حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض الآحاديث النبوية

ريآض الآحاديث النبوية آحاديث نبوية ، آحاديث الصحابة عن رسول الله وآحاديث قدسية

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 08-23-2018, 12:25 PM   #11



الصورة الرمزية آفراح
آفراح غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 20
 تاريخ التسجيل :  Sep 2012
 أخر زيارة : اليوم (01:48 PM)
 المشاركات : 15,156 [ + ]
 التقييم :  1818
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



جوزيت كل خير وبورك فيك
تحية


 
 توقيع : آفراح


كلمة شكر لا تفي حقك على الاهداء مصممتنا المبدعة سوالف احساس على الرمزية والتوقيع


رد مع اقتباس
قديم 08-23-2018, 01:02 PM   #12


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



تسلمين اختى افراح


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-23-2018, 01:10 PM   #13


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الحادى العاشر )

الموضوع : يا غلام انى اعلمك كلمات احفظ الله يحفظك





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، و زدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الحديث النبوي الشريف، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ:
(( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))
[رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]
وفي رواية غير الترمذي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (( يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))
[رواه الترمذي]
هذا الحديث الشريف ورد في باب المراقبة، و المراقبة أن تشعر أن الله سبحانه و تعالى يراقبك، واللهُ سبحانه و تعالى يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)﴾
[سورة النساء]
ويقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
[سورة الفجر]
و الإنسان إذا شعر أنه مراقب من إنسان انضبط أيما انضباط، فإذا كان الذي يراقبه لا يغيب عنه لحظة، لا في حله و لا في ترحاله، لا في جلوته و لا في خلوته ـ عندئذ يجب أن يكون الانضباط أشد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، سيدنا العبّاس من أصحاب رسول الله، و ابنُه من أصحاب رسول الله، فإذا ورد صحابيٌّ و أبوه تقول: رضي الله عنهما، قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا " معنى يوما يعني ساعة من يوم، و ليس معنى يوما أنه قضى خلف النبي يوما بكامله، يعني ساعة من يوم، واليوم من معانيها الدور، " فَقَالَ يَا غُلَامُ " و الغلام بين الطفولة وسن البلوغ، كل من لم يبلغ يسمى غلاما، فالصبي من حين يُفطم إلى سن البلوغ يسمى غلاما، و كان ابن عباس رضي الله عنه كانت سنه عشرا، فهو غلام، فقال عليه الصلاة و السلام: ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
أي إذا حفظت اللهَ في جوارحك، إذا غضّت هذه العين عن محارم الله، وإذا استنكفت هذه الأذن أن تسمع ما يغضب اللهَ عز وجل، وإذا انطلقت هذه اليدُ فيما يرضي الله، وإذا انطلقت رجلُ الإنسان إلى مكان فيه خير، إلى مجلس علم، إلى مسجد، إلى إصلاح بين اثنين، إذا كانت هذه الجوارح من عين و أذن و لسان و يد ورجل، إذا انطلقت هذه الجوارح، إذا انطلقت هذه الجوارح إلى طاعة الله عز وجل، أي إذا حفظت أمر الله عز وجل، و لم تخترقه عندئذ تولى الله سبحانه و تعالى حفظها من التلف و العطب، لذلك هذا الذي عاش سبعا و تسعين عاما، متمتعا بأعلى درجة من الصحة، سئل مرة: ما هذه الصحة يا سيدي ؟ فقال: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها اللهُ علينا في الكِبر " من عاش تقيا عاش نقيا، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
احفظه في كسب المال، أي راعِ أمره في كسب المال يحفظ لك المال، راع أمره في اختيار الزوجة يحفظ لك سعادتك الزوجية، من تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله، و من تزوجها لمالها أفقرها الله، ومن تزوجها لحسبها زاده لله دناءة، فعليك بذات الدين تربت يداك " إذا حفظت الله، أي حفظت أمر الله في شأن زواجك حفظ الله لك هذا الزواج من أن يتصدّع، من أن يصاب من الشقاء الزوجي، إذا حفظت الله عز وجل في كسب المال حفظ الله لك هذا المال، إذا حفظته في عينك حفظ الله لك عينك، إذا حفظته في سمعك حفظ الله لك سمعك، إذا حفظته في قوتك حفظ الله لك قوتك ومتّعك بها، حتى الموت، إذا حفظت الله في أيِّ شيء حفظك الله سبحانه و تعالى، و كان جزاء طاعته جزاء مقدَّما في الدنيا قبل الآخرة، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
من أبلغ كلمات النبي عليه الصلاة و السلام، احفظ الله في تعاملك مع الزبائن، لا تغشهم، لا تدلِّس عليهم، لا تستعل عليهم، لا تستغلهم، لا توهمهم أن هذه البضاعة لن تجدها بعد اليوم من أجل أن تأخذ سعرا عاليا، إذا حفظت الله عز وجل في علاقتك بزبائنك،أي راعيت في هذه العلاقة أمر الله عز وجل، حفظك الله سبحانه و تعالى من أن يدخل عليك رجل يجعلك ترتعد خوفا منه، طبعا، إذا حفظت الله يحفظك في بيعك و شرائك، في زواجك، في حواسك، في جوارحك، في كسب المال، في إنفاق المال، في كل حركاتك و سكناتك، إذا حفظت الله فإنه يحفظك، هل هناك قانون أوضح و أسهل من هذا القانون، ربنا عز وجل واضح جعل بينك و بينه قواعد ثابتة، إذا عاملت إنسانا ربما أحرجك هذا الإنسان، تقول: يا أخي والله يحير، فعلت كذا فلم يرض، فعلت كذا فلم يرض، اقتربت منه كثيرا فردَّني، ابتعدت منه فعاتبني، كيف التعاملُ معه ؟ لكنك إذا أردت أن تتعامل مع الله عز وجل فهناك مبادئ ثابتة في التعامل معه، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ))
هذا قانون فوق المكان والزمان، و فوق الظروف وفوق كل شيء، في أيِّ بيئة كنت، في أيِّ وضع، في أيِّ مجتمع،، في أيِّ وضع، في أيِّ أزمة، في أيِّ معطيات،((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ))
تعامل مع الله بالصدق يحفظك من كل مكروه:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحبنا
ولُذ بحمانا و احتمِ بجنابــنا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
أقول هذه الكلمات للأخوة الباعة، قد يدخل إنسان عليهم، يقول: واللهِ تبلاني، والله لم أعمل شيئا، كتبني ضبطا، فعليه شهران سجنا، أنا أقول للأخوة الباعة ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ))
عامل الناس معاملة مستقيمة، لا تغشهم، لا تحتكر قوتهم، لا تأخذ منهم فوق ما يجب، لا تغبنهم، ((غبن المسترسل ربا))
((غبن المسترسل حرام ))
لا تدرِّس عليهم، لا تهنهم، عالمهم معاملة ترضي الله عز وجل، احفظ الله في طريقة تعاملك مع هؤلاء فاللهُ سبحانه وتعالى يتولى حفظك من كل مكروه،((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
الحديث واسع جدا، يدور مع الناس في كل دورة، في أيِّ زمان، وفي أي مكان، في أيِّ نشاط، في أي حركة، في أي سكنة، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ " احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
معنى تجاهك تجده معك، هذه معية الله، فإذا كان الله معك فمن عليك، و إذا كان عليك فمن معك، إذا الواحد تمكّن يكسب معية الله عز وجل، أن يكون الله معه، وهل من قوة في الكون يخشاها إذا كان الله معه، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما،
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
[سورة المائدة]
معية الله أثمن ما في الدنيا، وهذه المعية مبذولة لكل مؤمن، كن مع الله تر الله معك، صاحب هذا المقام، هكذا يقول:
كن مع الله تر الله معك واترك الكلَّ وحاذر طمعك
و إذا أعطاك من يمنعك ثم من يعطي إذا ما منـعك
إنما أنت له عبد فـكن جاعلا في القرب منه ولعك
هذه ملة طه خذ بها، إذًا واللهِ حديث رائع جدا، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
احفظ الله في كسبك للمال، يعني احفظ أمر الله، لا تأكل مالا حراما، فالله يحفظ مالك، احفظ الله في بصرك، فالله يحفظ لك هذه العين، احفظ الله في أذنك، ((من استمع إلى صوت قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة))
احفظ الله في أذنك فالله يحفظها لك، احفظ الله في لسانك، تكلم بالحق، لا تغتر أحدا لا تمش بالنميمة، لا تمزح مزاحا رخيصا، لا تعوِّد لسانك الفحش، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))
[رواه أحمد]
((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ))
أنت لوحدك وسِّع في الحديث، وسِّع هذا الحديث حتى يشمل كلّ نشاطاتك، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ))
(( احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ))
أريد معنى " احفظ الله " أي احفظ في هذا الموضوع أمر الله، لا تنس أمر الله، حتى إن بعضهم يرى من معاني البسملة في بدء كل شيء ألاّ تنس أمر الله، إذا بسملت قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، أي تذكر أمر الله في هذا الموضوع، لكن الإنسان أحيانا يبسمل و لا يفقه معنى البسملة، يبسمل على أمر محرم، بسم الله الرحمن الرحيم، أي يجب أن تذكر أمر الله.
إِذَا ((سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ يقول عليه الصلاة و السلام: لا يخافن العبد إلا ذنبه و لا يرجون إلا ربَّه)) ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ))
لأن الله وحده هو المعطي وهو المانع، وهو المعزّ وهو المذلّ، وهو الرافع وهو الخافض، وهو القابض وهو الباسط إذا سألت غيره فهذا شرك، لأن غيره ليس في الإمكان أن يعطيك شيئا، ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ))، ((وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ))
لما الإنسان يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله عز وجل فربنا عز وجل يؤدِّبه، يخيِّب أمله من هذا الإنسان الذي استعان به، ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ))
وَإِذَا ((اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ))
ولا يمنع هذا من أن تسأل الناس من باب الأخذ بالأسباب، لا من باب الاعتماد عليهم،و التوكل عليهم، من باب الأخذ بالأسباب، ما دمت متيقِّنا أن الله بيده كل شيء، وأنه إذا شاء أعطاك وإذا شاء منعك، وما هذا الإنسان إلا واسطة، عندئذ يجوز أن تسأل الناس في حدود هذا المنطلق العقائدي، ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ))
وسبحان الله لما الإنسان تبقى له منافذ مفتوحة من بني البشر يكون دعاؤه فاترا، و استعانته بالله ضعيفة، فحتى تغلق جميع الأبواب الأرضية عندئذ تُفتح أبواب السماء، فالإنسان حتى يعينه ربُّنا على التوحيد يغلق له كل أبواب بني البشر، هذا يصده و هذا يعتذر وهذا يتنصل، إلى أن يقول: يا رب ليس لي إلا أنت، عندئذ يأتيه الجواب ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ))
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد،" لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ " أي بنو البشر، خمسة آلاف مليون لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا يستطيعون، إلا أن يأذن الله، إذًا علاقتك مع الله، ولا ينبغي أن تكون العلاقة مع غير الله عز وجل، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ" لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن كلمة الحق لا تقرب أجلا ولا تقطع رزقا))
الأمة كله" ((لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ))
أي هذه القوانين مقطوعة الصحة، لا تُبدَّل، ولا تعدَّل و لا تغيّر و لا تجمّد ولا يوقَف تنفيذها أبدا، هذه القوانين ثابتة في تعامل الله مع العباد، فلا تبحث عن قوانين أخرى، لا تبحث عن معطيات أخرى، هذا هو القانون الوحيد في تعامل الله مع البشر، ((احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ - أي معك -إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ))
هناك آيات تؤكِّد هذه المعاني ؟ نعم، قال تعالى:
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾
[سورة فاطر]
وقال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
[سورة هود]
هذه آيات تؤكد هذه المعاني، وفي رواية غير الترمذي، ((احفظ الله تجده أمامك)) واللهِ أكثر من أخ حكى لي أنه في بعض الأزمات الله عز وجل يهيِّئ له إنسانا في اللحظة الحرجة ينقذه، كيف أن الله عز وجل تجده أمامك، اللهُ سبحانه وتعالى مع كل إنسان، لكن تجده أمامك يبعث لك من بني البشر، من ينقذك في ساعة الشدة، من جاء بك في هذه الساعة ؟ اللهُ سبحانه و تعالى،
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾
[سورة طه]
فالرواية الأخرى "، ((احفظ الله تجده أمامك))
أي وأنت في توجهاتك إلى أعمالك قد تقع في أزمة
في ورطة، في موقف حرج، في مساءلة، في مشكلة، تجده أمامك، اللهُ عز وجل يسخِّر لك من خلقه الصالحين من ينقذك من هذه الورطة، ومن تعامل مع الله عز وجل بإخلاص وصدق يفقه معنى هذا الحديث، ((احفظ الله تجده أمامك))
تجاهك أي معك، هنا أمامك أي الله عز وجل يرسل لك من ينقذك.
(( تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ))
يا إخوان والله هذه كلمة مؤثرة جدا، الإنسان في حال صحته، و حال قوته، وحال شبابه، بحال غناه لا ينسى الله عز وجل، أكثر الناس الغنى يطغي
شاب ينسى أن هناك شيخوخة، وهناك خريف عمُر، زوج في ريعان شبابه ينسى أن هناك سنًّا يضعف فيها، فإذا ظلم هذه الزوجة وهو شاب ربما انتقم الله منه في سن متأخرة، فالإنسان إذا هو عرف الله عز وجل يكون حاله جيِّدا، لكن إذا عرفه بعد الشدة و بعد الضيق، أو عرفه في خريف العمر، بعد فوات الأوان، أو عرفه في سن متأخرة، بعدما ضيّع ماله و ضيَّع شبابه، و ضيَّع صحته، لذلك الإنسان السعيد من عرف اللهَ وهو شاب، في مقتبل العمر، لأنه سيعيش حياة مديدة فيها استقرار، فيها توازن، فيها معرفة، فيها نوم، فيها رقي إلى الله عز وجل، على كلٍّ كلُّ إنسان عرف الله يشكر الله عز وجل، أي إذا عرفه ولو في شن متأخرة نعمة كبيرة لكن الكلام موجّه للشباب، أي أنت أيها الشاب مهيَّأ، وربُّنا عز وجل لأنه علِم فيك الخير جعلك تسمع الحقَّ،
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾
[سورة الأنفال]
وها أنت قد سمعت الحق، سمعت كلام الله عز وجل، سمعت حديث رسول الله، فهذه فرصة لا تُعوَّض.
(( تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّة ))
الدعاء الكريم " اللهم اجعل خير عمرنا آخرها، و خير أيامنا يوم نلقاك"((وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِأَكَ " أي الأمور تجري بقضاء و قدر، قال عليه الصلاة و السلام: القضاء و القدر نظام التوحيد ))
((والإيمان بالقدر يذهب الهم و الحزن))
كل شيء وقع أراده الله، انتهى الأمر هناك أزمات نفسية تطحن الإنسان سببها الشرك، إذا آمنت أن الله بيده كل شيء، و أن كل شيء وقع أراده الله، وأن هذه الإرادة متعلقة بحكمة الله البالغة، و أن حكمة الله البالغة متعلقة بالخير المطلق انتهى الأمر، و انتهى كل شيء، لذلك بعض الأزمان، وبعض المشكلات هي مؤلمة و لكن وقْعها مع التوحيد يأتي مخفّفا جدا، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ ))
[رواه أحمد]
(( وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ))
من أجل علامة ذهبت البعثة منه، من أجل يوم تأخرت ذهب البيت، أخذنا دفتر العائلة، ثاني يوم واللهِ قلبوا الجماعة، معنى ذلك ليس لك نصيب، القضية سهلة جدا بالتوحيد سهلة، لكن من دون توحيد مشكلة، شيء أحيانا بيعك يفقس، أحيانا بيت تطمع فيه فيذهب من يدك، قد يكون في حيٍّ لا يناسبك، ربنا عز وجل رحمة بك صرفه عنك، سفرة لسبب تافه، نسيت أن تحضر الوثيقة الفلانية مُنعت من السفر، قد يكون السفرُ لا يناسبك، أنت استسلِم لله عز وجل،(( وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِأَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))
الصبر ثمين، الصبر معرفة، الصبر معنى ذلك أن هذا العبد عرف الله، فعرف أن الأمر كله بيده، و عرف أن الله سبحانه و تعالى لا يقضي لعباده إلا بالخير، لذلك هو صابر، والإيمان نصفه صبر، و نصفه شكر، والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبرُ ذهب الإيمان، ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " هذه الأقوال))
وهذه الأحاديث مطمئنة، أي يظهر أن الله عز وجل متى ينصر الإنسان ؟ حينما يصبر، حينما يصبر يكون الصبر ثمنَ النصر، ومتى يفرِّج عنه ؟ حينما يتحمَل الكرب في سبيل الله، ومتى يُيسِّر له أمره ؟ حينما يرى العسرَ من قضاء الله وقدره، فكلمات مطمئنة جدا، ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))
يفيد هذا الحديث تحريم سؤال غير الله تعالى، ويفيد هذا الحديث أيضا أن ما أقره الله في الكتاب الكريم لا يتبدّل و لا يتغيّر ولا يعدّل و لا يوقف ولا يطرأ عليه شيءٌ من هذا القبيل، و يفيد هذا الحديث أن الفرَج يقترن مع الكرب، و أن اليسر مع العسر، و أن النصر مع الصبر، و أن هذا الحديث يدل على مراقبة الله عز وجل، لهذا ورد هذا الحديث في باب مراقبة الله سبحانه و تعالى، هذا الحديث من أصول الأحاديث الشريفة، إذا حفظه الإنسان كما قلت لكم من قبل: تلقي العلم سهل، لكن تلقي العلم و تثبيته و امتلاكه ثم نقله للآخرين عمل عظيم، أنت حضرت في هذا المسجد سنة سنتين ثلاثا، آن الأوان تنتقل من طور التلقي إلى طور العطاء، فلما كتب الأخُ الحديثَ و سمع شرحه، و جلس جلسة مع أهله، مع أصدقائه، مع جيرانه، حاول أن يتفكّر الشرح، فالكتابة و التذكر و الإلقاء يثبت معاني هذا الحديث، فإذا أنت تمتلك هذا الحديث نصا و معنى، فإذا جلست مع أخ في بيتك، في عملك، في محلك التجاري، في مكتبة، مسافر، صديقك، زميلك، مع زوجتك، مع أولادك، إذا شرحت لهم هذا الحديث لعل الله عز وجل ينفع بك، لعل إنسانا يتوب على يديك من خلال هذا الحديث، فالإنسان لا يكتفي بالسماع، لا يكتفي بالتلقي، هذا اسمه.....
لاحظت أنه من وقت ما بدأت ألقي الدرس قبل ساعة من أذان العشاء، صار هناك تأخر شديد، صار حتى يكتمل العدد بعد ربع ساعة أو نصف ساعة، لعل تأتي نفحة من نفحات الله عز وجل يعني حضرت و حضرت، جئت و جئت، تركت عملك و تركت عملك، فالأفضل أن يكون الدرسُ كاملا، درسنا لطيف جدا، خمسون دقيقة، أكثر لا يزاوم، فالبركة في أول الدرس، فالذي أتمناه عليكم أن الإنسان يكون حريصا على المجيء في أول الدرس، فقد يكون فيه شرح دقيق جدا فاته، هذه واحدة، و حريص مرة ثانية أن يكون مع كل أخ دفتر يكتب الأحاديث، بعد سنة أو أكثر أو أقلّ يجد معه دفترا ثمينا، فيه مجموعة من الأحاديث الشريفة الصحيحة، وقد سمع شرحها، فإذا كان حاول خلال الأسبوع أن يذاكر شرحها مع إخوانه، مع أصدقئه، مع من حضر هذا الدرس كما تحدثنا عن المذاكرة فتثبت الحديث، و تثبت نصُّه، و تثبت معناه، امتلك تفسيره، انتقل من دور التلقي إلى دور العطاء، واللهِ إذا ما تمنى الإنسان أن يكون أخوه مثلَه لا يكون مخلصا، لا بد أن يكون كلُّ أخ مثلَ أيِّ مؤمن متفوِّق، لا يكون الأخ طامعا و راضيا بمرتبة دنيا، أخي أريد وراء الباب، اطلب الصدر،
﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
[سورة المطففين]
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
[سورة الصافات]
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
[سورة يونس]
فأنا الذي أرجوه أنه لما الإنسان الله عز وجل يقدِّر على يده هدى إنسان خير له من تجارة عريضة من أموال الدنيا، من حطام الدنيا، والحديث الشريف واضح، عَنْ سَهْلٌ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَبَاتَ النَّاسُ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَى فَغَدَوْا كُلُّهُمْ يَرْجُوهُ فَقَالَ أَيْنَ عَلِيٌّ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))
[رواه البخاري]
خير لك من حمر النعم، خير لك من الدنيا وما فيها، العلم لا بد له من مذاكرة، لابد له من كتابة، ولا بد له من مراجعة، ولا بد له من مذاكرة، وأنا حريص حرصا بالغا على أن تذاكروا درسي الجمعة و الأحد، مثلما قلنا مع إخوانكم، مع أصدقائكم، مع جيرانكم، مع قرابتكم، مع أهلكم، لا بد من جلسة في هذا الأسبوع نتذاكر فيها درس الحاجبية و درس النابلسي، وإذا الواحد معه دفتر أفضل بكثير، صار معه ذخيرة، أخي واللهِ صار لك بالمسجد عشر سنين، ماذا تعلمت، واللهِ الدروس كلها حلوة، حفظت شيئا، واللهِ لا أتذكّر شيئا، ما هذا العلم ؟ النبي عليه الصلاة و السلام قال، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمِّهْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ(( قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ))
[رواه الدارمي]
إذا لم تقيِّده يضيع منك، إعجاب إعجَاب إعجاب و بعده لا شيء، تفضّل احكها، عندما الإنسان ينطلق بالدعوة إلى الله يدخل في سعادة كبيرة جدا، يرى نفسه إنسانا حقيقيا، أي حقّق إنسانيته، الله عز وجل راض عنه و سيشكره، لأنه نقل له إنسانا من الضلال إلى الهدى، من الضياع إلى الهداية، من الشقاء إلى السعادة، عندئذ الله سبحانه و تعالى يشكرك، فصار معنا المذاكرة و الحضور باكرا و الكتابة، والأخوة في الله، أريد كل أخ يتفقّد أخ، إذا كان غاب، فلان غاب، لعله يكون مريضا، عِنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))
[رواه البخاري]
إذا كل واحد أخذ على عاتقه يتولى أخا، يؤاخي أخا في الله يتفقد بعضهم، فلان سافر، خير إن شاء الله، فلان مرض، نزوره، فلان بحاجة إلى مساعدة، فلان يكسو بيته، كل واحد له مشكلة، إذا شعر الأخ أن إخوانه حوله يدًا واحدة يزداد ارتباطه بالإيمان.
هذا الحديث هو المقرّر في هذا الدرس، والآن الصحابة الكرام تحدثنا عنهم خلال سنتين أو أكثر، وتحدثنا خلال عام عن التابعين الأجلاء، لكن إلى الآن ما تحدثنا عن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، سيدنا الصديق، و سيدنا عمر، وسيدنا عثمان و سيدنا علي، وخامس الخلفاء الراشدين سيدنا عمر بن عبد العزيز، والسادس يقولون: صلاح الدين الأيوبي، على كلٍّ نحن سنبدأ في هذه الدروس الحديث عن الأربعة الراشدين رضوان الله عليهم.
سيدنا الصديق رضي الله عنه كان في تجارة في الشام، وقد مضى زمن طويل منذ غادر مكة إلى الشام، خطر في بال هذا لرجل العظيم ماذا جدَّ من أمور في مكة المكرمة، الشام تذهب بعيدا بعيد، و مكة تقبل حثيثا، هو الآن في طريق إلى مكة، و أخيرا تطل مشارف الوطن و عبير الأهل، وعند تلك المشار فكانت كوكبة من الناس تنتظر، لقد بصروا بالقافلة من فوق ذرى الجبل، فتنادوا و تجمعوا لاستقبالها، و كلما اقتربت القافلة من المنتظرين أحست منهم لغطا كثيرا و اضطرابا، تُرى ماذا حدث ؟ سيدنا الصديق كان بالشام، وفي طريق العودة شعر أن شيئا ما حدثَ حدث في مكة، فلما شارفت قافلته مشارف مكة شعر أن هناك لغطا وهناك حدثا كبيرا، والتقى القادمون و المستقبلون في عناق و مودة، و تعالت الأصوات بالجديد الغريب من الأنباء، ألا تعملون: إن قريشا منذ فارقتموها لا تنام الليل، ويح قريش، و لماذا لا تنام الليل، إن محمدا وضع الجمر على أنفها، الجمر، كيف، و ماذا جرى ؟ إنه يقول: إن الله أرسله لنعبده وحده ونذر آلهتنا، هذا حدث ضخم جدا بغياب سيدنا الصديق، وهمس واحد ممن تستهويه الفكاهة، دعه يحطِّمها، فطالما زاحمتنا في أكل الثريد و شرب اللبن، و اقترب من أبي بكر بعض من ذوي الأناة و أخذ يقص عليه النبأ في هدوء، وأبو بكر يغالب دموعه، يبكي فرحا بهذا النبأ، و كأنه يتوقعه، و كأنه ينتظره، ولدى مدخل مكة قابلتهم جماعة صغيرة يتقدمها أبو جهل، عمرو بن هشام، وتعانقوا جميعا، و بدأ أبو جهل الحديث، أو حدّثوك عن صاحبك يا عتيق ؟ سيدنا الصديق كان اسمه في الجاهلية عتيقا، أو حدّثوك عن صاحبك يا عتيق ؟ فقال أبو بكر: تعني محمدا الأمين ؟ قال أبو جهل: نعم، أعني يتيم بني هاشم، ودار حوار سريع بين الاثنين، أسمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام ؟ قال: نعم سمعت، و سمعه الناس جميعا وماذا يقول ؟ يقول: إن في السماء إلها أرسله إلينا لنعبده ونذر ما كان يعبد آباؤنا، أو قال: إن الله أوحى إليه ؟ أو قال محمد لكم: إن الله أوحى إليه ؟ هو الآن يتلقى الأخبار لا من النبي الكريم، بل من الناس، قل: أجل، ألم يقل لكم كيف كلّمه ربُّه، قال: إن جبريل أتاه في غار حراء، و تألق وجه سيدنا الصديق كأنه الشمس، قد اختصته آنئذ بكل ضيائها وسناها، و قال في هدوء مجلجل هذه الكلمة: لو لم يكن له في حياته إلا هذه الكلمة لكفته، قال في هدوء مجلجل: إن كان قال فقد صدق، هكذا قال، و لم يلتق بعدُ بالنبيّ، جاء إلى مكة من بلاد الشام وفي الطريق التقى مع جماعات من قريش، قال: ودارت الأرض بأبي جهل، و تلعثمت خطواتُه، و كاد جسمه يتهاوى فوق ساقيه الهزيلتين، و تناقل الناس كلمة أبي بكر رضي الله عنه من واحد لآخر، حتى صار لهم بها دويٌّ كدوي النحل، إن كان قال فقد صدق، وقصد أبو بكر داره ليرى أهله و ينفض عنه وعثاء السفر، وبعدها يقضي الله أمرا كان مفعولا.
الآن هذا الصحابي الجليل هو في داره و بين أهله، وهذه الكلمة الفذة التي قالها: " إن كان قال فقد صدق " هي العبارة المكينة الوضيئة التي سوف تشكِّل حياته كلها، وتجعل من صاحبها أستاذا للبشرية في فن الإيمان، إن موضوع الرسالة لم يكن جديدا على أبي بكر، فهو بكل ما معه من ذكاء و فطرة و منطق قد قلَّب كل وجوه النظر السديد في هذه القضية، وانتهى إلى أن الله لن يترك عباده حيارى، تفكيره السديد قاده إلى أن الله سبحانه و تعالى لن يترك عباده هكذا في ضلال حيارى، فلما جاء نبأ الرسالة تستبشر، وهو بكل مات معه من ذكاء و فطرة و منطق، كان خبيرا بالرجال، لقد اش مع محمد سنوات طوال، ورأى فيه النموذج الحي للإنسان الكامل، الله عز وجل يستحيل أن يدع عباده حيارى، وهذا الإنسان الكامل أهل لهذه الرسالة، وهكذا لم يكد يتلقى سمعُه النبأَ العظيم حتى كان إيمانه الذكي مهيّأ ليأخذ دوره من فوره، إن كان قال فقد صدق، هو ينتظر هذا الخبر، كـأنه مهيّأ لقبوله، كأنه ينتظره على أحر من الجمر، قال فيما بينه وبين نفسه: محمد ما أطهر هذا الاسم، وما أعظمه أربعون عاما عاشها بين الناس قبل أن يجيء هذا اليوم الذي اختير فيه أن يبلِّغ كلمة الله، أربعون كاملة لم يخن خلالها أمانة، ولم يزيِّف كلمة، و لم يكذب قط و لو مازحا، لم تأخذه عن الطهر نزوزة، ولا عن العظمة دنية، لم يُر قد إلا عظيما، وكفؤا لكل عظيم، منذ كان طفلا يدعو أترابه إلى مشاركتهم في اللعب فيلوي عطفه و يقول: لم أُخلق لهذا، كلما دعي النبي عليه الصلاة و السلام أن يلهو مع أترابه كان يقول: لم أُخلق لهذا، وقريش ما كانت هازلة و لا مجامِلة و لا متفضلة حين خلعت عليه لقب الأمين، بل كانت بهذا ترفع بقدر نفسه، و تباهي من حولها من قبائل العرب بهذا الي ارتفع في سِنّ مبكِّرة إلى أعلى مستويات الأمانة، لا أمانة المال وحده، و لا أمانة الودائع وحدها، بل الأمانة على كل ما في الحياة من قيم و مثُل و مستويات،و الآن يكذب محمد، مستحيل، إن كان قال فقد صدق، كل هذا الطهر، وكل هذه الأمانة، هذا الصدق، هذا للعفاف، هذه الرفعة، هذه العظمة، هذا الترفع عن الدنايا، و يكذب الآن، استنباط منطقي، إن قال هذا فقد صدق، قبل أن يلتقي به، عامله أربعين عاما.
وبعد أن مكث مع أهله قليلا توجه إلى بيت سيدنا محمد، غادر أبو بكر داره إلى دار النبيّ عليه الصلاة و السلام تسبقه أشواقه، و كان عليه الصلاة و السلام مقيما في داره مع زوجته خديجة رضي الله عنها، خديجة التي كانت أول العالمين إسلاما معه و إيمانا، أول امرأة و طالما سمعت هي الأخرى من قريبها ورقة بن نوفل تراتيل الحنين غلى النبي المقبِل، ولقد عرفت محمدا زميلا لها في التجارة، عرفته بعلا و زوجا، فما رأت سلوكا أطهر و لا قلبا أكبر ولا عقلا أرجح، و لا صدقا أعظم مما رأت من محمد، من أجل هذا لم يكد النبيُّ عليه الصلاة و السلام يحدثها عن النعمة التي أفاءها الله عليه بالوحي حتى قالت من كل يقيبنها: صدقت يا محمد، ولقد اختارها الله على علم لتكون شريكة رسول الله صلى الله عليه و سلم حين يتنزل عليه الوحي بجلاله و أثقاله، وهيبته و رهبته، وكان مع خديجة فتىً ممشوقا هو عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، و كان النبي صلوات الله عليه قد ضمّه إليه من عهد بعيد حين نزلت بعمِّه ضائقة، وبقي معه، فلما جاءه الوحيُ سارع هذا الفتى إلى الإيمان به، إذًا أول من آمن به خديجة، و بعدها سيدنا علي، سيدنا الصديق آمن به غيابيا، قرع أبو بكر الباب و نادى، و تألق بشر الحياة جميعه، على محيّا النبي عليه الصلاة و السلام، و قال مناديا خديجة: إنه عتيق يا خديجة، وسارع النبي عليه الصلاة و السلام إلى لقاء صاحبه، وجرى الحديث بينهما في مثل سرعة الضوء، قال أبوبكر: أصحيح ما أنبأني به القوم يا أخا العرب ؟ فأجاب النبي سائلا: وماذا أنبؤوك ؟ دقق في السؤال، قالوا: إن الله أرسلك إلينا لنعبده، و لا نشرك به شيئا، فقال النبي الكريم: وما ذا كان جوبك لهم يا عتيق ؟ قلت لهم: إن كان قال فقد صدق، وفاضت عينا النبي بالدموع غبطة و شكرا، وعانق صاحبه، و قبّل جبينه، و مضى يحدّث كيف جاءه الوحي في غار حراء قائلا:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
[سورة العلق]
وخفض أبو بكر رأسه في خشوع وتقوى تحية لراية الله عز وجل التي ترتفع أمامه إلى أعلى السارية متمثلة في هذه الآيات المنزلة، ثم رفع رأسه و شدّ بكلتا يديه على يمين رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: أشهد أنك صادق أمين، أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله، هذا أول عهد الإسلام.
النبي عليه الصلاة و السلام فرح بهذا الصدِّيق، لكن هذا الصدِّيق خرج من عند النبي وعاد إليه بعد هنينة و معه خمسة من أوائل أصحاب رسول الله، انظر إلى هذا النشاط، أسلم الرجل وفي زيارته التالية لرسول الله صلى الله عليه و سلم لم يمكن وحده، بل كان معه وفي صحبته خمسةٌ من أشراف قريش، أقنعهم أبو بكر بالإسلام، فجاءوا يبايعون النبيَّ صلى الله عليه و سلم، وهو عثمان بن عفان و الزبير بن العوام و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله، السيدة خديجة وسيدنا عليّ وسيدنا الصديق وسيدنا عثمان و الزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله.
والنبي عليه الصلاة والسلام تحدث عن هذا الصدِّيق فقال: اسمعوا هذا الكلام، هذه أعظم شهادة، قال: ما لأحد علينا يد - أي نعمة - إلا و قد كافأناه بها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يكافئه الله بها يوم القيامة، أعظم عمل، وما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر، وما عرضا الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة - دأرة - عدا أبي بكر فإنه لم يتلعثم، إن قال هذا فقد صدق، هذا المثل، لذلك قال عليه الصلاة و السلام: تسابقت أنا وأبو بكر فكنا كهاتين، قال: ما ساءني قط فاحفظوا له ذلك...." عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ))
[رواه البخاري]
باب في المسجد، هذا الإيمان، قال:(( لو وزن إيمان الخلق مع إيمان أبي بكر لرجح))
والله فعل المعجزات، إن شاء الله في الدروس القادمة المؤرخون الكبار يعدُّن هذا الصحابي الجليل المؤسِّس الثاني للإسلام، لولا مواقفه الإيمانية الرائعة لما كان الإسلام، هذا كله إن شاء الله في الدروس القادمة نتحدث عنه، و لكن هذه بدايات الإسلام، كان مسافرا، ثم عاد، قبل أن يلتقي بالنبي سمع الخبر، سيدنا رسول الله أول من عرض الإسلام السيدة خديجة، سيدنا علي، سيدنا الصديق، هؤلاء الصحابة الخمسة، فالإنسان يكون سبّاقا، و لا يكن متخلفا.
الحمد لله رب العالمين، و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم ارفعنا بالعلم و زينا بالحلم و أكرمنا بالتقوى و جمِّلنا بالعافية، وطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء و ألسنتنا من الكذب و أعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مباركا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل فينا ولا منا و لا معنا شقيا و لا محروما، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله و صحبه وسلم


