حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين

ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين سيرة الصحابة والصحابيات والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 09-04-2018, 01:20 PM   #21


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( الثامن العاشر )


الموضوع : ام كلثوم




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . لمحة مختصرة عن حياة أم كلثوم بنت النبي :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السادس والعشرين من سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، والصحابية اليوم هي الابنة الثالثة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أم كلثوم، ولدت هذه الابنة الطاهرة بعد رقية، وأسلمت مع أمها خديجة وأخواتها .
أيها الأخوة, قبل المضي في الحديث عن هذه الابنة الطاهرة, يجب أن نعلم هذه الحقيقة، حينما قال الله عز وجل:
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾
[سورة البلد الآية: 1-3]

نظام الأبوة، ونظام البنوة، أن ينحدر البشر من آباء وأمهات، وأن يودع الله في الآباء رحمة تفوق كل تصور، وأن تكون هذه العلاقة علاقة مدهشة، علاقة الأب بابنه، وعلاقة الأم بابنها، وعلاقة الابن بأبيه، والابن بأمه، هذه العلاقة تعرفنا بالله عز وجل، تعرفنا برحمة الله .
في حياة الإنسان إنسان واحد, يتمنى أن يكون خيراً منه، إنه أبوه، لا يوجد أب على وجه الأرض يحسد ابنه، لو كان الأب مستخدماً وابنه وزيراً يفتخر به، الأب الفقير يتمنى أن يكون ابنه غنياً، الأب غير المتعلم يتمنى لابنه أن يكون أعلم العلماء، الأب المستضعف يتمنى أن يكون ابنه أقوى الأقوياء، والأب أحياناً، وفي أغلب الأحيان، وفي بعض الأحيان لا يحتاج إلى ابنه، لنأخذ مثلاً: أب غني وقوي، ولا يحتاج إلى ابنه إطلاقاً، لا حاجة مادية ولا معنوية، ومع ذلك لا يسعد الأب إلا أن يكون ابنه في بحبوحة، وفي كفاية، وفي سعادة، وفي استقرار، وفي سمعة طيبة، إذاً: نظام الأبوة يعرفنا بالله عز وجل .

أيها الأخوة، قلب الأم وحده يعرفك بالله، تتعب لتستريح، تشقى لتسعد، تجوع لتشبع، تعرى لتلبس، الأم أحياناً تحرم نفسها أطيب الطعام، وتطعمه ابنها، إذا كانت رحمة الأمهات هكذا, فكيف رحمة خالق الأرض والسموات؟ قال تعالى:

﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 154]
أن تعرف الله، أن تعرف رحمته، أنه خلق الخلق ليسعدهم، خلقهم لجنة عرضها السموات والأرض، إذا ساق لهم بعض الشدائد من أجل أن يعالجهم، لا أنه جعل الحياة الدنيا متعبة هكذا، قال تعالى:
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾
[سورة البلد الآية: 1-3]
يعني من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، نظام الأبوة .
فابنة النبي عليه الصلاة والسلام السيدة فاطمة حينما بُشر بها، بعض الصحابة ما كانوا مرتاحين لهذه البشارة، فلما نظر إليهم, قال عليه الصلاة والسلام: ((ريحانة أشمها، وعلى الله رزقها))

وهناك بعض الروايات:
((أنه ضمها وشمها، وقال: ريحانة أشمها, وعلى الله رزقها))
.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ((أَنَّ عَلِيًّا ذَكَرَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ, فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: إِنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي, يُؤْذِينِي مَا أذَاهَا, وَيُنْصِبُنِي مَا أَنْصَبَهَا))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وهذه السيدة أم كلثوم، هذه أيضاً ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, يعني ما الذي يخفف متاعب الحياة؟ الأسرة، أتمنى من كل أخ أن يحكم بناء أسرته؛ لأنه مهما تكن الحياة قاسية، مهما تكن متعبة، إذا دخل الإنسان إلى بيته المتماسك، الذي فيه ود، الذي فيه حب، والذي فيه تضحية، والذي فيه مؤاثرة، والذي فيه تقدير، إذا دخل إلى بيته, نسي كل متاعب الدنيا، فإذا كان البيت جحيماً، إذا كان البيت مشحوناً بالبغضاء، بالكراهية، بالمنافسة، بإزعاج الطرف الآخر، هذا بيت قطعة من الجحيم، الإنسان يفر من متاعب الحياة إلى بيته
فإذا كان بيته جحيم إلى أين يذهب؟ .
أعجب أشد العجب من إنسان لا يقيم قيمة للود الزوجي، للود بين أفراد الأسرة، بالابتسامة، بالسلام، بالدعابة, بالهدية, بغض البصر، بالمسامحة، تنمو العلاقات، أما بالتدقيق والمعاتبة, والانتقاد، والسخرية، تنمو الأحقاد، وإذا أردت إن صح التعبير التصميم الإلهي للأسرة:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[سورة الروم الآية: 21]

فإن لم تكن هذه المودة والرحمة بين الزوجين، فالحالة مرضية جداً، وتقتضي المعالجة .
فهذه السيدة أم كلثوم يسميها بعض الخطباء: كوكب الإسلام، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمها خديجة، أم المؤمنين الكبرى رضي الله تعالى عنها، ولدت بعد رقية، وأسلمت مع أمها خديجة وأخواتها .
ماذا قال الله عز وجل عن امرأة نوح وامرأة لوط؟ قال:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾
[سورة التحريم الآية: 10]
إياك أن تفكر أنهما خانتا زوجيهما خيانة فراش، أبداً، بل خيانة دعوة, بالمقابل أسعد شيء للزوج؛ أن تكون زوجته، وأولاده، وبناته على ولاء له، شيء جميل جداً، يعني أحياناً الزوجة، مع مضي الزمن تُمل، أما إذا كانت الزوجة, لها ولاء تجاه زوجها، لها مشاركة، لها دعم، لها مساندة، هذه ليست زوجة فقط، إنها زوجة وصديقة، زوجة ورفيقة, زوجة وزميلة .

أقول لكم: الزوج السعيد هو الذي يستطيع أن يرفع مستوى زوجته إلى مستواه، بحيث يعيش معها كصديقين حميمين، كرفيقين، كزميلين .
لفت نظري أنها أسلمت مع أمها خديجة، سيدنا الرسول عيه الصلاة والسلام ذاق من أهوال الدعوة ما ذاق، لكن زوجته أول من آمن به، وأكبر دعم له، والله وقفت معه كالجبل .
قبل أشهر كما أعتقد, أمضينا فترة طويلة مع خديجة رضي الله عنها، تكاد الدعوة الإسلامية تقوم على جهدها، وعلى دعمها، وعلى صبرها، وعلى صمودها إن صح التعبير، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة، لم ينس فضل خديجة، قال:
((انصبوا لي خيمة عند قبر خديجة، وغرز اللواء عند قبرها))
تزوجها عتيبة بن أبي لهب قبل البعثة، ولم يدخل عليها، كما أن أخاه عتبة تزوج رقية، وعتيبة تزوج أم كلثوم، ولم يدخلا عليهما، وكان ذلك بعد البعثة, فلما نزل قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1]
قال أبو لهب لابنيه: رأسي من رأسكما حرام, حتى تطلقا ابنتيه, فطلقتا قبل الدخول عليهما .
النبي عليه الصلاة والسلام حينما جعله الله أسوة حسنة، قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 21]
كل شيء ذاقه، حتى تطليق البنات ذاقه، وموت الولد ذاقه، والفقر ذاقه، والغنى ذاقه، والقهر ذاقه، والنصر ذاقه، والهجرة ذاقها, والإخراج من بلده ذاقه، ذاق كل شيء، ووقف وقفة كاملة مع كل شيء, فاستحق أن يكون سيد الخلق, ولولا أن النبي بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، لما كان سيد البشر .

أما زوج زينب، دعي الدعوة نفسها, لتطليق ابنة محمد, فلم يفعل، فلما وقع أسيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر إليه, فقال:

((والله ما ذممناه صهراً))
كان حراً، هناك شخص إمعة، هناك شخص قراره بيد والدته، طلق فيطلق، افعل يفعل، اترك يترك، الوالدة على العين والرأس، والوالدة يُحسن إليها بلا حدود، أما أن تأمرك بمعصية فتستجيب، فلست حراً، قالت له: ((إما أن تكفر بمحمد, وإما أن أدع الطعام حتى أموت, قال: والله يا أمي, لو أن لك مائة نفس, فخرجت واحدَةً واحدةً, ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئت، أو لا تأكلي))

الزوجة لها حق، والأم لها حق، أما أن تنساق مع الزوجة, وتنسى حق أمك، شذوذ, أما أن تنسى حق الزوجة, وتنساق مع أمك، أيضاً شذوذ, أعط كل ذي حق حقه، أما الأصل في هذا الموضوع:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾
[سورة الإسراء الآية: 23]
العبادة لله وحده، والإحسان للوالدين، أما إذا أطعت والدك في معصية, فأنت عبدته من دون الله، العبادة لله، والإحسان للوالدين .
وأنا لا أنطلق من فراغ، أخوان كثيرون يسألونني، أمه أمرته بتطليق زوجته، أبوه رفض أن يسمح له بالزواج من فلانة؛ لأنها محجبة، معاملة قاسية جداً، أنت مكلف أن تحسن إلي الأب والأم من دون حدود، من دون قيود، إلى أقصى حد، أما أن تطيعهما في معصية الله فمستحيل, قال تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[سورة لقمان الآية: 15]
ثم تزوجها سيدنا عثمان بعد وفاة أختها رقية سنة ثلاث للهجرة، ولم تلد له، وبقيت عنده إلى سنة تسع، حيث توفيت رضي الله عنها في شهر شعبان .
الآن عامة الناس تزوج زوجة ماتت، أخذ أختها، ماذا يقول الناس: ما هذا؟ ماذا قال النبي؟ قال:
((لو كنَّ عشراً لزوجتهن عثمان))
أرأيت هذا الكمال؟ .
وهناك شخص، لديه ظروف مادية صعبة، يقول: قدَمُ هذه الزوجة شؤم، كلام شياطين، زوجة طاهرة بريئة، ليس لها علاقة، إذا طرأتْ مشكلة، إذا كان هناك رواج، ثم صار كساد، قَدَمُ الزوجة سيء، لا ليس سيئاً، ليس له علاقة، ما دامت الزوجة مستقيمة, فهذا الكلام ليس له علاقة .
التشاؤم من رقم، من بيت، من يوم، دخل زبون عقد صفقة، دخل صديق طارت الصفقة, كلام ليس له معنى إطلاقاً، كلام شياطين، ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس، والحقيقة هذه السيدة الجليلة السيدة أم كلثوم عاشت بين أكرم أبوين على الإطلاق .

العوام لهم كلمة تعجبني، الإنسان حينما يتزوجُ, فإنه يتزوج الأهل؛ لأن البنت نسخة طبق الأصل عن أمها وعن أبيها، فبيت العلم، بيت الخلق, بيت الوقار، بيت الحياء، بيت الأصالة، بيت النسب، ابحث عن الأهل .
طبعاً أم كلثوم ورقية ابنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم, واجهتا مصيراً واحداً في سبيل الإسلام .
صحابي جليل اسمه: مصعب بن عمير، كان ابن أسرة غنية جداً، وكان مضرب المثل في أناقته، وثيابه الفاخرة، كان فتى أنيقاً، فيه غنى ظاهرٌ، فلما أسلم, حُرم كل هذا الغنى، حرمه أهله كل شيء، هذا الحرام وسام شرف .
أقيس على هذه الحادثة، لأن البعثة الإسلامية ظهرت، ولأن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1]
طلقتا منهما، وهذا درس لنا، إذا خسِرْت بسبب دينك، بسبب منهجك, بسبب استقامتك ، بسبب مبادئك، بسبب أهدافك النبيلة، بسبب هويتك الواضحة, خسرت شيء من الدنيا، خسارة هذا الشيء, وسام شرف لك .
إياك أن تعد هذا خسارة، افتخر بكل شيء ضاع منك, بسبب مبدئك, لأن هذا في ميزان حسناتك يوم القيامة .
هناك نقطة دقيقة جداً سأوضحها لكم: إنسان عنده مطعم, يبيع الخمر، تاب إلى الله، أليس الله قادراً من لحظة توبته أن يضاعف له غلته؟ أليس قادراً؟ ما الذي يحدث؟ الغلة تهبط إلى الربع، لماذا؟ ليدفع المؤمن ثمن طاعته، لتكون هذه الخسارة المؤقتة في ميزان حسناته يوم القيامة، أما لمجرد أنه تاب, تضاعفت غلته، يتوب آلاف المنحرفين لا حباً بالله ولا طمعاً بالجنة ، ولكن رغبة في مضاعفة الغلة .

سمعت بمطعم في حلب، كتب لوحة: ممنوع شرب الخمر بأمر الرب، والرزق على الله.
فلا بد أن تدفع ثمن طاعتك، كل مؤمن يصطلح مع الله، ويوم يعاهده على الطاعة, تنشأ له مشكلات ضمن الأسرة، من أقرب الناس إليه، من أمه وأبيه، من زوجته، من أولاده أحياناً, كان من الممكن ألاّ تكون، لكن هذا المؤمن لا يرقى إلى الله عز وجل، كيف يرقى؟ بدفع هذا الثمن باهظاً، الله عز وجل يريد أن تدفع الثمن، ليكون هذا الثمن في ميزان حسناتك يوم القيامة، فمرحباً بكل شيء متعب إذا كان في سبيل الله .
مرةً أخ من أخواننا, كان يسهم في بناء مسجد، نشأ إشكال, فطُلب للجهات الرسمية، فبلغته ذلك، قال لي: الجنة تحتاج إلى ثمن، وهذا من ثمن الجنة .
هو يعمل في بناء المساجد، وله باع طويل، وله أعمال طيبة، ولكن ما رأيته انزعج أبداً، قال: الجنة لها ثمن، وهذا من ثمن الجنة، وطِّن نفسك على دفع ثمن الجنة، ألا إن سلعة الله غالية .

إذا أخذ طبيب أعلى شهادة، وذاق الأمرين حتى أخذ الشهادة، وسنوات لم ينم الليل، ومنهج فوق طاقة البشر، والأستاذ صعب، قد يكون عنصريًا، وكلفه ما لا يطيق، واصل الليل بالنهار، فإذا نال هذه الشهادة، يشعر بنشوة يصعب أن تصور .
إذا ساق الله عز وجل لرجل بعض الشدائد لأنه مسلم، أما إذا قصر الرجل مع ربه، ارتكب معصية، الله أتلف له ماله، أطلق بصره، هذه عقوبات، لا أتحدث عن هذا، أنا أتحدث عن مصيبة, كانت بسبب مبدئك، بسبب التزامك، بسبب هويتك, مصيبة بهذا السبب، هذا وسام شرف، وهذا ثمن الجنة،
((ألا إن سلعة الله غالية))
النبي عليه الصلاة والسلام شجت وجنته، وكُسرت ثنيته في أُحُد، وسال الدم من وجهه في الطائف, أليس الله قادرًا على نصره؟ كيف سمح لهؤلاء السفهاء أن ينالوا منه, وأن يشتموه، وأن يسخروا منه، وأن يكذبوه؟ جاءه جبريل: لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: ((لا يا أخي، اللهم اهد قومي, فإنهم لا يعلمون))
هذا هو الكمال البشري .
عاشت أم كلثوم رضي الله عنها إلى جانب أمها خديجة التي وقفت موقف الجبال الرواسي, الذي عنده ابنة, وكان مسلمًا ومؤمنًا، وما صدق النبي, فهذه مشكلة كبيرة جداً، لأنّ النبي يقول: ((من جاءه بنتان, فأحسن تربيتهما, فأنا كفيله في الجنة))

كل بيت فيه بنت، العناية بهذه البنت، والعناية بدينها, وبصلاتها, وبحجابها، وبعلمها ، وبفقهها، وبقرآنها، ثم تزويجها لشاب مؤمن, هذا طريق للجنة .
ضمنت الجنة بهذه البنت، فالذي أعجب منه أشد العجب, أن يتبرم الزوج إذا بُشر بالأنثى.
لي صديق, جاءه سبع بنات، أول بنت لاقت ترحابًا كبيرًا، ثاني بنت أعطى هدية للأم ثمينة، لأنها أنجبت بنتًا، البنت الثالثة هدية أثمن، الرابعة أثمن، كلما أنجبت له بنتاً, يأتيها بهدية ثمينة، لأنها هدية الله، البنت هدية الله .
أحياناً يأتيك ابن ينسيك الحياة كلها، وتأتي البنت بعطفها، وحنانها، وإخلاصها، وقد يأتيها زوج راق جداً, فيصير أقرب لك من ابنك، أنت استسلم، وعد هذا المولود هدية من الله، والهدية اعتنِ بها كثيرا .

عاشت أم كلثوم إلى جانب أمها خديجة التي وقفت موقف الجبال الرواسي, لتأييد زوجها النبي صلى الله عليه وسلم .
هل ذاقت أم كلثوم ألم الحصار الظالم الذي ضرب عليها وعلى المسلمين من قبل قريش, وما هي أسباب الحصار ؟
أيها الأخوة, السيدة أم كلثوم ذاقت ألم الحصار، كان هناك حصار على المسلمين، والإنسان هو الإنسان، الآن هناك حصار على بعض الدول الإسلامية, ستمئة ألف طفل يموتون كل عام، أعلى راتب يساوي صحن بيض، تضخم نقدي مزمن، الحصار هو الحصار، عَنْ أَنَسٍ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ, وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ, وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ, وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ, وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ, يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ, إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
ذاقا مع أمهما بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ضيق الحصار، حتى إنهما أكلوا أخشن الطعام، لسد رمق الجوع القاتلة، وأقاموا على ذلك ثلاث سنين بلا طعام, حتى إن بعض الصحابة, أكلوا أوراق الشجر، وهذا حتى يصل الإسلام إليك إلى الشام
أنت متمتع بمساجد مفتوحة، أحياناً مكيفة، مراوح، تكبير صوت، لا أحد يضايقك، لا سؤال، ولا جواب، كل بيوت الله مفتحة، الدروس على قدم وساق، هذا الإسلام مدفوع ثمنه، من دفع ثمنه؟ الصحابة الكرام، أنت الآن مستهلك، أنت الآن منتفع، أما الصحابة فقد دفعوا الثمن، ثلاث سنوات أكلوا أوراق الشجر، والكافر هو الكافر لا يتغير، الكفر هو الكفر، والإيمان هو الإيمان، ومعركة الحق والباطل أزلية أبدية .
الطعام الذي يصل إليهم, يصلهم سراً بكميات قليلة جداً، وكان عليه الصلاة والسلام يتولى توزيعه بنفسه بالعدالة، الآن تذهب مساعدات للمنكوبين، الذين يحتاجون لهذه المساعدات لا تصل إليهم، وقد تصل إلى أعدائهم, فكان عليه الصلاة والسلام يوزع هذا الطعام القليل بنفسه على أصحابه .
أما أسباب الحصار: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً, أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، وأصبح الإسلام يفشو في القبائل, اجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتاباً, يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب؛ على ألاّ ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك, كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا، وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، فذاق النبي المقاطعة الاقتصادية، ذاق ألم الحصار هو وأهله .

أم كلثوم كانت تحت هذا الحصار، نجت أختها زينب، وأختها رقية في الحبشة، وزينب مع زوجها .
وقد رق بعض أشراف قريش لآل هاشم، وآل المطلب، كانوا مستضعفين، يقول أحدهم: النبي مجنون، وينام في بيته آمناً، النبي كان مستضعفاً, يمر النبي على آل ياسر، وهم يُعذبون، ماذا كان يقول لهم؟
((صبراً آل ياسر))
الآن كلمة محمد ترتج لها الدنيا، أما حينما بدأ بالدعوة كان ضعيفاً، ولحكمة بالغة بالغةٍ, أرادها الله جعله ضعيفاً، لماذا؟ ليكون الإيمان به حقيقياً، لو كان قوياً وآمنوا به مائة ألف وتسعة وتسعون ألفًا كاذبون خوفاً أو طمعاً، أما إذا كان ضعيفاً, فالإيمان به حقيقي .
أقول لكم هذا دائماً: الأقوياءُ ملكوا الرقاب، والأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم، والأنبياء بكمالهم، والنبي كان مستضعفاً، وقالوا عنه: مجنون، قالوا عنه: ساحر ، قالوا عنه: كذاب، قالوا عنه: كاهن، قالوا عنه: شاعر, ألقوا عليه التراب . في أي عام توفيت السيدة خديجة وأبو طالب, وهل نال النبي الأذى من بني قومه بعد وفاتهما ؟
أيها الأخوة, هذه الفتاة الطاهرة الابنة البارة أم كلثوم, حزنت كما حزن أبوها في السنة العاشرة للهجرة، هذه السنة سماها المؤرخون: عام الحزن، فقد النبي دَعامتَيْن، سند داخلي، وسند خارجي، ماتت زوجته خديجة، يُضاف إلى آلامه صلى الله عليه وسلم فقد الزوجة .
ذاق موت الزوجة صلى الله عليه وسلم، ذاق موت الولد، ذاق تطليق البنات، ذاق الهجرة، ذاق الفقر، قال:
((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ, وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ, وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ, وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ, وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ, يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ, إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ))
[أخرجه الترمذي عن أنس في سننه]
يعني إذا الواحد خاف قليلاً, وهو يدعو إلى الله عز وجل, له في النبي أسوة حسنة، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق .
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ, قَالَ:
((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً, قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ, ثُمَّ الْأَمْثَلُ, فَالْأَمْثَلُ, فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا, اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ, وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ, ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ, حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
هناك صحابية لها زوج, ما ذاق مرةً مصيبة، فشكت في إيمانه، فذهبت إلى النبي عليه الصلاة والسلام, كي تسأله أن يسمح لها أن تفارقه، هذا ليس مؤمناً، سار معها في الطريق، فوقع، فتعثر، فجُرحت قدمه، قالت: ((ارجع فقد قضيت حاجتي))
المؤمن من خصائص الإيمان: الابتلاء، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 30]
قيل للإمام الشافعي:
((أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تُمكن قبل أن تُبتلى))

فهذه السيدة خديجة, ماتت بعد خمس وعشرين عاماً في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، تزوجها في الأربعين، بإضافة خمس وعشرين، ينتج خمس وستون، هو عمره خمسون سنة .
الآن إذا جاوزته بسنة, يقول لك: قلبي غير مطمئن، سنة واحدة، بنت عالم، وبنت أصل، وفهم، يقول لك: كبيرة، يندب حظه دائماً، خمس عشرة سنة زيادة عنه، اللهم صلِّ عليه .
إذا تزوج الرجل امرأة وماتت، وتزوج الثانية، يرضي الثانية، ويذم الأولى، أما النبي عليه الصلاة والسلام, فكان وفياً لهذه الزوجة وفاء يفوق التصور .
مرةً من باب المداعبة, قالت له السيدة عائشة: ((ألم يبدلك الله خيراً منها؟ قال: لا والله ، لا والله، لا والله))
أقسم ثلاثة أيمان .
السيدة عائشة جميلة جداً، شابة في مُقتبل الحياة، والتي كانت عنده في عمر أمه تقريباً ، إذا تزوجت المرأة في الخامسة عشر, تنجب ولد أصغر منها بخمسة عشر، معناها في عمر أمه تماماً .
بعد أن ماتت هذه السيدة الجليلة، التي هي السند الداخلي، مات عمه أبو طالب الذي هو السند الخارجي، فالدعم الداخلي انهار، والدعم الخارجي انهار، لذلك سمى كتاب السيرة العام العاشر للهجرة: عام الحزن .

لما مات أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبو طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش, فنثر على رأسه التراب، فدخل البني صلى الله عليه وسلم بيته، والتراب على رأسه، فقامت أم كلثوم تغسل عنه التراب، وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تبكي يا بنية، إن الله مانع أباك))
ثقته بالله عظيمة جداً، هذا يتجلى في الهجرة، سراقة وراءه، مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، الناقة ثمنها يقدر بمائة وخمسين ألفًا، أو بمئتي ألف، ضرب مائة، مليونين، لمن يأتي به حياً أو ميتاً، وسراقة وراءه جاء ليقتله، ويأخذ الجائزة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟))
أنت ملاحق، مهدور دمك، ثقة النبي بالنصر, شيء لا يصدق، يعني سأصل، وسأنشئ دولة، وسأحارب، وسآتي بكنوز كسرى, وفي عهد سيدنا عمر جاءت كنوز كسرى، وجاء سوار كسرى، وتاج كسرى، وقميص كسرى، أين سراقة؟ جاء سراقة، سيدنا عمر ألبسه سواري كسرى وتاجه، وقال: ((َبخ بخٍ، أُعَيْرابي من بني مدلج, يلبس سواري كسرى))
بالمنظور المعاصر الآن دولة في جنوب إفريقيا صغيرة جداً، لا تعرفها على الخريطة، ولا تعرف عاصمتها، والفقر مدقع، ومواطن من مواطنيها, يجلس في البيت الأبيض مكان صاحبه، أيضاً نفس المقياس, أُعَيْرابي من بني مدلج, يلبس سواري كسرى .

أتمنى على كل مؤمن, أن تكون معنوياته عالية، لن يتخلى الله عن المؤمنين أبداً، ولكنه يمتحنهم، لا يتخلى عنهم، بل يمتحنهم .
قال ابن إسحاق كاتب السيرة الشهيرة: ((إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على النبي صلى الله عليه وسلم المصائب بموت خديجة, وكانت له وزير صدق عن الإسلام، يشكو إليها، وبموت عمه أبي طالب، وكان له عضداً, وحرزاً في أمره, ومنعة، وناصراً على قومه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين))
كيف استقبل النبي أهل بيته حينما وصلوا إليه في المدينة, وما سبب رفض أبي بكر الزواج من حفصة بنت عمر, ولماذا لقب عثمان بن عفان بذي النورين ؟
هاجر النبي كما تعلمون مع صاحبه أبي بكر، وبعد حين أرسل من يأتيه بأم كلثوم وبفاطمة .
ترك النبي عليه الصلاة والسلام أم كلثوم وفاطمة عند زوجته الثانية سودة بنت زمعة التي تزوجها بعد خديجة، وبعد أن وصل إلى المدينة، واستقر فيها, أرسل بعض أصحابه, لاصطحاب أهل بيته من مكة، مع أهل أبي بكر, الذين استبقاهم هناك .
أيها الأخوة، حينما وصلت بنات البني صلى الله عليه وسلم أم كلثوم وفاطمة، تصحبهما زوجة النبي عليه الصلاة والسلام سودة بنت زمعة، ومعهن بنات أبي بكر الصديق أسماء وعائشة، حتى استقبلهن نساء الأنصار بالحفاوة والترحاب، ويستقبل النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه وزوجه بكل شوق وحنان .

هذه الفطرة، جمع شمل الأسرة، بلاد إسلامية غنية جداً, لا تسمح للإنسان بالإقامة مع زوجته فيها، تتركه سنة بلا زوجة، وأعداء الدين يجمعون الأسر، ونحن نفرق بين الأسر، جمع شمل الأسرة من منهج الله عز وجل، وليس منا من فرق، فاجتمع الشمل، جاءت الزوجة والبنت الأولى والثانية إلى المدينة .
أيها الأخوة، في المدينة كان النبي عليه الصلاة والسلام مع ابنتيه السيدة فاطمة والسيدة أم كلثوم، وحدث حدثاً لطيفاً: سيدنا عمر له ابنة اسمها حفصة، توفي زوجها خنيس بن حذافة يوم بدر، وانتهت عدتها، فعرضها على أبي بكر فرفض، وعرضها على عثمان فرفض، فخاب أمله، وتألم أشد الألم، ولكنه لم يعلم ما ادخره الله له ولابنته حفصة من الشرف العظيم والمكانة الرفيعة، ماذا حدث؟ شكا سيدنا عمر إلى النبي هذه المشكلة, فقال عليه الصلاة والسلام: ((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة))
ما الذي حدث؟ تزوج النبي حفصة، وتزوج عثمان ابنته، هذا من باب التقليد، أحياناً لا يكون الوفاق بين الزوجين، أدعو للزوجين هكذا: الله يبعث لك أحسن منها، ويبعث لك أحسن منه، وهذا يكون أحياناً، فهذا الذي رفض, يأتي إنسان أفضل، وهذه التي رفضت, يأتي الخاطب أفضل، قال له: ((يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة))
لقي أبو بكر عمر, فقال: ((لا تجد علي, فإن رسول الله ذكر حفصة، سيتزوجها- والنبي قال:
((أخفوا الخطبة))
ما أحب أن يفشي سر رسول الله، فاعتذر، ماذا فهم سيدنا عمر؟ أنه اعتذر إباءً، لا, معنى ذلك أنّ البيان يطرد الشيطان- .
فلم أكن لأفشي سر رسول الله -اعتذاري كان, لأنني لم أرد أن أفشي سر رسول الله ، ولو تركها لتزوجتها، أنا لي الشرف أن تكون ابنتك زوجتي، أرأيت إلى التوضيح ما أجمله؟!.-
تزوج النبي عليه الصلاة والسلام حفصة بعد عائشة)) فلمح عليه الصلاة والسلام في حديثه هذا, أنه سيزوج عثمان إحدى بناته .
هناك رواية لأبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام, قال: ((أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية، وعلى مثل صحبته ، وتحل أم كلثوم زوجة كريمة مبجلة عند عثمان بن عفان))

أخواننا الكرام، المرأة ما أكرمها إلا كريم، ولا أهانها إلا لئيم، وكان أصحاب النبي مثلاً عليا في تكريم المرأة .
فكانت زوجة كريمة مبجلة عند عثمان بعد أختها رقية، ويحظى عثمان رضي الله عنه بهذا اللقب (ذي النورين)، لأنه تزوج ابنتي رسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث كان زوجاً لابنتي رسول الله على التوالي، وقد كان زواجه من أم كلثوم لثلاث سنوات خلون من الهجرة، وعاشت أم كلثوم عند عثمان ست سنوات ولم تلد له، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة تسع للهجرة، وقال البني عليه الصلاة والسلام: ((لو كن عشراً لزوجتهن عثمان))
ولما وضعت أم كلثوم في قبرها, جلس النبي عليه الصلاة والسلام على قبرها, وعيناه تدمعان حزناً على ابنته الغالية العزيزة، فرضي الله تعالى عن السيدة الكريمة أم كلثوم، كما قال بعض الخطباء: ((كوكب الإسلام))


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:22 PM   #22


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( التاسع العاشر )


الموضوع : فاطمة الزهراء - 1





الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . إليكم الحديث عن السيدة فاطمة الزهراء من حيث: نسبها, زواجها, أولادها, مكانتها عند أبيها :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السابع والعشرين من سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عنهن أجمعين، ومع بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الابنة الرابعة السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها .
هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمُّها خديجة أمُّ المؤمنين، كانت أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيدة النساء في زمنها، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، والسيدة فاطمة رضي الله عنها إحدى هؤلاء الأربع، وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]

ولدت قبل البعثة بقليل، تزوجها الإمام علي كرم الله وجهه في ذي القعدة من سنة اثنتين بعد وقعة بدر، لها من الأولاد الحسن، والحسين، والمحسن، وأم كلثوم، وزينب، أبناء علي بن أبي طالب، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها، ويكرمها، ويسرُّ إليها، ومناقبها غزيرة، وكانت رضي الله عنها صابرة، دينة، خيرة، قانعة، شاكرة لله عز وجل، وقد غضب لها النبي عليه الصلاة والسلام, لما بلغه أن أبا الحسن هم ولم يفعل بما رآه سائغاً من خطبة بنت أبي جهل.
فَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ:
((إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ, فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ, فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ, وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ, يَقُولُ:
أَمَّا بَعْدُ, أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي, وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي, وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا, وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
فترك علي رضي الله عنه الخطبة رعاية لها .
الحديث عن السيدة فاطمة يطول، حديث مسعد، فهي سيدة عصرها, هي إحدى أربع نساء كملن في العالمين، والمرأة إذا كملت شيء لا يوصف، المرأة إذا كملت تكون قرة عين لمن حولها . إليكم بعض الأحاديث التي وردت عن النبي بشأن مكانة السيدة فاطمة بنت النبي
أيها الأخوة, صح في السيرة، وفي سير أعلام النبلاء, وسنن الترمذي, عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ, فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ, وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي, فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ, وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ)) وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ لِعَليٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: ((أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ, وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ))
[أخرجه الترمذي في سننه]

والحقيقة من كرامة النبي عند الله؛ أن جعل له أهل بيت أطهار، ومن كرامة النبي عند الله أن الله اختاره، واختار له أصحابه، ومن كرامة المؤمن الآن؛ أن يكون حوله مؤمنون على شاكلته، يعرفون قدره، يعرفون علمه، يعرفون خلقه، يعرفون ورعه، يعرفون محبته لله عز وجل، إذا أحاطك الله بمن يقدرك، ويعرف قيمتك, فهذه نعمة من نعم الله الكبرى، وأكبر عقاب يُعاقب به الإنسان, أن يكون الذي معه مناقضاً له، أن يكون الزوج صالحاً, والمرأة سيئة، وأن تكون الزوجة صالحة, وزوجها يعصي الله عز وجل, أكبر عقاب تُعاقب به أن تكون أنت في واد، ومن حولك في واد آخر، فمن تكريم الله لك أن يجعل الذين حولك على شاكلتك، وكلما ارتقى الإنسان, يكرمه الله بأن يقيض له كرماء صالحين، وما أخلص عبد لله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين, تهفو إليه بالمودة والرحمة .
ترى الأخوة المؤمنين بينهم اللطف، والمودة، والاحترام المتبادل، والزيارات، والبذل ، والتضحية، وترى أسرًا في المحاكم, والخصومات، والشتائم, والسباب، والبغضاء، والشحناء، هؤلاء بهائم، أما الإنسان فهو مخلوق راق جداً .

نزع أحد الصحابة عن النبي ريشة عن ردائه، فرفع النبي يديه إلى السماء, وقال:
((اللهم أكرم من نزعها))
وكانت تعظم عنده النعمة مهما دقت .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
وعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ, قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَمَّتِي عَلَى عَائِشَةَ فَسُئِلَتْ:
((أَيُّ النَّاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: فَاطِمَةُ, فَقِيلَ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَتْ: زَوْجُهَا، إِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا))
[أخرجه الترمذي في سننه]
هل شاركت فاطمة معاناة أبيها أثناء نشر دعوته بين أبناء قومه, وماذا قال علماء السيرة عنها؟
أيها الأخوة, السيدة فاطمة الزهراء كانت واحدة زمانها، وعظيمة دهرها، لما تهيأ لها من الكثير من مشاهد النبوة والوحي، فقد صحبت أباها من نعومة أظفارها إلى أن فارقها النبي صلى الله عليه وسلم, يوم التحق بالرفيق الأعلى، على مدى ربع قرن .

