمًا يصنع الأبطال وهم صغار؟ لقد وقف موقفاً رائعاً، وكان فيه مخلصاً . إليكم خطبة عمير لأهل حمص يوم تولى شؤون أهلها :
حينما كبر هذا الغلام وصار في سن الرشد أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعيِّن والياً على حمص، نثر كنانته، وعجم عيدانها عوداً عوداً، فلم يجد خيراً من عمير بن سعد، رأى في هذا الصحابي الجليل أفضل إنسان يتولى أمر حمص، وصل عمير إلى حمص، ودعا الناس للصلاة في المسجد، ولما قُضِيَت الصلاة خطبَ الناسَ، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أيها الناس, إن الإسلام حصن منيع، وباب وثيق، وحصنُ الإسلام العدلُ، وبابُه الحقُّ، فإذا دُكَّ الحصنُ، وحُطِّم البابُ استُبِيحَ حِمَى هذا الدين، وإنّ الإسلام ما يزال منيعاً ما اشتد السلطانُ، وليست شدة السلطان ضرباً بالسوط، ولا قتلاً بالسيف، ولكن قضاءً بالعدل، وأخذاً بالحق))
ما هذه الكلمات ؟ لماذا أرسل عمر لعمير كتاباً وما هو الاختبار الذي وضعه فيه وماذا رأى من عمير ؟
قضى عمير بن سعد حولاً كاملاً بحمص، لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتاباً، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين من الفيء درهماً و لا ديناراً, فأخذت الشكوك تساورُ عمرَ بن الخطاب، إذ كان شديد الخشية على ولاته من فتنة الإمارة فلا معصوم عنده غير النبي عليه الصلاة والسلام, قال لكاتبه: ((اكتب إلى عمير بن سعد، وقل له: إذا جاءك كتاب أمير المؤمنين فدع حمص، وأقبل عليه، واحمل معك ما جَبَيْتَ من فيء المسلمين, تَلَقَّى عميرٌ الكتاب، فأخذ جراب زاده، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه، وأمسك بيده حربته، وخلّف حمص وإمارتها وراءه، وانطلق يحثّ الخطى مشياً على قدميه إلى المدينة، فما كاد يبلغ عمير المدينة حتى كان قد شحب لونه، وهزل جسمه، وطال شعره، ظهرت عليه وعثاءُ السفر، دخل عميرٌ على عمر رضي الله عنه فدهش الفاروق من حالته، وقال: ما بك يا عمير؟ قال: ما بي من شيء، فأنا صحيح معافى بحمد الله، أحمل معي الدنيا كلها، وأَجُرُّها من قرنيها، قال: ما معك من الدنيا؟ قال: معي جرابي وضعت فيه زادي، ومعي قصعتي آكل فيها، وأغسل عليها رأسي وثيابي، ومعي قربة لوضوئي وشرابي، ثم إن الدنيا كلها يا أمير المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي، وفضلة لا حاجة لي، ولا لأحد غيري بها .
فقال عمر: وجئت ماشياً؟ قال: نعم، قال: أما أُعطِيتَ من الإمارة ولا دابة تركبها، هم لم يعطوني، وأنا لم أطلب منهم، وأين ما أتيت به لبيت المال؟ قال: لمْ آتِ بشيء، ولِمَ؟ قال: لمّا وصلتُ حمص جمعتُ صلحائها، وولّيتُهم جمعَ فيئهم، فكانوا كلما جمعوا شيئاً استشرتُهم في أمره ، فوضعته في مواضعه، وأنفقته على المستحقين منهم، فقال عمر لكاتبه: جدِّد عهداً لعمير على ولاية حمص، فقال عمير: هيهات فإن ذلك شيء لا أريده، ولن أعمل لك، ولا لأحد من بعدك يا أمير المؤمنين، ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية من ضواحي المدينة يقيم فيها مع أهله، فَأذِنَ له، وبقي عمرُ يشكُّ فيه، فلم يمضِ على ذهاب عمير إلى قريته وقت طويل حتى أراد عمرُ أن يختبر صاحبه، وأن يستوثق من أمره، فقال لأحد ثقاته يُدعى الحارث: انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد، وانزل به كأنك ضيف، فإن رأيتَ عليه آثارَ نعمة فَعُدْ كما أتيت، وإنْ وجدتَ حالاً شديداً فأعطِه هذه الدنانير، وناوله صُرّة فيها مئة دينار، فانطلق الحارث حتى بلغ قرية عمير، وسأل عنه فَدُلّ عليه، ولما لقيه قال: السلام عليك ورحمة الله، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، مِن أين قدمت؟ قال: من المدينة، قال: كيف تركت المسلمين؟ قال: بخير، قال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: صحيح صالح، قال: أليس يقيم الحدود؟ قال: بلى، قال: اللهم أعِن عمرَ فإني لا أعلمه إلا شديد الحب لك .
أقام الحارث في ضيافة عمير ثلاث ليال، كان يخرج له كل ليلة بقرص من الشعير يقدمه له، فلما كان اليوم الثالث قال للحارث رجلٌ من القوم: لقد أجهدتَ عميرًا وأهله، فليس لهم إلا هذا الرغيف، وقد أضرّ بهم الجوع والجهد، فإن رأيتَ أن تتحّول فتحوّلْ إليَّ، عند ذلك أخرج الحارث الدنانير، ودفعها إلى عمير، فقال عمير: ما هذه؟ قال: دفع بها إليك أمير المؤمنين، قال: رُدَّها إليه، واقرأ عليه السلام، وقل له: لا حاجة لعمير بها، فصاحت امرأته مثل كل النساء، خذها يا عمير، فإن احتجتَ إليها أنفقتها، وإلا وضعتها في مواضعها، فالمحتاجون هنا كثيرون، فلما سمع الحارث قولها ألقى الدنانير بين يدي عمير وانصرف، فأخذها عمير، وجعلها في صرر صغيرة، ولم يبت ليلته تلك إلا بعد أن وزّعها بين ذوي الحاجات، وخصّ منهم أبناء الشهداء، وعاد الحارثُ إلى المدينة، وقال له عمر: ما رأيت يا حارث؟ قال: حالاً شديدة يا أمير المؤمنين قال: أدفعتَ إليه الدنانير؟ قال: نعم، قال: وما صنع بها؟ قال الحارث: لا أدري، وما أظنه يبقي لنفسه منها درهماً واحداً
فكتب الفاروق إلى عمير, يقول له: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل عليّ، وتوجَّهَ عمير إلى المدينة، ودخل على عمر رضي الله عليه، فرحّب به، وأدنى مجلسه، ثم قال له: ما صنعتَ بالدنانير يا عمير؟ قال: وما عليك منها بعد أن خرجتَ لي عنها؟ قال: عزمتُ عليك أن تخبرني بما صنعت بها؟ فقال: ادَّخرتها لنفسي لأنتفع بها في يومٍ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فدمعت عينا عمر، وقال: أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة، فالآية انطبقت عليه، ثم أمر له بوسق من طعام وثوبين، فقال: أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير، وإلى أن نأكلهما يكون الله عز وجل قد جاء بالرزق، وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان، -يعني زوجته- فقد بلي ثوبها، وكادت تعرى))

أرأيتم مثَل هذا الزهد؟ أرأيتم مثل هذه العفة؟ أرأيتم مثل هذا الورع؟ هذا عمير بن سعد يوم كان صغيراً، وهذا عمير بن سعد يوم صار كبيراً ووالياً، وتعفّف عن كل شيء يناله من هذه الإمارة . هل حزن الفاروق على موت عمير ولماذا ؟
أيها الأخوة, جاءته المنية رضي الله عنه وبلغ الفاروقَ نعيُه، ووشح الحزنُ وجهَه، واعتصر الأسى فؤاده، وقال:
((وددتُ أن لي رجالاً كثيرًا مثل عمير بن سعد، استعين بهم في أعمال المسلمين))
هكذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نمط من أنماط الصحابة، فكل إنسان عنده طفل صغير، ولعل هذا الطفل الصغير يكون كهذا الصحابي الجليل، فاعتنُوا بأولادكم، علِّموهم، وأدِّبوهم، وعلِّموهم القرآن، وفقِّهوهم، ودلُّوهم على الله عز وجل، فلعل الله عز وجل يجعل من أولادكم قرّةَ عين لكم .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 12:43 PM   #29


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( التاسع و العشرون )

الموضوع : سيدنا سعيد بن عامر الجمحى



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة عامة :
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس التاسع والعشرين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عنهم أجمعين، وصحابيّ اليوم سيدنا سعيد بن عامر الجمحي, وقبل أن نبدأ الحديث عن سيرة هذا الصحابي الجليل لا بد من كلمة أمهِّد بها لمحور هذه السيرة .