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 08-23-2018, 01:16 PM   #14


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الثانى العاشر )

الموضوع : ان ثلاثة من بنى اسرائيل ابرص و اقرع واعمى اراد الله ان يبتليهم






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، و زدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الحديث النبوي الشريف، الحديث طويل جدا لا مجال لكتابته يُرجع إليه في كتب الحديث، طبعا الحديث يعالج قضية تمس حياة كل واحد منا، ما من واحد منا إلا وله من هذه الدنيا نصيب، له من الشكل نصيب، هناك الوسيم، وهناك الممشوق وهناك الرشيق، وهناك الدميم، وهناك من فيه الحسن مجتمعة، ومن فيه القبح مجتمعة، ما من واحد منا إلا وله من الحسن نصيب، ومن الصحة نصيب، هناك صحيح الجسم، قويّ البنية، و هناك معتل الجسم، معتل الصحة، ما من واحد منا إلا وله من القوة نصيب، سواء أكانت قوة عضلية أو قوة اجتماعية أو قوة مادية أو قوة معنوية، فالصحة والمرض و الجمال و القبح والقوة و الضعف والغنى و الفقر و الزوجة الصالحة و الزوجة الطالحة و الأولاد الأبرار و الأولاد الأشرار، والعمل المريح و العلم الشقي، والعمل كثير الدخل، والعمل قليل الدخل، فما من واحد منا إلا وله نصيب، ومن رضي بما قسمه الله له كان أإنى الناس، ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، الموضوع لماذا هو دقيق ؟ لأن سر الإيمان بالله أن ترضى عن الله، أن ترضى عما أعطاك من شكل و من زوجة ومن أولاد ومن بيت ومن عمل، دخل محدود، دخل غير محدود، صحة طيبة، صحة معلولة، من أسرة غنية، من أسرة فقيرة، قوي، ضعيف، في وظيفة رفيعة، في وظيفة متدنية، في عمل متعِب، في عمل مريح، هذه حظوظ، و لا شك أن الحظوظ متفاوتة، أما إذا كنت مؤمنا حقا فإنك ترى كما قال الإمام أبو حامد الغزالي: ليس بالإمكان أبدع مما كان " ليس في إمكان الله، حاشا، ليس في إمكانك أيها العبد أبدع مما أعطاك، لذلك يوم يُكشف الغطاء و يصبح بصرك حديدا لا تملك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين على أن جعلتني معلول الصحة في الحياة الدنيا، على أن سقت إليّ بعض الشدائد، على أن ضيّقت عليّ في الرزق، على أن جعلت لي هذه الزوجة التي أرتني نجوم الظهر، فربما كانت الزوجة السيئة لمصلحة إيمانك، و ربما كان الدخل القليل دفعا لك إلى الله، وربما كان القهر و الضعف و أن تكون مستضعفا في الأرض لا أن تكون قويا ربما كان هذا دافعا لك إلى أن تبلغ الدرجات العلى، ولا تنسوا أن النبي عليه الصلاة و السلام أذاقه الله كل شيء، لمذا كان قدوة لنا ؟ لأن الله سبحانه و تعالى أذاقه طعم الفقر، دخل إلى بيته و ما من. واحد منكم و أنا متأكد أصابته هذه الحالة، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:

(( دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ))
[رواه مسلم]
هل في بيت واحد من الناس في هذا البلد الكريم بيت ليس فيه طعام ؟ مستحيل، فقال: إني صائم، وأذاقه الله لذة الغنى، فقال: لمن هذا الوادي يا رسول الله ؟ قال: هو لك، فقال: أشهد أنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أذاقه قوة النصر، فتح مكة، فدخلها مطأطئ الرأس تواضعا لله عز وجل، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وأذاقه مرارة القهر في الطائف، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، أذاقه طعم التيُتم، يتم الأبوين، يتم الأب و يتم الأم، و أذاقه موت الولد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:َ ((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
[رواه البخاري]
هذا الحزن المقدّس، أما الذي يضرب وجهه و يصرخ بويله، ويمزق ثيابه هذا ليس من الإسلام في شيء، و أذاقه تطليق بناته نكاية به، اثنان من أصهاره طلقا بنتيه نكاية به، وأذاقه أن يقول الناس عن زوجته عائشة الطاهرة أذاقه أن يقول الناس عنها كلاما لا يرضيه،
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
[سورة النور]
﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)﴾
[سورة النور]
من منا يحتمل أن يقال عن زوجته إنها زانية، من منا يحتمل ؟ ولو تتبعتمك سيرته الطاهرة لوجدتم ما من حال يصيب الإنسان إلا و أصاب النبي عليه الصلاة و السلام ليكون لنا قدوة، أتحب أن تكون نبيا ملكا، قال: بل نبيا عبدا، أجوع يوما فأذكره، و أشبع يوما فأشكره، لهذا قال الله عز وجل:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)﴾
[سورة الأحزاب]
لك به أسوة، أبٌ مثالي، أخ مثالي، قريب مثالي، جار مثالي، قائد مثالي، حاكم مثالي، أمير مثالي، اللهم صلِّ عليه،
وأحسن منكَ لم تر قط عيني وأجمل منكَ لم تلد النساءُ
خُلقت مبرأً من كل عيــب كأنك قد خلقت كما تشاءُ

كل واحد منا له من الله نصيب، الله جعله فقيرا، بذلَ بذل و أخذ شهادات عليها، توظف، دخله محدود لا يكفي خمسة أيام، مصروفه بدقة بالغة، بتقتير و حرص شديد، و إنسان يأتيه المالُ من دون حساب، هذا حظه من المال قليل، وهذا حظه من المال كثير، إنسان ضعيف مستقهر مقهور، و إنسان قوي بيده مقاليد بعض الأمور، هذا حظه من القوة كثير، وهذا حظه من الضعف كثير، أو من القوة قليل، إنسان حظه من الصحة كبير، وهذا حظه من الصحة يسير، فاختلاف الحظوظ هذا اختلاف ابتلاء يا إخوان، الفقير مادة امتحانه الفقر، والغني مادة امتحانه الغنى، و القوي مادية امتحانه القوة، والضعيف مادة امتحانه الضعف مادة امتحان أسئلة فإذا نجح الفقير و سقط الغني جاء يوم القيامة فسعِد الفقير لأنه نجح في مادة امتحانه فسعد بهذا النجاح إلى الأبد، وإذا سقط الغني في امتحانه فكان متكبرا وكان بخيلا أو قبض يده عن الناس، الآن عندنا قصة، هذه القصة لها علاقة بهذه المقدمة.
أريد أن أؤكد لكم أيها الإخوة أن الناس في الأرض متفاوتون في أنصبتهم من الله عز وجل، متفاوتون في حظوظهم، هذا لتفاوت يجري وفق حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، و خبرة ما بعدها خبرة، فلو كُشِف لك الغطاء لاخترت الواقع و لا زدتَ على أن قلت: الحمد لله رب العالمين، فالنبي الكريم يقول
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ))
[رواه الترمذي]
أحيانا الزوجة السيئة دافع إلى الله، هناك إنسان لا يتحمل زوجة صالحة، جمعت بين الجمال و الكمال والعلم و الثقافة و الحسب و النسب و الغنى، يعبدها من دون الله، يجعله له زوجة، يرتاح منها و يأتي إلى المسجد، لا يريد هذه الزوجة، ربما كانت كذلك، و ربما كانت هذه الزوجة الصالحة هي التي أخذت بيده إلى الله عز وجل، يكون الزوج ورعه ضعيفا، نفسه تواقة للدنيا، تأتيه زوجة ورعة، ولية من وليات الله الصالحات، تحضُّه على الصلاة و على قيام الليل و على الذكر وعلى الاستقامة و على...، تهيئ له الجو المناسب، تكون هذه الزوجة عونا لزوجتها إلى الله عز وجل، فالحظوظ متفاوتة، لو أمعنت النظر لرأيت أن الذي قسمه الله لك وراءه حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، و خبيرة ما بعدها خبرة، و ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولو كشف الغطاء لاخترت الواقع.
((فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ ثَلَاثَةً - ثلاثة اسم إنّ، فــ " أبرص بدل بعض من كل - فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى))
لو قلنا: ثلاثةٌ من بني إسرائيل أبرص و أقرعُ وأعمى، لو قلنا من ثلاثةٍ من بني إسرائيل أبرص ممنوع من الصرف، وأقرع أيضا ممنوع وأعمى ((فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ))
الملِك غير الملَك، الملِك بالكسر معروف، و الملَك معروف، وفي الفاتحة هناك مالك يوم الدين و ملك يوم الدين، وقال بعض المفسرين: المالِك هو الذي يملك و لا يحكم، والملك هو الذي يحكم و لا يملك، والله مالك و ملك، يملك و يحكم - فَأَتَى الْأَبْرَصَ - الأبرصَ مفعول به، (( فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي الّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَن))
أحيانا يكون إنسان يتمنى أن يكون لونه أفتح، ولا سيما بعض النساء، لو كان على أفتح بالناقص غطسة من هذه الحلة، يتمنون، الله عز وجل حكيم، هي من هذا متكبرة، بهذا اللون متكبرة، فكيف لو كان على أفتح ((وَجِلْدًا حَسَنًا فَقَالَ أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ))
شك الراوي، قال الراوي: حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه من كان فيه خصلتان دخل الجنة ؛ أما الأولى فقد نسيها الراوي، أما الثانية فقد نسيتها أنا، لم يقل لنا شيئا إذًا، فهنا الراوي شك قال: الإبل أو البقر، ((هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ))
أي كبيرة ولاّدة (( فَقَالَ بَارَكُ لَكَ فِيهَا فَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنه وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ قَالَ فَأَعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا وَقَالَ بَارَكُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ فَأَعْطِيَ شَاةً وَالِدًا))
هذا ملَك أراد أن يمتحن هؤلاء الثلاثة ؛ الأبرص و الأعمى والأقرع –(( فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ البَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الغَنَمِ ))- أي كانوا فقراء تعساء منبوذين، فمنحهم الله عز وجل، هذا منحه جلدا حسنا، وهذا شعرا حسنا، وهذا كشف الله عماه فجعله مبصرا، وفوق هذا و ذاك أعطى الأولَ واديًا من الإبل، والثاني أعطاه واديا من الغنم، والثالث واديا من البقر، هذا الملَك نفسُه ((ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ))
بعدما صار جميل الصورة جذَّابا ملء السمع والبصر - فَقَالَ - هذا الملَكُ عن نفسه (( رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ - ليس معه النقد - فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ لَقَدْ وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا - قال له: هذا المال ورثته كابرا عن كابر، ولا أذكر أنني كنت كذلك - فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ - أي خذ مهما بدا لك، خذ كل المال و أنا طيب النفس - فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ))
[متفق عليه]
امتحان، واللهِ الذي لا إله إلا هو ما من واحد منا إلا و يُمتحن في اليوم مئات المرات وهو لا يشعر، يُسأل حاجة، يُسل بجاهه و قد يكون له جاه، يُسأل بماله و قد يكون له مال، يُسأل بقوته و قد يكون له قوة، فإما أن يعطي و إما أن يبخل، فمن يبخل فإنما يبخل على نفسه، و من يبخل فإنما يمهِّد لنفسه، فالإنسان إذا آتاه الله عز وجل مالا، آتاه صحة، آتاه علما، آتاه حنكة، آتاه حكمة آتاه خبرة في موضوع معيّن، آتاه جاها، يجب أن يبذل هذا كله في سبيل الله وإلا تصدق عليه هذه القصة فيكون كالأبرص و كالأقرع، فإذا أعطى مما أعطاه الله يكون مثل هذا الذي رضي الله عنه، فشكر نعمة الله عز وجل، فالإنسان لا يضن و لو طُرق باباك الساعة الثانية عشر ليلا، طلب منك أن توصل مريضا بسيارتك، يا أخي البنزين غالي، على الله ليس غاليا، إذا أعطاك يطلبك، لا تقول: غالي، اخدم الناس، واحد مؤمن صادق قال لك: دين لي مبلغا، تعرفه يؤدي الذي عليه، وأنت معك، لا تقل: ليس معي نقديات، قل له: تكرم، كتبه وصلا، كتبه إيصالا رسميا، إذا كنت تثق به
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
[سورة البقرة]
واللهِ هذه الآية إذا تمعّن فيها الإنسان يذوب، الله يطلب منك القرض، تردّ الله عز وجل:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾
[سورة البقرة]
سمعت ببعض أحياء دمشق القديمة بيت عربي فيه ليمونة، تحمل أربعمائة إلى خمسمائة ليمونة، كلما دُقّ الباب،: " بالله ليمونة، توفت الأم جاءت الكنة، دق الباب، " وراحوا ليس عندنا ليمون، يبست الليمونة، لا تتم أساسا، أحيانا ربنا يعطيك لتعطيه، فإذا بخلت منع عنك، إذا الإنسان متمع بنعمة حينما يبذلها يقره الله عليها، فإذا بخل بها حرمه الله منها، ابن آدم أنفِق أُنفق عليك، أنفق بلالا و لا تخش من ذي العرش إقلالا..." أنفق أنفق عليك، إذا كنت مؤمنا أن هذا القرآن كلام الله، فالقرآن الكريم ينطق في ثماني آيات أن كل نفقة تنفقها في سبيل الله لا بد أن يعوِّضها الله عليك، إن عاجلا أو آجلا.
أفاد الحديث أن من أقبح الصفات البخل، لهذا قال الله سبحانه و تعالى:
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾
[سورة الحشر]
فالبخل و الكذب موجبان لغضب الله عز وجل وسخطه، و الصدق و الكرم موجبان لرضاء الله و إكرامه، فالإنسان أولاً كما قلت في مطلع هذا الدرس توزيع الحظوظ، تفاوت الحظوظ في الدنيا هذا التوزيع توزيع ابتلاء، وسوف تُوزّع الحظوظ توزيعا آخر يوم القيامة هو توزيع الجزاء، والعبرة لا لتوزيع الابتلاء بل لتوزيع الجزاء، العبرة أن تكون غنيا بعد الموت، من هنا قال الإمام عليّ كرم الله وجهه ((الغنى و الفقر بعد العرض على الله))
والآن إلى متابعة سيرة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه و أرضاه، قيل: في ضحى بعض الأيام اجتاح أهل مكة جميعا حديث أثار كل ما في أنفسهم من دهشة و عجب، فقد كان أبو جهل ذاهبا لبعض شأنه حين مر بالكعبة، فأبصر النبيَّ عليه الصلاة و السلام جالسا وحده في المسجد الحرام صامتا مفكِّرا، وأراد أبو جهل أن يؤذيَ النبيَّ عليه الصلاة و السلام ببعض سخرياته، فاقترب منه و سأله: أولم يأتِك الليلة شيء جديد ؟ فرفع النبي عليه الصلاة و السلام رأسه نحوه وأجاب في جِد: نعم أسري بي الليلة إلى بيت المقدس بالشام، فقال أبو جهل مستنكرا: و أصبحت بين أظهرنا ! فقال عليه الصلاة و السلام: نعم، وهنا صاح أبو جهل في جنون: يا بني كعب بن لؤي هلموا - تعالوا اسمعوا القصة - وأقبلت قريش ينادي بعضُها بعضا ولم يكن الرسول عليه الصلاة و السلام قد حدّث أحدا من أصحابه المؤمنين، أول ما بلّغ الخبر لأبي جهل، وما حدّث أحدا من المؤمنين، بنبأ الإسراء، تجمع الناسُ عند الكعبة و مضى أبو جهل يحدثهم في حبور بما سمع، فقد ظنها فرصة مواتية لينفض الناس عن رسول الله - هذه ثخينة، تلك قبلناها أما هذه - و تقدّم واحد من المسلمين و سأل النبي: يا رسول الله أحقا أُسري بك الليلة ؟ فأجاب النبيُّ الكريم: نعم، و صليت بإخواني الأنبياء هناك، وسرى في الجمع المحتشد خليط متنافر من المعاشر المهتاجة، رحب المشركون بما سمعوا، ظانين أن في هذا النبأ نهاية الرسول، هذا خبر مستحيل تصديقه، واحتوت الشكوك فريقا من المسلمين، بعض المسلمين، وسعى بعض رجالات قريش إلى بيت أبي بكر فرحين سامتين، لا يخالجهم ريبٌ في أنهم سيعودون ومعهم ردّته عن هذا الدين، هذا صاحبه، فأبو بكر يعرف أكثر من غيره ما يحتاجه قطع المسافة بين مكة و الشام، من سفر مضن و زمان طويل، فكيف بالذي راح ورجع و صلى هناك، كل ذلك في بضع ساعات، بلغوا دار أبي بكر، وصاحوا به: يا عتيق كل أمر صاحبك قبل كام أَمما، أي معقولا، أي هينا و محتمَلا، أما الآن فاخرج لتسمه، تفضل لتسمع وبزغ عليهم أبو بكر دهشا تجمِّله سكينته ووقاره، و سألهم: ماذا وراءؤكم، قالوا: صاحبك، وانتفض أبو بكر وقال: ويحكم هل أصابه سوء ؟ فتراجع القوم قليلا وازدرد كل منهم ريقه في مشقة، وقال أحدهم: إنه هناك عند الكعبة يحدث الناس أن ربه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس ذهب ليلا، و تقدم آخر، نكمل الحديث، قال: ذهب ليلا وعاد ليلا وأصبح بين أظهرنا، فأجابهم أبو بكر وقد أشرق وجهه: أيُّ بأس، لا غرابة، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه غدوة وروحة، ثم أطلق عبارته المشهورة: إن كان قال فقد صدق، لم يلتق برسول الله بعد، هو قال هذا فهو صادق، هل هناك كلمات تستطيع النهوض إلى مستوى الإشادة بهذا الموقف، هذا هو اليقين، هذا هو الإيمان، هذا هو التصديق، هذا هو العقل، هذا هو التسليم، هذه هي الثقة التي منحها إلى النبي عليه الصلاة و السلام، سيدنا الصديق لم يؤمن إيمان الصدفة، بل آمن إيمان الفطنة، لم يؤمن بعواطفه، بل آمن بذكائه، لم يدفعه إلى الإيمان منطق القلب وحده، بل منطق العقل قبله، إني لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك أصدِّقه في خبر السماء يأتيه في غدوة و روحة، أفلا أصدِّقه، لكن سيدنا الصديق يعنيه أن يكون النبي قد أخبر و قال، وعندئذ يكون كل شيء ممكنا و صادقا، ولكن ليس متأكِّدا، لعل هذا الكلام افتراء على النبي، عليه أن يتأكد من نقطة واحدة، هل قال هذا النبيُّ حقا ؟ هل قال النبي هذا الكلام حقا ؟ إن كان قاله فقد صدق، وهرول أبو بكر رضي الله عنه إلى الكعبة حيث النبي، ذهب إليها مسرعا، و عند الكعبة رأى الجمع الشامت المرتاب متحلقين لاغطين، ورأى نور الله هناك في جلسته الخاشعة الضارعة، مستقبلا الكعبة، لا يحس من اللغط الدائر حوله شيئا، ولا يسمع للحمقى ركزا، وانطرح أبو بكر عليه يعانقه و يقول: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، واللهِ إنك لصادق، واللهِ إنك لصادق، هذا التصديق، هذا المقام الذي ناله هذا الصحابيُّ الجليل ما سبقه إليه أحد، أبو بكر الصديق.
ذات يوم وأبو بكر في دار سعد زاره النبي عليه الصلاة و السلام، و فوجئ بالنبيّ، فقال النبي الكريم: يا أبا بكر إن الله أذِن لي بالهجرة، وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام و عليهم رضوان الله قد سبقوه إلى المدينة مهاجرين، وبقي النبي بمكة ينتظر أن يأذن، وبقي أبو بكر بجانبه، والآن وهو يسمع النبأ الجديد يكاد قلبه يطير من الفرح، و يقول: الصحبة يا رسول الله، فيجيبه النبي الكريم: الصحبة يا أبا بكر.
إن الهجرة في حد ذاتها رحلة عافية، فهي اطراح لأذى قريش و لمؤامراتها التي لا تنتهي و لقد هاجر المسلمون إلى المدينة، و لكن الهجرة بالنسبة للرسول خاصة مخاطرة ما مثلها مخاطرة، إن قريشا إذا كانت قد تركت المسلمين يغادرون مكة في سلام فما هي أبدا تاركة رسول الله، لقد تحدث زعماؤها في هذا كثيرا، و انتهوا إلى أنهم إذا تركوهم ليخرجوا إلى المدينة ويرفعوا في سمائها رايتهم، فلسوف يجمع العرب حوله، ثم يغزو بهم قريشا، ومن ثَم قرروا أن يظفروا برأس رسول الله، و لعلهم إنما تركوا المسلمين ومعهم عمر بن الخطاب لعلهم تركوهم يهاجرون ليبقى النبي بينهم بلا أنصار وحيدا، حتى تأتي لهم الفرصة في الخلاص منه ورسموا خطة دقيقة جدا، سمحوا لأصحابه أن يهاجروا، ضعّفوا مركزه، وضعّفوا أجنحته، وهم ينتظرونه، فإذا همّ بالهجرة قتلوه، فالهجرة إذًا مغامرة، فالهجرة إذًا قتل، وسيدنا الصديق يعرف هذا أتم المعرفة، فلماذا فرح بهذه الصحبة، يغامر بحياته، و لكنه الإيمان، بماذا آمن هذا الصحابي ؟ قال: آمن هذا الصحابي أن الله لم يلق كلمته عن طريق النبي الكريم إلى الناس و في مشيئته أن يتركها لقريش تفعل بعها ما تشاء، هذا دين الله، الواحد لا يحاول أن يطفئ نور الله، هذا دين الله عز وجل، الله سبحانه و تعالى هو الذي يحمي دينه، فإيمان سيدنا الصديق أن ربنا عز وجل هو الذي أنزل هذه الرسالة على هذا النبي الكريم، أيُعقل أن يتركها ألعوبةً بين كفار قريش ؟ إنه سيحميها،
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
[سورة المائدة]
سيدنا الصديق فهم، هذا دين الله عز وجل وهذه رسالته، يتركها ألعوبة بين أيدي كفار قريش، وثانيا الإيمان مسؤولية و تضحية، الإيمان نزهة ؟ الإيمان وليمة، الإيمان حفلة طرب الإيمان أناشيد، الإيمان طعام و شراب، الإيمان ولائم، الإيمان عمرة بالطائرة و فندق خمس نجوم، ماذا أكلنا أكلا، و كم انبسطنا، الخيمة مكيفة، والفندق مكيف، الإيمان صار كيفا، الإيمان طريق شائك، الإيمان جهد، و الإيمان امتحان، الإيمان ابتلاء، و الإيمان عطاء، الإيمان صعوبات، الإيمان عقبات، الإيمان خصوم، الإيمان كيد، الإيمان يكون أحيانا قهرا، سيدنا الصديق لماذا فرح بالصحبة ؟ لأنه أولا يؤمن إيمانا قطعيا أن هذا الدين دين الله، و أن الله هو الذي يحفظه، و لن تقوى قوة على وجه الأرض أن تقوِّضه، و الشيء الثاني الإيمان تضحية، و ليس هناك مناسبة أجل وأعظم من أن يرافق النبي في هذه الهجرة، فمهما تكن العواقب فلن يكون ثمة سوى طريق واحد لا يعرف أبو بكر سواه، هو طريق أداء الواجب الذي يمليه عليه إيمانه، وطريق التضحية الذي يتطلبها الإيمان.
فحين آوى النبي عليه الصلاة و السلام إلى الغار ليختفي من قوة المشركين التي تطارده كانت تلهث هذه القوة وراءهما طمعا في نيل الجائزة التي أهدتها قريش لمن يأتيها بالنبي حيًّا أو ميتا، جائزة ضخمة جدا، مائتا ناقة أو أربعمائة ناقة، عدد كبير، الناقة ثمنها الآن خمسون أو ستون ألف، ثمن الناقة سبعون ألف، سمعت أن البغل ثمنه سبعون ألف فكيف الناقة، هكذا سمعت والله، فسيدنا الصديق فحين أويا إلى الغار النبي والصديق و اقترب المطاردون من الغار وراحوا يطوفون حوله، فزع أبو بكر تحت هول هذا السؤال الذي ألحّ عليه، ماذا لو نظر أحدهم إلى جوف الغار ؟ انتهى الإسلام، قُتل النبي و قتل الصديق و انتهى الإسلام، ماذا لو نظر أحدهم إلى جوف الغار، ماذا لو ظفر المجرمون برسول الله ؟ حينئذ كان الله يدّخر للصديق الدرس الأخير الذي سيكمِّل إيمانه و يبلغ به أعلى مستويات الإيمان المتاحة لبشر، لقد ألقى على النبي هذا السؤال: لو نظر أحدهم إلينا لرآنا، ولم يكد بصره يلتقي بمحيّا رسول الله حتى رأى عجبا، رأى وجها متهللا كأنما أُلقيت عليه آنئذ كل ما في الحياة من سكينة و طمأنينة وأمل، ما هذا، واحد مطارَد ملاحَق مهدور دمه، لو أن الكفار لمحوه لقتلوه فورا، وحام حول الغار ولو فعل أحدهم هكذا، لو ألقى نظره في الغار انتهى الإسلام، نظر إلى الرسول هادئ، هدوء و سكينة ووقار تهلل، هذا نبي وهذا صدِّيق، لماذا كان هذا دون الأنبياء ؟ لأن مرتبته أقلّ، ورأى راحة الرسول تلامس صدره فكأنما تسكب فيه الطمأنينة سكبا، فقال له النبي الكريم: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، كن مع الله تر الله معك، وقال تعالى:
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾
[سورة المائدة]
يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين اللهُ ثالثهما ؟ هذا الإيمان، إذا كان الله معك ليس هناك جهة في الكون بإمكانها أن تنال منك شيئا، وإذا تخلى الله عنك زوجتك التي هي أقرب الناس إليك تتخلى عنك، و تسمعك كلاما طعن الخناجر أهون منه، إذا ربنا عز وجل أراد أن يؤدِّب الإنسان عن طريق زوجته، وسكن أبو بكر، و في رواية أخرى لم ترِد في هذا الكتاب أنه يبدو أن أحد المطاردين نظر إلى الغار فوقعت عينه على عين أبي بكر، عينا بعين، ففزع الصدِّيق رضي الله عنه، فقال: ير رسول الله لقد رأونا، فقال له النبي الكريم: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾
[سورة الأعراف]
يقولون: الله يعمي عنك، هذه صحيحة، صدقوها هذه " الله يعمي عنك " لم ير المخالفة، لم يرها، كيف وقعها ؟ وقعها، هذه قصة تتكرر دائما، إذا أراد اللهُ أن يعميَ عنك أعمى عنك، لا شيء، عاملْه و أطعه و انظر، تقرّب منه وانظر كيف تنجو من أصعب المشكلات، من أكبر الورطات، ينجيك الله عز وجل، لقوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[سورة الأنبياء]
دائما في كل زمان و مكان، في كل عصر و مصر، في كل وقت،
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
[سورة الأنبياء]
موقف ثالث من مواقف هذا الصحابي الجليل ؛ في السنة الخامسة للهجرة، و في شهر ذي القعدة غادر النبي عليه الصلاة والسلام المدينة و معه عدد كبير من المسلمين قاصدين مكة ليعتمروا، و ساق الهدي أمامه لتعلم قريش أن النبيّ جاء زائرا للبيت الحرام، و لم يأت مقاتلا، بيد أن نبأ هذه الزيارة كان قد سبق إلى قريش بطريقة ما، فحشدت جموعها، و صمّمت على منع النبي و صحبه من دخول مكة وزيارة الكعبة، ونزل النبي عليه الصلاة و السلام عند الحديبية، وأوفد إلى قريش عثمان بن عفان، ليشرح لهم سبب مجيئه، وأوفدت قريش سهيل بن عمرو ليفاوض النبيَّ في الأمر، وانتهت المفاوضة إلى عقد ميثاق يعود المسلمون بمقتضاه إلى المدينة، مرجئين زيارة البيت الحرام إلى العام القادم، كما يتضمن الميثاق التزام المسلمين بأن يردوا إلى قريش من يأتيهم مسلما، معاهدة فيها إجحاف، ولا ترد قريش من المسلمين من يعود إليها مرتدا، إذا مسلم ارتد لقريش لها الحقُّ ألاّ‍ ترده، و إذا كان مشرك آوى إلى النبي لا بد أن يردّه، و السنة ليس هناك زيارة، ارجعوا، ولم يكد الكاتب ينتهي من كتابة الميثاق ولم يمهره النبيُّ بخاتم النبوة بعد حتى فوجئ المسلمون بفتى يأتيهم صارخا مستغيثا، يرصف في قيوده، و يجرجر أغلاله ويقول - هذا الفتى أبو جندل - وهو ابن سهيل بن عمرو، ابن المفاوض، مندوب قريش، يقول هذا الرجل مستغيثًا برسول الله: اقبلوني، فقال النبي لسهيل: اترك لنا جندلا، هذا اتركه لنا، لم نوقِّع بعد، فإنا لم ننجز العهد بعد، ما ختمنا، ألا يوجد في بروتوكول توقيع المعاهدات، هذا لم يوقَّع، وما كان لسهيل أن يترك ولده يذهب إلى الإيلام وهو واحد من زعماء قريش، فأصرّ على تسليمه، أو ينقض العهد كله، و تكون الحرب، و صاح أبو جندل: يا معشر المسلمين، أتتركوني أُردُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما، ألا تبصرون ما على جسمي من عذاب في الله ؟ ومادام النبي بالكلمات السية: اصبر سيجعل الله لك مخرجا، لا إمكان، كان هذا المشهد أدهى وأكبر من أن تحتمله أعصاب المسلمين، فكيف يرجعون دون أن يزوروا البيت الحرام ؟ و كيف يسلِمون للعذاب مسلما جاء يستصرخ بهم و يستغيث ؟ سيدنا عمر فقدَ صوابه و اختل توازنه، فذهب إلى النبي، فقال: يا نبي الله ألستَ نبي الله حقا ؟ قال: بلى يا عمر، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ؟ هذا الموقف المُهين، وهذه الاتفاقية المجحفة أجابه النبي يا عمر إني رسول الله، و لست أعصيه، وهو ناصري، قال عمر: أولم تعِدنا يا رسول الله - كان جريئا، ما وعدتنا - بأننا سنأتي البيت و نطوف به، رسول الله كان ذكيا جدا، قال: يا عمر أوقت هذا العام ؟ أنا وعدتك هذه السَّنة ؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه و مطَّوف به، انتظر، هذا الحوار يكشف عن حدّة الأزمة التي عاناها المسلمون، و لكن ما شأن أبي بكر ؟ ما هذا الإنسان، الأعصاب الهادئة و التصديق، إن أبا بكر هو أستاذ في فن الإيمان، في ذلك اليوم العصيب، كما سيظل أستاذه في كل حين.
سيدنا عمر كان يقول: ما أنا إلا حسنة من حسنات أبي بكر " حينما وقف على المنبر بعد وفاة سيدنا الصدِّيق بدأ يخطب فوقف عن الخطبة، ونزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر "، فسيدنا عمر وقف موقف أديب من رسول الله ولم يكمل النقاش، لكن نفسه تغلي، فانصرف من عند رسول الله وهو لا يزال يعاني مشاعره القلقة، وقد ردّه الأدب مع الرسول عن الاسترسال في المناقشة، والإلحاح في السؤال، بيد أنه يحس في نفسه حاجة إلى مزيد من الوضوح، فمع من يتحدث ؟ لا أحد سوى أبي بكر، هذا أعلى واحد، إذا واحد من المؤمنين الصادقين وقع في مشكلة و له أخ أقدم منه و تمرّس الإيمان يستشيره و يأنس له، هذه كذلك تُعلِّمنا أشياء كثيرة، أحيانا تحلُّ المشكلة بينك و بين إخوانك، أنت حديث عهد بالإيمان واجهت مشكلة، عندك أخ من خمس سنوات في المسجد صادق ومستقيم، و له مكانته اسأله و استشره، استأنس برأيه، اعرض القضية عليه، استعن به، فمضى سيدنا عمر إلى سيدنا الصديق، وهو يجتز صفوف المسلمين و حلقاتهم حتى لمحه في أقصى الجمع، تغمره طمأنينة عجيبة، مطمئن و مرتاح، ألقى عليه ذات الأسئلة التي ألقاها على النبي الكريم منذ لحظات، و تلقى من أبي بكر ذات الإجابات التي سمعها من رسول الله، و انتهى الحوار بينهما على الشكل التالي ؛ يقول عمر: فأخذ أبو بكر بيدي و جذبها في قوة - أحيانا لا بد من حزم - وقال لي: أيها الرجل إنه رسول الله و لن يعصيه و إن الله ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على حق، فأنزل الله السكينة على قلبي و علمت أنه على حق
هذا موقف، لماذا كان هذا الرجل " ما طلعت شمس على رجل بعد نبيٍّ أفضل من أبي بكر " قريب جدا من مرتبة النبوة.
إن شاء الله نتابع الحديث عنه، و الحديث عنه واللهِ يعطِّر المجالس، والحديث عن أصحاب رسول الله يملأنا ثقة بالله عز وجل، يملأنا حبورا، يملأها سعادة،
((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))
[رواه البخاري]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ))
[رواه الترمذي]
(( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا))
من نحن حتى نتجرّأ على أصحاب رسول الله ؟
إن شاء الله في درس قادم نتابع الحديث عن هذا الصحابي الجليل الذي هو الصحابي الأول بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم








 
 توقيع : السعيد


التعديل الأخير تم بواسطة السعيد ; 09-13-2018 الساعة 08:14 AM

رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:19 AM   #15


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الثالث العاشر )

الموضوع : باب التوكل - يا ابا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ من مواقف ابى بكر ايضا







الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
كيف نفهم موضوع التوكل من خلال هذا الحديث, وما سر الفرق بين هجرة عمر وهجرة النبي ؟
أيها الأخوة المؤمنون, مع دروس الحديث النبوي الشريف، وننتقل إلى بابٍ جديد: هو باب التوكُّل، والتوكل موضوعٌ خطير، حينما فهم أجدادنا التوكُّل فهماً صحيحاً، رفرفت راياتُهم في المشرقين، وحينما فهمنا التوكل فهماً مغلوطاً، غُزِينا في عُقر دارنا.
أيها الأخوة الأكارم, التوكل أن تأخذ بكل الأسباب، حتى لن يظن أن النجاح كله في الأسباب، وبعد ذلك تتوكل على رب الأرباب.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ, قَالَ:
((نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا, وَنَحْنُ فِي الْغَارِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ, أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ, فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟))
[أخرجه مسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ في الصحيح]
هنا سؤال، هذا السؤال دقيق جداً: كلكم يعلم أن سيدنا عمر رضي الله عنه, هاجر جهاراً، وفي النهار، وتحت سمع الناس وبصرهم، ووقف بين كفار قريش، وقال:
((من أراد أن تثكله أمه, فليحقني إلى هذا الوادي))
, وهاجر، هذه هجرة، والنبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق, وحبيب الحق، أشجع الناس، صاحب الرسالة، من وعده الله بالعصمة, قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
[سورة المائدة الآية: 67]
لماذا هاجر سراً؟ لماذا اختفى؟ خرج من خوخةٍ لأبي بكر، خرج ليلاً، اتجه جنوباً، اختبأ في غار ثور، عيَّن شخص يتقصى له الأخبار، وعيَّن شخص يمحو له الآثار، وعيَّن شخص يأتيه بالزاد والماء، وعيَّن سيدنا علي يسَّجى في فراشه، ويرتدي بردته، لمَ كل هذه التدابير والاحتياطات، وهو النبي العظيم، وهو الرسول الكريم، وهو الشجاع، وهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم؟ أيكون عمر أشجع من النبي؟ أيكون عمر أكثر جرأةً من رسول الله؟ لماذا؟.
هنا وقف العلماء وقفةً دقيقة فقالوا: إن سيدنا عمر, حينما هاجر جهاراً, كان يمثِّل نفسه، هذا موقف شخصي، سيدنا عمر ليس مشرعاً، لا تُتَّخذ سيرته شرعاً من بعده، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام, هاجر كما هاجر عمر، لظن أن هذا هو الواجب, أن تلقي بنفسك في الخطر، ولكان هذا تشريعاً من بعد النبي الصلاة والسلام، ولألقى الناس بأنفسهم في التهلكة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
النبي عليه الصلاة والسلام, ما كان ليفعل كما فعل عمر, لأنه مشرِّع، ولأن هذه الحياة الدنيا, بُنيت على أسباب ومسبِّبات، فكل إنسان أراد أن يتأدَّب مع الله عزَّ وجل, عليه أن يأخذ بالأسباب, فهذا هو السر.
هناك نقطة مهمة جداً ساقني إليها هذا الحديث: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام, اتخذ كل هذه الإجراءات, وتلك الاحتياطات بدافعٍ من خوفٍ, لفقد تماسكه حين أحدق بها المشركون في غار ثور، ولكنه ما فعل كل هذه الإجراءات، وما فعل كل تلك الاحتياطات إلا تعليماً لنا، أما هو فمتوكلٌ على الله عزَّ وجل، والدليل أن سيدنا الصديق رضي الله عنه, حينما فزع، وخاف على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ, لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ, نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ, أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، -نظر إلى النبي, فإذا هو كالبحر الساكن، فإذا هو كالجبل الراسخ، فإذا هو واثقٌ من نصر الله عزَّ وجل- قال له: يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟))
، هذا الذي بيده كل شيء، والذي إذا قال لشيءٍ: كن فيكون، زل فيزول، إذا كان معك أتخشى أحدا؟.
فهذا الحديث يبيِّن لنا: أن النبي عليه الصلاة والسلام, ما فعل كل هذه الاحتياطات, إلا تعليماً لنا, لأنه مشرِّع، وهو أشجع الشجعان، وكان يقول أصحابه عنه: ((كنا إذا حمي الوطيس لُذنا برسول الله))
مرة سمع أهل المدينة أصواتًا مخيفة، فخرجوا من بيوتهم لتقصي الخبر، فإذا النبي قد سبقهم إلى الخطر، وعاد ممتطياً جواده ويقول: ((لَنْ تُرَاعُوا, لَنْ تُرَاعُوا))
[أخرجه البخاري عن أَنَسٍ في الصحيح]
ما كان أحدٌ أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيدنا أبو بكر, له مقام وصل إلى نهايته، لما رأى أقدام المشركين بدت له, وهو في الغار، وأن القضية قضية حياء أو موت، وأن الإسلام سينتهي، وأن أحدهم لو نظر إلى موطئ قدمه لرآنا، استبد بقلبه الفزع, لأنه ليس نبياً, وليس رسولاً, إنه صديق، فقال:
((يَا أَبَا بَكْرٍ, مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟))
، هذا التوكل.
أريد أن يفهم الأخوة الحاضرون، أن التوكل في جوهره أخذٌ بكل الأسباب، سدٌ لكل الثغرات، تغطيةٌ لكل الاحتمالات، توقعٌ لكل المفاجآت، اعتناءٌ بكل المقوِّمات، سلوكٌ في كل الطرق، وبعد ذلك إلى أن يظن المراقب, أن هذه الأسباب هي كل شيءٍ في النجاح، وبعدها تتوكل على رب الأرباب. ما سبب تخلف المسلمين في هذا العصر ؟
أيها الأخوة الحاضرون, أصحاب المصالح التجارية، أصحاب المصالح الزراعية، الصناعية، الموظفين، الأطباء، القضاة، الأطباء، المحامون، المهندسون، إن المسلمين ما فتحوا المشرقين إلا بفهمهم الصحيح للتوكل، وما تخلفوا إلا بفهمهم المغلوط.
التوكل الآن عند بعض المسلمين: قعود, خمول، تقصير، خلل، كسل، ليس هذا هو التوكل، فأبسط شيء: يأكل تفاحة من دون غسيل، ويقول لك: سمِّ بالله وكل، أهذا مؤمن؟ من قال لك: أن الإيمان يقول لك: كل الفاكهة من دون غسيل؟ من قال لك ذلك؟ وقد روي:
((من أكل التراب, فقد أعان على قتل نفسه))
فإذا أكل فاكهة لم يغسلها, فقد أعان على قتل نفسه، من قال لك: إن المسلم أموره سائبة, لا يأخذ بالأسباب، لا يحتاط؟ من قال لك ذلك؟ هذا فهمٌ أوردنا ما أوردنا، هذا فهمٌ للتوكل سقيم, أتاح لأعدائنا أن ينتصروا علينا في غفلةٍ من الزمن، نحن سادرون في غفلتنا، وفي تكاسلنا، وأعداؤنا يصنعون ويخترعون حتى تفوقوا علينا، ففرضوا علينا إرادتهم، فأصحاب الأسلحة ذات التدمير الشامل الآن, لهم سيطرة على العالم كله، أليس كذلك؟ فلذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
[سورة الأنفال الآية: 60]
ولكل عصرٍ له قوته، وكأن قوة هذا العصر هي العلم، فإذا أردت أن تؤثر في الناس, ينبغي أن تكون عالماً في العلوم العصرية التي يعظمها الناس. إليكم تفسير هذا الحديث:
((إذا أتيت مضجعك.....))
على ضوء العلم:
عن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا فُلانُ، -وهناك رواية فيها: يا براء بن عازب- إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ, رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ, لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ, آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ, مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ, وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
وفي روايةٍ في الصحيحين، عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
أول شيء في هذا الحديث: أنك إذا أويت إلى مضجعك, فاضطجع على شقك الأيمن، وهذه هي السنة.
وقال بعضهم: الأغنياء يضَّجعون على شقهم الأيسر، والعلماء يضجعون على شقهم الأيمن, والملوك يضجعون على ظهورهم, والشياطين يضجعون على بطونهم.
وقرأت مقالة تقول: إن الهضم للذي يضجع على شقه الأيمن, يكون أسرع بكثير، وأن الذي يضجع على ظهره, ربما دخل الهواء من فمه، فإذا استنشق الهواء من فمه، تراجعت لثَّته، وأصيب بأعراض أمراض البرد المزمنة، أي أن سبب تراجع اللثة أحياناً، وسبب الرشحات المزمنة, هذا الذي يضجع على ظهره، ويستنشق الهواء من فمه، لأن الهواء حينما يدخل في الأنف، يمر بين صفائح متداخلة ساخنة، فالهواء يدخل من فتحتي الأنف بدرجة صفر في الشتاء أو خمسة، ويصل إلى مقدَّم الرغامى بدرجة سبعة وثلاثين، لأن سطوح الأنف, فيها خاصَّة تنفرد بها، وهي أن الشرايين لها عضلات عَرضية تتوسع.
فالإنسان في البرد, لو نظر في المرآة, لرأى أنفه أحمر اللون, فالشرايين في داخل الأنف تتوسع بفعل عضلات دائرية، وتأخذ كمية دم كبيرة جداً، والدم ساخن بدرجة ثمانية وثلاثين، لذلك الهواء الذي يستنشقه الإنسان في الشتاء، يمر بين سطوح ساخنة.
هذه السطوح مغطاة بطبقة مخاطية لزجة، فكل شيء في الهواء المستنشق من غبار، من هباب، من أجسام غريبة, يعلق على هذه السطوح، ولو تصورنا ذرةً مع الهواء, استطاعت أن تنجو من هذه السطوح, فتمر في الفراغات فقط، فإن الأشعار التي خلقها الله في الأنف تصطادها.
عندنا سطوح ساخنة ولزجة، وفي عندنا أشعار بمثابة الشبكة، والهواء يصل إلى الرغامى بدرجة حرارة سبعة وثلاثين، لذلك أغلب أنواع نزلات البرد المزمنة، هؤلاء الذي يضطجعون على ظهورهم, ويتنفسون من أفواههم، وفوق هذا وذاك, يحدثون غطيطاً, يُزعج الآخرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا أن نضجع على شقنا الأيمن، هذا بعض توجيهات الحديث.
((إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
الآن يقول لي واحد: نحن بدأنا على الشق الأيمن، لكن بعد ذلك الله أعلم، الإنسان محاسب على الوعي، ساعة وعيه, بدأ على شقه الأيمن، بعد ذلك تقلب، لكن ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾
[سورة الكهف الآية: 18]
إذا كان ونقلبهم فقط، يقلب من على السرير، لكن من رحمة الله بنا, قال:
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾
[سورة الكهف الآية: 18]
أخذ عشرين سنتيمترًا, قال تعالى:
﴿وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾
[سورة الكهف الآية: 18]
أرجعهم، فبقي على السرير طوال الليل، وبعضهم يرى أن الإنسان يتقلب أكثر من ثمان وثلاثين مرة في الليلة الواحدة، سبحان الله في أجهزة معقدة جداً، هذه الأجهزة اسمها: نهايات عصبية تتحسس بالضغط، فإذا الإنسان وضع يده على جسم صلب وضغط، يشعر أن هذا الجسم صلب، فكيف يشعر به؟ إذا الإنسان وضع يده على وسادة طرية، يشعر أنها طرية، وضعاه على سطح خشبي قاس، يحس كذلك، من أشعره أن هذا السطح صلب, وهذا مرن؟ أعصاب أودعها الله في كل أنحاء الجسم تتحسس بالضغط.
فعندما ينام الإنسان, يضغط هيكله العظمي على عضلاته، الهيكل له وزن، واحد له وزن معين، فصار هيكله العظمي، والعضلات التي فوق الهيكل العظمي, تضغط على العضلات التي تحت الهيكل العظمي، هذا الضغط يسبب انضغاط للأوردة الدموية، هذا الانضغاط يسبب ضعف بتروية العضلات، فلما يستمر الإنسان ساعة على وضع معيَّن، هذه النهايات العصبية التي أودعها الله في العضلات, تخبر الدماغ، وأنت نائم، فترى وأنت نائم المرج حشيشًا مزروعة، تخبر الدماغ أن هناك انضغاط على العضلات الفلانية، الدماغ يعطي أمر للعضلات, فالنائم يغير نومته، وأنت لا تشعر, الدماغ يقظ، الدماغ لا ينام.
لذلك عندما يكون مع الإنسان مرض الثبات، أو معه شلل، دواؤه الوحيد التقليب، وإلا يتآكل لحمه، هذا المرض اسمه بالطب: قرحة السرير.
أول أمر من طبيب للمرض أو الممرضة, لمعالجة مريض مصاب بالشلل أو بالثبات، التقليب وإلا يتآكل لحمه، ينزع لحمه عن عظمه، يموت فلا توجد تروية، لذلك يعد قوله تعالى في سورة الكهف من إعجاز القرآن العلمي:
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾
[سورة الكهف الآية: 18]
لو الله لم يقلبهم، لما استطاعوا العيش ثلاثمئة سنة، ولا عاشوا سنة، ولا شهر، شهر ينتهي الإنسان، فلو استلقي على ظهره ينتهي، يتفتت لحمه كله، فمن إعجاز القرآن العلمي قوله تعالى:
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾
[سورة الكهف الآية: 18]
إذاً: السُنة: أنك إذا أويت إلى مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة, ثم اضطجع على شقك الأيمن.
فإذا أكل الإنسان أكثر مما يجب, لا يرتاح إلا على شقه الأيسر، لأنه مكان المعدة، أحضر كرة, ضع فيها قطعة رصاص من داخلها، ودحرجها، أين تستقر؟ محل الرصاص, فكل إنسان, عليه تطبيقها, فهذه من السنة.
إليكم هذا المعنى للشق الأول من هذا الحديث: ((يا فلان اذا أويت...... نفسي اليك)):
((يَا فُلانُ, إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ, فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ...))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
فمعنى أسلمت نفسي إليك: أي جعلتها منقادةً إليك، فالإنسان الذي يطيع الله عزَّ وجل, في كل أحواله، في كل حركاته, وسكناته، في كل وقت، في كل مناسبة، في كل موقف، في كل عمل، هو مسلم، المسلم من سَلَّم قياده إلى الله عزَّ وجل, قال تعالى:
﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[سورة البقرة الآية: 131]
قل: أسلمت نفسي إليك، أي يا رب, ليس لي اختيار خلاف شرعك، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))
يجب أن يتوافق هوى نفسك مع شرع الله عزَّ وجل، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: (( طوبى لمن وسعته السنة, ولم تستهوه البدعة))
أي إذا كان الواحد منا, يشتهي شيئا لم يسمح الله به، يتمنى شيئا لم يقره الله، فهذه بادرة خطيرة جداً، يحتاج إلى جهد كبير, إلى أن تنطبق رغباته، ومشاعره، وطموحاته على الشرع الشريف، هل تحب أن تقضي وقتاً فيما لا يرضي الله؟ لا والله، لكن هل تحب أن تقضي وقتك في العمل الصالح؟ نعم، بارك الله بك، هل ترى نفسك في المسجد كالسمك في الماء أم كالعصفور في القفص؟ المؤمن يرى نفسه في المسجد كالسمك في الماء، هذا مكانه الطبيعي، يألف للمسجد.
فقل قبل أن تنام: أسلمت نفسي إليك، إذا الواحد لم يطبق الشرع, وقال بلسانه: أسلمت نفسي إليك, هذا كلام غير صحيح، هذا كلام ليس له معنى، لا يعبر عن شيء، لا يسمى، لا يكون الإنسان صادقاً فيما يقول, إلا إذا كان واقعه مؤكداً لقوله. ما هو المعنى الديني للشق الثاني لهذا الحديث: ((ووجهت..... أمري إليك)):
(وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ): أي يا رب, أنا أتوجه إليك، أقبل عليك، أتصل بك، وهذا مقياس دقيق، إذا لم يكن لأحدنا وجهة إلى الله عزَّ وجل، ليس عنده إمكانية يتوجَّه إلى الله، إذا جلس أحدنا في غرفة وحيداً، وضاق ذرعاً بهذه الوحدة، أيضاً هذه بادرة خطيرة، الإنسان يجب أن يكون له وجهة إلى الله عزَّ وجل، يا ترى لك مع الله خلوة؟ هل تأنس بالله؟ لو سافرت في طريق طويل, ليس لك رفيق بالطريق، هل أنت تستأنس بذكر الله عزَّ وجل؟ هل تأنس بقراءة القرآن؟ توجه إلى الله عزَّ وجل.
((أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ))
مستسلم.
هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهم معدلٌ وإن عدلوا
والله وإن فتّتوا في حبهم كبدي باقٍ على حبـهم راضٍ بما فعلوا
كـــن عن همومك معرضَ وكلِ الأمــــــور إلى القضا
وابشر بخـيرٍ عاجـــــلٍ تنســى بــــه ما قد مضى
فلرب أمرٍ مـــــسخطٍ لك في عواقـــــــبه رضا
ولربما ضاق المضــــيق ولربما اتســـــــع الفضا
الله يفعـــل ما يــــش اء فلا تكـــــــن معترضا
الله عودك الجميل فــــق س على ما قـــــد مـضى
دعاء جميل، الإنسان دعا هذا الدعاء قبل أن ينام، لعل الله سبحانه وتعالى يجعل نومه قطعةً من السعادة، قد يأتي في النوم كوابيس، يقول لك: استيقظت مذعورًا، لأنه رأى حية في نومه، أو رأى نفسه منقولا إلى منطقة نائية، يمكن أن يستيقظ, يشعر بانزعاج ليس له حدود، وكل واحد يرى منامًا بحسب مخاوفه.
فهذه المنامات: إما أنها كوابيس من الشيطان تسحق الإنسان، وإما أن تمضي هذه السويعات، وكأنك في الجنان، لذلك الإنسان إذا أقبل على الواحد الديان قبل أن ينام, كأنه في الجنان، هذا الدعاء حبذا لو يحفظ, ويكتب, ويقرأ قبل أن ينام.
((أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ)).
وكَّلت محاميًّا, بيده مقاليد السموات والأرض، فأصبحت لا تخاف، إن الله يدافع عن الذين آمنوا، يا رب كما تريد، كن لي كما تريد عبدي، أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد، ولا تُعلمني بما يصلحك.
إليكم تفسير تتمة الحديث: ((ألجأت ظهري اليك.......)).
(أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ): يقولون: فلان له ظهر، أما المؤمن ألجأت ظهري إليك, ليس ظهر من البشر, قد يكون ضعيفًا، قد يكون مستضعفًا، ولكنك إذا ألجأت ظهرك إلى الله, فأنت أقوى الناس، وهكذا قال عليه الصلاة والسلام:
((إذا أردت أن تكون أقوى الناس, فتوكل على الله))
ومالي سوى فقري إليك وسيل ةٌ فبالافتقار إليــك فقري أدفع
ومالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ فإذا رددت فأي بـــابٍ أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
أتحب أن تكون أقوى الناس؟ تذلل إلى الله عزَّ وجل، قل: اللهم لا علم لي إلا ما علمتني، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما شاء لم يكن.
اخرج من بيتك قل: ((اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ؛ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ, أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ, أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ, أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))
﴿رَبَّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ, وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ, وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
حينما تدعو الله عزَّ وجل بهذه الأدعية، وتعلن عن افتقارك إليه، وتعلن عن ضعفك أمامه، وعن فنائك في حضرته, فأنت تصبح أقوى الناس، لأن الله يخلق من الضعف قوةً.
((أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ))
((ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي، فتكيده أهل السموات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه))
يقول لك: هذا رقم تلفوني، بأي لحظة أنا جاهز، تدق له فإذا هو مشغول، أين هو؟ لا نعرف أين هو؟ وأن تريده الآن، ليس موجودًا، لأنك اعتمدت عليه، وتركت الواحد الديَّان، فالإنسان يجعل كل ثقته وكل اعتماده على الله عزَّ وجل.
((أَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ, مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ))
أي على ما يرضي الله عزَّ وجل، على وضعٍ سليم.
وإذا شئتم أمليه عليكم مرة ثانية بالسرعة الإملائية: ((يَا فُلانُ, إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ, رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ, لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ, آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ, مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ, وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
وفي روايةٍ في الصحيحين عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ, فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ, وقل: وذكر نحوه, كما قال قبل قليل, ثم قال: واجعلهن آخر ما تقول))
[أخرجه البخاري عن البراء بن عازب في الصحيح]