أيها الأخوة, فقد كانت مع النبي، وشهدت كل أحداث الدعوة، شهدت معاناة النبي في مكة، شهدت الهجرة، شهدت الغزوات، كل المعاناة التي عاناها النبي كانت إلى جانبه، كانت معه، كانت ترى بعينيها تطور البعثة من حال إلى حال، لذلك كانت رضي الله عنها شديدة الحزن على أبيها عليه الصلاة والسلام، فهي لم تعرفه إلا نبياً مرسلاً من عند الله تعالى، وهي دون الرابعة من عمرها، فلم تكد تعي على الدنيا إلا ويملأ سمعها أحداث تبليغ الدعوة ونشرها، وبثها بين جموع قريش، لازمت النبي، وشهدت كل شيء، شاركته في كل شيء، عانت كل شيء، لذلك قال علماء السيرة: كانت أشد عزماً من أخواتها، وأكثر وعياً لما جرى, ويجري من أحداث, واكبت دعوة التوحيد والإيمان .
أيها الأخوة الكرام، لهذا احتلت فاطمة الزهراء تلك المكانة العظيمة، ليس عند أبيها فحسب، بل عند جميع المؤمنين والمؤمنات .

أيها الأخوة, ذكر هذه السيدة الجليلة, يعطر المجالس، الكمال رائع في المرأة الوفية، المرأة المحبة، المرأة خفيفة المؤنة، كثيرة البركة، المرأة التي تسعى لإسعاد زوجها، المرأة التي ترضى من زوجها كل قليل، المرأة التي تحب الله، هذه امرأة كما يقول بعضهم: أندر من الكبريت الأحمر .
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يزوجها إلا لرجل كفء لها، والكفاءة في الزواج مهمة جداً، أحياناً فتاة تحفظ كتاب الله ,فلا ينبغي أن تُزوج لشاب شارد, لا يعرف قيمة دينها، ولا قيمة ورعها، آباء كثيرون تزل أقدامهم حين لا يزوجون بناتهم لمن كان كفئًا لهن .
فهذه السيدة رضي الله عنها لها من البلاء في الإسلام ما كان لها، ولها من التضحية في سبيل الله ما كان لها، ولها من معايشة الدعوة الإسلامية من بدايتها مثل ما لها .
من كان زوجها؟ ربيب النبي عليه الصلاة والسلام الذي رباه، وحامل لوائه، وناصره على أعدائه، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا غرابة أن الله تعالى يباهي جميع خلقه بفاطمة ابنة حبيبه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما حباها من تلك الخصال والصفاء . الأحاديث التي وردت عن النبي بشأن إكرامه لفاطمة وأنها أكثر الناس شبهاً به :
ورد في الترمذي في سننه من كتاب الفضائل عَنْ حُذَيْفَةَ, قَالَ:
((سَأَلَتْنِي أُمِّي مَتَى عَهْدُكَ (تَعْنِي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؟ فَقُلْتُ: مَا لِي بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَنَالَتْ مِنِّي, فَقُلْتُ لَهَا: دَعِينِي آتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ, ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي, فَقَالَ: مَنْ هَذَا، حُذَيْفَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: مَا حَاجَتُكَ, غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ؟ قَالَ: إِنَّ هَذَا مَلَكٌ, لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ, اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ, وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
من هو الإنسان العظيم؟ الذي له عند الله مكان عظيم, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾
[سورة القمر الآية: 54-55]
إن كان لك عند الله مقعد صدق، فهذه هي الجنة، وهذا هو الفوز العظيم، وهذا هو الفلاح، وهذا هو النجاح، وهذا هو التفوق، وهذه هي السعادة، أن تكون لك حظوة عند الله .

وفي الحديث الصحيح عند الترمذي, عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
قال كتاب السيرة فيما نُقل:
((إن هذه السيدة الجليلة كانت كثيرة الشبه بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم))
يعني أكثر بناته شبهاً به السيدة فاطمة رضي الله عنها .
وعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ, عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, أَنَّهَا قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا, وَقَالَ الْحَسَنُ حَدِيثًا وَكَلَامًا, وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا, كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ, قَامَ إِلَيْهَا, فَأَخَذَ بِيَدِهَا, وَقَبَّلَهَا, وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ, وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا, قَامَتْ إِلَيْهِ, فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ, فَقَبَّلَتْهُ, وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا))
[أخرجه أبو داود في سننه]
بربكم أنتم آباء، أحياناً تأتيكم بناتكم زائرات، تدخل البنت أهلاً أبي، الأب جالس مرتاح ولا يتحرك:
((كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ, قَامَ إِلَيْهَا, فَأَخَذَ بِيَدِهَا, وَقَبَّلَهَا, وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ))
طبقوا هذا: ((كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ, قَامَ إِلَيْهَا, فَأَخَذَ بِيَدِهَا, وَقَبَّلَهَا, وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ, وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا, قَامَتْ إِلَيْهِ, فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ, فَقَبَّلَتْهُ, وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا))

الحياة كلها مودة، أجمل ما في الحياة المودة والحب، والاحترام المتبادل، والوفاء، والتضحية، فالإنسان حين يعيش حياة الود، حياة الحب، حياة الكرم، هذا إنسان سعيد .
مرة رأى أخ بيتاً مناسباً, فقال: ممكن أن نرى البيت يا أستاذ، قلت: لا مانع، فذهبنا نرى البيت, دخلنا إلى غرفة, وجدنا صبيًا في الخامسة عشر مضطجعًا على قفاه، ورجل فوق رجل, يشاهد مسلسلا، ولم يتحرك، ولم يغير مجلسه، ولم ينظر إلينا، هذه التربية، هذه تربية المسلسلات .
أما تربية سيد الأنام: ((كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ, قَامَ إِلَيْهَا, فَأَخَذَ بِيَدِهَا, وَقَبَّلَهَا, وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ, وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا, قَامَتْ إِلَيْهِ, فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ, فَقَبَّلَتْهُ, وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا))
لقد كان لفاطمة رضي الله عنها, ولزوجها علي كرم الله وجهه, وابنيها الحسن والحسين مكانة عظيمة .
ففي سنن الترمذي, عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ, فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ, وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي, فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ, وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ, وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ))

أخواننا الكرام، صدقوا أن الله جل جلاله إذا حباك بأهل صالحين، أهل أعفة، أتقياء، أنقياء, فهذه نعمة لا تعدلها نعمة .
أنا أقول لكم: كثير هم الرجال الذين يكفرون نعمة الزوجة الصالحة، زوجة عفيفة، قنوعة، تخدم زوجها، يبحث عن بعض الأخطاء، ويكبرها، وينشئ مشكلة، هذا إنسان جاهل، وكثيرات هن الزوجات اللواتي حباهن الله بأزواج صالحين، مستقيمين، تبحث عن بعض نقاط الضعف فتكبرها، المرأة أحياناً تكفر بنعمة الزوج، والزوجة أحياناً يكفر بنعمة الزوجة الصالحة، فهناك زوج صالح، وهناك زوجة صالحة .
مرة ملِك من ملوك قرطبة, وهو ابن عباد، كان يمشي في حديقته، فرأى بركة ماء، وقد هبت الريح على صفحة الماء, فجعلت منها كالزرد، فقال:
نسج الريح على الماء زرد ............................
ولم يستطع أن يكمل البيت، وكانت وراءه جارية، قالت له:
.......................... يا له درعاً منيــعاً لو جمد
فأُعجِب بهذه الجارية، وتزوجها، وجعلها السيدة الأولى، وأكرمها إكراماً ما بعده إكرام ، اشتهت مرةً حياة الفقر، كيف كانت تدوس في الطين؟ فطلبت منه أن تعيش يوماً واحدًا حياتها السابقة، فجاء بالمسك، والعنبر، وماء الورد, فجبلها وجعلها طيناً، وقال: دوسي فيه, هذا هو الطين, ثم جاء ابن تاشفين من شمال أفريقيا, قضى على ملوك طوائف، وأودعه في السجن، وافتقر، فكانت هذه الجارية زوجته, تقول له مرةً: لم أر منك خيراً قط، قال لها: ولا يوم الطين؟ فاستحيت .
لماذا ذكر السيدة فاطمة يملأ القلوب سعادة؟ من وفائها، من تواضعها, من حرصها على سعادة زوجها، من حرصها على راحته، من حرصها على عدم الضغط عليه .

الآن تضغط الزوجة، تضغط حتى يأكل زوجها الحرام، ويسرق حتى يخلص من شكواها .
قال رجل لامرأته: لقد هلكت من كثرة شكواك وهمومك، فقالت له: إذًا: يوم أشكو به, ويوم أريحك، فكانت في يوم راحته, تقول له: غدا أوجع رأسك، فالإنسان بكماله، فالإنسان بأخلاقه، الإنسان بمحبته .
الآن: كم من إنسان تموت زوجته، إذا فكر في الزواج, قامت بناته عليه بالنكير، السيدة فاطمة لما توفيت أمها السيدة خديجة, رأت أن أباها بحاجة إلى زوجة، فلما تزوج فرحت ، وكانت أكبر معين .
تقول البنت: نحن نخدمك، هم لا يفهمون، الإنسان بحاجة إلى امرأة، وليس إلى بنت، هناك خصوصيات للإنسان لا تحلها البنت، فلذلك البنت الوفية لا تقف حجر عثرة أمام زواج والدها إذا كان بحاجة إلى زوجة .
كيف كانت علاقة السيدة فاطمة مع زوجات أبيها ؟
لما تقدمت خولة بنت الحكيم, تخطب للنبي صلى الله عليه وسلم لتزوجه, لم تكن لفاطمة وأخوتها من معارضة، بل كن جميعاً راغبات راضيات عن زواج أبيهن، الذي أضناه الحزن على فراق أمهن خديجة، ولما جاءت خولة, قالت:
((أفلا أخطب عليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، ثم قال: فإنكن معشر النساء أرفق بذلك))
خطبت خولة عليه سودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبي بكر، فتزوجهما، فبنى بسودة بمكة، ثم بعائشة بالمدينة .
الآن في التعبير الدارج بنت الحماة مخيفة، حماية ثانية، السيدة فاطمة كانت من أرفق النساء بزوجات أبيها، إذا العلاقة طيبة بين البنت وزوجة والدها، هذا شيء مثالي .
فعاشت فاطمة مع زوجتي أبيها بكل حب وحسن عشرة، بل كان يزيد في سرورها رؤية أبيها سعيداً في زواجه هذا .
الآن بنت الزوج دائماً ضد خالتها، امرأة أبيها، ضدها على طول مهما فعلت، فكانت فاطمة رضي الله عنها تتظافر مع عائشة في الأمور التي كانت تراها فيها محقة, وهي أكبر عون لزوجة أبيها .
أعرف أن زوجة الأب لا يحبها أولاد الأب، أحد أخواننا ذكره الله بخير, قال: لي خالة, إذا ذكرتُ اسمها ثلاث مرات, أبكي من محبتي لها، عاملتنا معاملة أحن من أمنا .
لمَ هذه القاعدة الثابتة: أن امرأة الأب ضد أولاد زوجها؟ الإيمان يصنع المعجزات، فإذا كانت المرأة مؤمنة, فلا تعامل أولاد زوجها إلا كأولادها، فالسيدة فاطمة لم تكن كبقية النساء بهذه العداوة الثابتة مع زوجة أبيها، بل على العكس، كانت تتعاون مع السيدة عائشة إن كانت محقة في تعاونها.
أما موقفها من أزواج أبيها, فقد كانت أكثر انسجاماً، واحتراماً، وتوقيراً، ولا شك أنها في ذلك تقوم بواجبها تجاه حق أبيها .
إذا كان الأب متزوجًا، وكل يوم عنده مشكلة لا يرتاح، أما عنده ابنته من زوجته السابقة في البيت فلا مشكلة، فيه انسجام، فيه مودة، وفيه تعاون, كل يوم حياة لا تُطاق، فالقاعدة الأساسية: ما الذي يسعد أباها؟ أن يدخل البيت مرتاحًا، فما كانت تختلق مشكلة إطلاقاً، بل كانت أكبر معوان لزوجات أبيها .
موقفها دائماً كان توقير زوجاته، والإحسان إليهن، والتأدب معهن، ولم يكن منها رضي الله عنها أي تصرف يثير غضب إحداهن، فقد كانت أكبر تعقلاً لما يحصل لبنات جنسها.
سمعت من يومين قصة امرأة لا تنجب، وزوجها جيد جداً، وهو متألم بعدم إنجابها، ويتمنى الولد، ولكن بمحبته لها, فهو ساكت، خرجت وخطبت له، وفاجأته بزوجة جيدة، هي خطبتها، قال: والله عشنا معاً أكثر من خمسة عشر عامًا، لم تحدث مشكلة في البيت, عقل راجح، زوج وفيّ، زوج جيد، فالحياة إذا بنيت على الإيمان شيء رائع .
امرأة صالحة جداً، تزوجها رجل، قال لها: بزماني كنت أفكر في الزواج من امرأة، ثم تركت الزواج منها، قالت لي: إذا تزوجتني, أسلم وأتزوج، وأحفظ القرآن، فلما علمت زوجته الدينة أن هذه المرأة إذا تزوجها تسلم، وتتحجب، وتحفظ القرآن, قالت: بالله عليك تزوجها اليوم ، وجاء بها إلى البيت .
المرأة إذا كان دينها أصليًا, إذا كان دينها نابعاً منها، ليس ضغطاً، ليس قهراً، إذا كان دينها نابعاً منها, تفعل المعجزات، تفعل الأعاجيب, لأنها رأت أن هذه المرأة إذا تزوجها زوجها, دخلت بالإسلام، وتحجبت، وحفظت كتاب الله، هذا كسب كبير جداً . إليكم بيان خطبتها وزواجها بشكل تفصيلي :
سيدنا علي لم يكن ليتقدم لخطبة فاطمة من أبيها إلا على وجل شديد لما يعلم ما لها من المكانة العظيمة عنده صلى الله عليه وسلم، وما لها من الحب الكبير في نفسه الشريفة، فكان يتحين الفرص المواتية ليتقدم إليه بهذا الطلب الغالي، وطال انتظار علي سنين عددًا، حتى إذا خامره الرجاء في تحقيق رغبته بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، أمسك أيضاً ، لأنه لا يملك مهرها, فقير، وليس في يده مال، ثم زاد إحجامه, حينما بلغه أن الصحابيين الجليلين خطباها .
سيدنا أبو بكر خطبها، سيدنا عمر خطبها، هو فقير, لا يملك نقيرًا ولا قطميرًا، إلا أنه ابن عمها، وحين شعر الصحابة برغبة علي في خطبة فاطمة, شجعه على مراده بعض أصحاب رسول الله، وأخذ يزيده في الترغيب بما له من قرابة النسب، ومنزلة أبويه من قلبه الشريف، أبوه أبو طالب، وأمه فاطمة بنت أسد، وكانت أول هاشمية تلد هاشمي، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم حين كفله عمه أبو طالب أماً بعد أمه .
يوجد مداخلات، قرابة شديدة، مكانة عالية، فوقف علياً رضي الله عنه ملياً يفكر، هو بحق أجدر الناس بفاطمة بنت رسول الله، إنه كان قد تربى، وعاش في حجر النبي، ولم يفارقه ، فزاد هذا في أمله، فتشجع, وطلب من النبي فاطمة .
قال:

((فما راعه إلا أن التفت إليه صلى الله عليه وسلم, وسأله مترفقاً, هل عندك شيء ؟ -يعني هل عندك مهر لفاطمة؟- فأجابه علي كرم الله وجهه: لا, يا رسول الله، فذكره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أصاب يوم بدر درعاً, فقال له: فأين درعك التي أعطيتك يوم كذا؟ فأجاب علي رضي الله عنه: هي عندي يا رسول الله، قال له: فأعطها درعك -هذا المهر، لا غيره، ليس خاتم ثمنه ثمانمائة ألف, إنه درع فقط .
لذلك عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مؤنَةً))
[أخرجه أحمد في مسنده]
الآن ماذا ستلبسونها؟ شرط، الذهب وألماس, وشهر العسل في فنيسيا, هكذا طلبات الناس، بيت معين، مساحة معينة، بشارع معين، شهر عسل بمكان معين .
قال: ثم بيعت الدرع بأربعمائة وسبعين درهماً، فجهزت بها عروسه، وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم زواج علي على ابنته فاطمة رضي الله عنهما، وأسكنها صلى الله عليه وسلم قريباً من بيته- .
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي قبل ليلة الزفاف: لا تحدث شيئاً حتى تلقاني, فدعا بإناء, فتوضأ منه، ثم أفرغه على فاطمة وعلي، وقال: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما))
أيها الأخوة, وتم زواجهما على بركة الله تعالى، وكان عمر العروس فاطمة يوم زواجها من علي بن أبي طالب ثمانية عشر عاماً، وكان علي زوجها ستة وعشرين عاماً، فكانا قريبين من أحلام أمثالهما، غير أنهما كانا منصرفين إلى ما هو أسمى من كل ذلك، إنهما تابعا السير في سبيل نشر الدعوة .
ما العمل الذي كانت تقوم به فاطمة حينما يكون زوجها غائباً عن البيت, وكيف كانت تستقبله حينما يأتي إليها ؟
فهذا علي رضي الله عنه ينصرف مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وهذه فاطمة تستمر في نهجها بين نسوة الأنصار، والمهاجرين، وفتياتهم، تبث فيهم روح الدعوة الإسلامية المنفتحة، الممتدة في ربوع الحجاز، وكان زوجها علي بن أبي طالب لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً .
الآن إذا تأخر الرجل قليلاً في السهرة, يُقام النكير على هذا الشيخ, الذي شغل زوجها قليلاً, ما أروع امرأة في مستوى زوجها! ما أروع امرأة في مستوى الدعوة! ما أروع امرأة تحمل هموم المسلمين! ما أروع امرأة تعرف قيمة زوجها! .

كان زوجها علي بن أبي طالب لا يفارق رسول الله أبداً, إلا ما كان في غزوة تبوك حين استخلفه في المدينة، فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ, وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا, فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
وكان رضي الله عنه, كلما رجع إلى بيته من غزوة غزاها, أو سرية قادها, وجد زوجته بانتظاره .
أحياناً يأتي الزوج متعبًا، العمل شاق، والعمل خارج البيت متعب، هموم، ضغوط، مشكلات، فهي تأتي تستقبله باللؤم، بالتقريع، بالضغط الداخلي، ماذا يحصل لهذا الزوج؟ ضغط من الداخل، وضغط من الخارج, أما المرأة الصالحة فتنسي زوجها هموم العمل، تنسيه ضغوط الحياة، تستقبله، تؤنسه، تحترمه .

عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ, فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ, حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ, قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً, فَأَكَلَ وَشَرِبَ, فَقَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ, فَوَقَعَ بِهَا, فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا, قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ, أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ, فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ, أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا, قَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ, قَالَ: فَغَضِبَ, وَقَالَ: تَرَكْتِنِي, حَتَّى تَلَطَّخْتُ, ثُمَّ أَخْبَرْتِنِي بِابْنِي, فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا, قَالَ: فَحَمَلَتْ, قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ, وَهِيَ مَعَهُ, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, إِذَا أَتَى الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ, لَا يَطْرُقُهَا طُرُوقًا, فَدَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ, فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ, فَاحْتُبِسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ, وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ, إِنَّهُ يُعْجِبُنِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَ رَسُولِكَ إِذَا خَرَجَ, وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ, وَقَدْ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى, قَالَ: تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ, مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أَجِدُ, انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا, قَالَ: وَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ حِينَ قَدِمَا, فَوَلَدَتْ غُلَامًا, فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أَنَسُ, لَا يُرْضِعُهُ أَحَدٌ, حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا أَصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ, فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: فَصَادَفْتُهُ وَمَعَهُ مِيسَمٌ, فَلَمَّا رَآنِي, قَالَ: لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ, قُلْتُ: نَعَمْ, فَوَضَعَ الْمِيسَمَ, قَالَ: وَجِئْتُ بِهِ, فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ, وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ, فَلَاكَهَا فِي فِيهِ, حَتَّى ذَابَتْ, ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِيه الصَّبِيِّ, فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا, قَالَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْظُرُوا إِلَى حُبِّ الْأَنْصَارِ التَّمْرَ, قَالَ: فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
امرأة ترعى حق زوجها، تخفف عنه آلام الحياة، آلام العمل، الحياة فيها ضغوط شديدة .
أخواننا الكرام, نسب الأمراض تزيد، نسب الأورام تزيد، نسب أمراض الدم, والقلب ، والأوعية, تنزل إلى الثلاثين، والخمسة وعشرين من شدة الضغوط، أنا أستمع إلى بعض القصص، ضغط من الخارج، وضغط من الداخل .
كان إذا عاد من غزوة غزاها أو سرية قادها, عاد إلى بيته, وجد زوجته بانتظاره, قد هيأت له أسباب الراحة، لتخفف عنه بعض ما وجدوا من عناء السفر والغربة عنها .
هل عاشت السيدة فاطمة حياة المتنعمات عند زوجها, وما هو أثاث بيتها ؟
قال: لم تكن حياة فاطمة في بيت زوجها مترفة، ولا ناعمة، شأنها في ذلك, شأن حياتها عند أبيها قبل زواجها، حياة خشنة، والحياة الناعمة لا تصنع الرجال، ولا تصنع البطلات.
سيدنا علي, حينا شُغل بالجهاد مع رسول الله, شُغل عن جمع المال، والاتجار به، لو سخر وقته في التجارة لصار مليونيرًا، قدرات عند الإنسان عالية، هو صرفها في معرفة الله، وفي نشر الحق .
التاجر أحياناً من الصباح, وحتى منتصف الليل, يفكر في التجارة, سوف يتابع أموره ويربح، أما إنسان آخر, جاهد نفسه وهواه، طلب العلم، هذا كله يحتاج إلى وقت .

فانصرف هذا الصحابي الجليل, ابن عم النبي, إلى نصرة صلى الله عليه وسلم، ونشر التوحيد بين الناشئين، فشغله ذلك عن سبيل الثراء, الذي كان أشراف قريش, قد وجهوا شبابهم إليه، فلا عجب إن رأينا هذا الصحابي الجليل, لا يملك مهراً لزوجته سوى درعه، وحال سيدنا علي قبل الزواج, لم يكن خافياً على السيدة فاطمة، الآن إذا خطب إنسان، وليس معه شيء، طولب بكل شيء، طيب لماذا قبلتم؟ .
فكان حال سيدنا علي واضحًا للسيدة فاطمة، وكانت تعلم أن علياً لم يكن ثرياً، فلذلك لم تفاجأ بالجهاز التي جُهزت به، كان مؤلفاً من خميلة ووسادة, حُشيت ليفاً، وإناء وسقاءين .
الآن تريد غرفة النوم كذا، الجلوس كذا، الثريات كريستال، طلبات مهرها عجيبة, وتلك الصحابية خميلة ووسادة, حُشيت ليفاً، وإناء وسقاءين، وشيء من العطر، وهي في هذا راضية كل الرضا، لأن هذا الزواج كان برضا أبيها، لذلك كانت فاطمة سعيدة كل السعادة في بيت زوجها علي رضي الله عنه على ما كانت عليه من شظف العيش .
من روائع هذا النبي :
اسمعوا هذه الحادثة، كان علي رضي الله عنه, كلما عاد إلى بيته, يرى فاطمة متعبة راضية, فيساعدها في بعض أعمال البيت القاسية في كل وقت, مكنته الظروف من ذلك، حيث كان غير قادر على أن يستأجر لها خادماً، أو أن يشتري لها أمة, تقوم عنها بأعباء البيت، فكان هو يخفف عنها بعض عناء البيت .
فجاء عليٌّ مرةً فرآها، وهي تسقي من البئر, حتى اشتكت صدرها، فقال رضي الله عنه:
((قد جاء الله بسبي، فاذهبي إلى رسول الله فاستخدمي، -أي ائتي بخادمة- .
فقالت: وأنا والله قد طحنت, حتى مَجَلَتْ يداي, فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما جاء بك أي بنية؟ استحييت, قالت: جئت لأسلم عليك، واستحييت أن أسأله، ورجعت فأتيناه جميعاً .
جاءت بسيدنا علي، فذكر علي حالها، -أن ابنتكم يا سيدي متعبة العمل شاق، جسمها ضعيف، فهل من خادمة؟- فقال صلى الله عليه وسلم: لا والله لا أعطيكما, وأدع أهل الصفة, تتلوى بطونهم، ولا أجد ما أنفق عليهم))
النبي عد المؤمنين أسرة واحدة، ما أعطى ابنته خادمة، وهناك فقراء, يتلوون من الجوع .
والحديث في صحيح البخاري, عَنْ عَلِيٍّ: ((أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَام, أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى, وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ, فَلَمْ تُصَادِفْهُ, فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ, فَلَمَّا جَاءَ, أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ, قَالَ: فَجَاءَنَا, وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا, فَذَهَبْنَا نَقُومُ, فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا, فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا, حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي, فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا, إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا, أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا؟ فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ, فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ))
وفي رواية أحمد: (( فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَرَكْتُهَا بَعْدَمَا سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ رَجُلٌ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟))
أرأيتم إلى النبوة؟ المؤمنون أسرة واحدة .
وفي درس آخر إن شاء الله, نتابع الحديث عن السيدة الجليلة رضي الله عنها وأرضاها، فهي سيدة نساء أهل الجنة، وهي من أربع نساء, كملن ولم يكمل غيرهن .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:25 PM   #23


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( العشرون )


الموضوع : فاطمة الزهراء - 2






لحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ماذا نستنبط من هذه الحادثة ؟
1- تقديم المصالح العامة على مصلحة الإنسان الخاصة :
أيها الأخوة الكرام, مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن، ومع بنات النبي صلى الله عليه وسلَّم، ولا زلنا مع ابنته فاطمة الزهراء .
أيها الأخوة, وصلنا في الدرس الماضي من سيرة هذه البنت المباركة التي هي سيدة النساء بنص كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أنها اشتكت من أعمال البيت الشاقة، فذهبت إلى أبيها تطلب منه خادمةً .
فَعَنْ عَلِيٌّ:

((أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَام, أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى, وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ, فَلَمْ تُصَادِفْهُ, فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ, فَلَمَّا جَاءَ, أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ, قَالَ: فَجَاءَنَا, وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا, فَذَهَبْنَا نَقُومُ, فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا, فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا, حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي, فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا, إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا, أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا؟ فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ, فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
وفي رواية أحمد في المسند, عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ, بَعَثَ مَعَهُ بِخَمِيلَةٍ, وَوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ, حَشْوُهَا لِيفٌ وَرَحَيَيْنِ وَسِقَاءٍ وَجَرَّتَيْنِ, فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَاتَ يَوْمٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى لَقَدْ اشْتَكَيْتُ صَدْرِي, قَالَ: وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ أَبَاكِ بِسَبْيٍ, فَاذْهَبِي فَاسْتَخْدِمِيهِ, فَقَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ, فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكِ أَيْ بُنَيَّةُ؟ قَالَتْ: جِئْتُ لَأُسَلِّمَ عَلَيْكَ, وَاسْتَحْيَت أَنْ تَسْأَلَهُ, وَرَجَعَتْ, فَقَالَ: مَا فَعَلْتِ؟ قَالَتْ: اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ, فَأَتَيْنَاهُ جَمِيعًا, فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي, وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ, وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ فَأَخْدِمْنَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا, وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ, تَطْوَ بُطُونُهُمْ, لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ, وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ فَرَجَعَا, فَأَتَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَدْ دَخَلَا فِي قَطِيفَتِهِمَا, إِذَا غَطَّيا رُؤوسَهُمَا, تَكَشَّفَتْ أَقْدَامُهُمَا, وَإِذَا غَطَّيَا أَقْدَامَهُمَا, تَكَشَّفَتْ رُؤوسُهُمَا فَثَارَا, فَقَالَ: مَكَانَكُمَا, ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ قَالَا: بَلَى, فَقَالَ كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام, فَقَالَ: تُسَبِّحَانِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا, وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا, وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا, وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا؛ فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ, قَالَ: فَوَ اللَّهِ مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ, فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ, فَقَالَ: قَاتَلَكُمْ اللَّهُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ, نَعَمْ, وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ))
أيها الأخوة, ذكرت هذا بالتفصيل في نهاية الدرس الماضي، أما التعليق؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام علَّم أمته أن تُقدَّم مصالح العامة على نفع الخاصَّة، هذا درسٌ بليغ: ((وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا, وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ, تَطْوَ بُطُونُهُمْ, لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ))
أي أنه جعل المسلمين جميعاً أسرةً واحدة، ولو طُبِّق هذه المبدأ في حياة المسلمين, لكانوا في حالٍ آخر: ((والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن؛ من بات شبعان, وجاره إلى جانبه جائعٌ, وهو يعلم))
فابنته حبيبة قلبه، أقرب الفتيات إليه، طلبت خادمةً، وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، ونبيُّ هذه الأمة ورسولها، وبإمكانه أن يعطيها عشر خادمات، قال: ((وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا, وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ, تَطْوَ بُطُونُهُمْ, لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ))
فحينما نتعامل مع بعضنا بعضاً بهذا العطف، وهذه الموضوعية، وهذا التراحم, يرضى الله عنا . 2- من الطرق الأخرى التي يستطيع الإنسان أن يحصل عليها إذا عجز على الحصول على دخل
شيءٌ آخر من هذه القصة: أنّ الإنسان إذا لم يقدر أن يصل إلى مستوى معاشي مرتفع، فالأبواب الأخرى مفتَّحةٌ على مصاريعها؛ أبواب طلب العلم، أبواب نيل رضوان الله عزَّ وجل، أبواب نشر الحق، هذا متاع لكل مؤمن، أي إذا ما أتيح لك أن تمتلك مركبة، ما أتيح لك أن تسكن بيتًا فخمًا، ما أتيح لك أن ترتقي إلى منصبٍ رفيع، هذه حظوظ الدنيا، لكن حظوظ الآخرة مبذولةٌ لكل مؤمن، يقول عليه الصلاة والسلام:
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))
[أخرجه البخاري عن عثمان في الصحيح]
شأنك عند الله لا بمساحة بيتك، ولا بموقع بيتك، ولا بنوع مركبتك، ولا بمستوى وظيفتك، ولا بدخلك، شأنك عند الله بقدر ما تعرفه، وبقدر ما تعمل من خلال هذه المعرفة، وهذا متاحٌ لكل مؤمن . من الأمثلة على الاستنباط الأول :
الاستنباط الأول: أن المؤمن عليه أن يؤثر مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة، هذا بادئ ذي بدء .
سيدنا عمر رأى إبلاً سمينة, فقال:

((لمن هذه الإبل؟ قالوا: هي لابنك عبد الله, فغضب وقال: آتوني به، فلما جاءه, قال: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن، قال, ويقول الناس: ارعوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين، بع هذه الإبل، وخذ رأس مالك، وردَّ الباقي لبيت مال المسلمين))
سيدنا عمر بن عبد العزيز, رأى في إصبع ابنه خاتماً ثميناً, فقال: ((بع هذا الخاتم, وأطعم بثمنه ألف جائع، واتخذ خاتماً من حديد، واكتب عليه: رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده))
هكذا. فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يؤثر ابنته حبيبة قلبه على فقراء المسلمين، المسلمون جميعاً أسرةٌ واحدة . الشرح الأوسع للاستنباط الثاني :
الاستنباط الثاني المهم جداً: إذا كانت أبواب الدنيا مغلقة في وجهك، إنسان ما أتيح له أن يشتري بيتًا، ما أتيح له أن يرتقي إلى منصب رفيع، ما أتيح له أن يقتني مركبةً، إلا أن أعمال الآخرة متاحةٌ لكل مؤمن، بإمكانك أن تصل إلى أعلى درجة, وأنت فقير، وأنت في أقل وظيفة، وفي أقل دخل، وفي أصغر بيت .
فالإنسان إذا ذكر الله، وأخلص قلبه لله، وتعلَّم القرآن، وعلَّم القرآن, ارتقى إلى أعلى درجات الجنان، فإذا فاتك شيءٌ من الدنيا, فلا تنس نصيبك من الآخرة، فإنّ نصيب الآخرة موفور ، ومتاحٌ لكل المؤمنين، وفضل الله يسع لكل عبادة، لكن الدنيا كما قال تعالى:

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾
[سورة الإسراء الآية: 18]
لحكمةٍ أرادها الله، والله عزَّ وجل علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان, كيف كان يكون, فأنت على الدخل المعتدل الذي يكفيك، إنسان جيد جداً، أنت لا تعلم كيف يكون حالك على دخلٍ آخر, أنت لا تعلم لكن الله يعلم، فليس في الإمكان أبدع مما كان، أنت في وظيفةٍ دنيا جيدٌ جداً، أنت لا تعلم كيف يكون حالك لو كنت في وظيفةٌ عُليا؟ اجعل هذا الكلام شعاراً لك: ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني .
ليس معنى هذا أن تقعد، أبداً، ليس معنى هذا أن تتكاسل، أبداً، أما حينما تبذل كل طاقتك، وكل وقتك، وكل جهدك، وتصل بك هذا الجهد إلى هذا المكان، هذا الذي اختاره الله لي، وهذا خيرٌ لي من كل شيء، أما أن تقعد، وأن ترتاح، وأن تتكاسل، وأن تبقي نفسك جاهلاً، ولا تعمل, وتقول: هذا الذي اختاره الله لي, لا .
أنا ذكرت سابقاً: هناك ما يسمى بفقر الكسل، فقر الكسل مذموم، وهناك ما يسمى: بفقر القدر، فقر القدر صاحبه معذور، إنسان معه مشكلة في جسمه، معه عاهة, تقعده عن طلب الرزق ، هذا فقر القدر، وفي فقر الإنفاق، الإنسان الذي يسعى للآخرة جهده ينفق مالاً كثيراً في سبيل الله ، فلا يبدو أنه غني لكثرة إنفاقه، وفي غنى الكفاية، وفي غنى البطر، غنى البطر مذموم، عدَّه النبي أحد المصائب:
((بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سَبْعًا؛ هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟))
[أخرجه الترمذي عن أبي هريرة في سننه]
غنى البطر: هو الغنى الذي يحمل صاحبه على المعصية، اغتنى فجأةً، أراد أن يذهب إلى بلاد الله الواسعة، ذهب إلى بلاد الله الواسعة، أراد أن يرى فيها كل شيء؛ دخل إلى ملاهيها، وإلى نواديها الليلية، وإلى علبها السوداء، وإلى مجتمعاتها المنحطَّة، معه مال بإمكانه أن يفعل به ما يشاء، هذا الغنى يعدُّ أكبر مصيبةٍ للإنسان، إذا كان عندك ما يغطِّي نفقاتك, فهذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهمَّ من أحبني فاجعل رزقه كفافاً))
فإذا قال لي أحد الأخوة الكرام: مستورة، أقول له: أصابتك دعوة النبي، لأنه يحبك، لم يشغلك بهذا المال، أحياناً تكون أنت عبداً للمال، تكون خادماً له، ويكون المال سببَ هلاكِ الإنسان أحياناً، قد يقتله بعض الناس من أجل ماله، قد يتآمر عليه أولاده، وأقرب الناس إليه من أجل ماله، وقد يفعلون فيه الأعاجيب من أجل ماله، المال قد يكون نقمة .
فقر الإنفاق: قال أحد أصحاب النبي للنبي:
((والله إني أحبك، قال: انظر ما تقول, قال: والله إني أحبك, قال : انظر ما تقول, قال: والله إني أحبك، قال: إذا كنت صادقاً فيما تقول, للفقر اٌقرب إليك من شرك نعليك))
أي فقرٍ هذا؟ فقر الإنفاق: (( يا أبا بكر, ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله))
هذا وسام شرف، أن يكون معك مال وتنفقه، أعرف طبيبًا رحمه الله، أقام في أحد الأقبية في ريف دمشق، لكنه خدم الناس خدمة تفوق حدَّ الخيال، كل شيء يملكه, أنفقه في سبيل الله، ما أبقى لنفسه شيئاً، صار معه مرض، فقال أحد زملائه لأهل هذه البلدة الطيبة: لو أن العملية تكلِّف ستة ملايين تدفعونها, أقسموا بالله ليدفعنَّها، لكن المرض كان ميؤوسًا منه، كل شيء يملكه قدَّمه؛ هذا يلزمه مئة فأعطاه مئة، هذا يلزمه بيتٌ فأعطاه بيتًا، هذا يلزمه زواج فزوَّجه، فلما توفي ، ما عرف الناس قدره إلا بعد الوفاة.
أي إذا فاتك من الدنيا شيء, فلا تنس نصيبك من الآخرة، وحظوظ الآخرة مبذولةٌ لكل الناس، لكل المؤمنين، وقيمتك عند الله بعلمك وعملك, قال تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأحقاف الآية: 19]
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
[سورة المجادلة الآية: 11]
كيف كانت تستقبل فاطمة زوجها علي حينما يأتي إلى البيت ؟
فكانت هذه السيدة الجليلة راضية بما قدَّر الله لها، وهذه السيدة الجليلة, كانت ترى عائشة تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، كلَّما عاد إلى بيته المتواضع، بالابتسامة الحلوة، واللقاء الجميل، أرأيت المؤمنة؟ يكون زوجها فقير، فتستقبله بالرضا والابتسامة، وتقبل منه دخله القليل، وبيته الصغير، وأثاثه الخشن، وتستقبله فرحةً مطمئنةً، تدخل إلى قلبه السرور، هذه المؤمنة، أما غير المؤمنة إن لم ينفِّذ لها طلباتها، والعياذ بالله، تصبح زوجةٍ لئيمة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((أعظم النساء بركةً أقلهنَّ مؤنةً))
فحينما ترى السيدة عائشة تستقبل النبي في حجرتها المتواضعة، كان إذا صلَّى قيام الليل أزاحت رجليها, ليتمكَّن من السجود، أي أن غرفتها لا تتسع لنومها وصلاة النبي .
الآن البيت تكون مساحته أربعمئة متر، وهي منبوذة، تطلب أحياناً طلبات خياليَّة، فإن لم يُنفَّذ, تقابله بأسوأ مقابلة, وهناك غرفةٍ لا تتسع لصلاته ونومها، وكانت تستقبله باشة، هاشة، مبتسمة، ضاحكة، مؤنسة، مسلِّية.
فهذه السيدة فاطمة, كانت إذا علمت بقدوم زوجها عليِّ كرَّم الله وجهه, تهيَّأت لاستقباله ، الآن الزوجة غير المؤمنة أجمل ما فيها تبديه لغير زوجها، وأبشع ما عندها تبديه لزوجها؛ كلامها القاسي، هيأتها المتبذِّلة المهملة لزوجها، أرخص ثوبٍ ترتديه لزوجها، أكره ثوبٍ ترتديه لزوجها، فإذا كان عندها استقبال، أو عندها زيارة أو شيء، بدت وكأنها ملكة جمال، هذه المرأة التي لا تعرف الله .
انظر السيدة فاطمة: كانت إذا علمت بقدوم زوجها علي, تهيأت لاستقباله بالابتسامة المشرقة، وبالدعابة اللطيفة، لتبرهن عما في قرارة نفسها بالرضا التام لما حباها الله تعالى، إذ جعلها بنت سيد المرسلين، وزوجة وليِّ المؤمنين .
فالزواج نعمة، عندها زوج لا ترضي زوجها، عندها زوج لا تحسن إلى زوجها، عندها زوج لا تدخل على قلب زوجها الفرح، دائماً تضغط عليه .
والزوجة نعمة، فالذي عنده زوجة, دائماً يقسو عليها، ودائماً يضغط عليها، ويكلِّفها ما لا تطيق، ويستهزئ بها، هذه نعمة الزواج؛ نعمة الزوجة ونعمة الزوج، من أساء معاملة الطرف الآخر, فقد كفر هذه النعمة .
إليكم بعض الأحاديث التي وردت بشأن مكانة علي بن أبي طالب عند النبي :
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ:
((بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا, وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَمَضَى فِي السَّرِيَّةِ, فَأَصَابَ جَارِيَةً, فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ, وَتَعَاقَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالُوا: إِذَا لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَخْبَرْنَاهُ بِمَا صَنَعَ عَلِيٌّ, وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا رَجَعُوا مِنْ السَّفَرِ, بَدَؤوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ, ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى رِحَالِهِمْ, فَلَمَّا قَدِمَتْ السَّرِيَّةُ, سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَامَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَلَمْ تَرَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, صَنَعَ كَذَا وَكَذَا, فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ قَامَ الثَّانِي, فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ, فَأَعْرَضَ عَنْهُ, ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ, فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ, فَأَعْرَضَ عَنْهُ, ثُمَّ قَامَ الرَّابِعُ, فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالُوا, فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ, فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي, وَأَنَا مِنْهُ, وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
كان صهره الحبيب: ((مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ؟ إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي, وَأَنَا مِنْهُ, وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
إليكم هذه السنة الربانية التي قضى الله بها في عباده مع مثال عليها :
أيها الأخوة, عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:
((إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ, اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَلَا آذَنُ, ثُمَّ لَا آذَنُ, ثُمَّ لَا آذَنُ, إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي, وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ, فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي, يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا, وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
لكن سنة الله في خلقه, أنه لا بدَّ من اضطراب العلاقة الزوجية، ليس هناك على وجه الأرض زوجان, إلا وينشأ بينهما جفوة، أو خصومة، أو نفور بعض الشيء، فقد روى ابن سعدٍ بإسناده عن عمرو بن سعيد قال:
((كان في عليٍ شدَّة على فاطمة, فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فانطلقت, وانطلق عليٌ في أثرها, فكلَّمته, فقال صلى الله عليه وسلَّم: أي بنيتي؛ اسمعي، واستمعي، وأعقلي، إنه لا إمرة لامرأةٍ, تأتي هوى زوجها, وهو ساكت .
-أي إذا كانت المرأة مطيعة لزوجها، فليس له الحق أن يشتد عليها، إن كانت تطيع زوجها وترضيه, فليس له الحق أن يشتد عليها- لذلك قال عليٌ: فكففت عما كنت أصنع, وقلت: والله لا آتي شيئاً تكرهينه أبداً))

عاشت هذه السيدة الجليلة في بيت علي بن أبي طالب؛ معزَّزةً، مكرَّمةً، معظَّمةً، مبجَّلةً .
إليكم ذرية فاطمة بنت النبي, والأحاديث التي وردت بشأن محبة النبي للحسن والحسين, وعلة تسمية بناتها على تسمية أخواتها زينب وأم كلثوم :
طبعاً أول مولود أنجبته الحسن، لقد كان سرور النبي صلى الله عليه وسلَّم بأولاد فاطمة رضي الله عنها عظيماً جداً، فاق كل سرور، بل لعله فاق سرور الأبوين نفسيهما، وكان عليه الصلاة والسلام, يأمل من زواج فاطمة من علي هذه الذرِّية الطيبة .
قال عليه الصلاة والسلام ليلة بنى عليٌ بفاطمة, معنى بنى: أي دخل بها:
((لا تحدث شيئاً حتى تلقاني، فدعا بماءٍ, فتوضَّأ منه, ثم أفرغ عليهما, وقال: اللهمَّ بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك في نسلهما))
واستجاب الله عزَّ وجل دعاء رسوله الكريم، فرزق الزوجين المباركين ذريةً طيبةً مباركة، فما إن مضى أقل من عام على زفاف العروسين الكريمين، حتى احتفلت المدينة المنوَّرة بمقدم المولود المبارك الذي سمَّاه جده (الحسن)، وما أن أصبح عمر الحسن يقارب السنة حتى أردفته أمه بشقيقه الحسين، فكان في ذلك سرورٌ عظيمٌ من الجد الكريم، صار له أحفاد صلى الله عليه وسلَّم، الحسن والحسين، وقف الوالدان مدهوشين أمام ذلك السرور العارم من الجد الرسول عليه الصلاة والسلام .
فكان عليه الصلاة والسلام يضمُّهما إلى صدره الشريف، يعانقهما، ويغمرهما بكل ما امتلأ به قلبه الطاهر الكبير من حبٍ وحنان، ويفيض عليهما من عاطفة الأبوَّة ما شاء الله أن يفيض.
روى الإمام الترمذي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ:
((طَرَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بَعْضِ الْحَاجَةِ, فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَيْءٍ, لَا أَدْرِي مَا هُوَ, فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِي, قُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَكَشَفَهُ, فَإِذَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَى وَرِكَيْهِ, فَقَالَ: هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ, اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا, وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا))
يحملهما على وركيه، على خصريه .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ:
((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ, وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ: ادْعِي لِيَ ابْنَيَّ فَيَشُمُّهُمَا, وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
وعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ, فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ, وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي, فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ, وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ, وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
أي وأنتِ معهم، هنا في نقطة دقيقة، أي أن أهل البيت جزءٌ من الدعوة، كيف؟ لو أن إنسانًا يدعو إلى الله, وأهل بيته, ليسوا كذلك، تنشأ مشكلة كبيرة، هذه المشكلة أنه إذا كانت هذه الدعوة صحيحة، لمَ لا تطبَّق على أهل بيتك؟ هذا سؤال، فإن كانت ليست واقعية, فلا معنى لهذه الدعوة، وإن كنت لا تستطيع أن تطبقها على أهل بيتك، عظ نفسك قبل أن تعظ الناس، هذه كل القصة، لذلك يعد أهل البيت جزءًا من الدعوة، فإن استقاموا استقامت الدعوة، هذا معنى قوله تعالى :
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 33]
لا تستقيم الدعوة إلا بالانسجام، لا تستقيم الدعوة إلا أن يكون من حول هذا الذي يدعو على شاكلة من يدعو .
سيدنا علي كان يسعد أيَّما سعادة, حينما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم متعلِّقاً تعلُّقاً شديداً بالحسن والحسين، سرَّه أن تتصل حياة النبي الكريم بحياته هذا الاتصال الوثيق، وتتابعت الثمرات المباركات، وتلد الزهراء طفلتها الأولى في العام الخامس من الهجرة، فسمَّاها جدها صلى الله عليه وسلَّم زينب، إحياءً لذكرى خالتها الراحلة زينب, وبعد عامين من ولادة زينت، وضعت فاطمة رضي الله عنها الطفلة الثانية، التي اختار لها جدها اسم أم كلثوم، تطييباً لخاطر الخالة التي لم يقدِّر الله تعالى لها أن تنجب من زوجها عثمان, أم كلثوم لم تنجب من عثمان, فسمى ابنة فاطمة الثانية أم كلثوم, فصار الحسن, والحسين، وزينب, وأم كلثوم .
لقد ملأت هذه الذرية الطاهرة قلب الجد الكريم بحنان الأبوة, الذي افتقده بوفاة أبنائه؛ إبراهيم, والقاسم, وعبد الله .
فلحكمةٍ أرادها الله, لم يشأ الله أن يكون للنبي ذريَّة من الذكور، فمات ابنه إبراهيم، وابنه القاسم، وابنه عبد الله، وحفظ الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلَّم هذا القدر من السعادة الأبويَّة المتمثِّلة بحبه العميق لأولاد فاطمة، وعلى الأخص منهم؛ الحسن والحسين .
مشهد نستنبط منه العبر :
إليكم هذا المشهد: يروي الإمام النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ, قَالَ:
((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ, وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا, فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ, ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى, فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا, قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي, وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ سَاجِدٌ, فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي, فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ, قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا, حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ, أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ, قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ, وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي, فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ, حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ))
[أخرجه النسائي في سننه]
كنت في مسجد قبل يومين، فصلى طفل في الصف الأول، جاء إنسان بقسوةٍ ما بعدها قسوة, دفعه إلى صفٍ آخر، تألَّمت أشد الألم من هذا الموقف، النبي عليه الصلاة والسلام يحمل الحسن والحسين، ويدخل المسجد، ويضعهما أمامه, ويؤمُّ الناس .
هكذا كانت رقَّة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا كان حب النبي، وهكذا كان رفق النبي بالصغار .
أيها الأخوة, نحن الآن في أمس الحاجة إلى أن نربي الصغار، لأنهم المستقبل، إذا كان حاضر أمتنا لا يرضينا، فلا بأس من أن نسعى للمستقبل، بتربية أولادنا تربيةً إسلاميةً صحيحة، والطفل كما ورد أن:

((لاعب ولدك سبعاً, وأدِّبه سبعاً, وراقبه سبعاً, ثم اترك حبله على غاربه))
من الواحد إلى السبعة ملاعبة، من السبعة إلى أربعة عشر تأديب، من أربعة عشر إلى الواحد والعشرين مراقبة، في الواحد والعشرين صار زميلك، صديقك، وانتهى الأمر .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ, وَإِنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ))
[أخرجه النسائي في سننه]
أي أن أعظم عمل على الإطلاق؛ أن تربي ابنك تربيةً صحيحة، ليكون خليفتك من بعدك، وحينما تربي ابنك تربيةً صحيحة, أنت لا تموت حينئذٍ، فكل أعمال ابنك في صحيفتك, قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
[سورة الطور الآية: 21]
لي قريب فجأةً, شعر بدنو أجله، جمَّع ثروةً طائلةً، ثروة كبيرة جداً في السبعينات، فقيمتها الآن عشرة أضعاف، أو عشرون ضعفًا، أو ثلاثون ضعفًا، وترك ولدين بعيدين عن الدين كلياً، قال كلمة: تركنا أثمن شيء، وهم الأولاد، لم نعتن بهم، وجمعنا شيئاً لا قيمة له، وهو المال .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:27 PM   #24


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - بنات النبى الكريم

الدرس : ( الحادى و العشرون )


الموضوع : فاطمة الزهراء - 3






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لماذا لقبت فاطمة بأم أبيها, وما هو الشعور التي كانت تبادله لأبيها, وهل كان النبي يبادلها نفس الشعور:
أيها الأخوة الكرام, لا زلنا مع سيَر الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن أجمعين، ومع سيرة السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها، ومع الدرس التاسع والعشرين .
أيها الأخوة الكرام, قضت فاطمة حياتها كلَّها، وهي تحت أنظار أبيها، كانت قريبةً من أبيها أشد القُرب، لم تغب عن لمحاته إلا ساعات خروجه من الدار، وقد كانت شديدة التعلق به والاهتمام, حتى كنيت: بأم أبيها، من شدة تعلق السيدة فاطمة بسيدنا رسول الله كنِّيت أم أبيها، أي كأنها أمٌ له من شدة محبتها، وتعلُّقها، وحرصها، وخدمتها, كان صلى الله عليه وسلم شديد التعلُّق بها أيضاً .
الآباء يعرفون هذه الحقيقة: البنات أقرب إلى آبائهم من البنين، لأن المرأة عاطفتها جيَّاشة ، وفاؤها شديد، وأقرب للفطرة, حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام لما زوجها علياً, أسكنها بيتاً ملاصقاً لحجراته الملاصقة لمسجده, وكان عليه الصلاة والسلام إذا عاد من غزواته, أو من سفره, ابتدأ ببيت ابنته فاطمة، ثم يطوف بعدها على بيوت نسائه .
روى ابن عبد البر عن أبي ثعلبة, قال:
((كان عليه الصلاة والسلام, إذا قدم من غزوٍ, أو سفرٍ, بدأ بالمسجد, فصلى فيه ركعتين, ثم يأتي فاطمة, ثم يأتي أزواجه))
وهذه السنة، تكريم البنت من السنة، فالحقيقة تكريم البنت يقوي مركزها عند زوجها، البنت الشرف معوان يحجزها عن مخالفة الشرع .
لذلك قالوا: إنه لم يكن أحدٌ أشد حزناً على فراق رسول الله من فاطمة على الإطلاق سوى أبي بكرٍ رضي الله عنه . كيف خبر النبي فاطمة بدنو أجله حتى لا تفجع على هذه المصيبة ؟
وقد أدرك عليه الصلاة والسلام أنه على وشك مغادرة الدنيا، لذلك راح يمهد للسيدة فاطمة بإخبارها, بأن أجله قد اقترب، لئلا تتفاجأ بالمصاب الذي لا تحتمله، أراد أن يبلغها .
وبالمناسبة: لكرامة المؤمن عند الله, يشعره بدنو أجله، النبي عليه الصلاة والسلام لما نزل قوله تعالى:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
[سورة النصر الآية: 1-3]
هذه السورة فيها نعي النبي عليه الصلاة والسلام، كيف لا؟ وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 30]
أي أنك لا بد أن تموت، هذه سنة الله في كل خلقه، والآية الثانية:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 144]
فمن شدة محبة الصحابة الكرام للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن شدة تعلُّق السيدة فاطمة بأبيها، هذه الآيات تقرؤها، ولكن لم يخطر على بالها, أنه سيموت، لذلك خشي النبي عليه الصلاة والسلام وقع المصاب الأليم على نفسها، فأخذ ييسر لها ببعض الشيء عن رحيله من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة، وأن ذلك قدر الله عز وجل, قال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾
[سورة فاطر الآية: 43]
الحقيقة: حينما ألمت وعكةٌ شديدةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم في ليالٍ بقينَ من صفر في السنة الحادية عشرة للهجرة، ظن آل بيته والمسلمون, أنها وعكةٌ طارئة، لا تلبث أن تزول، دون أن يفكر أحدٌ أنه مرض الموت، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام أسير مرضه لا يغادر فراشه، وكان المسلمون يعودونه في مرضه، وقلوبهم متعلقةٌ به، تأمُل له من الله تعالى الشفاء العاجل، وكان جميع أهله لا يتركونه، وهم في أشد لهجةٍ بالدعاء إلى الله عز وجل، أن يشفي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما فاطمة، وعلي، والحسن، والحسين، وأخواتهما زينب، وأم كلثوم، وكل زوجاته الكريمات, أخذن يسألن الله عز وجل أن يعافي نبيه صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((كُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ لَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً, فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ, تَمْشِي مَا تُخْطِئُ مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا, -أشبه إنسان برسول الله فاطمة، ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله، قد يسأل أحدكم: ما تخطئ مِشيتها مِشية, لمَ مِشية بالكسر؟ نحن عندنا مصدر الهيئة, والمصدر مرة، مصدر الهيئة مكسور الميم، مصدر المرة مفتوح- فَلَمَّا رَآهَا, رَحَّبَ بِهَا, فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنَتِي, ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ, ثُمَّ سَارَّهَا, همس في أذنها, فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا, فَلَمَّا رَأَى جَزَعَهَا, سَارَّهَا الثَّانِيَةَ فَضَحِكَتْ, فَقُلْتُ لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بِالسِّرَارِ, ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ, فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهَا: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: مَا كُنْتُ أُفْشِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَّهُ, قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قُلْتُ: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنْ الْحَقِّ لَمَا حَدَّثْتِنِي مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ, أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى, فَأَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - أي يتلو أمامه القرآن مرة - وَإِنَّهُ عَارَضَهُ الْآنَ مَرَّتَيْنِ, وَإِنِّي لَا أُرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدْ اقْتَرَبَ - استنبط النبي عليه الصلاة والسلام أن جبريل لما عارض, أي تلا القرآن على النبي مرتين, أنها السنة الأخيرة في حياته- فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي, فَإِنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ, قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ, فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي, سَارَّنِي الثَّانِيَةَ, فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ, أَمَا تَرْضَيْ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ, أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ, قَالَتْ: فَضَحِكْتُ ضَحِكِي الَّذِي رَأَيْتِ))
[أخرجهما البخاري ومسلم واللفظ له في صحيحهما]
هكذا عالج النبي عليه الصلاة والسلام وقع المصيبة على ابنته فاطمة قبل حصولها، رأفة منه عليها ورحمة .
كتعليق: أي إنسان تخبره أنك سوف تموت بعدي سريعاً يضحك؟! مستحيل، لماذا ضحكت؟ لثقتها بما عند الله من إكرامٍ لها، الإنسان حينما ينقل اهتماماته إلى الدار الآخرة تسعده الدنيا، حينما ينقل اهتماماته إلى الدار الآخرة، حينما يقدم الأعمال الصالحة تلو الأعمال, أسعد شيءٍ له أن يلقى الله عز وجل، لذلك المقياس دقيق، ربنا عز وجل خاطب اليهود:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
[سورة الجمعة الآية: 6-7]
المؤمن حينما يكون عمله صالحاً, يتمنى لقاء الله، وحينما يكره لقاء الله, يكون عمله سيئاً, قال تعالى: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾
[سورة الجمعة الآية: 7]
صار مقياس، الإنسان المستقيم الذي له أعمال صالحة، دخله حلال، إنفاقه حلال، بيته إسلامي, لا توجد عنده مشكلة، لذلك يدعو الله عز وجل أن يكون من أهل الجنة .
في أي بيت تمرض النبي من بيوت زوجاته في اللحظة الأخيرة من عمره, وهل كانت تزوره فاطمة, وماذا تصنع؟
ولقد بقيت فاطمة, ترقب أباها على تخوِّفٍ، حتى إذا رأته بعد أيامٍ قد تحامل على نفسه, يدور على نسائه أمهات المؤمنين كسابق عهده، راودها الأمل بشفائه .
بالمناسبة: كل داء له دواء, وهذا الحديث يعطي الإنسان أمل كبير: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ))
[أخرجه مسلم عن جَابِر في الصحيح]
المريض يتفاءل، والطبيب يشعر أنه مقصر إن لم يبحث عن الدواء، فحافز للطبيب أن أي مرض له دواء، وطمأنينة للمريض لا تقلق, إلا مرض الموت، مرض الموت ليس له حل، فإذا كان الله عز وجل كتب للإنسان أنه سيموت، وطبعاً سيكون هذا الموت, بسبب مرض من الأمراض، هذا المرض يتم إلى أن ينتهي بالموت، فالإنسان يحضِّر حاله؛ في أمراض تميل نحو الشفاء، في أمراض تميل نحو التفاقم, إذاً: هو مرض الموت .
راودها الأمل بشفائه، ولكنه لم يصل إلى بيت ميمونة أم المؤمنين, حتى اشتد عليه وجعه ، فأقام عندها وقتاً، ثم دعا زوجاته, يطلب إليهن ويستأذنهن في أن يمرض في بيت أم المؤمنين عائشة، فيبادرن إلى امتثال أمره, وكانت كل واحدةٍ تأمل أن يكون مرضه في بيتها، تشريفاً لها .
وكانت فاطمة كثيراً ما تتردد على بيت عائشة، تقوم إلى جانب أبيها الذي أثقله المرض، تخدمه، وتسهر عليه مع عائشة، تشكو بثها وحزنها إلى الله تعالى، وتتجمل بالصبر على قضاء الله تعالى وقدره، ولسانها يلهج إلى الله سبحانه بالدعاء, أن يخفف عن رسوله آلام وجعه .
هل فهم أبو بكر مقولة رسول الله: ( إن عبداً من عباد الله....), وبماذا أمر النبي الناس, وهل استغفر لأهل البقيع ؟
وفي فترات سكون الألم, كان عليه الصلاة والسلام, يخرج إلى المسجد, فيصلي بالناس، وفي يوم الجمعة, خرج عاصباً رأسه, حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به, أنه صلى على أصحاب أحد, أي دعا لهم, واستغفر لهم، وأكثر من الصلاة عليهم, ثم قال: ((إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ, قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ, فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ .
فهم الصديق أنه يعني نفسه, فبكى, وقال: يا رسول الله, بل نفديك بأرواحنا, وأولادنا وأنفسنا, فقال عليه الصلاة والسلام: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ))
[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
بالمناسبة: أيها الأخوة, في للنبي قول: ((وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا مِنْ أُمَّتِي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ))
[أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري في الصحيح]
قال: ((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك))
لذلك من هو الحبيب؟ هو الله، إذا أحبك الله, ألقى حبك في قلوب الخلق، إذا أحبك الله خدمك أعداؤك، وإذا لم يحبك الله, تخلى عنك أحبابك، فأيُّما إنسان أكرمه الناس، واحترموه، وأحبوه, فهذه محبة الله، وإذا أهانوه، وقسوا عليه, فهذا تأديب الله عز وجل، الأصل هو الله، إذا أحبك الله, أحبك الخلق، وإذا أبغضك الله, أبغضك الخلق، ألقى بغضك في قلوب الخلق، والطريق إلى الله سالك، والقُرب منه سهل، ولا شيء تتقرب به إلى الله كطاعته، وطاعته معروفة؛ طاعته غير تعجيزية، هناك أشخاص يضعون لك شروطًا تعجيزية، طاعته سهلة, قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 286]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
[سورة الحجرات الآية: 13]
((يا سعد, لا يغرنك أنك خال رسول الله, فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة, إلا طاعتهم له))
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق, يكفي أن تستقيم على أمره يحبك، فإذا أحبك أحبك الخلق .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ, الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ, إِلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ, فَإِنِّي لا أَعْلَمُ امْرَأً أَفْضَلَ عِنْدِي يَدًا فِي الصُّحْبَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ))
.
أترى لهذا التقدير؟ أحياناً الإنسان تخدمه، وتخدمه، وتجده ساكتًا، تكلم بكلمة، شجع الذي يخدمك، بين مكانته، اشكره، قدِّرْ معروفَه، ((وكانت تعظم عنده النعمة مهما دقت))
رأى أحدهم قشة على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها، رفع النبي يديه, قال له: ((أكرمك الله))
وهي قشة، هناك شخص يتلقى خدمات، خدمات، عناية, ثم أمره كما قال ذاك الشاعر: أعلمه الرماية كل يـومٍ فلما اشتد ساعده رماني
و كم علمته نظم القوافي فلما قال قافيةً هـجاني
الفرق كبير جداً بين إنسان يقدِّر المعروف، يقدِّر الإحسان، يقدِّر الإكرام، وبين إنسان لا يقدِّر: ((لا أَعْلَمُ امْرَأً أَفْضَلَ عِنْدِي يَدًا فِي الصُّحْبَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ))
((ما ساءني قط))
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر))
كما خرج صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد قبل اشتداد وجعه, يدعو لهم, ويستغفر لهم.
فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ, فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ, إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ, فَانْطَلِقْ مَعِي, فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ, فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ, قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِر,ِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ, لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ, أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ, يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا, الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى, قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ, فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ, إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا, وَالْخُلْدَ فِيهَا, ثُمَّ الْجَنَّةَ, وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ, قَالَ, قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي, فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا, وَالْخُلْدَ فِيهَا, ثُمَّ الْجَنَّةَ, قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ, لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ, ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ, ثُمَّ انْصَرَفَ, فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ, أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ:
((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ, فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ, وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ, وَالْبِلَادُ, وَالشَّجَرُ, وَالدَّوَابُّ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
ما هو المقصود من هذا الحديث ؟
وروى ابن إسحاق عن عبد الله بن زمعة قال:
((لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع, وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين, قال: دعا بلالٌ إلى الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: مروا من يصلي بالناس, قال: فخرجت, فإذا عمر في الناس, وكان أبو بكر غائباً, فقلت: قم يا عمر فصلي بالناس، قال: فقام, فلما كبر, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلاً جهوري الصوت، قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكرٍ, فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة, فصلى بالناس, قال عبد الله: قال لعمر: ويحك, ماذا صنعت بي يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس, قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكني حين لم أر أبا بكرٍ, رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس))
الإشارة قوية جداً إلى أن الخليفة الذي يكون من بعده هو سيدنا الصديق .
فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((لَمَّا كَانَ وَجَعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ, قَالَ: ادْعُوا لِي أَبَا بَكْرٍ وَابْنَهُ فَلْيَكْتُبْ, لِكَيْلَا يَطْمَعَ فِي أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ طَامِعٌ, وَلَا يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ, ثُمَّ قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ مَرَّتَيْنِ, وقَالَ مُؤَمَّلٌ: مَرَّةً وَالْمُؤْمِنُونَ, قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ, وقَالَ مُؤَمَّلٌ: مَرَّةً وَالْمُؤْمِنُونَ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَبِي, فَكَانَ أَبِي))
[أخرجه أحمد في مسنده]
هل أعجب النبي هيئة المسلمين في صلاتهم في لحظته الأخيرة من الحياة, وماذا قال, وماذا أجاب عن كلمة قالتها ابنته حينما ما رأت عليه ما أرت ؟
وروي عن أنس بن مالك:
((أنه لما كان يوم الاثنين الذي قبض الله تعالى فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الناس, وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم, حينما رأوه فرحاً به، وترفجوا, -أي تفرقوا- فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم, قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم سروراً, لما رأى من هيأتهم في صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئةً منه تلك الساعة .
-وفي رواية أخرى قال:
((حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء))
هذا هو العمل، أن تربي أشخاصاً، أن تربي قادةً، أن تربي مؤمنين، أن تربي محسنين، أن تربي أناساً يحبون الله، يقيمون أمر الله في حياتهم .
وفي رواية: ((حتى بدت نواجذه))
من شدة فرحه .
فهذه ثمرة العمل، تصور إنسانًا زرع شجرة، فلما أينعت وأثمرت, يشعر بسعادة كبيرة جداً؛ فالدعوة إذا أثمرت أُناساً مؤمنين، صادقين، ورعين، مستقيمين, دعاة إلى الله عز وجل، فهذا إنجاز كبير جداً- .
قال: ثم رجع، وانصرف الناس، وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق, -أي برئ من وجعه, فرحوا الناس، فهذه صحوة الموت، قبل الموت في صحوة، المؤمنون ينتعشون قبل الموت, ليشهدوا أنه لا إله إلا الله، وليكون لقاؤهم بالله عز وجل عن وعي- وقد خاطبهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون علي بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن)) أي لا يوجد علي مأخذ، ما أحللت إلا ما أحل الله، وما حرمت إلا ما حرم الله، لكن المعنى المخالف، الذي يحل ما حرم الله له عذابٌ أليم، أو الذي يحرِّم ما أحل الله .
قالت عائشة: ((رجع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في ذلك اليوم، حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يثقل في حجري, فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شَخَص، وهو يقول: اللهم الرفيق الأعلى من الجنة، فقلت: خُيِّرت واخترت, والذي بعثك بالحق .
-فالآن هناك خيارات في الأرض, لا يعلمها إلا الله؛ إنسان يختار النساء، إنسان يختار الأموال، إنسان يختار السفر، إنسان يختار القوة، إنسان يختار المُتَع الرخيصة، إنسان يختار الشهادات العليا، إنسان يختار المكانة الاجتماعية، إنسان له هوايات؛ هذا بالحدائق، هذا بالكُتُب، هذا بالطوابع، هذا باللعب، هذا بالكرة, من هو البطل؟ هو الذي اختار الله:
من أحبنا أحببنــاه ومن طلب منا أعطيناه
و من اكتفى بنا عما لنا وما لنا كنا لـــه
فالبطولة أن تحسن الاختيار- .
قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم، كانت فاطمة رضي الله عنها حاضرةً عنده, ترى ما نزل به من أمر الله تعالى الذي لا مردَّ له، فتأخذها العبرات حزناً ولوعةً على أبيها، وهي تراه يدخل يديه في الماء, فيمسح بهما وجهه, ويقول: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ)) [أخرجه البخاري عن عائشة في الصحيح]
إذا قال هذا النبي, فنحن ماذا يجب أن نقول؟ .
قال أنس: ((لما ثقُل النبي صلى الله عليه وسلم, جعل يتغشَّاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ))
[أخرجه البخاري عن أنس في الصحيح]
إليكم هذا القول الذي نعيت فاطمة أباها به, وكلمة الحق الذي صدع بها الصديق حينما سمع بنبأ وفاة النبي, وماذا قال عمر حينما سمع هذه الكلمة؟
فلما مات قالت: ((يا أبتاه, أجبت رباً دعاك، يا أبتاه, في جنة الفردوس مأواك، يا أبتاه, إلى جبريل ننعاك))
فلما دفن عليه الصلاة والسلام, قالت فاطمة فرقاً على أبيها، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ, فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ, فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ, فَلَمَّا مَاتَ, قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ, أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ, يَا أَبَتَاهْ, مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ, يَا أَبَتَاهْ, إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ, فَلَمَّا دُفِنَ, قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ, أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ؟))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
ممكن أن يوضع هذا الإنسان تحت الثرى, وأن يهال عليه التراب, هذه سنة الله في خلقه ، الموت نهاية كل حي:
والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد من نـزول القبر
ويقع الخطب العظيم، ويعم المصاب جميع المسلمين، ويموج الناس حيارى, حتى وقف أبو بكر, أنا لا أعتقد أن على وجه الأرض إنسان يحب إنساناً كحب الصديق لرسول الله، لكن أعظم ما في هذا الموقف, أن هذا الحب ما حمله على الشرك، وقف رضي الله عنه, وقال قولته الشهيرة: ((أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ, فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, وَقَالَ:
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾
وَقَالَ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
-ما من كلمةٍ أبلغ من هذه الكلمة، نحن دينُنا دين التوحيد: أشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أحياناً مريد بسيط, يحب شيخه فيؤلِّهه، يحب شيخه, يعبده من دون الله، سيدنا الصديق كان مع رسول الله، مع أكبر إنسان، ومع ذلك هذا الحب الشديد, وهذا الهيام، ما دفعه إلى الشرك أبداً.
إن مات أو قتل: إن تفيد احتمال الوقوع، ونحن عندنا قاعدة، حينما قال الله عز وجل:﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
[سورة المائدة الآية: 67]
قال علماء التفسير: يعصمك من أن تُقتل، لأن قتل النبي إنهاءٌ لدعوته، وإنهاء دعوته تحدٍ لله عز وجل، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ من أن يقتل، والنبي صرف حُرَّاسه لما نزل قوله تعالى:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
[سورة المائدة الآية: 67]
صرف حراسه، فكيف نوفق بين هذه الحقيقة وبين هذه الآية؟:﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 144]
الحقيقة: بعد أن بلَّغ الدعوة؛ يمكن أن يموت، ويمكن أن يقتل، القتل هنا لا يأتي إلا بعد تبليغ الدعوة, قال تعالى:﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾
[سورة المائدة الآية: 3]
قال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية، -من شدة حب أصحاب النبي لرسول الله، هذه الآية كأنهم ما سمعوا بها إطلاقاً :﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 144]
قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكرٍ تلاها، فالأرض عندئذٍ ما تقلني رجلاي، حتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها)) هو ما كان يصدق ذلك، فلما تلا هذه الآية, عرف أنه قد توفي، ديننا كله حب، من دون حب لا يوجد دين، قال: ((يا رسول الله, إني أحبك أكثر من كل شيء, إلا من أهلي وأولادي ومالي, قال: لما يكمل إيمانك يا عمر, إلى أن قال: والله يا رسول الله, أصبحت أحبك أكثر من نفسي، وأهلي, ومالي، قال له: الآن يا عمر))
فلا بد أن تحب الله، وأن تحب رسوله، وأن تحب المؤمنين، وأحد شروط الإيمان؛ أن تحب المؤمنين، إن لم تحب المؤمنين فمن تحب؟ تحب الكفرة، الفسقة، الفجار, هذا الذي يميل للكفار، والعصاة، والفجَّار، ويعادي المؤمنين، حالته خطيرة جداً، يضع نفسه مع أهل الفجور . وفاتها :
قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, أنبأ النبي السيدة فاطمة, أنها أول أهله لحوقاً به، فتوفيت فاطمة الزهراء رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهرٍ أو نحوها، وكان قد أذهلها المصاب الفادح، وغشيها من الأحزان على فراق أبيها صلى الله عليه وسلم ما غشيها، حتى أتاها أجلها، وقضت نحبها .
قال عبد الله بن الحارث:
((مكثت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهرٍ, وهي تذوب من شدة الألم على أبيها))
وقال الحافظ الذهبي: ولما توفي أبوها صلى الله عليه وسلم تعلَّقت أمالها بميراثه، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر رضي الله عنه، فحدثها أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ))
وقال أبو بكر لها: ((يا حبيبة رسول الله, والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنكِ لأحب إلي من عائشة، ولوددت يوم مات أبوكِ أني مت، ولا أبقى بعده، أفتُراني أعرفكِ، وأعرف فضلكِ, وشرفكِ, وأمنعكِ حقكِ وميراثكِ من رسول الله؟! إلا أني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ))
وما أن انقضت الأيام قريباً من أيام الوداع الخالدة، حتى أخذت في التفكر بالاستعداد ليوم الرحيل، فقد بشَّرها أبوها صلى الله عليه وسلم بأنها أول أهله لحوقاً به، فكانت كثيراً ما تتحدث عن الموت، حتى قرب أجلها .
تقول أم رافع: مرضت فاطمة الزهراء، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه, قالت لي: يا أم اسكبي لي غسلاً، فاغتسلتْ كأحسن ما كانت تغتسل، ثم لبست ثياباً لها جدد, ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فاضطجعت عليه, واستقبلت القبلة، وقالت: يا أم, إني مقبوضةٌ الساعة، وقد اغتسلت, فلا يكشفن لي أحدٌ كفناً، فماتت رضي الله عنها, فجاء علي بن أبي طالب، فأخبرته فاحتملها، ودفنها بغسلها هي, صلى عليها هو والعباس رضي الله عنهم جميعاً، وتوفيت رضي الله عنها ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشر من الهجرة . خاتمة القول :
أيها الأخوة, كلما كان عملك طيباً, كان الموت مريحاً، وكان الموت محبباً، وكان الموت عرساً، وكان الموت تحفةً، فكل بطولتك أن تستقيم على أمر الله، وأن تعمل صالحاً حتى يكون الموت محبباً إليك، لأن الموت عند الناس أكبر مصيبة، في حالات كثيرة جداً خوف الناس من الموت لا يوصف، السبب كما قال الله عز وجل مرة ثانية:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾
[سورة الجمعة الآية: 6-7]
فتمني الموت أو عدم تمني, الموت مقياس دقيق لعملك، لا يوجد عندك مشكلة، لا يوجد دخل حرام، ولا مخالفة، ولا معصية ببيتك، ولا معصية في عملك، والوجهة إلى الله سليمة، وفي قلبك حب، مرحباً بالموت، خَطُّك البياني صاعد صعوداً مستمراً، والموت نقطةً على هذا الخط .




