حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > رياض الأنبياء والرسل

رياض الأنبياء والرسل (يختص بسيرة وقصص الأنبياء والرسل عليهم السلام

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 07-02-2018, 04:22 PM   #1


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الاول )


الموضوع : المقدمة ( 1 ) معرفة السيرة النبوية فرض عين على كل مسلم





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
هذه هي السيرة :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الأول من دروس فقه السيرة، واليوم سيكون الموضوع تمهيدًا للسيرة .
الكون كما تعلمون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، فإن تحدثنا عن الكون كان التفكر في خلق السموات والأرض، وإن تحدثنا عن القرآن كان الحديث تفسيراً وتحليلاً واستنباطاً، وإذا وصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، كانت السيرة .
دعوة القرآن إلى دراسة السيرة النبوية من حيث :
1- أن النبي صلة الوصل للمسلم في ثبوت إيمانه :

أيها الأخوة، بادئ ذي بدء، هل نحن بحاجة إلى تعلم سيرة سيد الخلق؟ الجواب الأول : أن الله جل جلاله حينما قال:

﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
( سورة هود الآية : 120 )
فإذا كان قلب سيد الأنبياء يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه، فلأن تزداد قلوبنا إيماناً ويقيناً بمساع قصة سيد الأنبياء، هذا دليل .



2- أن النبي قدوة في نقل الإنسان من صحراء الوجود إلى واقعية الحياة ورقيها :
والدليل الثاني: أن الله سبحان الله حينما قال:
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية : 69 )
الإسلام بمجمله كلمتان: كلمة التوحيد وكلمة الرسالة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً: الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام شطر الدين، بل هو جزء لا يتجزأ من الدعوة إلى الله، ذلك لأن في الحياة مثالية حالمة لا أحد يعبأ بها، وفي الحياة واقعية مقيتة لا أحد يلتف إليها، ولكن الناس يشدهون بمثالية واقعية أو بواقعية مثالية، هذا ما نجده في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
3- دعوة القرآن للإنسان في التفكر بشمائل النبي :
شيء آخر، أن الله سبحان الله حينما قال:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
( سورة سبأ الآية : 46 )
فالتفكر في كمال رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتفكر في شمائله، وفي فضائله، وفي منهجه جزء من الدين .
4- تعلم السنة القولية فرض عين على كل مسلم :
شيء آخر، أن في علم الأصول قاعدة ذهبية دقيقة جداً، وهي أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة, أرأيت إلى الصلاة إنها فرض، لكن الصلاة لا تتم إلا بالوضوء، فإذا كان الوضوء من لوازم الصلاة فهو فرض مثلها، ما علاقة هذا المثل بضرورة تعلم السنة؟ الله عز وجل حينما قال:
﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر الآية : 7 )

كيف نأتمر بما أمر؟ وكيف ننتهي عما عنه نهى وزجر إن لم نعرف ما الذي أمر, وما الذي زجر؟ وكتعقيب دقيق، هو أن كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، ما لم تقم قرينة تصرفه عن الوجوب، فإذا قال الله عز وجل:

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾
( سورة البقرة الآية : 187 ) .
هذا أمر إباحة، وإذا قال الله عز وجل: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾
( سورة النور الآية : 32 ) .
هذا أمر ندب، وإذا قال الله عز وجل: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
( سورة الكهف الآية : 29 )

هذا أمر تهديد .
إذا لم تقم قرينة تصرف عن الوجوب فكل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، إذاً: معرفة سنة النبي القولية فرض عين على كل مسلم، تنفيذاً لأمر الوجوب: ﴿ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾
( سورة الحشر الآية : 7 )
ومعرفتك المنهيات التي نهى عنها النبي فرض عين على كل مسلم كي تنتهي عما عنه نهى وزجر، وحينما قال الله عز وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية : 21)

كيف يكون النبي e أسوة لنا، أي قدوة لنا، إن لم نعرف ماذا فعل في بيته؟ وكيف عامل زوجته؟ وكيف عامل أصحابه؟ وكيف كان في السلم؟ وكيف كان في الحرب؟ إذاً: معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية فرض عين على مسلم تحقيقاً, لقوله تعالى:

﴿ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر الآية : 7 )
ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين تحقيقاً, لقوله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾
( سورة الأحزاب الآية : 21)
وقالوا: الحديث عن الكمال البشري حديثاً نظرياً لا يؤثر، أما الحديث عن الكمال البشري إذا كان مجسّداً في إنسان يؤثّر، لأن هذا كمال واقعي، نعيشه إنسانًا بيننا, وعاش مع الناس، ولولا أن النبي e بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر غير أنه بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، فلذلك أنت حينما ترى إنسانًا يشتهي ما تشتهي، ويخاف مما تخاف، ويرجو كما ترجو، ويتألم كما تتألم، هكذا قال النبي عن نفسه:
" اللهم إني بشر أرضى كما يرض البشر، وأغضب كما يغضب البشر " .
( أخرجه السيوطي في الجامع الصغير عن أنس)
لأنه بشر، ولأنه تجري عليه كل خصائص البشر، وانتصر على بشريته كان سيد البشر .
النبي أسوة حسنة لنا معاشر المؤمنين :

فلذلك البند الأول في هذا الدرس الأول هو أن معرفة رسول الله عليه الصلاة والسلام فرض عين على مسلم، بل معرفة سيرته العطرة فرض عين على كل مسلم، ليكون النبي e قدوة لكل مسلم، ذلك في حياة كل منا شخصية يتمنى أن يكونها، وشخصية يكره أن يكونها، وشخصية يكونها، فالشخصية التي تكونها هي أنت، والشخصية التي تتمنى أن تكونها هي طموحك وانتماؤك واتجاهك، قل لي أي شخصية تتمنى أن تكونها أقل لك من أنت، الله عز وجل يبين أن المؤمنين أسوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾
( سورة الأحزاب الآية : 21)
دخل إنسان إلى البيت, ولم يكن الطعام جاهزاً، هل يغضب؟ هل يزمجر؟ هل يعنف؟ هل يصبر كما كان النبي e يصبر؟ يصبر، المؤمن في كل موقف يتفكر كيف كان النبي e يفعل؟ كيف يفعل لو كان في ظرف كهذا الظرف؟ لذلك:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾
( سورة الأحزاب الآية : 21)
إن أردت الدنيا فقدوتك الأغنياء، وإن أردت الدنيا فقدوتك الأقوياء، أما إذا أردت الله واليوم الآخر فقدوتك الأنبياء، هذه حقيقة أولى .
من خصائص رسالة الإسلام عصمة نبيها عن الخطأ :

أن في حياة المسلمين إنسان واحد عصمه الله من أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره، هذه العصمة تتماشى مع أمر الله عز وجل أن نأخذ منه كل شيء، وأن ننتهي عما عنه نهانا، لو أن النبي e ليس معصومًا لكان الأمر بالأخذ عنه أمر بمعصية، إذاً:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم الآية : 3-4)
لكن البشر ينطقون عن الهوى، أحياناً يخترع قاعدة ليروج سلعته، أحياناً يتكلم لصالح مكاسبه، أحياناً لا يتكلم بالحق حفاظاً على مكاسبه، لكن هذا الإنسان الذي عصمه الله عز وجل، وصفه الله عز وجل بأنه:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم الآية : 3-4)
كيف نعزو هذا الاجتهاد إلى النبي ؟
ولكن قد تقرأ في القرآن الكريم :
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾
( سورة التوبة الآية : 43 )
وقد تقرأ في القرآن الكريم: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾
( سورة عبس الآية : 1-2 )
الحقيقة أيها الأخوة, أنه لحكمة بالغة تُرك للنبي صلى الله عليه وسلم هامش ضيق جداً ليجتهد فيه، فإن أصاب في اجتهاده أقره الوحي على هذا الاجتهاد، وكان اجتهاده وحيًا يوحَى، وإذا اجتهد النبي عليه الصلاة والسلام اجتهاداً صعباً هذا الاجتهاد وسام شرف له .
ابن أم مكتوم من أصحابه الكرام، من محبّيه، ممن يذوب شوقاً له، لم يجلس معه، بل جلس مع زعماء قريش الألداء الأعداء المستكبرين، اجتهد النبي e أن هؤلاء إذا أسلموا أسلمت قريش، اجتهد اجتهاداً صعباً، لكن الله بين له أن هذا الرجل الأعمى هو أفضل عند الله من هؤلاء الصناديد، إذاً: الله عز وجل لم يعتب عليه، بل عتب له، وفرق كبير بين أن تعتب على ابنك إن رأيته يلهو والامتحان على الأبواب، وبين أن تعتب على ابنك إن رأيته حتى الساعة الرابعة يدرس، تقول: لا يا بني، نم واسترح، إن لجسمك عليك حقاً، أنت في الحالتين تعتب عليه، لكن الحالة الأولى تعتب عليه، وفي الثانية تعتب له, فإذا عاتب الله النبي صلى الله عليه وسلم فهو عتب له لا عليه، فجاء الوحي وبيّن للنبي e أن هذا أولى من هذا .
بالمناسبة، لا معصية إلا بالتكليف، لم يكن هناك تكليف خالفه النبي عليه الصلاة والسلام, لكنه اجتهاد، وكان اجتهاده وسام شرف له، واجتهد الأصعب، لكن هذا الهامش الضيق جداً الاجتهادي ليكون هناك فرق بين مقام الألوهية ومقام النبوة، فرق توحيدي، لأن أنبياء كثر أُلِّهوا من بعدهم، ومعظم أنبياء الصين هم عند أهل الصين آلهة، هم في الحقيقة أنبياء كرام، لأن الله عز وجل قال:
﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾
( سورة غافر الآية : 78 )
من هنا نفهم لماذا سيدنا الصديق، وهو أقرب الخلق إلى رسول الله ، وهو أحب الناس إليه حينما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى علا صياحه, فقال: " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مِنْكُمْ مُحَمَّداً ـ محمداً هكذا ـ فَإِن مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ " .
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة)
نفي العصمة لغير الأنبياء :

الله أمرنا أن نأخذ عن النبي كل أقواله وكل أفعاله، إذاً: هو معصوم، ولو لم يكن معصوماً لكان الله قد أمرنا باتباع غير المعصوم، وهذا مستحيل، ولكن كما يقال: الشيء بالشيء يذكر، كما أننا نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بأقواله وأفعاله وإقراره وصفاته لا نعتقد العصمة لغيره، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية أن غير النبي e مهما يكن عالي القدر فليس بمعصوم، وهذه القاعدة مريحة جداً، أنت إذا تعاملت مع كل المؤمنين فأكبرت مؤمناً تألق نجمه، تقول في نفسك: هذا من أتباع النبي e، وإن رأيت زلة قدم آلمتك من أخيك, تقول: هذا من عدم عصمته، وتبقى تحبه، لذلك من الخطأ الكبير أن نعتقد العصمة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعتقد العصمة لغير النبي هذا مزلق خطير .
مثلاً:

النبي عليه الصلاة والسلام عيّن صحابياً أنصارياً ذا دعابة على سرية كقائد لها في الطريق، فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: " بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا ، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا ، فَجَمَعُوا حَطَبًا ، فَأَوْقَدُوا نَارًا ، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنْ النَّارِ ، أَفَنَدْخُلُهَا ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " .
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن علي)
العقل لا يعطَّل أبداً، هذا الذي يقول: يجب أن تكون كالميت بين يدي الغاسل، لا، يجب أن تكون صاحياً، لأنه ما من إنسان بعد النبي صلى الله عليه وسلم يوصف بالعصمة، لكن على تفاوت، هذه حقيقة، أنت بإمكانك أن تحب كل المؤمنين، وأنت تتعامل مع كل المؤمنين، وأن تقيم علاقة متينة ومثمرة مع كل المؤمنين، بشرط ألا تعتقد عصمتهم، فأي خطأ آلمك بكل بساطة هذا من عدم عصمته، وأي شيء أكبرته هذا من اتباعه .
دليل آخر على أن النبي لا ينطق عن الهوى :
ثمة طرفة تشير إلى أن الإنسان أحيانا ينطق عن الهوى، مرة أردت أن أشتري ستائر ، دُللت على تاجر هنا في الحريقة، قال لي وقد ألقى محاضرة: إن عرض الستيرة يجب أن تكون ضعف الحائط, أي زائد متر، كي تكون جميلة جداً، أنا استسلمت له، اخترت ثوبًا، لما قاسه وجده أقل بمتر من ضعف عرض الحائط، وأنا أعجبني، قال لي: هذا المطرز على الفرد يأتي أجمل، هو ينطق عن الهوى، مصلحته أن يبيع هذا الثوب، لا أبالغ أن تسعين بالمئة من كلام الناس في تجارتهم, وفي بيعهم, وفي شرائهم ينطقون عن الهوى .
لذلك مرة النبي عليه الصلاة والسلام في موقعة بدر, قال كلاماً موجزاً: لا تقتلوا عمي العباس، واحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فكر في كلامه لم يقبل هذا الكلام، قال : أحدنا يقتل أباه و أخاه، وينهانا عن قتل عمه، أقرباؤه لهم قواعد خاصة، النتيجة أنه بعد حين تبين أن عمه العباس في مكة كان مسلماً، وكان عين النبي e، وكان ينقل للنبي e كل شيء في قريش، إدارة النبي e إدارة ذكية جداً، تعتمد على معلومات دقيقة، فعمه العباس أسلم سراً ، وبقي في مكة عيناً للنبي صلى الله عليه وسلم على قريش، لو أن النبي e قال: لا تقتلوا عمي العباس لأنه مسلم، كشفه، وانتهت مهمته، ولو أنه لم يقل: لا تقتلوا عمي العباس وهو في صفوف المشركين الصحابة يقتلونه، الحل أن يقول النبي e كلامًا موجزًا، لا تقتلوا عمي العباس فقط، بعد حين اتضحت لهذا الإنسان هذه الحقيقة، فقال: والله بقيت عشر سنين أتصدق رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله e، قال تعالى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم الآية : 3-4)
لما قال:
" والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا "
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة)
المنهج الدعوي الذي نستنبطه من سيرة النبي :
أيها الأخوة، كما أن للسيرة النبوية المطهرة منهج فيما ينبغي أن نفعل، وما ينبغي ألا نفعل, فالسيرة النبوية المطهرة منهج دعوي، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف عامل أصحابه؟ كيف علمهم؟ كيف التقى بهم؟ كيف نصحهم؟ كيف أثنى عليهم؟ هل استشارهم؟ هل تواضع لهم؟ هل كان في خدمتهم؟ هل بنى مجده على أنقاضهم؟ هل أحبهم؟ هل أحبوه؟ هذا جانب مهم جداً من سنة النبي العملية، وهو الجانب الدعوي، وما من داعية يقلد النبي في دعوته إلا ويتألق، ويعلو مجده في أوساط الأمة، وما من داعية يخالف سنة النبي e الدعوية إلا ويثير حوله جدلاً كبيراً .
ثمرة الكلمة الطيبة تطبيقها :

أيها الأخوة, نحن بحاجة إلى قرآن يمشي، ونحن بحاجة إلى مسلم يمشي، الكلام النظري تأثيره ضعيف، لماذا؟ لأن الناس كفروا بالكلمة، لماذا كفر الناس بالكلمة؟ لأن كل الممارسات التي يمارسها الناس تتناقض مع كلامهم، تأتي إلى بلد، وتتفنن في إيقاع الأذى، وهدم البيوت، وقتل الأبرياء, وتقول: أنا جئت من أجل الحرية، من أجل أن تنعموا بالحرية، هذا الكلام مع هذه الممارسات يحمل الناس على أن يكفروا بالكلمة كفرًا كاملاً، نحن الآن في مشكلة، الناس كفروا بالكلمة، ولا يمكن أن تستعيد الكلمة قدسيتها إلا بالتطبيق، الأنبياء بماذا جاؤوا؟ هل جاؤوا بالصواريخ, هل جاؤوا بالطائرات؟ هل جاؤوا بحاملات الطائرات؟ هل جاؤوا بالغواصات؟ هل جاؤوا بالأقمار الصناعية؟ جاؤوا بالكلمة, قال تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 24-25 )
الكلمة الطيبة تفعل فعل السحر في الناس، لكن الناس اليوم كفروا بالكلمة، لأن كل الذي يقال معه ممارسات تتناقض معه، مجلس يأمر بلدًا بعيدًا أن يطبق الديمقراطية، جيد، لكنه هو يمارس القهر والقمع عن طريق حق الفيتو، أو حق النقض، المجلس قمعي، وأمره ديمقراطي، كلام مضحك، لذلك كفر الناس بالكلمة، لا يمكن أن نعيد للكلمة مكانتها إلا بالتطبيق، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: " اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " .
( أخرجه السيوطي الجامع الصغير عن سمرة)
نماذج من البشرية اعتنقوا الإسلام من وراء السلوك العملي للإسلام :
كنا في الحج مرة، ورأينا رجلا تبدو على ملامحه أنه غربي, علمت بعد حين أن سبب إسلامه هو أن طالباً من سورية أقام في بيته، واستأجر غرفة، ولهذا الرجل فتاة جميلة، لم ير أن هذا الشاب مرة نظر إلى ابنته، كلما وقعت عينه عليها غض بصره، هذا شيء ما استوعبه، ما هذا الإنسان؟ فحاوره، انتهى الحوار بإسلام هذا الإنسان, هذه الكلمة ينبغي أن تكتب بماء الذهب: " اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " .
( أخرجه السيوطي في الجامع الصغير عن سمرة)
رجل في أمريكا اسمه جفري لنك، هذا الرجل من أكبر ملحدي أمريكا، دكتور في الرياضيات، بجامعة سان فرانسيسكو، سبب إلحاده أنه كان في التعليم الثانوي يدرس، وعنده مدرس للديانة المسيحية، وجاء إلى البيت، وانتقض هذا المدرس أمام أبيه، ما كان من أبيه إلا أن طرده من البيت، فلما طرده من البيت اعتنق الإلحاد، وتابع دراسته، وكان ذكياً إلى درجة غير عادية، كان أستاذه بالجامعة, يقول له: اخرج من القاعة، ولك العلامة التامة، كان يربك أستاذه، استقر به المقام إلى أن أصبح أستاذاً للرياضيات في جامعة سان فرانسيسكو، كانت له مكانة كبيرة في الجامعة، حتى إن أستاذه كان يستشيره أحياناً في بعض رسالات الدكتوراه، عند أستاذه طالبة من الشرق الأوسط، نشأت مشكلة في أطروحتها، فأرسلها إلى هذا الدكتور البروفيسور جفري لنك، ليأخذ رأيه، هذا الأستاذ الجامعي الملحد الذي اعتنق الإلحاد رأى فتاة محجبة حجاباً كاملا، وفي أيام الصيف، والفتيات في أمريكا عرايا في الصيف، فقال: لا بد أن هذه الفتاة تعتنق ديناً عظيماً، وعندها قناعات كبيرة جداً حملتها على أن تخالف كل الفتيات في هذه البلاد، فقال هذا الأستاذ: والله لم أجرؤ على أن أحدق في وجهها، لقدسيتها، واندفعتْ بكلي إلى مساعدتها, وعكفت في اليوم نفسه على قراءة القرآن، قرأ القرآن، لكن عنده شعور أنه ليس كلام الله، فهو يبحث عن بعض الأخطاء، فلما وصل إلى قوله تعالى:
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً﴾
( سورة يونس الآية : 92 )
قال: هنا الخطأ، له صديق في فرنسا اسمه موريس بوكاي، اتصل به هاتفياً، وقال له : تعال وانظر، هذا فرعون مات، فكيف قال الله عز وجل:
﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾
( سورة يونس الآية : 92 )
قال: فرعون الذي قالت عنه الآية أنا رممت جثته بيدي، هو الآن في متحف مصر الفرعوني، وأسلم هذا الرجل، وقد لا تصدقون أنه اليوم من أكبر الدعاة الإسلاميين في أمريكا، وقد ألف كتاباً، وترجم إلى العربية يجيب فيه ابنته الصغيرة، قالت له: يا أبت, لماذا أسلمت؟ فأجابها بكتاب، ودرست بعض الكتاب في الجامع العثماني، وإذا قرأتم الكتاب ترون هذا الإنسان أقرب إليكم من أهلكم، الإيمان يجمع، ما سبب إسلام هذا الداعية؟ فتاة محجبة، قال عليه الصلاة والسلام: " اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " .
( أخرجه السيوطي في الجامع الصغير عن سمرة)
نحن بحاجة إلى مسلم يمشي، إذا حدثك فهو صادق، وإذا عاملك فهو أمين، وإذا استثيرت شهوته فهو عفيف,
في حديث جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ: " أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، ونسيء الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ ، وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ ، وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ ، وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ " .
( أخرجه أحمد في مسنده عن أم سلمة)
أسباب تخلف المسلمين في هذا العصر :
أخواننا الكرام، حال واحد مستقيم في ألف، واحد في ألف أبلغ من قول ألف في واحد ، ألف داعية على طالب علم واحد، إذا تكلموا كلاماً رائعاً، ولم يكونوا كما يقولون, فحال واحد في ألف خير من قول ألف في واحد .
إن أردت مجتمع ينهض كن قدوة، كان أصحاب النبي e الواحد كالألف، والمسلمون في عصور التخلف والشهوة والشرك الألف كأف، هل يُعقل أن يستنجد سيدنا خالد بسيدنا الصديق بمدد في معركة نهاوند، هو يحتاج خمسين ألف مقاتل، أرسل له الصديق واحدًا؟ هو القعقاع بن عمرو، فلما وصل إليه، قال له: أين المدد؟ قال له: أنا المدد، قال له: أنت! معه كتاب، فتح الكتاب، يقول سيدنا الصديق: يا خالد، لا تعجب أن أرسلت لك القعقاع بن عمرو، فو الذي نفس محمد بيده لا يهزم جيش فيه القعقاع، وانتصروا، بين واحد كألف، وبين ألف كأف، مليار وثلاثمئة مليون مسلم لا وزن لهم اليوم، وليس أمرهم بأيديهم، ولا يملكون شيئاً, قال تعالى:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾
( سورة النور الآية : 55 )
هل نحن مستخلفون الآن؟ لا والله, والحقيقة المُرّة أفضل ألف مَرّة من الوهم المريح, قال تعالى:
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾
( سورة النور الآية : 55 )
هل نحن ممكَّنون في الأرض؟ لا والله, أين التمكين؟ قال تعالى:
﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
( سورة النور الآية : 55 )
هل نحن آمنون؟ كل يوم فيه تهديد، لماذا؟ ماذا نفعل بهذه الآيات؟ وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، ماذا نفعل بهذه الآيات؟ قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾
( سورة مريم الآية : 59)
وقد أجمع العلماء على أن إضاعة الصلاة لا يعني تركها, ليس كل مصلي يصلي, " إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي, وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي, وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي " .
( ورد في الأثر)
مقام النبوة عند الله :
أيها الأخوة, أن الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين الاستجابة لله، لشفافية النبي عليه الصلاة والسلام يشف عن الحقيقة الإلهية .
للتقريب: بللور من أرقى الأنواع، ونظيف جداً، من شدة إتقان صنعته، ومن شدة نظافته يكاد لا يرى أبداً، لا ترى إلا الذي وراءه، الآن في حالات كثيرة إذا كان البللور نظيفًا جداً يخشى أن تصطدم به، فقد كنت في فندق الأسبوع الماضي الألواح فيه نظيفة جداً، لكن مكتوب عليها عدة كلمات كي تشعر أن هنا لوح بللور، لئلا تتابع السير, فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا استجبت إليه فاستجابتك إليه عين استجابتك لله، الدليل:
﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾
( سورة التوبة الآية : 62 )
لم يقل: يرضوهما، لأن إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، ولأن إرضاء الله عز وجل عين إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إليكم بيان المنهج النبوي في وصف حالة المؤمن المحب لله ولرسوله :
أيها الأخوة, أن الله لا يقبل دعوة محبته إلا بالدليل، لو قبلت دعوى من دون دليل لادعى كل إنسان محبة النبي صلى الله عليه وسلم, صدق القائل:
كل يدعي وصل بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكَا
فكرة دقيقة جداً، أرجو الله أن تكون واضحة لديكم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" .
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك)
بربكم لو سألتم مليارًا وثلاثمئة مليون مسلم: أتحب رسول الله ؟ يقول لك: نعم، إذاً: هذا سؤال ليس له معنى، ما دام كل إنسان يدعي محبة رسول الله ، يريد النبي أن يقول:
" ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا " .
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك)
أن يكون الله في قرآنه, والنبي في سنته أحب إليك من الدنيا وما فيها عند التعارض، حينما تتعارض مصلحتك مع الحكم الشرعي، وتقف مع الحكم الشرعي، وتقول: معاذ الله أن أعصيه ، عندئذٍ تذوق حلاوة الإيمان، وحلاوة الإيمان شيء لا يعرفه إلا من ذاقه، وبين حقائق الإيمان وحلاوة الإيمان بون شاسع .
معك خارطة لقصر, صالون 8 بـ 12 ممتاز، لكن هذا ورق، هذا ليس بيتًا، غرفة النوم 6 بـ 8 أيضاً جيد، الشرفة واسعة، ورق، فحقائق الإيمان ورق، لكن حلاوة الإيمان قصر، تسكن هذا القصر، فرق كبير بين أن تقتني خارطة للقصر، وبين أن تكون مالكًا لهذا القصر، هذا بين حلاوة الإيمان, وبين حقائق الإيمان, قال رسول الله :
" ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا " .
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك)
حينما تتعارض مصلحتك مع الحكم الشرعي, مع حكم قرآني، أو مع حكم نبوي، تقف مع الحكم الشرعي، وتضع مصلحتك المتوهمة تحت قدمك، عندئذٍ تذوق حلاوة الإيمان، ذاق حلاوة الإيمان، من آمن بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، لذلك الله جل جلاله لا يقبل دعوة محبته إلا بالدليل، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 31 )
بالمناسبة يمكن أن تصدق أن هناك اليوم الآخر، لكن لو تتبع الناس أعمالك لا يجدون أنك تؤمن باليوم الآخر، هذا التكذيب العملي أبلغ وأخطر، الذي يكذب بلسانه هناك سبيل إلى محاورته، أما الذي يكذب بعمله فهذا لا يحاور، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم، ولكن بمعنى أن يأخذ بأسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم .
ينبغي على المسلم فهم شخصية النبي فهماً علمياً وأن يتعالى على الفهم السطحي:

أيها الأخوة, مرة كنت في العمرة، تمنيت أن أصلي في مكان النبي في الحرم النبوي، المحراب العام كهذا المحراب، ومحراب النبي الذي صلى فيه بأصحابه هذه بالروضة الشريفة، وفيه ازدحام كبير جداً، وانتظرت حتى تمكنت أن أصلي ركعتين في المكان الذي صلى به النبي عليه الصلاة والسلام، والله لقد بكيت كثيراً، لكن جاءني خاطر علمي أن مستخدماً عند أستاذ كبير في الجامعة له مئتا مؤلَّف، لو أنه في غيبة هذا الأستاذ قفز وجلس مكانه على كرسي مكتبه, هل ترتقي مرتبة هذا المستخدم؟ لو أن هذا المستخدم نال المسابقة الابتدائية ارتقى، نال الشهادة الإعدادية ارتقى، نال الثانوية ارتقى، فالذي يرفعك أن تحرص على الاتباع، إنك إن اتبعت النبي e ارتقيت عند الله، أما إذا تبركت، وأنا لا أنكر التبرك، لكن أنكر أن نكتفي به، ابن غير متعلم، له أب من أعلى العلماء، أينما جلس يتحدث عن أبيه العالم، العالم في مكانه، والابن الجاهل في مكانه، أما إذا سار هذا الابن على منهج أبيه يرتقي، فنحن ينبغي ألا نكتفي بالتبرك، ينبغي أن نهتم بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
أخواننا الكرام، أن تقول: ألف مليون دولار شيء، وأن تملكها شيء آخر، أعتقد أن المسافة كبيرة جداً، والحديث عن الدين سهل جداً، لكن البطولة أن تكون في مستوى هذا الدين ، والحياة قصيرة، والسفر قريب، والمغادرة قريبة، ومن بلغ الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة، ومن عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت, وصدق القائل:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد مـن نزول القبر

وصدق القائل أيضاً: كل ابن أثنى و إن طالت سلامته يومًا على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جــنازة فاعلم بأنك بعدها محـمـول

أخواننا الكرام، إنسان بلا هدف تافه، إنسان بلا هدف يعيش على هامش الحياة، إذا أردت أن تسعد فأسعِد الآخرين، إن خرجت من ذاتك، وحملت مبدأ، وحملت همّ المسلمين فأنت من أسعد الناس . في دروس قادمة إن شاء الله :
أيها الأخوة الكرام، الطريق الطويل يبدأ بخطوة، وإن شاء الله في دروس أخرى سوف نتابع دقائق حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وسوف نستنبط منها منهج، لأن النبي e قرآن يمشي، وهذا المنهج يمكن أن يكون مناراً لنا في حركتنا في الحياة .