أيها الأخوة, الإنسان له شهوتان كبيرتان في حياته, شهوة المال، وشهوة النساء، ولو أردتم أن تحصوا المعاصي المتعلقة بهاتين الشهوتين لوجدتم أن تسعة أعشار المعاصي متعلقة بكسب المال، ومقاربة النساء لذلك ترى في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تشدِّد على الانضباط، فنحن إذا اخترنا صحابياً جليلاً، وبرزتْ فيه صفةُ العفّة التي هي مِن آثار الإيمان، والإيمان عفّة، فهذا الصحابي سعيد بن عامر المؤمن، المؤمن مسموح له في القنوات النظامية، قال تعالى:


﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
(سورة المؤمنون الآية: 2-7)
النقطة الدقيقة أن هذا الصحابي سوف ترون لديه عفة ما بعدها عفة، ونزاهة ما بعدها نزاهة، والحقيقة هذه ثمرة يانعة تجدها عند المؤمن، فما قيمة المعلومات إنْ لم تكن مثمرة ثمارًا يانعة؟ كل إنسان ذكي ينتسب إلى الجامعة يقرأ عددًا من الكتب، ويحفظ ما فيها، ويكون طليق اللسان، الكلام سهل جداً، النقطة الدقيقة لو أنّك تعلمتَ، وفهمتَ، وتكلمتَ ولم تكن في مستوى الكلام فهذا الشيء لا يقدِّم ولا يؤخِّر، فنجاح الإنسان ليس في مدى معلوماته، بل في مدى تطبيقاته ، وسوف ترون بعد قليل أن هذا الصحابي الجليل كان في أعلى درجات العفة .
من هو الصحابي الذي وقع بين أيدي زعماء قريش ليمثلوا به ويقتلوه ؟
هذا الصحابي سعيد بن عامر الجمحي كان واحداً من الآلاف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم، وإذا أكرمَ اللهُ أحدَكم بالحج أو بالعمرة، فلأداءِ العمرة ينطلق المعتمِرُ إلى التنعيم، مكان مسجد السيدة عائشة، هذا المكان كان في عهد النبي خارج مكة، وفي ظاهرها .
آلاف مؤلفة خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة، بدعوة من زعماء قريش، ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي، أحد أصحاب محمد، بعد أن ظفروا به غدراً بعد معركة بدر الحاسمة، التي جعلت أنوف قريش في الوحل، ثلاثمئة صحابي على ضُعفٍ في قوتهم وعدتهم وعتادهم، لكنهم على قوةٍ في إيمانهم جعلوا صناديد قريش زعيمة الجزيرة العربية راغمة أنوفها، ويذلُّونها، فتركت معركة بدر أثرًا نفسيًّا سلبيًّا جداً عند قريش، لذلك غلت دماؤهم، واشتد حقدهم، وأي صحابي عثروا عليه ولو غدراً يقتلونه، ويمثلون به، ليشفوا غليلهم، فهذا الصحابي سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه لحكمة أرادها الله وقع بأيدي كفار قريش .
كلمة على الهامش :
أيها الأخوة, كلكم يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا قيمة لها، فأيُّ إنسان شاءت حكمة الله أن ينتهي أجله، وكان الله راضيًا عنه ينطبق عليه قول الله عز وجل: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
(سورة يس الآية: 26)
وعندما يُسعِد اللهُ إنسانًا فهذا شأنٌ لا يوصف، وإذا ألقى الله عز وجل في قلبك رحمته فأنت أسعد الناس، ولو كنت أفقر الناس، وأنت أسعد الناس، ولو كنت أشد الناس مرضاً، وأنت أسعد الناس، ولو كانت ظروف حياتك في منتهى القسوة والخشونة، وإذا حَجَبَ عنك رحمته، وكنت مترفًا إلى أعلى درجة كنت أشقى الناس فخبيب أُلقِيَ القبض عليه، وسيق ليُقتَل مع التمثيل به .

يجب أن تعلموا أيها الأخوة، أنّ فعل الإيمان بالنفس كفعلِ السحر، أمرٌ لا يصدق، ليس هذا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو لكل مؤمن سلك مسلكهم، ولكل مؤمن عرف ربه، ولكل مؤمن التزم منهج ربه، ولكل مؤمن أخلص لله، ولا بد أن يكرمه الله عز وجل، يقال: هذه كرامات، تعريف الكرامة أنك حينما تطيع الله، وحينما تخلص، وحينما تحبُّ الله حقًّا، فلا بد أنّ الله جل جلاله يبادلك حبًّا بحبٍّ عن طريق التكريم، فيُحدِث لك أمورًا غريبة، وترى الأمور ميسرة لك، ولك هيبة كبيرة عند الناس، وأنت مرتاح، ليس عندك الشعور بالقهر، شعورك النفسي سويٌّ، وأنت أسعد الناس ولو أنك تفتقر إلى كل شيء، هذا الحديث يطول، قال تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
(سورة النحل الآية: 97)
أيها الأخوة، أنا إذا التقيت بأخ كريم من أخواننا، وسألته السؤال التقليدي: كيف حالك؟ صدِّقوني أحياناً أشعر بغبطة ما بعدها غبطة، إذا قال لي هذا الأخ: الحمد لله، فإنّه يقولها من أعماق نفسه، سعيد بالله، وهو لا يملك بيتًا، ولم يتزوج، ولا عمل له، لكنه سعد بالله رغم أصعب الظروف، وأخشن أنواع الحياة، وأقسى المنغِّصات، وتلتقي بإنسان معه أموال، لو أحبَّ أن ينفق باليوم مئة ألف وعاش مئة سنة لكَفَتْه، ويقول لك: السوق مسموم، ولا يعاش في هذا البلد، يا لطيف .

عنده أموال لا تأكلها النيران، وتشعر أنه من أشقى الناس، وتلتقي بمؤمن في أدنى مستويات المعيشة، فيقول لك: الحمد لله، أنا تقريباً شعرتُ بالتجربة، لأنّ اتصال المؤمن بالله اتصال حقيقيٌّ، واصطلاحه مع الله، وأوبته إليه، وعودته إليه، وإخلاصه له، وطاعته له، وبذله، وإنفاقه، هذا كله يكسبه كرامة عند الله تتجلى بنواحي شتى، إحداها الطمأنينة، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
(سورة الرعد الآية: 28)
إحداها الشعور بالرضى، فلا يسخط، وعلامة المؤمن أنّه راضٍ عن الله، راضٍ عن نفسه، راضٍ عن جسمه، وعن وضعه العائلي، وعن عمله، وعن زوجته وأولاده، يقول لك: الله حكيم فاختار لي الأحسن دائمًا، فحالة الرضى لا تقدر بثمن .

يا أيها الأخوة, أن ترضى عن الله، معنى ذلك أنك تعرفه، أن ترضى بالقضاء والقدر، معنى ذلك أنك مؤمن بأنَّ الله حكيم ورحيم وغني وكريم وعادل، وأن تفتقد أشياء كثيرة في الدنيا، وأنت متفائل، معنى ذلك أن كل همِّك الآخرة، والدنيا لا قيمة لها، وهذا كلام النبي صلى الله عليه ، وأحيانًا لا يستوعبه الإنسان، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْد, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن سهل بن سعد]
أظنّ جازمًا أنه ما مِن مخلوق أهون على كل الناس كالبعوضة، فإذا وقفتْ على يد شخص بعوضةٌ وقتلها هل يشعر في نفسه أنه قاتل؟ هل يشعر أنه مجرم مذنب؟ لا، إذاً: فلا قيمة لها، فكيف بجناحها؟ ((لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن سهل بن سعد]
لذلك إن الله يعطي الدنيا لمَن يحبّ، ولمن لا يحب، فليست الدنيا مقياساً إطلاقاً، قد تكون أفقر الناس، وأنت عند الله في مرتبة عالية جداً، والقاعدة معروفة، إنّ الله أعطى المال لمَن لا يحبُّ, أعطاه لفرعون، وأعطاه لقارون، وأعطاه لمن يحب, أعطاه لسيدنا ابن عوف، فكان من أغنى الصحابة، فإذا أعطاه للكافر وللمؤمن هل يصلح كمقياس؟ لا يصلح لذلك البتة .
القوة أعطاها لفرعون، وأعطاها لسليمان الحكيم، سيدنا سليمان كان ملكًا من أعظم الملوك، قال تعالى :
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾
(سورة ص الآية: 34)
وفرعون كان قال تعالى : ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
(سورة النازعات الآية: 24)

فما دام الشيء أُعطِي لأَحبِّ الناس إلى الله ولأبغضِهم إليه فهل يُعدُّ مقياساً؟ فلا القوة مقياس، ولا المال مقياس، وقد تجد شخصًا وسيمًا بهيَّ الطلعة، ولكنه فاجر فاسق كافر, وترى شخصًا كما وصفه الواصفون، قصير القامة، أحنف الرِّجل، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، ضيق الكتفين، أسمر اللون، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، فحتى الشكلُ لا قيمة له، ولا المال، ولا الغنى، ولا القوة, والسلطة لها قيمة، قيمة واحدة فوق القيم كلها هي مدى معرفتك بالله، ومدى طاعتك له، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
(سورة الحجرات الآية: 13)
هذا هو المقياس .

لذلك فأنا تكلمتُ يومًا على منبر الجمعة في خطبة عن الحج: أن الإنسان في الدنيا تتحكم فيه قيم مادية طاغية، تحجبه عن حقيقته الإنسانية، لأنه يستخدم موازين خاطئة، وحجبٌ مُضَلِّلة، ويكون عنده أقنعة مزيفة، ولكنْ عند الموت تسقط كل هذه الأقنعة المزيفة، وتُزاح الحجب المضللة ، وتتلاشى القيم المادية، وتحطم الموازين غير الصحيحة، ليحاسب في ضوء قيم جديدة، وموازين جديدة، فما هي هذه المقاييس؟ وما هي هذه الموازين والقيم؟ إنها مدى معرفتك بالله، ومدى معرفتك بمنهج الله، ومدى استقامتك على منهج الله، وحجم عملك الصالح الذي نفعت به الخلق، فهي أربعة موازين فاستمسِكْ بغرزِها, ثمّ إنّ مكتسبات الإنسان إذا وضعت على هذا المحك يجب أن تستخدم مقياس ربنا عز وجل، فلا تفرحٍ بالدنيا .
فهذا سيدنا خبيب بن عدي إما أنه ليس بشرًا، بل فوق البشر، وإمّا أننا لسنا بشرًا، وسنشاهد بعد حينٍ إنسانًا أُلقِي القبضُ عليه غدراً، وسيق ليُقتَل، ويمثَّل به، وهو في أسعد لحظات حياته، الآن إذا تلقى الشخصُ خبرًا سيّئًا عن صحته فلا أحدَ يتكلم معه أبداً، فقد لجأ إلى النوم من شدة الألم واليأس والخوف . ما هو الذنب الذي اقترفه خبيب ليساق إلى هذا المشهد المؤلم وهل شهد سعيد مصرع خبيب ؟
ذهبَ شبابُ مكة ليشاهدوا مصرعَ خبيب، فقد كان خبيب بن عدي شابًا موفور الشباب، فتىً متدفقًا موفورَ الفتوة، ومع ذلك هذا مصيره الذي أراده الله له، لكن العبرة في الخاتمة الحسنة، وهي الجنة، قال تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
(سورة يس الآية: 26)

وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المُعَدِّ لقتله، فوقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته الممدودة يطلّ على خبيب، ولم يكن مسلماً يومئذٍ، وقف يطل على خبيب، وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة والصبيان، وهو يقول: إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، فالصلاة عنده أعظم شيء في حياته، أنا راضٍ بما كتبه الله لي، فنظر إليه سيدنا سعيد بن عامر الجمحي وهو يصلي ركعتين، ويستقبل الكعبة ويصلي، وقال:

((يا لحسنهما ‍‍! ويا لتمامهما ! -صلاة متقنة فيها خشوع، فإذا جاءت شخصًا رسالةٌ مزعجة فإنه يقول: واللهِ لم أعرف كيف أصلي؟ وهذا سيموت بعد قليل ويُعدم، ويصلِّي صلاةً ما أروعها من صلاة- دهش زعماء قريش، فما خاف، -أين الفزع؟ أين الجزع؟ أين التوسل؟ أين البكاء؟ أين لطم الخدود؟ أين الصياح بالويل؟- .
ففعلوا، -لكنه كان ذكياً- وكان حكيماً، فما أطال الركعتين، -ولو أنه أطالهما لظنوا أنه خائف، ويؤخِّر وقت الإعدام- فاتَّجه إلى زعماء قريش، وقال: واللهِ لولا أن تظنّوا أني أطلتُ الصلاة جزعًا من الموت لاستكثرتُ ِمنها، لكن اقتصرت على ركعتين خفيفتين لئلا تظنوا أني خائف من الموت، ثم شهد قومُه، وشهد أيضًا سعيدُ بن عامر الجمحي صحابي اليوم، وكان وقتها مشركاً، شهد سعيدٌ قومَه بعينَيْ رأسه وهم يمثِّلون بخبيب، وهو حيّ، فيقطعون من جسده القطعة تلو القطعة، وهم يقولون: أتحبُّ أن يكون محمداً مكانَك، وأنت ناجٍ؟ فيقول والدماء تنزف منه: واللهِ ما أُحبُّ أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب محمّدٌ بشوكة، ما هذا؟ -واللهِ إني كنت ولا زلتُ أقول: إذا كان الصحابة من البشر، فنحن لسنا من البشر ، نحن دون البشر، وإن كنّا بشرًا فَهُمْ فوق البشر، إنسان يقطع لحمه، وتقطع أعضاؤه، ثم يُسأَل: أتحب أن يكون محمدٌ مكانك؟ ماذا فعل لَهُ النبي؟ هداه إلى الله، ماذا أعطاه النبي حتى قُتِل من أجل إيمانه برسول الله؟ لقد أعطاه الهدى والإيمان، فإذا جاء أحدَنا شرٌّ من شريكه, يقول: لَعَنَ اللهُ الساعةَ التي شاركتُه فيها، أليس كذلك؟ وإذا جاءته متاعب من شخص يلعن الساعة التي رآه فيها- لكنّ خبيبًا سيق إلى القتل وإلى التمثيل لأنه آمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام, لذلك دهش أبو سفيان، بل صُعق، فقال:

((ما رأيت أحداً يحب أحداً كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً))

-أخواننا، الإيمان حبٌّ، فيجب أن تحبّ اللهَ، وأن يكون اللهُ أحبَّ إليك من كل شيء، كيف ذلك؟ إذا تلقيت أمرًا من إنسان مخالفًا لأمر الله، لو قطعوك إرْباً إرْباً فلا تعصِ الله، لأن اللهَ أحبُّ إليك من أيّ شيء، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
(سورة التوبة الآية: 24)
يجب أن تحبَّ رسولَ الله، وعلامةُ محبتك له اتّباعُك له، ويجب أن تحبّ المؤمنين، وحينما تكره مؤمناً فهذا مؤشر خطير، ومعنى ذلك أنك في خندق المنافقين، فهذا مؤمن مطيع لله، متأدِّب مع الله، عبد لله، منصف، وعلى جادة الحق، فلماذا تكرهه؟ فكراهية المؤمنين علامة ليست طيبة، بل هي علامة خطيرة، والدليل قول الله عز وجل:
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾
(سورة التوبة الآية: 50)

إذا أخذ أخٌ من أخوانك شهادة عليا، وأنت لا تملك هذه الشهادة، تقول: لا يستحقها، تفرح أم تنزعج ؟ أخوك اشترى بيتًا، أو تعيَّن في منصب رفيع، أو تزوج بنَت شخص غنيّ، فأكرمه وأعطاه بيتًا، أو أصابته نعمة وأنت انزعجت، فهذه علامة النفاق، وإذا أصابه خير، وفرحت فأنت مؤمن سليم القلب والنفس، واللهِ الذي لا إله إلا هو لا أشعر بطمأنينة إلا عندما أشعر أن أي أخ وصل إلى خيرٍ وفلاحٍ، وكأني أنا أصبتُه، وأعدُّه كسبًا للمؤمنين، والحمد لله, فعلامة إيمانك أن تفرح لأخوانك المؤمنين، وهذا التحاسد والتباغض والطعن، هذا كله من صفات المنافقين، وليس المؤمن بفاحش ولا صخّاب ولا عيّاب, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ, مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ, وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمر]
لكن سيدنا سعيد بن عامر نظر إلى خبيب بن عدي، وقد رفع بصره إلى السماء مِن فوق خشبة الصلب، وكان يقول: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبقِ منهم أحدا، -فلك الحق أن تدعو على الكفار المجرمين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم- ثم لفظ أنفاسه الأخيرة، وبه ما لم يستطع على إحصائه من ضربات السيوف، وطعنات الرماح، فقد صبُّوا كل حقدهم وكل ضيقهم على هذا الصحابي الجليل، وقتلوه ومثَّلوا به, وكان مما قال قبل موته بيتين من الشعر:
ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلما على أي شق كان لله مصرعِي
وذلك في ذات الإلهِ وإن يشأ يبارك على أوصال شِلوٍ ممزعِ

إنّ الله عز وجل قادر في المعركة أن لا يذيق الشهيدَ طعمَ الألم، وهذا شيء ثابت في السنة، وفي صحيح البخاري، الشهيد لا يشعر بألم الجراح إطلاقاً، وهناك شواهد قطعية واقعية، فالإنسان اخترع المخدِّر، فترى المريضَ مستلقيًا على المنصة في غرفة العمليات، والشرايين مربوطة، والقلب صناعي، وبالمنشار شققنا الصدر، وفتحنا القفص الصدري، وخرج القلب، وفتحوا القلب، ووصلوا إلى الدسام، والإنسان المريض مرتاح، الإنسان يخترع مخدرًا ليخفف عنه الألم، وخالق الكون إذا استحق إنسانٌ الشهادة، والأعداء طعنوه وقطّعوه إرْبًا إرْبًا أفلا يستطيع الله أن يمنع عنه العذاب؟ واللهِ أنا مؤمن إيمانًا قطعيًّا أن كل إنسان يموت في سبيل الله لا يمكن أن يشعر بالألم إطلاقاً، وثمّة أدلة كثيرة .
النبي الكريم وصف الشهيد بثلاث صفات: أن لدمه رائحة المسك، وأن الله يريه مقامه في الجنة، وأن الله يعفيه من ألم الجراح, لا يشعر بآلام، هذه الصفات الثلاث وردت في حديث صحيح رواه الإمام البخاري، وذلك حينما يضع الإنسان نفسه في سبيل الله ليموت يشعر بهذا الشعور .
لقد لَفَظ خبيب أنفاسه الأخيرة، واستحق جنة ربه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
(سورة الذاريات الآية: 15-19)
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾
(سورة الحاقة الآية: 19-24)
وكل شيء بحساب . ما هو الأثر الذي تركه خبيب في سعيد وهل كان هذا الأثر سبباً في إسلامه ؟
((عادت قريش إلى مكة، ونسيت في زحمة الأحداث الجسام خبيباً ومصرعه، لكن الفتى اليافع سعيد بن عامر الجمحي لم يغِب خبيبٌ عن خاطره لحظةً، فصورة خبيب وكيف قتلوه؟ وكيف قطعوا من لحمه؟ وكيف عذبوه؟ وكيف صلى؟ وكيف دعا عليهم؟ هذه الصورة لم تغِبْ عن ذهنه إطلاقاً، فكان يراه في الحلم إذا نام، ويراه بخياله إذا استيقظ، ويمثُل أمامه وهو يصلي ركعتين هادئتين مطمئن أمام خشبة الصلب، ويسمع رنين صوته في أذنيه، وهو يدعو على قريش ، فيخشى أن تصعقه صاعقة، أو تخرّ عليه صخرة من السماء، يشعر نفسه أنه مجرم، لأنه ما نصره، ولأنه سكت .))

-لذلك أيها الأخوة، إذا كان الشخصُ بمكان، وله أخ مؤمن ظُلِم، وهو قادر أن ينصره، ولم ينصره، فإنّ الله عز وجل سيحاسبه حساباً شديداً، وإذا ظلم في حضرتك مؤمن، وأنت قادر أن تنصره، لكنّك آثرت السلامة، وأنت قوي، وفي مركز قوي، وهذا الذي يظلمه تحت يدك، وهذا مؤمن وتعرفه مستقيمًا بريئًا، وهذه التهمة ألبسوه إياها إلباسًا، وأنت تستطيع أن تنصره، وقلت: لا علاقة لي، له رب يتولى أمره، ما شاء الله على هذا الكلام، أنت خليفة في الأرض، قال تعالى:
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾
(سورة محمد الآية: 4)
لكن الحقيقة سيدنا سعيد بن عامر الجمحي كان وقتها قريبًا من الإسلام، رغم أنه كان مشركاً، بل كان على مشارف الإيمان، لذلك فقدْ علِم أن الحياة عقيدة وجهاد, -صدق القائل:
قِفْ دونَ رأيك في الحياة مناضلاً إن الحياة عقيدة وجهـــاد
والباقي لا شيء، تفاهة في تفاهة، اعتنقتَ مذهبًا عظيمًا، وبذلت من أجله الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، فأنت في الدرجات العلا إيمانا وثوابا، وأعظم شيء في الحياة أن تؤمن بالله، وأن تضع كل إمكاناتك في الدعوة, إنّ الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب، ويصنع المعجزات، فو اللهِ إنّ الإيمان الحقيقي لَيصنع من الإنسان شخصيةً أخرى .