إليكم أحداث معركة بدر, وما فيها من عبرات:
والآن إلى سيرة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.
الآن ننتقل إلى معركة بدر: ففي يوم بدر, نزلت قريشٌ بجيشها اللجب, عند العدوة القصوى من الوادي، مسلحةً بكبريائها وبأسها، وخرج المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعِدَّتهم يوم ذلك ثلاثمئة, لا يملكون من سلاحٍ المقاومة إلا نذراً يسيراً، ويلتقي الجمعان، وتتلظى أرض المعركة فجأةً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في عريشه، حيث توسَّل إليه أصحابه, ألا يغادر خيمته, مهما تدر رحى الحرب، وأبو بكرٍ معه.
بَصُرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالمعركة المحتدمة الحافلة، ورأى أصحابه, وهم قليلون, يكادون يذوبون وسط الخضم الوثني المجنون، وكلما رأى شهيداً يسقط, طار معه قلبه حناناً وأسى، وبلغ القتال ذروته الفاصلة، ولم يعد يسمع إلا صليل السيوف متوهجةً, تعزف لحن الموت والدم، وأحس النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مقدَّرات الدين, قد صارت في الكفة المرجوحة، لا الكفة الراجحة, وخرج من خيمته صلى الله عليه وسلم, باسطاً إلى السماء ذراعيه, مثل شراعي سفينة, داهمها موجٌ عنيدٌ عتيد، وراح يناجي ربه في ابتهالاتٍ عالية ويقول:
((اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ))
معنى العصابة: أي الجماعة على الخير، هذه الكلمة لها تاريخ، الكلمات كالكائن الحي؛ تولد، وتَشِب، وتهرم، وتموت، فالكلمة في الماضي لها معنى، معنى العصابة الجماعة، مُطلق الجماعة.
الآن تقول: هذه عصابة، أي قتلة، سارقون، قطَّاع طرق، فكلمة عصابة إذا وردت في السنة المطهرة: فتعني الجماعة، قل لواحد الآن: أنت جرثوم هذا المجلس، ألا يغضب منك، معنى جرثوم في اللغة: أصل الشيء، قام شاعر مدح خليفة عظيمًا, وقال له: أنت جرثومة الدين, والإسلام, والحسب, فكافأه.
لو قال واحد لإنسان: أنت جرثوم الصف مثلاً، يقوم بضربك، فجرثوم لها معنى، وكلمة عصابة لها معنى، يجب أن ينصرف ذهنك لا إلى المعنى المستعمل الآن، بل إلى المعنى المستعمل قديماً، فكلمة الاستعمار لها معنى ثقيل: قوة مغتصبة، معتدية، تنهب الثروات، تقهر الإرادة، تقتل الشباب، أما ربنا قال:
﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾
[سورة هود الآية: 61]
الاستعمار عمارة الأرض، إذا كان نحن استعمرنا أرض باللغة, أي أقمنا المستشفيات، والمدارس، والجسور، والطرقات، والمتنزهات، والمعامل، والمصانع، والمرافئ, والموانئ هكذا، هذا معنى الاستعمار، أي أنك عمرت الأرض، فالكلمات تأخذ معنى من خلال التاريخ.
فهذه كلمة عصابة: إياكم ينصرف ذهنكم إلى المعاني التي تستعمل بها الآن، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي, اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي, اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ, لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ.قال: توالت ابتهالاته، وبُحت نبراته، وتهدَّجت دعواته -أي بكى اللهم صل عليه- وسقط رداؤه من فوق منكبه.
وهنا اقترب أبا بكرٍ رضي الله عنه في هدوء، فرفع رداء الرسول عليه الصلاة والسلام، وأعاده إلى مكانه فوق المِنكبين اللتين تحملان أعظم أعباء الحياة، -أعباء نشر الدين، فهي معركة فاصلة، يسمونها معركة حاسمة، يسمونها الآن معركة مصيرية، قد ينتهي الدين بها- فقال رضي الله عنه مخاطباً رسول الله: يا رسول الله, كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك))
سؤال هام:
سؤال صغير: لماذا في الغار سيدنا الصديق فزع، استبد الفزع بقلبه، والنبي طمأنه؟ ولماذا هنا العكس؟ سؤال دقيق.
قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر, أخذ كل الأسباب، انتهت مهمته، بقي الحفظ الإلهي، وهو واثق من هذا الحفظ، أما الآن: فقلقه أن يكون, قد قصَّر في إعداد الأسباب، هنا القلق، ليس خائفاً من أن يخلف الله وعده، لا، واثقٌ من نصر الله، ولكنه خاف الآن أن يكون الإعداد غير كافٍ، لم يكن مع الله طائعاً مئة في المئة، فكان إعداد غير كافٍ، فلذلك هنا في خوف من التقصير، أما في الغار فقد أعد كل شيءٍ عدته، وانتهى الأمر، وبقي التوكل.
لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في شكٍ من نصر الله، فقُبيل المعركة قال لأصحابه:
((سيروا على بركة اللّه، فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم))
ولكن مسؤوليته مباشرة عن أصحابه, وعن الدين، الحقيقة: العبودية تعني أنك لا تستطيع التنبُّه بالغيب.
النبي عليه الصلاة والسلام, دخل على بعض أصحابه الذين توفوا, أبو السائب عثمان بن مظعون, كشف عن وجهه الرداء وقبله، سمع صوت من وراء الستار، ويبدو أن الصوت صوت امرأته، تقول له: ((هنيئاً لك أبا السائب, لقد أكرمك الله، -سكوت النبي إقرار، هذا كلام غير صحيح- فقال عليه الصلاة والسلام: ومن أداركِ أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه -هكذا قولي- فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا رسول الله, لا أدري ما يفعل به))
أخي أنا أعرف النتيجة، أنت مخطئ, فإنه لا يعلم الغيب إلا الله، تأدب مع الله عزَّ وجل، الله وعده بالنصر، ولكنه خائف، لأنه مسؤول، مسؤولية كبيرة جداً، لذلك شعوره بالمسؤولية جعله يقلق.
إليكم هذا الموقف لأبي بكر يشهد له بقوة الايمان, والتماسك والصمود أمام النكبات:
الموقف الأخير: قال: ومن شاء أن يرى إيمان أبي بكر في أحسن ساعاته، من شاء أن يرى الإيمان العلوي الموصول بقيّوم السموات والأرض، فليرَ هذا الإيمان يوم دعي الرسول إلى الرفيق الأعلى، هذا أخطر موقف وقفه سيدنا الصديق، فأجاب ورحل عن الحياة والأحياء، يوم تلفت المسلمون فجأةً, فلم يروا بينهم الأب الذي كان يملأ حياتهم حناناً، والنور الذي كان يملأ وجودهم ضياء, أين رسول الله؟ توفي، لم يكن أحداً منهم مستعد أن يقبل الخبر إطلاقاً، يومئذٍ تكشَّف جوهر هذا الإيمان، إيمان رجلٍ أعطى الله موثقه مع محمد، فإذا اختفى محمد بالموت, فإن هذا الإيمان لا يضعف بل يتفوق، ولا يجزع بل يحتشم، ولا ينوء تحت وقع الضربة، بل ينهض رشيداً ثابتاً، هكذا وقف سيدنا الصديق.
وقف إيمان أبي بكر، يوم وفاة رسول الله وقفةً, ما كان يقدر عليها سواه، ما كان واحدٌ من أصحاب رسول الله, يقدر أن يقف وقفته, إلا هذا الصديق.
يومئذٍ وبعد أن صلى بالمسلمين، عاد الرسول إلى حجرته، وعاده أبو بكرٍ في حجرته -أي زاره- واستأذنه في أن يغيب عنه بعض الوقت، وذهب إلى داره بالعالية في أقصى المدينة، ومضى وقتٌ ليس بالطويل, قضى فيه بعض حاجات أهله، وإذ هو يتهيَّأ للعودة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا الناعي يقطع الأرض إليه وثباً، ويلقي عليه النبأ الذي يهدُّ الجبال، ماذا فعل؟.
قال:
((فحمد واسترجع، إنا لله وإنا إليه راجعون، -هكذا السنة- واختلطت دموعه الهاطلة بكلماته، وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأغزا السير -أي أسرع بالسير- رابط الجأش، قوي الجَلَد إلى بيت رسول الله.
لم يكد يقترب من المسجد, حتى رأى الفاجعة الكبرى، فقدْ فقَدّ المسلمون صوابهم، حتى إن عمر بن الخطاب القوي الراسخ، وقف بين الناس شاهراً سيفه صائحاً: إن رجالاً من المنافقين, يزعمون أن رسول الله مات، وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجالاً, زعموا أنه مات، ألا لا أسمع أحداً يقول: إن رسول الله مات, إلا فلقت هامته بسيفي هذا؟))
هذا سيدنا عمر اختل، تلك كانت حال عمر، فكيف كانت حال من سواه؟!.
خبر صاعق لم يتحمله المسلمون إطلاقاً، لقد كان موت الرسول مفاجأةً تامةً للمسلمين, على الرغم من سابق مرضه، كأنهم لم يتصوَّروا أبداً, أن يقال لهم ذات يومٍ: مات الرسول، هذه فوق احتمالهم.
فلما أنفذ الله أمره، واختاره لجوار رسوله، وكتب على الناس: أن يسمعوا في لججٍ من الهول والأسى, كلمة الموت مقترنة بكلمة الرسول، طار منهم صوابهم، ولقد كان أبو بكرٍ أحق الناس بأكبر قدرٍ من الأسى والذهول، فهو صديق العمر لمحمد منذ طفولة الحياة وشبابها، وهو الصديق، صديقه وصدّيقه منذ أول أيام الوحي والدين، وهو قد أحبه حباً, وآخاه مؤاخاةً تجعل الصبر على فراقه فوق طاقة البشر، لكن أبا بكر كان يبدو وكأنه لا تحركه طاقاتٌ بشرية، بل طاقةٌ إلهية حلَّت به، ولندع شاهد عيان يصف لنا ثبات أبي بكر عند الصدمة الأولى.
أقبل أبو بكرٍ يكلم الناس، فلم يلتفت إليه أحد، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو مسجَّى في ناحية البيت، عليه بردةٌ حِبَرَة، فكشف عن وجهه ثم قبَّله، وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حياً وميتاً، إن الموتة التي كتبها الله عليك قد متَّها، ثم ردَّ الثوب على وجه رسول الله، ثم خرج, وعمر يكلم الناس، فدعاه للسكوت، فأبى عمر أن يسكت، إلا أنه ظل مسترسلاً، فلما رآه أبو بكرٍ لا ينصت، أقبل على الناس يكلمهم، فلما رأوه، وسمعوه يتكلم, أقبلوا عليه منصتين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس, -انظروا إلى التوحيد- من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, -نحن لا يوجد عندنا وثنية أبداً، ديننا دين توحيد، حتى النبي- ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا هذه الآية:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 144]
قال: فو الله كأن الناس لم يسمعوا بهذه الآية من قبل، كأن هذه الآية لا يعرفوها، وكأنهم سمعوها من سيدنا الصديق أول مرة في حياتهم، أما عمر, فلما سمع الآية, أيقن أنه مات، فوقع على الأرض مغشياً عليه، حين علم من كلمات أبي بكر, أن الموت حق
في هذه اللحظة المذهلة، والفاجعة المزلزلة, يكون مثل هذا الثبات، ((من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله, فإن الله حيٌ لا يموت))
إن أقصى ما كان ينتظر من سيدنا الصديق كلماتٌ توصي بالصبر، منح العزاء، ولكنه قرر كلمات التوحيد، الله حيٌ لا يموت.
لقد فعلت صيحة أبي بكر في نفوسهم فعل القدر، فقاموا إلى الجسد الكريم المسجى، وأدَّوا إليه تحية الوداع ممزوجةٌ بالعزم الأكيد, الذي سيستقبلون به تبعات الساعات التالية.
يقول بعض العلماء: لو لم يكن هناك أبو بكر, ماذا حصل؟ ما كان في أصحاب النبي إلا واحدٌ, هو هذا الصديق العظيم, الذي كانت له أعصابٌ تحمل الصدمة، واستوعبها، ولم يختل إيمانه، ولم يقع تحت وقع الخبر المذهل، ولم يقل إلا الحق.
إن الأمر ليبدو كما لو أن الله عزَّ وجل, حينما اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام ليكون رسوله إلى الناس، اجتبى معه في اللحظة نفسها أبا بكر رضي الله عنه, ليكمل دور النبي، لذلك المؤرخون يقولون: هو المؤسس الثاني للإسلام.
في عندنا مواقف مع المرتدين مشرفة جداً، ومع الجيش الذي أرسله إلى الشام وسط الارتداد، ووسط الفتن، ولو لم يكن هذا الصديق في هذا العزم الأكيد، وهذا الإيمان الراسخ, لانهار الإسلام من بعده، هذه بعض المواقف.
أجمل شيء في هذه القصة، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، لا تربط إيمانك بإنسان، أنت آمنت بالله، لا تصحب إلا من ينهض بك إلى الله حاله، ويدلك على الله مقاله، الإنسان مشرع، موضح، مبين، لكن الله سبحانه وتعالى هو الحي الباقي على الدوام.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:22 AM   #16


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الرابع العاشر )

الموضوع : باب التقوى - ان الدنيا حلوة خضرة - من مواقف ابى بكر




الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إليكم التوسع في شرح معاني هذا الحديث:
أيها الأخوة المؤمنون، مع درس جديد من دروس الحديث النبوي الشريف، ونحن في باب التقوى ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانَتْ فِي النِّسَاءِ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]
نقول: عن أبي سعيدٍ الخدري، أو عن أبي سعيدِ الخدري، كلاهما صحيح، والأحاديث التي ترد في صحيح مسلم, هي أحاديث من الدرجة الأولى، فالنبي عليه الصلاة والسلام واقعي، أي إن الدنيا حلوة خضرة، لو أن الإنسان في شباب, وصحة, وعافية, وذو مال وفير, وله أهل يروقون له، ولـه بيت واسع، وبإمكانه أن يمضي أوقاته كلها في المتع, والمباهج, والحفلات, والسهرات, والنزهات, والرحلات, والسياحات، ويأكل ما لذّ وطاب، ويلتقي مع أصدقائه مختلطين رجالا وإناثا، فينظر إلى تلك، وعينه على تلك، ولسانه مع تلك، ومزاحه مع تلك، فهذه الدنيا خضرة نظرة، فيها طعام نفيس، وفيها بيوت جميلة, وفيها سيارات فارهة، فيها مقاصف جميلة جدا، فيها أماكن سياحية، فيها وجاهة، فيها شأن، فيها مكانة، هكذا الدنيا، النبي عليه الصلاة والسلام واقعي.
قد يقول لك مؤمن: الدنيا كريهة، من قال لك: إنها كريهة؟ هذا كلام غير واقعي، لن تستطيع أن تمشي مع إنسان إلا إذا كان واقعيا، فالنبي عليه الصلاة و السلام واقعي،

((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
, لكن المشكلة أن هذه الحلاوة مؤقتة، فاحضروا حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها، فيها انقطاع.
حدّثني رجل يعمل في معمل, وصاحب المعمل ذكر لي عن بيته شيء مثل الخيال تماما، الفرش غرفة شرقي، غرفة غربي، مكتبة فخمة، الأقواس، غرفة لها ترتيب معين، التكييف, والتدفئة، الشرفات، كيف يمضون الأوقات؟ حتى وصف لي نوع الفُرش, ونوع البيوت، قال لي: توفي في يوم من أيام الشتاء، وكان القبر مفتوح على الفلاة، وأقسم لي بالله, أن ماء أسود, يمشي في القبر، فلما سئل ابنه، وابنه مهندس, أنضعه هنا؟ قال: ضعوه، نخلص.
فهذا الذي كان يشتري الغطاء ملاءة السرير, تأتيه من باريس، تأتيه بآلاف الليرات، غطاء للسرير، بيته بوصف فوق حد الخيال، أين هو؟ في قبر, وبعض الأسيقة قد فُتحت عليه ، البطولة في النهاية لا في البداية.
فلذلك النبي الكريم قال:
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
، أما أن يكون الإنسان مستقيما نظيفا فلا مانع، يكون مرتبا لا مانع، يكون أنيقا لا مانع، النبي عليه الصلاة و السلام قال: ((أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم, حتى تكونوا شامة بين الناس))
الإسلام نظيف، إذا كان الإنسان نظيفًا, أنيقًا, مرتبًا، وله مظهر حسن، بيته نظيف جدا, ومرتب، فيه نظام صارم للنظافة، وكذلك في دكانه، هذا شيء رائع جدا، هذا من الإسلام أساسا، وما كان في المسلمين رجل أشد نظافة من رسول الله، كان يعرف بريح المسك، كان إذا مر, عرف أصحابه من رائحة المسك التي تفوح منه, أن النبي الكريم قد مر من هنا، هذا شيء أصلي، لكن لما يكون الإنسان؛ أنيقا, نظيفا, مرتبا, غارقا في المعاصي, والمخالفات, والموبقات, والفجور, فهذا له مصير أسود، فلذلك النبي عليه الصلاة و السلام قال: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
أحيانا يكون الإنسان نائما في فراشه, في أيام الشتاء، والفرش وثير، فوقه غطاء نظيف، وملاءة صوفية نظيفة، والغرفة دافئة، مرتاح، يؤذن الفجر، يقول الله عز وجل:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾
[سورة السجدة الآية: 16]
فالمؤمن يؤثر مرضاة الله عز وجل، أحيانا يكون الإنسان جالسا في سهرة مرتاح، لم يصلِّ المغرب مثلا، والموضوع طريف، وفيه مزاح، يجمع الصلوات، أما المؤمن فيحرص على صلاته، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 9]
فأحيانا يمتحنك الله بسهرة، بنزهة، أنت ذاهب إلى نزهة، وهناك عزيمة، لم تصل الظهر، والكل لا يصلي، واستحييت أن تصلي وتتوضأ، الإسلام مكركب، لا بد أن يتوضأ، وانتقض وضوؤه، فيمكث جالسا،
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
تريد أن تقيم دعوة، الرجال وحدهم، والنساء وحدهن، لا بد لها من سفرتين، نحن نريد سفرة واحدة في رمضان، إن شاء الله لا يحدث شيء، اجمعهم سويا في سفرة واحدة، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
سمعت قصة من يومين، قصة واقعية، ولأن الراوي صادق، واحد تزوج، وكتب الكتاب، وأدى الخطوبة بشكل رائع، وجاء يوم العرس، وهذه المدعوات كل واحدة بأبهى زينة ، وقعد على الأريكة، وبجانبه زوجته، تدخل واحدة، سأل: من هذه؟ قالت: هذه أختي، نزل، فأخبر عمه وأقرباءه، أريد هذه، وطلقت العروس يوم العرس، وأتوا بالذي يسمونه شيخا، وليس شيخا، كتب كتابا خارجيا، ودخل على الثانية، هذا ثمن الاختلاط، والأخت الكبيرة صار معها أمراض.
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟))
عنده قائمة مواصفات، وهذه المواصفات تنطبق على هذه الفتاة، ولكن ليس فيها دين، يتساهلون في الدين.
واحد جاءه خطيب إلى بيته، فقال له: عندك بيت؟ فقال: نعم، أين يا بني؟ تفضل لتراه ، ثاني يوم تواعدا، أتى له بسجل قيد إقامة، ماذا تشتغل يا بني؟ قال له: عندي معمل، أين المعمل؟ أخذه وأراه إياه، أريد ملكيته, هذه ملكيته، عندك سيارة؟ نعم, عندي سيارة، أين هي؟ أين أوراقها؟ فوافقوا عليه، هذا الخاطب زار عمه في محله التجاري، ووقف شخص أمامهم، فقال له: هذا صهري، هذا الشخص بَحق، كيف صهرك؟ قال: صهري، قال له: تعال أقل لك: هذا غير مسلم، قال له: أنت لم تسألني عن ديني، سألتني عن بيت، عندي بيت، سألتني عن معمل، فعندي معمل، وسألتني عن السيارة, فعندي سيارة، وما سألتني عن ديني؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ, إِلَّا تَفْعَلُوا, تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
قال تعالى:
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 221]
أنا واللهِ الذي لا إله إلا هو, إن رأيت إنسانا, يؤثر الدنيا على حساب الدين, فكأنه لا يصدق الله عز وجل في قرآنه، فإذا قال الإنسان: صدق الله العظيم، معناه صدق الله العظيم، معنى ذلك: أن الذي قاله لك ربُّك في هذا القرآن حق مائة في المئة،
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
النبي عليه الصلاة والسلام علّمنا: أن الإنسان إذا كان يمشي في مكان, ووجد قصرا جميلا, ماذا يقول؟.
فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ, وَنَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ, فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
والله كلام جميل، هذه مؤقتة، أما الآخرة فدائمة، وربنا عز وجل في الحديث القدسي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ:
((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ, مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ, وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ, فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))
[أخرجه البخاري في صحيحه]
هذا حديث قدسي مرويٌّ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ربه.
فأنت حينما تقرأ ممثل هذا الحديث, يجب أن تنقل اهتماماتك كلها من الدنيا إلى الآخرة ، من أحب دنياه أضرّ بآخرته، هذه الدنيا مكان عمل.
أنا أضرب مثلا مضحكا دائما: مقعد الدراسة خشب، وزاويته قائمة، غير مريح، يمكن مقعد في سيارة سياحية, أو في حافلة كبيرة مريح جدا، له حركات يصير سريرا، لماذا لم يعملوا مقاعد الدراسة لتصير سريرا؟ يعمل الطالب حركة فينام، رأى عيونه ذبلت، درس رياضيات، عمل حركة للمقعد, صار المقعد مائلا فنام، لماذا لا يضعون أمام المقعد؛ إبريق قهوة، وشاي، وأكل ساخن، وشراب مثلا، مجلة، جريدة؟ المدرسة مكان مرفّه جدا، والمحاضرة أين هي؟.
أنت في مدرسة، نحن في الدنيا في مدرسة، التمعن إذا كان زائدا عن حده, صار مقصودا لذاته، يصرفك عن مهمتك الأساسية في الدنيا، فإن هذا الدنيا كما قال عليه الصلاة و السلام:

((هذه الدنيا, دار التواء لا دار استواء، و منزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء, ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي))
وعَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ, قَالَ: ((إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ, فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
المؤمن طبيعته جاد، سيدنا رسول الله، واللهِ في لقطات من حياته, إذا تأملها الإنسان يذوب محبةً لله ورسوله.
حينما كان صغيرا, دُعي إلى اللهو, فقال: لم أُخلق لهذا، فلما جاءته الرسالة, وكان مغطى بدثار، ونزع عنه الدثار, وقام ليدعو إلى الله عز وجل، السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها, قالت له: ابق نائما، فقال عليه الصلاة و السلام قولة لا تُنسى، قال: انقضى عهد النوم يا خديجة.
إذا الواحد منا، اشتغل عملين صالحين على بعضهم، جاء الظهر, ووجد إنسانا ينتظره, ليخدمه خدمة، وعنده مساء مجلس علم، يمشي مثل الطاووس, الحمد لله اليوم, أنا اللهُ رزقني أعمالا صالحة، لما الإنسان تتكاثف عليه الأعمال الصالحة، هذا دليل أن الله عز وجل جعله أهلا لهذه الأعمال، فالإنسان لا يتأثر، لما دعته إلى النوم قال: انقضى عهد النوم يا خديجة، وكان كلما رأى كما قلت لكم قبل قليل شيئا من مباهج الدنيا.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ, وَنَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ, فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
هذا كان يقوله في بعض الغزوات.
هذا الحديث فيه واقعية، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
، أي هناك زوج يكون موفَّقا، تكون الزوجة على جانب من الجمال، وهناك مال وفير, يتيح لك أن تأكل ما تشتهي، وأن تشرب ما تشتهي، وأن تسكن في أجمل وأوسع بيت، وأن تركب أجمل مركبة، وأن يكون لك بيت آخر في المصيف، ويتيح لك أن تطوف في أرجاء العالَم، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ))
، لكن البطولة أن تكون مع الله عز وجل، البطولة أن يرضى الله عنك، حينما أقرأ قوله تعالى:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
[سورة الفتح الآية: 18]
أشعر أن ما من عطاء على وجه الأرض، أعظم من أن يرضى الله عنك، صدق القائل:
فليتك تحلو والحياة مريـــرة وليتك تـرضى والأنام غضاب
وليت الذي بـيني وبينك عامـر وبيني وبين العالمين خــراب
إذا صحّ منكَ الوصلُ فالكل هيِّنٌ وكل الذي فوق التراب تـراب

إذا طمح الواحد منا إلى مرضاة الله، الناس يطمحون إلى مرضاة أشخاص، ما دام هذا الموظف الأعلى منه راضيًا عنه, تجده مرتاحا، ما دام هذا التاجر الغلة وفيرة فهو مرتاح، انظر إلى الناس, واحد ينتهي طموحه بالمال، واحد بالمتع، واحد ينتهي طموحه إذا أخذ شهادة عليا بتقدير امتياز، إنسان آخر ينتهي طموحه بمنصب رفيع، فالدنيا حلوة خضرة.
اللهُ عز وجل إذا منحك نعمة الزوجة، يمتحنك فيها، أترضيها بسخط الله؟ طلبت منه حاجة, إحدى الزوجات من أحد الصحابة، فقال لها: ((اعلمي يا فلانة, أن في الجنة من الحور العين, ما لو أطلت إحداهن على الأرض, لغلب نورُ وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأَن أضحي بكِ من أجلهن, أهون من أن أضحي بهن من أجلكِ))
انظر إلى هذا الموقف الرائع، موقف حازم، قالت له أمُّه: إذا لم تكفر بمحمد, أترك الطعام والشراب حتى الموت، قال: ((اعلمي يا أمي, لو أن لك مائة نفس, فخرجت واحدةً واحدة, ما كفرتُ بمحمد, فكلي إن شئتِ, أو لا تأكلي))
إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا: يأتيك شريك, يدخل بيعَ الخمور في المطعم، ما هذا؟ يقول لك: مضطرون من أجل الرزق، والعمل عبادة لله، وعندنا أولاد، فيقول: إن شاء الله في ذمته، وأنا لا دخل لي، ولكن يأخذ الربح آخر السنة مائة وثمانين ألف يقبضها، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا))
اعرف نفسك, أنك تُمتحن في اليوم آلاف المرات، في اليوم الواحد تُمتحن بالمال، تمتحن بالزوجة، تمتحن بالولد، تمتحن بالزبون، يأتيك زبون جاهل، تلبسه شيئا لا تريدها، قال لك: أنا لا أعرف, أريد لونا على ذوقك، أريد أن أقدمها هدية، وعندك لون لا يمشي، من ثلاث سنوات كاسد، هذا الموديل لون السنة، هذا الموضة يا أخي، الله امتحنك بهذا الزبون الجاهل.
أحيانا يبيع الإنسان مرابحة، أخي كم كلّفت البضاعة؟ خذ من المئة عشرة ربحا، يكون ذاهبًا إلى أوروبا، ويضع مصاريف الرحلة كلها، وذهب إلى إسبانيا نزهة خاصة، ويضيفها على المصاريف، حتى يصير رأس مال البضاعة بسعرها مرة ونصفًا، وليست مدفوعة من البضاعة، أنت قمت بنزهة، واشتريت البضاعة، فالله امتحنك بهذه الصفقة في المرابحة.
أحيانا تأتي واحدة, تجلس إلى جنبك في العمل، تقيم علاقات مثلا: صباح الخير، كيف أنت؟ ممكن الواحد يبدأ بموضوع، إني أخاف الله رب العالمين، فالله يمتحنك بالفتاة، يمتحنك بصفقة، ويمتحنك بزبون، يمتحنك بزوجة، ويمتحنك ببيت، يمتحنك بسيارة، بإنسان طلب منك حاجة، ((وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟))
، فأنت تحت المراقبة، قال تعالى:
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾
[سورة الفجر الآية: 14]
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
[سورة النساء الآية: 1]
الدنيا حلوة وخضرة، لكن إذا كان عقل الإنسان واسعًا, فهو دائما ينظر إلى ما سيكون، لا إلى ما هو كائن، فينقل اهتماماته من الدنيا، وبعد ذلك هي دنيا دنية، أي درجة ثانية، دنية في مستوى متعها، ودنية في وقتها، وقتها قصير، وخطرها حقير، والآخرة أبدية وأسعد، قال تعالى:
﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
[سورة طه الآية: 72-73]
((وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ))
لو استعرضت أحيانا أن فلانا, لماذا ترك الصلاة؟ وفلانا لماذا ترك مجلس العلم؟ لماذا انتكس فلان؟ ولماذا قصّر؟ لو كان هناك دراسات دقيقة تحليلية, لحالات عديدة من الانتكاسات, في طريق الإيمان, تجد أحد هذه الأسباب الدنيا أو المرأة، ومركز ضعف الإنسان المال والنساء، والإنسان لا يُكاد له إلا بالمال، لا يكاد له إلا من خلال المال، أو من خلال المرأة، فالنقطتان واضحتان تماما، ((فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ))
الدنيا أي المال، لأن المال مادة الشهوات، الإنسان من أجل المال, يمكن أن يخالف أمراً شرعياً، من أجل المال يخالف قناعاته، ومن أجل المال يضحي بدينه، ومن أجل المال يضحي بمبادئه، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا))
أنت خليفة الله في الأرض، يجعلك الله أبًا، هل تعدل بين أولادك؟ لما تؤثر ولدا على ولد، أحدهم ذكي، والثاني ليس عنده إمكانية أن يكون مثل الأول، تكتب لهذا البيت، وهذا تتركه بغير بيت.
عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
((انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي, فَقَالَ: أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟ قَالَ: لَا, قَالَ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي, ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى, قَالَ: فَلَا إِذًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
هذا كلام للأخوة الآباء، لا تميز ولدا على ولد، عامل جميع الأولاد بالعدل، لأنه إذا كان بينهما تفاوت في البر والطاعة, لعل عدلك في العطية, يجعلهم متساوين في البر، أما إذا فضّلت, تنشأ أحقادا، وتنشأ اعتراضات، ويصير هناك نوع من المشاحنات والخصومات، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟))
اعتبر نفسك كل يوم تحت المراقبة، وعندك كل يوم آلاف الامتحانات، مثلما قلنا: يمتحنك في الزواج، قبل الزواج أول صف، وبعد الزواج بآخر صف، بعد ذلك تبرك، درس نعم، درس لا، والله سهرت مع المرأة، قالت له: اجلس، لا تذهب إلى الدرس، قلت لنفسي: اجلس كما تريد، امتحنك الله بهذا الزواج ورسبت، يمتحنك بشرائك, ويدخلك في الحرام من أجل المال، يمتحنك بجار، يمتحنك بابن، يمتحنك بزبون، يمتحنك بوظيفة، يمتحنك بتجارة، يمتحنك بطارق طرق عليك الباب، يمتحنك بسائل، يمتحنك في بيتك، يمتحنك وحدك، فتح الشباك، ظهرت بنت الجار، نظر، من لم يكن له ورع, يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ اللهُ بشيء من عمله، يمتحنك وأنت جالس وحدك، يمتحنك أحيانا بكتاب، يمتحنك في المدرسة ، يمتحنك في الطريق، تمر امرأة على جانب من الجمال, تحفظ عينك أول مرة, وثاني مرة، صار هناك تقصير، من ملأ عينيه من الحرام، ملأهما الله من جمر جهنم، الأولى لك, والثانية عليك، من غض بصره عن محارم الله, أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه، النظرة سهم مسموم من سهام إبليس.
هذا الحديث صحيح أنه قصير وموجز، لكن واللهِ جامع و شامل،
((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا))
أحيانا تدعى على دعوة فيها مشروب، أخي الدعوة ثقيلة, لا أتركها تفوتني، والله أنا مشغول، تقول: مشغول، ليس عندي وقت، عندي ضيوف بالليل، لكن واللهِ يا أخي, لا أُذهِبها من يدي، صار هناك امتحان، وصار هناك مشروب، وهناك امتحان، وهناك نجاح, راقب نفسك تحت الامتحان، تحت الضرب دائما، في كل ثانية، ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا))
الله عز وجل استخلف الإنسان، واللهُ سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
[سورة البقرة الآية: 30]
والإنسان هو خليفة الله في الأرض،
((فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟))
قبل الزواج واللهِ يا أمي لا يوجد مثلك، واللهِ حتى أجعلها خادمة عندك، تتزوج، وتأتي، وتجد والدتك عابسة، ماذا عملت لها؟ وماذا قلت لها؟ لا تتركيها أنتِ، هكذا تُكلم الأم، ماذا أنت قلت سابقا؟ تجعلها خادمة عندك.
تجد إنسانا يرضي زوجته, ويغضب أمه، أو بالعكس، لماذا تريد الصهر أن تكون عينه على ابنتك، وأنت ضد كنتك؟ كذلك الله يمتحن النساء، عَنْ أُسَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ, فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ, وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ, غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ, قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ, وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ, فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
لأنه فيهن انحراف أحيانا.
واحدة عندها أولاد، وعندها أولاد زوج، توفت، رأوها في المنام في حالة صعبة، تحترق وتعذّب ثماني سنوات، حتى رأوها مرة في حالة طيبة، فلما سألوها: ما القصة؟ قالت لهم: الحليب، ما الحليب؟ أولادها تضع لهم في الكأس حليبا صافيا, وأولاد زوجها نصفه حليب ، ونصفه ماء، ثماني سنوات في البرزخ, تعذب من أجل كأس الحليب، تمتحن المرأة بأولادها وأولاد زوجها.
يكون عندك محل تجاري، وعندك صانع، وعندك ابن، هل تحمل أحيانا ابنك بقدر ما تحمل صانعك؟ تحمل الصانع شيئا يعرض ظهره للمرض، لا زالت عظامه ليِّنة, لا يتحمل أربعين كيلو على ظهره، إذا حمل ابنك كيليين اترك، من أجل ظهرك، ابنك من أجل ظهره، أما هذا الصانع فليس له أب، يمتحنك وترسب.
هذا الحديث يسع كل هذه المعاني, امتحان دقيق جدا،
((وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟))
تعامل الصانع أقل من ابنك، هذا يتيم, ليس له أحد يدافع عنه، لكن له ربٌّ، ابنك تخاف عليه، أحيانا يأتي الطعام لابنك أمام الصانع، تطعمه أطيب الأكل، أربع طبقات، ولا تقل للصانع: تفضل كل لقمة، يأكل أمامك سندويش فلافل، هذا الصانع مثل ابنك، لا تريد أن تكون مسلما صحيحا.
((وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ))
الدنيا أي المال، والنساء معروفة، فمراكز الضعف في الإنسان المال والنساء، إذا كان حصّن نفسه من جهة المال, ومن جهة النساء, فقد فاز برضوان الله عز وجل، إذا حصن نفسه من جهة المال, من هنا صار غض البصر ضروريًا، لا يكن هناك اختلاط ضروري، لا يكون هناك منفذ للشيطان، النساء حبائل الشيطان، إن إبليس طلاّع رصّاد، وما هو بفخوخه بأوثق لصيده من النساء.
الشيطان عنده خمسون فخًا للإنسان، فخ المال، فخ الشبهات، فخ العقيدة الزائغة، فخ مثلا بعض النظريات الحديثة، فخ العلو في الأرض، فخ النساء، وقال عليه الصلاة والسلام:
((النساء حبائل الشيطان....))
فتجد المؤمن متحصنًا، ولا يسمح بخطوة نحو الاختلاط, حتى لا يجره إلى متاهات, هو بعيد عنها، ((فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانَتْ فِي النِّسَاءِ))
أعيد على أسماعكم الحديث الشريف: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانَتْ فِي النِّسَاءِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
ما هو الأمر الذي وجهه النبي لأصحابه, ولماذا راجعت السيدة عائشة النبي بهذا الأمر, وماذا صنع النبي؟
والآن إلى بعض ما في السيرة من مواقف لسيدنا الصدِّيق رضي الله عنه.
أيها الأخوة الأكارم، في مرض النبي عليه الصلاة والسلام, اختار أبا بكر ليصلي بالناس مكانه، فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:
((مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ, فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ, إِذَا قَامَ مَقَامَكَ, لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ, قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, فَعَادَتْ, فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ, فَأَتَاهُ الرَّسُولُ, فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
هذا أمر من قِبل النبي عليه الصلاة والسلام لسيدنا الصدِّيق أن يصليَ بالناس، ولكن هذا الأمر له دلالات كثيرة جدا، السيدة عائشة راجعت سيدنا رسول الله: أن هذا أبي, رجل رقيق القلب, كثير البكاء، ليس عنده أعصاب تتحمل الوقوف مكانك ليصلي، فلو تأمر عمر ليصلي بالناس، فحينما روجع النبي عليه الصلاة والسلام, غضب وأعاد أمره مرتين, وقال:
((مروا أبا بكر فليصل بالناس))
هذا أمر نبوي، معنى ذلك: أن من وراءه دلالات كثيرة جدا، وامتثل الصدِّيق أمر النبي عليه الصلاة و السلام, وهو لا يدري، و لعله كان يدري أنه في تلك اللحظات, إنما يتسلم الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملها بعده. انظر إلى موقف أبي بكر يوم السقيفة:
أيها الأخوة, فوجئ سيدنا أبو بكر إثر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بموقف لم يكن يخطر له على بال، ذلك هو موقف السقيفة، الذي بدأ منذِرا بشرٍّ مستطير، ثم انتهى نهاية موفورة العافية والسعادة، إذ بويع أبو بكر خليفة وإماما، ما الذي حصل؟.
سيدنا الصديق من شأنه, أنه كان يحب العزوف عن مناصب الدنيا كشأن عمر، بل لعل عمر في زهده في الجاه والمنصب, كان يتأسّى بأبي بكر رضي الله عنه، ويتتبع خطاه، و جاء يوم السقيفة, ليجتاز إيمانه امتحانا رهيبا، كُتب على الرجل الذي كانت هوايته أن يعيش في الظل, ما دام أن ليس ثمة خطر يدعو، انظر إلى المؤمن إخلاصه الشديد, يجعله يؤثر أن يبقى في الظل، لا أن يكون في المقدمة، ولا في القمة، يحب أن يكون من عامة الناس، فالرجل الذي كان قرة عينه, في ألاّ تقع عليه عينٌ, وهو في مكان صدارة, يبعث في النفس زهوا وعجبا، أي التواضع من صفات المؤمنين، والمؤمن الحق يؤثر أن يبقى في الظل إذا لم توجد حاجة له، أما إذا وُجدت حاجة ماسة له, إيمانه يدفعه أن ينتقل من مكان إلى آخر.
فسيدنا الصدِّيق كان حييًّا، كان وديعا، كان أوّابا، لكنه أهل لأن يكون في هذا الموقف الصعب في المحور، فعلى أثر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, اجتمع نفرٌ كبير من الأنصار, في سقيفة بني ساعدة, ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة للمسلمين، علِم أبو بكر, وذهب إلى السقيفة, ومعه عمر, وأبو عبيدة رضي الله عنهم، لم يسارع أبو بكر ليحتجز الخلافة لنفسه، وإنما سارع ليكف الفتنة أولاً، ثم ليكبح الخلاف حيث وقف من يقول: يا للأنصار، ووقف من يقول: يا للمهاجرين، صار هناك فتنة، وصار هناك انشقاق، صار هناك أحداث رهيبة.
فسيدنا الصدِّيق غار على الإسلام, فأسرع إلى سقيفة بني ساعدة, لا ليحجز الخلافة لنفسه، بل ليقمع هذه الفتنة، واجه أبو بكر الجمع المحتشد في أناة، وكان ثمة كلمات تتطاير كالرصاص المقذوف، وكان ناس من الأنصار, يحرضّون الأنصار على التشبث بالخلافة, بأسلوب حادّ ولاهب، و كان هناك مهاجرون, يرفعون أصواتهم الزاجرة ضد رغبة الأنصار، وكادت تحدث فتنة، لقد فقَد الناس صوابهم بموت رسول الله.
الحقيقة: أن القضية متداخلة موت هذا النبي الكريم, والسيد العظيم, ترك فراغا كبيرا جدا، هذا الفراغ أوقع الناسَ في الخلل، صار هناك اضطراب، فلما أداروا خواطرهم حول موضوع الخلافة، وهم في جو الكارثة لا يزالون, اضطربت الأمور في أيديهم، واتسع نطاق البلبلة والاهتياج، و ليس أدلّ على هذا الموقف, كان دخيلا عليهم، هذا موقف غير أصيل، هم طيبون، هم مؤمنون، هم صادقون، هم متواضعون، وهذا الموقف دخيل عليهم، والدليل على أنه دخيلا عليهم: أنه تلاشى فجأة، صحيح أن أبا بكر سيؤثر المهاجرين الخلافة، ولكن ليس لأنهم مهاجرون أو قرشيون، بل لأن الهجرة أعطتهم مكان السبق في الإسلام، فالهجرة كانت نهاية لمرحلة العسرة, التي سُلِّط عليهم فيها كل بأس قريش, ليفتتنوا عن دينهم, فما ازدادوا إلا إيمانًا وثباتا، وهذا هو الميزان الذي يزن به أبو بكر الناس، المهاجرون أسبق إلى الإسلام، وأكثر تحملا، وأكثر ثباتا من الأنصار، وقد استنبط هذا الصدِّيق العظيم هذه الحقيقة من قوله تعالى:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾
[سورة التوبة الآية: 100]
ربنا قدّم المهاجرين على الأنصار, فهم أسبق عند الله عز وجل، ثم هو سيؤثر المهاجرين بالخلافة أيضا، لأن النفر الذين طلبوا الخلافة من الأنصار, قد حرصوا على أمر, جرت عادة رسول الله صلى الله عليه و سلم, ألا يمكِّن منه من يطلبه, أو يحرص عليه, وهي الولاية.
فسيدنا الصديق يذكر تماما, يوم ذهب العباسُ عمُّ النبي عليه الصلاة والسلام, يسأله أن يولِّيه ولاية، فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ:

((دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي, فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ, فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ, لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ, وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
ما دام سألتها فلا نوليك، وما دمت حريصا عليه لا نوليك، هناك عند السقيفة همّ عمر ليتكلم في الحشد الثائر، ولكن أبا بكر أومأ إليه بيمينه، واستأذنه هو أن يبدأ الحديث.
يقولون: إن سيدنا عمر قال: كنتُ أعددت كلاما, قاله عني أبو بكر فيه إشارة دقيقة: أن الإنسان يجب أن يعد الكلام ولا يرتجل.
فقال سيدنا الصدِّيق: يا معشر الأنصار, إنكم لا تذكرون فضلا, إلا وأنتم له أهل، -انظر إلى السياسة الحكيمة.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:

((لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ, وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ, وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ, وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ, حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ, حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ, فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ هَذَا الْحَيَّ, قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ, لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ, الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ, وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ, وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ, قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي, قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ, قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ, فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ, قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ, فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا, وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ, فَلَمَّا اجْتَمَعُوا, أَتَاهُ سَعْدٌ, فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ, قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَحَمِدَ اللَّهَ, وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ, ثُمَّ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ, مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ, وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ, أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ, قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ, فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ, أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا, تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ, أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ, وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا, وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا, لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ, اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ, وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ, وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ, قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ, وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا, ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا))

[أخرجه أحمد في مسنده]
ذكّرهم لا بفضله عليهم، بل بفضلهم عليه، فذابوا,
((أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ, قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ, فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ, أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ, وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ, وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ, وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ, أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا, تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا, وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ, أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ, وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ؟))
كلام رهيب، لا تحبون أن أرجع أنا معكم بذاتي، والناس يأخذون غنمة وشاة، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم، فقال: ((فبكوا حتى أخضلوا لحاهم))
ولما رأوه في مكة بعد الفتح، فقال: ((معاذ الله، بل المحيا محياكم، والممات مماتكم))
أنا عندكم، لا أتخلى عنكم، هذا الوفاء، وبمكة أساسا لم ينم في أيّ بيت، نام عند قبر خديجة وفاء لها.
يبدو أن سيدنا الصدِّيق تعلم منه، فما واجه الأنصارَ بفضله، قال: يا معشر الأنصار, إنكم لا تذكرون فضلا, إلا وأنتم له أهل، هكذا بدأ الصدِّيق قوله، ثم راح الحديث ينساب من قلبه، ومضى يدلي برأيه فيما يرشح للخلافة- قال: إنه واحد من اثنين؛ عمر بن الخطاب، ومسكه من يده، هذا خليفتكم، الرجل الذي أعزّ الله الإسلام به، وأبو عبيدة بن الجراح الذي وصفه النبي الكريم: بأنه أمين هذه الأمة, واقترب منهما أبو بكر, وتوسطهما, ورفع ذراعيهما بكلتا يديه, وقال للناس: لقد رضيت أحد هذين الرجلين؛ عمر وأبي عبيدة، وارتعدت يد عمر كأنما سقطت عليها جمرة ملتهبة، وغض أبا عبيدة عينيه الباكيتين في حياء شديد, وصارح عمر: واللهِ لأَن أُقدم, فيُضرب عنقي في غير إثم, أحبُّ إليّ أن أؤمر على قوم, فيهم أبو بكر، -وكان جلال الموقف أبلغ من كل مقال- فما كاد عمر, يلقي بكلمته هذه, ويتقدم باسطا يمينه, مبايعا أبا بكر, حتى ازدحم الأنصار على البيعة، وكأنما دعاهم من السماء داع
ألم أقل لكم قبل قليل: إن هذا الخلاف ليس أصيلا بينهم، إنه دخيل عليهم، موت النبي المفاجئ, ترك فراغا كبيرا، هذا الفراغ جعل اختلال توازن.
أحيانا يجد الواحد من زوجته موقفا غير صحيح، يكون قد سمعت خبرا مؤلما، أبوها مريض، إذا رأيت عمل الإنسان فيه خلل, قد تكون هناك مشكلة، إذا الزوجة وجدت زوجها سريع الغضب, قد يكون في محله التجاري مشكلة.
فالقصة: أن الصحابة الكرام, كانوا مثُلا عليا، الخلاف كان سريعا جدا، والدليل: كيف أن الناس اجتمعوا جميعا على هذا الخليفة العظيم؟.
الحقيقة: بدأت مشكلة كبيرة جدا، بل مشكلتان، فما كاد نبأُ موت النبي عليه الصلاة و السلام, يذيع في البلاد, حتى تصور المرجفون، والذين في قلوبهم مرض, ممن كان إسلامهم مداهنة وتقية، تصوروا أن النبي لم يمت وحده، وإنما مات الإسلام معه، وعليهم أن يتحركوا بسرعة, ليرثوا ذلك الدين الذي انتهى في ظنهم، وليستردوا جميع الامتيازات التي كانوا فقدوها تحت ضغط الدين الجديد. خاتمة الدرس:
أيها الأخوة, في الدرس القادم: نرى كيف أن سيدنا الصديق واجه فتنتين كبيرتين؛ الأولى فتنة الارتداد، والثانية الجيش الذي جيّشه النبي عليه الصلاة و السلام، وصار خلاف كبير حول إمضاء هذا الجيش, أو عدم إمضائه.
سوف ترون في الدرس القادم، كيف أن المسلمين لولا هذا الإنسان لهلكوا؟ وهكذا قال بعض أصحاب رسول الله.
أنقل لكم هذه الكلمة السريعة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه:

((لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما, كدنا نهلك فيه، لولا أن مَنَّ الله علينا بأبي بكر))
، لم يكن ثمة إنسان عنده إمكانية أن يحل محل سيدنا الصديق.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:24 AM   #17


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الخامس العاشر )