والحمد لله رب العالمين






 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-02-2018, 04:26 PM   #2


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثانى )


الموضوع : المقدمة ( 2 ) القدوة الحسنة والتطبيق الصحيح





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة عامة :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثاني من دروس فقه السيرة النبوية
نحن في باب كبير من أبواب العلوم الإسلامية، بل في هذه العجالة إن شاء الله سوف أتحدث لكم كمقدمة ثانية من نوع آخر حول قيمة هذا الموضوع الذي أعالجه أول مرة في تاريخ الدعوة .
تحدثت عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين درساً، وتحدثت عن سير الصحابة الكرام في أكثر من خمسين درساً، وتحدثت عن التابعين الأجلاء في أكثر من خمسين درساً، وتحدثت عن الخلفاء الراشدين في أكثر من ثلاثين درساً، وعن أهل بيت النبي زوجاته، وبناته، وأمهات المؤمنين، وتحدثت عن الأئمة الأربعة، هذا كله في دروس سابقة ، ولكن لم أتحدث عن السيرة النبوية بشكل متسلسل, ففي هذا المسجد الكريم إن شاء الله سوف نبدأ هذه السلسلة، ولكن لابد من إبراز قيمة هذه السيرة التي أُمرنا أن نأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حاجة هذا العصر إلى تطبيق المسلمين الإسلام تطبيقاً عملياً لرد كيد الأعداء عنا :
أيها الأخوة الكرام، كلنا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف أن يبلغ، لكن فيما يرى بعض العلماء أنه كما هو مكلف أن يبلغ بلسانه فهو مكلف أن يبلغ بأفعاله، هو مبلّغ في أقواله وقدوة في أفعاله، والذي أراه أن المهمة الثانية أكبر بكثير من الأولى، وأخطر بكثير، وأشد تأثيراً من التبليغ باللسان، لأن أي إنسان طليق اللسان يتمتع بذاكرة قوية يمكن أن يبلّغ، أما أن تكون في مستوى كلامك، أن تكون صادقاً، وقد دعوت إلى الصدق، أن تكون أميناً، وقد دعوت إلى الأمانة، أن تكون عفيفاً، وقد دعوت إلى العفة، هذا الذي ينقذنا الآن من مكر أعدائنا، الإسلام كمعلومات، كفكر، ككلمات، كمؤلفات، كدروس، شيء بلغنا ذروته، أمّا الإسلام كسلوك، كتطبيق، كاستقامة، كأمانة، كصدق، كعفة، نحن في أمسّ الحاجة إلى ذلك، ذلك أن الطرف الآخر الذي يتهمنا بأننا إرهابيون وقتلة ومتخلفون وجاهلون لا يرى الإسلام من مرجعياته، بل يرى الإسلام من المسلمين
أكاد أقول: إن أقوى دعوة الآن الدعوة الصامتة, أي أن تكون أمانتك دعوة، وصدقك دعوة، وعفتك دعوة، وإنصافك دعوة، وتواضعك دعوة، نحن في أمسّ الحاجة إلى مسلم يمشي على قدمين، نريد أن نرى عفة المسلم ، وصدق المسلم، وأمانة المسلم، الإسلام لا ينتشر إلا بهذه الطريقة، حال واحدٌ في ألف أبلغ في مقالة ألف في واحد، ألف متكلم، والذي يخاطبونه واحد قد لا يؤثرون فيه، وحال واحد موصول بالله، مطبق لِما يقول, يؤثر في ألف، لذلك قال بعضهم: كان أصحاب النبي e الواحد منهم كألف، والألف من المسلمين المتأخرين المقصّرين كأفّ .

هل يعقل أن يطلب سيدنا خالد النجدة من سيدنا الصديق، ويقصد بالنجدة خمسين ألف مقاتل، فيبعث له الصديق برجل واحد، هو القعقاع بن عمرو، يسأله سيدنا خالد: أين المدد؟ يقول: أنا، أنت؟! قال: أنا، وهذا الكتاب، قرأ الكتاب، يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا خالد إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم .
نريد مسلماً كألف لا يكون إلا بالتطبيق، طبِّق يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحدث عن الإسلام، وافعل عكسه يخرج الناس من دين الله أفواجاً، لذلك أرى أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ بأفعاله أبلغ بكثير من مهمة في التبليغ بأقواله، هذه أول حقيقة، نحن بحاجة ماسّة إلى مسلم يمشي، إلى فتاة تلتزم بمنهج الله عز وجل، نحن بحاجة ماسة إلى أن نرى الإسلام متحركاً، بحاجة ماسة إلى أن نرى أن هذا الدين مطبقاً، هذه النقطة الأولى .
ما الهدف من دراسة السيرة النبوية ؟
1- أن سيرة النبي يجد الإنسان في دراستها ما يعينه على فهم كتاب الله :
أيها الأخوة، أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام رائع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ "
( أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في صحيحهما)
وقد علمونا في الجامعة أن أفصح كلام على الإطلاق هو القرآن الكريم، ويأتي بعده كلام سيد المرسلين، ويأتي بعد كلام سيد المرسلين كلام الإمام علي رضي الله عنه، قال مرة: " والله، والله لحفر بئرين بإبرتين, وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين, ونقل بحرين زاخرين بمنخلين, وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين, أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين " .

أعلى كلامٍ كلامُ ربنا جل جلاله، يأتي بعده كلام نبينا صلى الله عليه وسلم إلا أن الكلام معرّض للتأويل، كيف؟ ولو أن واحد, قال: لله رجال إذا أرادوا أراد، يأتي إنسان يفكر في هذا النص، يقول: هذا عين الشرك، أنا أقول: معه حق، لأنه توهم أن هؤلاء الرجال لهم إرادة مستقلة عن إرادة الله، صحيح هذا عين الشرك، يأتي إنسان آخر يفهم هذا الكلام فهمًا آخر، يقول: لله رجال إذا أرادوا أراد، أي هم مستجابو الدعوة، هذا الكلام عين الإيمان، إذاً: نص واحد فهمناه فهماً هو عين الشرك، وفهمناه فهماً هو عين التوحيد، قال تعالى:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
( سورة الشمس الآية : 7-8 )
قد تفهم أن الله خلق فيها الفجور، وهذا مستحيل، لكن المعنى الدقيق أن الله فطرها فطرة حيث لو فجرت علمت ذاتياً أنها فجرت، هذه الفطرة، بونٌ شاسع بين أن تتوهم أن الله خلق في الإنسان الفجور، وسوف يحاسبه على ما خلقه فيه، وسوف يضعه في جنهم إلى أبد الآبدين، وبين أن يفهم الإنسان أن الله جل جلاله إنما فطر النفس فطرة عالية جداً حيث إنها إذا أخطأت تكتشف خطأها ذاتياً
وهذا ما يسمى الآن الكآبة، الكآبة معاقبة النفس لذاتها, قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
( سورة طه الآية : 124)
النص يؤول، مثلاً: الله عز وجل إذا أرسل نبياً ألقى الشيطان في أمنيته، تنظر، أيعقل أن يستطيع الشيطان أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقي في أمنيته؟ هناك معنى آخر، هذا النبي الكريم إذا تمنى هداية خلقه، يتمنى الشيطان إضلالهم، كلام رائع، النص يحتمل تأويلات عدّة، لذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، يحتمل أن تفهمه فهماً بعيداً عن قصده، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا "
( أخرجه الترمذي عن المغيرة بن شعبة في سننه)
بعض المتفقهين استنبطوا من كلام النبي أن للخاطب أن ينظر إلى خطيبته كما خلقها الله، مستحيل، لا يقبل أيّ أب على وجه الأرض أن يري ابنته كما خلقها الله، النص عرضة للتأويل، لكن الأفعال حدية في الفهم، لذلك لو أن إنسانًا تحدث عن رأيه في حجاب المرأة، ندخل في مناقشات، وفي حوارات، وفي أدلة، وفي رد على الأدلة، وفي إثبات أدلة جديدة، وفي تضعيف أدلة، كيف تخرج زوجته، هو رأيه الحقيقي، السلوك حدي، فلذلك أول شيء أن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للقرآن، والله عز وجل حينما قال:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر الآية : 7 )

إذاً: أنا أرى أن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ في التعبير عن فهمه لكتاب الله من كلامه، لأن كلامه يحتمل التأويل، بينما سلوك النبي صلى الله عليه وسلم سلوك حدي، له تفسير واحد لا يحتمل التأويل، ونحن الآن إن أردت أن تكون داعية, والله عز وجل قال:

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت الآية : 33 )
فليس على وجه الأرض على الإطلاق بنص هذه الآية إنسان أفضل, قال تعالى:
﴿ مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت الآية : 33 )
ولكن قلت مرة في مؤتمر في القاهرة: ما من عمل يتذبذب بين أن يكون أقدس عملٍ على الإطلاق, وأن يكون أتفه عملٍ على الإطلاق كالدعوة إلى الله، تكون أقدس عملٍ إذا بذلت من أجلها الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وتكون أتفه عملٍ إذا ارتزقت بها، لذلك حينما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: " والله لأن أرتزق بالرقص أهون من أن ارتزق بالدين "، تغدو أقدس عملٍ ترقى إلى صنعة الأنبياء، وتغدو أتفه عملٍ لا يستأثر إلا ابتسامة ساخرة .

إذاً: أن السيرة النبوية هي فهم النبي العملي للقرآن الكريم، الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، ونحن الآن في أمسّ الحاجة إلى مسلم يمشي، حديث شريف في البخاري في الأدب المفرد, يقول عليه الصلاة والسلام: " أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأة تنازعني، تريد أن تدخل الجنة قبلي ـ معقول ـ قلت من هذه يا جبريل؟ قال: هي امرأة مات زوجها، وترك لها أولاد فأبت الزواج من أجلهم " .

( أخرجه البخاري في الصحيح)

هذه المرأة التي تربي أولادها تنازع رسول الله دخول الجنة، إذاً: الإنسان يرتفع بعمله، يسمو باستقامته، يتألق بأعماله الصالحة، أما الكلام فلا يقدم ولا يؤخر، قال تعالى:

﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
( سورة فاطر الآية : 10 )
الآية الكريمة, قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ﴾

( سورة البقرة الآية : 151)
منكم، أي لولا أن النبي e بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر, قال تعالى:
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
ما هي مهمة النبي
1- أن يتلو علينا آيات ربنا :
فمهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي:
﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
قد تسألون: ما معنى آياتنا، أنا أجيب: آياتنا الكونية، لئلا يظن أحدكم أن الآيات هي القرآن، قال تعالى:
﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)

الكتاب غير الآيات، إن أردتَ أن تعرفَ الله فتفكر في خلق السموات والأرض، هذه واحدة، قال تعالى:

﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
( سورة الشمس الآية : 9-10 )
الفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والنجاح كل النجاح، والتألق كل التألق، والعقل كل العقل ، والذكاء كل الذكاء، أن تزكي نفسك، لماذا؟ لأن الله جل جلاله يقول:
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
( سورة الشعراء الآية : 88- 89)
ما القلب السليم أيها الأخوة؟ أخطر آية بالقرآن الكريم:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾
( سورة الشعراء الآية : 88)
شخص معه 93 مليار دولار، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾
( سورة الشعراء الآية: 88)

قالوا: القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، والقلب السليم هو القلب الذي لا يعبد غير الله، ولا يحتكم إلا إلى شرع الله، هناك نساء مسلمات كثيرات في العالم الغربي إذا اختلفن مع أزواجهن يحتكمن إلى محكمة غربية لتأخذ نصف أملاك زوجها، ولا ترضى بالحكم الشرعي الذي يعطيها مهرها، أبداً، القلب السليم هو القلب الذي لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، لو قرأت في مجلة أن هناك دواء يطيل العمر، إن صدقت ذلك فقد اعتقدت شيئاً يتناقض مع وحي الله, قال تعالى:

﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾
( سورة الأعراف الآية : 34 )
2- فحوى دعوة النبي التفكر في خلق السموات والأرض :
أيها الأخوة الكرام، فحوى دعوة النبي e التفكر في خلق السموات والأرض، المجموعة الشمسية أطول مسافة فيها، ثلاث عشرة ساعة، وأقصر مسافة القمر ثانية واحدة، والشمس ثماني دقائق، أريد أقرب نجم ملتهب إلى الأرض عدا المجموعة الشمسية، نجم يبعد عن الأرض أربع سنوات ضوئية فقط، والحساب يسير جداً، الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كم، بالدقيقة ضرب 60، بالساعة ضرب ,60 باليوم ضرب 24, في السنة ضرب 365، في أربع سنوات ضرب 4/ 37843200000000 /
هذا الرقم لو تخيلنا أن لهذا النجم طريقًا معبّدًا، وأنا معي مركبة سرعتها 100 بالساعة، لو قسمت هذا الرقم على 100، الناتج كم ساعة تستغرق رحلتي إلى هذا النجم, طيب على 24 كم يومًا، على 365 كم سنة، من أجل أن أصل إلى أقرب نجم ملتهب يعبد عنا أربع سنوات ضوئية أحتاج إلى /43200000/ عام؟ قلت: أربع سنوات ضوئية يعني الطريق يستغرق /43200000/ عام، سؤال الآن متى أصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية؟ ومتى أصل إلى مجرة المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليونين سنة ضوئية؟ ومتى أصل إلى إحدى المجرات التي تبعد عنا 20 مليار سنة ضوئية؟ قال تعالى:

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
( سورة الواقعة الآية : 75-76 )
لذلك قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
( سورة فاطر الآية : 28 )
العلماء وحدهم ولا أحد سواهم يخشى الله عز وجل، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك، لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، لذلك يعجبني في بعض الأخوة العلماء تواضعهم، لا يقول عن نفسه إلا طالب علم .

أيها الأخوة الكرام، مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلو علينا آيات ربنا, قال تعالى:

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾
( سورة الشمس الآية : 1-2)
﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ ﴾
( سورة الفجر الآية : 1-3 )
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾
( سورة التكوير الآية : 1-2)

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾
( سورة النبأ الآية : 1-2 )
﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
الكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، فهناك تفكر، واتصال بالله، ومعرفة بمضمون القرآن، والسنة شرح القرآن, قال تعالى:
﴿ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
لكن آخر فقرة في الآية: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
إليكم هذا المثل للتوضيح :
أخواننا الكرام، اسمحوا لي بهذا المثل: لو أن طفلاً صغيراً زاره أحد أقربائه، فقال هذا الطفل لعمه: أنا معي مبلغ عظيم، أنت كعمّ لهذا الطفل الصغير كم تقدر هذا المبلغ؟ يأخذ في اليوم عشر ليرات، خمسًا وعشرين، قال: معي مبلغ عظيم، يعني مئة ليرة
إذا كان المسؤول كبير في البنتاغون, قال: أعددنا للعراق مبلغاً عظيماً، كم؟ 200 مليار دولار، طفل قال: عظيم ، فقدرنا كلامه بمئة ليرة، وموظف مسؤول كبير بدولة كبرى, قال: رصدنا لحرب العراق مبلغاً عظيماً يقدر 200 مليار، الآن دققوا، واستعدوا للمفاجأة، فإذا قال الله عز وجل، وهو ملك الملوك، ومالك الملوك, قال:

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
( سورة النساء الآية : 113 )
فأعظم عطاء على الإطلاق أن تعرف الله، قال تعالى:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾
( سورة النساء الآية : 113 )
إذاً: فحوى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تفكر في خلق السموات والأرض، واتصال بالله، وتزكية النفس .
إليكم هذه المعادلة الرياضية للمقارنة :
بالمناسبة أيها الأخوة، هناك آية أنا أشبهها بالمعادلة الرياضية، معادلة رياضية بالتمام والكمال، قال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
( سورة آل عمران الآية : 159)
أي بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم، فلما كنت ليّنًا لهم التفوا حولك، وأقبلوا عليك، وأحبوك، وفدوك بأنفسهم وأرواحهم وأموالهم, قال تعالى:
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 159)
فلو لم تكن متصل بهم لامتلأت قلوبهم قسوة، وإذا امتلأ القلب قسوة امتلأ غلظة، وإذا امتلأ غلظة انفض الناس من حولك, المعادلة هي: اتصال + رحمة + لين = التفاف .
انقطاع + قسوة + غلظة = انفضاض .

أتحب أن يلتف الناس حولك؟ أتحب إذا كنت أبًا، ودخلت البيت أن يكون دخولك إلى البيت عيداً؟ هناك آباء إذا دخلوا إلى البيت كان العيد، وهناك آباء إذا خرجوا من البيت كان العيد، من أي الأنواع أنت؟ إذا كنت رحيماً بأهلك لطيفاً يلتف أبناؤك حولك .
مرة إنسان متقدم في السن أصابه مرض، فجاؤوا بالطبيب، فالطبيب طمأنهم، فلما طمأن أولاده انزعجوا أشد الانزعاج، قال لهم: عرضية، قالوا: كيف عرضية؟ نتمناها القاضية ، هذا مقياس دقيق، هل إذا دخلت البيت يلتف أولادك حولك، أم يتفرقون في غرفهم؟ إذاً: الاتصال بالله رحمة، لين، الانقطاع عن الله قسوة، غلظة، انفضاض، قال تعالى:
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 151)
كيف تحب النبي عليه الصلاة والسلام؟
أخواننا الكرام، هل تستطيع إذَا أمرتُك أن تحب زيداً أن تحبه؟ هل الحب عمل إرادي ؟ عمل لا إرادي، لماذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث أَنَسٍ:
(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))
( أخرجهما البخاري ومسلم عن أنس في صحيحهما )
هذا الحديث يؤكد أنه لا بد من أن تحب رسول الله ، ومن الثابت أن الحب ليس عملاً إرادياً، ماذا نفعل؟ قال بعض العلماء: أنت حينما تقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ترى تواضعه تحبه,
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, قَالَ: " كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا " .
( أخرجه أحمد عن عبد الله بن مسعود في مسنده)

قائد الجيش، وسيد الأنبياء والمرسلين، وزعيم الأمة، سوّى نفسه مع أقل جندي، فركب الناقة، ولما جاء دوره بالمشي توسلا صاحباه أن يضل راكباً, فقال عليه الصلاة والسلام:

(( مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي ـ كان قوياً صلى الله عليه وسلم ـ، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ))
( أخرجه أحمد عن عبد الله بن مسعود في مسنده)
أخواننا الكرام، يمكن أن يدخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم, ويقول: أيكم محمد ؟ ليس هناك كرسي، ولا سرير خاص، أيكم محمد ؟ قال له: أنا، ألا تحب هذا التواضع؟
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ, قَالَ:" أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ "
( أخرجه ابن ماجه عن أبي مسعود في سننه)
أعرابي في فظاظة, قال له: اعدل يا محمد ،
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ "
( أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري في صحيحهما )

الأقوياء يُنهون حياته بهذه الكلمة, قال تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ﴾
( سورة التوبة الآية : 128 )
فكيف تحب النبي e؟ ينبغي أن تقرأ سيرته، لكن المشكلة الكبيرة أن قدوة الشباب لاعبو الكرة أحياناً، الفنانون والفنانات، أما المؤمن الصادق فيملأ قلبه محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: إذا أُمرت أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أُمرت أن يكون النبي أحب إليك من نفسك ومالك وولدك والناس أجمعين ينبغي أن تقرأ سيرته .
قُبيل وفاته صعد e المنبر, وقال:
" من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري ، فليقتد مني ، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه, ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي ، ولا يخشى الشحناء ، فإنها ليست من شأني ولا من طبيعتي "
( ورد في الأثر)

ألا تذوب محبة لهذا النبي الكريم؟ متى تحبه؟ إذا درست حياته, وتواضعه، وصدقه, وأمانته، هذه السيرة مفتاح محبته، محبته فرض عين على كل مسلم، ولا ننجو إلا إذا أحببنا النبي عليه الصلاة والسلام، ذلك لأن في حياة كل منا شخصية نتمنى أن نكونها، وشخصية نكره أن نكونها، وشخصية نكونها، التي تكونها هي أنت، والتي تحب أن تكونها تعبر عن اتجاهك
إن كنت من أهل الدنيا تحب أرباب الدنيا، إن كنت من أهل المال تحب الأغنياء جداً، إن كنت من أهل المتع تحب المتع الرخيصة، إن كنت من أهل السلطان تحب المناصب العليا، فإن كنت من أهل الإيمان تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتمنى أن تكون على أثره مقتديًا بسنته
أنا أقول لك: قل لي من تحب؟ أقل لك من أنت، لذلك قالوا: هناك حب في الله، وهو عين التوحيد، وهناك حب مع الله، وهو عين الشرك، الحب في الله أصله أن تحب الله، فرعه الأول أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرعه الثاني أن تحب أصحاب النبي جميعاً من دون استثناء، فرعه الثالث أن تحب التابعين، وأن تحب المؤمنين، وأن تحب طاعة الله، وأن تحب بيوت الله، وأن تحب كتاب الله، وأن تحب كل عمل يصلك بالله عز وجل، هذا الحب في الله، أما الحب مع الله، أن تحب جهة لا ينفعك حبها، بل يبعدك حبها عن الله، الحب مع الله عين الشرك، فقل لي من تحب؟ أقل لك من أنت, وقل لي: هل حبك في الله أم حبك مع الله؟ .
بشرى لك أيها المسلم :
أخواننا الكرام، هناك بشارتان، البشارة الأولى: أن الله سبحان الله يقول:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
( سورة الأنفال الآية : 33 )
هذه الآية فيها مشكلة، يعني ما دام النبي بين ظهراني أصحابه المعنى واضح جداً، لكن إذا انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, فما معنى الآية؟ قال علماء التفسير:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
( سورة الأنفال الآية : 33 )
يعني ما دامت سنتك يا محمد مطبقة في حياتهم, في بيوتهم، في حجاب نسائهم، في كسب أموالهم، في إنفاق أموالهم، في أفراحهم، في أتراحهم، في حلهم، في سفرهم، في سلمهم، في حربهم، في إقبال الدنيا عليهم، وفي إدبارها عنهم, قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
( سورة الأنفال الآية : 33 )
أنت في بحبوحتين، بحبوحة أن تكون مطبق للسنة، وبحبوحة أن تستغفر، أما لم تطبق, ولم تستغفر فأنت في خطر .
2- يجد الدارس لسيرة النبي الحياة الفاضلة التي يرنو إليها :
أيها الأخوة، لا زلنا في التمهيد، التمهيد للسيرة النبوية أو لفقه السيرة النبوية، المثالية الحالمة شيء لا يطبق، بعض فلاسفة الإغريق رسموا المدينة الفاضلة، شيء غير موجد أصلاً ، وعندنا الواقعية المقيتة، واقع لا يحتمل، قد تقرأ قصة لأديب معاصر تحس بانقباض، لماذا؟ لأنك ترى سقوط الإنسان، دناءة الإنسان، نفاق الإنسان، قسوة الإنسان، انحراف الإنسان .

أيها الأخوة، بذكر الصالحين تتعطر المجالس، وبذكر اللؤماء تتعكر المجالس دون أن تشعر, اجلس في بيتك مع أصدقائك، لو أن الحديث دار حول أناس لؤماء منحرفين منافقين، يأخذون ما ليس لهم، تجد بعد ربع ساعة قد شعرت بضيق، أنك طالعت إنسانًا ساقطًا، هذا الإنسان الساقط أعطاك إحباطًا كبيراً، لكن لمجرد أن تستمع إلى قصة صحابي جليل، إلى قصة صحابية جليلة، إلى قصة تابعي، إلى قصة عالم متواضع، تحس بانتعاش، تحس كما يقولون بامتداد بنفسك، فلذلك عظمة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنها واقعية، لكن ليست واقعية فقط، بل واقعية مثالية، مثل أعلى مطبق، أو المطبق مثل أعلى، هذا ما يحتاجه الناس اليوم، الناس اليوم يرفضون المثالية الحالمة، ويرفضون الواقعية المقيتة, الواقعية المقيتة ينفرون منها، والمثالية الحالمة يستهزؤون منها، لماذا قال الله عز وجل:

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
( سورة يوسف الآية : 111 )
3- يجد الدارس للسيرة المنهاج الكامل لمبادئ الإسلام وتعاليمه :
أخواننا الكرام، في الأدب فنون، عندنا الشعر، وعندنا القصة، والآن المسرحية، والمقالة، والسيرة الذاتية، وهناك أشياء كثيرة، يجمع الأدباء على أن أقرب فن أدبي إلى النفس القصة، بدليل لو كان ابنك معك في خطبة جمعة، والخطبة ساعة فرضاً، وفيها طرح دقيق، وتحليل، وأدلة، وآيات، وأحاديث، وفيها قصة في ثلاث دقائق، اسأل ابنك: ماذا بقي في ذهنك من هذه الخطبة؟ لا يذكر إلا القصة، لأنها أقرب شيء للنفس، القصة أبطالها بشر، وفيها حوادث، وفيها تسلسل، وفيها حبكة، وفيها بداية، وفيها عقدة، وفيها نهاية، لذلك أمتع فن أدبي للنفس هي القصة، لكن مع الأسف الشديد القصة المعاصرة حين تثير في الناس شهواتهم المنحطة, وغرائزهم تثير فيهم الجانب المادي، والجانب الغريزي، أن مجتمعًا بأكمله يسقط بهذه القصة، أما إذا قرأت قصة، وشعرت أنها حركت روحك، وتفكيرك المرتفع فأنت أمام فن عظيم، لذلك أن أنصح أخوتنا الكرام، أن يضعوا بين أيدي أولادهم قصص الصحابة الكرام، لكن ليست أية قصة، قصة أدبية بأسلوب واضح أدبي جميل، لأن الصياغة الأدبية صياغة فنية جميلة، تقريباً ككأس ماء كريستال مزخرف جميل، وإذا كان المضمون راقيًا جداً كماء الزلال، فأجمل شيء يؤثر في الإنسان المضمون، فالقصة أسهل طريق للدعوة إلى الله .

بالمناسبة نحن في بلادنا نعلم اللغة، النحو، الصرف، الإملاء، البلاغة، العروض، كل هذه الدروس مملة، مملة جداً، هناك طرق في تعليم اللغة تقوم على القصة، نعلم الطالب مفردات هذه القصة، فغطينا جانب اللغة، نعلم الطالب حركات الكلمات، وموقع كل كلمة في الإعراب، علمناهم النحو، نعلم الطالب بنية الكلمات، هذا اسم فاعل واسم مفعول، صفة مشبهة باسم الفاعل، علمناهم الصرف، الآن نعلم الطالب بعض الصور البلاغية، علمناهم البلاغة
فلما يكون المحور قصة ممتعة يمكن أن نعلم كل شيء من هذه القصة، لذلك أسهل طريق، وأمتع طريق، وأقصر طريق، لنَقُلْ: هذا الدين أن تأتي بسيرة سيد المرسلين، نتعلم منها الأحكام الشرعية، نتعلم منها الآداب النبوية، نتعلم منها المواقف البطولية، نتعلم منها المواقف التي ينبغي أن نكونها، لذلك القصة تحتل المركز الأول، وأنا والله أقترح أن تكون كما في بعض البلاد السيرة النبوية، أو سيرة أصحاب رسول الله في المناهج الدراسية مادة بأكملها ، يمكن أن تتعلم الإسلام كله من السيرة النبوية، إذاً: فضلاً عن أن السيرة النبوية يمكن أن تكون مفتاح محبة رسول الله ، القصة أو السيرة النبوية يمكن أن تكون القدوة العملية لكل مؤمن يبحث عن الحقيقة، قلت لكم في درس سابق: إن الله سبحان الله حينما قال:

﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَُ﴾
( سورة هود الآية : 120 )
إذاً: قصص الأنبياء تُليت في القرآن لتثبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فما قولكم في قصة سيد الأنبياء والمرسلين؟ من باب أولى أن نستفيد منها .
النبي مشرع :
أيها الأخوة, كلكم يعلم أن الله سبحان الله وتعالى أمرنا أن نطيعه، وأن نطيع رسوله استقلالاً، ما معنى نطيعه استقلالاً؟ قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾
( سورة النساء الآية : 59 )
يعني لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، طاعة أولي الأمر متعلقة بتوافقها مع طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يقل: أطيعوا الله ورسوله ، قال:
﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾
( سورة النساء الآية : 59 )

معنى ذلك أن النبي e وحده مشرع، وأن التشريع له مصدران، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالنبي كلامه تشريع، لذلك قال تعالى:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
( سورة النجم الآية : 3-4 )
أنت حينما تقرأ حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعلم أنه حق من الله تعالى، إليكم الدليل، يقول أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة أنا فيهن رجل"، ما معنى رجل؟ في القرآن والسنة والحديث؟

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
( سورة النور الآية : 37 )
يعني أبطالا, قال تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
( سورة الأحزاب الآية : 23 )
" ثلاثة أنا فيهن رجل, وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس "، ما علامة بطولة سيدنا سعد؟ من هذه الثلاثة، " أنني ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى، ولا صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها " .
إذاً: أنت حينما يصلك حديث رسول الله الصحيح يجب أن تؤمن أنه حق من الله تعالى، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، إن هو ألا وحي يوحى، إذاً: لا بد في كل بيت من شريط يتحدث عن السيرة، أو من كتاب يتحدث عن السيرة، ومن كتاب فيه حديث رسول الله ، لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، لا بد في كل بيت مسلم من مكتبة صغيرة، تفسير، قرآن، كتاب حديث، شرح أحاديث، كتاب سيرة .
أهمية السيرة النبوية من حيث التاريخ :
أيها الأخوة، بقي شيء واحد، أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم جزء من التاريخ الإسلامي، فأنت حينما تقرأ السيرة تقرأ التاريخ، وسوف أضع بين أيديكم فقرة من سيرة رسول الله تبين أن الذي كان يعانيه أصحاب رسول الله من مشكلات معظم هذه المشكلات نعاني منها الآن .
لما جاء عدي بن حاتم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: من الرجل؟ قال: عدي بن حاتم, قال: كنت أظن أنني سألقى ملكاً، فلما التقيت رسول الله أخذني إلى بيته، في الطريق استوقفته امرأة فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، فقال عدي في نفسه: والله ما هذا بأمر ملك؟ ودفع إلي وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقال: اجلس عليها، فلما دخل البيت, قال: علمت أنه نبي مرسل، قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسياً؟ ", وهو دين بين النصرانية واليهودية, " قال: بلى، قال: أولم تسِر في قومك بالمرباع؟ قال: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل في دينك، قال: فعلمت أنه نبي مرسل، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عدي بن حاتم لعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم", يعني ما ترى من فقرهم، والعالم الإسلامي عالم فقير الآن، والعالم الغربي يكاد ينفجر بالمال، معقول لوحة صغيرة تباع بـ 50 مليون دولار، المليون دولار كالمئة ليرة عندنا، أموال لا تأكلها النيران، كلها ثروات والعالم الغربي يأخذ كل المواد الأولية بورق أخضر، يطبع ورق ويعطيك
لذلك أكبر دولة في العالم مديونة هي القطب الواحد الذي نزهو بعملته الخضراء, " وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك في دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم" , لله عز وجل في خلقه شؤون، أحياناً يكون الكافر قوي جداً، يفعل ما يريد، ويقتل، ويقصف، ويهدم البيوت، والإعلام معه، والمال معه، والدول كلها معه، والمسلمون ضعاف, " لعله إنما يمنعك دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشك أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم", العالم كله الآن يحارب الإسلام " وايم الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج هذا البيت على بعيرها لا تخاف، وعاش عدي بن حاتم حتى رأى كل هذه البشارات .