وهذا مثل بسيط جداً، وقد يكون تافهًا، قال لي أخ: وقفتُ على بائع أريد أن أشتري بيضًا، فقلت له: أريد أن أشتري بيضًا طازجًا, فقال لي: البيض الذي عندي منذ أربعة أيام، وجارنا أحضر بيضًا الآن، لقد صُدِمْتُ، لأن هذا هو المؤمن حقًّا، هذا أبسط شيء في الإيمان، تاجر نصوح لا يكذب، وشراء البيض أمرٌ بسيط، لكن صدقه يلفت النظر- .
قال له أبو سفيان: ((أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت معافىً؟ فيقول خبيب: واللهِ ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسولُ الله بشوكة))

-فهذا ليس إنسانًا عاديًّا، كلامه ليس ككلامنا، وموقفه ليس كموقفنا، فنحن نرضى بالسلامة لأنفسنا، ولو على حساب غيرنا، أما خبيب فحبُّه ما بعده حبٌّ لهذا النبي، الذي مات بسبب إيمانه به- لقد شعَر سيدنا سعيد بن عامر الجمحي أنّ هذا الرجل الذي يحبه أصحابُه هذا الحب ليس إنسانًا عاديًّا، بل هو نبي مؤَيَّد من السماء، -ونحن لم يُتَحْ لنا أن نرى أنبياء، فإذا جلس مع مؤمن أعلى منه, يقول: واللهِ استأنست، وشعرت براحة، فأحواله طيبة ومستقرة، فإذا جلستَ مع مؤمن سبقك أكثر منك إيمانًا تشعر براحة، والجلوس معه سعادة، فكيف لو التقينا مع نبي؟-
إلى أن شرح الله صدر سعيد بن عامر الجمحي إلى الإسلام، وأعلن براءته من آثام قريش، ومن أوزارها، وخلعه لأصنامها وأوثانها، ودخوله في دين الله، وهاجر سعيد بن عامر إلى المدينة، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات، ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راضٍ عنه، ظل مِن بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر، وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد)) إليكم النصيحة التي قدمها سعيد لعمر وهو على كرسي الخلافة :
فمركز الثقل في السيرة علاقته بسيدنا عمر، وكل إنسان له مركز ثقل، لقد أسلم خبيب متأخرًا، ودخل مع النبي، وجاهد معه، لكن بطولته والصفحات المتألقة في حياته كانت في عصر سيدنا عمر بن الخطاب، الذي كان يعرف لسعيد بن عامر صدقه وتقواه، ويستمع إلى نصحه، ويصغي إلى قوله .
فمرة دخَلَ سعيد بن عامر الجمحي على سيدنا عمر في أول خلافته، فقال:
((يا عمر، أوصيـك أن تخشى الله في الناس، -فهذه قاعدة إيمانية، أنا سوف أقدمها هدية لكم، أنت بائع، تاجر، موظف، مهما كانت الحرفة التي تتعامل مِن خلالها مع الناس، إذا خفتَ الله في الناس، فما آذيتَهم، وما غششتَهم، وما كذبتَ عليهم وما احتلت عليهم، وعاملت كل واحد منهم كأنّ الله هو المحامي، وكأن الله هو الوكيل، فإذا خفتَ الله في الناس فأنت في موكب النجاة، اسمعوا الجواب-: لن يخيفك الله من الناس، -قال لي واحد: واللهِ يا أستاذ دخل عليّ موظف تموين، فصارت ركبي ترجف، فانطلقتُ رأساً إلى طبيب القلب، وخططتُ فشعرتُ بضيق، إنسان يدخل إلى محلك، فيسبِّب لك أزمة قلبية، أمّا لو فرضنا بائِعًا ما دخل زبون إلى المحل إلا وباعه بصدق وأمانة ونصيحة، وما كذب، ولا غشَّ، ولا أخذَ أكثر مما ينبغي، ولا استغلَّ جهل الزبون، فأنت تخاف من الله، فلن يخوِّفك من الناس، هذا شيء مستحيل، فلنسْمعْ ما قاله سعيد بن عامر لعمر، ولنفقَهْ دقة العبارة- قال له: أوصيـك أن تخشى الله في الناس، ولا تخش الناس في الله، -ما أجمل هذه الكلمة، وألاّ يخالف قولـك فعلـك، فإن خيرَ القول ما صدقه الفعل .

فهل تجد إنسانًا في الأنظمة الحديثة يخاطب ملِكًا بهذه الطريقة؟ هذا مستحيل- قال: يا عمر، الحمد لله الذي أخرجنا من جور الحكام إلى عدل الإسلام، يا عمر, أقم وجهك لمن ولاّك الله وجهه من بعيدِ المسلمين وقريبِهم، وأحِبَّ لهـم ما تحـب لنفسك وأهل بيتك، واكرهْ لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخصّ الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم, -إنسان مغمور ضعيف عييّ اللسان أعطِه حقه الكامل- فقال عمر: من يستطيع ذلك يا سعيد؟ فقال: يستطيعه رجل مثلك ممَّن ولاهم الله أمـر أمـة محمـد، وليس بينهم وبين الله أحد))

أنت أعلى واحد قوة ومرتبة عند الله عز وجل .
مرة سيدنا عمر كان يخطب، فقطع الخطبة، وتكلم كلامًا لا معنى له، مثل الإعلانات في الأخبار، لا علاقة للأخبار في الإعلان، يخطب وفجأةً قطع الخطبة، وقال: يا عمر, كنتَ عميرًا ترعى غنمات لبني مخزوم، وتابع الخطبة، ما علاقة هذا الكلام بالموضوع؟ فلما انتهت الخطبة سأله أحد الصحابة، وهو سيدنا ابن عوف عن تلك الجملة الدخيلة على الخطبة، فأجابه: واللهِ وأنا أخطبُ قالت لي نفسي: أنت أمير المؤمنين، وليس بين الناس وبين الله أحد إلا أنت، فأردت أن أعرِّف نفسي حقيقتها، لقد كنتَ عُميرًا رَاعي الغنم، وهذه حقيقته، وقطع الخطبة وعرّف الناس مَن هو، وتابع، عظماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
الإنسان العاقل لا يتكبر، ومَن تكبَّر فإنّ الله يضعه، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه . هل كان سعيد من قائمة الفقراء يوم تولى إمارة حمص وأين وضع المال الذي فرضه عمر له ؟
ويدعو سيدنا عمر عميرًا إلى مؤازرته، وقال له:
((يا سعيد، إني ولَّيتُك على أهل حمص، فقال يا عمر: ناشدتك الله ألا تفتننِّي، فغضب عمر، وقال: ويحكم ويحكم !! وضعتم هذا الأمر في عنقي، ثم تخليتم عني، يجب أن تعينوني، -لا يقدر إنسان أنْ ينجح بمفرده، حتى الدعوة إلى الله، كل واحد يعين على حسب قدراته، هذا بماله، وهذا بعلمه، وهذا بإمكاناته، وهذا بعضلاته، وهذا بخبرته، وهذا باختصاصه أما أن يكون الشخصُ سلبيًّا فهذا ليس من المسلمين- .

والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص، وقال له: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال: وما أفعل به يا أمير المؤمنين، فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي، ثم مضى إلى حمص، بعد فترة قليلة وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسديَ حاجتهم، فرفعوا إليه كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر، قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم فقير! قالوا: نعم, والله إنه لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا توقد في بيته النار .
فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار، فجعلها في صرة، وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجتك، فجاء الوفد إلى سعيد بالصُّرة، فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كأنما نزلت به نازلة، أو حلَّ بساحته خطب، فهبَّتْ زوجته مذعورة، وقالت : ما شأنك يا سعيد، أمات أحدٌ مِن المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: أأصيب المؤمنون في وقعة؟ قال: بل أعظم من ذلك، فقالت: وما أعظم من ذلك؟ قال: دخلتْ عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي، وحلَّت الفتنة في بيتي، قالت: تخلَّصْ منها، وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً، والنساء يحبون المال، قال: أو تعينيني على ذلك؟ قالت: نعم، فأخذ الدنانير فجعلها في صرة، ثم وزعها على فقراء المسلمين، لقد خاف أنْ يصبح غنيًّا يتنعم، ويأكل والناس جائعون))

ما هي الشكوى التي صدرت من أهل حمص على سعيد وماذا كان جواب سعيد عنها ؟
سيدنا عمر قام بجولة تفقدية إلى المحافظات، أو إلى الولايات في دولته، فذهب إلى بلاد الشام وحمص يومئذٍ تُدعى الكُويفة، تصغير الكوفة، تشبيهًا لها بالكوفة، لكثرة شكاوى أهلها من عمالهم وولاتهم، كما كان يفعل أهل الكوفة، فلما نزل فيها لقيه أهلها للسلام، وأول سؤال سألهم:
((كيف وجدتم أميركم؟ فشكوه إليه، وذكروا أربعًا من أفعاله، أربع شكاوى، وكل واحدة منها أعظم من الأخرى، فقال عمر: فجمعتُ بينه وبينهم، بالمناسبة إن اشتكى إنسان لك على آخر فاجمعهما معاً، فقد ترى أنّ أربعة أخماس الكلام ليس على حقيقته, أربع أخماس الكلام يُلغَى إذا جمعت الاثنين معاً، فلا يتكلم بحضرة خصمه كما لو كان غائبًا، فأمامه يخجل، فكل شيء فيه كذب يلغيه ، فاجمعهما, قال عمر: فجمعتُ بينه و بينهم، و دعوت الله ألا يخيِّب ظني فيه, لأن عمر هو الذي اختاره واليًا عليهم, فقد كنتُ عظيم الثقة به، فلما أصبحوا عندي هم و أميرهم, قلت: ما تشكون من أميركم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار, فقلت لسعيد: ما تقول في ذلك يا سعيد؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والله إني كنتُ أكره أن أقول ذلك, أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس .

قال عمر: هذه واحدة، وما الثانية؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل, فما تقول يا سعيد؟ قال: والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل, الليل ليس لهم, النهار لهم، والليل لله صلاةً و قيامَ ليل، و ذكرًا و تهجدًا و دعاء, قلت: وما تشكون أيضاً؟ قالوا: إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر, قال: وما هذا يا سعيد؟ قال: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي عليّ، فأنا أغسلها في الشهر مرة، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم, قال: ثم ماذا؟ قالوا: تصيبه من حين لآخر غشية، فيغيب عمن في مجلسه, كأنه يغيب عن الوعي, قال: ما تقول في هذا يا سعيد؟ قال: شهدت مصرع خبيب بن عدي، وأنا مشرك, ورأيت قريشًا تقطِّع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمدٌ في مكانك؟ فيقول: واللهِ لا أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، وإني واللهِ كلما ذكرت ذلك اليوم، وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أنّ الله لن يغفر لي؟ فقال عمر: الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني به، ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته، ثم رأتها زوجته، هذه المرة رأت زوجته المال، قالت له: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، اشترِ لنا مؤونة، واستأجر لنا خادماً، فقال لها: وهل لك فيما هو خير من ذلك؟ قالت: وما ذلك؟ قال: ندفعها إلى من يأتينا بها، ونحن أحوج ما نكون إليها، قالت: وما ذاك؟ قال: نقرضها لله قرضاً حسناً، قالت: نعم وجزيت خيراً .
فقدْ أعانته، وهذه الألفُ الثانية وزَّعها، وقال لزوجته: انطلقي بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين فلان، وإلى معوزي آل فلان، ووزع الألف الثانية))

ما هي رسالة الإيمان ؟
هذا سعيد بن عامر الجمحي الذي كان يتأخَّر صباحاً، وبالليل لا يجيب أحدًا، وبالشهر يغيب يومًا
وأحياناً تأتيه غاشية فيغيب عن الوعي، وهذا الرجل قد شهد مصرع خبيب، وكيف رأى هذا الصحابي الجليل الذي عذَّبَه الكفار أشدّ التعذيب، ومات وهو في أسعد لحظاته؟ هذا أثر الإيمان في نفس الإنسان .
إنّ العفّة مِن علامة إيمانك، العفة عن أموال الناس، والعفة عن أعراض الناس، والناس يُؤْتَوْن من المال والنساء، فإذا حصنتَ نفسك من فتنة النساء بغض البصر، وعدم الاختلاط، ومن جهة المال بتحرير الدخل، فقد سددت عندئذٍ على الشيطان أكبر المنافذ، التي يمكن أن ينفذ إليك منها, عنده فخ فعال، وعنده شبكة محكمة، وعنده مقلب مدمِّر، ألا وهو النساء، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((النساء حبائل الشيطان))
[أخرجه أحمد في مسنده]
كيف أنّ الإنسان ينهار إذا بُعِث في مهمة شاقّة؟ واعلمْ أنّ المرءَ يسقط بالنساء والمال، وبهذين يسقط جميع الناس، الرشاوى والفضائح في إيطاليا ما أسبابها؟ المال والنساء، فالمؤمن محصن ضدَّ المال والنساء، وهو في حرز حريز .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-21-2018, 12:46 PM   #30


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابة رضوان الله عليهم



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابة رضوان الله عليهم

الدرس : ( الثلاثون )

الموضوع : سيدنا عمير بن وهب


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . ما هي الرسالة الخاصة التي يهديها الله لبعض الأشخاص وما مصيرهم إن لم يستجيبوا لها
أيها الأخوة الأكارم، مع بداية الدرس الثلاثين من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابيُّ اليوم سيدنا عمير بن وهب, ولهذا الصحابي قصة فريدة، وقبل أن نخوض في الحديث عن تفاصيل رحلته في طريق الإيمان لا بد من توضيح بعض الأفكار .
أيها الأخوة, ربنا جل جلاله خبير بخلقه، وأخصُّ الإنسان بحديثي الآن من بين الخلق جميعًا، في بعض الأحيان ربنا سبحانه وتعالى يريه الكثيرَ من آياته الدالة على وجوده، وعلى علمه، وعلى وحدانيته، وعلى كماله، وبعض الأشخاص تتدخل العناية الإلهية لحكمة مطلقة متعلقة بعلم الله بهؤلاء الأشخاص تدخلاً مباشرًا، فهذا الشخص عمير بن وهب أراه الله من آياته، ولأن الله سبحانه تعالى عليم به تتضح له الحقائق، وينطلق في طريق الإيمان .
فهؤلاء سحرة فرعون حينما رأوا عصا سيدنا موسى انقلبت ثعباناً مبيناً، وتلقَّفت كل ما صنعوا من السحر خروا لله ساجدين، لذلك قال بعضهم: إما أن تطيعه فيكرمك، فهذا طريق، وأحياناً يكشف لك عن جوانب عظمته أو عن آياته، وهو يعلم أنك تستجيب فيكون الكشف سابقًا للطاعة, وإما أن يكون الكشفُ بعيدًا الطاعة .

هذه القصة فريدة من نوعها، فأحياناً الإنسان يرى منامًا يأتي مثل فلق الصبح, وأحياناً ينقذه الله عز وجل من ورطة محققة بحكمة ما بعدها حكمة، وبقدرة ما بعدها قدرة، فالإنسان إذا وضعه الله عز وجل أمام آية من آياته الدالة على وجوده، والدالة على كماله، والدالة على علمه، والدالة على وحدانيته، ولم يستجِب فالويل له .

يمكنك أن تتفكر في الكون، وأن تتيقن من خلاله وجود الله عز وجل، وذلك من كماله، من وحدانيته، ومن ألوهيته، ومن ربوبيته، وتمشي في طريق طاعته إلى أن تنكشف لك الحقيقة، لكن أحياناً وهذه حالات قليلة، وأنت متلبس بالمعصية، وأنت غارق في اتباع الشهوات يكشف الله لك بعض الحقائق، لعلمه بأنك تستجيب، فهذا الذي لا يستجيب إنسان خاسر، وكل واحد منا ضمن عمله، وفي أثناء سفره، وضمن إقامته، ومن خلال علاقاته قد ينشأ معه شيء على خلاف المألوف ، وعلى خلاف العادة، إنها عناية إلهية، والقصص في هذا كثيرة جداً، فإذا كشف اللهُ لك جانباً من آياته التي تدل على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى ربوبيته، وعلى ألوهيته، وعلى علمه, فعليك أن تسرع الخطى، لأنها فرصة نادرة لا تتكرر، وإذا كان التسعة والتسعون بالمئة من الناس مكلفون أن يهتدوا إلى الله بعقولهم، وأن يستجيبوا له، وبعدئذ يكشف لهم عن جوانب آياته الباهرة فإن بعض الأشخاص، وهم قلة قليلة، ولحكمة بالغة يكشف لهم عن وجوده، وعن علمه، وعن آياته قبل أن يطيعوا، فإذا لم يطيعوا كان هذا الكشف حجة عليهم .
ما هو الحديث الذي جرى بين عمير بن وهب وبين صفوان بن أمية ؟
سيدنا عمير بن وهب، هذا اسمه الدقيق عمير بن وهب الجمحي عاد من موقعة بدر ناجياً بنفسه، لكن ابنه وهبًا خلَّفه أسيراً عند النبي عليه الصلاة والسلام, أب و ابنه كانا في معركة بدر، وهذه المعركة حُسِمت لصالح المسلمين، والقتلى كثير، وأسرى كثيرون وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام، أمّا الأب فنجا ووقع الابن أسيرًا .

أيها الأخوة، نحن أحياناً بأساليب معوجة، وبأساليب لا ذكاءَ فيها، نخسر أصدقاءنا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام للكمال الذي أكرمه الله به يستقطب أعداءه، إنه شيء غريب، عمير بن وهب من ألَدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، كان كافراً مشركاً عنيداً مناهضاً ضالاً مضلاً فاسقاً فاجراً أراد أن يطفئ نور الله، فحارب أصحاب رسول الله، ونكل بهم، بل لم يدَّخر وسعاً في إيقاع الأذى بهم، فكان هذا الرجل من ألدِّ أعداء النبي، وبعد أن وقع ابنه أسيراً عند رسول الله، خاف أن يؤخذ الابنُ بجريرة أبيه، وأن يسوموه سوء العذاب، جزاءَ ما كان ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، ولقاء ما كان يلحق بأصحابه من النكال .
في أحد الأيام توجَّه عمير إلى البيت الحرام للطواف بالكعبة، لأن الحج كما تعلمون عبادة قديمة، قال تعالى:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾
(سورة آل عمران الآية: 96)