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:35 PM   #25


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - اهل بيت النبى الكريم

الدرس : ( الثانى و العشرون )


الموضوع : ام كلثوم بنت على بن ابي طالب - 1





قصة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
لمحة مختصرة عن سيرة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثلاثين من دروس سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عنهن أجمعين، ومع أهل بيت النبي، ومع أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، زوجة الفاروق عمر بن الخطاب .
هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، شقيقة الحسن والحسين، ولدت في حدود سنة ستٍ من الهجرة، رأت النبي صلى الله عليه وسلم جدها، ولم ترو عنه شيئاً، تزوَّجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك سنة سبع عشرة، وكان سبب زواج عمر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:

((كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي))
أي سبب زواج هذا الخليفة الراشد هذا الحديث، مع أن فارق السن بينهما كبير، ألح هذا الخليفة الراشد أن يتزوَّج هذه الفتاة التي هي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إليكم قصة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بالتفصيل :
قصة هذا الزواج هي كما يلي: إن عمر بن الخطاب خطب إلى عليٍ ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقيل لعمرٍ:
((إن ردَّك فعاوده, -أي بإلحاح- ثم خطبها إلى أبيها علي بن أبي طالب فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: زوِّجْنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، هي عندي مكرمةٌ أشد التكريم، فقال له علي: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوَّجْتكها، فبعثها إليه ببردٍ، فقال لها: قولي له: هذا البرد الذي قلت لك، فقالت ذلك لعمر، فقال عمر: قولي له قد رضيت، رضي الله عنه))
فقصة هذا الزواج قصة اكتساب الشرف، اكتساب السبب، سبب الاتصال بالله عز وجل لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((كل سببٍ ونسبٍ منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي))
.
أيها الأخوة, العلماء قالوا:

((جلس عمر إلى المهاجرين في الروضة، وكان يجلس المهاجرون الأولون في روضة مسجد رسول الله, فقال: رفؤني، -العرب كانت تقول للمتزوج: بالرفاء والبنين، العوام يقولون: بالرفاه، هي بالرفاء، والرفاء الوفاق، بالوفاق الزوجي والبنين، وأثمن ما في الزواج الوفاق والبنون- فقال: رفؤني، فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((كل سببٍ ونسبٍ وصهرٍ ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري))
وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب، فأردت أن أجمع إليه الصهر، فرفؤني ، -أي عد هذه مغنماً كبيراً، أنه اتصل نسبه، أو تزوج بنتَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أصبح صهر رسول الله- .
قالوا: تزوجها على مهر أربعين ألفاً، فولدت له زيد بن عمر الأكبر ورقية))


.

ماذا استنبط العلماء من هذه الواقعة ؟
في هذا الخبر كما قال العلماء أحكام عدة، مِن هذه الأحكام: أن يصح زواج الكبير بالصغيرة شرعاً، وأن ذلك حصل بمشهد جمعٍ غفير من كبار المهاجرين، وعلى مسمع الأنصار أيضاً، وأنهم قد أقروه على ذلك، وهذا إجماعٌ منهم على جوازه، وأنه يندب تعدد الزوجات لزيادة الشرف, تعدد الزوجات من هؤلاء الصحابيات الكاملات المتصلات بالنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن يزاد في مهر الصغيرة أضعاف مهر الكبيرة، وأنه يندب إعلام الأصحاب لذلك للدعاء والتبريك، وأنه يجوز للأب أن يزوِّج ابنته الصغيرة، وأن سكوت الصغيرة كسكوت البالغة في اعتبار الرضا به، وأنه يجوز إبرام عقد الزواج بالصورة التي تم فيها بشرط إسماع الشهود على ذلك، كل هذه الأحكام مستنبطة من هذه الواقعة .
الحياة الكريمة التي نالتها أم كلثوم عند زوجها :
أيها الأخوة, حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة، فلو كان هناك تناقضٌ كبير كما يتوهم الآخرون بين سيدنا علي وسيدنا عمر، لما أمكن أن يتم هذا الزواج، هذا استنباطٌ مهمٌ جداً, بل إن سيدنا علياً كرم الله وجهه سمى أولاده بأسماء الصحابة الكرام؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان .
فسيدنا علي سمى أولاده بأسماء الصحابة الكبار، وهؤلاء الصحابة الكبار تشرفوا بالزواج من بنات سيدنا علي، فبينهما من الود، والاحترام، والحب، والولاء، والبيعة مالا ينكر .
فقد حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة، فكان ينظر إليها بعين الإجلال والإكرام، فعاشت عنده حياةً طيبةً مباركة، فقد كان يسعى لإسعادها بما يحقق طموح فتوَّتها، وتفتُّح شبابها، وهو البصير بقضايا النساء، فكان رضي الله عنه يرقب نفسه وما يراه واجباً للمرأة على زوجها .

إليكم بعض هذه القضايا التي عالجها عمر بن الخطاب بشأن النساء :
ولقد أُثر عنه وهو خليفة المسلمين بحكمته البالغة دقة معالجته لقضايا الفتيات المتزوجات اللواتي يشتكين من أمورٍ تخصُّ حياتهن الزوجية، فمن ذلك أنه كان يقول لأولياء أمور النساء:
((لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم))
فكما أن الشاب يتمنى فتاة تملأ عينه، كذلك الفتاة تتمنى زوجاً يملأ عينيها، لذلك لا يُبرم عقد الزواج إلا بموافقة الزوجة، فإن قالت: لا، فالعقد باطل، وكلكم يرى في عقود القران، كيف أن موظف المحكمة يذهب ويستمع بأذنه إلى إقرار الفتاة، وهذا حقٌ من حقوق المرأة؟ .
وكان بعض الصحابة يقول:

((إني لأتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين امرأتي لي))
وهذا من حقها، فكلام سيدنا عمر:
((لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم))
أي يا أيها الآباء لا تتجاهلوا رأي بناتكم في هذا الخاطب الذي أنتم تريدون أن تجبروا فتياتكم عليه، فسيدنا عمر لحكمةٍ بالغة, كان يخشى على المرأة, حينما تكره زوجها كراهيةً, تجعلها لا تطيق قربه، أن تدفعها هذه الكراهية، وعدم إمكان الحصول على الطلاق إلى الشيء الذي لا يرضي الله عز وجل، والآية الكريمة والتي فيها بعض الحيرة:
﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾
[سورة النور الآية: 33]
ما مؤمنٍ على وجه الأرض يكره ابنته على الزنا، إلا أن الأب الذي يُعضل ابنته، ويضع العراقيل تلو العراقيل أمام زواجها، أو يضع شروطاً تعجيزية لزواجها، مثل هذا الأب قد يفاجأ إلى أن ابنته, مالت إلى عدم طاعته، أو إلى الانحراف, فكأنه دفعها إلى هذا من دون أن يريد, ومن دون أن يشعر .
يروى أنه رضي الله عنه, كان يطوف بالبيت، فسمع امرأةً, تنشد في الطواف:

فمنهن من تسقى بـعذبٍ مبرَّدٍ لقاح فتـلكم عند ذلك قرتي
ومنهن من تسقى بأخضر آجنٍ أجازٍ ولولا خشية الله زنت

فتفرَّس عمر ما تشكوه هذه المرأة، فبعث إلى زوجها فاستنكهه، فإذا هو أبخر الفم, أي عرف السبب, فإنسان دميم له رائحة كريهة، هذا قد يؤذي زوجته، وقد يدفعها إلى أن تفكر بغيره، فلا بد أن يأخذ الإنسان السنة النبوية، لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
[سورة البقرة الآية: 228]
فكما أنك من حقك أن تطلب من زوجتك شيئاً، هي أيضاً من حقها أن تطلب منك شيئاً .
ومن أشهر ما يؤثر عن عمر رضي الله عنه في تفهُّمه قضايا المرأة، وبالأخص ما يتعلَّق برغباتها، التي فطر الله تعالى النساء عليها، ما روي من أنه كان يطوف ليلةً بالمدينة متفقداً رعيته ، فسمع امرأةً تقول:

فو الله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخـافة ربي والحيـاء يكُفُّني وإكرام بعلي أن تنـال مراكبه

يبدو أن زوجها ابتعد عنها كثيراً، وهي في أشد الحاجة إليه، فلما كان من الغد، استدعاها عمر وسألها:
((أين زوجكِ؟ قالت: بعثت به إلى العراق, لقد سألها من غير أن يشعرها بما سمع منها، وقد أجابته هي بحياءٍ وتصبُّر، ولم تفصح عما في نفسها من شوقٍ عميق لزوجها الغائب عنها، عندئذٍ استدعى عمر نساءً مع ابنته حفصة، فسألهن عن المرأة المتزوجة: كم مقدار ما تصبر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر))
.
أما بلاد إسلامية طويلة عريضة لا تقبل الموظف عندها إلا بلا زوجته، سنة، أحد عشر شهراً، تحرمه من زوجته، ويحرمونها من زوجها، أكثر دول الخليج هكذا، لا تقبل الموظف مع زوجته، هذا خلاف الفطرة، خلاف حاجة الإنسان إلى زوجة، خلاف حاجة الزوجة إلى زوج، خلاف تشتيت الأسرة، فسيدنا عمر بعد ذلك, أعطى أمراً, ألا يجمَّد الجندي في البعوث أكثر من أربعة أشهر، وبعدها يعود إلى زوجته .
أحياناً الإنسان يجري موازنة ويـتألَّم، في بلاد الكفار الإنسان مسموحٌ له أن يأتي بأمه، وأبيه، وأخوته جميعاً، جمعاً للأسرة، ونحن المسلمين أحياناً نرفض أن نعيِّن موظفاً مع زوجته، وهذه مشكلة كبيرة، من أجل ذلك؛ كان عمر رضي الله عنه يجنِّد في جيوش المسلمين غير المتزوجين، ويدع المتزوجين مع زوجاتهم, ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
والقصة التي تعرفونها جميعاً: يوم كان عمر يتفقد رعيته، وكان معه عبد الرحمن بن عوف، فرأيا قافلةً مقيمةً في ظاهر المدينة، فقال:

((تعال نحرسها، فبكى طفلٌ، فقال عمر لأمه: أرضعيه، فبكى ثانيةً, فقال: أرضعيه، فبكى ثالثة, فقال: يا أمة السوء أرضعيه، قالت: وما شأنك بنا إنني أفطمه، قال: ولماذا؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام، فضرب عمر جبهته بيده, وقال: ويحك يا بن الخطاب! كم قتلت من أطفال المسلمين؟))
وعد نفسه قاتلاً، لأنه حمل بعض النساء على أن يفطمن أولادهن قبل الوقت المناسب، كي يكسبن هذا التعويض العائلي عن أولادهن.
وكان رضي الله عنه في هذا المقام كما قال الإمام السرخسي: كان حسن التدبير، والنظر للمسلمين، وكل إنسان الله عز وجل ولاَّه، أحياناً مدير مستشفى، أحياناً مدير دائرة، مديرة مدرسة، حينما يرحم المسلمين يرحمه الله، وحينما يشفق عليهم يرحمه الله، وحينما يعدل بينهم يرحمه الله عز وجل، والإنسان حينما يولى على بضعة رجال، له حسابٌ عند الله خاص .
وكان رضي الله عنه يقول:

((والله ما استفاد رجلٌ فائدة بعد إسلامٍ خيراً من امرأةٍ حسناء, حسنة الخلق, ودودٌ ولود, -أي أن أثمن شيء بعد الإيمان بالله زوجة صالحة- والله ما استفاد رجلٌ فائدةً بعد الشرك بالله شراً من مُرَيَّةٍ, -تصغير امرأة- سيئة الخُلُق، حديدة اللسان، والله إن منهن لغلاماً يفدى منه وغلاماً ما يجدي))
أي أن أفضل شيء للمرء بعد الإيمان زوجة صالحة، وأسوأ شيء للإنسان بعد الشرك امرأةٌ سيئة الخلق حديدة اللسان .
يروى أن ذات مرة جاءت امرأة تشكو سيدنا عمر، يبدو أنه كان منشغلاً عنها، قالت له:

((يا أمير المؤمنين, إن زوجي صوامٌ قوام، -ما انتبه- فقال: بارك الله لكِ بزوجك، صوام في النهار، قوَّام في الليل، -في النهار صائم، وفي الليل قائم، عبادة مستمرة- عنده أحد الصحابة, قال له: يا أمير المؤمنين, إنها تشكو زوجها، لا تمدحه، قال: هكذا فهمت، احكم بينهما))
هذا الصحابي نظر لو أن الرجل عنده أربع نساء كما هو مسموحٌ له، نصيب الواحدة من نسائه يوم كل أربعة أيام، فأمره أن يتفرَّغ له يوماً كل أربعة أيام، أعجب بهذا الحكم، عيَّنه قاضي البصرة، لكن النساء كن عفيفات, صاحبات حياء، بليغات، فصيحات، وتعلَّمن من أسلوب القرآن الكريم, قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المعارج الآية: 29-31]
يدخل تحت هذه الآية: كل أنواع الانحراف, قال تعالى:
﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
[سورة النساء الآية: 43]
﴿لامستم النساء﴾
يفهمها كلٌ بحسب خبرته, قال تعالى:
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً﴾
[سورة الأعراف الآية: 189]
كلمة: تغشاها، كلمة: أو لامستم النساء, قال تعالى:
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المعارج الآية: 31]
أما هذا الذي يسمي الأشياء بأسمائها، والأفعال بصورها القبيحة، ويقول: لا حياء في الدين، هذا إنسان لم يفهم حقيقة الدين، الدين كله حياء .
ومرةً قلت لكم: إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى فتاةً ترتدي ثياباً شفافة, فقال:

((يا بنيتي, إن هذه الثياب, تصف حجم عظامكِ))
إليكم مضمون هذه الذكريات التي تسترجعنا بها أم كلثوم :
قال:
((كانت لا تنسى ليلةً, طاف فيها, يتفقَّد رعيته، فإذا هو بامرأة في جوف دارها، وحولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار ملأته ماءً، فدنى عمر من الباب, فقال: يا أم, ما هذا؟ لمَ يبك أولادكِ؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذه القدر التي عليها النار؟ قالت: قد جعلت فيها ماءً أعللهم بها حتى يناموا، -أوهمهم أن فيها شيئاً من دقيق وسمن- فجلس عمر يبكي، ثم جاء إلى دار الصدقة، فأخذ حملاً أو وعاءً، وجعل فيه شيئاً من دقيقٍ، وسمنٍ، وشحمٍ، وتمرٍ، وثيابٍ، ودراهم، ثم قال: يا أسلم, احمل هذا علي، فقلت: يا أمير المؤمنين, أنا أحمله عنك، فقال: لا أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة .
-ألم يقل مرةً:

((والله لو تعثرت بغلةٌ في العراق, لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟))
فحمله حتى أتى به منزل المرأة، وأخذ القدر, فجعل فيها شيئاً من دقيق, وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه، وينفخ تحت القدر, حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعم الصغار, حتى شبعوا، ثم ربط بجانبهم، فلم يزل حتى لعبوا وضحكوا، ثم قال: يا أسلم, أتدري لمَ ربطت بحذائهم؟ أي جلست إلى جانبهم, قلت: لا يا أمير المؤمنين، فكرهت أن أذهب, وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي))

هذا الذي يرحم الصغار إنسانٌ عظيم، هؤلاء الصغار أحباب الله، هؤلاء الصغار رجال المستقبل، هؤلاء الصغار إذا ربّوا على الرحمة, رحموا الآخرين، والإنسان إذا ربِّي في بيت صحيح، في بيت سليم، في بيت فيه رحمة، فيه قيَم، حينما يكبر في الأعم الأغلب, يرحم الناس جميعاً، لا يؤذيهم, لا يظلمهم .
وقال أنس بن مالك:

((بينما عمر يعسُّ المدينة، -أي يتحسس أخبار الرعية- إذ مر برحبةٍ من رحابها، فإذا هو بيتٌ من شعرٍ لم يكن بالأمس، فدنا منه, فسمع أنين امرأة, ورأى رجلاً قاعداً ، فدنا منه, فسلم عليه, ثم قال: من الرجل؟ فقال: رجلٌ من أهل البادية، جئت إلى أمير المؤمنين أُصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ قال: انطلق يرحمك الله لحاجتك، فقال: عليَّ ذلك، ما هو؟ قال الرجل: امرأةٌ تمخِّض, -أي في طور الطلق- قال عمر: هل عندها أحد ؟ قال: لا .
قال أنس: فانطلق عمر, حتى أتى منزله, فقال لأم كلثوم بنت علي رضي الله عنها: هل لكِ من أجرٍ ساقه الله إليكِ؟ قالت: وما هو؟ قال: امرأةٌ عربية تمخِّض, ليس عندها أحد، قالت أم كلثوم: نعم إن شئت، قال: فخذي معكِ ما يصلح المرأة لولادتها، وجيئيني ببرمةٍ، وشحمٍ، وحبوب، قال: فجاءت به, فقال لها: انطلقي، وحمل البرمة، وهي القدر الذي يطبخ فيها، ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت، فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل, فقال له: أوقد لي ناراً، ففعل، فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة, فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين, بشِّر صاحبك بغلام .
فلما سمع الرجل يا أمير المؤمنين, كأنه هابه، فجعل يتنحَّى عنه, فقال له: مكانك كما أنت ، فحمل البرمة, فوضعها على الباب، ثم قال لأم كلثوم: أشبعيها، ففعلت، ثم أخرجت البرمة، ووضعتها على الباب، فقام عمر، وأخذها، ووضعها بين يدي الرجل، فقال: كل فإنك قد سهرت من الليل، ففعل، فقال عمر لامرأته: اخرجي, وقال للرجل: إذا كان غداً, فأتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل ذلك، فأجازه وأعطاه))

هذه صورة أخرى من صور رحمته رضي الله عنه، وصور حرصه على رعيته .

من مواقف عمر بن الخطاب :
أم كلثوم زوجة عمر, كما تروي الكتب, تهادت مع ملكة الروم بالهدايا، فكان ذلك مشاركةً منها لزوجها خليفة المسلمين, حين كان يتراسل مع ملك الروم هرقل، في توطيد العلاقات الخارجية بين المسلمين والروم, قال الإمام الطبري:
((ترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وسأله عن كلمةٍ يجتمع فيها العلم كله، فكتب إليه: أحب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لها، تجتمع لك الحكمة كلها، واعتبر الناس بما يليك, تجتمع لك المعرفة كلها .
وكتب إليه ملك الروم، وبعث إليه بقارورة، أن املأ لي هذه القارورة من كل شيء، فملأها عمر ماءً، وكتب إليه: إن هذا كل شيء))

من الدليل:
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾
[سورة الأنبياء الآية: 30]
بعثت أم كلثوم إلى ملكة الروم بطيبٍ وأحفاشٍ من أحفاش النساء, وأرسلته مع البريد، فلما وصل, جاءت امرأة هرقل، وجمعت نساءها, وقالت:
((هذه هدية امرأة ملك العرب، وبنت نبيهم، ثم كاتبتها، وكافأتها, فأهدت إليها، وكانت فيما أهدت إليها عقدٌ فاخر، فلما انتهى به البريد إلى عمر، أمر بإمساكه، ودعا الصلاة جامعة, فاجتمعوا، فصلى بهم ركعتين, وقال: إنه لا خير في أمرٍ أُبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هديةٍ أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة الروم .
فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمةٍ فتصانع به، ولا تحت يدك فتتقيك .
وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتبتاع، ولنصيب ثمناً .
فقال عمر: ولكن الرسول, -أي مراسل البريد- رسول المسلمين, والبريد بريدهم، والمسلمون عظَّموها في صدورهم, -أي لأم كلثوم- فأمر بردها لبيت المال، ورد عليها بقدر نفقتها.
-أي أن هذه الهدية التي جاءت أم كلثوم من امرأة ملك الروم ردتها لبيت مال المسلمين، أخذ الأحوط رضي الله عنه، وهذا هو الورع- فسرَّت أم كلثوم لصنيع عمر))

الذي لم يرضَ أن تسخَّر سلطة الخلافة لأمورٍ شخصية، ما دام البريد بريد المسلمين، والإرسال من قِبَل المسلمين، فلا بدَّ من أن ترد هذه الهدية لبيت مال المسلمين .

إليكم هذا الموقف لعمر بن الخطاب مع أهل بيته :
رأى مرة إبلاً ثمينة, قال:
((لمن هذه الإبل؟ قالوا: إنها لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، فلما جاؤوا به, سأله: لمن هذه الإبل؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن، فماذا فعلت؟ قال عمر لابنه: ويقول الناس: اسقوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، ارعوا هذه الإبل, فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين، بع هذه الإبل، وخذ رأس مالك، ورد الباقي لبيت مال المسلمين))
سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ, جمع أهله وخاصته، وقال:
((إني أمرت الناس بكذا، ونهيت الناس عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله لا أوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه، إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني))
فصارت القرابة من عمر مصيبة، أي إنسان يلوذ به, إذا وقع فيما نهى عنه الناس, تضاعف له العقوبة، لقرابته من عمر، فصارت القرابة من عمر مصيبة .
مرةً وضع له طعامٌ نفيس، وضع له سنام الجزور أمامه فبكى، وقال:

((بئس الخليفة أنا, إن أكلت أطيبها, وأكل الناس كراديسها))
الخاتمة :
أيها الأخوة, لنا وقفةٌ أخرى مع هذه الصحابية الجليلة، بنت علي بن أبي طالب، بنت السيدة فاطمة، بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء الصحابة قدوةٌ لنسائنا، المرأة صنو الرجل في التكليف، والتشريف، والمسؤولية، مكلفةٌ كما هو مكلَّف، مشرفةٌ كما هو مشرف، مسؤولةٌ كما هو مسؤول، وأيَّة نظرةٍ كما أقول دائماً إلى المرأة غير هذه النظرة، فهي نظرةٌ جاهلية لا تليق بالمسلم .
والإنسان حينما يعتني بأهله، ويربيهم التربية الصحيحة، يسعد بهم, لأنهن يشاركنه في كل قضايا الحياة التي يعانيها .
أرجو الله سبحانه وتعالى, أن يصلح نساءنا جميعاً، وأن يتجهن إلى الله عز وجل الوجهة الصحيحة، المرأة إذا عرفت ربها، وعرفت حق زوجها، وعرفت حق أولادها، فهي امرأة لها من الأجر ما لا يوصف, وما لا يقدر بثمن .






 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:40 PM   #26


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - اهل بيت النبى الكريم

الدرس : ( الثالث و العشرون )