المسلم في هذا العصر لا يزال بخير :
أخواننا الكرام، أخشى ما أخشى أن ننهزم من الداخل، أخشى ما أخشى أن نصاب بالإحباط, قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 139 )

وهذه الشدة التي نحن فيها أنا أسميها نحن في العناية المشددة، لأن فينا بقية خير فقط، بقية الخير جعلتنا في العناية المشددة، بشكل أو بآخر المريض المصاب بورم خبيث انتشر المرض في كل جسمه، سأل الطبيب: ماذا آكل؟ يقول له: كل ما تشاء، لو أن إنسانًا معه التهاب معدة، وشفاؤه مضمون، لكن بحاجة ماسة إلى حمية قاسية جداً، يعطيه الطبيب ألف توجيه، إياك أن تأكل كذا، وإياك أن تأكل كذا، مادام هناك أمل في الشفاء فهناك تشديد، لذلك:

" أوحى ربك إلى الدنيا أن تشددي، وتضيقي، وتكدري على أوليائي حتى يحبوا لقائي، وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن، وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه "
(ورد في الأثر)
متابعة هذه الدروس في أيام مقبلة إن شاء الله :
أيها الأخوة الكرام، أتابع هذه الدروس إن شاء الله، وسوف نستنبط إن شاء الله تعالى من كل موقف من مواقف النبي حكمة، وقاعدة، ورؤية تعيننا على حل مشكلاتنا .






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-02-2018, 04:31 PM   #3


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثالث )

الموضوع : البيئة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هي الحكمة الربانية في اختيار مكة المكرمة بلداً للرسول ؟
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث من دروس فقه السيرة النبوية، موضوع هذا الدرس البيئة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي عليه، وهذا يسمى في الدراسات التاريخية البعد التاريخي .

مكة المكرمة أرض ليس فيها زرع, قال تعالى:

﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 37 )
يبدو من هذه الآية الكريمة، وقد اعتمد كُتّاب السيرة على القرآن الكريم، وما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدراً أولاً وثانياً لوقائع السيرة، أن هناك متع حسية، وهناك سعادة نفسية، لو أن المتع الحسية متوافرة تماماً، ورافقتها سعادة نفسية لاختلط الأمر، لكن هذا اسمه فرز، تذهب إلى بيت الله الحرام في وادٍ غير ذي زرع، والجو حار، ومع ذلك تسعد في جوار هذا البيت أيما سعادة، كأن الله سبحانه وتعالى جمد العامل الجمالي الأرضي، وحرك العامل النفسي السماوي .

إذاً: قد تأتي الدنيا كما تريد، فتبتعد عن الغرض الذي خلقت من أجله، هذه حقيقة، الدنيا أحياناً تكون حجاباً بين العبد وبين ربه، ولا أغفلكم أيها الأخوة أن بلادًا كثيرة تعاني من رخاء ما بعده رخاء، ومن جمال ما بعده جمال، ومن متع حسية ما بعدها متع، هذه الدنيا العريضة، وهذا الجمال الأخاذ، وهذا التفلت صار حجاباً بين الناس وبين خالقهم، وقد تجد في بلاد أخرى شدة وضيقاً وفقراً، وتجد إقبال الناس على الدين منقطع النظير .
هناك علاقة بين المتع الحسية وتوافرها، وبين النشاط الروحي وحدته، حينما قال الله عز وجل:

﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 37 )

إذاً: ربما أعطاك فمنك، وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء, قال تعالى:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 216)
هذه الدنيا أيها الأخوة ليست بشيء أمام الآخرة, قال رسول الله :
" ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غرس في البحر من مائه "
( ورد في الأثر)
إذا كنت في بلد لست كما تتمنى، وكنت قريباً من الله عز وجل فأنت الرابح الأكبر، وإذا كنت في بلد وكأنه جنة الأرض، وهذه الجنة في الأرض حجبتك عن الله عز وجل، وأنستك الآخرة فأنت الخاسر فحيث ما أراد الله أن تكون تقبل قضاء الله وقدره، عندئذٍ تكشف حقيقة الحكمة الإلهية، لأن كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع .
النعم التي اسدلها الله على قريش :
أيها الأخوة, الله عز وجل امتن على قريش حيث يقول في كتابه الكريم:
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
( سورة قريش الآية : 1-4 )
قال علماء التفسير: إن أعظم نعمة يمتن الله بها على عباده نعمة الشبع والأمن, قال تعالى:
﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
( سورة قريش الآية : 4 )
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
( سورة النحل الآية : 112)

إذاً: حينما تكون كما قال الرسول :

" من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا "
( أخرجه البخاري عن عبد الله بن محصن )
وأعني (( آمنا في سربه ))، أي أمن الإيمان، أنت حينما تؤمن تشعر أنك تحت رحمة الله، وتحت رضوان الله، وتحت حفظ الله، وتحت تأييد الله، وتحت توفيق الله، وتحت نصر الله، وإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك، وهذه معية خاصة، قال عنها العلماء: إنها معية التأييد ، والنصر، والتوفيق، والحفظ, قال تعالى:
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الأنفال الآية : 19)
﴿أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 194)
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 139 )
المزايا التي كانت تتصف فيها بيئة النبي :
أيها الأخوة، في البيئة التي عاش بها النبي كان فيها بعض المكارم الأخلاق، قيمة الشجاعة، وقيمة المروءة، وقيمة الكرم، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
" وإنما بعثت معلما "
( أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو)
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
( أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة)
"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام "
(أخرجه البخاري عن أبي هريرة )
وقد خاطب النبي الصحابة فقال:
" أسلمت على ما أسلفت من خير "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح )

معنى ذلك أن القيم التي كانت قبل بعثة النبي كقيمة الشجاعة والكرم والمروءة، وكان عنترة يقول :

وأغض طرفي أن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
أليست هذه مروءة؟ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " من هنا نستنبط أن الإنسان الصالح في أخلاقه قبل أن يؤمن، وقبل أن يهتدي إلى الله عز وجل، لأنه صالح يتولاه الله عز وجل، قال تعالى: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾
( سورة الأعراف الآية : 196)

فإذا كنا حليماً كريماً، ذا مروءة، تقري الضيف، تعين على نوائب الدهر، فالله عز وجل يتولاك، ومن أدق ما قالت السيدة خديجة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءه الوحي: " ما يخزيك الله أبداً", كيف عرفت ذلك؟ لم يكن وحي قبله، ولم يكن إسلام قبل هذا الإسلام، " والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتكرم الضيف، وتحمل الكَلّ، وتعين على نوائب الدهر", هذه الفطرة .
وأنا أقول لكم أيها الأخوة، وهذا استنباط، ولاسيما أني أوجهه إلى الشباب: إن كنت شاباً مؤمناً، مستقيماً، عفيفاً، صادقاً، أميناً، ثق بتوفيق الله لك، لأن الله عز وجل يقول:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
( سورة الجاثية الآية : 21 )
إذاً: مكارم الأخلاق التي كانت في الجاهلية اعتمدها الإسلام وأقرها . أهمية النسب في عالم الإيمان :
أيها الأخوة, قبيلة قريش كانت في الجزيرة العربية واسطة العقد، وكانت سيدة العرب وقتها هذا ينقلنا إلى موضوع النسب، ما علاقة النسب بالإيمان؟ النسب تاج يتوج به المؤمن، فالنبي عليه الصلاة والسلام حدثنا عن سيدنا يوسف, فقال: " الكريم ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "
(أخرجه أحمد في مسنده)
ولكن حينما قال الله عز وجل:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾
( سورة المسد الآية : 1-5)

هو عمّ النبي، أما الإنسان حينما يبتعد عن الإيمان لا قيمة للنسب أبداً، قال عليه الصلاة والسلام:

" يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّارِ، فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكِ ضَرّا وَلاَ نَفْعاً "
( أخرجه مسلم في الصحيح )
" وقد دخل عليه الصلاة والسلام مرة المسجد فرأى رجالاً يتحلقون حول رجل، فسأل سؤال العارف: من هذا؟ قالوا: نسابة، قال: وما نسابة؟ قالوا: يعرف أنساب العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا علم لا ينفع من تعلمه، ولا يضر من جهل به "
( ورد في الأثر)

من هنا من بعض أدعية النبي عليه الصلاة والسلام:

" الَّلهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ من قلبٍ لا يخشعُ ، ومِنْ دُعاءٍ لا يُسمعْ ، ومِنْ نفسٍ لا تَشبعْ ، ومن علمٍ لا ينفعْ ، أعوذُ بكَ منْ هؤلاءِ الأربعِ "
( ورد في الأثر)
أيها الأخوة، تعليق لا بد منه، لأن العمر قصير، والوقت محدود، والأيام تتسارع، وكلما مضى يوم اقتربنا من أجلنا، فلا بد من أن نصطفي، كيف؟ أنت في مكتبك تضع الأربعة جدران ممتلئة بالكتب إلى السقف، وعندك بعد يومين امتحان مصيري، وكتاب هذه المادة أحد كتب المكتبة، هل يمكن أن تقرأ خطبة في هذين اليومين؟ لا بد من أن تقرأ الكتاب المقرر، لأن ما يطبع في العالم كل يوم من كتب بلغة واحدة لا يمكن أن تستطيع قراءتها في مئتي عام, ينبغي أن تصطفي كتاباً ينفعك في دينك ودنياك، وأن تصطفي صديقاً ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، وأن تصطفي مكاناً تزداد فيه قرباً من الله عز وجل، أما الإنسان الذي يتحرك كيف ما شاء؟ يقرأ أي كتاب شاء؟ هذا الذي لا يصطفي يكون مغبوناً يوم القيامة
إذاً: النسب تاج يتوج به المؤمن، أما إذا ابتعد الإنسان عن الإيمان فلا قيمة للنسب أبداً، وصدق القائل:
لا تقل: أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
العبادة التي كانت سائدة في قريش :

أيها الأخوة, ماذا كانت تعبد قريش قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى:

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾
( سورة يونس الآية : 18 )
إحدى القبائل صنعت من تمر صنماً وعبدته، فلما جاعت أكلته، فقيل: أكلت ودٌ ربها، أين عقلهم؟ قبيلة أخرى جاء أحد أفرادها إلى الصنم ليعبده فرأى أن ثعلباً قد بال على رأسه، فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ضلت من بالت عليه الثعالب
العرب كانت تعبد أصناماً من دون الله، وتزعم أنها تقربهم من الله عز وجل زلفا, عطلوا عقولهم فخسروا آخرتهم .
هذه هي الجاهلية الثانية :
أخواننا الكرام، في بلاد آسيا تعبد البقرة من دون الله، فإذا دخلت إلى دكان فاكهة، وأكلت ما لذ وطاب من أغلى أنواع الفاكهة يكون صاحب المحل في الجنة، لأن الإله دخل إلى دكانه، وأكل من الفواكه، وقد يوضع روثها على الأثاث في غرف الضيوف في العيد، هذا من إنتاج إلههم، أين عقولهم؟
وهناك أناس في بلاد آسيا يعبدون الجرذان، وعندي مجلة فيها معبدهم، وكيف أن في هذا المعبد آلاف الجرذان يقدمون لهم أنفس الطعام، ويعبدونهم من دون الله؟ أين عقولهم؟ وفي هذه البلاد البعيدة جداً شرقاً, والتي تألقت في الصناعة حتى بلغت قمة النجاح الصناعي يعبدون ذكر الرجل، وقد حدثني أخ كريم زار معابدهم، وهناك أناس يعبدون الحجر، وأناس يعبدون الشمس والقمر، وأناس يعبدون موج البحر، وهذا من ضعف عقل الإنسان، واشكروا الله عز وجل أننا عرفنا الإله الحقيقي الذي بيده كل شيء، قال تعالى:

﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾
( سورة يونس الآية : 18 )
أيها الأخوة، من أغرب ما قرأت قبل شهرين أو ثلاثة أن صحفية في بلد عربي مجاور فيها مقالة يزعم كاتبها أن آلهة قريش كانت آلهة ديمقراطية، لأن كل إله قبل بالطرف الآخر، أما إله محمد فكان إلهاً ديكتاتورياً أو قمعياً، لأنه رفض أن يكون معه إله آخر، أليست هذه جاهلية ثانية؟ حينما قال الله عز وجل:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
( سورة الأحزاب الآية : 33 )
ما معنى ذلك؟ أن هناك جاهلية ثانية .
الأكاذيب التي كانت قريش تفتري بها على الله وإصرارها على ذلك :
أيها الأخوة, أن بيئة قريش فيها تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان، فقد قال الله عز وجل:
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾
( سورة النحل الآية : 116 )

لذلك المعاصي والآثام رُتبت في القرآن ترتيباً تصاعدياً، فذكر الله الفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، والشرك والكفر، وجعل على رأس هذه المعاصي أكبر معصية على الإطلاق, قال تعالى:

﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 169 )
هذا الذي يحرم من دون علم، ويحلل من دون علم، ويفتري على الله الكذب, الحلال والحرام من شأن الله وحده، فهناك عقائد سخيفة ومضحكة كانوا يتداولونها فيما بينهم, ثم إنهم من حيث العقيدة كانوا يشركون بالله جل جلاله فلا يوحدونه، وكانوا يلحدون في أسمائه وصفاته، وكانوا يسمون الملائكة تسمية الأنثى، ويدعون أنهم بنات الله، ويدعون أن الجن شركاء الله، ويجحدون القضاء والقدر، وقد قال الله على ألسنتهم:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 148 )
أنكروا القيامة، والبعث, والنشور، والدار الآخرة، والحساب، والجنة والنار، رغم إقرارهم بألوهية الإله، ولا يتقيدون بشيء مما كان في الديانات السابقة, فقريش أصرت على هذه الضلالات, قال تعالى:
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾
( سورة النحل الآية : 38 )
لذلك حينما تتحد المسافة بين نبي ونبي يحتاج الناس إلى نبي يجدد للناس دينهم ومعرفتهم بالله عز وجل, قال تعالى: ً
﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾
( سورة هود الآية : 7 )
الإنسان أميل إلى الطبع من التكليف :
أيها الأخوة, حضرت مؤتمر الأديان في واشنطن، وقد شاهدت عبادات وأديان الأرض، كانت 18 ديناً، جميع هذه الأديان التي اخترعها الإنسان هي رقص وغناء وموسيقا
نحن في وقت التخلف تصبح عبادتنا أناشيد، ومنشدين فقط، وطربا، وولائم، واحتفالات، كلما ابتعدنا عن حقيقة الدين اتجهنا إلى ما هو ممتع بعيداً عن كل شيء مكلف، والتكليف ذو كلفة ، جميل جداً أن تتغنى بمديح رسول الله ، لكن ليس جميلاً أن تكتفي به ولا تفعل شيئاً بعد ذلك، دائماً هناك أشياء خفيفة على الإنسان، وأشياء تحتاج إلى جهد, قال تعالى:

﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾
( سورة التوبة الآية : 19 )
أحيانا يكون الإنسان قد آتاه الله عز وجل مالا كثيرا، يبني مئذنة على حسابه، وقد أنشأ هذه المئذنة المحسن الكبير فلان، أنا لا أقلل أبداً من إنفاق المال على المساجد, والمياتم, والمستشفيات، هذا عمل عظيم، ولكن حينما ترى أن إنفاق المال لا يأخذ منك إلا موافقة سريعة، أما الإسلام منهج كامل، افعل ولا تفعل، هناك واجبات وفرائض، وهناك محرمات ومنهيات ومكروهات، أما قد تختار من الدين ما يعجبك، فلذلك أيها الأخوة قضية الدين منهج كامل يؤخذ بأكمله، أو لم تقطف من ثماره شيئاً .
ما هي علاقة الأصل بالفرع , وعلام نستنتج ؟
أيها الأخوة، لا بد من توضيح هذه الحقيقة، الإنكار القولي يعالج، أما الإنكار العملي فلا يعالج, البدع القلبية لا تصحح، عندنا ميزان، هناك خطأ في الميزان، أو هناك خطأ في الوزن، الخطأ في الميزان لا يصحح، لكن الخطأ في الوزن لا يتكرر، فأفضل ألف مرة أن تخطئ في الوزن من أن تخطئ بالميزان .

لذلك العقيدة هي الأصل، إن صحت عقيدة الإنسان صح عمله، وإن فسدت عقيدته فسد عمله، أكاد أقول: إن أخطر شيء في الدين العقيدة، إن صحت صح العمل، وإن كان هناك خطأ ففي الوزن لا في الميزان، الخطأ في العقيدة خطأ في الميزان، والخطأ السلوكي خطأ في الوزن، والخطأ في العقيدة لا يصحح، بينما الخطأ في الوزن لا يتكرر، فلذلك لو لم يكن للعقيدة أثر في السلوك, أقول لك: اعتقد ما شئت، أما لأنه ما من عقيدة إلا وتنعكس انحرافاً في السلوك فإنه يجب أن تصحح عقيدتك، يجب أن تصحح تصوراتك .
أيها الأخوة، لو أن واحداً من المسلمين توهم أن شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته هكذا على ظاهر الحديث من دون دقة في الفهم والشرح، ما الذي يدعوه إلى أن يستقيم؟ لا شيء، لأنه اعتقد خطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع له, من الخطأ الفادح، وأنت لست من أهل العلم أن تأخذ حديثاً، وأن تكتفي بفهمك له، وأن تستنبط منه ما طاب لك، ثم تبني عملك على هذا الفهم ، خطأ كبير، بل كبير جداً
الشفاعة موضوع عميق، موضوع يحتاج إلى تأصيل، في مجموعة أحاديث الفقيه يضع كل النصوص، والآيات، والأحاديث، وفعل النبي، وإقرار النبي، وفعل الصحابة، يجمع هذا كله، وأسباب النزول، وأسباب ورود الحديث على طاولة واحدة، ويستنبط حكماً شرعياً، أما أن يأتي إنسان في آخر الزمان، ويأخذ حديثاً، ويفهمه على مزاجه، ويبني عليه حكماً, هذا ما أنزل الله به من سلطان، لا يمكن أن ينال شفاعة النبي إلا من كان موحداً ومخلصاً ، إذا كنت موحداً مخلصاً أنت بينك وبين النجاة شعرة واحدة .
إليكم هذا المثال: طالب أدى امتحانا في عشر مواد، أخذ في تسع مواد علامة النجاح وزيادة، ونقصه في إحدى المواد علامة واحدة، يشفع له النبي، أما في العشر مواد أصفار، ويعتمد على شفاعة النبي فهذا غباء وحمق ما بعده من غباء .
لو أن طالبا قال لآخر: لا تدرس، الأستاذ قلبه طيب، يشفق علينا يوم الامتحان، نبكي أمامه فيعطينا الجواب، لا تدرس، هكذا يفهم بعض المسلمين الشفاعة, قال رسول الله :
" يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه "
( أخرجه البخاري في الصحيح)

هذا كلام النبي، أما كلام الله عز وجل:

﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾
( سورة الزمر الآية : 19 )
مرةً ثانية، لو لم يكن من علاقة بين أن تعتقد, وبين أن تتحرك أي شيء, لقلت لك: اعتقد ما شئت، لكن لأنه ما من اعتقاد إلا وسوف ينعكس سلوكاً خاطئاً أو صواباً لا بد من تدقيق فيما تعتقد، فأنت بحاجة إلى جرد لمعتقداتك، إلى مسح لتصوراتك، يجب أن تعرضها على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة فعلى العين والرأس، وما خالف الكتاب والسنة ينبغي أن تتخلى عن هذه العقيدة .
أخواننا الكرام، حضور درس العلم هو استثمار للوقت، لأن الإمام علي رضي الله عنه يقول: " العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزهو على الإنفاق ". إليكم هذين القصتين للعبرة :
سائق مركبة أشارت إليه امرأة أن يقف فوقف، ركبت المركبة، سألها: إلى أين؟ قالت له: خذني إلى أي مكان تشاء، فرآها غنيمة ما بعدها غنيمة، فلما قضى حاجته منها، أعطته ظرفين، فتح الأول فيه مبلغ كبير من الدولارات، والظرف الثاني فيه رسالة كتبت إليه الكلمات التالية: مرحباً بك في نادي الإيدز، ذهب ليصرف الدولارات، فإذا هي مزورة، فأودع في السجن، وأصيب بمرض الإيدز، لو أنه يحضر درس علم بمجرد أن تقول له: خذني إلى أي مكان تشاء، لأوقف المركبة وأنزلها، وقال: إني أخاف الله رب العالمين .

في أول خطبة خطبتها في جامع النابلسي في عام 1974 تقدم مني رجل مسن ( كهل )، وصار يبكي، قلت له: خير إن شاء الله؟ قال: زوجتي تخونني، قلت: مع من؟ قال: مع جاري، قلت: كيف عرفت جارك أو كيف عرفها جارك؟ قال لي: مرةً زارني الجار، فقلت: لئلا تبقى وحدها مستوحشة تعالي أم فلان مثل أخوكِ، بدأت هذه العلاقة، قلت له: لو أنت حضرت مجلس علم لا تفعل هذا .
أخواننا الكرام، أرجو أن تدققوا في هذه القاعدة، ما من مصيبة على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، فأنت حينما تحضر درس علم تضمن سلامتك, وسعادتك في الدنيا والآخرة، لأنك تتعلم في هذا الدرس تعليمات الصانع، وما من جهة أجدر من أن تطاع كالصانع، لأنه الخبير, قال تعالى:
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
( سورة فاطر الآية : 14 )
المنكرات التي كانت تعيشها قريش قبل بعثة النبي وبين الإنسان الذي يعيشها اليوم:
أيها الأخوة، أخلاق قريش قبل بعثة النبي وأعرافهم وعاداتهم كثيرة، فكانوا يشربون الخمر بلا قيد ولا شرط، ويلعبون الميسر، ويتزوجون بغير عدد، باب الزواج مفتوح، ويقتل بعضهم الأولاد بسبب الفقر، ويؤدون البنات خوف العار والفقر، قال تعالى :
﴿وَإِذَا الْمَؤودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾
( سورة التكوير الآية : 8-9 )
لو انتقلنا إلى هذا العصر لم يئدها، لكنه جعلها تخرج من البيت كما تريد، وبأي زي تريد، وتظهر كل مفاتنها للناس، ولا تعبأ لا بقيد أخلاقي ولا ديني ولا شرعي، ففسدت وأفسدت، وضلت وأضلت، هذه الفتاة يوم القيامة, تقول: يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، ما معنى قوله تعالى:
﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾
( سورة البقرة الآية : 191 )
هذه التي وئدت في الجاهلية إلى الجنة، لأنها وئدت قبل التكليف، أما التي أطلقناها فلا تعتني لا بأخلاقها، ولا بإيمانها، ولا بحجابها، ولا بعلمها، ولا بثقافتها، أطلقناها تفعل وتؤذي المجتمع كما تريد، هذا عمل يحاسب عليه الأب، بل إنني أعتقد أن الفتنة كما قال الله عز وجل في أن يطلق للفتاة العنان أشد من القتل .
مرة سئلت في درس: الرجال لهم عبادات خاصة، من هذه العبادات حضور الجمعة والجماعات، ومن هذه العبادات الجهاد في سبيل الله، النساء هل لهن عبادات خاصة؟ طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام, يقول:
" انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله "
( ورد في الأثر)

شيء جميل، رعاية الزوج والأولاد نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، لكن شيء رائع جداً أن أنقل إليكم أن هناك عبادة تنفرد بها المرأة من دون الرجل، أنا أسميها عبادة إعفاف الشباب، الرجل في الصيف قد يلبس ثياباً خفيفة، هذه ميزة، لكن الفتاة المؤمنة ترتدي ثياباً سابغة وسميكة لا تصف لا لون بشرتها ولا حجم أعضائها، لعل الثياب التي يجب أن تكون سابغة وسابلة عبء عليها، ولكن هذه عبادة، فكل امرأة أظهرت مفاتنها، وأفسدت شاباً فهذا الفساد الذي يصيب الشاب في صحيفتها يوم القيامة .
لذلك في الجاهلية زواج بغير عدد، يقتل يعضهم أولاده بسبب الفقر، قال تعالى:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ﴾
( سورة الأنعام الآية : 151 )
أي من فقر واقع, قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾
( سورة الإسراء الآية : 31 )
من فقر متوقع، فقد مُنع الإنسان من أن يقتل ابتنه لفقر واقع، أو لفقر متوقع، لو انتقلنا إلى الآن أنت حينما ترضى لابنك بعمل دخله كبير، ولكن يضيع فيه دينه، أليس هذا نوع من القتل؟ كم من إنسان لم يعتنِ بإيمان ابنه، ولا بأخلاقه؟ ففسد, وأنتج دخلاً كبيراً، إذاً: هذا ينبغي أن يكون في الحسبان .
وكانوا يثيرون الحروب لاتفه الأسباب، يمد أحدهم رجله، ويقول: من كان أشرف مني فليضربها، يضربها رجل آخر، وتنشب حروب تستمر عشرات السنين، تدمر كل شيء، هذه أيضاً جاهلية، وقد قال الله عز وجل:
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾
( سورة الزخرف الآية : 17)
انظر إلى تعامل النبي للنساء :
أما النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءته فاطمة ضمها وشمها, وقال:
" ريحانة أضمها وعلى الله رزقها "
(ورد في الأثر)
أعرف صديق عنده سبع بنات، وكلما حملت زوجته، وأشرفت على الوضع هيأ هدية كبيرة، لعلها تأتي بالأنثى، فتكون هذه الهدية تطميناً لها أنها في أعلى مقام عنده، هذا المؤمن, قال تعالى:
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
( سورة النحل الآية : 58-59)

ماذا قال عليه الصلاة والسلام: " أكرموا النساء، فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم ويغلبوهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً، من أن أكون لئيماً غالباً "
(ورد في الأثر)
قال عليه الصلاة والسلام عن النساء:
" فإنهن المؤنسات الغاليات "
(رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر )
والنبي عليه الصلاة والسلام جعل الخيرية الكبرى، وأنت في البيت، قال:
" خَيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي "
(أخرجه الترمذي عن عائشة في سننه)
يعني أن الإنسان خارج البيت، نوع من الذكاء يتجمل، يتلطف، يبتسم، يعتذر, يحسن هندامه، أما في البيت فلا رقابة عليه، فبطولتك وأنت في البيت، قال عليه الصلاة والسلام:
" خَيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"
(أخرجه الترمذي عن عائشة في سننه)
تحريم القرآن للخمر :
يقول الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
( سورة المائدة الآية : 90 )
ويتوهم بعض الناس ممن شردوا عن الله عز وجل أن كلمة فاجتنبوه لا تعني التحريم المطلق، بل هي في الحقيقة أشد أنواع التحريم، لأنك إذا مُنعت من شيء تمنع من ممارسته، أما اجتنبوه, قال عليه الصلاة والسلام:
" لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها, وحاملها والمحمولة إليه، و آكل ثمنها "
(أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في المستدرك عن ابن عمر )
فيجب أن يكون بينك وبين الخمر هامش أمان كبير، فالاجتناب هو من أشد أنوع التحريم . الأنكحة التي كانت منتشرة في جاهلية العرب :
وقد سادت في البيئة التي عاش بها النبي صلى الله عليه وسلم أنوع من الأنكحة التي لا تختلف عن الدعارة إطلاقاً، من هذه الأنكحة أنكحة الاستبضاع، أن يقول الرجل لزوجته: اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه, أي احمل منه, فلان قد يكون جميل الصورة، أو قويا، أو ذكيا، هذا كان نكاح الاستبضاع .

أما نكاح الرهط، يعني عشرة رجال يتزوجون امرأة واحدة، وقد حدثتكم فيما أذكر أنه من أحدث الأبحاث العلمية أن الإنسان له هوية، قزحية عينه هوية، ورائحة جلده هوية، ليس هناك على وجه الأرض واحد من ستة آلاف مليون يشبهك في قزحية العين، ولا في نبرة الصوت، ولا في رائحة الجلد، ولا في بصمة الإصبع، ومن مدة قريبة أضيفت إلى مجموع هذه الهويات هوية جديدة نطفته هوية، لكل نطفة تركيب خاص لا تشبه أية نطفة أخرى، وقد اكتشف أن عند المرأة جهازاً حاسوباً تبرمج فيه هذه النطفة، وما دامت هذه النطفة تأتي بشكل أو بآخر لا تتغير فالوضع سليم جداً، أما إذا دخلت نطفة على نطفة فهناك احتمال بأن تصاب المرأة بسرطان الرحم .
أما أن تأتي نطفة جديدة دون أن تصاب المرأة بشيء فهذا يعني أن تنقطع النطفة الأولى ثلاثة أشهر، حتى تمحى برمجتها من حاسوب المرأة، وعندئذٍ يمكن أن تستقبل المرأة نطفة جديدة، وهذه هي العدة التي شُرعت في القرآن الكريم .
أما إذا كان هناك شدة نفسية فتحتاج إلى أكثر من أربعة أشهر، هذه عدة المتوفى عنها زوجها، هذا كلام سمعته في مؤتمر إسلامي في القاهرة بشرح عميق جداً, ومدلل بالتجارب والأبحاث الدقيقة .
وهناك نكاح ذوات الرايات، يعني بيوت الدعارة، بيت عليه راية أن هذه المرأة تقتات بجسمها، والقول الجاهلي تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها, عقائد فاسدة، سلوك فاسد، تحريم مزاجي ، أنكحة فاسدة، خمر، ميسر، ظلم, قهر، عدوان، وأد بنات، قتل أولاد، هذه الجاهلية التي جاء فيها النبي عليه الصلاة والسلام .
خاتمة الدرس :
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذه الدروس في الأيام القادمة على أن عنوان الدرس فقه السيرة، وكل شيء ندرجه في هذا الدرس يجب أن نستنبط منه شيء كقاعدة في حياتنا، وإذا كان بالإمكان أن نوازن بين الماضي والحاضر ينبغي أن تكون هذه الموازنة لصالح فهم هذا الدرس، وزانت لكم بين وأد البنت وبين تفلتها الآن، أيهما أخطر؟ تفلتها، لأن التي وئدت إلى الجنة، أما هذه فلا تدخل النار حتى تدخل أباها قبلها .