فالعرب كانوا يطوفون حول الكعبة, فرأى صفوان بن أمية جالساً إلى جانب الحِجْر، والحِجْر ذلك القوس المبني إلى جانب الكعبة، وهو قديم، فأقبل عليه، وقال:
((عِمْ صباحاً يا سيد قريش، فقال صفوان: عِمْ صباحاً يا أبا وهب، اجلس نتحدث ساعةً، فجلس عمير، إنهما رجلان موتوران، رجلان حاقدان، رجلان يغليان حقداً على رسول الله، جلس عمير بإزاء صفوان بن أمية، وطفق الرجلان يتذاكران بدراً، ومصابهما العظيم، ويعدِّدان الأسرى الذين وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتفجعان على عظماء قريش ممّن قتلتهم صناديدُ المسلمين، وغيَّبهم القليبُ في أعماقه، فتنَهَّد صفوان بن أمية، وقال: واللهِ ليس في العيش خير بعدهم، ما هذه الحياة؟ فقال عمير : صدقت واللهِ، ثم سكت عمير قليلاً، وقال: وربِّ الكعبة لولا ديون عليّ ليس عندي ما أقضيها، ولولا عيال أخشى عليهم الضياع من بعدي، لمضيتُ إلى محمد وقتلتُه، وحسمت أمره، وكففتُ شرَّه، وأرحتُكم منه، ثم أَتْبَعَ يقول بصوت خافت: وإن وجود ابني وهب لديهم ما يجعل ذهابي إلى يثرب أمراً لا يثير الشبهات، قال تعالى:
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾
(سورة الزمر الآية: 36)
اغتنم صفوان بن أمية كلام عمير بن وهب، -ولم يشأ أن يفوِّت هذه الفرصة، فالكافر أحيانًا يكون ذكيًّا، وليس الذكاء قيمة مطلقة، الذكاء نعمة إذا وظفته في الحق، وبلاء كبير إذا وظفته في الباطل، الذكاء شأنه كشأن أيٍّ مِن حظوظ الدنيا، سُلَّمٌ ترقى به إلى أعلى عليين، أو دركات تهوي بها إلى أسفل سافلين، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة، مرة يقولون لك: القنبلة الذكية، ومرة يقولون: قنبلة عنقودية، صواريخ موجّهة بأشعة الليزر، هذا الصاروخ ركب على أشعة الليزر، ودخل في مدخنة المصنع، والقنبلة تُسَيَّر من قبل الطيّار على شاشة أمامه، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة أهم جهلاء؟ لا والله، إنهم أذكياء، هذا الذي أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما فأفنت ثمانمئة ألف في ثلاث ثوانٍ أهو إنسان غبيّ؟
لا واللهِ، ذكي، فهل للذكاء حينئذٍ قيمة مطلقة؟ لا والله، قيمة متعلقة بتوظيفه، فإذا وظفت الذكاء في معرفة الله، وفي الدعوة إليه، وفي العمل الصالح فهذا الذكاء نعمة من الله، أما إذا وظفته في شيء آخر فهو نقمة، ولحكمة أرادها الله لا ندري أبعادَها أكثرُ الحيوانات التي تشمئزون منها، والتي إذا ذكر اسمُها، أو رآها الإنسان يكاد يخرج من جلده، هذه الحيوانات تتمتع بأعلى قدر من الذكاء من بين الحيوانات ، ومع ذلك لا يحمَّل الإنسان رؤيتها، لماذا فعل الله ذلك؟ لبيان أنّ الذكاء وحده لا يكفي، قال الشاعر:
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوسِ
لذلك كلّ المجرمين في العالم الغربي يتمتعون بأعلى درجة من الذكاء، ويستخدمون الذكاء لسلب أموال الناس، ولقتلهم، وابتزاز ما عندهم، لذلك إذا آتى اللَّهُ عبدًا ذكاء فلا ينبغي أن يعدّه نعمة إلا إذا وظفه في الحق، أما إذا وظّفه في الباطل فهو نقمة ما بعدها نقمة، ويزداد وقوعًا في النار بسبب ذكائه، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾
(سورة المدثر الآية: 18-30)
كان صفوان ذكيًّا، ووجدها فرصة لا تعوض، ومناسبة لا تفوت- فقال له:
((يا عمير اجعل دَيْنَك كلَّه عليَّ، بالغاً ما بلغ، فأنا أقضيه عنك، هذه أول مشكلة حللناها، وسأضمُّ عيالك إلى عيالي ما امتدت بي الحياة، أولادك أولادي، وإنّ في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً، ويكفل لهم العيش الرغيد، ثم قال لعمير: فامضِ لما أردتَ، وأنا معك، اذهب واقتله، وأرِحْنا منه، فقال عمير: إذاً: اكتمْ حديثنا هذا، ولا تطلع عليه أحداً, قال صفوان: لك ذلك, إنّه حديث تمَّ بين اثنين، ولا يعلم أحد فحواه))
إذا أرادوا أن يعقدوا اجتماعًا، ولا يتسرب خبرُه أبداً يقعدون في الصحراء تحت خيمة , فالمفروض أنّ هذا الاجتماع لا يتسرب منه شيء أبداً .
إليكم قصة إسلام عمير بن وهب :
أيها الأخوة, قام عمير من المسجد، ونيران الحقد تتأجّج في فؤاده على محمد صلى الله عليه وسلم، وطفِق يعُدُّ العدة لإنفاذ ما عزم عليه، فما كان يخشى ارتيابَ أحد في سفره فابنُه أسيرٌ لدى المسلمين بالمدينة, وهو ذاهب ليفكَّ أسْرَه، أَمَرَ عميرُ بن وهب بسيفه فشحذ، وسقي سمًّا، ودعا براحلته فأعدت، وقدمت له فامتطى متنها، ويمّم وجهه شطر المدينة و ملء ردائه الضغينةُ والشرُّ .
بلغ عمير المدينة، ومضى نحو المسجد يريد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدا قريباً من بابه أناخ راحلته، ونزل عنها, وبدأت العقدة, وصل عمير إلى المدينة ليفُكَّ أسر ابنه، فالأمر مُغطًّى بحُجة واضحة .
كان سيدنا عمر بن الخطاب عملاقُ الإسلام، وأحد أركان هذا الدين جالساً مع بعض الصحابة قريباً من باب المسجد، يتذاكرون بدراً، وما خلفته وراءها من أسرى قريش وقتلاهم، و يستعيدون صور البطولة التي قدّمها المسلمون من المهاجرين والأنصار، ويذكرون ما أكرمهم الله به من النصر، وما أراهم في عدوهم من النكاية والخذلان, فحانت منه الْتِفاتَةٌ فرأى عمير بن وهب ألدَّ أعداء رسول الله ينزل عن راحلته، ويمضي نحو المسجد متوشحاً سيفه، فَهَبَّ عمر مذعوراً، وقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب, واللهِ ما جاء إلا لشر, فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري]
إنّ المؤمنَ مسدَّدٌ رشيد, ولقد أَلَّبَ المشركين علينا في مكة، وكان عينًا علينا قبيل بدر، ثم قال لجلسائه: امضوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكونوا حوله، واحذروا أن يغدر به هذا الخبيث الماكر .
وفي رواية أخرى أنه انطلق إليه، وقال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ ولِمَ هذا السيف على عاتقك؟ ثم قيّده في حمالته، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، دخل سيدنا عمر وعمير بن وهب على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقال عمر: يا رسول الله, هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحاً سيفه، وما أظنه إلا يريد شراً، فقال عليه الصلاة والسلام: أدخِلْه عليّ، فأقبل الفاروق على عمير، وأخذ بتلابيبه، وطوّق عنقه بحمّالة سيفه، ومضى به نحو النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي رقيق، نور يشعّ، إنه نفس إنسانية تفيض رحمة، والإنسان يمتحن، فأن ترحم مَن تحب هذا أمرٌ طبيعي جداً، وأهل الدنيا الكفار يرحمون مَن حولهم، مَن يلوذ بهم، ولكن عظمة الإيمان أن المؤمن يحب الناس جميعاً
فيرحم أعداءه قبل خصومه, فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمر, أطلقه وفكَّ عنه هذا القيد، فأطْلَقه, ثم قال: يا عمر استأخر عنه, فتأخر عنه, ثم توجّه النبي عليه الصلاة و السلام إلى عمير بن وهب، وقال: ادنُ يا عمير, فدنا، وقال: أَنْعِمْ صباحاً يا محمد, وهذه تحية العرب في الجاهلية, فقال عليه الصلاة و السلام: يا عمير, لقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك هذه, لقد أكرمنا الله بالسلام، وهي تحية أهل الجنة, فقال عمير بفظاظة ما بعدها فظاظة وغلظة ما بعدها غلظة: واللهِ ما أنت ببعيد عن تحيتنا، وإنك بها لحديث عهد .
أيها الأخوة, قد تتحمل إنسانًا مؤمنًا، وهناك شخص صدره واسع, ونَفَسُه طويل, حليم, يتلقى فظاظة خصومه بصدر رحب, ويمتصُّ مواقفهم الفجّة, وهناك شخص لا يتحمل, إذا أردت أن تكون داعية إلى الله عز وجل فلا بد من حلم كثير, ولا بد من سعة صدر, ولا بد من تجاوز, ولا بد أن تكون في أعلى مستويات الرحمة والحب .