الموضوع : ام كلثوم بنت على بن ابي طالب - 2






قصة زواجها من عون بن جعفر



الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم إعادة الذاكرة لأيام عمر بن الخطاب وبعضاً من مواقفه :
أيها الأخوة الكرام, لا زلنا مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين، ولا زلنا مع أهل بيت النبيِّ، والحديث في الدرس الماضي كان عن السيدة أمِّ كلثوم كوكبة الإسلام، وزوجة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونتابع في هذا الدرس قصة هذه الصحابية الجليلة .
لقد قضت أمُّ كلثوم بنت عليِّ بن أبي طالب, زوجةُ عمر بن الخطاب، وأمُّها السيدة فاطمة الزهراء، قضت أغلى حياته، وأحلى أيامها تحت ظلِّ رجل لم يعهد التاريخُ له مثيلا .
وقد حدَّثني أخٌ كريم, قال: في واشنطن أكبر مكتبة في العالَم، لو صففنا رفوفها لأحاطت بالأرض، وفي فناء هذه المكتبة, قُبَّة عليها حضارات الإنسانية، وجزءٌ كبير من حضارات الإنسانية حضارةُ الإسلام ، وسيدنا عمر يمثِّل كهفَ العدالة ، أي هذا الجل له سمعةٌ على مستوى العالَم، لم يعهد التاريخ له مثيلا، لا زوجا، ولا أبًا، ولا قائدا، ولا راعيا للناس .
وقد تحدَّثتُ عنه الكثيرَ في الدرس الماضي، وكيف أنه وُضِع له مرة سنامُ ناقة فبكى، وقال: ((بئس الخليفةُ أنا, إذا أكلتُ أطيبَها، وأكل الناسُ كراديسها)) .
وحينما قرقر بطنُه, قال: ((قرقِرْ أيها البطنُ، أو لا تقرقر، فو اللهِ لن تذوق اللحمَ حتى يشبع منه صبيةُ المسلمين)) .
وحينما قال: ((واللهِ لو تعثَّرت بغلةٌ في العراق, لحاسبني اللهُ عنها, لِمَ لَم تصلح لها الطريقَ يا عمر؟)) .
وحينما رأى إبلا سمينةً, فإذا هي لابنه عبد الله، قال: ((ائتوني به، فلما جاؤوا به, قال: ما هذه؟ قال: إبلٌ اشتريتُها بمالي، وبعثتُ بها إلى المرعى لتسمن, فماذا فعلتُ؟ قال: ويقول الناسُ: اِرعَوا هذه الإبل, فهي لابن أمير المؤمنين، اُسقوا هذه الإبلَ, فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلُك يا ابن أمير المؤمنين، أعرفتَ لماذا هي سمينة؟ لأنك ابني، بِع هذه الإبل، وخذْ رأسَ مالك، ورُدَّ الباقي لبيت مال المسلمين)) .
هو الذي قال: ((كان إذا أراد إنفاذَ أمرٍ, جمع أهلَه وخاصَّته، وقال: إنني قد أمرتُ الناسَ بكذا, ونهيتهم عن كذا، والناسُ كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ اللهِ لا أوتيَنَّ بواحد وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه, إلا ضاعفتُ له العقوبةَ, لمكانه مني)) .
وهو الذي قال وهو يمتحن أحدَ الولاة: ((ماذا تفعل إذا جاءك الناسُ بسارق أو ناهب؟ قال: أقطع يدَه، قال: فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدَك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه, لنسُدَّ جوعتَهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن وفَّينا لهم ذلك, تقاضيناهم شكرَها، إن هذه الأيدي, خُلقت لتعمل, فإن لم تجد في الطاعة عملا, التمست في المعصية أعمالا ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية)) .
عملاقُ الإسلام، قال مرة: ((أيها الناس, خمسُ خصال خذوني بهن: لكم عليَّ الحقُّ ألاّ آخذ من أموالكم شيئا إلا بحقِّه، ولا أنفق من هذه الأموال إلا بحقه، و لكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء اللهُ تعالى، ولكم عليَّ ألّا أجمِّركم في البُعوث، فإذا غِبتم في البعوث, فأنا أبو العيال حتى ترجعوا)) .
الحديث عنه يطول، ولا تكفيه جلساتٌ، ونحن في دروس سابقة بفضل الله عزوجل أمضينا فيما ثمانِية دروس، مع هذا الخليفة العظيم الراشد، وهو قدوةٌ لنا جميعا، قال عليه الصلاة و السلام: ((لو كان نبي بعدي لكان عمر)) .
استأذن السيدةَ عائشة في حياته, أن يُدفَن إلى جنب رسول الله، وقبل أن يموت, وصَّى ابنَه: ((مُرَّ بجنازتي أمام بيت السيدة عائشة، واستأذنها ثانية، فلعلها أذِنت لي، وأنا خليفةُ المسلمين، أريد أن تأذن لي، وأنا قد فارقتُ الحياةَ, -طلب أن يستأذنها بعد وفاته، لئلا يكون منصبُه ضاغطا عليها- إن أذنت لك، وأنا في النعش, فادفِنِّ إلى جنب رسول الله)) ورعٌ ما بعده ورع، ورحمةٌ ما بعدها رحمة .
سيدنا الصديق استخلفه، عوتِب: ((استخلفتَ علينا هذا الرجلَ الشديد، فقال سيدنا الصدِّيقُ : أتخوِّفونني بالله؟ واللهِ إذا سألني اللهُ يوم القيامة لِم استخلفتُ عليهم عمرَ؟ لأقولنَّ: يا ربُّ استخلفتُ عليهم أرحمهم، -بشهادة الصدِّيق سيدنا عمر أرحمُ الخلق بالخلق بعد رسول الله- ثم قال: هذا علمي به، فإن بدَّل و غيَّر, فلا علمَ بي بالغيب)) .
أيها الأخوة, حينما يُذكر الصحابةُ الكرام, تتعطَّر المجالسُ لكمالهم، ولأدبهم، ولتواضعهم ، ولعطائهم، ولبذلهم، ولسخائهم، ولثقتهم بالله، وبتحمُّلهم، إنه عملاق الإسلام، وفاروق الإيمان الذي أعزَّ اللهُ به تعالى دينَه، ورسولَه أولاً، ثم أعزَّ الله به الأمةَ ثانيا .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ؛ بِأَبِي جَهْلٍ, أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
طلب النخبة اللهم صلِّ عليه، والنخبة تحمل معك، أما الآخرون فيجب أن تحملهم، وشتَّان بين من يحمل معك، وبين من تحمله، يأتيك لا شهادة، ولا عمل، ولا إتقان، كله كسل، يريد أن تزوِّجه، وتؤمِّن له بيتا، هناك من يأتي ليأخذ فقط، هناك من يأتي ليعطي .
فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى, وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ, وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى, وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ, وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ, فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
قال عمر: ((وإني أرى الرجل ليس له عمل يسقط من عيني)) .
أيها الأخوة، مرة ذهبتُ إلى مكان تصليح سيارات, وجدتُ أحدَ الأخوة الكرام, يعمل مدرِّسا في مسجدنا، يرتدي الثياب الزرقاءَ، ويعمل في تصليح السيارات، شعرت أن هذا الإنسان كبير عند الله في النهار، ويعمل عملا، ويكسب رزقا، وفي المساء يدرِّس، فهذا الذي يعمل له عند الله شأنٌ كبير .
هذه أمُّ كلثوم, الزوجة الطيِّبة, العاقلة الرشيدة, شهدت حياةَ رجل من عظماء الإسلام خاصةً، ومن كرام البشرية ثانيا، لماذا نساءُ النبي عليهن رضوان الله مُنِعن من الزواج بعد رسول الله من أيِّ رجل؟ قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
لماذا؟ لأن التي عاشت مع رسول الله, لا يمكن أن يعجبها أحدٌ بعده، مستحيل، فكلما كانت المرأة مع رجل عظيم, حينما تقترن برجل آخر لا تحتمل .
أمُّ سلمة لها زوج, كان ملءَ السمع والبصر، رجلٌ بكل معنى الكلمة؛ شجاعة، وكرم، وحكمة، وعقل، ووسامة، مات زوجُها, فعلَّمها النبيُّ دعاءً، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ, اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي, وَاخْلُفْنِي خَيْرًا مِنْهَا, إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ, وَخَلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا, قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ, قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي, فَقُلْتُهَا: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي, وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا, قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
حينما قالت: اخلفني خيرا منها، لم تقتنع بهذا الكلام، لأنها لا ترى خيرا من أبي سلمة، أين الذي هو أحسن منه؟ فإذا بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام يخطبها، طبعا النبيُّ أعلى من أبي سلمة ، لكن واخلفني خيرا منها، ما من إنسان يُصاب بمصيبة و يصبر، ويقول: ((اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي, وَاخْلُفْنِي خَيْرًا مِنْهَا, إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ, وَخَلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)) .
وقد رسم هذا الخليفةُ العظيمُ للدنيا قاطبةً صورةَ الحق، والعدل، والإحسان، له كلمة بعد ألف وأربعمائة عام, عُدَّت من حقوق الإنسان: ((متى استعبدتم الناس, وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)) له إدراك عميق جدا، وسبَّاق، والآن المُلاحظ من هو القويُّ في العالم؟ المنتِج، من هو الضعيف ؟ المستهلِك، ((ويل لأمة تأكل ما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج)) .
ويُضاف على هذه المقولة: وتستخدم من الآلات ما لا تخترع، أنت عندك آلة، وفيها قطعة تعطَّلت، قيمتها الحقيقية عشرُ ليرات، ويقول لك: ثمانية آلاف وخمس مائة، هل لك أن تتكلم كلمة؟ أنت عبدٌ لهم, يسمُّونها: حرب قطع الغيار، نصنع صناعة نبيعها للناس، فيتعلَّقون بنا، والآن كم من ميكروباص بالقطر, وتعمل عشرين ساعة في اليوم، كل قطع الغيار تُستورَد، ندفعها من ثمن قمحنا، وقطننا، ومنتجاتنا, وبأسعار مرتفعة .
اليابان لها سياسة؛ تبيعك السيارةَ رخيصة جدا، وتبيعك القطع بمائة ضعف، أنت تقع في مطبٍّ، رخيصة، اشتريتها، بعد أن تشتري هذه السيارة, تدفع أضعافا مضاعفة ثمن قطع غيارها، هذه حربُ القطع .
فسيدنا عمر, أدرك أن هناك مستهلِكا، وهناك منتِجا، المنتج قويٌّ، والمستهلك ضعيف ، هذه السنوات العشر كان فيها العالَم مقسَّما إلى يمين ويسار، شرق وغرب، شرق يؤمن بالمجموع ، وغربٌ يؤمن بالفرد، هذا التقسيم غير صحيح، التقسيم الحقيقي طبعا المادي، ولا أقول الروحي, المادي منتج ومستهلك، المنتج متحكِم في المستهلك، والمنتج قويٌّ، والمستهلك ضعيف .
أحيانا عندنا عقود إذعان، لا تستطيع أن تسأل عن السعر، يقال لك: أطلقنا على هذه الطائرة مائة صاروخ، كلُّ واحد قيمته سبعمائة وخمسون ألف دولار، أطلقوا خمسًا، وقيَّدوا علينا مائة، طبعا سبعمائة وخمسون مليار, ذهبت من الشرق إلى الغرب, هذه مشكلة، فسيدنا عمر أدرك هذه الحقيقة في وقت مبكِّر جدا .
زار قريةً, فإذا بأصحاب الفعاليات الاقتصادية, ليسوا من المسلمين، فلما عاتبهم على هذا التقصير, وهذا الكسل، قالوا: ((إن الله سخَّرهم لنا، -هذه كلمة مضحِكة وساذجة- فقال هذا الخليفةُ العملاق: كيف بكم إذا أصبحتم عبيدا عندهم؟)) .
والشيء الواضح تماما أن المنتج هو القوي، بل إن هؤلاء الأقوياء لهم مقولة مضحكة؛ مضحكة في ميزان القيم، أما هي فواقعة: ما دمتَ قويَّا فأنت على حق، حقُّهم القوة، هذه شريعة الغاب، شريعة الغاب القويُّ هو المنتصِر .
ماذا قال سيدنا الصدِّيق؟ قال: القويُّ فيكم ضعيف عندي, حتى آخذ الحقَّ منه، والضعيف منكم قويٌّ عندي, حتى آخذ الحقَّ له، هذا الفرق الواضح بين حضارة المسلمين و حضارة الشاردين إن صحَّ التعبيرُ, إن حضارة المسلمين, القوة لصاحب الحق، حضارة الشاردين صاحب الحق هو القويُّ، القوي صاحب الحق، أما عند المسلمين صاحب الحق هو القوي، أبدا .
أهلُ سمرقند, بلغهم أن فتح بلادهم, لم يكن شرعيا، تسلَّل وفدٌ منهم خفيةً عن حاكم سمرقند المسلم إلى باب الخليفة عمر بن عبد العزيز، وعرضوا عليه مشكلتهم، قال: ورقة صغيرة ؛ قصاصة كتب عليها: إلى فلان, اخرُج من سمرقند، واعرض عليهم الإسلامَ أوَّلا، فإن أبوا, فأعرض عليهم الجزية، فإن أبوا فقاتلهم، ظنوا أنه يضحك عليهم بهذه القصاصة، ورقة صغيرة، جيش دخل، وفتح، واستقر، وتمكَّن، وحكم مدينة عظمى محتلة, يخرج منها بورقة, فلما ذهبوا إليه ، وأعطوه هذه القصاصة قبَّلها، وقال: سمعا و طاعة سأخرج، قال: هكذا، قال: إذًا: ابقوا نحن مسلمون، التاريخ الإسلامي شيء لا يُصدَّق .
اليوم أخٌ كريم قال لي: يقرأ عن تاريخ الصحابة, قال لي: شيء لا يُصدَّق، كان تعليقي أن قلت: ولكن الله هو هوَ، إلههم إلهنا، وسننه قائمة، أنت تحرَّك وفقها فقط، الله عزوجل هو هوَ، و ما تغيَّر، نحن وحدنا تغيِّرنا، سنته قائمة .
الآن تصوَّروا، وإن كان شيئا, يبدو لكم مضحِكا؛ تصوَّر دولةً ضعيفة جدا متخلِّفة، بل لا توجد دولة، قبائل رُحَّل في صحراء, ينتشرون على أمريكا بقوتها النووية، والصاروخية، والأقمار الصناعية، والحبة الجرثومية، والقنابل الذكية، وقنابل الشبح، والبوارج في البحار، معقول هؤلاء البدو الرحل الذين في طرف الصحراء, يصبحون أقوى أمة في العالَم، إذا كان اللهُ معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك .
معقول النبي عليه الصلاة والسلام مُلاحق, مهدورٌ دمُه, مئة ناقة لمن يأتي به حيًّا أو ميِّتا ، يتبعه سراقة ليأخذ المائة ناقة، أراد أن يقتله ليأخذ المائة ناقة، غاصت قدما فرسه في الرمل، أول مرة، وثاني مرة، فقال له: يا سراقة, كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى؟ شيءٌ لا يُصدَّق؛ إنسان ملاحق، ومهدور دمُه، مائة ناقة لمن يأتي به حيا أو ميتا, يعِد سراقة بسواري كسرى، بدوي، أنت ستكون في البيت الأبيض، نفس المسافة، لا تضحكوا، المسافة نفسها بين قبائل في الصحراء, و بالتعبير المعاصر، متخلفة فقيرة، أرضها قاحلة، لا نبات فيها، ماؤها قليل، كل شيء ثمين عندهم، دولتان عظيمتان متربِّعتان على مجد الدنيا, تضمحلاَن في ربع قرن، ويصبح المسلمون سادة الدنيا ، كانوا رعاةَ الغنم, فصاروا رعاة الأمم .

إليكم هذا الخطب الجلل الذي أصاب كبد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب :
فهذه الزوجة الطيِّبة أمُّ كلثوم, شهدت حياة هذا العملاق الكبير، لكن هذه السعادة لم تدُم إلى أم كلثوم, حيث طالت يدُ الإثم الإجرام حياةَ عمر, فطعنته طعنات قاتلة، هذا الذي طعنه بعد أن طُعن سيدنا عمر، وهو يصلِّي، لما أفاق من غيبوبته، قال: ((هل صلى المسلمون الفجر؟)) الشيء الذي يقلقه صلاة الفجر، هل صلى المسلمون الفجر؟ .
قالت أمُّ كلثوم حينما جاؤوا به إليها: ((واعمراه، وكان معها نسوةٌ, فبكين معها، وارتجَّ البيتُ بالبكاء، قال عمر, ولم يمُت بعد: لو أن لي على الأرض من شيء لافتديتُ به من هول المطلع، -الواحد الآن يعيش، لكن هول المطلع، حينما يواجه الحقيقة العظمى، حينما يواجه الآخرة، حينما يواجه يوم الدينونة، يوم الحساب، يوم يُحاسب الإنسان عن كلمة، وعن نظرة، وعن درهم، قال تعالى:

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
[سورة الزلزلة الآية: 7-8]
فقال له ابنُ عباس: واللهِ إني لأرجو ألاّ تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً﴾
[سورة مريم الآية: 71]
-سيدنا عمر يسأل سيدنا حذيفة, يقول له: ((بربَّك هل اسمي مع المنافقين؟)) من شدة ورعه، ومن شدَّة خوفه من الله عز وجل، ومن شدة محبَّته، ومن شدة تعظيمه لله- قال له ابن عباس: و اللهِ إني لأرجو أن لا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً﴾
[سورة مريم الآية: 71]
ما علمنا لأمير المؤمنين، وأمين المؤمنين، وسيد المؤمنين، يا أمير المؤمنين, إنك تقضي بكتاب الله، وتقسم بالسويَّة، فأعجبه قولي, فاستوى جالسا، فقال: أتشهد لي بهذا يا ابن عباس؟ قال: فكففتُ, فضرب على كتفي، فقال: اِشهد، قلتُ: نعم أنا أشهد، ثم توفِّي عمر)) .
الآن هذه وقائع في التاريخ، دقِّقوا كم نحن بعيدون عن هذه الوقائع؟ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ:

((وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ, فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ, يَدْعُونَ, وَيُثْنُونَ, وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ, وَأَنَا فِيهِمْ, قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ, قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي, فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ, فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ, فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ, وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ, وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ, وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
هذا كلام سيدنا علي، فما بالُ المسلمين بعد حين من زمان, يفرِّقون بين الصحابة، سيدنا علي يكنُّ هذا الولاء، وهذا الحبَّ لسيدنا عمر، سيدنا علي حينما توفي أبو بكر، ألقى خطبة تُكتب بماء الذهب, قال: كنتَ أشبهنا برسول الله خَلْقا وخُلقا، كنت معه لما قعدوا، سماك الله في كتابه صدِّيقا، حيث قال:
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 33]
هكذا كان الصحابة الكرام، ولاء ما بعده ولاءٌ .
سيدنا علي أعطى ابنته لمن؟ لسيدنا عمر، فإذا كان هناك عداءٌ، وإذا كان هناك حقد, و العياذ بالله, هل يمكن أن تعطيَ ابنتك لإنسان تكرهه؟ مستحيل، سيدنا علي أعطى ابنته أمَّ كلثوم لمن؟ لسيدنا عمر .
معنى ذلك: أن بين الصحابة من الودِّ، والحب، والتعاون ما لا يُصدَّق، وهذا الذي أُضيف على التاريخ، هذا الذي أضيف على تاريخنا, شيءٌ يجب أن يُمحَّص، لا أن يؤخذ على علَّاته، غسَّله ابنُه عبدُ الله، ونزل في قبره ابنه عبد الله، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف .
وقال ابنُ سعد: ((طُعِن عمرُ يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة، ودُفن يوم الأحد, وكان خلافتُه عشرَ سنين، ودُفن مع النبي صلى الله عليه و سلم)) .
وإذا ذهب الرجلُ إلى المدينة المنوَّرة, يزور رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام قبر النبي، ويسلِّم على النبي، ويدعو له الدعاءَ المأثور، ثم ينتقل إلى قبر سيدنا الصدِّيق، ثم ينتقل إلى قبر سيدنا عمر، عملاق الإسلام .
بقيت أمُّ كلثوم بعد وفاة زوجها عمر حزينة عليه حزنا شديدا, لا يغيب عن فكرها، تذكره بفضائله، وبإحسانه، وهيبته، وبشدَّته، وليونته، وبعدله، وإنصافه، وكان ابنها زيد يجلس إليها, يهدِّئ من روعها، ويخفَّف من آلامها، ولكنه أحيانا يبكي معها، فتنهمر دموعُه لوعةً على فراق أبيه، عطفا على أمه .


إليكم قصة زواجها من عون بن جعفر بعد وفاة زوجها الأول :
الآن دقِّقوا، وما أن انقضت أيامُ عدَّتها من زوجها الراحل, حتى يفاتحها أبوها عليُّ بن أبي طالب بالزواج، فيسرع أخواها الحسن والحسين, يحذِرانها من أن تجعل أمرها بيد أبيها, لئلا يزوِّجها من أقاربه الأيامى، خشية عليها أن تكون زوجة لرجل دون عمر، فإنها واللهِ لن تجد في الرجال أمثالَ عمر .
فقد ذكر ابنُ الأثير روايةً تاريخية عن الحسن و الحسين ابني علي بن أبي طالب, قال: لما تأيَّمتْ أمُّ كلثوم, ربنا عزوجل قال:

﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 33]
الأيامى جمع أيِّم، والأيم: من لا زوجةَ له، أو من لا زوج لها، أي طرف من دون طرف آخر، بكرا كانت أم ثيِّبا، والأمر أمر ندبٍ:
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 33]
بحسب السنة جاءها أبوها, و قد ذكر ابن الأثير عن الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب قال: ((لما تأيَّمتْ أمُّ كلثوم من عمر بن الخطاب رضي الله عنهم, دخل عليها الحسن والحسين, إنكِ ممن عرفتِ سيدةُ نساء المسلمين، وبنت سيدتهن، وإنكِ واللهِ إن أمكنتِ عليًّا من تزويجك, ليُنكِحنَّكِ بعضَ أيتامه، ولئن أردتِ أن تصيبي بنفسك مالا عظيما لتصيبنَّه، فو اللهِ ما قاما, حتى طلع عليُّ بن أبي طالب, يتَّكل على عصاه, فجلس فحمد اللهَ، وأثنى عليه، وذكر منزلتهم من رسول الله, -أي الحسن و الحسين- وقال: قد عرفتم منزلتكم عندي يا بني فاطمة، وأثرتكم على سائر ولدي، لمكانكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتكم منه، فقالوا: صدقتَ رحمك الله، وجزاك الله عنا خيرا, قال: أيْ بنيَّة, إن الله عزوجل قد جعل أمركِ بيدكِ، فأنا أحبُّ أن تجعليه بيدي، فقالت: أيْ أبتِ! إني امرأةٌ أرغب فيما يرغب فيه النساءُ، وأحب أن أصيب مما تصيب النساءُ منه، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي، -أي دعني أنا أختار، هذا شيء طبيعي جدا- فقال: لا و اللهِ يا بنيَّتي، ما هذا من رأيك، -هذا ليس منك، هذه تعليمة تغذية.
أحيانا تعرف شخصا معرفة جيدة، يفاجئك بأفكار جديدة، هذه ليس منك، هذه جاءتك تغذية، من أطراف، فشعر هذا الصحابي الجليل, أن هذه الأفكار ليست أفكار أم كلثوم، واللهِ يا بنيتي ما هو إلا رأيُ هذين, الحسن والحسين, هذه ليست منكِ .
أحيانا الابن له رأي، والأب له رأي، والزوجة لها رأي، هناك حبٌّ، ومودَّة، وثقة، لكن ينشأ أحيانا اختلاف وجهات نظر- ثم قام فقال: و اللهِ لا أكلِّم رجلا منهما أو تفعلين، إن لم تسلِّمي أمركِ إليَّ, لا أكلِّم واحدا من هؤلاء -الحسن و الحسين- فأخذا بثيابه, فقالا: اجلِس يا أبي، فو اللهِ ما على هجرانك من صبر، -لا نتحمَّل إن قاطعتنا، هل رأيتَ الودَّ؟ هكذا ينبغي أن تكون الأسرةُ، إذا أعرض الأب عن ابنه, فهذا أكبر عقاب- فأخذا بثيابه فقالا: اجلس يا أبي, فو اللهِ ما على هجرانك من صبر، اجعلي أمركِ بيده، فقالت: قد فعلتُ كما تشاء، قال: فإني قد زوَّجتكِ من عون بن جعفر- ابن سيدنا جعفر، ابن أخيه الذي استُشهِد في مؤتة .
سيدنا جعفر بن أبي طالب أخو سيدنا علي، وهو الذي أمسك الراية، وكان القائدَ الثاني، أمسك الراية بيمينه فقُطعت يمينُه، فأمسكها بشماله فقُطِعت شمالُه، فأمسكها بعضديه، وُجِد في جسمه أكثر من تسعين طعنة، وبكى النبيُّ بكاءً شديدا حينما بلغ نباُ استشهاده، وسمَّاه جعفر ذا الجناحين، هذا ابنُه عونُ بن جعفر- قال: فإني قد زوجتكِ من عون بن جعفر، وإنه لغلام, وبعث لها بأربعة آلاف درهم، وأدخلها عليه)) .
لقد كانت أمنيةُ علي بن أبي طالب أن يزوِّج بناته من أولاد أخيه جعفر بن أبي طالب، من قبل أن يزوِّج أمَّ كلثوم لعمر بن الخطَّاب، وهذا ما قاله حين خطبها عمرُ: ((إني حبستُ بناتي على بني جعفر)) إكراما لوالدهم الشهيد .
الآن تحقَّقت أمنيةُ علي بن أبي طالب، والآن أمُّ كلثوم بعد سيدنا عمر, أصبحت زوجةً لابن سيدنا جعفر اسمُه: عون، و كان لآل جعفر عند الإمام علي مكانة عظيمة، فأولادُ جعفر هو أولاد أخيه، وكانوا قد دخلوا في رعايته بعد استشهاد أبيهم، النبيُّ قال: ((العم والد)) .
أعرف رجلا في أحد أحياء دمشق, تُوُفِّيَ أخوه, ترك له خمس بناتٍ، وهو عنده خمسُ بنات، العمُّ زوَّج بنات أخيه كما زوَّج بناته بالتمام والكمال، الترتيبات نفسها، والإكرام نفسه، الحاجات نفسها، هذا الأصل، ((العم والد)) .
أما الآن مع التفكُّك الأسري, صار العمُّ عدوًّا، العم في الإسلام والد تماما، يُعامل أولادَ أخيه كما لو أنهم أبناؤه، حتى في الميراث, أعطِي ميراث الأب المتوفَّى في حياة أبيه إلى العم، ليكون العمُّ راعيا لأولاد أخيه .
ولحكم هذه القرابة بين أبناء جعفر وعمِّهم علي, كانت تفضيل تزويج أمِّ كلثوم لأكبر أولاد جعفر، كأحسن صنيع يتَّخذ العمُّ تُجاه أبناء أخيه الأيامى عنده، فزوَّجها أبوها بعون بن جعفر فأحبَّته، ومات عنها، أي مات في حياته .

لمحة عن سيرة عون بن جعفر :
أيها الأخوة, وعونُ هذا, ابن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطَّلب القرشي الهاشمي، والدُه جعفر ذو الجناحين، وُلد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، أمُّه أم أخويه عبد الله و محمد، أسماء بنت عُميس الخطمية، أسلمت قديما، وهاجرت الهجرتين، و كانت مصاحبةً لفاطمة حتى وفاتها، استشهد عونُ بن جعفر بتُستُر، ولا عقِب له بخراسان، مدينة في بلاد فارس، كان في جهاد, فاستُشهد هناك .
قصة زواجها من محمد بن جعفر بعد وفاة زوجها الثاني, ولمحة عن سيرته :
أيها الأخوة, فلما انقضت عدَّتُها, أبقت أمرها بيد أبيها، فزوَّجها أبوها رضي الله عنه بمحمد بن جعفر الثاني، فمات، ومحمد هذا هو ابن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن ذي الجناحين، القرشي الهاشمي، وهو ابن أخ علي بن أبي طالب، أُمُّه أسماءُ بنت عُمير، وُلد على عهد رسول الله، وكانت ولادتُه بأرض الحبشة، في أثناء الهجرة الأولى، وقدم المدينة طفلا، ولما جاء نعيُ جعفر إلى رسول الله, جاء إلى بيت جعفر، وقال: ((أخرجوا إليَّ أولادَ أخي، فأخرج إليه عبد الله, و محمد, وعون، وضعهم النبيُّ على فخذه, ودعا لهم, وقال: أنا وليُّهم في الدنيا والآخرة، و قال صلى الله عليه وسلم: أما محمد فيشبه عمَّنا أبا طالب)) .
وقيل: ((إنه استشهد بتستر أيضا، ولم يكن له ولدٌ)) .

من هو زوجها الرابع بعد رحيل الثالث, وما هي سيرته؟ واليكم قصة وفاتها :
أيها الأخوة, فلما انقضت عدَّتها من محمد بن جعفر، أبقت أمرها بيد أبيها، ثم زوَّجها أبوها من عبد الله بن جعفر الثالث، فماتت عنده، وعبد الله هذا, هو ابن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، له صحبة مع رسول الله، وأمُّه أسماء بنت عميس، ولد بأرض الحبشة، وكان أبواه رضي الله عنهما مهاجرين إليها، وقدم مع أبيه إلى المدينة، وتُوفِّي النبيُّ عليه الصلاة و السلام ولعبد الله عشرُ سنين .
كان عبدُ الله كريما, جوادا, حليما, روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث كثيرة، قال الإمام ابن حجر: ((أخبارُه في الكرَم شهيرة، وكان يقال له: قطبُ السخاء)) .
أيها الأخوة, بعد أن أقامت أمُّ كلثوم الطاهرة الزكية عند الزوج الثالث من أبناء جعفر بن أبي طالب، ألَّم بها المرض، حتى توفَّاها الله تعالى راضيةً مرضيةً، ولم تكن قد ولدت من أزواجها الثلاثة أيَّ ولد، أولادها فقط من سيدنا عمر، وقد صادف يومُ وفاتها يومَ وفاة ابنها زيد بن عمر بن الخطاب، الذي توُفي شابا، ولم يعقب، وصلى عليه وعلى أمه عبدُ الله بن عمر، ودفنهما في المدينة ، وذلك في أوائل دولة معاوية، وذلك في حدود سنة خمسين للهجرة، ورحلت أمُّ كلثوم، وقد عاشت أياما مليئة بالأحداث، سواء التي شهدتها أيامَ خلافة زوجها عمر بن الخطاب، أو التي شهدتها من بعده، وهي زوجة آل جعفر، وعلى الأخص أيام خلافة أبيها علي بن أبي طالب .

خلاصة القول :
أيها الإخوة, هذه نبذة عن حياة هذه الصحابية الجليلة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، أمها فاطمة، زوَّجها أبوها من محبَّته وتقديره لسيدنا عمر، ثم زوَّجها لأولاد جعفر، وهكذا كان أصحابُ النبي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، على حبٍّ شديد, وعلى وفاء, وإخلاص، أما المسلمون الذين جاؤوا من بعدهم, فهم الذين افتعلوا هذه الخلافات، وهي في الأصل غير موجودة.



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:46 PM   #27


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - اهل بيت النبى الكريم

الدرس : ( الرابع و العشرون )


الموضوع :صفية عمة الرسول صلى الله علية وسلم





لحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . مقدمة عامة :
أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الثالث والثلاثين من سير الصحابيات الجليلات، ومع أهل بيت النبي عليه الصلاة و السلام، ومع عمَّته عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، السيدة صفية، وهي صفيةُ بنت عبد المطَّلب بن هاشم القرشية الهاشمية، شقيقة حمزة بن عبد المطَّلب .
أيها الأخوة, من حين لآخر, أجد نفسي مضطراً أن أضع أيديكم على قيمة السيرة، الله جلَّ جلاله بعث الأنبياء بالهدى ودين الحق، ولكن النبي والرسول مهمته أكبر بكثير من مهمة التبليغ، لأن المهمة الكبرى هي القدوة، فحينما يستمع الإنسان إلى فكرة، ولا يراها مطبَّقةً, فلا قيمة لها، ولا تلفت نظرَه، ولا تستجلب انتباهه، إلا إذا كانت هذه الفكرة واقعة، فلذلك كان الأنبياء من بني البشر، والأنبياءُ تجري عليهم كلُّ خصائص البشر، من هنا كانوا سادةَ البشر، من هنا اصطفاهم الله عزوجل، ليكونوا أنبياءه ورسله إلى العالمين، فالإنسان حينما يرى الحقَّ مطبَّقا، حينما يرى المثلَ العليا واقعا يُشدُّ إليها، أما لو استمعت إلى كلمة حول خلق معيَّن، ولم تعِش هذا الخُلقَ، ولم تره مجسَّدا في إنسان, فإنك لن تلتفت إليه، ولن تلقيَ بالاً إليه .
من هنا كانت السيرةُ هي الإسلام المطبَّق، الإسلام فيه منطلقات نظرية، وفيه منطلقات عملية، المنطلقات النظرية مثلا، قال تعالى:

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 21]
أي أمر الله هو النافذ، وقال تعالى:
﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾
[سورة التوبة الآية: 40]
وقال تعالى:
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾
[سورة البروج الآية: 16]
لكن تأتي قصةُ سيدنا يوسف، وهي أطول قصة في القرآن الكريم, من أجل أن تجسِّد هذه الحقيقة، فهناك كما يقول الأدباءُ: تعبير مباشر, مركَّز, مكثَّف، وتعبير غير مباشر يعتمد على التصوير، ويعتمد على القصة، ويعتمد على الحوار، فربُّنا عز وجل قال:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
[سورة يوسف الآية: 111]
القصة هي حقيقة مع البرهان عليها، فسيدنا يوسف أراد أخوته به كيدا، ولكن الله نجَّاه من الجُبِّ, ومن السجن، وجعله عزيزاً، قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[سورة يوسف الآية: 21]
يبدو أن تأثير القصة؛ لما فيها من الشخصيات، وحوادث، وحوار، ووصف، وسرد, أبلغُ في النفس من تأثير الحقيقة المجرَّدة، بل إن الإنسان كلما ارتقى, يتأثَّر بالتعبير المباشر, المركَّز, المكثَّف، لكن الخطَّ العريض في المجتمع، وأغلب الناس يتفاعلون مع القصة، لذلك اعتمد القرآنُ الكريم القصَّةَ، فالقصة فيها مغزًى، وفيها فكرة موجزة عبَّرت عنها، فالذي قرأ القصة، ولم يقرأ موعظتها أو مغزاها كأن لم يقرأها، كلمة (عبرة) أنك تعبر من شيء إلى شيء، فحينما تحدَّثنا عن شمائل النبي، وعن سيرته النبي عليه الصلاة و السلام، وعن سير الصحابة الكرام, كان الهدف أن ترى إسلاما مطبَّقا، الإسلام النظري في القرآن الكريم، وفي السنة المطهَّرة، والإسلام العملي المطبَّق في السيرة، وفي سير الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والإنسان لا يصدَّق فكرةً مجرَّدة دون أن يراها مطبقَّة، فإذا طُبِّقت أمامه اندفع إليها، فلذلك أخطر ما يصيب المجتمع الإسلامي أن يفتقد القدوة، كتبٌ، وبحوث، ومجلدات، ودروس، وأشرطة، لكن ينبغي أن يرى المدعو إنسانًا, تتجسَد فيه قيمُ الإسلام، هنا المنطلق من تدريس السيرة، أنت ترى أن هؤلاء الصحابة عاشوا الإسلام، وكنت أقول دائما: إن هناك فرقا كبيرا بين أن تدرك المعنى، وبين أن تعيش المعنى، أضرب على هذا مثلا، حينما تقول:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 71]
المعنى واضح، وربما لا يحتاج إلى شرح، لكن لمجرَّد أنك مسلم, مستقيم, مؤمن, ولك دخل محدود, ورأيت صديقا لك من أيام الدراسة, قد أصبح غنيًّا كبيرا، وعاش في بحبوحة كبيرة, وسكن أجملَ بيت, وركب أجمل مركبة، وهو لا يعرف اللهَ أبدا, ولا يستقيم على أمره، لمجرَّد أن تقول: هنيئا له على هذه الحياة الناعمة, فأنت لم تعِش هذه الآية, قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 71]
من أوتيَ القرآن, فرأى أن أحدا أوتي خيرا منه, فقد حقَّر ما عظَّمه اللهُ تعالى، لذلك درس السيرة مهمٌّ جدا، لأنه يعطيكم الحقيقةَ مع البرهان عليها، والإنسان لا ينطلق إلا إذا رأى واقعا يجسِّد قيمة، فهذا المجتمع الفاضل مجتمع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وقد أكَّد هذه الحقيقة النبيُّ عليه الصلاة و السلام، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم,َ قَالَ:
((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ, تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ, قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
فعهدُ النبي وعهد الصحابة والتابعين هي العهود المثالية التي مرَّت بها البشريةُ .
أيها الأخوة، أنت كأبٍ وكمعلِّم, ينبغي أن تعتمد القصة، لأنها من أنجح الوسائل الفعَّالة في ترسيخ القيم الأخلاقية، لذلك يمكن أن تجلس بين مجموعة من الناس، وتحدِّثهم عن قصص واقعية واضحة المغزى، فهذا درس في التعليم لا يقلُّ أبدا عن درس نظري .