والحمد لله رب العالمين










 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-02-2018, 04:34 PM   #4


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الرابع )

الموضوع :مبعث النبى صلى الله علية وسلم





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . النسب الذي يعود إليه النبي محمد عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة، والحديث اليوم عن مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأول بند في هذا الموضوع نسبه صلى الله عليه وسلم، وقد حدثتكم في درس سابق أن النسب تاجٌ يتوج به أهل الحق، أما إذا أضيف النسب إلى أهل الباطل فلا قيمة له إطلاقاً، والدليل قوله تعالى:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
( سورة المسد الآية : 1-2 )

فالذي يتعرف إلى الله، ويستقيم على أمره، ويحرص على مرضاته إذا كان نسبه من النوع العالي فهذا تاجٌ يتوج به، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد بن عبد المطلب، ابن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، ابن كلاب، وينتهي نسبه إلى عدنان، وأمه آمنة بنت وهب، من بني زُهرة، ويلتقي نسب أمه بنسب أبيه في كلاب بن مرة، وقد قال الله عز وجل :

﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 124 )
وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم, يقول:
" الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم "
( أخرجه البخاري في الصحيح)
هل النبوة أمر كسبي أم أمر وهبي أم بهما معاً ؟
أيها الأخوة، النبوة هبة من الله، وفيها جانب كسبي، بمعنى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 33 )

حينما يجتهد الإنسان في طلب مرضاة الله عز وجل، من كمال الله وكرمه يهيئ له عملاً يتناسب مع طموحه، والعبرة أن تطمح لعمل جليل، فالأعمال بيد الله، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل، ونسبه إليك، الله عز وجل يوفق، ويحفظ، ويلهم، ويجري الخير على يديك بشرط أن تطلب الخير,

" ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء "
( ورد في الأثر)
فأنت حينما تسعى في مرضاة الله، وحينما تخطب ود الله عز وجل، فالله يهيئ لك عملاً صالحاً ترقى به عنده، وتسعد به إلى أبد الآبدين,
" ابن آدم كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يفرحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد "
( ورد في الأثر)
إليكم هذا المثال للتقريب :
لو أردنا أن نضع مثالاً يوضح هذه الحقيقة: لو أرادت دولة أن تعين سفيراً في بلد مهم جداً، طبعاً تختاره من حملة الشهادات العليا، وفي بعض الدول تشترط دراسة أدبية وعلمية وحقوقية، وهذا من كسب الطالب، بعد أن تختاره تمنحه صلاحيات، وحقيبة دبلوماسية ، وتعطيه كتاباً تقدمه للدولة التي سيقوم بها، ففي هذه الوظيفة جانب كسبي، وجانب وهبي، الجانب الكسبي يؤكده الله عز وجل حينما يقول: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 124 )
ويؤكد الجانب الكسبي قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 33 )
خير القرون قرني :
أيها الأخوة, يقول عليه الصلاة والسلام:
" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه "
(أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح)

لذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم خيرية القرون الأولى، فقال:

" خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح)
قد تقول أنت: نحن في عصور التقدم، وفي عصور المخترعات، وفي عصور ترويض الطبيعة لصالح الإنسان، النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف قرنه بأنه خير قرن ، هذا متعلق بسعادة الإنسان الأبدية، وقد ذكرت في درس سابق أن الدنيا إذا كانت مريحة جداً ، وكانت الدنيا عريضة، وفيها كل ما تشتهيه الأنفس ربما كانت حجاباً بين العبد وربه، وأن بعض الشدائد التي في ظاهرها شدائد ربما كانت عوناً للإنسان على طاعة الله، لذلك الآية التي ينبغي ألا تنسى، وأن تكون ماثلة أمام أعيننا جميعاً, قوله تعالى:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 216 )
فخيرية قرن النبي، والقرن الذي أتى بعده، والذي أتى بعده خيرية متعلقة بسعادة الإنسان الأبدية، لكن الإنسان اليوم غارق في متع حسية، ووقته مليء بملهيات لا تنتهي، لكن إذا جاءه ملك الموت يشعر بالخسارة التي لا تعوض, قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة الزمر الآية : 15 )
الصفات الخَلقية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام :
النبي صلى الله عليه وسلم صفته: كان متوسط القامة، ليس بالنحيف ولا بالجسيم، عريض الصدر، ضخم اليدين والقدمين، مبسوط الكفين، قليل لحم العقبين، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة، وهو أحسن الناس وجهاً، وهو أبيض اللون بياضاً مزهراً، مستدير الوجه، واسع الفم، طويل شق العينين، رَجِل الشعر، ولم يشب من شعره الأسود إلا اليسير , وإضافة إلى حسن خلقه، وسلامة حواسه وأعضائه فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتني بمظهره من النظافة وحسن الهيئة .

أيها الأخوة، المؤمن لا ينبغي أن يهمل مظهره، ولا ملبسه، فقد ورد في بعض الأحاديث:

" أن أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس "
(ورد في الأثر)
لأن الإنسان في أول لقاء الانطباع يؤخذ من هندامه، ومن مظهره، ومن نظافته، ومن رائحته العطرة، من أجل أن تكون سفيراً لهذا الدين الرباني ينبغي أن تعتني بمظهرك، قال عليه الصلاة والسلام:
" أن أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس "
(ورد في الأثر)
الاعتناء بالنظافة، والاعتناء بالمظهر، جزء من الدين . الصفات الخُلقية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام :
أما صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم فحدثوا ولا حرج، الله عز وجل وصفه بأنه:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم الآية : 4)

والخُلق أيها الأخوة جانب كسبي في الإنسان، الله عز وجل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم وسائل الدعوة، أعطاه ذاكرة ينفرد بها, قال تعالى:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
( سورة الأعلى الآية : 6)
أعطاه شكلاً جميلاً، أعطاه وجهاً مليحاً، أعطاه فصاحة ما بعدها فصاحة، قال:
" أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش "
(ورد في الأثر)
أعطاه نسباً رفيعاً، ولكن حينما أثنى عليه، أثنى على خلقه، كما لو أنك منحت ابنك بيتاً ، لا يعقل أن تقيم حفل تكريم لهذا البيت، لكن تقيم له حفل تكريم إذا نال الدرجة الأولى، فالأصل أن يثنى على الإنسان بما في كسبه، ويقابل ذلك أنت حينما تزدري إنساناً لأن شكله لم يعجبك، هذا اعتراض على الله عز وجل، وزوجته عائشة رضي الله عنها قالت عن أختها صفية قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام:
" لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته "
(أخرجه الترمذي في سننه)
خطأ كبير أن تعير إنساناً بشكله، أو بلونه، أو بطوله، هذا ليس من كسبه، هذا من خلق الله عز وجل، فكأنك تعترض على الله، وكأنك تزدري صنعة الله عز وجل فهذا فظاظة وللجاجة لا تليق بالمؤمن .

لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أوتي الكمال في أفعاله، وفي أقواله، وفي شكله، وأوتي الفصاحة، وأوتي البيان، وهو سيد ولد آدم، وأوتي المعجزات، وأوتي القرآن والوحي، وأيده الله بنصره، ومع كل هذه الخصائص, يقول الله له أنت بالذات:

﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
( سورة آل عمران الآية : 159 )
بربكم هذا الذي لم يؤتَ فصاحة، ولا شكلاً جميلاًَ، ولا وجهاً منيراً، ولا نسباً أصيلاً، ولم يؤتَ معجزة، ولا وحياً، ولا قرآناً، وهو فظ غليظ القلب في دعوته, لمَ؟ سيد الخلق وحبيب الحق، يقول الله له:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
هذا درس بليغ للدعاة إلى الله عز وجل .
الحكمة الربانية التي أخفاها على عباده في موضوع التسيير :
أيها الأخوة, نحن كما تعلمون مخيرون، الدليل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
( سورة الإنسان الآية : 3)
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
( سورة الكهف الآية : 29 )

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 148)
الآيات تؤكد أن الإنسان مخير، بربكم هل أنتم مخيرون في آبائكم وأمهاتك؟ أنت لست مخيراً فيما كنت ذكراً أو أنثى، ولست مخيراً في أمك وأبيك، ولست مخيراً في مكان ولادتك، ولست مخيراً في زمن ولادتك، هذا ليس من اختيارك، هذا أنت فيه مسير، ولكن حقيقة أنقلها لكم تثلج الصدر: الذي لم يكن في اختيارك هو أكمل شيء إليك، لخص هذا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى, فقال: " ليس في الإمكان أبدع مما كان "، وفسر هذا القول فقال: " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " .
فاعتقد يقيناً أن الذي لست مخيراً فيه هو لصالحك مئة في المئة، وحينما يكشف الله لك يوم القيامة عن سر هذه الأشياء التي لم تكن مخيراً بها، ينبغي أن تذوب كالشمعة محبة لله عز وجل وامتناناً منه، فالذي كنت به مسيراً هو لصالحك، وليس في الإمكان أبدع مما كان .
النبي قدوة لنا معاشر المسلمين :
أيها الأخوة, السيدة عائشة أم المؤمنين كانت تؤكد حينما تُسأل عن خلقه, تقول:
" كان خلقه القرآن "
( أخرجه مسلم في الصحيح)

بل إن بعضهم, يقول: القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، ونستنبط من هذه الأوصاف أن المؤمن لا يتأثر الناس بكلامه بل بمعاملته، وأن دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال، وهذا درس للآباء والمعلمين والدعاة إلى الله عز وجل، دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال ، وحال واحد في ألف خير من مقالة ألف في واحد، إذاً: قوة التأثير لا تتأتى من الفصاحة، بل تتأتى من أن هذا المتكلم صادق فيما يقول، ومطبق لما يقول
ومن أدق الآراء التي قرأتها عن أحد العلماء أن الذي يدعو إلى الله بمضمون غير متماسك، أو يدعو إلى الله بأسلوب غير علمي وغير تربوي، أو يدعو إلى الله ولا يجد مصداقية في الداعية، هذا المدعو إلى الله في هذه الطريقة لا يعد عند الله مبلغاً، ويقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة, فلذلك رتبت المعاصي والآثام ترتيباً تصاعدياً، فكان في أعلاها, قوله تعالى:
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 169 )
" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "
( أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس )
" يا ابن عمر، دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا "
( ورد في الأثر)
النبي جمع الكمال البشري :
من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد تواضعاً مقترناً بالمهابة، والقاعدة أيها الأخوة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، التهور رذيلة، والجبن رذيلة، والشجاعة بين التهور والجبن، البخل رذيلة، وتبذير المال رذيلة، والكرم بين التبذير والبخل، فالفضيلة وسط بين طرفين .

فيا أيها الأخوة، سهل جداً أن تأخذ الحد الأقصى، سهل جداً وأنت تربي أولادك أن تكون قاسياً إلى أبعد الحدود، تضربهم ضرباً مبرحاً، وسهل جداً أن تسيبهم، ولكن البطولة أن يحبك أولادك إلى درجة عالية جداً، وأن يهابوك أيضاً لدرجة عالية جداً، هذا هو المنهج الوسطي والإسلام وسطي, فلذلك كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع المهابة، إنسان يتواضع مع الذل، ارفع رأسك، متى أمت علينا ديننا, قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾
( سورة الشورى الآية : 39)
أحياناً يتطرف المؤمن متهماً أنه متواضع، فإذا هو ذليل، فالمتكبر على المتكبر صدقة ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه قبيل المعركة يتبختر أمام الأعداء, فقال عليه الصلاة والسلام:
" إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن "
( ورد في الأثر)

أي الطرف الآخر قوي لا تراه ضعيفاً، فقد قرن تواضعه بالمهابة، وقرن حياءه بالشجاعة، في شجاعة، وفي وقاحة، وفي خجل، والخجل مرض نفسي، والوقاحة غلظة خلقية ، وبينهما الحياء والشجاعة، والحياء من علامة الإيمان، الإيمان والحياء متلازمان، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر، فكان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها،

" وقد رأى رجلاً استأجره يغتسل أمام الناس عرياناً، فقال له: خذ أجارتك لا حاجة لنا بك، إنك لا تستحي من الله "
( ورد في الأثر)
لذلك علامة الإيمان الحياء،
" الإيمان بضع وسبعون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "
(أخرجه مسلم عن أبو هريرة في الصحيح)

لكن هناك فرق بين الحياء والخجل، الخجل أن تستحي أن تطلب حقك، الخجل أن تستحي أن تنصح أحداً، الخجل أن تستحي أن تقول لا، ففي حياة المؤمن كلمة لا، لا ورب الكعبة، فالذي يؤكد شخصيتك أحياناً كلمة لا، لا كلمة نعم, ومن أدق صفاته أنه من رآه بديهة هابه، ومن عامله أحبه، له هيبة, دخل عليه رجل فأصابته رعدة، قال:

" هَوِّنْ عَلَيْك، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ "
( أخرجه ابن ماجة عن أبي مسعود في سننه)
لذلك المؤمن له هيبة أما إذا عاملته أحببته، وكان كريماً وصادقاً في كرمه، بعيداً عن حب الظهور، الإنسان أحياناً تذل قدمه من الكرم إلى حب الظهور، بقدم لك مالاً ليسهم ببناء مسجد، ولكنه يشترط لوحة رخامية يكتب فيها أنشأ هذه المئذنة المحسن الكبير، وقد علمت أن محسناً كبيراً في بعض البلاد الإسلامية قدم رقمًا فلكيًّا للدعوة، ولتعليم طلاب العلم، الرقم فلكي ، فسمع أحد الزائرين عن هذا المحسن، وعن هذا الرقم، فتمنى أن يراه، فدعي هذا المحسن إلى الطعام، ودعي الضيف معه ليلتقيا، فجاء الضيف، ولم يأت المحسن، قال: أين ضيفنا؟ قال : هو إلى جانبك، من شدة تواضعه ما عرفه، الإنسان أحيانا يدفع مبلغاً محدوداً جداً يجب أن يملأ الدنيا ضجيجاً بهذا المبلغ .
ما هو الإخلاص ؟

أخوتنا الكرام، علامة إخلاصك أن عملك لا يزداد بالثناء، ولا يضعف بالذم، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، والإنسان حينما تذل قدمه إلى استجداء المديح تضعف مكانته، الإنسان إذا ضعف إخلاصه علق الأمل على المديح، فإن شح المديح استشار من حوله ، كيف وجدت الطعام؟ أعجبك الطعام، هو يستثيره كي يمدح هذه الوليمة، كيف وجدت هذا البيت؟ كيف وجدت هذا الأثاث؟ كيف وجدت هذا الدرس؟ يستثيرك كي تمدحه، هذه حالة مرضية اسمها استجداء المديح، لذلك الإخلاص من لوازمه أنك لا تعلق أهمية لا على المادحين، ولا على القادحين، لأنك تبتغي وجه الله عز وجل، هذه علامة من علامات الإخلاص .
العلامة الثانية: أن المخلص لا يزداد عمله أمام الناس، ولا يقل في خلوته، خلوته كجلوته، وظاهره كباطنه، ومع الناس كخلوته أيضاً، وكان أميناً بأوسع معاني هذه الكلمة .
إليك إخلاص النبي :
لذلك أيها الأخوة قريش تهاجمه، وترد دعوته، وتسفك دينه، وتقدح في رسالته وأموالها عنده، وحينما أراد النبي أن يهاجر ترك ابن عمه في مكانه ليرد الودائع إلى أصحابها ، وأصحابها مشركين، فما بال هؤلاء المسلمين اليوم إذا ذهب إلى بلاد الغرب يشتري بطاقة ائتمان بآلاف الدولارات، ويظن أن هذه غنيمة من حقه أن يأكلها، هذا سوء فهم, هؤلاء الذين أودعوا عند النبي مالاً أليسوا مشركين؟ لمَ لم يقل هؤلاء مشركون؟ أبقى ابن عمه، ووضعه تحت خطر القتل من أجل رد الودائع لأصحابها، وما لم تكن مستقيماً مع كل الناس لا يقبلك الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾
( سورة المائدة الآية : 8 )
مع هؤلاء الذين تكرهونهم, قال تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
( سورة المائدة الآية : 8 )

ما لم تكن محسناً مع الآخرين، مع البعيدين، مع الشاردين، لن يظهر دينك على أنه دين الله عز وجل .
وكان صادقاً في القول والعمل, قال عليه الصلاة والسلام:
" وإن الصدق يهدي إلى البر "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح)
فقد كان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الإخلاص، والإخلاص أيها الأخوة ينفع مع قليل العمل، وعدم الإخلاص لا ينفع لا مع قليل العمل ولا مع كثيرة,
" يا رب تعلمت العلم، يقال له يوم القيامة كذبت، تعلمت العلم ليقال عالم وقد قيل خذوه إلى النار، يا رب قاتلت في سبيلك، يقال له كذبت، قاتلت ليقال عنك شجاع وقد قيل خذوه إلى النار "
( أخرجه أحمد في مسنده)
لذلك ينبغي أن نرعى قلوبنا، وأن نهتم بنوايانا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر:
" إنما الأعمال بالنيات "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح)
أهمية دراسة السيرة النبوية :

أيها الأخوة، لماذا نحن ندرس سيرة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأن دراسة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم، دققوا فرض عين على كل مسلم، لماذا؟ لأن الله يقول:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
( سورة الأحزاب الآية : 21)
كيف يكون النبي أسوة لنا؟ إن لم نعرف سيرته في بيته، مع زوجته، مع أولاده, مع أقربائه، مع أصحابه، في سلمه، في حربه، في غناه، في فقره، إذاً: هو أسوة لنا .
الامتحانات التي مر بها النبي :
أيها الأخوة, أذاقه الله الفقر، دخل بيته، وسأل أهله:
" أعندكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم "
( ورد في الأثر)
أحياناً المسلم يتأخر الطعام يقيم الدنيا ويقعدها، ويغضب، ويزمجر، ويكسر, ويعلو صياحه في البيت إذا تأخر الطعام، أما النبي صلى الله عليه وسلم:
" أعندكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم "
( ورد في الأثر)
أذاقه الله النصر، فدخل مكة مطأطئ رأسه حتى كادت عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله،
(( ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم}, اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
وذاق القهر في الطائف فدعا دعاءً يحتاجه المسلمون اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي "
(أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر)
أذاقه الله موت الولد, فقال: " إن العين لتدمع، والقلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون "
( أخرجه البخاري في الصحيح)
أذاقه الله أن تتهم زوجته بأثمن ما تملك، وتأخر الوحي أربعين يوماً، لو أن الوحي بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاءت آية التبرئة بعد ساعة، لكن أراد الله أن يتأخر الوحي بتبرئة السيدة عائشة أربعين يوماً، إذاً: الوحي لا يملكه النبي لا رداً ولا استدعاء .
شيء آخر، لما جاءت آية تبرئة السيدة عائشة,
" فقال أبو بكر لابنته: قومي فاشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله لا أقوم إلا لله، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: عرفت الفضل لأهله "
( ورد في الأثر)
كيف يستقبل المؤمن في هذه الأيام الابتلاء ؟
معظم المؤمنين هداهم الله إلى ما هو أفضل ما داموا في بحبوحة، وفي نعيم، وفي صحة جيدة، وفي دخل وفير شاكرون حامدون، فإذا امتحنهم الله بشيء تضعضعوا، وضعفت ثقتهم بالله عز وجل، والبطولة أن تنجح بالامتحان , سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فقال: لن تمكنوا قبل أن تبتلوا .

وأنا أؤكد لكم أنه يستحيل أن تصل إلى الجنة من دون ابتلاء، لقوله تعالى:

﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية : 30 )
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
( سورة العنكبوت الآية : 2 )
أيها الأخوة، نحن ممتحنون بمادتين بالذي أعطانا، وبالذي زوي عنا، ممتحن بالصحة ، وممتحن بالمرض، ممتحن بالغنى، وممتحن بالفقر، ممتحن بالقوة، وممتحن بالضعف، ممتحن بالوسامة، وممتحن بالدمامة، من هنا يأتي الدعاء الرائع:
" اللهم وما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب "
[ أخرجه الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطمي في سننه)
إليكم فصاحته التي كانت تشرق من فمه الشريف كالدر المنثور :
أيها الأخوة, كان فوق كل هذا فصيح اللسان، وقد يقال جمال الرجل فصاحته، والفصاحة ككأس من الماء، المعاني مضمون هذا الكأس، والفصاحة شكل هذا الكأس، فأنت لا تقبل على شراب نفيس بكأس لا يليق، كما أنك لا ترضى أن تشرب شراباً خسيساً بكأس نفيس ، فلا بد من أن يجتمع المضمون مع الشكل، والمؤمن له شكل مقبول، فصيح اللسان, وقد قال سيدنا عمر: تعلموا العربية فإنها من الدين، الإنسان الضعيف في اللغة مشكلته كبيرة جداً, ولغتنا دقيقة جداً، عندنا في اللغة, كلمة لمح لها معنى، وكلمة لاح لها معنى، لاح يعني ظهر واختفى، أما لمح يعني نظر, وفرق كبير بين لاح ولمح، فهذه المعاني دليل على اتساع اللغة, واختارها الله لتكون لغة كلامه, قال تعالى:
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾
( سورة الشعراء الآية : 195)

وتعلموا العربية فإنها من الدين، أنا لست متشائماً لكن لا أصدق طالباً جامعياً يحمل إجازة في اختصاصه نكلفه أن يقرأ صفحة من كتاب الله دون أن يخطئ عشرات الأخطاء، أخطاء كثيرة جداً، هذه وصمة عار في حق المسلم، تعلموا العربية فإنها من الدين، كان عليه الصلاة والسلام فصيحاً, ويقول:

" أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش "
( ورد في الأثر)
وقريش أفصح قبيلة في العرب، هذا أسلوب اسمه تأكيد المدح بما يشبه الذم, قال الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فكان صلى الله عليه وسلم فصيح اللسان، ثابت الجنان، في حنين قال: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح)
وكانت معركة حنين فاصلة، فأخذ تراباً وذره في عيون القوم, وقال:
" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح)
وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه .
هذا هو نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة, كان عليه الصلاة والسلام قوياً في عقله, وكان عليه الصلاة والسلام رحمةً للكبير والصغير، لين الجانب، رقيق المشاعر, يحب الصفح والعفو عن المسيء, وإليكم مثال ذلك: حاطب بن بلتعة ارتكب خيانة عظمى، كتب كتاباً إلى قريش إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، في كل نظام العالم جزاء الخيانة العظمى الإعدام، فجاء عمر، وقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر، إنه شهد بدراً، لم يهدر عمله السابق، تعال إلي يا حاطب، ما حملك على ما قلت؟ قال: والله يا رسول الله، ما كفرت ولا ارتدت، لكن كنت لصيقاً في قريش، فأردت في هذا الكتاب أن أحفظ مالي وأولادي، وأن واثق أن الله سينصرك، فاغفر لي ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً، فكان يحب العفو, والصفح عن المسيء .
جاء عكرمة مسلماً، من عكرمة؟ ابن أبي جهل، ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفنن عشرين عاماً للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال عليه الصلاة والسلام:
" يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت "
( ورد في الأثر)
وكان عليه الصلاة والسلام صابراً في مواطن الشدة، وكان جريئاً في قول الحق .
غداً إن شاء الله :
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع فقه سيرته صلى الله عليه وسلم، ونحاول أن نستنبط منها الدروس والعبر التي تنفعنا في حياتنا، لأن هذا النبي الكريم جعله الله أسوة لنا، ومن لوازم أن يكون أسوة لنا أن نتعرف إلى سيرته ليكون الشخصية التي نمشي على طريقها .






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-02-2018, 04:36 PM   #5


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : (الخامس )

الموضوع : شخصية النبى صلى الله علية وسلم








الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
تتمة الصفات الخُلقية للنبي عليه الصلاة والسلام :
1- صفة الأدب التي كان يتحلى بها النبي الكريم :
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وقد كان موضوع الدرس الماضي الحديث عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخَلقية، وبعض صفاته الخُلقية والآن نتابع الحديث عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخُلقية، لأن الله سبحانه وتعالى أثنى على خلقه العظيم, فقال تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم الآية : 4)

لقد كان صلى الله عليه وسلم وافر الأدب، كان يقول:

" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
(أخرجه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود )
وحينما قال:
" بني الإسلام على خمس "
( أخرجهما البخاري ومسلم عن ابن عمر في الصحيح)
تبين من هذا الحديث أن الإسلام بناء أخلاقي، وأن دعائمه أركان هذا الدين، يؤكد هذا المعنى أن العالم الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى, يقول: " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "، قال عليه الصلاة والسلام:
" أدبني ربي فأحسن تأديبي "
(أخرجه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود )
وحينما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقه, قالت:
" كان خلقه القرآن "
( أخرجه مسلم عن عائشة في الصحيح)
2- صفة التواضع التي كانت تظهر في خلقه الكريم :
كان صلى الله عليه وسلم وافر الأدب، جم التواضع، وعلامة إيمانك بالله التواضع، وعلامة تعظيمك لله التواضع، لأن الربَ ربٌ، والعبدُ عبدٌ، شأن العبد التواضع، وشأن الله سبحانه تعالى أنه عظيم، وأن كل شيء يصدر عنه عظيم، وأن الذي لا يرى عظمة الله يستحق خسارة أبدية لا توصف .

أيها الأخوة الكرام، تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أحد أسباب شمائله وخلقه العظيم، كان إذا دخل عليه رجل وأصابته رعدة, يقول له:

" هون الله عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد "
(أخرجه الحاكم من حديث جرير في المستدرك)
وكان إذا سافر مع أصحابه، وقال أحدهم: علي ذبح الشاة، وقال الثاني: علي سلخها، وقال الثالث: وعلي طبخها، وقال عليه الصلاة والسلام: علي جمع الحطب، يقال له: يا رسول الله، نكفيك ذلك، يقول:
" قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا على أصحابه "
( ورد في الأثر )
3- كان يبدأ الناس بالسلام :
كان عليه الصلاة والسلام, يقول:

" أفشوا السلام بينكم "
(أخرجه أحمد في مسنده عن الزبير بن العوام )
السلام من سمة المؤمنين، إلقاء السلام سنة مؤكدة، لكن رد السلام فريضة، وأنت حينما تقول لمن تلتقي به: السلام عليكم فقد جعلت العلاقة بينك وبينه علاقة سلام، كان يبدأ الناس بالسلام ، وينصرف بكله إلى محدثه، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به، هناك من يتعلم فن الكلام
لكن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا فن الكلام، وعلمنا فن الاستماع، ولا يتقن فن الاستماع إلا القلة، يتقن فن الكلام كثيرون من البشر، لكن الذين يتقنون فن الاستماع قليلون جداً، فكان يصغي إلى محدثه، ينصرف بكله إلى محدثه، وهذا تكريم له، وهذا أدب ما بعده أدب أن تستمع، أحياناً الإنسان لا يصغي إلى من يحدثه، ولو كان أقرب الناس إليه .
أما إذا صافحه أحد أصحابه فكان آخر من يسحب يده إذا صافح إلى أن يسحب الصحابي يده من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تسلم على الناس بحرارة، بمودة، بطلاقة وجه، أن تسألهم عن أحوالهم، وعن أولادهم، وعن صحتهم وعن معاشهم، وعن أعمالهم، هذا منتهى الأدب، ومنتهى الود .
4- كان يصغي للزوجة ويتبادلا الحديث معاً :

كان عليه الصلاة والسلام يصغي إلى زوجته، وأحياناً بعد مضي وقت من الزواج ترفع الكلفة بين الزوجين، فقلّمَا يصغي الزوج إلى زوجته، لكنه عليه الصلاة والسلام أصغى إليها كثيراً، وقد حدثته عن قصص كثيرة، حدثته مرة عن أبي زرع حديثاً طويلاً، وتحدثت عن محبته لأم زرع، وعن وفائه لها، ثم أسفت أشد الأسف, حينما قالت: لكنه طلقها، فقال عليه الصلاة والسلام: أنا لكِ كأبي زرع، لكني لا أطلقك .