فقال يا عمير: ما الذي جاء بك إلينا؟ فقال: جئت أرجو فكاكَ هذا الأسير الذي في أيديكم, قال النبي: فما بالُ هذا السيف الذي في عنقك, قال له : قبّحها الله من سيوف, وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ إنّه يخادع، قال: أَصْدِقْني يا عمير, ما الذي جئت له يا عمير؟ قال: ما جئتُ إلا لذلك, قال له: يا عمير, بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية عند الحِجر، فتذاكرتما أصحابَ القليب من صرعى قريش، ثم قلت لصفوان: لولا دَيْن علَيَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً, فتحمّل لك صفوان بن أمية دَيْنَك وعيالك على أن تقتلني، أليس كذلك يا عمير؟ هذه الآية التي أعطاها الله لعُمير, فذهل عمير لحظة، ثم ما لبث أن قال: أشهد أنك رسول الله, انتهى الأمر .
إنّ الله عز وجل يُرِي الإنسان وهو في المعصية وهو في الضلال يريه آية من آياته، فإنْ لم يستجب فقد ضيّع فرصة لا تتكرر، ثم قال مرة ثانية: لقد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، بعض الناس يكون محدودًا في نظرته، فيقول لك: هذه سحبة فلا تصدق ، كلهم دجالون, هؤلاء الكفار كلماتهم قاسية جداً- وما ينزل عليك من الوحي، لكن يا رسول الله خبري مع صفوان بن أمية لم يعلم به أحد إلا أنا وهو, وواللهِ لقد أيقنتُ يا رسول الله أنه ما أتاك به إلا الله, الآن أنت رسول الله حقًّ وصدقًا، فالحمد لله الذي ساقني إليك يا رسول الله سوقاً -وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: ((عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة]
وفي رواية أبي داود وأحمد:
((عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة]
ما هو الأمر الذي وجهه رسول الله إلى أصحابه وماذا نستفيد منه ؟
فقال عليه الصلاة والسلام:
((فقِّهوا أخاكم, -صار الآن أخاكم, ليس هناك عداوة دائمة أبداً في الإسلام، أنت تعادي سلوكه, وتعادي كفره, وتعادي فسقه, وتعادي فجوره, فإذا عاد إليك فهو أخوك حقاً، وانتهى الأمر- قال: فقِّهوا أخاكم، وعلِّموه القرآن، وأطلقوا أسيره، إكراماً له, وفرح المسلمون بإسلام عمير بن وهب أشدّ الفرح، حتى إن عمر بن الخطاب قال: واللهِ لَلْخنزير كان أحبَّ إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله، وهو اليوم واللهِ أحبُّ إليَّ من بعض أبنائي ،
-فهذا هو الدين, لمجرد أن يؤمن المرء, لمجرد أن يصطلح مع الله, لمجرد أن يتوب إلى الله, لمجرد أن يعود إلى الطريق الصحيح, فهو أخوك حقاً، وما لم تكن هذه المودة، وهذه المحبة، وهذا التناصح، وهذا البذل، وذاك العطاء بين المؤمنين, فو اللهِ لا خير فينا, ولا ينظر الله إلينا, وواللهِ ما من وقت مَرَّ على المسلمين في تاريخهم هم في أَمَسِّ الحاجة إلى أن يتعاونوا، ويتكاتفوا ويعذر بعضهم بعضا، ويسامح بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً، وما مِن وقت مرَّ على المسلمين في تاريخهم كهذا الوقت الذي هم في أمسِّ الحاجة إلى التعاون، وما من وقت مرّ على المسلمين في تاريخهم أصعب من هذا الوقت، حيثُ أعداؤهم يهجمون عليهم هجمة شرسة وحشية في كل أنحاء العالم، والأخبار بين أيديكم، وقد قال الله عز وجل:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
(سورة المائدة الآية: 2)
الحقيقة المؤشر الصحيح للمؤمنين أنه يجب أنْ يكونوا كالصف الواحد, كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً, كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْـهُ عُضـْوٌ تَدَاعَى لـَهُ سَائِـرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير في الصحيح]

سوف أعطيك مقياسًا واضحًا أيها الأخ الكريم, لك أخ مؤمن ألَمَّتْ به ملمّة، فهل تتألم؟ إن تألمت وربِّ الكعبة إنك لمؤمن، وإن لم تتألم فقد وضعتَ نفسك شئت أم أبيْتَ في صفّ المنافقين، قال عز وجل:
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
(سورة آل عمران الآية: 120)
لمجرد أن تفرح بملمّة ألمّت بمؤمن, بنازلة نزلت به, بمصيبة حلّت به, لمجرد أن تفرح فلست مؤمناً، لقد وضعت بذلك نفسَك مع المنافقين، أمّا إذا رأيت أخاك المؤمن قد أكرمه الله بشيء من الدنيا, بمرتبة, بوظيفة, بزواج, ببيت, بدعوة, ففرحت به، واغتبطت له، وأعنته فأنت مؤمن وربّ الكعبة، أمَّا إذا حسدتَه، وأردتَ أن تبحث عن عيوبه، وأردتَ أن تطعن فيه، وأردتَ أن تُزَهِّد الناس فيه لحسد يغلي في قلبك فأنت واللهِ مع المنافقين، والدليل قول الخبير العليم:
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
(سورة آل عمران الآية: 120)
المنافق يتألم أشد الألم إذا أصاب المؤمنَ خيرٌ- .

صار عميرٌ يزكِّي نفسَه بتعاليم الإسلام، ويشرق فؤاده بنور القرآن، ويحيا أروع أيام حياته وأغناه)) أيها الأخوة، إنّ أحدكم بعد ما تاب إلى الله، واصطلح معه، وسار على طريق الإيمان، إذا لم يقل: أنا أسعد إنسان في الأرض يكون في توبته خلل، لأن ربنا عز وجل يكرم التائب بسعادة لا توصف, براحة لا سبيل إلى وصفها، ويشعر المؤمن التائب أنه ملك, وأنه أسعد الناس.
ذات مرة قال لي أخ كلمة، وكان في الحج: واللهِ يا أستاذ, ليس في الأرض مَن هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني, فأنت سعادتك بإيمانك, سعادتك بطاعتك, سعادتك بعملك الصالح, سعادتك بأخوانك, سعادتك بمجلس العلم, سعادتك بمسجدك, إذا كان لك هذا الانتماء فأنت مع المؤمنين، أمّا الذي يتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّهِ ما تولى، أنت مع المجموع, أنت عضو في جماعة, أنت خلية في جسد, أنت غصن في شجرة، تتألم لألم أخوانك، وتفرح لفرحهم، تسخِّر إمكاناتك في خدمتهم، أنت إذًا: مؤمن، وهكذا يكون الإيمان . ما هو الخبر الذي كان ينتظره صفوان وما هو الخبر الذي صدم به ولماذا عاد عمير إلى مكة ؟
لماذا كان صفوان في أروع أيام حياته؟ لأنه يتوقع بعد أيام أن يأتي الخبر المفرح بأن محمَّداً قد قتل, كان صفوان صامتًا لا يتكلم، لقد اتفق صفوان وعمير ألا يتكلما، ولكن كان يقول: يا معشر قريش, أبْشِروا بنبأ عظيم يأتيكم قريباً، ثم إنه لمَّا طال الانتظار على صفوان بن أمية قالوا: أين هذا الخبر السار؟ فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة يسأل القوافل عن أخبار المدينة، فلا يسمع شيئًا، ولا يصله شيء, ولمَّا طال الانتظار أخذ القلق يتسرب إلى نفسه شيئاً فشيئاً
حتى غدا يتقلب على أحرّ من الجمر، لقد كفل له أولاده، وكفل له دَيْنَه، فماذا ينتظر؟ و طفق يسأل الركبان والقوافل عن عمير بن وهب, فلا يجد عندهم جواباً يشفيه، إلا أنه مرة جاءه راكب فقال : إنّ عميراً قد أسلم يا سيدي, صاحبك أسلم, فنزل عليه الخبرُ نزولَ الصاعقة، إذْ كان يظن أن عمير بن وهب لا يسلم ولو أسلم جميعُ مَن في الأرض, لكنَّ الآية الباهرة التي جاءته من الله، والتي أكدّت له صدق النبي، وأنه رسول استفاد منها، فإذا أرَى الله عز وجل عبدًا آية فلا يركب رأسه .
أما عمير بن وهب فإنه ما كاد يتفقه في دينه، ويحفظ ما تيسّر له من كلام ربه، حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله, لقد غبَرَ عليّ زمان، أي مضى علي زمان، وأنا دائب على إطفاء نور الله, شديد الأذى لمَن كان على دين الإسلام, وأنا أحب أنْ تأذن لي أن أقدم على مكة لأدعو قريشاً إلى الله ورسوله فأُكفِّر عما سبق مني, فرجع إلى مكة داعية, لقد خرج منها قاتلاً، فعاد داعية، وهذه أنوار النبي صلى الله عليه وسلم, هذه عظمة الرسالة, وهذه عظمة النبوة, لذلك على الإنسان ألاّ يعد حياته التي عاشها قبل أن يسلم، والوقت الذي أمضاه قبل أن يتعرف إلى الله عز وجل، لا يعدّ هذا الوقت من حياته .
ذهب رجل إلى قرية، وزار مقبرتها، فلفت نظره شيء عجيب على الشواهد، هذا عاش ثلاث سنوات، وقد يكون طفلاً, وهذا أربع, وهذا خمس, وهذا ثماني سنوات, غير معقول، مقبرة بأكملها كلهم صغار، فسأل، فقيل له: هؤلاء أهل القرية لا يعدُّون من حياتهم السنوات التي سبقت إيمانهم، فالواحد منا متى تعرَّف إلى الله؟ في العشرين، والآن عمره أربعون سنة, كم مضى مِن عمرك يا أخي؟ أنا مضى مِن عمري أربعون سنة لا عشرون, الباقي لا دخل لها، الباقي كنتُ لا أعرف عن ديني خلاله شيئًا، فعمر الإنسان الحقيقي هو العمر الذي تعرّف إلى الله فيه .

أَذِنَ النبي عليه الصلاة و السلام لعمير، فوافى مكة، وأول بيت طرقه بيتُ شريكه بيت صفوان بن أمية, فدهش صفوان, قال: يا صفوان, إنك لسيد من سادات مكة، وعاقل من عقلاء قريش، أفَتَرَى أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام، والذبح لها، أيصح في العقل أن يكون ديناً؟ أين عقلك؟ هل هذا دين؟ حجر تنحتونه أنتم وتعبدونه، وتقدمون له الهدي! فليس هذا معقولاً ، لقد صار عمير عاقلاً، انظر فالإسلام يفتح الذهن, وينوِّر النفس, ويوقظ الفكر, قال له: أمّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، -فالجماعة رحمة
وإذا كان الإنسان مع الجماعة، ويجد فلانًا و فلانًا و فلانًا، وصديقه، وجاره، كلهم يصلون، وعابدون الله عز وجل, ويحضرون مجالس العلم, ويتفقهون، حينئذٍ يأنس بهم، أمّا إذا انزوى الإنسانُ وحده، انفرد به الشيطان، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ:
((خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ, فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا, فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهـُمْ, ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ, وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ, أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجـُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ, عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ, وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهـُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ, مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ, مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ))
[أخرجه الترمذي في سننه عن ابن عمر]
عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ, قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ, فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ:
((مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُـلُ الذِّئـْبُ الْقَاصِيَةَ))
قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ . [أخرجه أبو داود في سننه]
فالذي يعيش وحده تأتيه الوساوس, ويفتي لنفسه, ويتكاسل في أداء عباداته, ويستبيح بعض المحرمات، يقول لك: لا شيء بها، أنت ترى أن ليس فيها شيء، فمَن أنت؟ قرأت مرة بيت شعر:
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند
ما هذه (عندنا)؟ ومن أنت؟ وشرع مَن هذا؟ الشرع كلام الله وسنة رسوله، هل أنت مصدر تشريعي؟ أنت عبد لله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 36)
لذلك كم مِن صديق هدَى صديقه بالمنطق؟ أقول لكم: ما هو الواجب على المهتدي؟ أنْ يهديَ أصدقاءه الذين عاشوا معه، كل أخ من أخواننا له جيران، وله أصدقاء، وله زملاء عمل ادْعُهم إلى بيتك، فأنت تستفيد إذْ تصطلح مع الله، وتُقبِل عليه، وتسعد بقربه، وتشعر أنك تطير في السماء، ورفيقك الذي عشت معه ثلاثة عشر عامًا إنْ تركه في ضلالاته وبُعْده ومعاصيه فأنت لست مؤمناً، فعليك أن تدعو إلى الله مَن يلوذ بك .