لمحة عن سيرة صفية بنت عبد المطلب :
هذه صفيَّةُ عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كانت في الجاهلية زوجةَ الحارث بن حرب بن أمية أخي أبي سفيان، مات عنها, فتزوَّجها العوَّامُ بن خُويلد، فولدت له الزبير والسائب، وقد شهدا بدرا والخندقَ وغيرهما، واستشهدا باليمامة، أسلمت صفيةُ قديما .
وبالمناسبة: السابق في الإسلام له فضله، والإسلام مرَّ بمراحل صعبة جدا، قاومه المشركون، وقاومه الكفار، ضيَّقوا على الصحابة الكرام، وقاطعوهم، نالوهم بالأذى، ونكَّلوا بهم، والإنسان أن يسلم في هذا الظرف الصعب, فله أجر كبير، أما حينما انتصر الإسلامُ، ودخل الناسُ في دين الله أفواجا، صار الإسلامُ مغنما بعد أن كان مغرما، فكلُّه عند الله بحساب، أنت حينما تسلم في زمن يُحارب فيه الإسلام في بعض الأزمان, حينما تسلم يعلو شأنُك، وتُتاح لك فرصٌ ذهبية، وأحيانا حينما تسلم، وتلتزم, تشعر بحرج شديد، كلُّ حالة لها أجرها، الحساب عند الله دقيق جدا، ليسوا سواء؛ من قبل الفتح كالذي آمن بعد الفتح, هناك بونٌ شاسع بينهما .
فصفية رضي الله عنها, أسلمت قديما، وهاجرت إلى المدينة المنورة، كانت قد بايعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، عاشت كثيرا، وتوفيت في خلافة عمر سنة عشرين، ولها من العمر ثلاث وسبعون سنة، وهي أول مسلمة قتلت يهوديا، وكانت قد قاتلت يوم أحد رضي الله عنها وأرضاها .
أيها الأخوة, من علامة نضجك: أن تعتقد، وأن ترى, أن المرأة لا تقلُّ عن الرجل، مساوية له تماما، مكلّفة كما هو مكلَّف، مشرَّفة كما هو مشرَّف، تسعد بربها كما يسعد بربه، وإذا قال الله تعالى:

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾
[سورة آل عمران الآية: 36]
بمعنى أن لكلٍّ من الطرفين خصائص هي في حقِّه كمالٌ، أما المرأة فهي مشرَّفة، ومكرَّمة، ومساوية للرجل، ولها خصائص تمتاز بها، هي كمال في حق مهمَّتها .
إليكم هذه الصفقة الرابحة التي بايعت بها صفية رسول الله :
أيها الأخوة, لقد بايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم النساءُ الصحابيات، بايع الصحابيات رسول الله، وقد نقول: يبايع رسولُ الله النساءَ الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وبايع النبيُّ عليه الصلاة والسلام عمَّته صفيةَ بنت عبد المطلب رضي اللهُ عنها، فكان لبيعتها أثرٌ بارز في حياتها، من طاعة الله تعالى, وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة الزوج بالمعروف، وبالحفاظ على النفس، والشرف، والأمانة، وإخلاص في القول, والعمل لله تعالى, المؤمن الصادق باع نفسَه لله، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 162]
والمؤمن الصادق بايع اللهَ عزوجل بأن له الجنة، وبعد أن بايع اللهَ عزوجل, لا يحقُّ له أن يسأل: لِمَ فعل اللهُ معي هكذا؟ المؤمن صدَق ما عاهد اللهَ عليه، وباع نفسَه لله عز وجل، فهو يجعل كلَّ طاقاته وإمكاناته في سبيل الله .
وقفتْ هذه الصحابية الجليلة عمة النبي صلى الله عليه وسلم مواقفَ مشرِّفة، حفظها لها التاريخ، والإنسان يصبح كلمة، إما إنه مشرَّف في التاريخ، أو أنه محتقر، هناك في التاريخ أبطال ، وهناك طغاة، وهناك محسنون، وهناك مسيئون، والإنسان بعدما ينتهي أجلُه, يبقى ذكرا، إما أنه ذكرٌ حسن، وإما أنه ذكر سيء، ونحن الآن في الحياة، والخيارات أمامنا واسعة جدا، لكن بعد أن ينتهيَ الأجلُ, يصبح الخيارُ محدَّدا، فو الذي نفس محمد بيده, ما بعد الدنيا من دار, إلا الجنة أو النار .
مرَّ معي بعضُ الأحاديث الشريفة: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام مرَّ مع أصحابه بقبر، فقال عليه الصلاة و السلام:

((صاحبُ هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفُّلكم أحوج إليهما من كل دنياكم))
أنت الآن ترى الدنيا عظيمة، مؤسسات، شركات أرباح، بيوت، مركبات، نساء، لكن حينما يصبح الإنسان تحت أطباق الثرى، الشيء العظيم ركعتان، الشيء العظيم تلاوة القرآن، الشيء العظيم عمل صالح، الشيء العظيم إنفاق المال، والذي يقوله الإنسان الشارد:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾
[سورة الفجر الآية: 24-25]
والحقيقة: من هو العاقل؟ هو الذي لا يندم، ومن الذي يندم؟ هو الذي ارتكب خطأ فاحشا ، وخطأ مدمِّرا، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾
[سورة الزمر الآية: 15]
إنّ أشدَّ أنواع الخسارة, أن تخسر الآخرة، وأشدَّ أنواع الخسارة, أن تخسر نفسك التي خلقها اللهُ للجنة، فأوصلتها إلى النار، وأشدَّ أنواع الخسارة, أن تأتيَ اللهَ يوم القيامة مفلِسا، ليس لك عمل صالح، وإنّ أشدَّ أنواع الربح, أن تكون في طاعة الله .
مرة سمعتُ رجلاً, يلقي كلمةً في عقد قران، شعرتُ شعورا لا يوصف، الكلمة معروفة، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

((إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ, فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ, وَشُكْرِكَ, وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))
[أخرجه النسائي في سننه]
قلت: ما من مرتبة ينالها الإنسانُ أعظم من أن يحبَّه اللهُ، ويحبه رسولُه، وطريقة محبة الله بين أيديكم، طريق مفتوح الأبواب، طريق سالك، وآمن، وسريع، وقصير، لمجرَّد أن تصطلح مع الله، وأن تعقد العزمَ على طاعته, أحبَّك اللهُ، وإذا أحبَّك اللهُ, أحبَّك كلُّ شيء:
يُنادَى له في الكون أنا نحبُّه فيسمع مَن في الكون أمرَ محبِّنا
وإذا أحبك اللهُ, ما فاتك من الدنيا شيءٌ، لذلك أكبر عقاب, يعاقب به الإنسان، قال تعالى:

﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
[سورة المطففين الآية: 15]
أن يحجبك اللهُ عنه، هذا أكبر عقاب، فالسيدة صفية عمَّة النبي عليه الصلاة و السلام، عاشت عمرا، وانتهى العمرُ، الآن بقيت ذكراً، بقيت كلمة طيِّبة عنها، وعملها محفوظ عند الله عز وجل .
قلت مرة كلمة: هناك امرأةٌ قُلامة ظفرها, تساوي ألف رجل، وأنت كمؤمن إذا أخلصتَ لله عز وجل، وأقبلتَ عليه، واصطلحتَ معه، وأطعته، وخدمت عباده, أحبَّك اللهُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:

((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ, وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ, وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ, تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ, يَكْرَهُ الْمَوْتَ, وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
وقفت هذه الصحابية الجليلة عمةُ النبي عليه الصلاة والسلام مواقفَ مشرِّفة حفظها لها التاريخ، كانت انطلاقا من تلك البيعة الصادقة، وبيعة النساء, جاء الخطابُ الإلهي بخصوصها، فقد قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[سورة الممتحنة الآية: 12]
أيها الأخوة, أثبت بيعةَ صفية للنبي عليه الصلاة و السلام ابنُ سعدٍ, فقال:
((أسلمتْ صفيةُ، وبايعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولما جاءت النسوةُ لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كنَّ متلفِّفاتٍ بمرُطِهنَّ بين المغرب والعشاء، فسلَّمن، وانتسبنَ، -أي عرَّفت كلُّ امرأة بنسبها- فرحَّب بهن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: ما حاجتُكنَّ؟ فقلن: يا رسول الله, جئنا نبايعك على الإسلام، فإنا قد صدَّقنا بكَ، وشهدنا أن ما جئت به حق))
فعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ, أَنَّهَا قَالَتْ:
((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نُبَايِعُهُ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا, وَلَا نَسْرِقَ, وَلَا نَزْنِيَ, وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا, وَلَا نَعْصِيكَ فِي مَعْرُوفٍ, قَالَ: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ, قَالَتْ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا, هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ, إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ))
[أخرجه النسائي في سننه]
إني لا أصافح النساء، هذه الوقاية، والوقاية خيرٌ من قنطار علاج، إني لا أصافح النساءَ ، قولي لألف امرأة, قولي لامرأة واحدة، وهذا من صفات المؤمن، المصافحة ملامسة، والملامسة لها مضاعفات, لا تُحمَد عقباها، والمؤمن طاهر، وعفيف، والمؤمن يسدُّ مسربين للشيطان, فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ))
[أخرجه مسلم في سننه]
أحيانا أقول لبعض الأخوة: هناك إنسان يُؤخذ بامرأة، وإنسان يؤخذ بالمال، والمالُ والنساء نقطتا ضعف في شخصية الإنسان، فالمؤمن سدَّ هاتين النقطتين، فهو محصَّن من هاتين النقطتين، لا يخفض رأسَه ذلاًّ، ولكن الذي ضعُف أمام المرأة، ثم اعترف بفعله الفاحشة معها على مستوى العالم كله, صار في الوحل، أليس كذلك؟ امرأة أذلَّته، وجعلته في الوحل، لأنه ضعف أمامها, فسقط من عين الخلق، ومن عين أقرب الناس إليه، والدعاء الشهير، دعاء النبي سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة و السلام:
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
[سورة يوسف الآية: 33]
فالإنسان لا يقُل: أنا شخصيتي قويَّة، وأنا لا أتأثَّر، أنا إرادتي قوية، هذا كلام فارغ، الإنسان كما قال الله عز وجل:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 14]
واللهُ سبحانه وتعالى وضع في كيان الرجل حبَّ المرأة، لذلك هناك تنظيمات في الإسلام دقيقة جدا، هذا الميل منظَّم بقناة نظيفة، الشهوات سُلَّمٌ نرقى به إلى ربِّ الأرض والسموات، إذا سارت في قنواتها النظيفة، وكلُّ شهوة أودعها الله في الإنسان, لها قناة نظيفة تسري خلالها، وقد قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
[سورة القصص الآية: 50]
المعنى المخالف أن الذي يتَّبع هواه وفقَ هدى الله عزوجل, فلا شيء عليه، وفق هدى الله ، في القناة النظيفة التي سمح اللهُ بها، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾
[سورة هود الآية: 86]
عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ, أَنَّهَا قَالَتْ:
((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ نُبَايِعُهُ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا, وَلَا نَسْرِقَ, وَلَا نَزْنِيَ, وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا, وَلَا نَعْصِيكَ فِي مَعْرُوفٍ, قَالَ: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ قَالَتْ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا, هَلُمَّ نُبَايِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ, إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ))
[أخرجه النسائي في سننه]
لذلك هناك نقطة مهمة جدا في الموضوع، أكثر الآيات التي نهت عن الزنا, جاءت على هذه الصيغة:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
[سورة الإسراء الآية: 32]
معنى ذلك: أنه لا بدَّ أن تدعَ بينك وبين هذه المعصية الكبيرة هامشَ أمان، وهامش الأمان ألاّ تخلوَ بامرأة، هامش الأمان ألاّ تملأ عينيك من محاسنها، وهامش الأمان ألاّ تصحب إنسانا منحرفا، وهامش الأمان ألاّ تقرأ أدبا إباحياً، وهامش الأمان ألاّ تتابع عملا فنِّيا مثيرا، هذه كلها هوامش أمان، قال تعالى:
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾
[سورة الإسراء الآية: 32]
يبدو أن الزنا يشبه صخرة متمركزةً في قمَّة جبل، مستقرة في مكانها، فإذا دفعتها من مكانها قليلا، لن تستقرَّ إلا في قعر الوادي، حينما تخرق هذا الهامش؛ هامش الأمان, ففي الأعمِّ الأغلب لن تستقرَّ هذه الصخرة التي هي الشهوة إلا في قعر الوادي، قال تعالى:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 187]
وكنتُ ضربتُ على ذلك مثلا في الكهرباء: تيار كهربائي ثمانمائة فولت، لنقلِ الطاقة من مكان إلى مكان، هذا التيار فيه قوةُ جذب، فأيّ إنسان يقف أمامه على بعد ستة أمتار يجذبه، ويصبح فحمة سوداء، وزير الكهرباء إن أراد أن يحذِّر الناسَ من هذا التيار يكتب لوحةً: ممنوع مسُّ التيار, أو يكتب: ممنوع الاقتراب من التيار، لو كتب: ممنوع المس، لم يكن للإعلان قيمة إطلاقا، يحترق هذا الذي اقترب، يبدو أن هناك معاصي فيها قوّة جذب كبيرة جدا، من أجل أن تنجو من هذه المعصية, يجب أن تبتعد عنها، ويجب أن تدعَ بينك وبينها هامش أمان، لذلك الشريف من هو؟ الذي يهرب من أسباب الخطيئة .
بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصارَ، وأخذ عليهم, ألاّ يغششن أزواجهن، وأخذ رسول الله على النساء في بيعتهن, ألاّ يشققن جيبا، ولا يدَّعين ويلا، ولا يخمشن، ولا يقُلن هجرا، هذه المرأة التي تولول، وتشقُّ جيبها، وتلطم وجهها، وتشدُّ شعرها، وتصرخ بويلها، هذه ليس مؤمنة، وهذه التي تغشُّ زوجها، تكذب عليه، أيضا أخذ عليهن العهدَ ألاّ يفعلن هذا .

ماذا نستنبط من أحكام من موقفها يوم البيعة ؟
أيها الأخوة، هناك استنباطات طيِّبة من موقف السيدة صفية رضي الله عنها عمة النبي صلى الله عليه و سلم:
أوَّلا: اشتراكُ المرأة مع الرسول على أساس المساواة التامة في جميع المسؤوليات الدينية التي ينبغي أن ينهض بها المسلم، والمرأة مكلَّفة أن ترعى زوجها، وأولادها، وأن تقيم فرائضها، وأن ترسِّخ دعائم الإسلام في بيتها، كما أن الرجل مكلَّف تماما .
وشيء آخر: كيف كانت بيعةُ النبي صلى الله عليه وسلم للنساء؟ إنما كانت بالكلام فقط، من غير ملامسة، وذلك على خلاف بيعة الرجال، فدلَّ ذلك أنه لا يجوز ملامسة الرجل بشرة المرأة الأجنبية عنه، وليس من الضرورة شيوع العرف بمصافحة النساء، هذا ليس ضرورة، أي أن شيوع العرف بمصافحة النساء كما يتوهَّم بعضُ الناس لا يجعل هذا الشيءَ مشروعا، فالعرف ليس له سلطان في تغيير الأحكام الثابتة بالكتاب أو السنة، معصية شاعت بين الناس, لا تقُل: عموم بلوى، المعصية معصية، لا يقلِّل من قيمتها, أنها شاعت بين الناس، والإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، ومن علامة الإيمان الصادق: أن يشعر المؤمن بغربة في آخر الزمان، كل من حوله يصافح، والمرأة تمدُّ يدها لتصافح .
سمعت عن امرأة, زارت بلدَنا, وزيرة دولة غربية، فكان في استقبالها كبارُ موظَّفي الوزارة، أحدُ هؤلاء الموظَّفين لم يصافحها، هناك من انزعج منه جدًّا، ماذا كان لو صافحها؟ هذه الزائرة الضيفة الوزيرة, سألت: هذا الذي لم يصافحني, لِمَ لَم يصافحني؟ أريد أن أراه، قيل لها: اعتذر عن المجيء, قالت: أنا أريد أن أراه، فلما التقت به, قالت له: لِم لَمْ تصافحني؟ قال: لأنني مسلم، وفي ديننا لا يجوز مصافحةُ المرأة الأجنبية، وأنتِ امرأة أجنبية، فماذا كان جوابُها؟ قالت: لو أن المسلمين أمثالك, لكنا تحت حكمكم .
المسلم يجب أن يعتزَّ بإسلامه، وأن يعتزَّ بدينه، وأن يعتزَّ بشرعه، فبيعة النساء ليس فيها ملامسة إطلاقا، كلام، إذًا: لا يجوز ملامسة الرجل بشرة المرأة الأجنبية، وليس من الضرورة شيوعُ العرف بمصافحة النساء، كما يتوهَّم بعضُ الناس، فليس للعرف سلطانٌ في تغيير الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة، إلا إذا كان الحكمُ الشرعي قام على عرف سابق، والشرع أقرَّه على ذلك، والعرف مع وجود نص لا قيمة له إطلاقا، وشيوع المعصية لا يجعلها طاعة، شيوع المعصية لا يجعلها مباحة، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام يقول:

((إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ))
[أخرجه النسائي في سننه]
لكن من هذه البيعة, دلَّ أنه مباح, أن تسمع كلام المرأة الأجنبية, إذا كان كلاما جادًّا، قال تعالى:
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 32]
إذا كان الكلام جادًّا, قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
أخواننا الكرام, المؤمن عفيف جدًّا، ألم يقل سيدُنا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
((أَيُّهَا الْمَلِكُ, كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ, وَنُسِيءُ الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ, فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ, حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا, نَعْرِفُ نَسَبَهُ, وَصِدْقَهُ, وَأَمَانَتَهُ, وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ, وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ, وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ, وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ, وَصِلَةِ الرَّحِمِ, وَحُسْنِ الْجِوَار,ِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ, وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ, وَقَوْلِ الزُّور,ِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ, وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ, وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ, لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا, وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ, وَالزَّكَاةِ, وَالصِّيَامِ, قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَام))
[أخرجه أحمد في سننه]
هذه أركان الأخلاق: صدق، وأمانة، وعفاف، صدق في الأقوال، وأمانة في الأفعال، وعفَّة عن النساء، الصفة الصارخة للمؤمن عفَّته عن النساء، غضُّ بصره، ولا يدير حديثا ممتعا مع امرأة لا تحلُّ له، أكثر الناس إذا كانت هناك امرأة في المجلس, يحسِّن كلامه كثيرا، ويستجمع الطُّرف كي يضحكها، وكي يتأمَّل ضحكها، هذا الذي يدير حديثا ليضحك امرأة، ويستجلب قلبَها, خرج عن العفَّة، قال تعالى:
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 32]
أيضا الرجل لا ينبغي أن يقول كلاما, يلفت نظر المرأة إليه، هذا لا يجوز، أما:
﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
المرأة مودَتها لمن؟ لزوجها، لأولادها، ولأخوتها، وأخواتها، لأمها، وأبيها، العبارات الحارَّة الحميمة هذه لمحارمها، ولا سيما لزوجها في الدرجة الأولى، أما أن تخضع المرأةُ بالقول لأجنبيّ، فقد خرجت عن قواعد العفة، أما أن ينمِّق الرجل حديثَه أمام امرأة, ليلفت نظرها إليه, فقد خرج عن قواعد العفة، فضبطُ اللسان أحد أركان الاستقامة، لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه .
فقد دلَّت أحاديث البيعة التي ذكرناها على أن كلام الأجنبية يباح سماعُه إذا كان جادًّا، وأن صوتها ليس بعورة، وهو مذهب جمهور الفقهاء، والآية واضحة، قال تعالى:

﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 53]
وقد كان النبيّ عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا، أنت تحبُّ ألاّ تتميَّز أبدا، ما يفعله الناسُ تفعله، طيب أين إسلامُك؟ أحد الذي يميِّزك عن بقية الناس, أنك لا تصافح النساء، لا تستحِ، ولا تقل: متوضَّئ، لماذا متوضئ؟
((إني لا أصافح النساء))
[أخرجه النسائي في سننه]
قل لها: إني لا أصافح النساء، ودائما أظهِر إسلامك عزيزا، هناك أشخاصُ يُضطرُّون أن يجلسوا على مائدة فيها مشروب محرَّم، يقول لك: أنا معي قرحة، قل: أنا لا أشرب هذا، أنا مسلم، أظهر دينك، أعزَّ دين الله, يعزَّك اللهُ عز وجل .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:48 PM   #28


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات - اهل بيت النبى الكريم

الدرس : ( الخامس و العشرون )


الموضوع : هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس





السيرة-الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ملاحظة هامة :
أيها الأخوة الكرام، لا زِلْنا مع الصحابيَّات الجليلات، مع الدَّرْس الرابع والثلاثين مِن سِيَرِ الصَّحابيَّات الجليلات رِضْوان الله تعالى عنهن أجْمعين، ومع هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بنِ ربيعَةَ بن عَبْد شَمْس، هِنْدِ بنْتِ عُتْبة زوجة أبي سُفْيان، ولها تاريخٌ عريقٌ في عَدَاوَة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
وقَبلَ أنْ أشْرَعَ في الحديث عن هذه الصَّحابيَّة, لا بدَّ مِن مُقَدِّمةٍ ضروريَّة: ذلك أنَّ العداوَةَ في الإسْلام ليْسَتْ مُتَأصِّلَةً، أحْيانًا تَكْرَهُ الرَّجُلَ؛ تَكْرهُ عَمَلَهُ، ولا تَكْرهُ ذاتهُ، وربُّنا جلَّ جلاله يكرهُ عمَلَ الرجل، ولا يَكْرهُ الرجل، بِدَلِيل أنَّهُ بِمُجَرَّد أنْ يلتفِتَ العبْد إلى الله عز وجل اِنْطَوَتْ صفْحةٌ، وفُتِحَتْ صفْحةٌ جديدة .
تَذْكُرون أنَّ عُمَيْر بن وَهْبٍ أتى المدينة لِيَقْتُل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأنَّ ابْنَهُ وَقَعَ أسيرًا، فسقَى سَيْفهُ سُمًّا، وتوجَّهَ نَحْوَ المدينة لِيَقتل النبي عليه الصلاة والسلام، رآهُ عمر فقيَّدَهُ بِحَمَّالَةَ سَيْفِهِ، وساقَهُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، هذا عُمَيْر بنُ وَهْبٍ جاءَ يُريدُ شرًّا, والقصَّة معروفةٌ عندكم, كيْفَ أنَّ النبي عليه الصَّلاةُ والسَّلام قال: أطْلِقْهُ يا عُمَرَ؟ ادْنُ مِنِّي يا عُمَيْر، ما الذي جاء بِكَ؟ قال: جِئْتُ أَفُكُّ ابني مِنَ الأسْر، فقال: وهذه السَّيْف التي على عاتِقِك؟ قال: قاتَلَها اللهُ مِن سُيُوفٍ, وهل نَفَعَتْنا يوْمَ بَدْرٍ؟‍ فقال النبي الكريم: ألَمْ تَقُلْ لِصَفْوان ابنِ أُمَيَّة: والله، لوْلا فِتْيَةٌ صِغار، ولَوْلا دُيونٌ لا أُطيقُ سَدادَها، لَذَهَبْتُ وقتَلْتُ محمَّدًا، وأرحْتُكم منه؟ فَوَقَفَ عُمَيْرٌ، وقال: والله إنَّكَ رسول الله، والذي دارَ بيْني وبين صَفْوان لا يَعْلمُهُ أحدٌ إلا الله، وأنتَ رسوله، وأشْهدُ أنَّك رسول الله .
الشاهدُ أنَّ سيِّدنا عمر قال: دخل عُمَيْر على رسول الله، والخنزير أحبُّ إليَّ منه، وخرجَ من عِنْدِهِ، وهو أحبُّ إليَّ مِن بعْضِ أولادي .
هذا هو الإسلام، الإسلام قد تنتقلُ من أشدّ أنواع العَداوة إلى أشدِّ أنواع المحبَّة، التَّفسير : إنّك لا تَكْرهُ فلانًا، ولكن تَكْرهُ عَمَلَهُ، وربّنا عزّ وجل لا يَغْضبُ على العَبْد، بل يغْضبُ مِن عملِهِ ، فإذا صلَّحَ, انتهى كلّ شيءٍ، وهذا أرْوَعُ ما في الإسلام .
إليكم المغزى من هذا الكلام :
قُلْتُ لكم: هذه المرأة التي كانت مِن أشدِّ النِّساء عَدَاوَةً لِرَسول الله، وهي التي قتلَتْ حمزةَ عمَّ النبي عليه الصلاة والسلام بِأَمْرها، وهي التي لاكَتْ كَبدَهُ بِأسْنانها، وليْسَ في تاريخ المسلمين امرأةٌ أشدُّ عَداوةً للنبي عليه الصلاة والسلام مِن هذه المرأة .
والآن سَأُسْمعُكم كيفَ صارَ حالُها؟ هذا يُعْطينا أمَلاً كبيرًا، يُعطيكَ أمَلاً أنَّك إذا أقْبلْتَ على الله تعالى, غَفَرَ الله لك كلَّ ذُنوبك، وهذا يعني أنَّهُ لوْ جئْتَ الله عزّ وجل بمِلء السموات والأرض خطايا, غَفَرَها لك ولا يُبالي، وهذا يعني أنَّك إذا رجَعْت إلى الله عز وجل, نادى مُنادٍ في السموات والأرض أنْ هَنِّئوا فلانًا، فقَدْ اصْطَلَحَ مع الله تعالى، وهذا يعْني أنّ الله عز وجل بِمُجَرَّد أنْ تَتُوبَ إليه, يُقْبِلُ عَلَيْك ويَقْبَلُكَ، وهذا المعنى الدَّقيق الذي أردْتُهُ من هذه القصَّة .

إليكم قصة إسلام هند بنت عتبة :
أسْلمَتْ هنْدُ بنْتُ عُتْبةَ عامَ الفتْح، بعْدَ عشرين عامًا مِن عَداوة مشتعلة، ومِن تآمُر، ومِنْ هِجاءٍ، ومِن حِقْدٍ، ومِن بُغْضٍ لا حدود له لِرَسول الله صلى الله عليه وسلّم، أسْلمَتْ بَعْد إسْلام زوْجِها أبي سفيان، وحينما دَخَلَ النبي عليه الصلاة والسلام مكَّةَ المكرَّمة, قال أبو سفيانَ:
((ما أعْقَلَهُ ! وما أحْكَمَهُ! وما أوْصلَهُ! وما أرْحَمَهُ!))
أسْلمَتْ بَعْد إسْلام زوْجِها أبي سفيان، وبايَعَتْ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم على الإسلام، كانتْ ذاتَ عَقْلٍ وافِر، ولكنَّها تأخَّرَتْ في إسلامها إلى إسلام زوْجِهَا،
((يا سَعْدُ لا تُبْغِضِ العَرَبَ فَتُبْغِضُني، قال: وكيفَ نُبْغِضُكَ، وبِكَ هدانا الله تعالى؟ فقال: تُبْغِضُ العربَ فَتُبْغِضُني))
أحيانًا تنتقِلُ العداوةُ مِن إنسانٍ إلى إنسانٍ، فَهِيَ كانت ذاتُ عَقْلٍ وافِر، فَلِمَ لمْ يَهْدِها عَقلُها إلى الإيمان بِرَسُول الله, ولِمَ لمْ يقُدْها ذكاؤُها إلى أنْ تُسارِعَ إلى الإسْلام؟ لماذا تلكَّأتْ؟ لعَلَّها مرتبطَة مع إنسانٍ عَدُوٍّ لِرَسول الله ‍.
الآن نستنبطُ اسْتِنْباطًا دقيقًا: إذا كنتُ في بيئةٍ، وفي مجتمَعٍ يُحارِبُ الدِّين، دون أن تشْعُر تنتَقِلُ إليك هذه العَدْوَة، أنتَ في بيئةٍ لا تُحِبُّ الدِّين، ولذلك مِثْلُ هذه البيئة لا ينبغي أن تبقى فيها، ولا ينبغي أن تُقيمَ معها علاقات، يجِبُ أن تكون في بيئةٍ تُحِبّ الله ورسولهُ، وهذا الذي يقوله الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾
[سورة التوبة رقم الآية: 119]
اِبْحث مع هؤلاء الذين أنت معهم، مَعَ مَنْ تَجْلِس؟ ومعَ مَنْ تسْهر؟ ومع مَنْ تُخالط؟ ومع مَن تتنزَّهُ؟ ومع مَن تتحدَّث؟ ومعَ مَنْ تُحاوِر؟ مَن هوَ صديقُك؟ ومَن هو محِبُّك؟ وما هي العلاقة الحميمة التي تُقيمها معه؟ هذا شيءٌ خطيرٌ جدًّا .
والآن ثَبَتَ في عِلْم النَّفْس: أنَّ سِتِّين بالمئة مِنَ الأَثَرَ, يتَلَقَّاهُ الشاب عن أصْدِقائِهِ، والباقي عن أُمِّه، وعن أبيهِ, وأخْوَتِهِ, لذا قَضِيَّة الصَّداقة خطيرة جدًّا .
فالبيئة تَغْذِيَةٌ هادئة، أنت معَ أهْل الإيمان في تغْذِيَةٍ، مَوْقِفُهم، وحركتهم، وحياؤُهم، وخَجَلُهم، وعِفَّتُهم، صِدْقُهُم، أمانتهم، ومحبَّتُهم لله تعالى، هذه كلُّها تغْذِيَة بطيئة، مِن دون أن تشْعُر ترى أنَّك مُحِبٌّ لله تعالى، ولو جَلَسْت مع أهل الفِسْق والفُجور، تجِدُ تغْذِيةً بطيئة هادئة، تقول: حياتُهم أكثر راحةً مِن حياتنا, حياتهم من دون قُيود، انْشِراح، راحة، قَضِيَّة غضّ البصر نرتاح منها, وكيْفَمَا كان يقبض المال من حرام أو من حلال، ليس عندهم مُشكلة، وكلَّما جلسْتَ معهم اسْتَمْرأْتَ عملهم، إلى أنْ تُصْبِحَ مثلهم، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾
[سورة الممتحنة الآية: 13]
قال تعالى:
﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾
[سورة المجادلة الآية: 22]
لذلك أنا أُريد من هذا الدَّرْس: أن تُفكِّرَ مَلِيًّا في هذه العلاقة الحميمة, تُقيمها معَ مَنْ؟ مَنْ هَوِيَ الكَفَرَةَ حُشِرَ معهم، ولا ينفعُهُ عملهُ شيئًا .
زارني صديقٌ مُقيمٌ في بلدٍ غَرْبي، شيءٌ غريب! كلّ حديثهُ عن هؤلاء؛ تاريخهم، حروبهم، فضائلهُم، وكأنَّهُ ليْسَ بِمُسْلِم, عاشَ معهم، وقَبلَ قِيَمَهُم، واسْتَمْرأ علاقتهم، أشاد بهم، وأثنى عليهم، مَنْ هَوِيَ الكَفَرَةَ حُشِرَ معهم، ولا ينفعُهُ عملهُ شيئًا .
هذا الدَّرس مِحْورُهُ العلاقة الحميمة، أو العلاقة الحميمة مَعَ مَنْ؟ هل لك ولاءٌ مع المؤمنين أم ولاؤُكَ مع غيرهم؟ وهل لك براءٌ مِن المشركين, والمنافقين, وأعداء الدِّين, أم أنَّكَ تُحِبُّهم؟ .
النبي عليه الصلاة والسلام تمنَّى على الله داعِيًا، فقال:
((اللَّهُمَّ لا تجْعل لي خَيْرًا على يدي كافر أو منافق))
لأنَّ هذا الخَيْر الذي أجْراه الله على يدي الكافر أو المنافق, يَدْفعُكَ إلى مَحبَّتِهِ، وإذا أحْببْتَهُ, انتهَيْتَ تعاهَدْ قَلْبَكَ، هذا القلب يَلِينُ لِمَنْ؟ .
هند بنتُ عُتبَة وافِرَةُ العَقل، ولكِنَّها كانتْ مِن أشدِّ النِّساء عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ لماذا؟ لأنَّها مع قَوْمِها، وتعيشُ مع بيْئةٍ تُعادي النبي عليه الصلاة والسلام، وتُناصِبُ النبي العِداء، فلِذلك انتَقَلَ إليها العِداء معَ وَفْرةِ عَقْلها .
يؤكِّدُ هذا: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما الْتقى بِخَالدٍ بن الوليد رضي الله عنه، وقد أعْلَنَ إسْلامهُ، قال له:
((عَجِبْتُ لك يا خالد! أرى لكَ فِكْرًا))
كأنَّ الفِكْر عليه أن يقودكَ إلى الله عز وجل .
هِيَ أمُّ مُعاوِية بن أبي سفيان، الخليفة الأمويّ الأوَّل، أخبارها قبل الإسلام مشهورة, شَهِدَتْ أُحُدًا مع المشركين, وهي التي تآمَرَتْ مع هذا الحبَشِي لِقَتْل سيّدنا حمزة، وهي التي بقرَتْ بطْنهُ، وأخرجَت كبِدَهُ، ولاكَتْهُ بِأَسْنانها، وفعَلَتْ ما فعلَت بِحَمْزة, وكانتْ تُؤلِّبُ على المسلمين، إلى أن جاء الله بالفتح، فأسْلَمَ زوْجُها، وأسْلمَتْ هِيَ .
قال عبدُ الله بن الزبَيْر:
((لمَّا كان يوْمُ الفَتْح, أسْلَمَتْ هنْدُ بنْتُ عُتْبة، ونِساءٌ معها، فأَتْينَ النبي صلى اله عليه وسلّم, وهو بالأبْطَح، فَبايَعْنَهُ, فتكلَّمَتْ هنْدُ, قالَتْ له: يا رسول الله, -فرَحُ المؤمن بِهِداية كافر لا يُصوَّر، إنسانٌ ينتقل فجأةً مِن صفّ أعداء الدِّين إلى المؤمنين .
كنتُ في الحجّ قبل سنوات، وسَمِعتُ أنّ أمريكيًا أسْلمَ، وألْقى محاضرةً في الحج، قال: نحن أمَّةٌ قوِيَّة، بل نحن أقْوى الأمم، ولكنّنا بشرٌ، فإذا أقْنعْتُمونا بإسْلامكم, كانت قوَّتُنا لكم, كلامٌ دقيق جدًّا، نحن مقصرون .
لذا هذه المرأة الذكِيَّة العاقلة والخطيرة، هي الآن تُعْلنُ إسلامها- قالتْ: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظْهر الدِّين الذي اختارهُ لِنَفْسِهِ، لِتَنفعني رحمتكَ، يا محمد, إنَّني امرأة مؤمنة بالله تعالى، مُصدِّقةٌ برَسولِهِ، -وما عرفَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَن هِيَ؟- ثمّ قالتْ: أنا هند بنتُ عتبة, -المرأة المخيفة، صدِّقوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام فرِحَ بها فرحًا شديدًا، لذا عند النبي أو المؤمن لا يوجد الحقد، هناك حِقْدُ مَبدأ، فَحِينما ينظمّ هذا العدوّ إلى الدِّين, انتهى ذاك الحقد- .
فقال عليه الصلاة والسلام: مرْحبًا بِكِ, -هي التي قتَلَتْ عمَّهُ حمزة, لا حقْد، وصفاء المؤمن لا حدود له، وهو نبيّ هذه الأمَّة- قالتْ: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض أهل خِباءٍ أحبُّ إليَّ من أن يذِلُّوا مِن خِبائكَ, -أيْ أتمنَّى أن تذِلُّوا، وأن تُقْهروا- ولقد أصْبحتُ وما على الأرض أهْلُ خِباءٍ أحبّ إليّ أن يَعِزُّوا مِن خبائِكَ, -ما هذه النَّقمة؟ أيْ لا يوجد على وجْه الأرض جماعة, أتمنى إذْلالهم، وقهْرهم، وقتلهم، وتحطيمهم كَقَوْمِك، والآن ليس على وجه الأرض جماعة, أتمنى أن يعِزُّوا، وأن يرتفعوا مثل قوْمك، وهذه هي نقمة المؤمن، انتقل مئة وثمانون درجة- فقال عليه الصلاة والسلام: وزِيادة))
ما معنى وزِيادة؟ أيْ كما تقولين: وزيادة، وهذا حال الذي يعرف الله تعالى.
لذا إذا كان لك عدوّ لدود, دمَّركَ بالتِّجارة، أو دمَّرك بِطَريق آخر، وبعد حينٍ هذا العدو اللّدود, اصْطلحَ مع الله، وأحبَّهُ، إن لم تُحِبَّهُ, فلسْتَ مؤمنًا، وهذا هو الدِّين .
سيّدنا يوسف ماذا فعَلَ أخوتهُ به؟ وضَعُوهُ بالجُبّ لِيَموت، قال تعالى:
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
[سورة يوسف الآية: 92]
قال تعالى:
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
[سورة يوسف الآية: 100]
لِمَ لمْ يذكر الجبّ؟ لمَّا جاؤوا مسلمين, انتهى الأمر، لك الإمكانية أن تنقلب عداوةً عميقة وحقْد إلى حبّ .
الشيء الذي لا يُصدَّق: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مِن شِدّة حبِّهِ للخَلْق، أنا أتصوَّر أنَّ أعلى رجل في العالم, يستطيعُ بِحُبِّه الغامر, أن يُحوِّل أعداءهُ الألدَّاء إلى أحباب .
هناك صفوان بن أُميّة، عُمَيْر بن وهب، أبو سفيان, اذْهبوا فأنتم الطُّلقاء .
أمامة بن آثال, قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال:
((أطْلقوا سراحَهُ، غابَ, وعاد، وقد اغْتسَلَ، أعْلَنَ الشهادة، وأسْلمَ، وقال: والله يا رسول الله، ما كان على وَجه الأرض دينٌ أبغضَ إليّ من دينك، والآن ما على وجه الأرض دينٌ أحبّ إليّ من دينك))
وهناك قصص كثيرة جدًّا .
لمَّا أسْلمَت هند, جعلت تضربُ صنمًا في بيتها بالقُدُّوم، كان أوَّلُ عملها كَسْرُ هذا الصَّنَم، حتى فلَّذَتْهُ فلِذَةً فلذة؛ قطعةً قطعة، وهي تقول: كنَّا منك في غَرَر .
لقد رحمها الله تعالى يوم الفتح الأكبر, كما رحم زوْجها أبا سفيان, الذي ظلَّ طويلاً عَدُوًّا للإسلام، غير أنّ الإسلام دين الرحمة والهداية, فلْننْظر إلى آثاره يوم الفتح .
كان جميع أهل مكة تحت قبضة النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، ولولا أنّ الله تعالى, أرسَلَهُ رحمةً للعالمين, لجدَّ رؤوس أهل مكَّة جميعًا، لأنَّهم ما ادَّخروا وُسْعًا في الصدّ عن سبيل الله، وإطفاء نور الإسلام، ولكنَّهم لم يستطيعوا، وهذا هو الإسلام بِنُورهِ الحق، ورسوله الرحيم .
كانتْ هنْدُ مِن النِّسْوة الأربع اللاتي أهْدرَ النبي عليه الصلاة والسلام دَمَهنّ، ولكنَّهُ صلى الله عليه وسلّم صفح عنها، وعفا عنها، وعما كان منها, حينما جاءتْهُ مسلمةً مؤمنة .