5- معاملته مع الناس :
كان عليه الصلاة والسلام بشوشاً، ضاحكاً، يلقي أصحابه بالبشاشة، وقد قال:

" تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ لكَ صدَقةٌ "
( أخرجه الترمذي عن أبي ذر في سننه)
لكنه كان على درجة عالية من الحكمة، ومن أخذ الحيطة .
فكان عليه الصلاة والسلام يحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي بشره عن أحد، إذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وهذا أيضاً نوع من الأدب، لا أن تلقي عليه مبلغاً من المال إلقاء، لا أن تكلف أحد أن يعطيه هذا المال، وإذا جلسَ جلس حيث ينتهي به المجلس، أناس كثيرون إذا دعوا إلى احتفال إن لم يكن لهم مكان في الصف الأول غضبوا أشد الغضب، لم يُرَ ماداً رجليه قط ولا بين أصحابه، وهذا أدب جم، هناك جلسة فيها أدب، هناك وقفة فيها أدب، هناك حركة فيها أدب، هناك نظرة فيها أدب . 6- من أقواله :
كان عليه الصلاة والسلام, يقول:
" برئ من الكبر من حمل حاجته بيده، وبرئ من النفاق من أكثر من ذكر الله، وبرئ من الشح من أدى زكاة ماله "
(ورد في الأثر)

الذي يؤدي زكاة ماله لا يمكن أن يوصف بالشح، وإذا حملت حاجتك بيدك، ولتكن مرتبتك أية مرتبة، برئت من الكبر، وقد علمنا ألا نسأل الناس شيئاً .
كان الصحابي الجليل ينزل عن ناقته ليلتقط زمام ناقته، ولا يسأل أصحابه أن يعطوه الزمام، لم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته، أو حاجة صاحب أو جار، كان في خدمة أصحابه، لما كانت معركة بدر كان الصحابة ثلاثمئة رجل أو يزيدون قليلاً، وكانت الرواحل قليلة، فقال عليه الصلاة والسلام:
" وَأَنَا وَعَلِيٌّ وَأَبُو لُبَابَةَ عَلَى رَاحِلَةٍ، فَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ e، فَكَانَتْ نَوْبَةُ رَسُولِ اللهِ e ـ دورُه في السَّيْرِ ـ فقالا له : نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ ـ ليظلَّ راكباً ـ فقال : مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي عَلَى السَّيْرِ، وَلاَ أَنَا بِأَغْنَى مِنْكُمَا عَنِ الأَجْرِ "
( أخرجه النسائي في السنن الكبرى )
7- كان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته بيده :
كان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته, ويقول: أنا أولى بحملها، الله عز وجل وصف الأنبياء, فقال:
﴿إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾
( سورة الفرقان الآية : 20 )
وفي هذه الآية ملمح دقيق، أن هذا الإنسان الذي يأكل الطعام ليس إلهاً، الإنسان الذي يفتقر في وجوده، وفي استمرار وجوده إلى الطعام، لا يمكن أن يكون إلهاً، بل إن الإنسان مفتقر مرتين، مفتقر إلى أن يأكل، ومفتقر إلى تحصيل ثمن الطعام، قال تعالى:
﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾
( سورة الفرقان الآية : 20 )
8- كان يلبي دعوة من دعاه :
كان عليه الصلاة والسلام يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، وكان يقول:
" من دعي ولم يلبي فقد عصا أبا القاسم "
( أخرجه أحمد في مسنده)

وكان يقول:

" لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت "
(أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في الصحيح)
وقد دعي مرةً، وقدّم له خل, فقال:
" نعم الإدام الخل "
(أخرجه مسلم عن عائشة في الصحيح)
وأنت حينما تدعى إلى طعام، أو إلى احتفال، أو إلى عقد قران، يجب أن تعلم أن تلبيتك لهذه الدعوة نوع من العبادة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة من دعاه ، لكن الناس أحياناً يجيبون دعوة الأقوياء والأغنياء، ولا يجيبون دعوة الفقراء، وهذا مأخذ كبير على الإنسان .
9- كان يقبل عذر المعتذر :
كان عليه الصلاة والسلام يقبل عذر المعتذر، العظماء أيها الأخوة يغفرون الزلات، ويقبلون الأعذار
فهذا الذي ارتكب خيانة عظمى, قال له: يا حاطب، وقد أخبر قريش أن محمداً سيغزوهم، ما حملك على ما فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت، ولا ارتددت، ولكني لصيق في قريش أردت بهذا الكتاب أن أحمي أهلي ومالي، وأنا موقن أن الله سينصرك ، فاغفر لي ذلك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إني صدقته فصدقوه, ولا تقولوا فيه إلا خيراً, الإنسان اللئيم لا يسترضى، ولا يرضى، لكن الإنسان المؤمن يسترضى ويرضى, كان يقول:

" من أتاه أخوه متنصلا فليقبل ذلك منه محقا أو مبطلا "
(أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة )
كان يقبل عذر المعتذر، كان يخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويكنس داره ، وكان في مهنة أهله، أي في خدمة أهله، أناس كثيرون يترفعون أن يقوموا بأعمال في المنزل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أنك إذا قمت في بعض الأعمال في المنزل تمتنت العلاقة بينك وبين زوجتك .
10- كان يأكل مع الخادم ويكرم الضيف :

كان صلى الله عليه وسلم يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، جاءه ملك من ملوك الغساسنة، عدي بن حاتم، يظنه ملكاً أو يظنه نبياً، هو في حيرة، فلما لقيه سأله عن اسمه وتكريماً له دعاه إلى بيته، وفي الطريق استوقفته امرأة مسنة، فوقف معها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقال في نفسه: والله ما هذا بأمر ملك، إنه نبي، فلما دخل إلى بيته أعطاه النبي وسادة من أدم محشوة ليفاً، قال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض, أرأيت إلى هذا التواضع, وإلى تكريم الضيف
دخل مرةً على عبد الملك بن مروان وفد تقدمهم غلام، فغضب أشد الغضب، وقال لحاجبه: ما شاء أحد أن يدخل عليه حتى دخل, حتى الصبيان, فابتسم هذا الصغير, وقال: أيها الأمير، إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك، ولكنه شرفني .
11- كان دائم الفكر , متواصل الأحزان , يحمل هم أمته :
كان صلى الله عليه وسلم يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان لأنه يحمل هم البشرية ونحن إن حملنا همّ أسرتنا هذا عمل طيب، وإن حملنا هم الأسرة الكبيرة هذا عمل أطيب، أما حينما تحمل هم المسلمين فهذا عمل عظيم، كان يقول:

" لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا "
(أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء)
كان يمشي هوناً، وهناك ملمح في معنى يمشي هوناً، أي أن الدنيا لا تشغله عن هدفه الكبير، وأن مشكلات الدنيا لا تصرفه عن معرفة ربه، ولا عن طلب مرضاته، أناس كثيرون أقل مشكلة تنهي تطلعهم إلى الآخرة، أقل قضية مزعجة تصرفهم عن طلب الحق، وقد وصف الله جل جلاله عباد الرحمن:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾
( سورة الفرقان الآية : 63 )
يعني يفكرون في آخرتهم، هدفهم واضح، هدفهم كبير، مشكلات الدنيا لا يسمحون لها أن تشغلهم عن آخرتهم، ولا عن تحقيق أهدافهم، متواصل الأحزان، دائم الفكر، هذا الفكر يعد أعظم منحة منحنا الله إياها، هذا الفكر من أجل أن تعرف الله به، ومن أجل أن تبحث عن طرق رضوانه، لكن معظم الناس أعملوه لغير المهمة التي خلق لها .
12- كان يألف ويؤلف :
كان دمثا رقيق الحاشية، يألف ويؤلف, من رآه بديهة هابه, ومن عامله أحبه، كان دمثا ليس بالجاحد، ليس الذي ينكر المعروف، قبيل وفاته وقف صلى الله عليه وسلم خطيباً، وقال:
" من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه، لا يقولن رجل : إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني "
( ورد في الأثر)
كان لا يهين أحداً، يترفق بأصحابه، جاء عكرمة ابن أبي جهل مسلماً, فقال: إياكم أن تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت .
( ورد في الأثر)
13- انظر إلى تعظيمه للنعمة :
كان صلى الله عليه وسلم يعظم النعمة مهما دقت، أن تشرب كأس ماء هذه نعمة لا يعرفها إلا من أصيب بالفشل الكلوي، أن تنام مرتاحاً هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقد نعمة النوم، أن تدخل إلى بيت يؤويك, كان عليه الصلاة والسلام, يقول:

" الحمد لله الذي آواني ، وكم من لا مأوى له "
( أخرجه الترمذي في سننه)
وإذا استيقظ من منامه, يقول:
" الحمد لله الذي رد إلي روحي، وعافاني في بدني وأذن لي بذكره "
( أخرجه الترمذي في سننه)
نحن غارقون في نعم لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك نكثر الشكوى .
إنسان أخذ من ثوبه قشة فرفع يديه، وقال: جزاك الله خيراً، ما ذم طعاماً قط، وكم من إنسان يدعى إلى أفخر طعام, فيقول: هذا الطعام فيه مشكلة؟ ما ذم طعاماً قط، وهذا من أخلاقه العلية، ما ذم طعاماً قط ولا مدحه، ولم يذم مذاقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا، ولا ما كان لها
شخص اقتدى بخلق رسول الله عليه الصلاة والسلام إليكم بيانه :

بعضهم قال: لي صاحب كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس أعظم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، فكان لا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، ولا تغضبه الدنيا، وما كان لها، يعرف حجمها يعرض أنها عرض زائل، يعرف أنها تنتهي بالموت، يعرف أن الدنيا جيفة طلابها كلابها، يعرف ويقول: إن هذه الدنيا دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، وجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، ولا يغضب لنفسه أبداً، لا يغضب إلا لله، يعني حظوظه وضعها تحت قدمه، ويرضى لله، يفرح لله، ويحزن لله، إذا غضب أعرض وأشاح، يعني علامة غضبه الإعراض فقط، هناك من يصخب، ومن يشتم، ومن يعلو صياحه, وكان إذا فرح غض بصره، وكان يؤلف ولا يفرق، يقول ليس منا من فرق، هناك من يفرق بين الزوج وزوجته، وهناك من يفرق بين الأخ وأخيه، والشريك وشريكه، والجار وجاره، كان يؤلف ولا يفرق، يقرب ولا ينفر، يكرم كريم كل قوم، كان يعرف أقدار الناس .

14- كان يحق الحق ويبطل الباطل :

كان صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، لم يكن يعيش في برج عاجي، بعيد عن هموم الناس، كان يحمل هموم الناس، ويحل مشكلاتهم, ومن كرم أخلاق الإنسان، إذا كان هناك مشكلة سأل عنها، وبحث عن أسبابها، وسار في طريق حلها، كان يحسن الحسن ويصوبه, ويقبح القبيح ويوهنه، عمل حسن يجب أن تصوبه، وأن تثمنه, وأن تثني على فاعله، هناك إنسان لا يتكلم بكلمة، قناص يبحث عن الخطأ فقط، أما الإنسان الكامل إذا رأى عملاً طيباً، رأى موقفاً أخلاقياً، رأى موقفاً كريماً يثني على صاحبه, كان يتفاعل مع الأحداث، لا يقصر عن حق ولا يجاوزه، أحيانا يتجاوز الإنسان الحدود التي رسمت له، وأحيانا يقصر عن الواجبات التي كلف بها .

15- كان لين العريكة , لطيف المعشر , يصبر على الغريب :
كان صلى الله عليه وسلم وسطيا, ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، هذه بطولة، آلاف مؤلفة حوله كل واحد من أصحابه يظن أنه أقرب الناس إليه، من يستطيع ذلك؟ من سأله حاجة لم يرده إلا بها,
" يا رسول الله، لمن هذا الوادي، قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله، هو لك, قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر "
(ورد في الأثر)

كان صلى الله عليه وسلم ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا عياب، هذا الذي يبحث عن العيوب، هو قناص، أينما رأى عيباً ذكره، ووسع دائرته, وعممه على كل الناس, يتغافل عما لا يشتهي ، الشيء الذي لا يشتهيه يتغافل عنه، ولا يخيب فيه مؤملة، وكان لا يذم أحداً، ولا يعيره، الذنب شؤم على غير صاحبه، إن ذكره فقد اغتابه، وإن عيره فقد ابتلي به، وإن رضيه شاركه في الإثم، كان يعلمنا إذا رأيت صاحب مصيبة أحمد الله أنك معافى من هذه المصيبة، ولا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه .
أيها الأخوة, قد تجلس في مجلس 90% من الكلام لا معنى له ، ولا طائل منه، وليس له فائدة، وليس له معنى، كلام فارغ، فكان عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، يعيش معهم، هذا الذي يجلس مع قوم دون أن يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ليس منهم، موقف في جفاء، فيه ترفع، فيه استعلاء .
كان صلى الله عليه وسلم شيء شغل الناس يشاركهم بانشغالهم، شيء أقلق الناس يشاركهم في قلقهم، شيء أفرح الناس يشاركهم في فرحهم، يصبر على الغريب,
" قال: اعدل يا محمد، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل "
( أخرجه أحمد في مسنده)
يصبر على الغريب، " جاء أعرابي وبال في المسجد، فقام إليه الأصحاب، قال: دعوه ، لا تزرموا عليه بوله، فلما انتهى, قال: يا أخا العرب، إن هذا المكان ليس لهذا الذي فعلت، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، قال: يا أخي، لقد حجرت واسعاً "
( أخرجه البخاري في الصحيح)
الخلق الإسلامي الأصيل متفرع عن الإيمان بالله جل جلاله :
أيها الأخوة، الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان
لكن أعيد وأقول: الخلق الأصيل هو الخلق الذي تستمده من اتصالك بخالق الأكوان، أنت حينما تتصل بالرحيم تكون رحيماً، وحينما تتصل بالحليم تكون حليماً، وحينما تتصل بالودود تكون ودوداً، وحينما تتصل بالعفو تكون عفواً، فمكارم الأخلاق كما ورد في الأثر مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله تعالى عبداً منحه خلقاً حسناً، الأخلاق الأصيلة لا تكون إلا من الله عز وجل، نلتقي ببعض الناس نجدهم على خلق لكن هذه أخلاق الأذكياء, أما الأخلاق الأصيلة سببها التدين الحقيقي، وسببها الاتصال بالله، لكن أخلاق بعض الناس أخلاق أساسها المصلحة، وأساسها تفوقهم في ذكائهم، لكن هؤلاء إذا هددت مصالحهم ينقلبون إلى وحوش، فلذلك يقول الله عز وجل:

﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
( سورة آل عمران الآية : 179 )
أيها الأخوة، في درس قادم إن شاء الله نتابع الحديث عن شمائله صلى الله عليه وسلم ، وعن بعض دقائق سيرته في البدايات .






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-03-2018, 07:31 AM   #6


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( السادس )

الموضوع : اسماء النبى صلى الله علية وسلم






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أسماء النبي الكريم كما ورد في الصحاح :
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة، وننتقل إلى أسمائه صلى الله عليه وسلم، للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة، استخرجها العلماء, وشرحوا معانيها، وما تدل عليه، وقد ثبت في الصحيحين عن مُحمّدِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عن أَبِيهِ قال, قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إِنّ لِي خمسة أَسْمَاءَ: أَنَا مُحمّدُ، وَأَنا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الّذِي يَمْحُو الله بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمَيّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ؛ أي الّذي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌ "
( أخرجهما البخاري ومسلم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه في صحيحهما )
وفي حديث آخر في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً, فَقَالَ: " أَنَا مُحَمّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيّ التّوْبَةِ، وَنَبِيّ الرّحْمَةِ "
( أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري في الصحيح)
أيها الأخوة الكرام، أسماء النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
1- نوع خاص به لا يشارك فيه غيره من الرسل، كهذه الأسماء الخمسة التي وردت في حديثه الصحيح .
2- ونوع آخر يشاركه فيه بقية الرسل كرسول الله، والشاهد، والنذير، ونبي الرحمة .
صيغة المبالغة التي اشتق منها اسم محمد :
لكن من أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم ( محمد ) هذا اسم مفعول من الحمد، يتضمن الثناء على المحمود، ومحبته، وإجلاله، وتعظيمه، وقد كان عليه الصلاة والسلام محموداً عند الله، وكان محموداً عند الناس، وكان محموداً عند نفسه، قد يستطيع الذكي جداً أن يكون محموداً عند الناس، لكن لا يستطيع أن يكون محموداً عند نفسه, قال تعالى:

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
( سورة القيامة الآية : 14-15 )
وقد يكون محموداً عند الله لأداء العبادات، وانضباطه وفق منهج الله، ولا يكون محموداً عند الناس، لعدم رحمته، ولعدم تحليه بالأخلاق النبوية، وقد يكون محموداً عند نفسه، وليس محموداً عند الناس، فالبطولة في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان محموداً عند الله، ومحموداً عند الناس، ومحموداً عند نفسه .
فلذلك اسم ( محمد ) صيغة اسم مفعول من الحمد، على وزن مفعل، كمعظم، محبب مبجل، هذه الصيغة لاسم الفاعل تعني التكثير والمبالغة، فإذا اشتق من هذا الفعل اسم فاعل فمعناه كثرة صدور الفعل منه مرةً بعد مرة، كأن تقول: مفهم، مبين، مخلص، مفرج، وإن اشتق منه اسم مفعول فمعناه كثرة تكرر وقوع الفعل عليه، مرةً بعد مرة، إما استحقاقاً، وإما وقوعاً، فمحمد هو الذي كثر حمد الحامدين له مرةً بعد مرة، أو الذي يستحق أن يحمد مرةً بعد مرة، إما أن الحمد وقع على ذاته الشريفة، وإما أنه يستحق الحمد لأنه جاء لخير البشرية .
الاستقامة عين الكرامة :

أيها الأخوة، أعطيكم قاعدة رائعة: إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما استعملك، وإن أردت أن تكون لك كرامة عند الله فاعلم علم اليقين أن أعظم كرامة عند الله أن تعرفه، وأن أعظم كرامة عند الله أن تستقيم على أمره .
فالاستقامة عين الكرامة، ومعرفة عز وجل أعظم كرامة، لأنها لا تحتاج لخرق العادات, قال تعالى:
﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
( سورة النساء الآية : 113)


انظر إلى الاختلاف المتباين في التطبيق بين اسم الشخص وسلوكه :
أيها الأخوة الكرام، شيء مؤسف جداً أن يكون اسم المسلم كامل، وهو ناقص، أن يكون اسمه سعيد، وهو شقي، فالبطولة أن يكون المسمى مطابقاً لاسمك، وفي اللغة العربية قاعدة: أنك إذا عرفت الاسم فذلك أنه يتصف بخصائص هذا الاسم، فلان راشد، إن قلت: جاء الراشد أي هو في سلوكه راشد، لذلك من حق الابن على أبيه أن يحسن اسمه، وأفضل الأسماء ما عبّد وحمد .
من هما والدي الرسول , وأين ولد , وفي أي عام ؟

أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام أنجبه عبد الله بن عبد المطلب، إذاً: تزوج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، ابن زهرة، ابن كلاب، ولم ترد تفاصيل هذا الزواج من طرق صحيحة، لكن الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة زواج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة بن وهب .
تفيد أوثق الروايات التي ذكر مولده صلى الله عليه وسلم أنه ولد في 12 من شهر ربيع الأول من عام الفيل، بالمناسبة كل 365 سنة يأتي يوم الاثنين موافقاًَ لـ 12 من ربيع الأول، ونحن في هذا العام كان يوم الاثنين كان موافقاً لـ 12 من ربيع الأول، أن يأتي الـ 12 من ربيع يوم الاثنين هذا كل 365 عام، وهناك شيء بالسيرة اسمه الإرهاص، يعني علامة مبكرة .
ولد عليه الصلاة والسلام في عام الفيل، حينما توجه أبرهة الأشرم إلى مكة المكرمة، وإلى الكعبة ليهدمها، والقصة عندكم معروفة، حينما قال أبو طالب: إن للبيت رباً يحميه .
لا تقلق على دين الله :
أنا أقول لكم الآن قياساً على هذه المقولة: لا تقلق على هذا الدين، إنه دين الله، والله عز وجل يتولى حمايته، ولن تستطيع قوة في الأرض مهما طغت وبغت أن تفسد على الله هدايته لخلقه, قال تعالى:
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾
( سورة التوبة الآية : 32 )

بربكم لو أن واحداًُ من الناس توجه إلى الشمس، ونفخ فيها كي يطفئها، أين مكانه الصحيح؟ في مستشفى المجانين، هؤلاء الطرف الآخر يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، إذا كانت نفخت من الفم لا تفعل شيئاً في ضوء الشمس، فكيف بنور الله عز وجل؟

﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾
( سورة الصف الآية : 8 )
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾
( سورة الأنفال الآية : 36 )
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 12 )
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
( سورة الأعراف الآية : 128 )
أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد، لا تقلقوا على هذا الدين، إنه دين الله، ولكن يجب أن نقلق على أنفسنا، إذا سمح الله لنا أو لم يسمح أن نكون جنوداً لهذا الدين، وهو شرف عظيم .
لا تجزع أيها الإنسان من قضاء الله فيك :
أيها الأخوة, قد يسأل سائل: لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتيماً؟ لم ير النبي صلى الله عليه وسلم أباه، فقد مات أبوه في المدينة عند أخواله بني النجار، وقد ذكر الزهري أنه بعث عبد المطلب ولده عبد الله ليشتري له تمراً من يثرب فتوفي هناك، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في حجر عبد المطلب، وقد أشار القرآن الكريم إلى يتمه صلى الله عليه وسلم, فقال:
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى ﴾
( سورة الضحى الآية : 6 )

مرةً أيها الأخوة، سمعت كلمة هزت مشاعري، قال أحدهم يخاطب صديقه: إن كان هذا الطفل ليس له أب, أليس له رب؟ فالذي فقَد أباه هو في كنف الله, قال تعالى:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة الآية : 216 )
أحياناً الذي فقد أباه ينبغ نبوغاً شديداً، الأب القوي الغني قد يكون عقبة أمام ابنه في بلوغه أعلى المراتب، كل شيء ميسّر، أما هؤلاء الصغار اليتامى فليس أمامهم شيء، فيجدون ، ويجتهدون، لكن الذي أتمنى أن يكون واضحاً لديكم أن الإنسان مخير فيما كلف، كلف أن يصلي فهو مخير، كلف أن يصوم، كلف أن يغض بصره، كلف أن يتحرى الحلال في دخله، أن ينفق ماله وفق منهج الله، ولكن لم يكن مخيراً باختيار جنسه ذكرا كان أم أنثى, ولم يكن مخيراً في أمه وأبيه، ولم يكن مخيراً في بلدة ولادته، ولم يكن مخيراً في زمان ولادته، ولم مخيراً في شكله، ولم يكن مخيراً في خصائصه وقدراته، اعلم علم اليقين أن الذي لم تكن فيه مخيراً هو أبدع ما يكون، وقد عبر عن هذا الإمام الكبير أبو حامد الغزالي, فقال: " ليس في الإمكان أبدع مما كان " .

الذي لم تكن مخيراً فيه هو أنسب شيء إليك، ويوم القيامة يكشف عن سر القضاء والقدر الذي لم تكن فيه اختيار، لذلك تلخص علاقة العباد مع الله بكلمة واحد يوم القيامة, هي قوله تعالى:

﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة يونس الآية : 10)
لا بد من أن ترضى عن الله، إنسان يطوف حول الكعبة، ويقول: يا رب، هل أنت راضٍ عني؟ قال الإمام الشافعي, وكان وراءه: يا هذا، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن إدريس، قال: كيف أرضى عن الله، وأن أتمنى رضاه؟ قال: يا هذا، إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله .
لذلك ينبغي أن تعلم علم اليقين أن الذي لم تكن فيه مخيراً، هو أفضل شيء لك، ولكن بحسب ما أعده الله لك من سعادة أبدية .
تحليل قصة حادثة شق الصدر التي تمت في فترة الرضاعة في ميزان العلم الشرعي :
أيها الأخوة, صح أن (ثويبية) مولاة أبي لهب أرضعته صلى الله عليه وسلم، وثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب كان أخاه من الرضاعة، وصح أيضاً أن حليمة السعدية أرضعته، وعاش معها في البادية، وقد حدثت معجزة شق الصدر، لا بد من تمهيد لهذه الحادثة
النص أيها الأخوة أو الواقعة ترتدي ثوباً، فنحن نقبل النص أو الواقعة بثوب معين، ونرفضها أو نرفض النص بثوب آخر، مثلاً: لو قال أحدنا: لله رجال، إذا أرادوا أراد، إن ألبست هذا النص ثوب أن هؤلاء الرجال لهم إرادة مستقلة عن إرادة الله فهو الشرك بعينه، بل الكفر بعينه، وإذا قصدت من هذا النص, أي أنهم رجال مستجابو الدعوة، فلا شيء في ذلك.
إذا توهمنا أن شق الصدر معناه أن الله نزع من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الملكين حظ الشيطان فكان نبياً ـ هنا مشكلة ـ قد يأتي إنسان، ويقول: لو أن الشر علقة سوداء في قلب كل إنسان لمَ لمْ تنزع من كل البشر، وكلهم إلى الجنة، بل لمَ وضعت أصلاً؟ أما حينما تفهم شق الصدر إرهاصاً فهي معجزة مبكرة، ودليل مبكر، فهذه الحادثة في هذه الشروح، وفي هذا التوضيح، هي إرهاص من إرهاصات النبوة، فهذا الإنسان الذي ولدته السيدة مريم الصّديقة، وكلم أمه, قال تعالى:
﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً﴾
( سورة مريم الآية : 15 )
هل نسمي هذه معجزة؟ هذه نسميه إرهاصًا، حينما يكبر, ويرسله الله نبياً كلامه في المهد إشارة مبكرة إلى نبوته، وشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم إشارة مبكرة إلى نبوته، ومعنى ذلك أن في النبوة شيئاً اختارهم الله على علم، وفي النبوة شيء آخر وهبي، فشق الصدر من الوهبيات، أما محبة رسول الله، وإقباله على الله، وإخلاصه, وخدمته للخلق هذا من المؤهلات، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة آل عمران الآية : 33)

هذا دليل مؤهلات، اصطفاهم الله على علم، إن الله اختارني، واختار لي أصحابي، كل هذه النصوص تؤكد المؤهلات التي يتمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما شق الصدر ، والمعجزات، والوحي، والذاكرة التي لا تنسى، فهذه كلها من الوهبيات التي هي أدوات تعريف، وأدوات التبليغ والرسالة .
أما نص حادثة شق الصدر, فعن أنس بن مالك فيما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرابعة من عمره أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان, فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعونه إلى أمه أي حليمة السعدية، فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون، وقال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما شق الصدر الثاني فكان ليلة الإسراء .

رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب :

أيها الأخوة، ولد قبل أن يرى أباه، لكن أمه توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة، وهو في السادسة من عمره، وقد ترك يتم النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه أثراً عميقاً، فكان قد ولد يتيم الأب، ثم فقد أمه في طفولته، لكن جده عبد المطلب كفله ورعاه، غير أن جده ما لبث أن توفي بعد أن أوصى ولده أبا طالب برعايته، وكان قد بلغ الثامنة، ولد لا يعرف أباه، في السادسة توفيت أمه، في الثامنة توفي جده، وقد وردت روايات كثيرة تفيد عطف أبي طالب عليه، وتعلقه به، ومما يدل على شدة محبة أبي طالب إياه أنه صحبه في رحلته إلى الشام، ولعل ضيق حال أبي طالب قد دفعه إلى العمل بمساعدته، فرعى له غنمه كما رعى لأهل مكة على قراريط .

الأنبياء مفتقرون إلى الطعام والشراب :
الآن الأنبياء من خصائصهم في القرآن:
﴿إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾
( سورة الفرقان الآية : 20 )

وأكل الطعام دليل قطعي على أن وجودهم ليس ذاتياً، الإنسان يستمد في الطعام والشراب قدرته على الحركة، إذاً: هو مخلوق، إذاً: هو مفتقر إلى الطعام والشراب، النبي مفتقر في وجوده، وفي استمرار وجوده إلى الطعام والشراب، إذاً: ليس إلهاً، هو مفتقر مرة ثانية إلى تحصيل ثمن الطعام والشراب، إذاً:

﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾
( سورة الفرقان الآية : 20 )
هذا دليل أنهم بشر، والمقولة التي أرددها كثيراً، لولا أن النبي بشر، تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، قال تعالى:
﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾
( سورة الفرقان الآية : 20 )
من ضروريات الشريعة التي نصت عليها في حفظ الإنسان ومصالحه :
أيها الأخوة, ربنا عز وجل خلق فينا حاجات، خلق فينما حاجة إلى الطعام والشرب حفاظاً على الفرد، وخلق فينا حاجة إلى المرأة حفاظاً على النوع، وخلق فينا حاجة لتأكيد الذات
هذه الحاجات الأساسية تدفعنا إلى العمل، ولولا هذه الحاجات لما رأيت شيئاً على وجه الأرض، لما رأيت مسجداً، ولا بناء، ولا جسراً، ولا رأيت زراعة، ولا صناعة، ولا اختراعاً ، ولا آلة، فالله عز وجل قهرنا بالعمل عن طريق هذه الحاجات .
الآن وأنت تعمل من أجل أن تكسب مالاً كي تأكل، قد تكون صادقاً أو كاذباً ، منصفاً أو جاحداً، عفيفاً أو غير عفيف، مخلصاً أو خائناً، أنت من خلال العمل تمتحن، لكن حرفة الإنسان، أي عمله يمكن أن تكون عبادة من أرقى العبادات، لكن العلماء قالوا: العمل إذا كان في الأصل مشروعاً، وسلكت فيه الطرق المشروعة، وأردت منه كفاية أهلك ونفسك ومن تعول، وأردت منه أيضاً خدمة المسلمين، ولم يشغلك عن فريضة، ولا عن واجب ديني انقلب العمل إلى عبادة، لذلك قالوا: عادات المؤمن عبادات، وعبادات المنافق سيئات، لأنه يرائي بها ، بينما عادات المؤمن كسبه للمال وحرفته .

أيها الأخوة، لكن أوثق شيء بالإنسان حرفته وزوجته، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

" إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب "
( أخرجه الحاكم عن ابن مسعود في المستدرك)
هنيئاً لمن كانت حرفته متوافقة مع منهج الله، والويل لما بنيت حرفته على إيذاء المسلمين، أو على إلقاء الرعب في قلوبهم، أو على بضاعة محرمة، أو على سلوك فيه معصية، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك، وكل إنسان، وأنا أنصح الشباب: اختر حرفة ترضي الله تسعد بها، واختر زوجة ترضي الله تسعد بها .
قيمة العمل في الإسلام :
أيها الأخوة, فالعمل شرف، وأن تضيء شمعة أفضل من أن تلعن الظلام ألف مرة
والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا أشياء كثيرة، جاءه أنصاري يسأله مالاً، فقال: أعندك شيء ؟ قال: عندي قعب والحلس، يعني إناء وقطعة قماش، وليس عندي غير هاتين، قال: ائتني بهما، فعرض الحاجتين على أصحابه، قال: من يشتري هذه؟ فقال صحابي: أنا أشتريها بدرهم ، قال: من يزيد على ذلك؟ قال صحابي آخر: أنا أشتريها بدرهمين، فباع النبي الحلس بدرهمين، وجاء بصاحبيهما، وقال: خذ الدرهمين فاشترِ طعام بدرهم قدمه لأهلك، واشترِ بدرهم آخر قدوماً، وائت إلي، فشد النبي عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة عصاً لهذا القدوم، وقال: اذهب، واحتطب، ولا أرينك لخمسة عشر يوماً، وجاء بثمانية دراهم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك .
أخواننا الكرام، الحقيقة دقيقة جداً:
" ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر "
[أخرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري في سننه)

النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق، وحبيب الحق كان يرعى الغنم، أنا لا أعتقد أن هناك حرفة من حيث دخلها، ومن حيث بساطتها، ومن حيث مكانتها أقل من رعي الغنم، هل رأيتم راعي غنم يعطيك بطاقة فيها عنوانه، وهواتفه، وموقعه على اﻹنترنت؟ أقل حرفة على وجه الأرض أن ترعى الغنم، وهذا وسام شرف للنبي لا تخجل من أية حرفة ما دامت شريفة، لا تخجل من أي عمل ما دمت تبتغي به وجه الله، لا تخجل من عمل تكسب منه رزقك، ولكن اخجل من معصية، أو اخجل من مذلة، أو اخجل أن تكن يدك هي السفلى، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً في وقت العمل يقرأ القرآن، قال: من يطعمك؟ قال: أخي ، قال: أخوك أعبد منك، وأمسك بيد عبد الله بن مسعود، وكانت خشنة من العمل، فرفعها، وقال: هذه اليد يحبها الله ورسوله .