الموضوع : لعلك ترزق بة






الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، و زدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الحديث الأول : لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ.....
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الحديث النبوي الشريف :
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ))
[رواه الترمذي بإسناد صحيح على شرط مسلم]
معنى يحترف أي يكتسب و يتسبب لرزقه ، الاحتراف اتخاذ الحرفة وسيلة لكسب الرزق.
والحقيقة في اللغة كلمة " المهنة " خدمة الزوجة حصرا.
إلا أن الناس يستعملون كلمة " المهنة : بمعنى الحرفة خطأ.
النبي عليه الصلاة و السلام كان في مهنة أهله ، أي كان في خدمة أهله.
فالمهنة خدمة الأهل ، وأما أن يتخذ الإنسان عملا يكتسب منه رزقه فهذه حرفة.
فالنبي عليه الصلاة و السلام كان على عهده أخوان ، هذه " كان " ليست ناقصة ، ولكنها تامة ، بمعنى وُجد كأن تقول : كان الله ولم يكن معه شيء ، فكان إذا جاءت بمعنى وُجد فهي فعل ماض تام ، تفيد حدوث عمل في زمن معين ، إلا أن كان التي تربط تركيب الاسمية لزمن معين هذه كان الناقصة أما هذه تامة. (( كَانَ أَخَوَانِ))
أي وُجد أخوان على عهد النبي صلى الله عليه و سلم (( فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ))
يبدو أنهما أخوان و شريكان و شريكان في عمل ، فكان الأول يمضي وقته في دكانه، أو في مكان حرفته ، والثاني يعاونه ولكن يكثر في أن يأتي النبي عليه الصلاة و السلام ، هذا الذي يكثر من المجيء عند النبي عليه الصلاة و السلام ليطلب العلم ، فكأن الأول شكا إلى النبي عليه الصلاة و السلام أنّ جهد الثاني أو جهد أخيه لا يكافؤه ، لا يساويه ولا يوازيه ، فالنبي عليه الصلاة و السلام ما زاد على أن قال للأول الذي يمضي كل وقته في دكانه ، والذي هو متألِّم من أخيه الذي يأتي النبيَّ عليه الصلاة و السلام لطلب العلم ، النبي عليه الصلاة و السلام ما زاد على أن قال : (( لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ))
هذا الحديث فيه دقة بالغة ، لأن الذي يطلب العلم ، إنما يطلبه لغيره ، يتعلم ليعلِّم ، فنفعه يعم الأمة ، لذلك النبي بارك عمل الثاني في أنه يأتي النبيَّ عليه الصلاة والسلام ليطلب العلم ، وطمأن الأول أن الله عز وجل سوف يؤجرك لتساهلك مع أخيك ، و كأنك شريكه في الأجر ، وكأن لك حصة مما يتعلم ، لأنك تبذل جهدا أكبر من جهده ، وهو يبذل جهدا ليتعلم ويعلِّم ، فلعلك تُرزق به ، إذًا هذا الحديث من أشهر الأحاديث التي يبارك فيها النبيُّ عليه الصلاة و السلام لطلبة العلم.
الفرق بين العبادة وبين العلم
العبادة إنما تكون لذات الإنسان ، لكن العلم إنما يكون لجميع الخلق ، فالذي يطلب العلم من أجل أن يعلِّم ، والذي يعبد من أجل أن يسعد ، والله سبحانه وتعالى ما خلقنا في الدنيا لكي نقعد ولا نعمل ، العمل جزء من الدين .
من خلال هذا الحديث الشريف يتضح لكم أن طالب العلم تضع له الملائكة أجنحتها رضى بما يصنع ، وأن الذي له شريك ويطلب العلم فالشريك الأول له نصيب كبير جدا من أجر شريكه لأنه يتعلم ليعلِّم الحديث الثاني : خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ.....
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول ، عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))
[رواه البخاري]
لو فرضنا أخوين في دكان ، واحد منهما ملتزم بحضور مجالس العلم ، فإذا غادر الشريك الأول، الأخ الأول الدكان قبل المغرب بساعة ليصل إلى مجلس العلم ، الثاني الذي يبقى في الحانوت لا ينبغي أن يتألّم ، لا ينبغي أن يضجر ، يجب أن يعلم علم اليقين أنه مأجور بتساهله مع شريكه ، إذا كان طالب علم ، أما لو دخل شريكه ليصلي نفلا في المسجد فإنه لا يؤجر ، لأن هذا الوقت وقت العمل ، لو ذهب ليصلي الفريضة هذه لا شك فيها ، و لكن لو ذهب الشريك ليصلي وقت الضحى ثماني ركعات في المسجد تقربا إلى الله عز وجل هذا ليس عملا صالحا ، لأنه لم يبذل جهدا مكافئا لجهد شريكه في المحل ، إنه يتعبّد الآن ، العبادة شيء والعلم شيء آخر، قال : (( لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ ))
هذا الحديث يجب أن يوضع بين يدي كل مؤمن ليعلم أن طلب العلم لا شيء يعدله ، ولا شيء يفوقه ، ولا شيء يسمو عليه ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم ، والحقيقة أن أيَّة مشكلة تنشأ في حياتك سبب ها الجهل ، كم أسرة انهارت ، كم من امرأة طُلقت ، كم من زوج لقي جزاء عمله بسبب جهله ، لو أنه طلب العلم لما وقع في شر عمله ، لو أنه عرف حدود الله لما دفع الثمن غاليا ، لو أنه طبق الشرع الذي يجهله لما وقعت هذه المشكلة ، لو أنه عرف كيف ينبغي له أن يقرض وكيف ينبغي أن يستقرض ، وكيف ينبغي له أن يبيع ، و كيف ينبغي له أن يحترف ، من خلال مجالس العلم لما وقع في هذه الورطة الكبيرة ، لذلك ما من مشكلة ، وما من ورطة ، ومن مأساة إلا وراءها جهل مطبق ، أو إلا وراءها معصية لله عز وجل ، وما من معصية إلا وراءها جهل مطبق ، فلذلك طلب العلم فريضة ، و الذي يؤكده أن طلب العلم فرض عين ، أي على كل مسلم تقول لي : أنا اختصاصي محاماة ، طلب العلم عليك فريضة ، أنا نختص بالطب ، أنا مهندس ، أنا تاجر ، أنا صاحب مهنة ، أنا صاحب مصلحة ، طلب العلم فرض على كل مسلم ، هو نفسه هذا الطلب يرفع من شأن المسلم لأن الله سبحانه وتعالى ما اتخذ وليا جاهلا ، ولو اتخذه لعلمه ، ما اتخذ وليا جاهلا . فائدة .
يفيد هذا الحديث أيضا أنه من انقطع لطلب العلم والتفقه في أحكام الدين لحفظ شريعة لله عز وجل فإن الله سبحانه و تعالى يهيئ له من يقوم بشؤونه و يكفيه حاجاته ، سبحان الله طلب العلم مطلب ثمين ، ربنا عز وجل يكافئ طالب العلم بأنه ييسِّر له أعماله في الدنيا ، من طلب العلم تكفل الله برزقه ، بمعنى أنه يعمل عملا قليلا ويكسب قوت يوه من دون حرج ، ومن دون ضيق ، ومن دون مشكلة ، لأن الله سبحانه وتعالى أول مكافأة له هذا الكلام لكم أيها الإخوة الأكارم ، أول مكافأة تكافؤون بها من قِبل الله عز وجل أنهم لما كنتم تطلبون العلم لوجه الله عز وجل فالله سبحانه و تعالى حق عليه أن ييسر لكم أموركم ، في أعمالكم ، الحديث القدسي :
(( ابن آدم خلقت لك السموات و الأرض و لم أعي بخلقهن ، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين ، ليعليك فريضة ، ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي و جلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلِّطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك و لا أبالي ، وكنت عندي مذموما " أنت تريد و أنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ))
[ ورد بالأثر ]
هذا الكلام كلام النبي عليه الصلاة و السلام ، ولا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
أنا أستمع إلى قصص كثيرة ، أن إنسانا آثر الدنيا على الآخرة فخسر الدنيا و الآخرة ، واللهِ وفق هذا الحديث آلاف القصص ، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معا ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معا.
فمن خلال هذا الحديث الشريف الأول : (( لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ ))
يتضح لكم قيمة طلب العلم ، هذا الوقت لله ، الإنسان حينما يؤدي زكاة ماله يجب أن يعلم علم اليقين أنه يجب عليه أن يؤدي زكاة وقته ، زكاة الوقت أن تقتطع من وقتك الثمين وقتا تتعرف فيه إلى الله عز وجل ، إلى كتابه ، إلى سنة نبيه ، إلى أحكام دينه ، إلى سيرة أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله ، هذا الوقت حينما تبذله رخيصا الله سبحانه وتعالى يبارك لك في وقتك .
كان بودّي أن تعلموا أنه يمكن أن يُستهلك وقتُك استهلاكا رخيصا لا حدود له ، قطعة في ماكينة عندك ، تستهلك لك عشر ساعات ، أو عشرين ساعة ، أو أياما عديدة ، من دون طائل ، فلذلك : احفظ الله يحفظك ، ابذل وقتك في سبيل معرفة الله يبارك لك الله في وقتك . الحديث الثالث : اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ.....
عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ
(( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ))
[رواه أبوداود والترمذي وغيرهما بأسانيدَ صحيحة]
الدعاء مخ العبادة ، العبادة هي الدعاء ، الدعاء اتصال بالله عز وجل ، على وجه الحاجة خرجت من البيت ، يا ترى في هذه الساعات الثماني التي سوف أقضيها خارج البيت ، هناك مفاجآت ، هناك مشكلات لا يعلمها إلا الله ، إذا خرجت من بيتك متكلا على الله عز وجل ، وقد دعوته أن يحفك من أن تضل أو تضل ، أحيانا الإنسان يخرج من بيته ذهب إلى متجره ، يسمع قصة غير صحيحة عن صحابي فيصدِّقها ، فيسيء الظن بهذا الصحابي ، يسمع تفسير آية غير صحيح ، و يسمع فكرة تتناقض مع الدين ، ليس عنده إمكانية فيصدقها أحيانا ، تفوت عليه وقع في الضلال ، فهذا حينما يسيء الظن بالله عز وجل ، وحينما يعتقد بالله عز وجل ما لا ينبغي أن يعتقده ، حينما ينحرف في اعتقاده ، فهذا قد ضل ضلالا بعيدا ، فالإنسان يجب أن يستعيذ بالله من أن يَضِل أو أن يُضِل ، أي يوجِّه الناس توجيها غلطا ، يوجهه نحو الدنيا ، يوجهه نحو معصية ، نحو مخالفة ، نحو شبهة ، فقد أضلهم ، وكل من فعل هذه الشبهة في عنقه. الحديث الرابع : مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً.....
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَبْطَئُوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ رَسُولُ اذللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))
[رواه مسلم]
هذه مشكلة ، الإنسان إذا سُئل ، استُفتي ، يبدو أنه رجل ديِّن فسأله بعضُ جيرانه في السوق ، بعض أصدقائه في المدرسة ، بعض إخوانه في عمل ، في دائرة ، سألوه في قضية متعلقة بالزواج ، متعلقة بالطلاق ، متعلقة بكسب المال ، هل هي حلال ، وهل تجوز ، وراح أفتى فتوى غير صحيحة ، فتوى مرتجلة ، ليست مستندة إلى علم ، و لا إلى نص شرعي ، ولا إلى رأي عالم جليل ، إنما هي من بنات أفكاره ، قد ضل ضلالا كبيرا ، هو الآن أضلَّ ، فالإنسان بين أن يُضل ، وبين أن يُضِل ، وكلاهما خطر ، إذا ضل فقد ضل ، أما إذا أضل فقد تحمل إثمَ كل من أضله ، قال تعالى : ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ﴾
[سورة النساء الآية : 85]
يتحمل المسؤولية ، كل توجيه لو أنك أفتيت بأن هذه الطريقة لكسب المال حلال ، كل من فعلها في صحيفتك ، لو أنك أفتيت أن هذه الطريقة في معاملة الناس صحيحة ، كل من قلّدك فيها فهو في صحيفتك ، لذلك الإنسان هذا دعاء يجب أن يدعوه كل إنسان ، والإنسان يخرج من بيته يا ترى يلتقي بإنسان يغيِّر له عقيدته ، يعطي قصة غير صحيحة ، يعطيه فكرة ما أنزل الله بها من سلطان ، يثير في قلبه شبهة ، يثير في قلبه مشكلة ، "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ " الضلال قضية اعتقاديه ، "أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ " أي تزل قدمي فأرتكب معصية ، دخل إلى محل فيه اختلاط فقعد ، وجد الجلوس ممتعا ، زلت قدمه ، سمع قصة ماجنة من صديق ، استمع لها باهتمام ، زلت قدمه ، يبيع بيعة فيها عيب خطير ، قال : اسكت ، ألبسه إياها ، أنت أولى الناس بثمنها ، عندك أولاد ، والوقت صعب ، هذا كلام الشيطان ، عندك أولاد والوقت صعب ، اخلص منها ، أخفى العيب فزلّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ " إما أن أَزِلّ من تلقاء ذاتي ، أو أُدفع إلى أن أَزلّ ، واحد أخي فيها عيب ، حطها برقبتي ، ما معنى رقبتك ، ومن أنت حتى تضعها في رقبتك ، فالإنسان يقع في ظن ، يسحبوه إلى غداء ، لا يجوز أن أقعد في هذا المحل ، أخي لا يكن دينك سميكا كثيرا ، حلها برنة ، فحلها برنة فزلّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ " الإنسان أحيانا يظلم زبونه ، ويكون الزبون ماله حلال فيقول له : رجاء انصحني ، فيعطيه شيئا يغشه فيه ، صار فيه ظلم ، أخذت منه مبلغا لا يساوي هذه الحاجة ، صار هناك ظلم ، أحيانا يظلم الواحد صانعا عنده ، أحيانا يظلم زوجته ، أحيانا يظلم جاره ، أحيانا يكون جارُه أضعف منه فيظلمه ، أحيانا يظلم شريكه ، يكون المحل باسمه وشريكه ليس له شيء ، فيضايقه و يظلمه ، يعطيه أقل من حقه ، والظلم ظلمات يوم القيامة ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ " لا أظلِم و لا أُظلَم ، " أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ " هنا الجهل السفاهة ، الجهل بمعناه الأول ضد العلم ، والجهل بالمعنى الثاني السفه ، قال الشاعر :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن هنا سُمّيت الفترة التي سبقت بعثة النبي عليه الصلاة و السلام بأنها الجاهلية ، كان فيها شرب الخمر ، و كان فيها الربا ، و كان فيها عبادة الأصنام ، هذا كله جهل ، فيها عصبية ، فيها حروب طاحنة لأسباب تافهة ، فيها إزهاق أرواح ، فيها اغتصاب نساء ، فيها غصب أموال فيها عبودية ، كلها طافحة بالمخازي :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والله هذا دعاء جميل جدا : اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ " أحيانا الإنسان يظلم ، مصحِّح من دون ما يهتم بالجمع الإحدى عشر نقلها واحدا ، كان الطالب والده متوفى قدم بكالوريا ينتظر يدخل الجامعة فرسب ، هذا رسب ظلما ، هذا المصحِّح لم ينتبه للجمع ، مستعجل و تضايق ، فصار فيه ظلم ، وقع في الظلم أحيانا تنهار أسرة برسوب طالب ، أسرة بكاملها ، فكل إنسان مسؤول ، أحيانا طبيب يسأل ينسى أن يسأل المريض سؤالا عن الحساسية يعطيه إبرة بنسلين فيحدث معه صدمة ، يأخذونه على المستشفى فيدفعون عنه عشرة آلاف ليرة ، اسأله هل معه حساسية ، ظلمه ، أحيانا محامي يظلم من دون أن يشعر ، تكون القضية تُحل صلحا ، لا أخذ لك حكما لمصلحتك ، يتركه ثماني سنوات في القضاء ، والله ما مشي الحال ، قل له من الأول ، فأحيانا يكون الظلم ، المهن الراقية يكون فيها الظلم أحيانا ، فالظلم أن تعتدي على حق الآخرين ، أن تعتدي على أموالهم ، أن تعتدي على أعراضهم ، أن تأخذ ما ليس لك بحق أن تأخذه . الخلاصة :
هذان الحديثان أتمنى عليكم أن تحفظوهما ، وأن تدعو بهما ، فالأول فيه حثٌّ على طلب العلم ، والثاني فيه دعوة إلى أن تستعين بالله سبحانه و تعالى كلما واجهت مشكلة ، أو كلما خرجت من بيتك .
سيدنا أبو بكر الصديق بعض من مواقفه.
والآن إلى بعض مواقف سيدنا الصديق رضي الله عنه ، تحدثنا في الدرس الماضي أن هذا الصحابي الجليل سيدنا الصديق واجه بعد وفاة رسول الله مشكلتين ؛ فالمشكلة الأولى أنه في البلاد البعيدة من المدينة كلن أكثر المسلمين حديثي عهد بالإسلام ، و كان الدين مرتبطا في وجدانه ارتباطا كاملا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلما مات النبي عليه الصلاة و السلام و قوام فيهم من رؤسائهم من استغل حداثة الإسلام و دعا إلى الارتداد عنه ، والحق أنها لم تكن أول الأمر ردة كاملة عن الدين ، إنما كانت امتناعا عن دفع الزكاة ، أول ظاهرة مرضية ، أول ظاهرة امتناع في حكم سيدنا أبي بكر أن بعض الناس من أسلموا حديثا امتنعوا عن دفع الزكاة ، لكن أبا بكر رضي الله عنه بنظره الثاقب ومحاكمته الدقيقة رأى أن هذه ردة ، رآها ردة عن الدين ، ورآها عجما لعود الإسلام ، جس نبض ، بعد أن مات الرسولُ ، فإذا أبدى الإسلام ، فكان هناك اتجاهان ؛ الأول يرى ألاّ يُقاتَل هؤلاء ما داموا لم يقترفوا سوى امتناعهم عن الزكاة ، و على رأس هذا الفريق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، القضية صغيرة يجب أن لا تحمل خليفة المسلمين على أن يقاتلهم من أجلها ، هذا رأي سيدنا عمر ، ورأي آخر يرى أن الزكاة ركن من الدين ليس من حق الخليفة أن يدع الناس يهدمونه ، ويرى أن الامتناع عن أدائها ليس سوى البداية ، وليس سوى حركة استطلاع يتوالى بعدها القضاءُ على الإسلام ، وحمل لواء هذه الدعوة أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه ، فصار عندنا اتجاهان ؛ الحقيقة لو سئل الناس : من الذي سيكون أكثر صرامة و شدة ، ومن الذي سيكون أكثر لينا و مهادنة ؟ لما ترددوا في أن يشيروا إلى عمر بن الخطاب مناديا بالقمع الصارم ، وإلى أبي بكر داعيا إلى الأناة و الحلم ، و لكن الذي حدث عكس ذلك ، الإنسان الوديع اللطيف الهادئ الصامت الرقيق الذي يؤثر أن يبقى في الظل من دون ضجيج ، أغلب الظن أن هذا الرجل الهادئ سيختار موقف اللين ، موقف المهادنة ، وموقف الموادعة ، موقف المسايرة ، موقف التساهل ، وأن سيدنا عمر سيأخذ موقفا شديدا ، والذي حصل هو العكس ، والحقيقة لقد باكر سيدنا الصديق الأزمة بإرادة مشحونة مشحوذة مصممة على أن يضرب في غير تردد ، موضِّحا اقتناعه بهذه الكلمات ، كان موقفه.
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ))
[رواه البخاري]
أما عمر فيقف من الأزمة موقفا مغايرا ، ويوجه إلى الخليفة هذا السؤال : " كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ " ويجيب أبو بكر ألم يقل الرسول : إلا بحقها ، ألا إن الزكاة من حقها ، سيدنا أبو بكر يكشف في موقف هذا عن يقين المؤمن ، وعن بصيرته النافذة ، وعن يقينه بالله وبرسوله الذي يرتفع إلى مستوى الإذعان المطلق لما ألقياه من أمر و منهج ، وهو بهذا يحمل كل مسئوليته عن الدين ، فلا يسمح أن يتغير على عهده شيء من شرع الله و سنة رسوله ، وكل فريضة توفي النبي عليه الصلاة و السلام وهي قائمة ، و لا بد من أن تضل قائمة مهما تكن التضحيات .
سيدنا عمر قال : فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ " ، يبدو أنه تأمل وجد في النهاية أن رأي سيدنا الصديق هو الأصوب و هو الأجل و هو الأحكم وهو الأعقل وهو الأقوى ، لذلك قال : فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ .
سيدنا ابن مسعود يقول : لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر " القضية لها أبعادها ، فلو تساهل لانتهى الإسلام .
عندنا موقف آخر ؛ هذا الموقف أن النبي عليه الصلاة و السلام قبيل وفاته أعدّ جيشا تحت إمرة أسامة بن زيد ، سينا أسامة بن زيد لا يزيد عمره عن سبعة عشر عاما ، وكان في هذا الجيش أصحاب رسول الله الأجلاء ، بما فيهم سيدنا عمر ، و سيدنا عثمان و سيدنا علي ، وكان قائدهم أسامة بن زيد ، حِبُّ رسول الله ، الحقيقة هنا سؤال ؛ وكان الجيش يوم مات النبي عليه الصلاة و السلام معسكرا على بُعد أميال ثلاثة من المدينة ، يتهيّأ للسير ، وأرجأت وفاة النبي عليه الصلاة والسلام زحفه ، و اختلف الناسُ بعد هذا في أمره ، فرأى فريق من المسلمين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب أن بعْث جيش أسامة إلى الشام مخاطرة رهيبة ، في الوقت الذي أصبحت فيه المدينة نفسها عاصمة الإسلام مهددة بغزو المرتدين ، معقول نرسل جيشا من المدينة إلى الشام للفتح ، وكون المدينة حركة ارتداد خطيرة جدا ، ربما قضت على الإسلام كله ، هذا كان موقف سيدنا عمر بالعقل ، الإنسان قبل أن يفتح بلادا أخرى يضمن سلامة بلاده الداخلية ، ورأى سيدنا عمر ضرورة عودة الجيش إلى المدينة ليكون في مواجهة الأحداث الجديدة الزاحفة ، وكان أسامة نفسه قائد الجيش من أصحاب هذا الرأي ، القائد نفسه كان رأيُه أن يتجه هذا الجيش لحماية المدينة ، لكن أبا بكر رضي الله عنه رأيه غريب حسب المنطق ، يستمد منطقه من إيمانه وكل قضية عنده تتسع للاجتهاد إلا قضية أبرم الله فيها حكما ، إذا القضية اللهُ سبحانه وتعالى أبرم فيها حكما هذه قضية مقطوع فيها ، أو أصدر النبي عليه الصلاة و السلام فيها أمرا ، لقد أمر النبي عليه الصلاة و السلام قبيل وفاته أن يُنفذ بعثُ أسامة ، فليكن ما أمر النبيُّ به ، مهما تكن مستحدثات الظروف ، ومهما تكن الأخطار التي تهدِّد المدينة ، وهكذا كان جواب أبي بكر للناس ، ماذا قال ؟ قال هذا الصحابي الجليل : أنفِذوا بعْث أسامة ، فواللهِ لو خطفتني الذئابُ لأنفذتُه كما أمر النبي عليه الصلاة و السلام ، وما كنتُ لأردّ قضاءً قضاه النبي عليه الصلاة و السلام " موقف إيماني ، في المنطق لا بد أن لا يخرج ، منطق الأحداث ، و بمنطق الواقع يجب أن يبقى الجيش في المدينة ، لكن في منطق الإيمان هذا الجيش جيّشه رسول الله ، وهذا القائد عيّنه رسول الله ، وعاد بعض المسلمين و على رأسهم عمر بن الخطاب يطلبون من أبي بكر أن يجعل على رأس الجيش قائدا غير أسامة ، هذا صغير جدا ، طيب ننفذ هذا الجيش ، لكن غير القائد ، الذي كان فتى صغير السن محدود الخبرة ، و لا سيما وفي هذا الجيش شيوخ الصحابة وأجلاؤهم ، وهذه المسالة أيضا إذا بُحثت في المنطق المجرّد يبدو ذلك الرأي سديدا ، لكن أبا بكر في هذا شأنه في كل أمر يستمد منطقه من إيمانه ، فالذي ولّى أسامة هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولقد رضيه الله الصحابة ورسول الله حي ، أفيخلع أبو بكر رجلا ولاّه النبيُّ عليه الصلاة و السلام ، مستحيل ، ولم يكد عمر يعرض الرأي ليُقترح على أبي بكر حتى ثار هذا الرجل الحليم ، والحليم قلّما يثور ، و لكن إذا ثار شيء مخيف ، ثار ثورة ما ثار مثلها قبلاً ولا بعدًا ، ولندع شاهد عيان يصف لنا المشهد فيقول : لما قال سيدنا عمر هذا الجيش لا نرسله ، وإذا كان بسرعة إرساله فقائد آخر ، وثب أبو بكر من مكانه ، وأخذ بلحية عمر و هزّها هزًّا شديدا ، وقال : ويحك يا ابن الخطاب ، ثكلتك أمُّك أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ، أيولِّيه رسول الله و تأمرني أن أعزله ، هكذا ، ما هذه الشخصية ؟ هذا الوديع اللطيف البكَّاء الحليم الهادئ الذي يؤثر أن يبقى في الظل هكذا يفعل ، ثم قام يتبعه عمر ، قام سيدنا الصديق يتبعه عمر إلى حيث كان الجيش معسكرا فدعاهم للتحرك على بركة الله ، و سار معهم وودّعهم ، و مشى الخليفة على قدميه إلى جوار أسامة الذي كان ممتطيا ظهر فرسه ، أسماة الشاب الذي لا يزيد عن سبعة عشر عاما يركب فرسه ، و سيدنا الصديق الشيخ الوقور خليفة المسلمين يمشي على رجليه ، سيدنا أسامة كله أدب ، واستحيا أسامةُ فهمّ بالنزول داعيا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الركوب ، فثبّته أبو بكر بيده في مكانه ، وهو يقول : واللهِ لا نزلتَ ولا ركبتُ ، وماذا عليّ أن أغبِّر قدمي في سبيل الله ساعة ، وأراد أن يبقى راكبا ليرفع له شأنه أمام أفراد الجيش ، كل أمر عنده سهل ، و كل جلل يهون إلا أمرا يدعوه إلى الخروج قيد أنملة عن طاعة الله و رسوله .
بعد ذلك لم تكد القبائل المرتدّة تشهد جيش أسامة متوجها نحو الشام إلا خافت ، وقالت : واللهِ لو كانت المدينة تئن تحت وطأة الضعف والخلاف كما سمعنا ما كان بوسعها أن تبعث هذا الجيش في هذه الأيام لتقاتل الروم ، فالذي حدث أن خروج هذا الجيش إلى الشام و الفتن مستعرة في المدينة ، والارتداد على أوجه أوحى لكل المرتدين أن الموقف متين جدا ، قالوا : واللهِ لو كانت المدينة تئن تحت وطأة الضعف والخلاف كما سمعنا ما كان بوسعها أن تبعث هذا الجيش في هذه الأيام لتقاتل الروم "
نعيد عليكم مرة ثانية قول ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن منَّ الله علينا بأبي بكر " وهذه القصة لها مغزى ، أحيانا بمنطق التجارة إذا كان لم تعمل كذا ما رفعت السعر إذا كان البيع إلى أجل لا تربح ، هذا منطق التجارة ، إذا كان هذا المبلغ ديّنته لفلان وأرجعه لي بعد سنة ذهبت نصف قيمته ، لا يناسبي ، هناك منطق تجاري ، هناك منطق مادي ، هناك منطق بيع و شراء ، هذه القضية ، و هناك منطق الإيمان ، منطق الإيمان يقول لك : ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
[سورة البقرة الآية : 245]
منطق التجارة أن هذه المائة ألف إذا ديناهم نأخذها بعد سنة ستين ألفا ، بالقوة الشرائية ، هكذا العادة كل الدول تضخم نقدي ، هذا المبلغ بقدر القدرة الشرائية ، فإقراض الناس عمل أحمق أخي ليس معي ، أو ترجعها بشكل معين ، بقيمة ثابتة ، وهذا فيه إرهاق للإنسان ، بمنطق الإيمان إقراض الناس عمل عظيم ، يكافئ الله عليه ، بالمنطق التجاري الإقراض عمل غير حكيم .
التعليق الذي أتمنى أن يكون واضحا أمامكم أن في حياتنا كلها منطقين ؛ منطق مادي و منطق الإيمان ، أخذنا مثلا القرض ، في منطق التجارة و منطق قيم الأموال الإقراض حمق ، بمنطق الإيمان أنت إذا أقرضت هذا الإنسان رضي الله عنك ، وكأنك أقرضتَ اللهَ عز وجل ، المؤمن لا تحركه المقاييس التي هي سائدة في المجتمع ، تحركه قيم أخرى ، قيم نابعة من كتاب الله ، فلما ربنا عز وجل يقول لك : ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
[سورة البقرة الآية : 245]
أنت بهذا تتمنى أن تقرض الناس مبلغا من المال ، أما المنطق التجاري ، والمنطق المادي هذا العلم غير مجدي ، لما الطالب يكون جالسا في بيته يدرس ، ويحين وقت مجلس علم ، بمنطق الوقت هذا استهلاك للوقت ، لو قعد في البيت و ألغى الدرس لقرأ بحثا ، وقرأ فصلا ، لكنه في منطق الدراسة لا بد أن يلغي حضور مجالس العلم ، أما منطق الإيمان لعله إذا حضر هذا المجلس و تعلم حكما أو آية أو حديثا ، لعل الله ينفعه به طوال حياته ، واللهُ سبحانه و تعالى يفقهه ، فأنت دائما في كل حركة ، في الزواج ، الإنسان أحيانا يختار امرأة غنية ، وهناك امرأة غنية و لكنها مؤمنة ، في منطق المادة هذه الغنية قد تأخذ مالها و قد تسكن في بيتها ، وقد تستفيد من حسبها و نسبها ، أما هذه المؤمنة بالمنطق المادي قد لا تنفعه ، ولكن الله سبحانه و تعالى قد يبارك لك في كل حياتك إذا اقترنت بهذه المؤمنة ، الإنسان السعيد دائما يسلك مسلك أصحاب رسول الله ، يسلك مسلك المؤمنين ، يتبع سبيل المؤمنين ، أما هناك منطق آخر ، انظر إلى سيدنا الصدِّيق ، كم هو الأمر واضحا ، لا بد أن لا يرسل الجيش ، لا بد أن يغيِّر قائد الجيش ، لا بد أن لا يحارب المرتدين ، هذا منطق العصر ، هو أخذ منطقا آخر ، أخذ منطق الإيمان ، في البيع و الشراء ، يمكن أنك أنت تقدر تطلب سعرا غاليا جدا ، والبضاعة لا توجد منها إلا عندك ، هذا منطق التجارة ، أنا حافظت على البضاعة ، هناك منطق آخر ، أنهم مسلمون مؤمنون بعها بسعر أقل ، خفِّف على الناس أعباء الحياة ، هذا منطق آخر النية العالية ، لا تعرف ربما يبعث الله لك رزقا مبحبحا ، بهذه النية العالية .
قال لي واحد : عندي محصول فاكهة معينة أسعاره متدنية جدا ، لو أردت أن أجمعه و أدفع اليد العاملة وأشتري له صناديق سأخسر ، أخسر حوالي عشرة آلاف ، أما إذا تركته تأكله العصافير لا أخسر ، ولكن غلب عليه منطق الإيمان أن هذه الفاكهة إنما خلقها الله لتكون طعاما للناس ، فدفع عشرة آلاف ليرة خسارة ، بين يد عاملة وقطف و تسليط ، قال لي : واللهِ اللهُ بعث لي من جهة ثانية ما كانت في الحسبان مبلغ عشرين ألف ليرة ، فأنت دائما أمام منطقين ؛ منطق الإيمان و منطق المادة ، هناك منطق مادة يحكم زواجك ، و يحكم طلاقك ، زوجة صار معها مرض عضال ، ما هذه البلوى ؟ يخلص منها ، و يطلقها ، ليس لنا مصلحة فيها ، هذا منطق المادة ، لكن منطق الإيمان ، منطق الوفاء ترعاها حتى آخر لحظة ، فأنت دائما ضع نفسك كمؤمن بين أن تكون مؤمنا تعمل وفق القيم النابعة من كتاب الله ، و بين أن تكون إنسانا ماديا تعمل وفق القيم النابعة من التعامل اليومي مع الناس، وتأكّد أن الخير و التوفيق و النجاح و العاقبة مع الذين يسلكون منطق الإيمان ، في كل حركاتهم و سكناتهم ، يمكن أن تبيع بيعا رخيصا ، ليس فيه رفع سعر ، الله عز وجل يبارك لك في صحتك وفي أهلك و في أولادك ، حسب الحسابات إذا بعنا ، وعندي عشرة آلاف قطعة ، إذا رفعناها بليرتين معناها بعشرين ألف ليرة ، رفعناها بثلاثة ثلاثون ألفا ، رفعناها بخمسة حصرناها ، لا يوجد عندنا غيرها ، ربحنا مائة ألف ، هذا منطق المال ، أما إذا كان خففت على المسلمين ، وكان سعرك معتدلا ، لعل الله عز وجل يطرح لك في هذا المال البركة ، ويجعلك سعيدا في حياتك ، والمال عندئذ لا يقدم و لا يؤخِّر .
أنا أتمنى عليكم وقد سمعتم بآذانكم موقف هذا الصحابي الجليل كيف أنه يؤثر منطق الإيمان على المنطق الآخر ، إذا آثرتم هذا المنطق سعدتم في الدنيا و الآخرة.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:27 AM   #18