هنيئاً لك هذه البيعة يا هند :
الآن تقفُ هند أمام رسول الله، عندما بايَعَ النِّساء آمنةً مطمئنَّةً، وتسْتوْضِحُهُ في أمور البيعة، ولا تخشى إلا الله تعالى .
روى الطبري: لمَّا فرغ النبي عليه الصلاة والسلام مِن بَيْعة الرِّجال, بايَعَ النِّساء، واجْتمَعَ إليه نساءٌ من نساء قريش فيهنّ هند بنتُ عتبة، فلمَّا دَنَوْنَ منه لِيُبايِعْنهُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تُبايِعْنني على ألاّ تُشْركْن بالله شيئًا، قالتْ هنْدُ: والله إنَّك تأخذ علينا أمرًا لا تأخذه على الرّجال، وسَيُؤتيكَهُ، قال عليه الصلاة والسلام: ولا تسْرِقْن، قالت هنْدُ: والله إن كنتُ لأُصيبُ من مال أبي سفيان الهنَكَ والهنكَ، ولا أدري أكان ذلك حِلاًّ لي أم لا؟.
-تَجِدُ المؤمن بعد توبته إلى الله تعالى، يُراجِعُ نفسهُ، ويُحاوِل تسديد كلّ الدّيون السابقة .
لي قريب له محلّ حلويات، قال لي: دخل شابّ, فوضَعَ ظرفًا على الطاولة، ورجع ‍، فتَحْتُهُ، فإذا مكتوب فيه، من عشرين سنة, دخلتُ هذا المحل، وأكلتُ قطعة حلوى، ولم أدفع, حاسبَ نفسهُ لِمُدَّة عشرين سنة، وهذا هو حال المؤمن دائمًا, يُراجعُ نفسهُ- .
قالت هنْدُ: والله إن كنتُ لأُصيبُ من مال أبي سفيان الهنَكَ والهنكَ, -أيْ الدُّريْهمات- ولا أدري أكان ذلك حِلاًّ لي أم لا؟ فقال أبو سفيان -وكان شاهدًا معها-: أما ما أصبتِ فيما مضى, فأنت منه في حِلّ، عفوْنا عن الماضي، فقال عليه الصلاة والسلام: وإنَّك لَهِنْد بنتُ عتبة؟ فقالَتْ: أنا هند بنت عتبة، -أيْ زوجتهُ- فاعْفُ عما سلف, عفا الله عنك، -أيْ سامِحْها- فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تزنين, فقالت: يا رسول الله, وهل تزْني الحُرَّة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تقتلن أولادكنّ، فقالت هندُ: قد ربَّيناهم صِغارًا، وقتلْتَهم يومَ بدْرٍ كِبارًا، وهم أعْلم، فضَحِكَ عمر بن الخطَّاب مِن قولها, حتَّى اسْتغربَ! -أيْ بالغَ في الضَّحك- فقال عليه الصلاة والسلام: ولا تأتين بِبُهتانٍ تفْترينَهُ بين أيْديكنّ وأرجلكنّ، فقالت: والله إنَّ اتيان البُهْتانِ لَقَبيح، فقال صلى الله عليه وسلّم: ولا تعصين في معروف، فقالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نريد أن نعصيك في معروف، -وكلمة لا يَعْصينكَ في معروف دقيقة جدًّا، هل في الأرض كلّها إنسان تتوجَّب طاعتهُ كرسُول الله؟ يستحيل، ومع ذلك طاعتُهُ مُقيَّدَة بالمعروف .
فأحد الصحابة الذي أمَّره النبي عليه الصلاة والسلام على جماعةٍ، وكان هذا الصحابيّ ذا دُعابَةٍ، فقال:
((أبْرِموا نارًا عظيمة، فأبْرموها، ثمَّ قال: اقْتَحِموها, ألسْتُ أميركم؟ أليْسَتْ طاعتي طاعة رسول الله؟ فقال أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: كيف نقْتحمها، وقد آمنَّا بالله فِرَارًا منها؟ وقال بعضهم: طاعته طاعة رسول الله, فاختلفوا، فعَرَضُوا هذا على النبي عليه الصلاة والسلام: والله لو اقْتحمْتموها لا زِلْتُم فيها إلى يوم القيامة، إنّما طاعة في معروف))
فالعَقْل لا يُعطَّل لو قال: ولا يعصينك في معروف؛ مقيّد، حتى النبي وهو سيّد الخلق .
مثلاً: كان يحبّ اليقطين، فلو أنّ أحدًا ما أحبّ اليقطين, هل هو مُؤاخذ؟ ليس مُؤاخذًا، لأنّ القضيّة شَخصيَّة، والمعصِيَة في معروف، النبي أمر أوامر تعبّديَّة، وأخرى تَشريعِيَّة، فأنت حينما تعصيهِ في أمر تشريعي, فهذه كبيرة جدًّا، أما في المزاج, فأنت لك مِزاج، وهو له مِزاج، ولا يعصينك في معروف، لذلك فرَّق العلماء بين الأمر التشريعي، والأمر التنظيمي، ومعصِيَة الأمر التشريعي غير معصِيَة الأمر التنظيمي، ولا يعصينك في معروف, قال تعالى:
﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾
[سورة الممتحنة الآية: 12]
أما لو لبِسْتَ ثِيابًا غير ثياب رسول الله، وحلاقة شعرك غير حلاقة شعر رسول الله، وأكْلُكَ على الطاولة غير أكل النبي عليه الصلاة والسلام، هذه ليْسَت قضايا تشريعيَّة، نعمْ الأكمَل أن تُقلِّدَهُ في كلّ شيء، ولكن الأخطَر أن تعْصيهِ في قضايا تشريعيَّة- .
قالت: ما جلسنا هذا المجلس، ونحن نريد أن نعْصِيَك في معروف، فقال عليه الصلاة والسلام لِعُمَرَ: بايِعْهُنَّ، واسْتَغْفِر لهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكان صلى الله عليه وسلَّم لا يُصافِحُ النِّساء، ولا يمسّ امرأةً لا ذات محرمٍ))
خاتمة القول :
أيها الأخوة، ما ذكرتُ هذا القصَّة؛ قِصَّة هند بنتُ عتبة, إلا لأبيِّنَ لكم عظمة هذا الدِّين، مِنْ أشدِّ حالات الكراهِيَّة، والحِقْد، والعداوةِ, حتَّى الجريمة، لاكَتْ كبِدَ حمزة، إلى أشدِّ حالات الولاء ، والحبّ، والتَّقدير، والتَّعظيم، وهذا هو الإسلام، الإسلام يجبّ ما قبلهُ، ويهْدمُ ما كان قبلهُ, والمسلم فتَحَ مع الله صفْحةً جديدة، لو جئتني بملْء السموات والأرض خطايا, غفرتها لك ولا أُبالي، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[سورة الزمر الآية: 53]
الآن التطبيق العملي: لو أنّ أحدًا معه ذنب، وهذا الذنب حِجابٌ بينه وبين الله، وخائفٌ أن لا يُغفَرَ له, فلْيذكر أنَّ الله غفر لامرأة, قتَلَت عمَّ النبي، ولاكَتْ كبدهُ بِأسنانها، ولم يعرف التاريخ الإسلامي امرأة أشدَّ حِقْدًا وعداوةً لرسول الله كمثل هذه المرأة, ومع ذلك أسْلمَت وحَسُنَ إسلامها، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: مرحبًا بك، وفرِحَ بها فرحًا شديدًا، فالإسلام لا يحوي الحِقْد والعداوة .
هناك روايات يجب أن تُرْكل بالقدم، فالذي يقول: أنّ هناك عداوَة بين خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب في الجاهليّة, لو كانوا كذلك لما كانوا صحابة، وهذه كلّها روايات مفْتَراة، وهي أن أحقادًا كانت بينهما، ولمَّا تولَّى عمر الخلافة، أوَّلُ عملٍ عملهُ؛ عزل سيّدنا خالد, وهذا كذبٌ وبهتان، والصحيح أنّ خالدًا رضي الله عنه, جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له:
((يا أمير المؤمنين لمَ عَزَلْتني؟ فقال: والله إنِّي لأُحبُّكَ يا أبا سليمان، فقال: لِمَ عَزَلتني؟ فقال: والله إنِّي لأُحِبُّك, وقال مرَّةً ثالثة، فقال: يا ابن الوليد, ما عزلْتُكَ إلا مخافة أن يُفْتَتَنَ الناس بِكَ بِكَثْرة ما أبْلَيْتَ في سبيل الله))
الناس عزَوْا النَّصْر لِخالد، وأصبحَ هناك شرْكٌ، فأراد عمر أن يُعَلِّم الناس درسًا لن ينْسَوْه، فعَزَلَ خالدًا رضي الله عنه، وبقِيَ النَّصر مُسْتمرًّا, فمن الذي ينصُر؟ هو ربُّ خالد، قال له :
((يا ابن الوليد, ما عزلْتُكَ إلا مخافة أن يُفْتَتَنَ الناس بِكَ بِكَثْرة ما أبْلَيْتَ في سبيل الله))
لذلك هذه القصَّة؛ قصَّة هند بنت عتبة, قصَّة مؤثِّرة, تعني أنَّه لا حِقْد ولا عداوة مستمرَّة في الإسلام، وحينما يؤمن الرجل, انتهى كلّ شيءٍ مضى، وطُوِيَ مِلَفُّه السابق، وفُتِحَ له مِلَفٌّ جديد بعد الاصطلاح مع الله تعالى، فإذا كان هناك أشخاص لاكوا كبد عم النبي، وقتلوه، وقد عفا الله عنهم، فإذا كان الواحد له ذنبٌ, وجاهليّة، وتاب إلى الله توبةً نصوحًا, يجب أن يتفاءل، وهو أنَّ الله تعالى لن يُضَيِّعَهُ .



 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:55 PM   #29


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( السادس و العشرون )


الموضوع : المقدمة


خديجة بنت خويلد -1




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المرأة لها شأنٌ كبيرٌ عند الله :
أيها الأخوة الكرام ، بعد أن انتهت دروس أسماء الله الحسنى ، انتظرت أسبوعين لأستأنف دروس هذا المسجد الكريم ، كنت في هذه الفترة في حيرةٍ من أمري ؛ ماذا أعطي بعد الأسماء الحسنى ؟
خلصت في النهاية إلى أننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى موضوعٍ فقهي ، فأردت أن نبدأ بأصل الفقه ، بآيات الأحكام في القرآن الكريم ، ولمَّا كان هذا الدرس متعلِّقاً أيضاً بالسيرة ، أردت أن أجعل من سيرة نساء الصحابة الكرام ؛ نساء النبي أولاً ، وبنات النبي ثانياً ، ونساء الصحابة الكرام أنموذجاً يُحتذى ، فالمرأة نصف المجتمع ، ولا شيء أبلغ في حياتها كالقدوة الصالحة .

لذلك عزمت ـ والله المستعان ـ أن أجعل دروس الإثنين درساً في آيات الأحكام ودرساً في سيرة نساء النبي وبناته والصحابيات الجليلات ، درس سيرة متعلِّق بالنساء فقط ، ودرس فقه متعلِّق بالقرآن ، آيات الأحكام التي هي أصل التشريع ، وأصل كل اجتهادٍ فقهي ، فإن شاء الله نبدأ اليوم بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وفي الحديث:
(( خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ))
[متفق عليه عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
أيها الأخوة ، أريد أن أقول لكم أن المرأة لها شأنٌ كبيرٌ عند الله ، وأنه : ﴿ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾
[ سورة النجم الآية: 45]
وقال : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
[ سورة الحجرات الآية: 13]
لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً أشد وفاءً لزوجته من رسول الله :
أقول مرَّاتٍ كثيرة : الرجل حينما ينظر إلى المرأة نظرةً تنخفض عن مكانته هو ، هذا رجل جاهلي ، يمكن أن تسبق المرأة آلاف الرجال .
ماذا قال عنها النبي صلى الله عليه وسلَّم ؟ قال :
((آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ))
[أحمد عن السيدة عائشة ]
لذلك السيدة عائشة كانت كلَّما سمعت مديحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن السيدة خديجة تغار ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : (( اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ لِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَالَةَ قَالَتْ فَغِرْتُ فَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهَا ))
[متفق عليه عن السيدة عائشة ]
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ قَالَتْ فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا قَالَ مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاء ))
[أحمد عن السيدة عائشة ]
كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها ، لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً أشد وفاءً لزوجته من رسول الله : (( قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاء ))
[أحمد عن السيدة عائشة ]
لم يرزقه الله تعالى ولداً ذكراً إلا من السيدة خديجة ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : (( مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ))
[متفق عليه عن السيدة عائشة ]
السيدة خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالله ورسوله :
الآن إذا تزوج الإنسان امرأة ، ماتت زوجته الأولى فتزوج ثانية ، يتقرَّب إلى الثانية بذم الأولى : (( وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ))
[متفق عليه عن السيدة عائشة ]

لا يوجد أروع من الوفاء أيها الأخوة ، كأن النبي عليه الصلاة والسلام أراده الله أن يكون الزوج الوفي ، آلاف الرجال يتزوَّجون زوجات وهم فقراء ، فإذا اغتنوا تنكَّروا لهذه المرأة التي عاشت معه على الحصير ، تنكَّروا لهذه المرأة التي عاشت معه على الكفاف ، هذه المرأة التي كانت معك ، التي ذاقت قسوة الحياة معك ، يجب أن تذوق حلاوة الحياة معك .
سيدنا عبد الله بن عباس ماذا قال عن السيدة خديجة ؟ قال : " كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله ... " ، أول امرأةٍ على الإطلاق ، أو الأصح من ذلك ؛ أول إنسانٍ آمن برسول الله السيدة خديجة ، الأسبقية لها قيمة كبيرة جداً ، " كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله ، وأول من صدَّق محمد صلى الله عليه وسلَّم فيما جاء به عن ربه ، وآزره على أمره " .
صدقوا أيها الأخوة أن المرأة الصالحة يمكن أن تدفع زوجها إلى مراتب العظمة ، أساساً يقولون : ما من عظيمٍ إلا ووراءه امرأة ؛ تواسيه ، تخفِّف عنه ، تُسهم معه في مشكلاته ، تقف وراءه ، تدفعه إلى البطولة ، تخفف عنه أعباء الحياة ، المرأة الصالحة لا تقدَّر بثمن :
(( إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ))
[ صحيح مسلم ]
مواساة السيدة خديجة للنبي الكريم من تكذيب المشركين له :
قال الله عزَّ وجل : ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
[ سورة البقرة الآية: 201]
قال علماء التفسير : " حسنة الدنيا المرأة الصالحة ؛ التي إذا نظرت إليها سرَّتك ، وإذا غبت عنها حفظتك ، وإذا أمرتها أطاعتك " .

كان لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له ، إلا فرَّج الله عنه بها ، أي أنها كانت تواسيه ، فهناك امرأة هي عبءٌ على زوجها ، عبءٌ يضاف على أعبائه ، يُناضل خارج البيت ، يأتي إلى البيت ليجد آلاف المشكلات ، لا يرتاح ، أما المرأة العظيمة الصالحة يدخل الرجل إلى البيت فتنسيه متاعبه خارج البيت ، تخفِّف عنه وليست عبئاً عليه ، كان عليه الصلاة والسلام لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيبٍ له إلا فرَّج الله عنه بها ؛ تثبته، وتصدقه ، وتخفِّف عنه ، وتهوِّن عليه ما يلقى من قولٍ ، لذلك كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ))
[ الترمذي عن السيدة عائشة ]
يا أيها الآباء ابحث لابنتك عن زوجٍ يليق بها ، يا أيتها الأمهات ابحثن أو اخترن من بين الخاطبين الخاطب الذي يليق بابنتكن ، لأنه إن لم يكن هناك كفاءة فالمشكلة كبيرة .
يقول الإمام الذهبي : " السيدة خديجة هي ممن كمل من النساء ، كانت عاقلةً ، جليلةً ، ديِّنةً ، مصونةً ، كريمة " ، الحقيقة إن رأيت عقلاً راجحاً في المرأة فهذا مما يلفت النظر ، إن رأيت عقلاً راجحاً في امرأةٍ تسعد زوجها ، وفوق إسعاده عقلٌ راجح ، ونظرٌ ثاقب ، فهذا شيءٌ يعدُّ ميزةً كبيرةً جداً .
نبذة عن حياة السيدة خديجة رضي الله عنها :
أيها الأخوة الكرام ، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، هي خديجة بنت خويلد بن أسدٍ بن عبد العزَّى بن قصي من الذؤابة من قريشٍ نسباً ، وبيتاً ، وحسباً ، وشرفاً ، يلتقي نسبها بنسب النبي صلى الله عليه وسلَّم في الجد الخامس ، وهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي ، أي أن أقرب امرأةٍ إلى النبي السيدة خديجة ، كم كان عمرها حينما تزوجها ؟ كانت في الأربعين وكان هو في الخامسة والعشرين ، ما أكثر الشباب الذين يندبون حظَّهم إذا كانت زوجاتهم تقل عنهم سنتين ، كان هو في الخامسة والعشرين وكانت هي في الأربعين ، أي أنها كانت في سن أمه ، ومع ذلك كانت السيدة خديجة أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم في النسب ، ولم يتزوَّج من ذرية جده قُصي غير السيدة خديجة ، أي أن أقرب امرأة إليه ، وأقربها نسباً إليه السيدة خديجة .
قُدَّر لخديجة أن تتزوج مرتين قبل أن تتشرَّف بزواجها من رسول الله ، أي أنها امرأة متزوجة مرتين ، لكنها لم تطلَّق مرتين ، بل مات عنها زوجاها ، أول زوج مات عنها ، والثاني مات عنها ، والله سبحانه وتعالى ـ دققوا في هذا المعنى ـ جعل زوجة النبي الأولى والتي عاش معها، كم عاش معها ؟ خمساً وعشرين سنة ، رُبع قرن ، كم بلغت من العمر ؟ بالأربعين ، عاش معها إلى الخامسة والستين ، بدأ معها في الخامسة والعشرين ، وصار في الخمسين ، وهي في الخامسة والستين ، أطول فترة أمضاها النبي مع هذه الزوجة الطاهرة ، وكانت في سن أمه ، وكانت أقرب الزوجات إليه .
إذاً هل كانت مقاييسه جماليَّة ؟ امرأة في سن أمه ، وعاش معها ربع قرن ، وكانت أحب الزوجات إليه وأكرمها عليه ، إذاً الأسباب ليست جمالية ، الأسباب خُلُق ، عقل ، طُهر ، عفاف ، وفاء ، ولاء ، هذه الأسباب ، الأشياء التي تبقى في الخارج لا قيمة لها كثيراً .
كلَّما ارتقت مرتبتك عند الله كان الذين حولك من النُخبة :
سمعت والله البارحة قصة رجلٍ وضع في الوحل ، لأنه آثر الجمال فقط ، ولم يعبأ بشيءٍ آخر ، أول شيء كُتب عليه مبلغٌ فوق الخيال مقدَّماً ومؤخَّراً ، ثاني شيء يوم الدخول لم تكن فتاةً ، ثالث شيء كانت تخونه ، رابع شيء أذلَّته حتى وضعته في الوحل .

لمجرَّد أن أقول لكم : السيدة خديجة في عمر أم النبي ، وعاش معها ربع قرنٍ، وكانت أقرب النساء إليه ، وكان وفياً لها أشد الوفاء ، قال : حينما فتح مكة أين نصب راية المسلمين ؟ عند قبر خديجة ، لأنها لم تكحِّل عينيها بالفتح .
دققوا في هذه الفكرة ، عند معظم الناس هذه امرأة لا تفهم شيئاً ، حينما فُتحت مكة ، من هذه المرأة التي كانت مع النبي ؟ تحمَّلت معه المُقاطعة ، والأذى ، والتكذيب ، والتضييق ، والتنكيل ، وكانت تصبِّره ، وتخفف عنه ، وتواسيه ، وتثبِّته ، ولم تكتحل عيناها بفتح مكة ، يوم فتح مكة المكرمة نصب راية المسلمين عند قبر خديجة ، كأنه أراد أن يُعْلِمَها بعد موتها أن ها قد فُتحت مكة التي أخرجتنا ، والتي نكَّلت بأصحابنا ، والتي ائتمرت على قتلنا وإخراجنا .
قال : قُدِّر للسيدة خديجة أن تتزوج مرَّتين قبل أن تتشرف بالزواج من النبي صلى الله عليه وسلَّم، مات عنها زوجها الأول ، ومات عنها زوجها الثاني ، وانصرفت رضي الله عنها بعد موت زوجها الثاني عن الزواج ، ورفضت أن تتزوَّج أحداً ممن تقدَّم لخطبتها ، وقد تقدَّم لخطبتها رجالٌ كثيرون كلهم من أشراف مكة ، وكانوا حريصين على نكاحها ، قد طلبوها ، وبذلوا لها الأموال ؛ لشرفها ، ولعقلها ، ولنسبها ، ولجمالها رضي الله عنها ، وقد ألهمها الله تعالى أن ترُدَّ خطَّابها جميعاً ، كي تكون زوجةً لسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم .
بصراحة الإنسان حينما يختار الله له زوجة هذه من اختيار الله له ، هذه هدية الله له ، مكانة النبي العالية اقتضت حكمة الله أن تكون زوجته سيدة نساء العالمين ، هذا من تكريم الله لرسول الله ، فبصراحة إذا إنسان حوله أُناس مستواهم رفيع جداً ، هذا من نِعَم الله عليه ، هذا تكريمٌ له ، وأحياناً يكون حول الإنسان حُثالة ، فكلَّما ارتقت مرتبتك عند الله كان الذين حولك من النُخبة ، وحينما هبطت المرتبة كان الذين حولك من الحُثالة .
أول شركة مضاربة قامت في الجزيرة قبيل الإسلام بين السيدة خديجة وبين رسول الله :
قيل : هذه السيدة رضي الله عنها انصرفت إلى تثمير مالها ، وتنميتها في حرفة التجارة التي اشتهر بها قومها ، قال تعالى :
﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ*إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾
[ سورة قريش الآيات: 1-2]
رحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام ، ولكونها أنثى ما كانت رضي الله عنها تخرج بمالها مسافرةً ، أي هناك فطرة متغلغلة في الإنسان ، هذه قبل أن تأتي الرسالة المحمدية ، لشرفها ، وكمالها ، وعقلها ما كانت تخرج لتجارةٍ مسافرةً ، ماذا كانت تفعل ؟ تدفع مالها مُضاربةً للرجال ؛ منها المال ، ومن الرجال الجهد ، وأول شركة مضاربة قامت في الجزيرة قبيل الإسلام بين السيدة خديجة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
قال ابن إسحاق : " كانت السيدة خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرةً ، ذات شرفٍ ومال ، تستأجر الرجال في مالها ، وتضاربهم إيَّاه ، بشيءٍ تجعله لهم ، وكانت قريشٌ قد عُرفت بالتجارة ، هذه الزوجة الطاهرة اشتُهرت بأخلاقها الكريمة " .

ذكرت مرةً في خطبة أن العالِم الجليل ابن قيم الجوزية قال : "الإيمان هو الخُلُق ، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان " ، الصفة التي ترفعك عند الله الخُلُق الحسن ، الصفة التي ترقى بها ، التي تسمو بها ، التي تعدُّ وسام شرفٍ لك عند خالقك الخُلُق الحسن ، لأن الله سبحانه وتعالى حينما أثنى على النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
[ سورة القلم الآية: 4]
قال : هذه المرأة الجليلة اشتُهرت بأخلاقها الكريمة النبيلة ، قال السهيلي : " خديجة بنت خويلد تسمَّى الطاهرة في الجاهلية والإسلام ، وتسمى أيضاً سيدة نساء قريش ، وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة " .
قال الذهبي : " هي ممن كمل من النساء ؛ كانت عاقلةً ، جليلةً ، ديّنةً ، مصونةً ، كريمةً " . الأخلاق ليست لها علاقة بالأزمنة ، الأزمنة حديثة ، فيها أثاث فخم ، فيها مخترعات ، فيها أجهزة في البيت ، فيها مركبات فخمة ، فيها طائرات ، فيها حدائق ، فيها معامل ، فيها هواتف ، الأخلاق لا علاقة لها بالعصور ، في أي عصر يوجد أخلاق ، والأخلاق هو الشيء الذي يلفت النظر في الإنسان .
لابدّ من قواسم مشتركة بين الزوج وزوجته فالنبي لقبه الأمينٌ والسيدة خديجة الطاهرة :
أيها الأخوة في كلامٍ طيبٍ حول السيدة خديجة ، الأمين والطاهرة ؛ الأمين رسول الله ، والطاهرة السيدة خديجة ، والحقيقة ليس في الحياة أروع من أن تكون الزوجة على شاكلتك خُلقاً وديناً ، الذي يمزِّق الإنسان أحياناً أن يكون هو في وادٍ خلقيٍ رفيع ، في وادٍ دينيٍ رفيع ، وزوجته في وادٍ آخر ، هذا مما يُشقي الإنسان ، الإنسان إذا وفِّق إلى زوجةٍ طاهرةٍ ، تقيَّةٍ ، عفيفةٍ وفِّق إلى كل شيء .
الحقيقة أن كل إنسان له شخصيةٌ يكونها ، وشخصيةٌ يتمنى أن يكونها ، وشخصيةٌ يكره أن يكونها، فلا بد من قواسم مشتركة بين الزوج وزوجته ، هو أمينٌ وهي طاهرة ، وإن الطيور على أشكالها تقع .

نشأ عليه الصلاة والسلام مُتصفاً بكل خُلُقٍ كريم ، مبرَّءاً من كل أمرٍ ذميم ، أدَّبه ربه ، يقول لك: الحياة ربَّته ، معترك الحياة هذَّبه ، له معلِّم جليل ربَّاه ، وتخرَّج من هذه المدرسة الراقية، كل هذا الكلام في واد وإذا قلنا: إن الله أدَّب النبي ، في مستوى آخر، كنت أقول دائماً :
(( فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))
[الترمذي عن أبي سعيد ]
تدخل إلى مكتبة فيها أعظم المجلدات ، كل هذه المكتبة من تأليف بشر ، أما كتاب الله كلام الله : (( فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))
[الترمذي عن أبي سعيد ]
النبي من علَّمه ؟ الله جل جلاله ، إذاً بين علم النبي وبين علم أعلم علماء الأرض كما بين الله وخلقه تماماً ، لأن الله هو المعلِّم ، أما علماء الأرض علَّمهم بشر .
الشيء الثالث : أكبر مربي في الأرض إذا ربَّى أعلى تربية ، والنبي ربَّاه ربه جل جلاله ، بين أخلاق النبي وأخلاق إنسان مُربى أعلى تربية كما بين الله وخلقه ، إذاً الله جل جلاله علَّمه وأدَّبه ، لذلك قال أحد الشيوخ لبعض تلاميذه : " يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك " ، فالأدب مطلوب ، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الأدب ، أدَّبه ربه سبحانه وتعالى فأحسن تأديبه ، حينما تُسأل السيدة عائشة عن خُلُق النبي كانت تقول :
((كان خلقه القرآن))
[ مسلم عن عائشة ]
إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما استعملك :
شهد له عليه الصلاة والسلام ربه في القرآن الكريم بكمال الأخلاق فقال :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
[ سورة القلم الآية: 4]

شبَّ النبي الكريم والله تعالى يكلأه ، ويحفظه ، ويحوطه من أقذار الجاهليَّة ، والله يوجد في الحياة أحياناً مستنقعات ، مُنزلقات ، بؤَر نتنة ، أماكن لهو قذرة ، علاقات دنيئة ، سقوط مريع ، انهيار خلقي ، إنسان كالدَّابة ، كالخنزير ؛ ويوجد مجتمعات راقية جداً ، بيوت راقية ، مجالس علم راقية، علاقات إنسانية راقية ، علاقات علمية راقية ، فالإنسان إذا كان في بيئة صالحة ، هذه من نِعَم الله الكُبرى ، لك مسجد ، لك أخوان ، لك جلسة دينية ، إن جلست تتكلَّم عن الله ، تنطق بالحق ، تتحدّث عن القيَم هذه من نعم الله العظمى .
مرَّة كنت في افتتاح المسجد كان بجانبي مدير أوقاف الريف ، قلت له : اشكر الله عزَّ وجل على أن الله أقامك على أمور المساجد ، فهناك من يشرف على دور اللهو ، وهو إنسان ، أنت اليوم تفتتح مسجداً ، وغيرك البارحة افتتح ملهىً ، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك .
سألني شخص مرة فقال لي : معنى قوله تعالى :
﴿ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ ﴾
[ سورة النور الآية: 3]
هل هناك حالة امرأة غير زانية ، ونكحها زانٍ ؟ من أوجه تفسيرات هذه الآية أن الإنسان إذا رضي بزوجةٍ زانية فهو في حكم الزاني ، وان المرأة إن رضيت بزوجٍ زانٍ فهي في حكم الزانية، إذاً هي على شاكلته ، لأنها قبلت به . حاجة السيدة خديجة إلى رجل صادق أمين لتأتمنه على مالها :
أحياناً الإنسان يرى من ابنه بعض سوء الائتمان ، يقول لك : لا تدقِّق ، معنى هذا أن الأمانة ليست لها قيمة كبيرة عنده ، فأنت ما الذي يزعجك ؟ ما الذي يخرجك من جلدك أحياناً ؟ أن ترى نقيضك ، أما إن رأيت ما يوافقك فلا تكترث كثيراً ، فالمؤمن لا يُعقل أن يقبل بزانية ، والمؤمنة لا يمكن أن تقبل بزانٍ : ﴿ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا﴾
[ سورة النور الآية: 3]
أي لا يقبل بها إلا إنسانٌ على شاكلتها ، ولو لم يزنِ ، ما دام قد قبل بها زانيةً فهو في حكم الزاني، والمرأة إن قبلت زوجاً زانياً ، ولو لم تزن فهي في حكم الزانية ، هذا المعنى واقعي .
سمعت السيدة خديجة رضي الله عنها بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلَّم ؛ من الصدق والأمانة ، وهي امرأةٌ تاجرةٌ تحتاج إلى الرجل الصادق الأمين لتأتمنه على مالها .