ما واجب المؤمن اتجاه دينه ؟
فلذلك المؤمن يعمل، ويعمل بتفوق، وأقول لكم هذه الكلمة، واحفظوها عني الآن لأسباب كثيرة: إن لم تكن متفوقاً في دنياك لا يحترم دينك، لأن القوي في كل شيء لا يفهم إلا لغة القوة، لكن قد يكون إنسان له شأن عند الله كبير، والدليل:

" رب أشعث أغبر ذي طمرين, مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره "
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة في الصحيح)
ولكن من أجل أن تنصر هذا الدين يجب أن تكون متفوقاً في اختصاصك، وفي حرفتك، وفي صنعتك، إن كنت طالباً كن الأول، وإن كنت صانعاً فكن متقناً لصنعتك، وإن كنت تاجراً فكن تاجراً كما وصف النبي التجار، لأنهم يحشرون مع النبيين والصديقين, قال عليه الصلاة والسلام:
" إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا "
( ورد في الأثر)
اختر حرفة تضمن لك دينك :
أيها الأخوة الكرام، هناك من يرى أن رعي الغنم حرفة فيها صفاء، وفيها هدوء، وفيها تأمل، وفيها تفكر، إنسان إذا كان في عمله، بمكان هادئ، وبعيد عن الضجيج، وعن المدينة، وعن النساء الكاسيات العاريات، في شوراع بدمشق فيها كل المعاصي والآثام، في أماكن عمل بعيدة، لكن فيها راحة نفسية، فيها هدوء، فاختر حرفة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
" يُوشِكُ أنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَماً يَتّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ المَطَرِ يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ "
( أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري في الصحيح)
هناك مهن متعلقة بالنساء الكاسيات العاريات، هذه مهن مظنة فتنة, وفساد، وانحراف ، وفي مهن قد تكون خشنة لكنها أصفى للنفس، وأحظى للعبد عند ربه، فحرفتك مهمة جداً، لأنها ألصق شيء بك، وكذلك زوجتك هي ألصق شيء بك .
مواقف شهدت لمحمد بن عبد الله قبل النبوة :
أيها الأخوة, وشهد النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه حين بلغ العشرين من عمره حلف الفضول، الذي تداعى زعماء قريش لعقده وتواثقوا بينهم، ألا يجدوا بمكة مظلوماً إلا نصروه، ولا صاحب حق مسلوب إلا أعادوا إليه حقه، هم مشركون، عبّاد أوثان، لكنهم أرادوا إحقاق الحق، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
" خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا "
( أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح)
وحينما أسلم أحد أصحاب النبي, قال له يا فلان:
" أسلمت على ما أسلفت من خير "
( أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح )
فالنبي عليه الصلاة والسلام شهد حلف الفضول . قصة حلف الفضول :
ولهذا الحلف قصة: أن رجلاً من زبيد باع سلعة للعاص بن وائل السهمي، فماطله في الثمن، فشكا الزبيدي إلى قبائل قريش والأحلاف، فلم يلتفتوا إليه، فوقف عند الكعبة، وأنشد بأعلى صوته قائلاً:
يا آل فهر لمظلوم بضاعتــه ببطن مكة نائي الدار والنفــر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن أثت كرامتــه ولا حرام لثوب الفاجر الغــدر


فأثار هذا الشعر نخوة الزبير بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى زعماء قريش، فاجتمع بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تميم في دار عبد الله بن جدعان، وتم عقد هذا الحلف الذي حضره محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، وقد أشاد به بعد نبوته، من هنا قال بعض العلماء: " الدنيا تصلح الدنيا لا الآخرة تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم "، من هنا قال العالم نفسه: " إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة "، من هنا طريق النصر, قال النبي:
" فإنما تنصرون، وترزقون بضعفائكم "
( أخرجه أبو داود في سننه)
الضعيف ينبغي أن تطعمه إن كان جائعاً، أن تكسوه إن كان عارياً، أن تعلمه إن كان جاهلاً، أن تعالجه إن كان مريضاً، أن تؤويه إن كان مشرداً، أن تنصفه إن كان مظلوماً، حتى نستحق نصر الله عز وجل .
ماذا نستنتج من حلف الفضول ؟
فلذلك هناك ملمح كبير جداً في أن النبي عليه الصلاة والسلام حضر حلف الفضول ، وأشاد به بعد بعثته، إذاً: الشيء الصحيح من الطرف الآخر نأخذه، أنت إذا التقيت مع الطرف الآخر ليكن عقلك مفتوحاً، في ميزات كبيرة جداً نجدها في العالم الغربي، لذلك قال بعض العلماء: " إن ثقافة أي أمة ملك البشرية جمعاء، لأنها بمثابة عسل استخلص من زهرات مختلف الشعوب على مر الأجيال، وهل يعقل إذا لدغتنا جماعة من النحل أن نقاطع العسل الذي استخلص من زهراتنا؟ " .

لذلك سئل أحد المفكرين: ماذا نأخذ وماذا ندع من حضارة الغرب؟ قال: نأخذ ما في رؤوسهم، وندع ما في نفوسهم، إحساسنا ملكنا، وإحساسهم ملكهم، والمعرفة قدر مشترك بين كل الشعوب .
فأنت حينما ترى شيئاً إيجابياً في العالم الغربي ينبغي أن تأخذه، فالنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على حلف الفضول بعد بعثته، وحضره قبل البعثة .
وهناك حلف آخر هو حلف المطيبين، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن شهود هذا الحلف، وأثنى عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:
" شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأن غلام فما أحب أن لي حمر النعم وإني أنكثه "
( ورد في الأثر)
أي شيء جيد نأخذه عن الآخرين، ونتقوى به، نحن حينما نقاطع دولة معادية نقاطع بضائعها الاستهلاكية، أما برامجها وإنجازاتها العلمية ينبغي ألا نقاطعها، هذه نقوي بها المسلمين .






والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-03-2018, 07:38 AM   #7


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( السابع )

الموضوع : زواجة من السيدة خديجة





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإسلام دين الفطرة:
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ننتقل في هذا الدرس إلى زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة.
بادئ ذي بدء، قال عليه الصلاة والسلام:

(( أشدكم لله خشية أنا، أنام وأقوم، أصوم وأفطر, أتزوج النساء، هذه سنتي، فمن رغب عنها فليس من أمتي ))
( أخرجه أحمد في مسنده)
فالإسلام دين الفطرة, قال تعالى:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
( سورة الروم الآية: 22 )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾
( سورة فصلت الآية: 37 )
من آياته الدالة على عظمته:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
( سورة الروم الآية: 21)
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدين الفطرة، وهو قدوة لنا، وإسلامنا العظيم جمع بين الحاجات والقيم، وجعل المصالح مع المبادئ في وقت واحد.
ما الذي كان يشغل الرسول قبل نزول الوحي ؟
أيها الأخوة, كان عليه الصلاة والسلام شاباً من الشباب الذين يشار إليهم بالبنان، في الأعم الأغلب الشباب التائهون الشاردون عن أمر الله عز وجل ضائعون، إما أن يتظاهروا بأشياء يتوهمون أنها تجذب الفتيات إليهم، وإما أنهم يبالغون بالقوة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أفقٍ أعلى, قال تعالى:
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾
( سورة النجم الآية: 7 )
كان يحمل هموم البشرية، كان يبحث عن خلاص البشرية، كان يرى ما حوله من تصادم، وضعف، وقهر، وظلم، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام شاباً متميزاً، هذا قبل البعثة، والذي يؤكده علماء السيرة أن الأنبياء معصومون بعد الوحي، وقبل الوحي.
ماذا تعني السيدة خديجة بالنسبة للرسول ؟
أيها الأخوة الكرام، كان زواج الرسول من السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة لا كالنساء،
(( كمل من الرجال الكثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع منهن السيدة خديجة ))
(ورد في الأثر)
لو قرأتم سيرتها لوجدتموها المرأة الأولى في العالم التي كانت في أعلى درجات الوفاء لزوجها، لذلك حينما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بعد عشرين عاماً من الصراع مع الكفر والشرك، دعته بيوتات مكة ليبيت عندهم, فقال: (( انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة ))
(ورد في الأثر)
ركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم العالم كله، أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر، والحقيقة أن السيدة خديجة كانت سند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الداخل, دققوا فيما سأقول: أعظم النساء من أضافت إلى جمالها جمال أخلاقها، وأعظم النساء أيضاً من أضافت جمالاً ثالثاً وهو جمال عقلها، فإذا اجتمع في المرأة جمال الشكل، وجمال الخلق، وجمال العقل، فهي امرأة لا كالنساء، والمرأة كما تعلمون أيها الأخوة في الإسلام مساوية مساواة تاماً للرجل من حيث التكليف، ومن حيث التشريف، ومن حيث المسؤولية.
أيها الأخوة، يقول بعض العلماء: الرجال العظماء في أمس الحاجة إلى امرأة عظيمة، ولقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( إنما النساء شقائق الرجال ))
(أخرجه أحمد في مسنده عن أنس )
فهذه المرأة التي عندك هي شقيقتك، بمعنى أنه ينبغي أن تكون متكاملاً معها, قال الرسول:
(( إنما النساء شقائق الرجال ))
(أخرجه أحمد في مسنده عن أنس )
وقال أيضاً:
(( النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته؟ ))
(أخرجه ابن حبان عن أنس )
الأخ الكريم الذي عنده فتاة مؤمنة، محجبة، تتلو كتاب الله أناء الليل وأطراف النهار، ينبغي ألا يتسرع في تزويجها، ينبغي أن يبحث لها عن طالب علم، أن يبحث لها عن شاب يقدر دينها، ويقدر ثقافتها الإسلامية، وورعها، وانصرافها إلى أعمالها الصالحة، فلذلك تعد المرأة للعظماء سندهم من الداخل، وأصاب من قال: وراء كل عظيم امرأة.
لمحة مختصرة عن سيرة خديجة بنت خويلد:
أيها الأخوة, خديجة بنت خويلد فهي امرأة ذات شرف ومال، كانت تكلف الرجال وتضاربهم في مالها، وحقيقة المضاربة، وقد أتينا على ذكرها هي الطريق الواضح النظيف للاستثمار، والحاجة إلى استثمار المال حاجة متأصلة في كل مجتمع بشري، هناك الشيخ الكبير، والموظف المتقاعد، هناك الطفل الصغير الذي ورث مالاً، هناك الأرملة، هناك المرأة التي لا تحسن التجارة، فيأتي شاب في ريعان الشباب مكتمل الرجولة، عنده خبرة عالية فيشتغل بهذا المال، يأخذ بعض الربح، ويعطي صاحب المال بعضه الآخر، هذا الطريق النظيف الآمن للاستثمار المال، لكن الذين جمعوا الأموال، ولم يكونوا في المستوى المطلوب، ضعفوا ثقة الناس بالقناة الشرعية النظيفة، وقووا ثقة الناس بالمصارف الربوية، فكان عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام، أول شريك مضارب، المال مال خديجة، والجهد جهد النبي صلى الله عليه وسلم طبعاً قبل البعثة.
ما هو السبب الذي دفع السيدة خديجة إلى أن يتاجر الرسول في أموالها ؟
فلما بلغ خديجة رضي الله عنها عن رسول الله أمانته, وعفافه, وأخلاقه العالية، طمحت أن تعمل معه في التجارة، وكانت تعطيه أفضل ما تعطي بقية التجار, ولكن أقول لكم هذه الكلمة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الأمانة غنى ))
( ورد في الأثر)
أثمن شيء تملكه على الإطلاق أن تكون أميناً، أنت بأمانتك تملك أكبر ثروة في الأرض، ألا وهي ثقة الناس بك.
لذلك ضاربت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسفار، كان أهم هذه الأسفار إلى الشام، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج في مالها، وخرج معه غلامه ميسرة حتى قدم الشام، وكان التوفيق حليف رسول الله، وعاد بالتجارة، وقد ربح الضعفين، فسرت السيدة خديجة أيما سرور.

رغبة السيدة خديجة من زواجها من الرسول:
أيها الأخوة, هذه السيدة الوقور التي هي أرقى بيوتات مكة طمحت بالزواج من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسلت له امرأة اسمها نفيسة، فخاطبت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: ما يمنعك من أن تتزوج؟ فقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم كان شاباً: ما بيدي لأتزوج به، قالت: فإني كفيت لك ذلك، قال: فمن هي؟ قالت: خديجة، قال: ومن لي بذلك؟ فقالت: علي ذلك، هذه البداية.
لذلك ورد في الأثر: أنه من مشى بتزويج رجل بامرأة كان له بكل كلمة قالها، وبكل خطوة خطاها عبادة سنة قام ليلها، وصام نهارها، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( من أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين في النكاح ))
(أخرجه ابن ماجة في سننه)
فهذه المرأة ساهمت في تقريب وجهات النظر بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين خديجة، وأشارت إلى السيدة خديجة أن الطريق سالك للزواج من رسول الله، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا ابن العم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، وشرفك في قومك، وأمانتك, وحسن خلقك, وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها.
ما هي نظرة مجتمعاتنا حول موضوع عرض الفتاة على الشاب ليتزوجها ؟
أيها الأخوة, التقاليد عندنا تمنع أن تعرض فتاة نفسها على شاب لحيائها ولخجلها، لكن التقاليد أيضاً تمنع أن يعرض أب فتاته على شاب توسم فيه خيراً، لكن سيدنا شعيب ماذا قال؟
﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾
( سورة القصص الآية: 27 )
لذلك أكبر مشكلة يعاني منها المسلمون كساد الفتيات، كل إنسان غارق بهمومه، لكن نحن كمؤمنين ينبغي أن نسعى لتزويج الشبان الأطهار من الفتيات المؤمنات، هذا عمل عظيم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما عرض عليه الزواج من خديجة، قبل ذلك, وكانت خديجة كما يقولون: أوسط النساء نسباً، وكانت أعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، وكل قومها كان حريصًا على ذلك لو يقدرون عليه.
أنا أقول كإسقاط من هذه السيرة لواقعنا: الشاب المؤمن الذي يرجو رحمة الله، ويخافه، ويتقرب إليه، له مكافئة عند الله عاجلة، ألا وهي زوجة صالحة تسره إن نظر إليها، وتحفظه إن غاب عنها، وتطيعه إن أمرها، والشابة المؤمنة التي ترجو رحمة الله، وتخشى ربها، وتطيع نبيها، وتحفظ كتاب ربها، لها عند الله مكافئة أيضاً أن يرزقها شاباً مؤمناً يعرف قيمتها، ويحفظها، لذلك الزواج بيد الله عز وجل ثمنه الاستقامة على أمر الله، وثمنه العفة.

زواج السيدة المصون من رسول الله:
أيها الأخوة، لما جاء هذا العرض المغري لرسول الله من نفيسة أولاً، ومن خديجة ثانياً، عرض هذا على أعمامه، وفاتحهم برغبته، فما كان منهم إلا أن سارعوا لتلبيته، والمضي لما يريد فذهب أبو طالب، وحمزة، وغيرهم إلى عم السيدة خديجة عمر بن الأسد، كان أبوها قد مات في حرب الفجار، وخطبوا إليه ابنة أخيه، وساقوا إليها الصداق عشرين بكرة، أي ناقة، قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت .
يروى أن أبا طالب وقف يخطب في حفل الزواج قائلاً: إن محمداً لا يوزن به فتاً من قريش، إلا رجح به شرفاً ونبلاً، وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قِلٌ، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، هذه خطبة النكاح، خطبها عمه أبو طالب.
فقال عند ذلك ولي خديجة عمها عمر: هو الفحل الذي لا يجدع أنفه، وأنكحها منه، وله 25 سنة، ولها يومئذ 40 سنة، وقد حضر العقد بنو هاشم، ورؤساء مضر، وكان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الشام بشهرين.
القضية بدأت تجارة، وانتهت بزواج، والمؤمن حصيف، إذا عُرضت عليه فرصة لا يفوتها، وهذا خير ساقه الله إليه، أو هدية ساقها الله إليه.

عدد أفراد أسرة الرسول:
أيها الأخوة, بقي النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة إلى أن توفيت في الـ 65، وبقي النبي معها تقريباً ربع قرن.
ولدت السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، فهو أبو القاسم، وقد ورد في بعض الأحاديث:

(( من دعي فلم يلبي فقد عصا أبا القاسم ))
(ورد في الأثر)
ثم ولدت له زينب، ثم أم كلثوم كوكبة الإسلام، ثم فاطمة، ثم رقية، كما يروي في الطبراني في المعجم الكبير، ثم عبد الله الملقب بالطيب أو الطاهر، فأما القاسم وعبد الله فماتا قبل الإسلام، مات القاسم بعد سن تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبد الله وهو طفل، وأدركت البنات الإسلام فأسلمن جميعاً، وهاجرن إلى المدينة، وماتوا جميعاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة فقد ماتت بعده بستة أشهر.
ما هي الحكمة الربانية التي شاءت بأن تجعل النبي يعيش في هذه الظروف ؟
قد يسأل سائل: مات أبوه قبل أن يعرفه، وماتت أمه وهو في السادسة، ومات جده وهو في الثامنة، وماتت بناته جميعاً عدا فاطمة، وماتا ولداه القاسم وعبد الله قبل الإسلام، ولم يبقَ من ذريته إلا فاطمة، بل مات ابنه إبراهيم من مارية القبطية، لا شك أن هناك حكمة ما بعدها حكمة، ولا شك أن هناك حكمة بالغة أنه ليس من نسله ولد ذكر، فكروا، وابحثوا، ودققوا, لو أن لهذا النبي الكريم أباً عظيماً تعزى فضائله، وتعزى شمائله إلى تربية أبيه، وكأن النبوة ألغيت، لو أن له أماً قديرةً، حكيمة، حصيفة، أيضاً تعزى فضائله لأمه، أراد الله جل جلاله أن تكون هذه الفضائل كلها بسبب قربه من الله عز وجل، فهذا من الحكمة أنه لم يعرف أباه كما أن أمه لم تسهم في تربيته، وكان يتيماً وكأن هذا الإنسان العظيم قدوة لكل يتيم، واليتيم أحياناً يكون مكسوراً فله سيد الأنبياء وهو اليتيم أسوة حسنة.
لو أنه له ولداً عاش من بعده، وله ذرية فهو ابن رسول الله، ولم يكن معصوماً ربما انتقلت البغضاء إلى أبيه، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا سلمان الفارسي, فقال:

(( يَا سَلْمَانُ! لاَ تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! كَيْفَ أُبْغِضُكَ، وَبِكَ هَدَانَا اللّهُ؟ قَالَ: تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي ))
(أخرجه الترمذي في سننه)
هناك حكمة بالغة جداً أن النبي الكريم ليس له ذرية ذكور من بعده.
أيها الأخوة, السيدة خديجة كانت المثل الأعلى لكل نساء العالمين، واست زوجها، وقدمت له كل ما يحتاجه من حنان، وعطف، وتأييد، ومال، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( اعلمي أيتها المرأة، وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله ))
(ورد في الأثر)
الحقيقة وقفت مع النبي الكريم في أحلك أيامه، وفي أصعب أيامه، وكانت كما قلت قبل قليل: سنده من الداخل، ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال:
(( خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ))
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما )
ولكن الآن دققوا في كلمة قالتها للنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه الوحي:
(( دثروني دثروني, فقالت له: والله مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا, إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ))
( أخرجه مسلم في الصحيح عن جابر )
كيف عرفت ذلك؟ استنبطت هذا من فطرتها.
كلمة للشباب:
أيها الأخوة, أنا أخاطب الشباب، وأخاطب الشابات مستحيل وألف مستحيل أن يعامَل شاب مستقيم ورع، يخاف الله عز وجل, ويؤدي عباداته، ويدفع نفسه إلى طاعته، كما يعامل شاب تائه متفلت، هذا تناقض مع عدل الله, قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
( سورة الجاثية الآية: 21)
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾
( سورة السجدة الآية: 18)
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
( سورة القلم الآية: 35-36)
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
( سورة القصص الآية: 61)
دققوا في هذا الكلام، لا يمكن أن تعامل أيها الشاب التائب، لأنه ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب، لأن الله يباهي الملائكة بالشاب التائب، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي، وما من شيء أحب إلى الله من شابة تائبة، إن الله يباهي بها الملائكة، فهذا الذي يمشي في طريق الحق له عند الله مكافأة في الدنيا والآخرة، والدليل:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
( سورة الرحمن الآية: 46)
قال علماء التفسير: جنة في الدنيا وجنة في الآخرة.
نساء دخلوا في عالم البطولة وتألق ذكرهن في عالم الوجود:
أيها الأخوة, يقول عليه الصلاة والسلام:
(( خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون, وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ))
( أخرجه أحمد في مسنده )
مرة ذكرت قصة أيها الأخوة، لأريكم عظمة المرأة، فرعون عنده ماشطة تمشط شعر ابنته، مرة في أثناء تمشيط شعرها وقع المشط على الأرض، فقالت: بسم الله، قالت ابنة فرعون لماشطتها: ألك رب غير أبي؟ قالت: الله ربي وربك، ورب أبيك، فقالت البنت: سأخبر أبي، قالت: أخبريه، فلما أخبرت أباها أنها تعبد إلهاً غيرك، أنت لست إلهها، إلهها هو الله، فأتي بها، وأتى بأولادها الأربعة، وجاء ببقرة من نحاس، وأضرم فيها ناراً، وأمسك ولدها الأول، وقال لها: ألك رب غيري؟ قالت: الله رب وربك، فألقاه في النار حتى تفحم، ثم أمسك ولدها الثاني، وقال: ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، ألقاه في النار حتى تفحم، أمسك ولدها الثالث، قال: ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، ألقاه في النار حتى تفحم، أمسك الرابع، الرابع رضيع، فلما قال: ألك رب غيري؟ بكت، تضعضعت، فأنطق الله الغلام كما ورد في الحديث الشريف، قال: اصمدي يا أمي، أنت على حق، فقالت: الله ربي وربك، ألقاه في النار حتى تفحم، ثم ألقاها في النار حتى تفحمت، وانتهى الأمر.
النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء عروجه إلى السماء شم رائحة ما شم مثلها قط ، فسأل جبريل: ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون.
يمكن أن تكون المرأة بطلة، ويمكن أن تكون المرأة في أعلى مستوى عند الله عز وجل، السيدة خديجة من هذا المستوى.
أنا أتمنى على الأخوة أن يقرؤوا سيرة السيدة خديجة، لعلي فصلت كثيراً في سيرة هذه المرأة العظيمة في عدد كبير من الأشرطة، أتمنى على أخواتنا النساء أن يقرأن سيرة هذه المرأة العظيمة لتكون هذه المرأة قدوة لهن في معاملة الزوج.
آسية امرأة فرعون كانت تحت طاغية من كبار طواغيت الأرض، هذا الطاغية يقول:
﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾
( سورة القصص الآية: 38 )
هذا الطاغية يقول:
﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
( سورة النازعات الآية: 24)
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
( سورة التحريم الآية: 11)
لم يستطع هذا الطاغية بكل جبروته أن يحمل آسية على أن تعبده من دون الله.
هكذا يكون الزوج:
أيها الأخوة، كان عليه الصلاة والسلام من أعلى الأزواج وفاء لزوجته خديجة، فلما ماتت كان يبعث باللحم حين يذبح فيطعم صديقاتها، ويكثر في مدحها، الآن إذا تزوج الزوج امرأة جديدة يتقرب إليها بذم السابقة، ما في مثلك أنت، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان وفياً بعد موتها، " لذلك قال عليه الصلاة والسلام، وقد سأله رجل توفي والداه: ماذا بقي علي من بر والدي؟ قال عليه الصلاة والسلام: صلّ عليهما، وأن تدعو لهما, وأنا تصل صديقاهما وأن تصل الرحم التي لم يكن لها صلة إلا بهما، وأن تنفذ عهدهما ".
( ورد في الأثر)
فمن تمام الوفاء أن تصل أصدقاء أبيك، وصديقات أمك، سيدنا رسول الله بعد أن ماتت هذه الزوجة العظيمة كان يصل صديقاتها بقطع اللحم تقرباً إليهم، ووفاء بعهد خديجة.
فضل السيدة خديجة رضي الله عنها:
أيها الأخوة, يروي البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(( ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب ))
( أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح)
هذه بشارة من الله مباشرة لهذه المرأة.
أخواننا الكرام، باب البطولة مفتوح على مصراعيه، وإله الصحابة إلهنا، والظروف نفسها، وكل إنسان يمكن أن يكون بطل، وكل فتاة يمكن أن تكون بطلة.
في رواية أخرى, تقول:
(( ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، ربما ذبح الشاة ثم يقطعها عطاء، ثم يبعثها لأصدقاء خديجة، فربما قلت له مرة من شدة الضجر كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول إنها كانت وكانت وكانت، وكان لي منها الولد ))
( ورد في الأثر)
مرة قال:
(( قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ))
(أخرجه أحمد عن عائشة رضي الله عنها في مسنده)
أيها الأخوة, من أروع ما سمعت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(( الحمد لله الذي رزقني حب خديجة ))

(ورد في الأثر)
عد حبها رزقاً، الحمد لله الذي رزقني حب خديجة.
وأنا أقول لكم أيها الأخوة كلامًا خطيرًا جداً، الحب تصنعه أنت، كيف؟ إذا كنت وفياً, إذا كنت كريماً، إذا كنت رحيماً, تحبك زوجتك، تحبك محبة لا حدود لها، وتقطف أنت ثمار هذه المحبة، والبغض يصنع بأيدينا، الإهمال، عدم الإصغاء، عدم الاحترام، الحرمان أحياناً، الإهانة، السخرية، البغض نصنعه بأيدينا، والحب نصنعه بأيدينا، وكانت السيدة عائشة تسال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حبك لي؟ يطمئنها، ويقول: كعقدة الحبل، تسأله من حين لآخر، كيف العقدة؟ يقول: على حالها.
ومرة حدثته عن أبي زرع ومحبته لأم زرع، ووفاؤه لأم زرع، وكرمه على أم زرع، قال عليه الصلاة والسلام: أنا لك كأبي زرع لأم زرع، لكنني لا أطلقك، لأن أبا زرع طلق أم زرع في النهاية، تعلم من هذه الشمائل العالية، تعلموا هذا السلوك العظيم لسيد المرسلين.
صفات السيدة خديجة الخُلقية:
أيها الأخوة، هذه المرأة لم تشارك قومها لهوهم وسفاحهم وتبرجهم، بل لزمت بيتها وتاجرت بمالها من دون أن تحتك بنفسها مع الرجال، كانت امرأة في القمة، وما عرف عنها تبرج ولا اختلاط، وكانت تتمثل بفطرتها القويمة، ولقد أخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( كُلّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرّتْ بالمَجْلِسِ، فَهِيَ زَانِيَةً ))
(ورد في الأثر)
السيدة خديجة أيها الأخوة واست زوجها، ووقفت معه في أصعب الأيام، وكانت معه في أحلك الليالي، وما تكبرت عليه في مالها، والله أنا اطلعت على قصص عديدة، من شباب أخطؤوا كثيراً حينما تزوجوا بنساء غنيات، صفة المرأة الغنية على زوجها ذي الدخل المحدود الاستكبار والاستعلاء والمن، لكن امرأة غنية جداً وتزوجت رسول الله، وهو فقير جداً، ومع ذلك من أعظم صفاتها أنها ما تكبرت عليه في مالها بل أنفقت منه بإذنه، ولم تكن القوامة لها، القوامة له وهي تنفق عليه بإذنه، فكانت مثلاً أعلى للنساء من بعدها.
حصن الزواج وبركته:
أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( خَيْرٌ النّكَاحِ أَيْسَرَه ))
( أخرجه أبو داود في سننه)
(( أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا ))
(أخرجه أحمد في مسنده)
(( أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة ))
( أخرجه أحمد عن عائشة في مسنده)
جاء رجل للإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما, قال: إن لي بنتًا, فمن ترى أن أزوجها له؟ قال: زوجها من يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وكانت عائشة رضي الله عنها, تقول: النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته؟

خديجة قدوة لكل من آمنت بهذا النبي:
أيها الأخوة الكرام، أنا أرى أن هذه السيدة خديجة رضي الله عنها التي أكرم الله بها رسوله هي قمة في الكمال، وقدوة لنساء المسلمين، فينبغي أن نحرص على قراءة سيرتها، وعلى معرفة كمالها في معاملتها لزوجها، وينبغي أن نعرف كمال النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه لها، وفي تقديره لها، على كل قال تعالى:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
( سورة البقرة الآية:201 )
قال علماء التفسير: المرأة الصالحة حسنة الدنيا، فإذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك، وإذا أمرتها أطاعتك، عليكم بذات الدين تربت يداكم.




والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-03-2018, 07:41 AM   #8


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( الثامن )

الموضوع : بناء الكعبة





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
ما المقصود بكلمة بيت التي وردت في الآية الكريمة ؟
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، والموضوع اليوم عن بناء الكعبة، الله عز وجل يقول:
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية: 96 )
أيها الأخوة، الله عز وجل في كل مكان, يقول الله:
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
( سورة الحديد الآية: 4 )
ما معنى أن يتخذ الله له بيتاً في الأرض؟ قال علماء التفسير: هذه معية العلم, قال تعالى:
﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً﴾
( سورة مريم الآية: 3 )
سيدنا زكريا.

لو أنك خاطبت ربك بقلبك يسمعك، ما معنى أن يتخذ الله بيتاً في الأرض, ويقول؟
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً﴾
( سورة آل عمران الآيات: 96 ـ 97)
المعنى: أن الله جلت حكمته مراعاةً للإنسان، أو للنزعة المادية في الإنسان اتخذ له بيتاً، وقال: يا عبدي تعال إلى بيتي، لماذا يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك؟ يعني تلبية لندائك يا رب، تعال يا عبدي لأريحك من هموم أثقلت ظهرك، تعال كي تذوق طعم القرب مني، تعال كي تذوق طعم محبتي، فالله عز وجل اتخذ بيتاً في الأرض لنفسه ليكون هذا البيت رمز التوحيد، ورمز العبودية لله.
أيها الأخوة، أنت تصلي في بلدك، وفي مسجدك، وفي غرفتك، وتصوم في بلدك، وتزكي في بلدك، وتشهد أن لا إله إلا الله في بلدك، إلا أن الحج وحده يقتضي أن تذهب إلى بيت الله الحرام، الحج يقتضي تفرغاً كاملاً، فيه بذل، فيه جهد، فيه نفقة، فيه ترك أهل، ترك أولاد، ترك منصب، ترك وظيفة، ترك غرفة نوم، ترك أشياء مريحة في بلدك، ترك مكانة، ترك سمعة، تذهب إلى هناك لأنك دفعت الثمن باهظاً، هناك يتجلّى الله عليك تجلياً يناسب هذا الثمن الذي دفعته.
موقع مكة المكرمة حسب خارطة أقاليم جغرافية الأرض في العالم:


بالمناسبة، في بحث من الإعجاز العلمي يؤكد أن مكة المكرمة هي الوسط الهندسي للأرض، لذلك هناك العالم القديم، آسيا، أوربا، إفريقيا، أقينوسيا، والعالم الجديد أمريكا، المدن التي في أقصى أطراف العالم القديم تبعد عن مكة المكرمة 8500 كم، أي مدينة على أطراف العالم القديم، فمكة في وسط العالم القديم، فإذا أضفنا إلى العالم القديم العالم الحديث تبعد مكة عن أي مكان كوسط هندسي في العالمين القديم والحديث 13500 كم، البحث مودع في جامعة في القاهرة، مكة المكرمة تقع في الوسط الهندسي بين العالم القديم والعالم الحديث، ولا يقابلها في الطرف الآخر مدينة، بل لا يقابلها يابسة أصلاً، يقابلها المحيط الهادي.