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( السادس العاشر )

الموضوع : باب الاستقامة - قل امنت بالله ثم استقم - من مواقف ابى بكر






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إليكم ما يعنيه المصطفى عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث:
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في الحديث النبوي الشريف، وفي باب الاستقامة، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
أعيد قراءة الحديث، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
أيها الأخوة الأكارم, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ, وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
فهذا الحديث كما يقول علماء الحديث: من جوامع الكلم، النبي عليه الصلاة والسلام الإسلام كله ضغطه بكلمتين, قُلْ:
((آمَنْتُ بِاللَّهِ -العقيدة- ثُمَّ اسْتَقِمْ))
العمل.
آمَنْتُ بِاللَّهِ: المنطلق النظري، ثُمَّ اسْتَقِمْ: التطبيق العملي، قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ: الفكر، ثُمَّ اسْتَقِمْ: في السلوك، فالإسلام اعتقادٌ وعمل، منطلقٌ نظري وتطبيقٌ عملي، فهمٌ وسلوك، لذلك متى ضلَّ المسلمون؟ حينما اكتفوا بالاعتقاد, وقصَّروا في العمل.
هذه الكلمات الجامعة المانعة للنبي عليه الصلاة والسلام, ينبغي أن نعيها حق الوعي، قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ.
ليسأل أحدنا نفسه: متى آمنت بالله؟ كيف آمنت بالله؟ بماذا فكرت حتى آمنت بالله؟ هل حضرت مجالس العلم حتى آمنت بالله؟ أيظن أحدكم أنه إذا قال: لا إله إلا الله, ولم يقلها بحقها, أتجزئه؟ لا والله، قال عليه الصلاة والسلام: ((من قال: لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة, قيل: يا رسول الله, وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله))
فإذا قلت: لا إله إلا الله بحقها، وحقها أن تحجزك عن محارم الله, من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا, لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله.
((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
كل ما في الإسلام من سعادة، كل ما في الإسلام من طمأنينة، كل ما في الإسلام من توازن، كل ما في الإسلام من اعتدال، كل ما في الإسلام من ثقة، لا تقطفها إلا بهاتين الكلمتين الآن عندنا قاعدة: لو أن هناك خلل في العمل, هناك خلل في العقيدة، لو أن هناك خللٌ في العقيدة, يتبعه خللٌ في العمل، لو أن الإنسان اعتقد: أن الله لن يحاسب الخلق, إذاً: لن يستقيم، فمن لم يكن مستقيماً, فاعتقاده باطل، ومن كان اعتقاده باطلاً, فهو بالتالي لن يكون مستقيماً، هذا الترابط الدقيق بين ما تعتقد وما تفعل، بين المنطلق النظري والتطبيق العملي، بين الاعتقاد وبين العمل، بين ما يستقر في قلبك وبين ما تفعله في يديك، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وأقر به اللسان, وصدقه العمل))
حديثٌ رائع: قُلْ: ((آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
. قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
[سورة فصلت الآية: 30]
هذا ميزان, قال تعالى:
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾
[سورة فصلت الآية: 30]
الخوف والحزن ليست من صفات الذين قالوا:
﴿رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
[سورة فصلت الآية: 30]
لأن الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا, من لوازم إيمانهم الصحيح، ومن لوازم استقامتهم التامة: أن الملائكة تتنزَّل عليهم ألا تخافوا ولا تحزنوا، لا تخافوا لما هو آت، ولا تحزنوا على ما فات، الحزن على ما فات، الخوف لما هو آت، أي أن الماضي والمستقبل مُغَطًّى، فهل من سعادةٍ أعظم للمؤمن من أن يطمئن لما مضى ولما سيأتي؟ ليس من سعادةٍ أعظم عند الله عزَّ وجل من أن يطمئن لما مضى، ومن أن يطمئن لما سيأتي، لذلك:
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 38]
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
[سورة طه الآية: 123]
هذا الحديث على إيجازه وعلى قصره, من الأحاديث الجامعة المانعة، من جوامع الكلم.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول مثلاً: ((لا يخافن العبد إلا ذنبه))
انتهى الأمر، مليون مصدر للخوف بالحياة، كيفما تحركت في خوف، تخطيط؛ قلبك تعبان، في شعور آلام في الرجل, هناك ديسك بالظهر، بجسمه وحده مليون مصدر للخوف أليس كذلك؟ بعمله، ببيته، بسفره، بإقامته، بصحة أولاده، بصحة زوجته مليون مصدر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يخافن العبد إلا ذنبه))
ما قولك؟:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
]سورة النجم الآية: 3-4]
سيدنا سعد يقول: ((ما سمعت حديثاً من رسول الله, إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى))
نبي الله يقول لك: ((لا يخافن العبد إلا ذنبه)), لا تخف جهةً ما، لا تخف مرضاً، ولا تخف قهراً، ولا تخف إنساناً بطَّاشاً، ولا تخف جهةً على وجه الأرض, لا مرئيةً ولا غير مرئية، فيروس لا يرى بالعين لا تخف منه, ((لا يخافن العبد إلا ذنبه))
هذا الإسلام، الإسلام انضباط، الانضباط تتبعه طمأنينة، والطمأنينة هي أساس الصحة النفسية، صحتك النفسية أساسها الطمأنينة، ولن يطمئن الإنسان إلا إذا استقام على أمر الله، لأنك عندئذٍ تكون في عين الله, قال تعالى:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
[سورة الطور الآية: 48]
تكون في ظل الله، تكون في رعاية الله، تكون في ذمة الله، فلذلك هذا الحديث من الأحاديث الجامعة المانعة.
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
كيف كان أصحاب النبي عليهم الصلاة والسلام تكفيهم الكلمة والكلمتان، وانتهى الأمر؟ نحن سمعنا خطبًا، وسمعنا دروسًا، وقرأنا كتبًا لا تحصى، ومع كل ذلك: ترى خللاً في الاستقامة، اضطرابًا في السلوك، وإخلافًا في المواعيد، وكذبًا في القول، وغشًّا، وتدليسًا، وإيهامًا، ومخادعة، وغيبة، ونميمة، وتقصيرًا، ومخالفة، واختلاطًا، كل هذا التراث الإسلامي ؛ كتاب الله ستمئة صفحة، الأحاديث النبوية ستمئة ألف حديث مطبوع، كتب إسلامية لا تعد ولا تحصى، لذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي, فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا, مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
فالقضية لا تحتاج إلى كثير كلام، ولا إلى كثير شرح، ولا إلى مزيدٍ من المعلومات، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانت تكفيهم الكلمة أو الكلمتان.
قيل: إن تلميذًا داوم درسًا وغاب، أين أنت يا بني؟ لنطبق الذي قلته لنا، فالإنسان لا بد أن يحرص على التطبيق، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
استقم في بيتك حتى الله عزَّ وجل يرفع عنك ما الذي تخافه، استقم في تجارتك، استقم في بيعك وشرائك، ما من تعريفٍ للإسلام أجمع من قول النبي عليه الصلاة والسلام، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
النصيحة لله، كيف؟ إذا رأيت إنساناً, يفعل خلاف ما أمر الله في كتابه الكريم, عليك أن تنصحه، ولمَن؟ ولرسوله، كيف؟ إذا رأيت إنساناً, يخالف سنة رسول الله, عليك أن تنصحه للرسول, ولمَن؟ ولأولي الأمر، رأيت إنساناً, يخالف أولي الأمر فيما أمر الله، أو فيما نهى الله عنه, عليك أن تنصحه, ولمَن؟ ولعامة المسلمين.
فأنا الذي أراه أنه في اللحظة التي تقول قولاً ليس فيه نصيحة لأخيك المسلم, فكأنك خرجت من الدين,
((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))
في بعض الروايات: أن هذا السائل قال: ((أريد أخف من ذلك -هذه الاستقامة ثقيلة، شيء صعب، أهي قضية إحكام خناقي؟ يخنقك العالم، أجد لها حلاً، ليس هذا الموضوع، الموضوع أنت تقول مثلاً لمهندس خبير: أخي لماذا تضع لنا ثمانية ميلي حديدًا؟ هذا مفقود، حلها برمة وضعه خمسة ميلي, يقع البناء، هذا علم، تقول لمهندس: دبرها, إذا قال لك: هذه الأساسات تحتاج لثمانية ميلي محلزن، يكفي خمسة ميلي، هل تقول هذا للمهندس؟ لأن كلامه مبني على العلم.
فالذي يقول لك: حلها برمة، لم يفهم هذا الدين، الدين قواعد دقيقة جداً مبنية على أسس علمية، فلما الإنسان يكون في تسريب، فيه مخالفات، ومعاص، وحجاب، وعدم إقبال، وملل، كله سمعناه، من أين يأتي الملل؟ من عدم التطبيق، في قطيعة مع الله عزَّ وجل, لأنه ليس ثمة إقبال، ما دام ثمة إقبال فثمة إقبال، ما دام هناك انقطاع فهناك إدبار، فالإنسان ما دام يطبق فهو في إقبال، فإذا قصر في التطبيق فهو في إدبار- فقال له: إذاً: فاستعدَّ للبلاء)).
تريد حلها لك برمة, إذاً: ألق مصائب، مشكلات، تضييقًا، فهذا الحديث جامعٌ مانع، يقول لك: أخي قل لي: كلمتين, وأنت طالب علم, تقول له: على عيني ورأسي، قل له: أحد أصحاب رسول الله, سأل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((يا رسول الله, قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد بعدك، قال عليه الصلاة والسلام: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
هذا الحديث يجب أن يطبق في كل دقيقة من دقائق حياتك؛ في محلك التجاري، أخي أصلية هذه, الله وكيلك، هذا تدليس، ما معنى الله وكيلك؟ يعني أصلية، هي غير أصلية.
قال لي أحدهم: كنت على السلم، فأتى زبون بقطعة تبديل، وأنا على السلم, قال لي: أصلية, قال له: لا، فقال له: أعطني إياها، صار البيع حلالا، ففي البيع والشراء، في التجارة، في الزواج، في علاقتك ببيتك، بأولادك، بزوجتك، بجيرانك، ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
تعريف الاستقامة:
الآن: الاستقامة: هي التزام منهج الإسلام، تطبيق تعاليم الإسلام تطبيقاً كاملاً, هذه ما تعنيه الاستقامة.
الاستقامة كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: ((الاستقامة: أن تقوم على الأمر والنهي، ولا تروغ عنه روغان الثعلب))
أخي ثمن البضاعة عشرة آلاف، قال له: سجلهم، فجاء له بعد نصف ساعة, وقال له: أخي هذه عشرة آلاف، ولكن بالمئة ستة, احسم لي، أساس بالمئة ستة، أخي هذه ربا، اكتب أنت، ولا تعقدها، هذا روغان الثعلب، هو كان مشتريا بسعر أعلى مقابل الزمن، فلما جاء بالمال يريد حسم بالمئة ستًا، حرام، اكتب مسامح، ولا تروغ عنه روغان الثعلب، هذا تعريف سيدنا عمر للاستقامة.
يريد أحدهم أن يأكل الربا، يبيعك حاجة ديناً بألف ليرة، بعدما باع ديناً بألف ليرة, يشتريها منك نقداً بثمانمئة، أعطاك ثمانمئة، وكتب عليك ألفًا، أخي بيع وشراء، صفقتان فيهما إيجابٌ وقبول، الأولى ديناً والثانية نقداً، ولا تروغ عنها روغان الثعلب.
تريد أن ترى زوجة أخيك, هذه سهلة، خذ بنتًّا صغيرة من بنات الجيران، ترضعها زوجة أخيك خمس رضعات مشبعات، تعقد عليها كتاب, تصير زوجة أخيك حماتك، تطلق البنت، فتصير الحماية على التأبيد، والله شيء مرتب، ولا تروغ عنه روغان الثعلب، هذه الحيل الشرعية.
زكاة مالك ضعها في رغيف خبز، وهبها لفقير، بعدما وهبته الزكاة، تقول له: تبعني الرغيف بخمس ليرات؟ يقول لك: نعم، دفعتها ثم استوهبتها من الفقير.
فهذه الحيل الشرعية تعني: أن الرجل لا يعرف الله أبداً، هذا الذي أمرك بدفع الزكاة أيغفل عن هذه الحيلة؟! هذا الذي أمرك ألا تنظر إلى زوجة أخيك أيغفل عن هذه الحيلة؟! هذا الذي أمرك ألا تأكل الربا أيغفل عن هذه الحياة؟! ولا تروغ عنها روغان الثعلب.
وفي تعريفٍ آخر: دعوى الإيمان لا تكفي، ما لم يدل على الإيمان العمل، فإنه ترجمةٌ له وثمرةٌ من ثماره، والاستقامة درجةٌ عاليةٌ تدل على كمال الإيمان وعلو الهمة، هذا الحديث يكفي: ((قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
نعيد قراءته على أسماعكم لمن فاته كتابة الحديث، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
أي أنت بحاجةٍ إلى أن تؤمن، مَن قال لك: أن إنسان يأخذ شهادة عالية وهو نائم؟ لا بد من أن يدرس، فالإيمان بالله شهادة عالية، متى آمنت؟ إذاً: أنت تحتاج إلى تفكر، وإلى التأمُّل، وإلى التعلم.
هل غيرت الخلافة من أخلاق أبي بكر؟ إليكم نص خطبة الخلافة:
نتابع قصة سيدنا أبي بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الرجل العظيم المتفوق, ولد سيداً, وعاش سيداً، من أين جاءته هذه السيادة؟ من كماله، من كمال إيمانه, وكمال عمله، وكل واحد منا إذا استكمل إيمانه, وكمل عمله، يعيش بين الناس في عز الطاعة، للطاعة عز، وللمعصية ذل، والدعاء المأثور:
((اللهم أخرجنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة))
هذا الرجل الذي أنقذ الإسلام من خطرٍ محقق، وردَّ إليه حياته وثباته، هذا الذي بدأت أبراج كسرى وقيصر تتساقط تحت قدميه، والعالم القديم يتداعى بين يديه، هل غيَّرت الخلافة من جوهر نفسه؟ أو من أسلوب حياته؟ هل نسي تواضعه وفضائله في زحمة انتصاراته؟ هذه بطولة؛ أن تكون في قمة المجتمع، وأنت محافظٌ على جوهر إنسانيتك، هل عاش فوق الناس بل عاش واحداً بين الناس؟ لنرى.
هذا سيدنا أبو بكر, يصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرَّة، بعد أن صار خليفةً, صعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعد أن غاب عنه فيصله وربَّانه، غاب عن هذا المنبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صعد هذا الصديق هذا المنبر أول مرة، وإنه ليصعد درجتين، ثم يجلس، قد يكون المنبر خمس درجات، صعد درجتين وجلس، فهو لا يبيح لنفسه أن يصعد كل الدرج, وكل المرتقى، ولا يبيح لنفسه أن يجلس حيث كان النبي يجلس، ما هذا التواضع؟.
أعلى درجة مقام رسول الله، سيدنا عمر صعد إلى مكان أبي بكر، ثم نزل درجة، وقال: ((ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مكان أبي بكر))
، سيدنا عثمان نزل درجة، كلهم يعرف مقام أخوانه.
ها هو ذا يستقبل الجمع الحاشد ويقول: أيها الناس, إني وليت عليكم ولست بخيركم، -انطلق من أنه ليس خير الناس بل هو واحدٌ منهم، هذا التواضع شعار العظماء.
سيدنا الشافعي يقول: ((كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي))
هذا الكلام لم يقله ذكاءً، لم يقله كياسةً, بل قاله حقيقةً- إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، -أنتم لكم دور خطير، عليكم أن تراقبوني- ألا إن الضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له، ألا وإن القوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الل
انتهت، لا نريد كلاما كثيرًا، نريد كلامًا مختصرًا, مفيدًا، موجزًا، والبلاغة في الإيجاز.
الحقيقة: هناك أناسٌ آخرون أذكياء، بإمكانهم أن يقولوا: كلاماً عميقاً، لطيفاً، متماسكاً، موجزاً، ولكن الروعة أن سلوك صاحب هذا القول لا يختلف عن قوله، كلٌ يتحدث عن الكمال، ولكن الذي يتحدث عن الكمال, وهو كامل, هذا الذي يؤثر في الناس. بيان شرح نص خطبة الخلافة لأبي بكر الصديق بشكل موجز:
أيها الأخوة, قال: أيها الناس, ولِّيت عليكم ولست بخيركم، -سيدنا الصديق يؤكد: أن هذه الولاية ليست مزية ولا امتيازاً، إنها خدمةٌ عامة في أكثر المستويات, هذه الخدمة مشقةً ومسؤوليةً، هذه الولاية إنما هي وظيفة لا استعلاء، إنما هي زمالة لا كبرياء، هو واحدٌ من هذه الأمة, وليست أمةً في واحد، إني وليت عليكم، ولست بخيركم.
هكذا يجب أن تعتقد: أنه يكون بين الحاضرين الذين يستمعون إليك؛ من هو أعظم منك؟ من هو أتقى منك؟ من هو أقرب إلى الله منك؟ من هو آثر عند الله منك؟ القضية ليست بالمظاهر بل بالنوايا، بالإخلاص لله عزَّ وجل.
((أندم الناس يوم القيامة: عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنة, ودخل هو بعلمه النار))
((من تعلم العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف وجوه الناس إليه, فليتجهز إلى النار))
((قوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، فإذا ضيع العالم علمه, استنكف الجاهل أن يتعلم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا بخل الغني بماله, باع الفقير آخرته بدنيا غيره))
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: رأى أنه لن يكون حراً إلا بقدر ما تكون أمته حرة، لن يكون عزيزاً إلا بقدر ما تكون أمته عزيزة، لن يكون آمناً إلا بقدر ما يكون هؤلاء آمنين، لذلك قال: لست بخيركم، أنا واحد منكم، هذا التواضع صفة من صفات العظماء، أنا واحد منكم-.
قال: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله -أي راقبوني.
هناك مقياس هو الإسلام فقيسوني به، أنا تحت المقياس، أنا أخضع لمقياس الإسلام، وليس الإسلام يخضع لمقياسي، هذه فكرة هامة جداً، أنا تابعٌ لأوامر الدين، وليست أوامر الدين تابعةً لرغباتي- فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم
لهذا الصديق كلمة رائعة يقول: ((واللهِ ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها الله في سرٍ ولا علانية))
تروي كتب التاريخ: أن سيدنا أبا بكرٍ رضي الله عنه, دخل عليه عمر داره, فألفاه يبكي، وما كاد أبو بكرٍ يبصر عمر بن الخطاب أمامه, حتى تشبث به، كأنه زورق نجاة، وقال له: ((يا عمر, لا حاجة لي في إمارتكم، ولم يتركه عمر يتم حديثه، فقد بادره قائلاً: إلى أين المفر؟ والله لا نقيلك ولا نستقيلك))
إليكم بيان الحكم الشرعي في هذه الواقعة التي وقعت بعد وفاة رسول الله:
السيدة فاطمة, حينما ولدت ضمها وشمها, وقال:
((ريحانةٌ أشمها، وعلى الله رزقها))
السيدة فاطمة بنت رسول الله، والعباس عم رسول الله، ذهبا إليه يسألانه حقهما في قطعة أرضٍ صغيرة, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابها في بعض الفيء، وكان عليه الصلاة والسلام, يعطي السيدة فاطمة وبعض أهله جزءًا من نتاجها، ثم يقسِّم الباقي بين فقراء أصحابه، والآن بعد وفاته عليه السلام, ذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, تسأله هذه القطعة من الأرض، باعتبارها ميراث أبيها عليه الصلاة والسلام، في حياته كان يعطيها جزءًا من نتاجها هي, وعمه العباس.
قال أبو بكرٍ لها: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ -يخاطب ابنة رسول الله, هكذا سمعت.
إن أبا بكر رضي الله عنه, يعلم أن أولى الناس الرعاية في الحق, هي بنت رسول الله، ويعلم كم كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبها، ويؤثرها، ويعلم مدى حاجتها, وزوجها, وأولادها, إلى هذه القطعة من الأرض، لكن أبا بكر يؤثر أن يركب صعب المركب عن أن يقول لابنة رسول الله: لا، ومع هذا فقد قال لها: لا، إنه حينما آمن بالنبي، وبدينه، وشرعته، صارت هذه الشرعة قانوناً، وإيمانه بالشرعة لا ينفصل عن إيمانه بالله ورسوله، ولقد قال النبي: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث...))
إذاً: قد صار هذا حكماً من أحكام الشريعة التي يؤمن بها، ألا لا يورث نبي, وهكذا وجد سيدنا أبا بكر نفسه بين ولائين، ولاؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أحب الناس إليه وهي ابنته، وولاؤه للقانون والشرع الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام-.
لكن خاف سيدنا الصديق, أن يدخل على قلب السيدة فاطمة شكٌ, في أن النبي عليه الصلاة والسلام, لم يقل هذا الكلام، -ماذا فعل؟- أرسل إلى عمر، وإلى طلحة، وإلى الزبير، وإلى سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف, وسألهم أمامها: ناشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بأمره, ألم تعلموا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؟ فقالوا: نعم، -أي أنه أكد لها أن هذا الكلام متواتر، لم أسمعه أنا وحدي، بل هؤلاء جميعاً سمعوه، وهذا شرع ولا ينبغي أن نخالف الشرع.
عندئذٍ أدلت السيدة فاطمة رضي الله عنها بحجةٍ جديدة- قالت: إنك تعلم أن الرسول قد وهبها لي في حياته، فهي إذاً: بحق الهبة لا بحق الإرث، -هذه ليست إرثًا، ولكنها هبة- فقال أبو بكر: أجل أعلم، ولكني رأيته يقسمها بين الفقراء, والمساكين, وابن السبيل, بعد أن يعطيكم منها ما يكفيكم، قالت فاطمة: دعها تكن في أيدينا, ونجري فيها على ما كانت تجري عليه، وهي في يد رسول الله, قال أبو بكر: لست أرى ذلك، فأنا ولي المؤمنين من بعد رسولهم، وأنا أحق بذلك منكم، أضعها في الموضع, الذي كان النبي يضعها فيه, ثم رفض هذا الطلب رفضاً كلي
أيها الأخوة, عنده ولاء لسيدنا رسول الله، وعنده ولاء لهذا الشرع الذي جاء به، فكان ولاؤه للشرع هو الولاء الحقيقي، ولم يقبل أن يعطيها.
من مواقف الصديق في جيش أسامة بن زيد:
موقف آخر له: هو كان يحترم هذا الشرع، وكان يحترم الذين أوكلوا بتنفيذ بعض المهمات.
فيوم خرج يودع سيدنا أسامة الذي سبق الحديث عنه، كان بين جنود هذا الجيش رجل اسمه: عمر بن الخطاب من بين الجنود، القائد أسامة بن زيد، وكان من بين جنود هذا الجيش سيدنا عمر بن الخطاب، وكان أبو بكرٍ حريصاً على أن يبقى عمر بجواره في المدينة، هذا مستشار أول، أمين سره، يده اليمنى، نائبه، ولقد كان يستطيع كخليفة للمسلمين أن يستبقيه بقرارٍ ينفرد بإصداره: يا أبا حفص ابقَ معنا، انتهى الأمر.
لكنه لم يقل ذلك, لو قال هذا الكلام, معنى هذا: تجاوز النظام، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف، أي استصدار قرار بإبقاء سيدنا عمر إلى جانبه من عنده، أن في هذا التصرف عدواناً على موظفٍ مسؤول، يجب أن تتوافر له الضمانات التي تمكنه من أداء واجبه، وأولى هذه الضمانات: ألا تنتقص سلطته شيئاً، وهكذا اقترب الخليفة من قائد الجيش أسامة، وقال له في همسٍ ورجاء: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب -سيدنا أسامة عمره سبعة عشر عاماً، أرأيتم النظام؟ سيدنا الصديق أعتقد عمره بالواحد والستين، لأنه توفي ثلاثة وستين، بالواحد والستين، سيدنا عمر أقل بقليل، وعنهما قال سيدنا رسول الله:
((أبو بكرٍ وعمر مني بمثابة السمع والبصر))
, أي أنهما أعلى أصحاب رسول الله-.
تقدم سيدنا الصديق الخليفة العظيم بعد أن مشى في ركابه, قال له: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب, فإني أجد في بقائه معي خيراً ونفعاً، وبادر أسامة بالرضا والموافقة
إن أبا بكر لم يفعل هذا مجاملةً أو تواضعاً، وإنما فعله واجباً، ولو أن أسامة قال: لا, ما وسع الخليفة أن يخالف أمره، هذا قائد الجيش, له الأمر، هذا موقف من مواقف سيدنا الصديق، إنه يعلمنا: كيف نحترم النظام.
انظر إلى ورعه:
موقف آخر: سيدنا الصديق غداة استخلافه، تولى الخلافة الجمعة مثلاً، السبت خرج من داره, حاملاً على كتفيه, لفافةً كبيرةً من الثياب، هو كان بزازا، كان بائع أقمشة، وفي الطريق يلقاه عمر وأبو عبيدة فيسألانه:
((إلى أين يا خليفة رسول الله؟. فيجيبهما: إلى السوق، أريد أن أبيع.قال عمر: وماذا تصنع في السوق, وقد وليت أمر المسلمين؟. قال أبو بكر: فمن أين أطعم عيالي إذاً؟ -هذه لوحدها، أنا خليفة، ولكن نريد أن نأكل، من أين أطعم عيالي إذاً؟ ولم يدخل هذا المنصب على نفسه الكبيرة أي زهوٍ، ولم يحرك لها أي رغبةٍ, في تغيير أسلوب حياته-. قال له عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال, وصحبهما الخليفة إلى المسجد، حيث يؤدي أصحاب رسول الله، وعرض عليهم عمر رأيه, في أن يفرض للخليفة بدل تفرُّغ))
معاش كي لا يشتغل.
الإمام البخاري يحدثنا, ويقول في صحيحه: ((إنه كان لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام، جاءه يوماً يمشي بشيءٍ فأكل منه، ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله؟ فقال: ما هو؟ قال: إني كنت قد تكهَّنت لرجلٍ في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، وقد لقيني اليوم فأعطاني، فهذا الذي أكلت منه، أعطاني مبلغا من المال، فاشترى به لبن، وجاء به سيدنا الصديق فشرب منه، فأدخل أبو بكرٍ يده في فمه, حتى قاء كل شيءٍ في جوفه.-طبعاً هذا موقف شخصي، لا حكم شرعي فيه، أي إذا أكل إنسان أكلة، وبعدما أكلها, تبين له أنها من مال حرام، غير مكلف أن يقيء ذلك- ويضيف صاحب الصفوة إلى ذلك أنه قيل لأبي بكر: يرحمك الله, كل هذا من أجل لقمةٍ واحدة, فأجاب قائلاً: واللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل جسدٍ نبت من سحتٍ, فالنار أولى به، فخشيت أن ينبت شيءٌ من جسدي من هذه اللقمة))
بهذا الورع رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الحب رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا التواضع رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الالتزام بالشرع، لابنته فاطمة قال: لا، رضي الله عن أصحاب رسول الله، بهذا الاحترام للمسؤولية, رضي الله عن أصحاب رسول الله.
كان هذا الصديق العظيم, حريصاً على ألا ينال من بيت المال, إلا ما يكفيه وأهله، وما نال من المال وهو خليفة، ولا نال من مناعم الحياة, إلا كان يأكل وأهله من جريش الطعام، إلا وما كانوا يلبسون من خشن الثياب.
حينما جاءه الموت, دعا ابنته عائشة, وقال لها: ((يا بنيتي, انظري ما زاد في مال أبيك منذ ولي في هذا الأمر, فرديه على المسلمين, السيدة عائشة حملت تركة أبيها فور وفاته، وفور مبايعة عمر، حملتها إلى أمير المؤمنين تنفيذاً لوصيته، فما كاد عمر يرى ويسمع حتى انفجر باكياً، وقال: يرحم الله أبا بكر, لقد أتعب كل الذين جاؤوا بعده))
فما هي التركة التي تركها بعد وفاته؟ بعيرٌ كان يستسقي عليه الماء، ومحلبٌ كان يحلب فيه اللبن, وعباءةٌ كان يستقبل بها الوفود، هذا الذي تركه بعد وفاته, ومع ذلك ردَّهم لبيت مال المسلمين.
قصة سجلها التاريخ للصديق:
ولنصغِ الآن إلى ربيعة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كان بيني وبين أبي بكرٍ كلام، فقال لي كلمةً كرهتها، ثم ندم عليها, وقال لي: يا ربيعة, رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً.
قلت: لا أفعل.
فقال لي: لتأخذن بحقك مني أو لأشكونك لرسول الله.
قلت: ما أنا بفاعل.
فذهب عني منطلقاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وانطلقت وراءه، فجاء ناسٌ من أسلم، من أقربائه, فقالوا: يرحم الله أبا بكر, في أي شيءٍ جاء النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقلت لهم: اسكتوا، هذا أبو بكر، هذا الذي قال الله عنه:
﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾
[سورة التوبة الآية: 40]
إيَّاكم, لا يلتفت فيراكم, تنصرونني عليه, فيغضب، فيغضب النبي لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة.
وانطلقت وراء أبي بكر, حتى أتى النبي عليه الصلاة والسلام, فحدثه بما كان، فرفع النبي الكريم إليَّ رأسه وقال: يا ربيعة, ما لك وللصديق؟.
قلت: يا رسول الله, إنه قال لي كلمةً كرهتها، ثم طلب إلي أن أردها عليه, لتكون قصاصاً, فأبيت.
فقال عليه الصلاة والسلام: أحسنت يا ربيعة, لا تردها عليه, ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر.
فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر, فولى وهو يبكي)), ما هذه الحساسية؟.
دخل مع رسول الله في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وهاجر معه، وتحمل الأخطار معه، وقدم كل ماله، فلما أسمع أخاه كلمةً كرهها, اختلَّ توازنه, وقال له: قل لي كلمة مثلها، افعل ذلك حتى تريحني، فلما امتنع، ضاقت به الأرض, بهذا سبقنا هذا الصحابي الجليل، بهذا الورع، واحدٌ كألف وألفٌ كأف. اسمع ما يرويه لنا أبو الدرداء:
ويروي لنا أبو الدرداء نبأً شبيهاً بهذا, فيقول:
((كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكرٍ آخذاً بطرف ثوبه, حتى أبدى عن ركبتيه، وقال: يا رسول الله, إنه كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيءٌ، فأسرعت إليه نادماً، وسألته أن يغفر لي، فأبى علي, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يغفر الله لك يا أبا بكر, ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكرٍ فلم يجده، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله, أنا كنت أظلم, فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله بعثني إليكم, فقلتم: كذب, وقال أبو بكرٍ: صدق، ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر، فإنه لم يتلعثم، وواساني بنفسه, وماله, وزوجني ابنته، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟))
فهذا مقام سيدنا الصديق.
إليكم بعض هذه الأحاديث التي وردت بحق هذا الصحابي الجليل:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ, عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ, فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه,ِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ, وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا, لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ, سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
إذا زار الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام في مدخل باب السلام، ترى لوحة مكتوب عليها: هذه خوخة أبي بكر، أي أن هذا بابٌ لبيت أبي بكر, كان مفتوحاً على المسجد، فلما مرض النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ))
((ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد نبيٍ أفضل من أبي بكر))
((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك))
فسيدنا الصديق كان مثلاً أعلى لطالب الحق، كان مثلاً أعلى لمريد الحقيقة، كان مثلا أعلى للمريد، هذا المصطلح الصوفي يقول لك: فلان مريد، هذا الصديق كان مثلاً أعلى للمريد الصادق الذي يبتغي الله ورسوله.
خاتمة القول:
أيها الأخوة, بذكر الصالحين تتنزل الرحمة، إذا جلست بمجلس فتكلم عن إنسان صالح تشعر بسعادة، تحدث عن إنسان طالح تشعر بانقباض، عوِّد نفسك بكل مجلس, أن تتحدث عن أصحاب رسول الله, تجد الغم قد ذهب، ذهب الهم، شهرت بالبطولة، شعرت بهذه القدوة، شعرت أن هناك إنسان عظيم، قلده يا أخي، سر على نهجه، تقفّى أثره.
انظروا الى هذا الموقف الرائع من أبي بكر، يا ترى نحن مع بعضنا هكذا؟ نقعد في المسجد نغتاب فلان، نتكلم عنه أقذع الكلمات, وبعدها: قوموا نصلي العشاء، أخي أذَّن قم لنصلي، ماذا تصلي, وأنت نهشت عرض أخيك، تحدثت عنه، أكلت من لحمه، والله لا يرضى عن ذلك, كلمة قالها سيدنا الصديق، ما اغتاب، ما نقل فلان حكى عنك كذا، ما هذا؟ مؤمنون يغتابون؟.
بلغني من مدة أنه: في كثير من المجالس في البيوت كلها غيبة، كلها نميمة، فلان حكى عنك، ما هذا الأخ؟ هذه نميمة، لا يدخل الجنة نمام، فلان قال عنك: أنت منافق، فلان قال عنك: ليس فيك خير، ما هذا؟.
إذا أردت أن تكون مؤمناً صادقاً, فاقتد بهذا الإنسان العظيم، هذه القصص لا نتلوها للتسلية، إنهم مثل عليا، فإذا أردنا أن نكون ممن رضي الله عنهم، فلنكن كهؤلاء الأصحاب الكرام, الذين ملؤوا الدنيا بسيرهم العطرة.
الذي أرجوه: أن الإنسان يضبط لسانه، فأي كلام فيه غيبة ونميمة ينتقل إلى الآخرين، يفتت المجتمع المسلم، فلان حكى عني، لا حق له علي، مَن نقل له الكلام؟ قال تعالى:
﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾
[سورة الحجرات الآية: 12]
لن يرضى الله عنا, إلا إذا أكرم بعضنا بعضاً في حضرته، وفي غيبته، من أكرم أخاه المؤمن, فكأنما أكرم ربه, من أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الله بظنه, من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم, فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته.
إذا أخ تكلم عن أخ كلام باطل غير متحقق منه، من دون تثبت, ومن دون تحقق في غيبته، وجاء واحد ثاني, نقل له ما حكى عنه، والله أتألم من أعماقي، أحس أن عملي كله بطَّال، ما هذه الدعوة إلى الله؟ كلها كلام لا معنى لها، إذا ما أصبحت الدعوة سلوك، التزام، والله كلام ليس له معنى.
إذاً: الذي أرجوه منكم، أنا قرأت هذه القصة, لتكون منطلقًا لهذا التوجيه، أخ يحكي عن أخ ليس له حق, قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
[سورة الحجرات الآية: 6]
هذه الغيبة والنميمة تفتت المجتمع الإسلامي، تفتت المؤمنين، يصبح المجتمع مفتت، كله خلافات، كله كلام فيه إفزاع، وفيه قسوة.
كان أحد العلماء الأجلاء, يقول إذا أحد حكى أمامه كلمة: اسكت يا بني، يا أبي اسكت, أظلم قلبي، ما كان يجرؤ أحد أن يتكلم على أحد أمامه، علِّم الناس هكذا، هذا الذي أرجوه منكم.
أيها الأخوة, كثير بلغني قصص: أن فلان حكى على فلان من دون حاجة، وفلان نقل لفلان: حكى عليك، تجد القلب مملوء، مشحون بغضاء، مشحون ضيق، هكذا المؤمنون؟ هذا المجتمع المؤمن؟ هذا المجتمع الذي يحب الله ورسوله؟ هذا المجتمع الملتزم؟ هذه أثر مجالس العلم؟.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:30 AM   #19