يا أخواننا التجار الموظَّف في العمل التجاري يُقبل منه مليون غلطة إلا أن يخون أو أن يسرق
المؤمن لا يكذب ولا يخون والسرقة خيانة ، لكونها تاجرة سمعت به أميناً ، صادقاً . قال ابن إسحاق : " كانت السيدة خديجة امرأةً تاجرة ذات شرفٍ ومال ، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه بشيءٍ تجعله لهم منه ، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ أخواننا الكرام هذا الذي يضع ماله ليستثمره بربحٍ ثابت هذا نوع من الربا ، أما على شيءٍ تجعل لهم منه، على نسبةٍ وليس على أجرٍ مقطوع ، وإلا صار هذا نوعٌ من الربا ـ فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ما بلغها ، من صدق حديثه ، وعِظَمِ أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه ، وعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام تاجراً ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التُجَّار، مع غلامٍ يقال له ميسرة " .
أنواع الفقر :
النبي عليه الصلاة والسلام نشأ فقيراً ، فهل الفقر وصمة عار ؟ أبداً لعلَّه وسامُ شرف ، فاللهمَّ صلي عليه كان يتيم ، وكان فقير ، كل إنسان افتقر وأخلاقه عالية ، فله في النبي أسوةٌ حسنة
عندنا فقر الكسل ، وهو مذموم ، وعندنا فقر القدر ، وصاحبه معذور ، فيه عاهة تمنعه من العمل ، وعندنا فقر محمود ، وهو فقر الإنفاق ، سيدنا الصديق أعطى كل ماله لرسول الله ، قال :
(( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَه ))
[الترمذي عن عمر بن الخطاب ]
صار سيدنا الصديق فقيراً ، لكن فقره فقر إنفاق ، لذلك قال تعالى : ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 195]
الآية التالية لها معنيان ؛ إن لم تنفقوا ، وإن أنفقتم مالكم كلَّه ، والمعنيان رائعان :
الآية التالية لها معنيان : ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 195]
إن لم تنفقوا : ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾
[ سورة البقرة الآية: 195]
إن أنفقتم مالكم كلَّه ، والمعنيان رائعان .
نشأ النبي عليه الصلاة والسلام يتيماً فقيراً ، توفي أبوه عبد الله وهو جنينٌ في رحم أمه ، لذلك دخلت مرةً إلى ميتم ، قرأت قوله تعالى في مدخل الميتم :
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾
[ سورة الضحى الآية: 6]
والله اقشعرَّ جلدي ، أن سيد الخلق ، وحبيب الحق نشأ يتيماً ، اليُتم صعب ، الأخ غير الأب ، الأب يرحم ، الأخ قد يقسو ، فرقٌ كبير بين الأخ وبين الأب : ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾
[ سورة الضحى الآية: 6]
خرج النبي صلى الله عليه وسلَّم مع عمه أبي طالب إلى بلاد الشام ، وعمره اثنتا عشرة سنة ، ورآه راهبٌ يقيم في صومعةٍ قرب بُصرى يدعى بَحِيرة ، فتفرَّس به مخايل النبوَّة ، وتأكَّد من فراسته حينما رأى خاتم النبوَّة بين كتفيه الشريفين . عمل أكثر الأنبياء كان في رعي الغنم لأن فيه وقت فراغ كبير يعطى للإنسان كي يتأمَّل :
سمعت من أستاذ في الجامعة متحقق ، وعالج هذا الموضوع معالجة متأنيَّة ، فوجد أن قصة الراهب بحيرة ليس لها أصل جملةً وتفصيلاً ، بعضهم يقول : من الذي علَّمه ؟ الراهب بحيرة ، على كلٍ هذا لا يعنينا ، ولم يرد فيه نصٌ صحيح .
عمل عليه الصلاة والسلام برعي الغنم ، وصرَّح بذلك لأصحابه بعد بعثته ، مما يدلُّ على شدة تواضعه ، عمل راعيَ غنم ، أنا لا أعتقد أن في الأرض حرفةً أدنى من رعي الغنم ، انظروا إليه، في البراري ، في الجبال ، في الوهاد ، مع قطيعٍ من الغنم ، أكثر الأنبياء عملوا في رعي الغنم ، ما التوجيه في ذلك ؟

لأن رعي الغنم فيه وقت فراغ كبير يعطى للإنسان كي يتأمَّل ، الحقيقة الإنسان يعدُّ إنساناً إذا كان عنده وقت فراغ ، فكلُّ عملٍ يلغي وقت فراغك خسارةٌ محقَّقة ، كل عملٍ مهما كان دخله كبيراً إذا ألغى وقت فراغك ، هذا العمل خسارةٌ محقَّقة ، لأنه ألغى سرّ وجودك ، ألغى غاية وجودك ، ألغى هويَّتك ، الله عزَّ وجل وصف هؤلاء فقال :
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ *فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
[ سورة المدثر الآيات: 50-51]
لو ذهبت إلى شرق الدنيا أو إلى غربها ، لرأيت أن هذه البلاد ورشة عمل ؛ بلا كلل ، ولا ملل ، ولا راحة ، ولا استراحة ، ولا حياة ، ولا روحانيَّات ، ولا اتصال بالله ، ولا يقظة ، غفلة ، عمل مستمر حتى الموت ، العمل جيد لكن لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان ، الإنسان لا يجب أن يكون عبداً للعمل ، أن يكون العمل وسيلةً في خدمته .
سيدنا عمر وهو على المنبر كان يخطب ، قطع الخطبة بلا مبرّر ، وقال : " يا عُمير كنت راعياً ترعى على قراريط لبني مخزوم " ، وأكمل الخطبة ، شيء غريب ، ليس هناك داعٍ لقطع الخطبة، وهذا الكلام لا علاقة له بالخطبة ، فلما نزل سُئل : " يا أمير المؤمنين لمَ قلت ما قلت ؟ "، قال: " جاءتني نفسي فقالت لي : أنت أمير المؤمنين ، ليس بينك وبين الله أحد ، أردت أن أعرِّفها حدَّها ـ حجمها ـ " ، قال : " يا ابن الخطاب ، يا عمير كنت راعياً ترعى الإبل على قراريط لأهل مكة " ، قال : " أردت أن أعرِّف نفسي حدَّها " .
(( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلا رَعَى الْغَنَمَ فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ . فَقَالَ : نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ ))
[ البخاري عن أبي هريرة ]
الإنسان لا يولد عظيماً الله عزَّ وجل يمتحنه ويمرِّره بأطوار وأطوار :
تجد إنساناً يستحي من ماضيه ، يعتِّم عليه ، لكنني أرى أن الإنسان إذا ذكر ماضيه المتواضع رأى نعمة الله عليه ، قال لي رجل غني جداً : كنت عندما آكل في بيت أهلي الزعتر أضع قطعة الخبز على صحن الزعتر ، فإذا ضغطت قليلاً أُضرَب من والدي ، لا تضغط كثيراً " ، كان فقيراً إلى هذه الدرجة ، أي إذا ضغط على صحن الزعتر قليلاً معنى هذا في إسراف ، فيُضرب ، ثم صار شخصاً غنياً ، الإنسان إذا اغتنى يجب أن ينظر إلى ماضيه ، وإلى نعمة الله عليه .
رجل يعد في بعض البلاد أول تاجر خضراوات ، قال لي : أنا عندي أربعين أو خمسين براد ـ أسطول ـ ينتقل عبر البلاد لنقل الخضراوات ، عنده برادات تكفي لبلاد بأكملها ، قال لي : كنت عتالاً ، لكن والله ما فاتني فرض صلاة بحياتي ، ولا أعرف الحرام أبداً ، أنا أكبرت فيه تواضعه، قال لي : " كنت عتَّالاً لكن ما فاتني فرض صلاة في حياتي ، ولا أكلت قرشاً حراماً ، ولا أعرف الحرام " .
سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أصبح في الخامسة والعشرين من عمره اتجه إلى العمل بالتجارة كسائر رجال قريش ، تذكر الروايات عن نفسية بنت مُنية قالت : " لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خمساً وعشرين سنة ، وليس له بمكة اسمٌ إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير ، قال له أبو طالب : يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي ، وقد اشتدَّ الزمان علينا ، وألحَّت علينا سيول مُنكرة ، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها " .
أقف قليلاً هنا ، النبي كان فقيراً ، ليس فقيراً فحسب ، بل أُمر أن يذهب ، أن يسافر ، " يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي ، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها ، فيتجرون لها في مالها ، ويصيبون منافع ، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها ، لأسرعت إليك ، وفضَّلتك على غيرك لما بلغها عنك من طهارتك ، وإن كنت أكره أن تأتي الشام ، وأخاف عليك من اليهود ، ولكن لا نجد من ذلك بُدَّاً " ، أي اذهب واطلب منها أن تسافر إلى الشام بتجارةٍ لها .
قال : غلب على النبي الكريم حياؤه وعزة نفسه ، فقال لعمه أبي طالب : " لعلَّها ترسل إليَّ في ذلك ، ثمة إنسان نفسه غالية عليه ، لا يطلب ، لا يلح في الطلب :
((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير .))
[ابن عساكر عن عبد الله بن بسر بسند ضعيف]
لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، فالنبي الكريم غلب عليه حياؤه وعزة نفسه فقال لعمه أبو طالب : " لعلها ترسل إليَّ في ذلك " ، فقال أبو طالب : " أخاف أن تولي غيرك فتطلب الأمر مدبراً " . أي أن تفوتك الفرصة ، فافترقا ، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له ، وقبل ذلك ما كان من صدق حديثه ، وعظم أمانته فقالت : " ما علمت أنه يريد هذا " ، ثم أرسلت إليه فقالت : " إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك ، وعظم أمانتك ، وكرم أخلاقك " .
في تعليق لطيف : هذا سيد الرسل ، سيد الأنبياء ، وسيد ولد آدم ، وسيكون نبياً عظيماً ؛ طالب عمل ، يستحي أن يطلب هذا العمل ، قال له : أنا أستحي إن أرسلت إلي ، فالإنسان لا يولد عظيماً ، الله عزَّ وجل يمتحنه ، يمرِّره بأطوار وأطوار ، هذا الذي يستحي أن يطلب منها أن يسافر إلى الشام ، وهي ليس عندها علم ، وقال له عمه : " لعلها تطلب غيرك فيفوتك الأمر " ، قالت له : " إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك ، وعِظَمِ أمانتك ، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك " ، يبدو أنها أكبرت فيه أمانته ، وقد قيل:
(( الأمانة غنىً ))
من عُرض عليه شيء من دون شرط ولا طلب فرده فكأنما رده على الله :

أخواننا الكرام ، عندي قصص والله ، الأمناء يصلون إلى قمم المجد ، إيَّاك أن تخون ، إيَّاك أن تكذب ، لأنه أمينٌ وصادق أعطته ضعف ما تُعطي قومها من الأجر ، ففعل عليه الصلاة والسلام، ثم لقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك ، فقال : " إن هذا لرزقٌ ساقه الله إليك "، بالمناسبة هناك أخوان كثر يتأبَّون عن شيء ساقه الله إليهم وقد ورد :
(( إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه ))
إنسان عرض عليك مساعدة ، عرض عليك أنْ يغيِّر وضعك ، من وضع إلى وضع ، فثمة شخص يتأبَّى بلا سبب ، كِبر ، لا ، فإذا عرض عليك شيء من دون طلب ، ولا استشرافٍ ، ولا شرطٍ ، فرددته فكأنما رددته على الله ، ماذا قال له أبو طالب ؟ " هذا رزقٌ ساقه الله إليك " ، وخرج النبي عليه الصلاة والسلام مع غلامها مَيْسَرَة ، وقالت خديجة لميسرة : " لا تعص له أمراً، ولا تخالف له رأياً " ، لا بد من قائد واحد .
وفي درسٍ قادم إن شاء الله نتحدَّث عن خبر هذه الرحلة التجارية الأولى ، التي تمَّت بين النبي عليه الصلاة والسلام ، وغلام السيدة خديجة ميسرة ، وكيف أن هذه الرحلة كشفت أخلاق النبي الكريم ، وسُمَّي السفر سفراً لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الرجال .
أيها الأخوة الكرام ، هذه القصص التي جرت مع سيِّد الخلق هي دروس ، والمواقف مُثُل عُليا ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها .




 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-04-2018, 01:58 PM   #30


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: سيرة الصحابيات الجليلات



بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة الصحابيات الجليلات

الدرس : ( السابع و العشرون )


الموضوع : خديجة بنت خويلد - 2


زواجها من النبى صلى الله علية وسلم






لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثاني من دروس سير الصحابيَّات الجليلات ، رضوان الله عليهم ، ومع أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
كان النبي أول شريك مضاربٍ في الإسلام هو بجهده وخديجة بمالها :
وصلنا في الدرس الماضي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع غلام خديجة رضي الله عنها ميسرَة ، وقالت السيدة خديجة لميسرة : " لا تعص له أمراً ولا تخالف له رأياً ".
لو وقفنا عند ميسرة قليلاً ، لا نجد لهذا الاسم ذكرٌ بين الصحابة ، يرجِّح كُتَّاب السيرة أنه توفي قبل البعثة ـ ميسرة غلام خديجة ـ فقد رافق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة التجارية ، إذ كان النبي أول مضاربٍ في الإسلام ؛ هو بجهده وخديجة بمالها .

هذا هو الطريق المشروع لاستثمار المال ، أن يكون هناك إنسانٌ لا يستطيع أن يستثمره لكبر سنه ، أو لبُعده عن جو التجارة ، أو لصغر سنه ، أو لانشغاله ، فيأتي شابٌ في مُقتبل الحياة بأمس الحاجة إلى المال ولا يملكه ، يملك الخبرة ، ولا يملك المال ، فإذا تعاون هذا المال مع تلك الخبرة انتفع الطرفان ، دون أن يكون أحدهما عبئاً على الآخر ، لذلك هذا هو الطريق المشروع لتنمية الأموال ، ولكن الذين أساؤوا استخدام هذا البند من الشرع ، أساؤوا إساءةً كبيرةً جداً وقوَّوا مركز البنوك ، حينما أساؤوا هذا الأسلوب الشرعي النظيف ، الواضح ، المتوازن .
لذلك يعد النبي عليه الصلاة والسلام أول شريكٍ مضاربٍ في الإسلام هو بجهده وخديجة بمالها .
ميسرة حينما سار مع النبي وتتبع تصرفاته ، وأخلاقه ، ومواقفه ، وسَمْتَهُ ، واتصاله بالله عز وجل ، أعجب به أيما إعجاب ، أعجب من حسن معاملته ، أعجب من صدق حديثه ، دُهِشَ بما رأى من خوارق عجيبة .
نحن نسميها للمؤمن كرامات ، فعلماء التوحيد يسمونها للأنبياء معجزات ، أي أنك حينما تقبل على الله ، حينما تخلص له ، حينما يحسن عملك ، حينما تصفو نيَّتك ، حينما تقدِّم كل ما تملك في سبيل الحق ، لا بد أن يريك الله بعض الكرامات ، بعض خرق العادات ، هو إشعارٌ من الله بالقبول ، إشعارٌ من الله بالمحبة .
لذلك عندما يشتد الحر في الهاجرة ، كانت تأتي غمامةٌ تظلل النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحجب عنه أشعة الشمس ، لذلك الذين يمدحون النبي عليه الصلاة والسلام ، يصفونه بأنه مظللٌ بالغمام ، هذه من الخوارق التي أكرم الله بها نبيه . الله هو الحق وهو الذي يظهر فضائل الناس :
تروي الروايات أن راهباً من رهبان الصوامع في بلاد الشام يدعى نسطوراً دنا من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبَّل رأسه ، وقدميه ، وقال له : " أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة " ، لأنه رآه مظللاً بالغمام .
لحكمةٍ أرادها الله ، وبتوفيقٍ من الله عز وجل ، يسَّر الله للنبي هذه التجارة ، وربحها ربحاً وفيراً ، وعاد ميسرة إلى السيدة خديجة رضي الله عنها فحدثها بما رأى .

تعليقي على هذا الموقف أن الإنسان كلما كبُر لا يمدح نفسه ، أو لا يستجدي المديح ، عمله ينطق عنه ، الإنسان إذا كان عند الله كبيراً فهو غنيٌ عن أن يستجدي مديح الآخرين ، غنيٌ عن أن يعرض عضلاته ، وإمكاناته ، وقدراته ، وما توصَّل إليه ، وماذا فعل؟ وكيف عامل الناس ؟ دع الناس تتحدث عنك ، دع الناس يتحدثون عنك لأن الحق أبلج ، والناس لهم عيون ولهم آذان ، ويرون :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49)﴾
( سورة النساء )
هل ورد عن النبي أنه مدح أمانته ؟ مدح صدقه ؟ تحدث عن خبرته في التجارة ؟ لا لكن ميسرة رأى كل شيء ونقل كل شيء ، ولأن الله هو الحق ، إذاً هو الذي يظهر فضائل الناس ، يظهرها ألم تقرأ قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا (38)﴾
( سورة الحج )
الإنسان ليجهد أن يضع نفسه في الظل ـ أو في التعبير الحديث في التعتيم ـ إن وضع نفسه في الظل الناس يتحدثون عن فضائله ، لأنهم رأوها رأي العين ، يتحدثون عنها ، أما أنت إذا تحدثت عنها ، كان حديثك عنها ثقيلاً ، قيل : رقصت الفضيلة تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها ، اجهد أن تتحدث عن الله ورسوله وأوليائه دون أن تسلِّط الأضواء على نفسك . أنا ، نحن ، لي ، وعندي ، أربع كلماتٍ مهلكات ورد ذكرها في القرآن الكريم :

في هذه الرحلة ما تكلم النبي كلمةً عن نفسه أبداً ؛ ولكنه كان صادقاً ، أميناً ، عفيفاً ، محباً ، حكيماً ، كل هذه الفضائل رآها ميْسرة ، وأخبر بها خديجة ، هناك أُناسٌ همهم أن يتحدَّثوا عن أنفسهم ، وكما تعلمون ، كلمة أنا ، ونحن ، ولي ، وعندي ، هذه أربع كلماتٍ مهلكات ، أنا ، ونحن ، ولي ، وعندي :
﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ (12)﴾
( سورة الأعراف )
قالها إبليس فأهلكه الله . ﴿ نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ (33)﴾
( سورة النمل )
قالها قوم بلقيس فأهلكهم الله . ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾
( سورة القصص الآية : 78 )
قالها قارون فخسف الله به وبداره الأرض . ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾
( سورة الزخرف : من آية " 51 " )
قالها فرعون فأغرقه الله عز وجل ، لا ترَ لك عملاً ، رحمة الله أوسع من عملك من أدعية النبي له الصلاة والسلام : (( يا رب مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجى لي من عملي ))
[الحاكم عن سيدنا جابر]
وبالطبع ميسرة حدَّث سيدته خديجة بما رأى من أحوال النبي العجيبة ، وأخلاقه الكريمة ، وشمائله الرفيعة . من زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان لأن الإيمان حُسن الخلق :
تذكر بعض الروايات أن السيدة خديجة رأت الغمامة بنفسها ، وهي تظلل النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع إليها ، وكانت جالسةً في غرفة عالية مع بعض نساء قومها .
السيدة خديجة أرادت أن تتثبت من فكرةٍ ترددت في نفسها ، فذهبت إلى ابن عمٍ لها ، فهذا إنسان غير طبيعي ، إنسان ليس له مثيل ، هذه الغمامة ، آيةٌ من آيات الله ، وكأنه إنسان مهيَّأ لشيء كبير ، أرادت أن تتثبت بنفسها فذهبت إلى ابن عمٍ لها يُدعى ورقة بن نوفل وكان قد تنصَّر ، وقرأ كُتب أهل الكتاب ، فذكرت له ما أخبره ميسرة من شأن النبي ، فقال لها : " لئن كان هذا حقاً يا خديجة فإن محمداً لنبيُّ هذه الأمة ، وعرفت أنه كائنٌ لهذه الأمة نبيٌ ينتظر وهذا زمانه " ، أي أن ورقة بن نوفل أبلغ السيدة خديجة ابنة عمه أن لهذا الإنسان كما تذكرين شأناً كبيراً ، ولعله نبي هذه الأمة .
الدلائل التي تسبق البعثة ، سماها علماء السيرة إرهاصات ، الإرهاصات معجزات ، ولكنها قبل البعثة ، كأنها إشارات مبكِّرة إلى أن هذا الإنسان سينتظره شأنٌ كبير .
بالطبع السيدة خديجة رأت من أمانته ، ومن كرمه ، ومن صدقه ، ومن عفَّته ، ومن استقامته ، ومن خوراق العادات الشيء الكثير ، فكان قلبها متعلِّقاً بالنبي ، وقد امتلأ حباً له ، وإعجاباً به عليه الصلاة والسلام ، وكيف لا تحبه وهو أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً ؟ وأحسنُ منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساءُ
خلقـت مبرأً مـن كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاءُ
***

أيها الأخوة الكرام ، من زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان ، لأن الإيمان حُسن الخلق ، وما مُدِحَ النبي بمدحٍ أبلغ من قول الله عز وجل : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
( سورة القلم )
هو أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً ، وأنضر الشباب وجهاً ، وأكملهم رجولةً ، ولكن أين السبيل إليه ؟ وما هي الوسيلة التي تقرِّبها منه ؟ كيف تجعله يفكر في الزواج منها ويتقدم لخطبتها ؟ وقد جرت أعراف الناس وتقاليدهم أن تكون المرأة هي المَخطوبة لا الخاطبة ، المطلوبة لا الطالبة ، الآن الآية معكوسة ، هي تبحث عن طريقٍ تصل إليه ، الشيء الذي أدهشها أنها ما لاحظت من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفكِّر في الزواج ، ولم تر منه عليه الصلاة والسلام أي التفاتٍ إلى النساء ، ولم تر بصره يرتفع إلى وجهها ، وهذا شأن العفيف ، فلا يملأ عينيه من محاسن المرأة ، ولا ينظر إلى وجهها ، لك أن تكلِّمها ، ولك أن تخاطبها من دون أن تملأ عينيك منها ، والأنثى تعرف بالضبط من نظرة الرجل ما إذا كان عفيفاً ، أو كان شهوانياً ، أدركت أنه بعيدٌ عن جو النساء ، ولا شك أن المرأة تستشعر هذه الحالة بشكلٍ دقيق . السيدة خديجة خطبت النبي صلى الله عليه وسلَّم لتتشرف بالزواج منه :
قد دلت بعض الروايات أيها الأخوة أنه ما كان في ذلك الوقت يفكِّر في الزواج إطلاقاً ، لا من خديجة ، ولا من غيرها ، بسبب قِلَّة ما في يديه من المال ؛ وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، فإذا كان الشاب من الشباب الطيبين المؤمنين ، ألا تتزوج ؟ والله لا يوجد معي شيء ، له في هذا النبي أسوةٌ حسنة ، سيد الخلق ، وحبيب الحق لا يوجد معه ، ما دام لا يوجد شيء إذاً لا يفكر في الزواج إطلاقاً ، أحياناً الفقر مع العفة يخلق بطولات ، حتى إنهم قالوا : الحُزن خلاَّق ، أكثر الفضائل لا تظهر مع الغنى ، بل تظهر في الفقر ، شاب في ريْعان الشباب ، وسيم ، وجهه كالبدر ، قوي ، لا سبيل إلى الزواج .
ذكر الزُهري في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة ليتحدث معها ، فلما قام من عندها جاءت امرأةٌ فقالت : خاطباً يا محمد ؟ قال : كلا ، قالت : ولمَ ؟ فو الله ما في قريشٍ امرأةٌ إلا تراك كفئاً لها ، قال لها : كلاَّ ، أما كلمة كلاَّ فقد ملأت قلب السيدة خديجة حزناً ، كلا ، أي لا أريد الزواج .
ثم سمعت من هذه المرأة أن أيَّة امرأةٍ في قريش تراه كفئاً لها ، حتى إن الفقهاء وصلوا إلى أن أي طالب علمٍ شرعي كفءٌ لأية امرأةٍ كائنة من كانت ، في بحث الكفاءة استثناء ، طالب العلم الشرعي ؛ هذا الإنسان المؤمن ، المستقيم ، الذي يخشى الله ، الذي يحب الله ، هذا بأخلاقه الرضيَّة ، وبعلمه ، وباستقامته ، وبحسن خلقه ، هذا كفءٌ لأي امرأة .
لذلك السيدة خديجة حزنت حينما قال : كلا ، وفرحت حينما اطمأنت أن كل امرأةٍ في قريش تتمنى أن يكون محمدٌ زوجاً لها .
اتفقت الروايات على أن السيدة خديجة رضي الله عنها هي التي خطبت النبي .
نحن نوسع الموضوع قليلاً : المؤمن يخطب ود الله عز وجل ، المؤمن لا يعنيه شيءٌ إلا أن يرضى الله عنه ، فهذه امرأةٌ رأت من فضائله ، وكماله ، ونزاهته ، واستقامته ، وأمانته ، وصدقه ، وعفافه الشيء الكثير ، فالآية عكست ، هي التي تخطبه ، تبحث إلى وسيلةٍ إلى قلبه .
قال : اتفقت الروايات على أن السيدة خديجة هي التي خطبت النبي صلى الله عليه وسلَّم لتتشرف بالزواج منه ، وأنها هي التي مهَّدت بإجراءات الخطبة ، وتجاوزت بهذا كل الأعراف والتقاليد التي تجعل الرجل هو الخاطب ، الذي يتقدَّم لخطبة امرأة ، ولها كل العُذر في ذلك ، فمثل النبي تخطبه النساء ، وما من امرأةٍ إلا تتمناه لنفسها زوجاً ، وتبذل كل ما تستطيع لتصبح زوجةً له . الإنسان إذا عُرِضَ عليه شيء لا يتأبَّى عنه

وهذا تواضع منه : تعليق متعلق بحياتنا اليومية : الشاب المؤمن إذا تزوَّج ابنتك لن يظلمها ، لن يخونها ، لن يُهملها ، لن يقسو عليها ، زوِّجها لمؤمن ، إن أحبها أكرمها ، وإن لم يحبها لم يظلمها ، الزواج رِق ، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته .
ذكرت بعض الروايات أن السيدة خديجة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وصرَّحت له برغبتها أن تكون زوجةً له ، هذه رواية ، وذكرت رواياتٌ أخرى أنها أرسلت إليه بعض النساء لكي يتكلَّمن معه في موضوع الخطبة .
بل إنه من الممكن أن نجمع بين هذه الروايات كلها : تحدثت السيدة خديجة مع بعض خاصَّتها من النساء عن أمنيتها ، ورغبتها في أن تصبح زوجةً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الحديث مع صديقتها نفيسة بنت مُنَيَّة ، وطلبت منها أن تساعدها في تحقيق رغبتها ، وقامت بالدور المهم في التمهيد لهذه الخطبة المباركة ، وتحدثت أيضاً لأختها هالة بنت خويلد ، وكلَّفتها بالمهمة نفسها .
أما هالة فذكرت بعض الروايات أنها تحدَّثت مع عمار بن ياسر ، ويبدو أن عمَّاراً الذي قال : مررت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأخت خديجة فنادتني ، فانصرفت إليها ووقف لي رسول الله ، فقالت : أما لصاحبك هذا من حاجةٍ في تزوِّج خديجة ؟ فقال عمار : فأخبرته ، فقال عليه الصلاة والسلام : بلى .
الإنسان إذا عُرِضَ عليه شيء لا يتأبَّى عنه ، من كمال الأخلاق إذا إنسان عرض عليك خير ؛ عمل ، زواج ، وكان شيء مقبول وجيد ، لا تتكبَّر ، لا تتأبَّى ، هذا تواضع من الإنسان . الدوافع التي دفعت السيدة خديجة إلى الزواج من النبي محمد :
أما نفيسة فقد روى ابن سعد عنها أنها قالت : " كانت خديجة بنت خويلد امرأةً حازمة جادةً شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير ، وهي يومئذٍ أوسط قريشٍ نسباً ، وأعظمهم شرفاً ، وأكثرهم مالاً ، وكل قومِها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك ، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال ، فأرسلتني " .
تقول نفيسة : فأرسلتني دسيساً إلى محمد ـ كلفتني بمهمة ـ بعد أن رجع من عيرها في الشام فقلت : " يا محمد ما يمنعك من أن تتزوج ؟ " فقال عليه الصلاة والسلام : "ما بيدي ما أتزوج به " ، قلت : " فإن كُفيت ذلك ، ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟ " ، قال : "فمن هي ؟ " ، قلت : " خديجة " ، قال : " وكيف لي بذلك ؟ " قالت : " قلت علي " ، قال : " فأنا أفعل إذاً " .
لما علمت رضي الله عنها برغبة النبي صلى الله عليه وسلم بما أُرْسِلَت إليه ، وعرضت نفسها عليه ، وبيَّنت له الدوافع التي دفعتها إلى الزواج به ، فقالت : " يا ابن عم ، إني قد رغبت فيك لقرابتك ، وصفتك في قومك ـ أنت وسطٌ في قومك ، إنسان كامل ـ وأمانتك ، وحسن خُلُقِك ، وصدق حديثك " ، ولم تذكر رضي الله عنها أي دافعٍ آخر ، ولم تذكر ما ترجو من شأنٍ كبير حينما تكون زوجة رسول الله ، لأنها علمت من ابن عمها أن لهذا الإنسان شأنٌ كبير ، هذه أمور غيبية مستقبلية لا يمكن الجزم بها ، يوجد عقل ، الشيء الثابت أنه ذو خلقٍ عظيم ، شمائل رفيعة ، كرم ، استقامة ، صدق حديث ، أمانة .
تحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في موضوع الخطبة ، وزواجه بالسيدة خديجة ، وأخبره بما حدث معه ، فوافق عمه على أن يتقدَّم لخطبتها ، وذهب عمه مع عشرةٍ من وجوه بني هاشم إلى عمها عمرو بن أسد ، فخطبها منه ، فزوجه ، وقال : " هذا الفحل لا يُجْدَعُ أنفه " ، أي لا يرد طلبه . خُطبة النكاح التي ألقاها عمّ النبي أبو طالب :
الآن تستمعون أيها الأخوة إلى الكلمة التي ألقاها عمه أبو طالب ، هذه يسميها العلماء خُطبة النكاح ، الخِطبة أن تخطب امرأةً ، الخُطبة أن تلقي خُطبة ، هذه خُطبة النكاح ، يقول أبو طالب :
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ، وجعلنا حضنة بيته وسوَّاس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً ، وجعلنا حُكَّام الناس ، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله ، لا يوزن به رجلٌ إلا رجح به ؛ شرفاً ، ونُبلاً ، وفضلاً ، وعقلاً ، وإن كان في المال قِلٌ فإن المال ظلٌ زائل ، وأمرٌ حائل ، وعاريةٌ مسترجعة ، وهو والله بعد هذا له نبأٌ عظيم ، وخطرٌ جليل ، وقد خطب إليكم رغبةً في كريمتكم خديجة ، وقد بذل لها من الصداق حكمكم ـ أي ما تريدون ـ عاجله وآجله اثنتا عشر أوقيةً ونَشَّاً ـ النَش من العملة المستعملة وقتها ـ هذه خطبة النكاح .
تحدث عن الخاطب ، عن أخلاقه ، عن نسبه ، عن شرفه ، عن مكانته ، وتحدَّث عن الزوجة المخطوبة ، عن كرمها ، وعن عظيم أخلاقها ، ثم تحدث عن المهر .
هذا المقدار أيها الأخوة مقدار المهر ، يتفق مع ما جاء في الحديث الصحيح ، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأل السيدة عائشة رضي الله عنها : ((كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتا عشرة أوقيةً ونَشَّا ـ الأوقية أربعون درهم ، والنَش نصف أوقية ـ ثم قالت : أتدري ما النش ؟ قال : قلت : لا . قالت : نصف أوقية ، فتلك خمسمئة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه))
[مسلم عن إسحاق بن إبراهيم]
استنتاجات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه بالسيدة خديجة :
أيها الأخوة الكرام الذي يعنينا من هذه السيرة أن نستنبط منها قواعد تعيننا على أن نستقيم على أمر الله وعلى أن نصل إليه ، فمن هذه الاستنتاجات من سيرة السيدة خديجة : 1 ـ الفضيلة التي تنطوي عليها لو لم تذكرها للناس يعرفها الناس :
أولاً : الفضيلة التي تنطوي عليها لو لم تذكرها للناس يعرفها الناس ، أنت لست بحاجةٍ إلى أن تُسَلِّط الأضواء على نفسك ، البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديَّان لا يموت ، النبي عليه الصلاة والسلام ما أُثر عنه أنه مدح نفسه ، ولا ذكر فضائله ، ولا شمائله ، ولا صدقه ، ولا أمانته ، ولكن الناس جميعاً عرفوا كل فضائله ، وعرفوا كل شمائله ، وقدَّروه أعظم تقدير ، لذلك ليس من الحكمة أن تمدح نفسك .
ميسرة رأى كل شيء ، وأنبأ خديجة بكل شيء ، وانتهى الأمر ، والله هو الحق ، ومعنى الحق الذي يظهر الحق ، ويكشف الحقائق ، هذه أول نقطة ، دع الناس يمدحونك ، أنت اصمت . (( يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرها ، قلت : بلى ، قال : طول الصمت وحسن الخلق ...))
[شعب الإيمان عن أنس]
كان عليه الصلاة والسلام يغلب عليه الصمت ، والفضائل ظاهرة ، والفضل لا يخفى على أحد ، والشمائل الطيبة لا تخفى على أحد ، أما إذا أنت ذكرتها وتباهيت فيها ، شك الناس في إخلاصك ، وفي مكانك عند الله عز وجل . 2 ـ أفضل شفاعةٍ أن تشفع بين اثنين في نكاح :

ثانياً : أفضل شفاعةٍ أن تشفع بين اثنين في نكاح ، فالإنسان بحق نفسه قد يكون ضعيف ، فإذا يسَّر الله لك أن تكون سبباً في زواجٍ مبارك ميمون ، هذا عمل طيِّب ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ (32)﴾
( سورة النور )
أنت يجب أن يكون مسعاك أن تعرِّف شاباً بقريبة لك ، أو قريبة بشاب ، العبرة أن تكون سبب بتأسيس بيت مسلم ، هذه نقطة ثانية .
3 ـ إذا الإنسان عُرِضَ عليه الخير ينبغي ألا يتأبَّى في ذلك :
ثالثاً : إذا الإنسان عُرِضَ عليه خير من دون طلبٍ ولا استشراف نفسٍ ، فرده ، فكأنما ردَّه على الله ، النبي كان أديباً جداً ، أول عرض قال : بلى ، والثاني قال : بلى ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، هناك نفوس مريضة ، تتأبى ، ترفض ، للرفض فقط ، حباً بالرفض ، فإذا الإنسان عُرِضَ عليه الخير ، مخلص ، جيِّد ، ينبغي ألا يتأبَّى في ذلك . 4 ـ النبي ما كان يفكر في الزواج لأنه لا يملك مالاً ولكن الله سبحانه إذا أعطى أدهش :
الشيء الأخير كما قلت قبل قليل أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يفكر في الزواج إطلاقاً ، السبب ليس بين يديه مالٌ يعينه على الزواج ، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الكريم ، وإذا أعطى أدهش ، لذلك : ما شكا أحدٌ ضيق ذات يده إلا قال له النبي : اذهب فتزوج . (( ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ ))
[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هناك أربع استنباطات في هذا الدرس تُستنبط من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه بالسيدة خديجة .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الجليلات, الصحابيات, سيرة


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
من قصص الصحابيات رضي الله عنهن السعيد ريآض سيرة الصحآبة رضوآن الله عليهم أجمعين 46 08-26-2020 01:39 PM
سيرة الائمة الاربعة السعيد ريآض الفتوحآت والشخصيآت الإسلآمية 12 05-28-2019 02:51 AM
نبذة عن شجرة الدر منال نور الهدى رِيَاض ضَوْءُ المَعرِفَة و التَارِيخ العربِي والعَالمِي 8 12-20-2016 04:38 PM
فندق عبارة عن عش فوق شجرة في غابة بالسويد محمد العتابي رِيَاض إبْنُ بَطُوطَة لِسْيَاحَة والسَفَر 7 09-26-2014 05:39 PM
شجرة تنتج 40 نوعا من الفاكهة محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 5 08-05-2014 02:07 PM


الساعة الآن 08:39 AM