أقوال المؤرخين حول موضوع بناء الكعبة:

أيها الأخوة، بعض المؤرخين ذكروا أن البيت العتيق انهدم مرتين بعد أن بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام بفعل السيول، وبنته قصي بن كلاب بعد أن انهدم في المرة الأولى، وجرهم في المرة الثانية، أما المؤرخ الماوردي يذكر أن أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم قصي بن كلاب، وهو جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وسقفها بخشب الروم، والنخل، على أن المهم هنا بناء قريش للكعبة البناء الثالث، علاقة هذا الدرس بالسيرة النبوية أنه مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنيت الكعبة للمرة الثالثة.
هذا ورد بنص الصحيحين، البخاري ومسلم، قبيل بعثة النبي، وقد يسأل سائل: ما علاقتنا ببناء الكعبة؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من العمر 35 عاماً، وله موقف رائع في أثناء بناء الكعبة.
ما هي الأسباب التي دفعت قريش لإعادة بناء الكعبة ؟
أيها الأخوة، يعود سبب بناء قريش للكعبة إلى جملة عوامل: منها أنها كانت قامة ارتفاع الكعبة تساوي قامة الإنسان، أو فوقها بقليل، ولم يكن لها سقف، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة المتطاولة، وكانت الكسوة تدلى على جذر الكعبة من الخارج، وتشد من أعلى الجذر في بطنها بلا سقف، تركوا القماش يشد إلى داخل الكعبة، وكانت البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة يوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي، وقد امتدت أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات.
الله عز وجل كلفنا أن نكون مع الحق، وأن نقاوم الباطل، إلا أن امرأة من قريش ذهبت تجمر الكعبة، أي تبخرها، والبخور يحتاج إلى جمر، فطارت من مجمرها شرارة، فاشتعلت النار في كسوة الكعبة والتهمتها، وكانت الكسوة توضع فوق بعضها بعضاً، وكل كسوة توضع فوق التي قبلها، فصار هناك كمٌّ كبير من الكسوات، اشتعلت كلها، فلما اشتعلت تهدمت الكعبة، ثم أعقب ذلك الحريق سيل جارف غمر الكعبة حتى دخل خوفها، فجزعت قريش لذلك جزعاً شديداً، وخافوا أن تنهدم، وخشي القوم إن قاموا بهدمها وبنائها أن ينزل عليهم العذاب، وأخذوا ينظرون ويتشاورن، ويدرسون الأمر في روية وتؤدة.
كيف نفهم هذه الآية ؟
سؤال: ألم يقل الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾

( سورة آل عمران الآية: 97 )
كيف امتدت إليها أيدي اللصوص؟ وكيف ضربت قبل 26 عاماً؟ في عام 1400 اقتحمتها قوات الأمن، وذهب قتلى كثيرون في هذا الاقتحام، كيف نوفق بين قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾
( سورة آل عمران الآية: 97 )
وقد قتل مئات بل ألوف؟ الدقة البالغة أيها الأخوة, أن هذه الآية أنهت, بمعنى يا عبادي اجعلوه آمناً، أو ينبغي أن يكون آمناً، وأمن الكعبة أمر تكليفي، وليس أمراً تكوينياً، يشبه هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول:
﴿وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾
( سورة النور الآية: 26 )
ألا تجد امرأة طيبة تحت زوج خبيث, ألا تجد زوجاً طيباً عنده امرأة خبيثة, ما معنى الآية؟ في بعض الآيات القرآنية صيغتها خبرية، لكنها تعني الإنشاء، وهذا أبلغ, قوله تعالى:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾
( سورة البقرة الآية: 233 )

يعني أيتها الوالدات أرضعن أولادكن، هذا أبلغ لأن أي أمر يقتضي العصيان، لو قلت لابنك: اشتر بهذا المبلغ هذه الحاجة، ورد لي الباقي، يفهم من هذا الأمر أنه بإمكانه ألا يرد الباقي، كل أمر ينطوي فيه احتمال معصيته، فالأمور القطعية المصيرية ينبغي أن يأتي الأمر على شكل خبر, قال تعالى:

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾
( سورة البقرة الآية: 233 )
يعني من شأن الوالدات أن يرضعن أولادهن، ولا تجد على وجه الأرض أم لا ترضع ولدها, قال تعالى:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾
( سورة آل عمران الآية: 97 )

يعني: اجعلوه آمناً, قال تعالى: ﴿ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾
( سورة النور الآية: 26 )
أي اجعلوا الطيبون للطيبات، هذه صيغة خبر يراد بها الإنشاء، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
تفسير بسيط للأمرين التكويني والتكليفي مع ذكر مثال على ذلك:
أيها الأخوة, كما تعلمون هناك أمر تكلفي، وهناك أمر تكويني، كيف؟ الجواب هو التالي: طريق فيه لوحة مكتوب عليها ممنوع المرور، هذا أمر تكليفي، لكن أي سائق بإمكانه أن يمشي فيدفع الثمن، وهو مخالف، لكن لو وضع على مدخل هذا الطريق قطع إسمنت مسلح، مكعبات، ارتفاع الضلع متر، هذا أمر تكويني، والأمر التكليفي أمر الله عز وجل ونهيه، والأمر التكويني فعلُه، فالحفاظ على أمن بيت الله الحرام أمر تكليفي، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا ﴾
( سورة آل عمران الآية: 97 )
بصيغة صيغة خبرية.
إذاً: البئر التي جعلها إبراهيم عليه السلام خزانة داخل الكعبة ليوضع فيها ما يهدى إليها من أموال وحلي، وقد امتدت إليها أيدي اللصوص إلى خزانة الكعبة عدة مرات, أمر تكويني أم تكليفي؟ تكليفي, قال تعالى:
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾
( سورة محمد الآية: 4 )
علام ترمز الكعبة ؟
أيها الأخوة، لا بد من حقيقة، لا يمكن أن تكون الكعبة وثناً، أرقى المخلوقات هو الإنسان، يأتي بعده الحيوان، يأتي بعده النبات، يأتي بعده الجماد، الجماد شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وله وزن، هذا الجماد ـ دقق ـ.
النبات شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، لكنه ينمو، افترق النبات عن الجماد بالنمو.
الحيوان شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وينمو، ويتحرك.
أما الإنسان شيء يشغل حيزاً، له طول وعرض وارتفاع، وينمو، ويتحرك، ويفكر، إذاً: الله عز وجل ميز الإنسان بقوة إدراكية, قال تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
( سورة الرحمن الآية: 1-4 )
فأنت مكرم بهذه القوة الإدراكية، والقوة الإدراكية غذائها العلم، والقلب غذاءه الحب، والجسم غذاءه الطعام والشراب، والإنسان المتفوق هو الذي يتحرك على الخطوط الثلاثة، التفوق يعني أن تغذي عقلك بالعلم، وأن تغذي جسمك بالطعام والشراب، وأن تغذي قلبك بالحب، التطرف أن تغذي جهة على حساب جهة, فالكعبة ليست وثناً، وإنما هي رمز.

لو واحد جاء بقماش أخضر، وداس عليه بقدمه، هل يحاسب؟ لا، لو جاء بقماش أبيض، وداس عليه بقدمه, هل يحاسب؟ لا، لو جاء بقماش أحمر، ووضعه على الأرض، وداس بقدمه عليه, هل يحاسب؟ لو جاء بمستطيل ثلثه أخضر وأحمر وأبيض, وفيه نجمتان وداس عليه بقدمه يساق إلى السجن، لماذا؟ لأنه رمز الوطن.
فالكعبة ليست وثناً، ولكنها رمز التوحيد، نحن لا نعبد حجارة، سيدنا عمر وضع يده على الجرح حينما قبل الحجر الأسود، مع أن بعض الروايات تبين أنه يمين الله في الأرض، وأن بعض الروايات تبين أنه: (( من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن ))
[ ورد في الأثر]
ولكن سيدنا عمر عملاق الإسلام, يقول: " أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك ".
نحن لا نعبد أحجاراً، ولكن الكعبة رمز التوحيد، رمز العبودية لله، قال تعالى:

﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾
( سورة آل عمران الآيات: 96 ـ 97)
فهذا الذي داس بقدمه على مستطيلات ذات ألوان ثلاثة هي رمز الوطن يساق إلى السجن، وقد يحكم سنوات وسنوات تأديباً له على تجاوزه على رمز الأمة.
الاتفاق الذي تم بين قريش على تجديد بناء الكعبة:
أيها الأخوة, بالنهاية استقر رأي قريش قبل بعثة النبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والثلاثين من عمره على إعادة بناء الكعبة، الحياة متواضعة جداً، وخشنة جداً، فسمع زعماء قريش أن سفينة رومية تحطمت قرب الشعيبية هي ميناء مكة القديم، فركب الوليد بن المغيرة ومعه نفر من زعماء قريش، واشتروا خشبها لاستخدامه في سقف الكعبة، واستعانوا بنجار رومي يسمى باقوم، وتعاونوا، وتراكضوا بالنفقة، أي جمعوا النفقة من بعضهم، واختلفوا في بنيان مقدم البيت، فقال أبو أمية بن المغيرة: يا معشر قريش، لا تنافسوا، ولا تباغضوا، فيطمع فيكم غيركم.
الإيمان فطري، الآن تستمعون إلى بعض الأقوال، هذه من بقايا بعثة الأنبياء:
يا معشر قريش، لا تنافسوا، ولا تباغضوا، فيطمع فيكم غيركم، ولكن جزئوا البيت أربعة أجزاء، أربعة جدران، وربعوا القبائل، فلتكن أربعاً، يعني كل مجموعة قبائل يسمح لها أن تبني جداراً واحداً، لأن شرف بناء الكعبة شرف كبير.
أنا سمعت عن عالم كبير جليل في مصر توفي رحمه الله كان في مكة المكرمة يعمل أستاذاً في الجامعة، فلما وسع الحرم نقل التراب بيده، واشتغل فاعلاً بالمفهوم الدمشقي، لينقل التراب في أثناء توسعة الحرم، شرف كبير.
لهذا البيت قدسية قديمة جداً، توارثتها الأجيال جيلاً عن جيل، قال: ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة، وعلى جوانبها.

أخواننا الكرام، القرعة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان هناك خلاف بين أولادك، خلاف بين زوجاتك، إن كنت من ذوي التعدد، خلاف بين من حولك، بين شركائك، نظام القرعة نظام مريح جداً.
كل مجموعة قبائل أخذت جداراً، هناك جدار الشامي، واليمني، والجنب الشرقي والغربي، ولما أجمعت قريش على هدم الكعبة أخرجوا ما كان فيها من مال وحلي، وجعلوه عند أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى، وأخرجوا كبير الأصنام هبل، ونصبوه عند المقام، ولما أرادوا الشروع في الهدم ظهرت لهم حية كانت داخل الكعبة، وكشت، أي أخافتهم، وفتحت فاها فهابوها، فقال لهم الوليد بن المغيرة: ألا أيها القوم, ألستم تريدون هدمها لإصلاحها؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين.
يقول عبد العزى: لا تدخلوا في عمارة البيت إلا من طيب أموالكم، ولا تدخلوا فيه مالاً من ربا، ولا من مال ميسر، ولا مهر بغي ـ من ربح نواد ليلية ـ ولا مظلمة أحد من الناس مصادرة، وجنبوه الخبيث من أموالكم، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام، ودعوا الله أن يذهب عنهم تلك الحية، فأقبل طائر كبير فاختطفها, هذا كلام قيل قبل البعثة، هذا يؤكد أن الإيمان فطري، وأن أصول الإيمان مزروعة في قلب كل إنسان.
أنا كنت في القاهرة، وعند الأهرامات برنامج اسمه الضوء والصوت، يعرض تاريخ الفراعنة، لا أنسى كلمة قالها أحد الفراعنة سمعتها بأذني، قال: أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد.
الدين أصل في كيان الإنسان، الذي أدهشني أن هذا الكلام قبل البعثة، وقبل القرآن، وقبل الوحي.

دعوة لك أيها المسلم:
أيها الأخوة, السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها لما رأت النبي مضطرباً بعد مجيء الوحي، ماذا قالت له؟ قالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، من أين جاءت بهذا؟ هذا من الفطرة.

أنا أقول لكم أيها الأخوة، ما دام الإنسان مطيعاً لله، ما دام محسناً، ما دام مستقيماً، والله الذي لا إله إلا هو لا يخزيه الله أبداً، ولو افتقر إلى كل مقومات الحياة، ما دام مستقيماً، لم يبن مجده على أنقاض الناس، ولا غناه على فقرهم، ولا أمنه على خوفهم، ولا عزه على ذلهم، ولا حياته على موتهم، ما دام منضبطاً، دققوا أيها الأخوة:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ﴾
( سورة الجاثية الآية: 21)
محياهم في الدنيا, قال تعالى:
﴿وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
( سورة الجاثية الآية: 21)
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعامل المستقيم كالمنحرف، والصادق كالكاذب, والعفيف كالعاصي، والمخلص كالخائن, قال تعالى:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ﴾
( سورة السجدة الآية: 18)
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
( سورة القلم الآية: 35-36 )
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
( سورة القصص الآية: 61 )
شروط الدعاء المستجاب:
أيها الأخوة, الآن هناك استنباط دقيق، لا سمح الله ولا قدر، لو لم تكن مستقيمًا، ووقعت في أزمة، ودعوت الله، فإن الله يجيبك، قال علماء العقيدة: للدعاء شروط لا يستجاب الدعاء إلا إذا توافرت هذه الشروط:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
( سورة البقرة الآية: 186)
يجب أن تؤمن، ويجب أن تستجيب، ويجب أن تخلص، الدعاء يستجاب، لكن يستثنى من ذلك دعاء المضطر والمظلوم، المضطر يستجيب الله له لا بأهليته للدعاء، ولكن برحمة الله، والمظلوم يستجاب له لا بأهليته للدعاء، ولكن بعدل الله لذلك:
(( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما ]
رجل يعد الرجل الثاني عند هارون الرشيد، فجأة وجد نفسه في السجن، زاره أحد أقرباءه، فقال له: لعل دعوة مظلوم أصابتنا،
(( واتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ الله حِجَاب ))
( أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما )
اتقوا دعوة المظلوم، ولو كان كافراً، هؤلاء مشركون، الإله هبل وضعوه في مقدم البيت، و مع ذلك دعوا ربهم أن ينجيهم من هذه الحية المخيفة، أقبل طائر كبير فاختطفها، و ألقى بها في أجياد، فاعتبروا ذلك دليلاً على رضاء الله عز وجل عن عملهم.
مشكلة حدثت أثناء بناء الكعبة:
أيها الأخوة, تقدم الوليد بن المغيرة بمعول في يده، وبدأ في الهدم بمفرده، ما أحد عاونه أبداً، لأنهم خائفون أن الإله يدمره، لأنه هدم الكعبة.
الحقيقة أحيانا هناك وسوسة، واحد يطوف حول الكعبة، وجد لوزة فملأ الحرم ضجيجاً وصراخاً، من صاحب هذه اللوزة؟ فقال له: عمر كلها يا صاحب الورع الكاذب، يعني كلها وأرحنا.
فبدأ الوليد بن المغيرة وحده بهدم الكعبة، والباقون خائفون، حتى أمسى، ولما أصبح سليماً اشتركوا معه في الهدم، يعني جعلوه ضحية، وافتدوا به، حتى بلغوا حجارة لا يطيق على تحريكها إلا عدد كبير من الرجال، فاتخذوا في ذلك أساساً للبناء، ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة وجدوها أقل من أن تبلغ بهم عمارة البيت كله فتشاوروا، واستقر رأيهم على أن يقتروا على القواعد، ويحذروا ما يقدرون عليه، القواعد حجار وبلاط، لكن بعد ذلك حجارة فقط.
كل شيء جمعوه من أموال ما كفى لبناء الكعبة، القسم الآخر عبارة عن حجار قد صفت بعضها فوق بعض.
أيها الأخوة، الحقيقة أن حجر إسماعيل من الكعبة، قصر بهم المال ينبغي أن يبنى فوق حجر إسماعيل، وأن تكون الكعبة متصلة بحجر إسماعيل، حجر إسماعيل هو دليل أن المال الذي استخدمته قريش لبناء الكعبة لم يكن كافياً.
فالإمام البخاري رحمه الله تعالى روى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر:

(( أمن البيت هو؟ قال: نعم ))
[ ورد في الأثر]
إذا أكرم أحدكم الله بعمرة أو بحج، وطاف حول الكعبة ضمن الحجر طوافه مرفوض، وغير مقبول، لأن الحجر من الكعبة، يجب أن يطوف حول الحجر، فالسيدة عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم:
(( الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ))
[ ورد في الأثر]
لو أن بابه على مستوى الأرض لكان الدخول إليه سهلا، الآن هناك سلم متحرك، كسلم الطائرة، وفيه تكييف.
الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي إلى الله:
أيها الأخوة, يقول المصطفى صلوات الله عليه:
(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت ))
[ أخرجه الترمذي في سننه]
ماذا يستنبط من كلام النبي عليه الصلاة والسلام؟ أحياناً هناك شيء ينكره من حولك إنكاراً شديداً، فأنت إذا تلطفت بهم، طبعاً لا يدخل في الحلال والحرام، ولم تستفزهم، ولم تحرجهم, فأنت حكيم.
فكان عليه الصلاة والسلام حكيماً، من الصعب أن آتي بأمثلة كثيرة، هناك أشياء هي من الشرع، لكن ليس هناك مناسبة للحديث عنها إطلاقاً، يقول لك: حكم الإماء في الإسلام، الآن ليس هناك إماء، دائماً هناك أسئلة استفزازية، فالأولى إذا كان الشيء مرفوضًا في الثقافة المعاصرة، مشروعًا في الثقافة الإسلامية، وغير مطبق، وغير موجود فالداعية الحكيم لا يثير هذه الموضوعات أبداً.
أخواننا الكرام، هذا النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( ولولا أن قومك حديث عهد بكفر, وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت، وأن ألزق بابه بالأرض لفعلت ))
[ أخرجه الترمذي في سننه]
شخص في بلد إسلامي رأى جماعة غير مسلمين، دعاهم للإسلام، وهو جاهل، طيب كيف ندخل في الإسلام؟ قال, قولوا: أشهدوا أن لا إله إلا الله، شهدوا، طيب ماذا بعد ذلك؟ قال لهم: الطهور في كل الدين، ما اختار إلا الطهور، قالوا: لا نريد، قال لهم: أنتم مرتدون، وفيها قطع رقابكم، قالوا له: والله شيء جميل، بالدخول قص من تحت، وبالخروج قص من فوق، هذه دعوة إلى الله عز وجل؟ الطهور حق، ولكن واحد أسلم حديثا ما وجدت في الدين إلا الطهور، أنا آتي بأمثلة بناء على قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لولا أن قومك حديث عهد بهذا الدين لفعلت كذا وكذا، لكن راعى مشاعرهم، فأنت كداعية يجب أن تراعي المشاعر، يجب أن تختار أجمل الكلمات, قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
( سورة فصلت الآية: 33)
انظر إلى مدى حكمة النبي في تدبير الأمور:
أيها الأخوة, اختلفت قريش في موضع الحجر الأسود، من يرفعه؟ ومن يحمله؟ وكل فريق أراد أن يذهب بشرف وضعه في مكانه.
نحن عندنا اختلاف طبيعي، نحن عشية العيد سمعنا صوتًا يشبه المدفع، قلنا: لقد أثبت العيد، ولكن غير متأكدين، هذا خلاف، يا ترى انفجار بالجبل لفتح طريق، أم مدفع العيد، نفتح الإذاعة، فإذا ثبت أنه العيد جاء الخبر الصادق، وحسم الموضوع، وهذا الاختلاف الطبيعي أساسه نقص المعلومات، صاحبه معذور, قال تعالى:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾
( سورة البقرة الآية: 213 )
نقص المعلومات يؤدي إلى اختلاف، لكن عندنا اختلاف قذر, قال تعالى:
﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾
( سورة آل عمران الآية: 19 )
بسبب الحسد اختلفوا، اختلاف مصالح، اختلاف تنافس، اختلاف كبر، اختلاف سيطرة، اختلاف مكاسب، هذا الاختلاف القذر، عندنا اختلاف حيادي لا محمود ولا مذموم، وعندنا اختلاف محمود, قال تعالى:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
( سورة المطففين الآية: 26)

إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف الكتب، وهو جاد في هذا المضمار، إنسان يرى أن أعظم شيء تأليف القلوب، تسليك الناس إلى الله، إنسان يرى أن أعظم شيء بناء المساجد، فكل إنسان يرى عملاًَ صالحاً في مقدمة الأعمال، هذا اختلاف رحمة، هذا اختلاف محمود، اختلاف تنافس.
قريش أوشكت أن تقتتل من أجل الحجر الأسود، من يحمله؟ ومن يضعه في مكانه؟ فأشار عليهم أبو أمية حذيفة بن المغيرة أن يحكموا أول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، رضوا بذلك، طلع عليهم محمد بن عبد الله، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، فلما أخبروا الخبر أمر بثوب، فوضع فيه الحجر الأسود، وطلب أن يتقدم من ربع من أرباع قريش رجل أن يأخذ بزاوية من زوايا الثوب القبائل قسمت أربعة أقسام، وكل مجموعة اختارت رجلا يمسك بطرف الثوب، والنبي عليه الصلاة والسلام أمسك الحجر، ووضع بيده الشريفة في مكانه الصحيح، وحسم الخلاف كلياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ليس منا من فرق، انظروا إلى حكمته، انظروا إلى تواضعه, انظروا إلى أنه قبل الأطراف كلها، فالحكمة ضالة المؤمن, قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾
( سورة البقرة الآية: 269 )
الدروس والعبر التي يمكن أن نستنبطها من موضوع بناء الكعبة:

أيها الأخوة، هذا موضوع بناء الكعبة نستنبط منه أشياء كثيرة، إذا ورد شيء في النصوص، ولسنا بحاجة إليه، ولا علاقة له بعقلنا، وفيه استفزاز أحياناً، ليس من الحكمة أن تستفز مشاعر الناس، فتكون عندهم منفراًَ لا داعية إلى الله عز وجل.
مثلاً: في الإعجاز العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببعض الحالات المرضية أن يعالج الإنسان ببول الإبل، وثمة بحث في أكثر من ثلاثين صفحة المراجع باللغة الإنكليزية حول صواب هذا التوجه، لكن الإنسان حديث عهد بالإسلام، تقول له: النبي أمر أن تستطب ببول الإبل، هذه لا بد لها من تمهيدات كثيرة جداً، فلا تكن استفزازياً، الشيء غير موجود عندنا الآن، وغير مطروق، وفيه نص صحيح، ويحتاج إلى شرح طويل إياك أن تستفز به أحداً، انطلاقاً من هذا النص.






والحمد لله رب العالمين




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-03-2018, 07:44 AM   #9


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية





بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( التاسع )

الموضوع : بشارات النبي في التوراة والإنجيل وأخلاقه وأصدقائه قبل البعثة








الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
القيم الأخلاقية تتجلى في هذه الأركان الثلاث:
أيها الأخوة، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً غاية الحكمة في تصرفه في وضع الحجر الأسود في مكانه، عقب ذلك أصبح عند قومه الصادق الأمين، والشيء الذي يلفت النظر أن النجاشي حينما سأل سيدنا جعفر عن الإسلام, فقال:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، و نقطع الرحم، ونسيء الجوار، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه ))
[ أخرجه أحمد عن أم سلمة في مسنده]
كأن هذه الصفات الثلاث الصدق والأمانة والعفاف أركان القيم الأخلاقية، هذا الإنسان إن حدثك فهو صادق، وإن عاملك فهو أمين، وإن استثيرت شهوته فهو عفيف، نعرف أمانته وصدقه وعفافه، أما النسب فتاج يتوج به المؤمن، ولا قيمة للنسب من دون إيمان، والدليل:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾
( سورة المسد الآية: 1-2)
هل المقصود دراسة السيرة لذاتها أم المنهج النبوي فيها ؟

أيها الأخوة، قد يسأل سائل: لماذا التركيز على السيرة النبوية؟ الحقيقة ليس التركيز على شخص النبي مع أنه سيد الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، ولكن التركيز على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي وحده أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، وكمله الله عز وجل, وعصمه من أن يخطئ في أقواله وفي أفعاله وفي إقراره، وهو قدوة للبشر، بل إن البشر خُلقوا ليكونوا على شاكلة محمد صلى الله عليه وسلم، فالبحث في سيرة النبي بحث في المنهج القويم الذي ينبغي أن يتبعه الإنسان العاقل، نحن في هذه الدروس نبحث عن منهج أمثل كي نسلكه، وكي يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنا.



العناية الإلهية عامة شاملة لجميع من آمن بالنبي ولا تخص النبي بمفرده:
أخواننا الكرام، يقول علماء السيرة: الله جل جلاله كان يكلأ النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظه ويحوطه من جاهلية الجاهلية، يا ترى هل هذا شيء خاص بالنبي؟ فكل واحد منا موضع عناية الله عز وجل، بل يمكن أن نقول: إن الإنسان في العناية المشددة، لك رب كريم يرعاك رعاية تامة, فبطولتك أن ترضى عنه في المكاره كما في إقبال الدنيا.
الآن الإنسان حينما يتحرك، حينما يدرس، أو حينما يعمل، أو حينما يتاجر، أو حينما يسافر، أو حينما يتزوج، هذه الحركة حركة الإنسان في الحياة تكشف معدنه، في الامتحان يدرس ويكتب، أو يغش بالامتحان، في التجارة يصدق أو يكذب، ورد في بعض الآثار:

(( إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا ))
[ ورد في الأثر]
فحركة الإنسان في الحياة مجال لامتحانه, قال تعالى:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون الآية: 30 )
ما معنى اﻹنسان ميسر لما خلق له ؟
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( كلٌّ ميسَّر لما خُلق له ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
يعني أي إنسان على الإطلاق
(( ميسَّر لما خُلق له ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
لماذا خُلق الإنسان؟ خُلق لجنة عرضها السموات والأرض، الدليل:
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
( سورة هود الآية: 119 )
فما منا واحد من ذكر وأنثى إلا وخُلق للجنة، إلا وخُلق ليسعده في الدنيا والآخرة، لذلك ولأن الله يعلم حقيقة الإنسان، وخصائص الإنسان، فالله جل جلاله ييسر كل مخلوق لما خُلق له، أي ييسره للجنة، فقد يقتضي أن تكون من أب معين، ومن أم معينة، وقد يقتضي أن تكون في زمن معين، وقد يقتضي أن تكون في مكان معين، وقد يقتضي أن تكون ذكراً، وقد يقتضي أن تكون أنثى، وقد يقتضي أن تكون لك ملامح خاصة، فكل دقائق حياتك دليل من تصميم الله عز وجل، ليكون عوناً لك لما خُلقت، هذه حقيقة مطلقة،
(( كل ميسر لما خُلق له ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
أنت خُلقت للجنة، أنسب شيء لك أن تكون كذا أو كذا، في المكان الفلاني، في الزمان الفلاني، من الأب الفلاني، من الأم الفلانية، بخصائص معينة، هذا كله في خدمة هدفك الذي خُلقت من أجله وهو الجنة، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وكلما ازددت إيماناً ازددت رضا عن الله عز وجل, قال تعالى:
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾
( سورة البينة الآية: 8 )
النبي قدوة لنا ولكل مبتلى:
أيها الأخوة, النبي صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتجارة، وقد روي أنه شارك السائب ابن أبي السائب قبل بعثته، كان له شريك، وكان تاجر، فلما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءه السائب, فقال له:
(( مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري ))
[ رواه وأحمد عن أبي السائب في مسنده ]
يعني لا يجادل ولا يدافع، النبي صلى الله عليه وسلم كان شريكاً مضارباً بمال خديجة، ورعى الغنم، وذاق مر الحياة وحلوها، وذاق النصر والقهر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وموت الولد، وطلاق البنات، فكل ما يعتري الإنسان في حياته ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم، وكانمثلاً أعلى.
إليكم هذه القاعدة:

أيها الأخوة، دققوا في هذه القاعدة التي سأضعها بين أيديكم، البطولة ليس أن تنجو من مشكلة أو من مصيبة، أو من محنة، أو من امتحان، أو من ابتلاء، البطولة أن تقف الموقف الكامل من هذا الابتلاء، قد يبتلى الإنسان بزوجة سيئة، بطولته أن يقف الموقف الكامل منها فيصبر عليها فيرقى عند الله.
قد يبتلى بابن متعب، قد يبتلى بجار، قد يبتلى بصديق، قد يبتلى بالفقر، قد يبتلى بالمرض، قد يبتلى أن يفقد حريته لأمد، فليست البطولة ألا تصيبك مصيبة، ولكن البطولة أن تقف الموقف الكامل من أي شيء يصيبك.