إذا هداك اللهُ، وتعرفتَ إليه، وسعدتَ بقربه، انْظُر إلى مَن كان معك سابقاً، وأقرب الناس إليك زوجتك، أم أنك تمدحها على جودة طبخها، ولكنها لا تصلي، فهل هذا مؤمن؟ يهمّك منها طبخها فحسْب، أما المؤمن الصادق فأقرب الناس إليه زوجته، وأولاده، وأخواته البنات، وأولاد عمه، وأولاد خالته، وجيرانه، وزملاؤه، فإذا اهتديت وسعدتَ فأسْعِدْهُم، واجلسْ معهم جلسة، واسهرْ معهم سهرة، أعطِهم شريطًا ليسمعوه، وهذا هو السعي الطيب، الذي قال الله تعالى في حقِّه: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾
(سورة الإنسان الآية: 22)
سعيك في الدنيا .
إذا ذهبت إلى صديقك في طرف المدينة الآخر، وركبتَ، وانتقلتَ من حافلة إلى حافلة، لكي تجلس معه جلسة، فتحتاج إلى جهد ووقت، لكن الله لا يضيعُ عنده شيء, قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾
(سورة الإنسان الآية: 22)
قال عمير لصفوان: أمّا أنا فأشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم طفق عمير يدعو إلى الله في مكة، حتى أسلم على يديه خلقٌ كثير, فأنت حينما تدعو إلى الله فقد أَحْيَيْتَ مَن هديتَه حياةَ نفسٍ غالية، قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾
(سورة المائدة الآية: 32)
يصبح المؤمنُ أُمّةً، هو وزوجته، وجيرانه .
وذاتَ مرة أكرمني اللهُ بأخ زارني في البيت، يطلب مني ألاّ أسمح لأولاده أنْ يحضروا دروس العلم، هكذا طلب، فظللتُ أقنعه حتى صار يأتي هو وأولاده وشركاؤه وصهره، وما بقي أحد إلا وأحضره إلى المسجد بعد أن تألق . الرواية الثانية التي تتعلق بخبر عمير وصفوان :
هناك رواية ثانية في كتاب آخر تذكر أنّ سيدنا عمير بن وهب جاء النبي بعد فتح مكة، وصفوان كما تعلمون ممّن أَهْدَر النبيّ دمَهم، اقتُلوهم، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، هو وعكرمة بن أبي جهل ونفر آخرون، وعمير صديق حميم وفيٌّ، ذهب إلى النبي، وقال:
((يا نبي الله، إنّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك، ليقذف بنفسه في البحر لينتحر، وهو خائف، لأنه مهدور الدم، مقتول، فأمنْهُ يا رسول الله، فقال: هو آمِن، فقال: أعطني آية يَعرف بها أمانك، أريد علامة ، فأعطاه النبي عِمامته، قال له: خذ عمامتي، فقال عمير لصفوان: يا صفوان، هذه عمامة النبي، وقد أمّنك، قال تعالى:

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
(سورة التوبة الآية: 128)
ذهب إلى صفوان وقد ولى هارباً شطر البحر لينتحر، فقال له:
((إن رسول الله يا صفوان أفضل الناس، وأَبَرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، فقال له : إني أخاف على نفسي أن يقتلني، فقد هدر دمي، قال له: هو أحلم من ذلك، وأكرم، فجاء صفوان النبيَّ الكريمَ، والشاهد العمامة، والكلام صحيح، فقال للنبي الكريم: إنّ هذا يزعم أنك قد أمّنتني، فقال: صدق، قال له: اجعلني بالخيار، أن أستشير عقلي شهرين، قال له: أنت في الخيار أربعة أشهر، وعندما دخل رسول الله مكة, قال أبو سفيان: يا ابن أخي ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، وما أحكمك))
هذا عمير بن وهب أراه الله عز جل أراه آية، وقد اهتدى وهدى، وكل واحد منا له نصيب يصيبه مما يُشْبِه هذه القصة، وهذا الذي أصابه حُجّة عليه، فعليه أن ينتبه، فهو يتعامل مع الله عز وجل .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الصحابة, سيرة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء : 0 , والزوار : 3 )
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فضائل الصحابة رضي الله عنهم السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 14 10-29-2017 09:38 AM
سلسة زوجات وابناء وبنات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 30 10-20-2017 01:04 PM
فضل الصحابة - أبو بكر الصديق رضي الله عنه منال نور الهدى ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 9 07-11-2013 07:48 AM
صور من حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 6 07-11-2013 07:43 AM

HTML | RSS | Javascript | Archive | External | RSS2 | ROR | RSS1 | XML | PHP | Tags

أقسام المنتدى

|~ هدي الرحمن لتلاوآت بنبضآت الإيمان ~| @ رياض روحآنيآت إيمانية @ رياض نسائم عطر النبوة @ رياض الصوتيات والمرئيات الإسلامية @ |~ قناديل الفكر بالحجة والبيآن ~| @ ريـــــــآض فلسفــة الفكـــر و الــــــرأي @ ريــــآض الـــدرر المـنـثـــــورة .. "للمنقول" @ رياض هطول الاحبة @ رياض التهآني و الإهدآءآت @ |~ صرير قلم وحرف يعانق الورق ~ | @ رياض منارة الحرف وعزف الوجدان "يمنع المنقول" @ رياض القصيدة و الشعر "يمنع المنقول" @ رياض القصة و الرواية المنقولة @ رياض صومعة الفكر واعتكاف الحرف @ رياض رشفة حرف @ |~ لباس من زبرجد وأرآئك وألوان تعانق النجوم~| @ رياض حور العين @ رياض آدم الانيق @ رياض الديكور و الاثاث @ رياض المستجدات الرياضية @ رياض ابن بطوطة لسياحة والسفر @ |~ فن يشعل فتيل الإبداع بفتنة تسحر ألباب الفنون ~| @ رياض ريشة مصمم @ رياض الصور المضيئة @ رياض الصور المنقولة @ |~ أفاق التكنولوجيا والمعلومآت الرقمية ~| @ رياض البرامج و الكمبيوتر @ رياض المنسجريات @ رياض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية @ |~ دستور الهيئة الإدارية ~| @ رياض مجلس الادارة @ رياض المشرفين و المراقبين @ رياض الشكاوي والاقتراحات @ رياض الارشيف @ نــــور الأنــس @ ذائقة الشعر و القصائد المنقولة @ "ذائقة الخواطر والنثريات المنقولة" @ رياض رفوف الأنس @ رياض صدى المجتمع @ ريآض الآحاديث النبوية @ رياض الاعجاز القرآني @ ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين @ ريآض الطفولة والأسرة @ ريآض أروقــــــة الأنــــــــس @ رياض ملتقى المرح @ رياض نفحات رمضان @ ريآض شهِية طيبة @ ريآض فعآلية رمضآن المبآرك @ ريآض الفوتوشوب @ ريآض القرآرآت الإدآرية العآمة @ ريآض برنآمج كرسي الإعترآف @ ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية @ ريآض التاريخ العربي والعالمي @ ريآض إبن سينآ لطب والصيدلة @ |~ وشوشة على ضفآف شهد التحلية ~| @ ريآض مجآلس على ضوء القمر @ ريآض YouTube الأعضآء " لأعمآلهم الخآصة والحصرية " @ ريآض YouTube العآم @ ريآض فكّر وأكسب معلومة جديدة @ ] البصمـــة الأولــــى [ @ رياض Facebook "فيسبوك" @ ريآض المؤآزرة والموآسآة @ رياض تطوير الذات وتنمية المهارات @ رياض فضاء المعرفة @ رياض Twitter "تويتر‏" @ رياض شبكة الأنترنت @ رياض المحادثات @ رياض سويش ماكس @ رياض الأنبياء والرسل @ رياض Google @ رياض الإدارة والمراقبين العامين @ قسم خاص بالشروحات برامج التصميم بكافة أنواعه @ رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" @ ابداع قلم للقصة والرواية (يمنــــــع المنقــــــول) @ أرشيف فعاليات رمضان ( للمشاهدة) @ رياض خاص بأعمال المصممة الرائعة ذات الأنامل الماسية "سوالف احساس" @ |~ بانوراما للإبداع الفتوغرافي ~| @ رياض خاص بأعمال المصممة المبدعة ذات الأنامل الذهبية "سهاري ديزاين" @ |~ واحة غناءة تغازل الأطياف وتتماوج بسحر الألوان ~| @ رياض خاص بالصحفي المتألق محمد العتابي @ رياض عقد اللؤلؤ المنثور "يمنع المنقـــول" @ رياض لتعليم الفتوشوب من الألف الى الياء @


الساعة الآن 02:24 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7 Copyright © 2012 vBulletin ,
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.