ما هو الثناء الرفيع الذي أطلقه الله على رسوله ؟
أيها الأخوة, شمائله كانت كريمة، وفكره كان صائباً، ورأيه كان راجحاً، ومنطقه كان صادقاً، ونهجه كان أميناً، حتى وصلت كمالاته إلى الذروة، لذلك أثنى الله على خلقه, فقال:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم الآية: 4 )
وقد يكون الإنسان ذا خُلق، أما أن يكون على خُلق، أيْ متمكن فصعب، أحياناً الإنسان يستفز، فينشأ عنده صراع، ينتقم أو لا ينتقم، لو أن في النهاية انتصر على نفسه، ولم ينتقم، نقول: فلان ذو خُلق، أما إذا كان على خُلق، أي ليس عنده صراع، الموقف الكامل بديهي عنده، هو في أعماق الكمال، هو في قيم الكمال، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم الآية: 4 )
ما المقصود من كلمتي المداهنة والمداراة ؟
أيها الأخوة، حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم كان تاجراً، وشريكاً للسائب بن السائب، وكان لا يداري ولا يماري، لا بد من وقفة متأنية عنده المداراة والمداهنة، ما هي المداهنة؟ المداهنة أن تضحي بدينك من أجل دنياك، قال تعالى:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾
( سورة القلم الآية: 9 )
أن تضحي بفرائضك، أن تضحي بطاعتك، أن تضحي بكلمة الحق تلقيها في موطن صعب، فحينما تضحي بدينك من أجل دنياك فهي المداهنة، أما حينما تضحي بدنياك من أجل دينك فهي المداراة، فالمؤمن يداري ولا يداهن، والمنافق يداهن ولا يداري، قد ينزل المؤمن عن بعض حقه، يعني تطييباً لقلب خصمه، قد ينزل الجار عن بعض حقه تطييباً لقلب جاره، يتنازل عن دنياه من أجل رأد الصدع, ولمّ الشمل, وتطييب القلوب، أما المنافق فيضحي بدينه من أجل دنياه.
آثار النبوة التي كانت ترافق محمد قبل البعثة:
شيء يلفت النظر، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم عصمه الله من الكفر قبل البعثة، وجنبه عبادة الأوثان التي عبدها قومه، فلم يعبدها، ولم يقدم لها القرابين، ولم يكن يأكل مما يذبح على النصب، وكان يستمسك بإرث إبراهيم.
كان عليه الصلاة والسلام يطوف بالكعبة المشرفة، وقد طاف معه مولاه زيد بن حارثة مرة، فلمس زيد بعض الأصنام، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حلف زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مس منها صنماً حتى أكرمه الله بالوحي، وكان التعري عند الطواف مألوفاً في الكعبة، وعصم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطوف عرياناً.
مرةً استخدم أجيراً، فتعرى هذا الأجير ليغتسل أمام الملأ، فقال عليه الصلاة والسلام لهذا الأجير:

(( لا أراك تستحي من ربك خذ إجارتك لا حاجة لنا بك ))
[ورد في الأثر]
فقبل البعثة، وقبل الوحي كان عليه الصلاة والسلام قمة في الحياء، وقمة في الخجل، وقمة في الورع.
اشترك مع عمه العباس في نقل الحجارة لما جددت قريش بناء الكعبة، كما ذكرت في الدرس الماضي، فاقترح عليه عمه العباس أن يرفع إزاره، ويجعله على رقبته ليقيه أثر الحجارة ما دام بعيداً عن الناس، فلما فعل سقط على الأرض مغشياً عليه، فلما أفاق طلب أن يشدوا عليه إزاره، كان أشد حياء من العذراء في حجرها.
شهادة قريش على خلق النبي قبل البعثة:
أيها الأخوة, النبي عليه الصلاة والسلام عرف بالصدق والأمانة، وصلة الأرحام، ومساعدة الضعفاء، والبذل في الخير، فكانت قريش تلقبه بالأمين.
الإنسان مقسم إلى ثلاثة أثلاث، الثلث الأول يعرفه كل الناس، فلان الفلاني ابن فلان، طويل، قوي، مثقف، طبيب، مهندس، تاجر، عامل, فلاح، هذا الثلث الأول، وثلث آخر لا يعرفه إلا المقربون إليه، من هؤلاء زوجته، من هؤلاء شريكه، من هؤلاء من هو معه ليلاً نهاراً، وثلث ثالث لا يعلمه إلا الله، والخطورة دائماً في هذا الثلث الأخير، فالإنسان له الظاهر، والله يتولى السرائر.
فالسيدة خديجة من ألصق الناس به، لما جاءه الوحي، وخشي النبي شيئاً, وذكر للسيدة خديجة وهي زوجته، قالت: والله لا يخزيك الله أبداً, هذه كلها دلالات على خلق النبي محمد عليه الصلاة والسلام قبل بعثته.
أهمية الصحبة وخطورتها في الإسلام:

أيها الأخوة، من هم أصدقاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة؟ قالوا: قل لي من تصاحب, أقل: من أنت؟ الإنسان دائماً يصاحب من كان على شاكلته، فالكامل يحب الكامل, والصادق يحب الصادق، والأمين يحب الأمين، والعفيف يحب العفيف.
كقاعدة علمية: كل شخصية فيها تقريباً ألف سمة، والشخصية الثانية فيها ألف سمة، كم سمة مشتركة بين الشخصيتين؟ هذه وراء المحبة والألفة، فكلما زادت النقاط المشتركة بين شخصيتين ازدادت المحبة والألفة، فأنت مثلاً يمكن أن تجلس مع أخ مؤمن عشر ساعات دون أن تمل منه، السبب لأن نقاط التشابه في شخصيتك تقابل نقاط التشابه في شخصيته، هناك نقاط مشتركة بين الشخصيتين.

فأصدقاء النبي صلى الله عليه وسلم, أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، هؤلاء أصدقاءه قبل البعثة، وأقول لكم: لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصاحب إلا من ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، لذلك اعتنِ عناية فائقة بأصدقائك، هم عونك على طريق الإيمان، قال تعالى:

﴿يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾
( سورة الفرقان الآية: 27)
﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ﴾
( سورة الفرقان الآية: 28)
أيها الأخوة، أهم شيء في الحياة أن يكون أخ لك في الله ينصحك وتنصحه، ويرشدك وترشده، ويأخذ بيدك وتأخذ بيده، هؤلاء الثلاثة عُرفوا بالأخلاق العالية، والنظرة السليمة، والبعد عن الرذائل، والتثقف بثقافة حسنة من معرفة الأحساب والأنساب، كما عُرفوا بإكرام الضيف، والإنفاق بالخير، وهذه الخصال الحميدة قربتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أصدقاءه قبل البعثة.
أقول لكم من أعماق قلبي: اعتنوا بأصدقائكم، ابحث عن صديق تزداد به علماً، وتزداد به قرباً من الله.
بالمناسبة أيها الآباء، أيتها الأمهات، دققوا في أصدقاء أولادكم، في الدراسة النفسية أن الطفل أو الشاب يتأثر 40 % من مجموع التأثير بمعلميه، وأبيه وأمه، ومرشده، وكل من معه، ويتأثر 60 % من أصدقائه، فالأب الصالح، والأم الصالحة يدققا في أصدقاء ابنهما، لأن هؤلاء الأصدقاء إما أن يأخذوه إلى الهلاك، أو إلى الرقي في الدنيا.
إليكم بعض نصوص التوراة والإنجيل التي تبشر بظهور النبي في آخر الزمان:
أيها الأخوة، بشارات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة توراة السامرة، وإنجيل برنابا، في هذين الكتابين المقدسين نصوص صريحة تبشر بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص إنجيل برنابا على التصريح برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك ما ورد في الإصحاح الحادي والأربعين عن إخراج آدم وحواء من الجنة، حيث نص على ما يلي:
فاحتجب الله، وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس، فلما التفت آدم رأى مكتوباً فوق الباب لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا في إنجيل برنابا.
وقد أيدت المخطوطات التي عُثر عليها في منطقة البحر الميت حديثاً ما ورد من إنجيل برنابا المذكورة.
وحين تحدث السيد المسيح عليه السلام إلى الحواريين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرهم أنه قادم إلى العالم، سأله الحواريون: ما معلم من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي سيأتي إلى العالم؟ أجاب يسوع بابتهاج قلب: إنه محمد رسول الله، ومثل هذه البشارات تتكرر في إنجيل برنابا في مواضع كثيرة، إذاً: هناك بشارات في التوراة والإنجيل تبشر بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الإصحاح الثاني من إنجيل لوقة, قوله: الحمد لله في الأعالي، وعلى الدنيا السلام، وللناس أحمد، هذا في إنجيل لوقة.
والإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقة يرد قول المسيح: إن لم أنطلق يأتيكم الفار قليط، الفار لقيط هو لفظ سرياني مشتق من فاران، بمعنى مكة، وجبل فاران هو جبل حراء، والقليط بمعنى المتحنث المتعبد، ويأتي بمعنى الحامد وأحمد، هذا أيضاً في إنجيل لوقة، أما القرآن الكريم فالآية فيه صريحة:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
( سورة الصف الآية: 6 )
أيها الأخوة, قبل أن أمضي في متابعة هذه الفكرة, أقول لكم هذه الآية:
﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾
( سورة البقرة الآية: 146 )
بربكم, هل هناك معرفة أصدق، وأقوى، وأمتن، وأعمق، وأكثر بديهية من معرفة الأب لابنه؟ هل هناك أب على وجه الأرض, يقول لابنه من أنت؟
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾
( سورة البقرة الآية: 146 )
صفات النبي محمد كما وردت في الكتب السابقة:
أيها الأخوة, أما صفات النبي صلى الله عليه وسلم وعلاماته فقد وردت في كل من التوراة والإنجيل بشكل صريح، كما أخبر الله تعالى في الكتاب العزيز, بقوله:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
( سورة الأعراف الآية: 157)
من؟ رسول الله:
﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
( سورة الأعراف الآية: 157)
نصوص كثيرة في التوراة والإنجيل، وآيتان واضحتان صريحتان صارختان في القرآن الكريم تؤكد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وتؤكد صفات النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالأخبار متوافرة بمعرفة أهل الكتاب بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله تعالى بذلك عن أهل الكتاب كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:

﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
( سورة البقرة الآية: 89)
أقوال ممن أسلموا في عصر النبي وسمعوا ممن أخبروا في كتبهم عن ظهوره:
أيها الأخوة، هناك فكرة دقيقة جدا، يقول ابن إسحاق عن رجال من الأنصار: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه, لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا هم أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا و بينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون, قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وارم، ولاشك أن يهود المدينة كانوا يعرفون أن زمان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد اقترب، لكنهم توهموا أنه منهم، وكانوا يزعمون أنه منهم، ويتوعدون به العرب, وقد بين الله سبحانه وتعالى أنهم يعرفونه بصفاته، وإنما أنكروا نبوته وجحدوها لما تبين لهم أنه من العرب, قال تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
( سورة البقرة الآية: 89)
ملك الروم هرقل كان يقول حينما استلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، كنت أعلم أنه خارج، يعني سيظهر نبي، ولم أكن أظن أنه منكم أيها العرب.
خلاصة الدرس:
أيها الأخوة، في هذا الدرس تحدثتا عن بشارات النبي في كتب أهل الكتاب التوراة والإنجيل، وعن أخلاق النبي صلى الله عليه وسام, وعن أصدقائه قبل البعثة.
وإلى لقاء أخر في موضوع فقه السيرة النبوية.







والحمد لله رب العالمين


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 07-03-2018, 08:16 AM   #10


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: فقه السيرة النبوية



بسم الله الرحمن الرحيم

فقة السيرة النبوية

الدرس : ( العاشر )

الموضوع : نزول الوحى والبعثة النبوية




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات. ماذا يعني سن الأربعين ؟
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وموضوع اليوم نزول الوحي والبعثة النبوية.
أيها الأخوة، بدأ نزول الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون عاماً، وسوف نقف وقفة متأنية عند كلمة ( أربعين عاماً )، لأن هذا السن سن النضج، قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
( سورة فاطر الآية: 37 )

قال الإمام القرطبي: " النذير سن الأربعين "، فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة,

(( من أتت عليه أربعون سنة ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ))
[ورد في الأثر]
قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾
( سورة فاطر الآية: 37 )
ورحم الله القائل:
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
الفرق بين كلمتي التراث والوحي:
أيها الأخوة، قصة بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بنص صحيح من حديث عروة بن الزبير.

هناك من يظن أن الإسلام تراث، التراث أرضي، الإسلام وحي السماء، فرق كبير بين الثقافات التي هي من صنع البشر, وبين وحي السماء الذي هو من عند خالق البشر، كما أن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، إذاً: بين وحي السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وبين ثقافات الأرض كما بين الأرض والسماء.
إذا قلنا: وحي فهذا شيء آخر، حق صُراح، ليس فيه باطل ولا شك، لا يعدّل، ولا يبدّل، ولا يغيّر, ولا يطوّر، ولا يحذَف منه، ولا يضاف عليه، لذلك هؤلاء الذين يتحدثون عن تجديد الخطاب الديني قد يقصدون إلغاء الخطاب الديني، أو تفريغه من مضمونه، لأنه ما من تعريف جامع مانع للتجديد في الدين إلا أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه، الدين توقيفي.
لذلك قال العلماء: الأصل في العبادات، وفي العقائد الإسلامية الحظر، ولا تشرع عبادة إلا بالدليل القطعي الثبوت والدلالة، لكن الدنيا الأصل فيها الإباحة، ولا يحرم شيء إلا بالدليل القطعي والثابت.
بدايات نزول الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام:
أما الحديث الصحيح الذي روي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
(( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
لذلك عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ, فَقَالَ:
(( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ))
[أخرجه مسلم عن ابن عباس في الصحيح]

إما أن تكون بشارة، وإما أن تكون لفت نظر، الرؤيا طريق مباشر بين العبد وربه، فكان عليه الصلاة والسلام قبل نزول الوحي يرى الرؤيا الصالحة فتأتي مثل فلق الصبح، ولعل الرؤيا الصالحة من تكريم الله للإنسان,

(( وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ( أي يتعبد) اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ, قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
الإنسان أحياناً يسعد إلى الأبد بلحظة تفكير صادقة, قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
( سورة آل عمران الآيات: 190 ـ 191 )
إذًا: كان عليه الصلاة والسلام يتفكر في غار حراء الليالي ذوات العدد، فعلى كلِّ مؤمن أن يتفكر كل يوم بعض الوقت في خلق السموات والأرض.
أصل معرفة الدين معرفة الآمر:
أيها الأخوة، إذا كان في القرآن الكريم آية فيها أمرٌ, ماذا تقتضي هذه الآية؟ أن تأتمر، وإذا كان في القرآن الكريم آية فيها نهي, ماذا تقتضي هذه الآية؟
أن تنتهي، وإذا كان في القرآن الكريم مشهد من مشاهد يوم القيامة, ماذا تقتضي هذه الآية؟ أن تبادر إلى أسباب الجنة، وأن تبتعد عن أسباب النار، وإذا كان في القرآن الكريم قصص الأولين, ماذا تقتضي هذه الآية؟ أن تتعظ، وأن تجتنب أسباب هلاك الأمم، وإذا كان في القرآن الكريم 1300 آية كونية ماذا تقتضي هذه الآيات؟ أن تتفكر في هذه الآيات، وهذه الآيات في الحقيقة هي منهج بحث عن الله عز وجل.
وقد قال بعض العلماء: " من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة "، أنت حينما تجول في آيات الله الدالة على عظمته تعرف الله، ومعرفة الله أصل الدين، وهذا الذي يقع في العالم الإسلامي من تفلت لا بسبب جهل المسلمين بأحكام الفقه، ولكن بسبب جهل المسلمين بالذات الإلهية، إذا عرفت الآمر، ثم عرفت الأمر, تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر، ولم تعرف الآمر, تفننت في التفلت من الأمر.
كيف يسير المؤمن في هذه الدنيا ؟
أيها الأخوة, سيدنا نُعيم ابن مسعود زعيم قبيلة غطفان، جاء المدينة ليحارب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، وهو في خيمته، وقد أصابه أرق، خاطب نفسه، وقال: يا نُعيم، ما الذي جاء بك إلى المدينة؟ لتقاتل هذا الرجل الصالح, ماذا فعل؟ أَنتهك عرضاً؟ أسلب مالاً؟ أسفك دماً؟ أين عقلك يا نُعيم؟ أنا أتمنى عليكم جميعاً أن تخلو أحيانا بأنفسكم، أن تفكر من أنا؟ ماذا هدفي في الحياة؟ ماذا بعد الموت؟ ماذا أعددت لآخرتي؟ دقق في أعمالك، في حرفتك، في كسب مالك، في إنفاق مالك، في تربية أولادك، هل حرفتك ترضي الله أم لا ترضي الله؟ لا ينبغي أن تأخذك الدنيا، قال تعالى يصف عباده المؤمنين, قال:

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
( سورة الفرقان الآية: 63 )
ما معنى هوناً؟ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي هوناً، كان إذا مشى كأنه ينحط من جبل، السيدة عائشة كانت تقول: " رحم الله عمر، ما رأيت أزهد منه، كان إذا سار أسرع، وإذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع".
إذاً: ما معنى, قوله تعالى:
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾
( سورة الفرقان الآية: 63 )
أي يمشي بتؤدة فكرية، لا يسمح للدنيا أن تأخذه، لا يسمح للدنيا أن تنسيه هدفه، لا يسمح للمصائب أن تنقله إلى اليأس والقنوت، واعٍ، متبصر، متفائل .
المرحلة الأولى التي نزل بها الوحي على النبي على شكل مادي مرئي:
أيها الأخوة,
(( وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ( أي يتعبد) اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ, قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي- معنى غطني أي عصرني، لئلا يتوهم متوهم أن الوحي منام، تأمل، حلم، لا، الوحي شيء مادي ـ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي ـ أي عصرني ـ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ـ أي التعب والإعياء ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ - جاء الوحي على شكل مادي ـ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال َ))

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
( سورة العلق الآية: 1-5)
(( فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي ـ أي دثروني، ضعوا علي الدثارـ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
قال تعالى:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
( سورة الشورى الآية: 29 )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾
( سورة فصلت الآية: 37 )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
( سورة الروم الآية: 21)

عظيم عظماء الأرض، سيد ولد آدم، حبيب خالق الأكوان، أصابه خوف, من الذي هدأ روعه؟ زوجته، أريت إلى هذا الدور الخطير، لذلك السيدة خديجة كانت سنده من الداخل، وحينما توفيت سُمي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن,

(( حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
أيها الإخوة، لم يكن هناك وحي، ولا حديث شريف، ولا أحكام، قالت هذه الزوجة العظيمة: كلمة الفطرة، قالت له:
(( كَلَّا، وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
لا يخزيك الله أبداً أيها المسلم إذا كنت كما أراد الله ورسوله:

أيها الأخوة، أيها الشباب، دققوا فيما سأقول: أنت أيها الشاب ما دمت مستقيماً، ما دمت غاضاً لبصرك, ما دمت صادقاً في كلامك، ما دمت أميناً على ما ائتمنت عليه، ما دمت باراً بوالديك، لك هذه البشارة، هذه البشارة قانون، والله لا يخزيك الله أبداً، في أي عصر، في أي مكان، في أي مصر، في أي ظرف, صدق القائل:

كن مع الله تـر الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنـعه ثم من يعطي إذا ما منعك




قيمة المرأة الواعية في بناء العش الزوجي:
أيها الأخوة, الإنسان إذا تزوج، واختار زوجته بطريقة تروق له، واكتفى بمتعة أن يملأ عينيه من محاسنها، ولم تكن في مستواه الفكري
فهذا الزواج لا ينجح، وسريعاً ما يمل كل طرف صاحبه، لكن إذا كانت الزوجة على جانب من العلم يحصل بينك وبينها مشاركة فكرية، مشاركة وجدانية، فهذا الزواج ناجح, أنت تسعد بزوجة تشاركك همومك، تشاركك في مبادئك، وفي قيمك, وفي طموحاتك، فلذلك تعلُّم الفتاة له معنى كبير، لأنك إن علّمت شاباً علّمت واحداً، أما إن علّمت فتاة علمت أسرة بأكملها.
السيدة خديجة أكبر دليل على أنها كانت سند النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن أبلغ شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه حينما فتح مكة، ودعاه سادة قريش ليبيت عندهم، قال: انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة، وركز لواء النصر أمام قبرها، ليعلم أهل الأرض أن هذه المرأة التي في القبر شريكته في النصر، هذه الحياة الزوجية الراقية، أن تكون زوجتك قريبة من طموحاتك، ومن همومك، ومن أهدافك.
المعاني الدقيقة التي يمكن أن نستنبطها من حديث ورقة بن نوفل:
أيها الأخوة,
(( فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا ))
[أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]

معنى ذلك أن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، من بدء الخلق إلى يوم القيامة، ليمتحن الله المؤمنين، ولولا هذه المعركة لما كانت جنة، أليس الله قادراً أن يخلق الكفار في قارة، والمؤمنين في قارة؟ أليس الله قادر أن لا يكون هناك بدر، ولا أحد، ولا الخندق، ولا فتح مكة، وكل الناس مؤمنون مسالمون؟ عندئذٍ ليس هناك جنة, قال تعالى:

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾
( سورة البقرة الآية: 214 )

﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾
( سورة الأحزاب الآية: 10-11)
لذلك حينما تأتي المحن تكون بعدها المنح، حينما تأتي الشدائد يكون بعدها شَدة إلى الله عز وجل.
فالشدائد والضغوط تصنع الرجال، وتصنع البطولات، وقد تكون سبباً لدخول الجنة، الدنيا ليست دار جزاء وإنما دار ابتلاء، واسم الله عز وجل العدل محقق في الدنيا جزئياً، بينما هو محقق يوم القيامة كلياً, قال تعالى:﴿يَبدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾
( سورة يونس الآية: 34 )
﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾
( سورة طه الآية: 15 )
ليست العبرة أن تسلم من كل مصيبة، العبرة أن تقف الموقف الكامل مع كل مصيبة.
الأدلة من الكتاب على أن الوحي حقيقة خارجة عن كيان النبي وليس بيده جلبه أو دفعه عنه:
1- في فترة غياب الوحي على رسول الله في أول مرة ينزل عليه:
أيها الأخوة, ثم لم يلبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي فترة، حزن النبي له حزناً شديداً
لكن كان جبريل يتبدى للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، كان يرى جبريل من حين إلى آخر، لأنه لما فتر الوحي تألم النبي عليه الصلاة والسلام والدليل:

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
( سورة الضحى الآية: 1-3)
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾
( سورة مريم الآية: 96)
أكبر عطاء تناله من الله أن تكون لك مع الله مودة، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾
( سورة مريم الآية: 96)
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان في أعلى درجات سعادته حينما جاءه الوحي، فلما غاب عنه طويلاً، ما الحكمة أنه غاب عنه؟ الحكمة أن هذا الوحي ليس في مقدور النبي أن يجلبه، ولا أن يدفعه، هو منفصل عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم.
2- حادثة اﻹفك:

أيها الأخوة، أوضح دليل أنه لما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها، واتهمت في أخطر وأثمن ما تملكه فتاة على وجه الأرض، في شرفها، وطهارتها، وعفتها، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده دليل إثبات، ولا دليل نفي، وتألم أشد الألم، ولهطت الأفواه، وأرجف الناس في المدينة، وشاعت قصتها، الزوجة الأولى، السيدة الأولى، تتهم بعفتها؟ قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ ﴾
( سورة النور الآية:11 )
امتحن المؤمنون، المؤمنون الصادقون ظنوا بزوجة نبيهم خيرا، وقالوا:
﴿هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾
( سورة النور الآية: 16 )
بينما المنافقون ولغوا في حديث الإفك، وارتاحوا له، لماذا تأخر الوحي في تبرئتها قريباً من أربعين يوماً؟ لو أن الوحي بملك النبي لجاءت بعد دقيقة آية تبرّئها، هذا دليل قوي جداً على أن الوحي ليس بملك النبي، الوحي منفصل عن رسول الله انفصالاً كلياً، ديننا دين وحي، ديننا ليس تراثاً، وليس ثقافة، دين وحي.
المسؤولية التي أنيطت بالنبي اتجاه أمته:
أيها الأخوة، يروى أن السيدة خديجة دعت النبي e إلى أخذ قسط من الراحة، بعد ما أصابه ما أصابه، فقال كلمة, والله كلما ذكرتها اقشعر جلدي: انقضى عهد النوم يا خديجة، هل تحمل هم المسلمين؟
هل تحمل متاعبهم؟ هل تفكر بالتخفيف عنهم؟ هذا الذي يعيش لذاته لا وزن له عند الله، هل فكرت يوماً لحل مشكلة لمن حولك؟ حل مشكلة شاب، تزويج شاب تزويج فتاة، مساعدة ضعيف، معالجة مريض، هل فرحت لخير أصاب المسلمين؟ هل تألمت لشر أصابهم؟ أم لا يعنيك ذلك إطلاقاً، والله ما لم نحمل هموم بعضنا، ما لم نسعى لتخفيفها، فلا وزن لنا عند الله إطلاقاً، كان عليه الصلاة والسلام, يقول:

(( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا ))
[ أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء ]
لأنه كان يحمل هم البشرية، وكلما اتسعت دائرة اهتمامك ارتقى مقامك عند الله, قال تعالى:
﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴾
( سورة طه الآية: 1-2)
هذا الشقاء المقدس, قال تعالى:
﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾
( سورة طه الآية: 3)
المرحلة الثانية التي أتى بها الوحي للنبي بعد انقطاع عنه:
أيها الأخوة، لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول صدر سورة
﴿اِقْرَأْ ﴾

نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، إلى طريق الله المستقيم، المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة.
أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( بينَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السّمَاءِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي فإذَا المَلَكُ الّذِي جَاءَنِي بِحراءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَثِثْتُ مِنْهُ رُعْباً، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمّلُونِي، زَمّلُونِي، فَدَثّرُوني))
[أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله في الصحيح]
فأنْزَلَ الله تعالى قوله:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾
( سورة المدثر الآية: 1-5)
أيها الأخوة، قال لها: انقضى عهد النوم يا خديجة، وقد ثبت أن الوحي نزل عليه أول ما نزل يوم الاثنين، كما أن المشهود أن ذلك حصل في شهر رمضان، قال تعالى:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾
( سورة البقرة الآية: 185)
والوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظير الوحي الإلهي إلى الأنبياء السابقين, قال تعالى:
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾
( سورة النساء الآية: 163 )\
مسؤولية المسلم اتجاه أقربائه ومن يلوذ به:
أخواننا الكرام، أقرباؤك لهم ميزة، أنه ليس بينك وبينهم حاجز، أنت هل تستطيع أن تمشي في الطريق، وأن تمسك بيد إنسان، وأن تقول له: تعال معي إلى المسجد؟ لا تستطيع، أما أخوك، ابن أخيك، ابن عمك، ابن خالتك، صديقك، زميلك، جارك، قال تعالى:
﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
( سورة الشعراء الآية: 214)
ينبغي أن تستغل أن هؤلاء الأقرباء الذين هم حولك واثقون منك، ليس هناك حاجز بينك وبينهم، فلذلك:
﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾
( سورة المدثر الآية:2-3)
عرفهم بعظمة الله عز وجل، دلهم على الله, عرفهم واجبهم اتجاه دينهم.

اسمعوا هذه الكلمات: من أطاع مخلوقاً, وعصا خالقاً ما قال الله أكبر ولا مرة، ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه رأى أن طاعة هذا المخلوق أثمن عنده من طاعة الله، فكلمة الله أكبر قالها كاذباً, من أطاع زوجته, وعصا ربه ما قال الله أكبر ولا مرة، ولو رددها بلسانه ألف مرة، من غش المسلمين، وجاء ليصلي، وقال: الله أكبر فهو كاذب، لأنه رأى أن هذا المبلغ الكبير الذي حصله من غش المسلمين أكبر عنده من الله، لذلك الله أكبر يجب أن تستند إلى واقع، وإلا أصبحت كلمات المسلمين كلمات مفرغة من مضمونها، لا تعني شيئاً، تقول: الله أكبر، وكل شيء عندك أكبر من الله.

أوصاف الوحي كما بينها النبي:
أيها الأخوة, الآن إليكم بعض أوصاف الوحي، كان عليه الصلاة والسلام يعاني من التنزيل بشدة, فكان جبينه يتفصد عرقاً، في يوم الشديد البرد، وكان وجهه يتغير، ويبدو عليه علامات التعب الشديد، وكان جسمه يسخن، يقول زيد بن ثابت: فأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، وكان يركز ذهنه بشدة لحفظ القرآن، فيحرك به لسانه وشفتيه من شدة اهتمامه، فنزل قوله تعالى:
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾
( سورة القيامة الآية: 16-19)
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ القرآن الكريم يدفعه إلى التعجل في تلقيه، والشوق إليه، وقد بينت ذلك الآية الكريمة:
﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾
( سورة طه الآية: 114)
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم, كيف يأتيه الوحي حين قال:
(( أَحْيَانا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ ))
[أخرجهما البخاري ومسلم عن عائشة في الصحيح]
الصلصلة صوت الحديد إذا اصطدم بعضه ببعض,
((وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَي، فَيَفْصِمُ عَنّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانا يَتَمَثّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول ))
[أخرجهما البخاري ومسلم عن عائشة في الصحيح]
وكان الوحي يأتيه في اليقظة كما تدل على ذلك الأحاديث الصحيحة، استغرق نزول الوحي 23 سنة، منها 13 عاماً بمكة المكرمة، وهذا هو المشهور، وعشر سنين في المدينة، وهذا المتفق عليه.
تفسير ظاهرة الوحي:
أيها الأخوة، إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله بوساطة جبريل عليه السلام، وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام، ولا بالتأمل الباطني، ولا بالاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، ودون أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم أي أثر في الصياغة والمعنى
القرآن الكريم وحي متلو، وتنحصر مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بتلقي الوحي، وحفظ الموحى به وتبليغه، أما بيانه وتفسيره فيتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوبه، وبلفظه، كما تدل على ذلك الأحاديث المحفوظة، وهو أسلوب مغاير تماماً لأسلوب القرآن الكريم, قال تعالى:

﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾
( سورة فصلت الآية: 42 )
ديننا ليس تراثاً، وليس ثقافة، ولكنه وحي السماء، وقد قال الله عز وجل:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
( سورة المائدة الآية: 3 )
قال علماء التفسير: الإتمام عددي، والإكمال نوعي، أي أن عدد القضايا التي عالجها الوحي تامة عدداً، وأن طريقة المعالجة التي تمت كاملة نوعاً، وأية إضافة على الدين اتهام له بالنقص، وأي حذف منه اتهام له بالزيادة.
ومع دروس قادمة في فقه السيرة نتابع فيها الأحداث التي مرت بالنبي عليه الصلاة والسلام مسلسلة.






والحمد لله رب العالمين




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الشجرة, النبوية, فقه


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السيرة الذاتية لعلماء الاسلام السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 63 11-05-2018 02:41 PM
المسجد الأقصى في السيرة النبوية قتيبه العاشق رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 7 06-09-2016 08:12 AM
في ظلال السيرة النبوية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 3 05-09-2016 10:10 PM
من خصائص السيرة النبوية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 5 07-14-2014 05:10 AM
السيرة النبوية ربانية ووسطية منال نور الهدى رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة 4 02-07-2014 10:34 PM


الساعة الآن 08:15 AM