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( السابع العاشر )

الموضوع : باب المبادرة الى الخيرات - بادروا بالاعمال سبعا - من مواقف عمر ابن الخطاب






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
ماذا يعني النبي بقوله: بادروا بالأعمال ؟
أيها الأخوة المؤمنون, مع الحديث النبوي الشريف، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟))
[أخرجه الترمذي في سننه]
هذا الحديث ورد في باب المبادرة إلى الخيرات، وفيه حثٌ على الإقبال على الله بالجد من غير تردد.
ومعنى كلمة: (بادروا), أي سابقوا، وربنا عزَّ وجل أشار إلى هذا المعنى في القرآن الكريم فقال:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾
[سورة آل عمران الآية: 133]
فإذا كنتَ في أزمة سكن حادة، وأنت بحاجة ماسة إلى بيت، وبلغك أن ثمة بيتًا في منطقة ممتازة، وسعره أقل من سعر أمثاله، والبيت فارغ، وجاهز للسكن، وثمن هذا البيت تملكه، ماذا تفعل؟ أغلب الظن أنك تذهب إلى المعني بالبيع في وقتٍ متأخرٍ من الليل، يقال لك: غداً، تقول: لا، لعل أحداً يسبقني إليه.
لو أنكم لاحظتم: كيف يتصرف الإنسان في أموره الدنيوية؟ وكيف يتسابق الناس إلى الخير، أو إلى ما يظنه خيراً؟ كيف يسابق الناس؟ كيف يسارع؟ كيف يحب أن يفوز؟ كيف يحب أن يتفوَّق في الدنيا؟ الشيء الذي فيه مغنم الناس يقبلون عليه.
النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((بادروا بالأعمال...))
، كأن جوهر الحياة الدنيا العمل الصالح، والدليل: هؤلاء الذين يموتون على ماذا يندمون؟ قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾
[سورة المؤمنون الآية: 99-100]
فهذا الذي ندم عندما جاءه الموت، على ماذا يندم؟ على أنه فرَّط بالعمل الصالح، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 132]
والعمل الصالح يرفعك, قال تعالى:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾
[سورة الكهف الآية: 110]
أنت وجدت في هذه الدنيا من أجل أن تعمل صالحاً، لمَ العمل الصالح؟ من أجل أن يكون هذا العمل الصالح صالحاً لقبولك عند الله عزَّ وجل، من أجل أن يكون هذا العمل الصالح سبباً في دخول الجنة، لذلك جاء في تفسير بعض الآيات:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
[سورة الليل الآية: 5-7]
(اليسرى): هو العمل الصالح الذي هو ثمن الجنة، فالإنسان لو أنه في الحياة الدنيا كسب مالاً وفيراً، وحقق نجاحاً كبيراً، واعتلى أعلى الدرجات، وفاز بكل الملذات، وجاب مختلف الأقطار، وأكل أطيب الطعام، وسكن في أجمل البيوت، ولم يكن له عملٌ صالح فهو خاسر، فهو أشد الناس خسارةً, قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
[سورة الكهف الآية: 103-104]
نبيٌ كريم حريصٌ علينا يقول: ((بادروا بالأعمال....))
أحدنا يسأل نفسه هذا السؤال: أنا ما عملي؟ ما عملي الصالح؟ ربِحْنا اليوم أرباحاً طائلة، هذه لك، وتناولنا طعاماً طيباً، هذا لك، لبست هذا الثوب الجيد، هذا لك، نريد ماذا فعلت ؟ ماذا قدَّمت؟ ما الذي قدَّمته للناس حتى يرضى الله عنك؟ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحب العبد إلا إذا كان ذا نفعٍ عميم, ((الخلق عيال الله, وأحبهم إلى الله, أنفعهم لعياله))
فهذا أمرٌ نبوي، ولا تنسوا أن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: ((ثلاثةٌ أنا فيهن رجل, وفيما سوى ذلك, فأنا واحدٌ من الناس: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى))
قال تعالى:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
[سورة النجم الآية: 3]
هذا النبي العظيم الذي وصفه الله سبحانه وتعالى, قال تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
[سورة التوبة الآية: 128]
يقول لك هذا النبي, الحريص عليك، الرؤوف الرحيم: ((بادروا بالأعمال...))
لذلك المؤمن الصادق شُغْله الشاغل العمل الصالح، فلعل الله يرضى عنه، فلو أن أحداً عرض عليك أن تعمل صالحاً، فكانت إجابتك: ليس لدي وقت، فمثلك كمثل طبيبٍ, بقي يدرس ثلاثين عاماً, إلى أن حاز على أعلى درجة علمية, وجاء إلى بلده، وفتح عيادة، وكتب على العيادة الدوام من الساعة الخامسة حتى الثامنة، وجلس ينتظر الزبائن, ليسد الديون التي أرهقته، وليؤمن طعاماً لأولاده، فجاءه مريضٌ, وقال له: ليس لديّ وقت لأعالجك, إذًا: لماذا أنت هنا يا أيها الطبيب؟ لماذا أنت هنا في العيادة؟ لماذا كل هذه الدراسة؟ لماذا هذه الشهادات؟ لماذا أسست هذه العيادة؟ لتقول للمرضى: أنا مشغول؟ مشغول بماذا ؟.
هذا الذي يقول لك: أنا مشغول، وقد دعي لعملٍ صالح, هذا لا يعرف لماذا هو على وجه الأرض؟ ضائع، تائه، في ضلال، ما عرف مهمته، أنت جئت إلى هذه الدنيا, من أجل أن تعمل صالحاً, يصلح للعرض على الله عزَّ وجل، يكون هذا العمل نوراً لك في قبرك، من أجل أن ترقى به في الجنان إلى أبد الآبدين، لذلك السيدة عائشة رضي الله عنها, حينما وزع النبي شاةً, وزع أضلاعها، أطرافها، صدرها، وما بقي شيء، فقالت له: ((يا رسول الله, لم يبقَ إلا كتفها، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: بل بقيت كلها إلا كتفها))
[أخرجه الترمذي عن السيدة عائشة في سننه]
هذا الذي وزعناه هو الذي يبقى.
سيدنا عمر أمسك تفاحةً وقال: ((أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي, فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَنَزَلَ بِئْرًا, فَشَرِبَ مِنْهَا, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ, يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي, فَمَلَأَ خُفَّهُ, ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ, ثُمَّ رَقِيَ, فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ, فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا!؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
فيا أيها الأخوة الأكارم, إذا امتنع الإنسان عن العمل الصالح، فو الله الذي لا إله إلا هو, ما عرف لماذا هو على وجه الأرض أبداً؟ إنك هنا في مهمة، لذلك في مئتي آية, يقول الله عزَّ وجل:

﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
[سورة البروج الآية: 11]
اسأل نفسك هذا السؤال مساءً: ماذا فعلت من خير في هذا اليوم؟ تفتح محلاً تجاريًا، تزينه، تعرض بضاعة جيدة، تعمل إعلانًا، تعمل لافتة، تنتظر في الأيام الأولى, فلا يأتي ولا زبون، في الأيام التالية بيع قليل، وبعدها تكتب برسم التسليم إذا لم تربح، كذلك تسأل نفسك كل يوم: ماذا فعلت من خير في هذا اليوم؟.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا بورك لي في يومٍ, لم أزدد فيه من الله قربًا -بالعمل الصالح- ولا بورك لي في يومٍ, لم أزدد فيه من الله علماً))
فقبل أن تنام اسأل نفسك: ماذا فعلت اليوم فعلاً يرضي الله عزَّ وجل؟ هل عدت مريضاً؟ هل أنفقت مالاً؟ هل عاونت فقيراً؟ هل عاونت أخاً لي؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((واللهِ لأن أمشي في حاجة أخٍ مؤمن, أحب إلي من صيام شهرٍ, واعتكافه في مسجدي هذا))
يا ترى: هل خدمت أخًا؟ ساهمت في عمل خيري؟ دعوت إلى الله؟ نصحت إنسانًا؟ دللته على الله؟ ساعدت أرملة من أقربائكم؟ قدمت لها مساعدة؟ رعيت يتيما؟ لك قريب بعيد فقير؟ زرته جبراً لخاطره؟ لك بنت أخ, وأخوك توفى, يا ترى رعيتها؟ اعتبرتها ابنتك؟ بحثت لها عن زوج؟ وجَّهتها؟ نصحتها؟ أم قلت: لا علاقة لي؟.
ما الأمور السبعة التي حذر منها النبي أن تدرك اﻹنسان ﺇذا لم يبادر ﺇلى العمل الصالح ؟
1- الفقر المنسي:
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((بادروا بالأعمال سبعاً...))
، فإذا أراد أحدنا الدنيا وزينتها، فلا بدَّ أن يأتيه أحد هذه السبعة، أي إذا أعرضنا عن طلب الآخرة، إذا أعرضنا عن العمل الصالح، إذا تعلقنا بالدنيا، انكببنا عليها، جعلناها كل همنا، ومبلغ علمنا، حرصنا عليها، ماذا ننتظر؟ فالحديث دقيق، اعمل عملاً صالحاً قبل أن يأتيك أحد هذه السبعة، إن أحد هذه السبعة لابد آتٍ، هذا معنى.
المعنى الثاني: اعمل عملاً صالحاً لئلا يأتيك أحد هذه السبعة، فسارع إلى عملٍ صالح, من أجل أن تكسب وقتك, قبل أن تأتيك أحد هذه السبعة، أو اعمل عملاً صالحاً لئلا يأتيك أحد هذه السبعة.
ما هذه السبعة؟ قال: ((هل تنتظرون إلا فقراً منسياً...))
سيدنا علي كرم الله وجهه يقول: ((كاد الفقر أن يكون كفراً))
، حالات يصبح الفقر كالكفر، حالات إذا جاء الفقر مع الجهل, ربما كفر هذا الفقير، الفقر أحياناً ينسيك أن تصلي، ينسيك أن تؤدي واجباتك نحو عيالك وأولادك، فالفقر المنسي نعوذ بالله منه، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ((اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً))
الكفاية هذه أرادها النبي لنا، أرادها لمن يحبه، لمن يحبه النبي، هناك فقرٌ ينسي، ربما لا يملك الإنسان ثمن أجرة ركوب سيارة عامة، يمشي ساعة ونصف، يحس بشعور عجيب، هذا الفقر منسٍ، وربما لا يملك ثمن الدواء لأولاده، أو لا يملك ثمن الطعام، فهذا الفقر نعوذ بالله منه، وقد يكون هذا الفقر للمؤمن رفع درجات، لأن المؤمن ثابت, لا يتغير لا في الغنى ولا في الفقر، لا في إقبال الدنيا ولا في إدبارها، المؤمن إذا افتقر, ففي هذا الافتقار رفعٌ لدرجاته، وكشفٌ لبنيته الطيبة، تعريفٌ للناس به، رفعٌ لمقامه، امتحانٌ له, قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾
[سورة البقرة الآية: 214]
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
[سورة العنكبوت الآية: 2]
فإذا آمن الإنسان بالله, فعليه أن يوطِّن نفسه على كل شيء، أنت عرفت الله, وأسلمت له في السرَّاء والضراء, صدق القائل:
هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهم معدلٌ وإن عدلوا
واللهِ وإن فتَّتوا في حبهم كبدي باقٍ على حبهم راضٍ لـما فعلوا
حالة المؤمن مع الفقر استسلام لله عزَّ وجل، هو يسعى، ويبذل قصارى جهده في رفع مستوى دخله، لكن إذا ضاقت به الحيل, ماذا يفعل؟ يستسلم، يرضى، هكذا أراد الله, وهكذا شاء، لكن إذا جاء الفقر لإنسان لا يعرف الله عزَّ وجل, ربما سبَّ الإله، هذا يفعله بعض الناس، ربما نسي فروض طاعته لله عزَّ وجل، نسي أن يصلي، نسي أن يطيع الله عزَّ وجل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((هل تنتظرون إلا فقراً منسياً...))
نعوذ بالله من الفقر المنسي.
سمعت مرة أحد الأخوان يقول: اللهم أنزِلْ بي مرضًا، فقلت له: هذا خلاف الشرع، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الأنبياء قال: ((إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي))
مَن أنت؟ أتجترئ على الله عزَّ وجل؟ أتظن أنك أعظم من النبي؟ النبي عليه الصلاة والسلام هكذا دعا، فالإنسان يطلب من الله السلامة، يطلب البحبوحة، يطلب الرزق، لا يقل: يا رب امتحني، أنا أصبر، لا، اطلب من الله السلامة إذا ضاقت, فهو امتحان للمؤمن رقي، ولغير المؤمن امتحان.
((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ, وَآخِرَكُمْ, وَإِنْسَكُمْ, وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))
[أخرجه مسلم عن أبي ذر في سننه]
كن فيكون، تقنين ربنا ليس تقنين عجز، بل تقنين تأديب، الإنسان يقنن تقنين عجز لضعفه.
قال لي أحدهم اليوم: إنَّ المزارعين في المنطقة الشمالية الشرقية, قبضوا مبالغ فوق حد الخيال، قال لي: قبضوا واحدًا وسبعين مليونًا من الدولة، ثمن القمح على السعر الرسمي، ذلك بأن الكيس أعطى سبعين كيسًا من القمح، إنّ الله إذا أعطى أدهش, قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة الأعراف الآية: 96]
﴿وَأَلَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾
[سورة الجن الآية: 16-17]
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 66]
فربنا غني إذا أعطى أدهش, قال تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾
[سورة الحجر الآية: 21]
لكن إذا قنن ربنا عزَّ وجل يكون التقنين في محله, إن الله ليحمي أحدكم من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام, كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة.
فأنت استسلم، إذا أعطاك اشكره على عطائه، وإذا منع عنك منعه عطاء, قال ابن عطاء الله السكندري: ((ربما أعطاك فمنعك))
-رجل أعمال من الدرجة الأولى، وقتك كله مليء اجتماعات، وقرارات، وصفقات، ورحلات، وسفرات للعمل، وسفرات نزهات، وما عندك وقت إطلاقاً, ربما أعطاك فمنعك-.
ثم قال: ((وربما منعك فأعطاك))
ضيقها عليك فالتفت إليه، قرأت كتابه فتعرفت عليه، فكرت بالكون، تصدقت، صليت، عملت أعمالاً صالحة، فلا يعترضنَّ أحدٌ على الله عزَّ وجل، ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء.
ولكن أنا أُؤكِّد لك: لما ربنا عزَّ وجل يكشف الغطاء، ويريك الذي ساقه لك, وما الحكمة منه، سوف تذوب خجلاً من الله سبحانه وتعالى على كل شيءٍ ساقه إليك، هذا جعله لا ينجب أولادًا ذكورًا، هذا جعله عقيمًا، هذا جعله فقيرًا، هذا جعله غنيًا، هذا جعله عليلاً، هذا جعله صحيحًا، هذا جعل عمله شاقًّا، هذا عمله سهل، هذا من أب غني، هذا من أب فقير، هذا أتى في آخر الزمان، هذا من أول الزمان، هذا معه عاهة طفولية، هذا معه قصور كبد مزمن.. إلخ، حينما ينكشف لك الغطاء لا تملك إلا أن تقول كلمةً واحدة, قال تعالى:
﴿وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
[سورة يونس الآية: 10]
لذلك سيدنا علي رضي الله عنه يقول: ((والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً))
والقاعدة الأساسية: أن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، هذه البطولة، وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي, لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا, قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ, وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا, وَقَالَ: ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا, فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ, وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
استسلم، هو محبٌ لك أكثر من حبك لنفسك.
((عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إليهم، وانتظاري لترك معاصيهم، لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إلي، هذه إرادتي بالمعرضين, فكيف إرادتي بالمقبلين؟!))
2- الغنى المطغي:
(هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً...): دخله محدود وهو مستقيم، من مسجد إلى مسجد، على الدخل الكبير من ملهى إلى ملهى، يريد أن يرى النوادي، وشوارع معينة في باريس يريد أن يزورها، صار غنيًّا، يعمل عرسًا مختلطًا في الفندق الكبير، يريد الاختلاط.
(أو غنىً مطغياً...): يريد الشهوات، عنده مكتب, يريد سكرتيرة، لا يريد موظفا، ((أو غنىً مطغياً...))
، نعوذ بالله، والله هو البلاء كله، الغنى من دون علم لجهنم.
(هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً...): أكبر محل حلويات, كان في لبنان، يصدر للدول النفطية طائرة بضاعة محملة بإنتاجه يومياً، دخل مرة على المعمل, فلم تعجبه عجينة المعمول، أمسك العجينة ووضعها على الأرض، ودهسها بنعله، قال له العامل: سيدي, فرد عليه قائلاً: الناس من تحت حذائي يأكلون، بعد شهر انقطعت ركبتاه بالـ (غرغرين), داء الموات، الآن هو في لندن يعاني، الغنى مطغٍ، صار معه مئات الملايين, ولم يعد يرى أحدًا أحسن منه.
البطولة أن تكون في قمة نجاحك متواضعاً لله عزَّ وجل، النجاح فيه خطورة كبيرة، النجاح مزلق، النجاح في كسب المال، النجاح في المراتب العليا، النجاح في القوة، النجاح في كل شيء مزلق خطير.
3- المرض المفسد:
(هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً... ): معه مئات الملايين, لكن فيه علة خطيرة، توقفت كليتاه عن العمل، قال أحدهم: نأخذه إلى بلد أجنبي, قال له: لا أمل، ((... أو مرضاً مفسداً))
، يفسد عليك حياتك, لهذا النبي الكريم قال: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ, مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))
[أخرجه الترمذي عن عبد الله بن محصن في سننه]
4- الهرم المفند:
(أو هرماً مفنداً...): كبر كثيرًا, ونشأ في معصية الله، فلما كبر خرف، يقول: ما أطعموني، الآن أطعموك، يتدخل فيما لا يعنيه، يعيد القصة مائة مرة، يمل منه الناس، يهربون منه, ويتركونه وحيداً، هذا نعوذ بالله من الهرم المفند، صار موضع سخرية، موضع ازدراء، موضع تأفف, يتمنى أقرب الناس له موته بقولهم: الله يخفف عنه.
أما المؤمن: من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت, المؤمن كريم على الله عز وجل, لا يرد إلى أرذل العمر، لا، بل يزداد عزاً، وجاهاً، ومحبة، وعقلاً، وذكاء.
5- الموت المجهز:
(أو موتاً مجهزاً...): اشترى أحدهم بيتًا, فلم يعجبه البلاط فكسره، لأنه عتم قليلاً، عمل أقواسًا، رتب، أتى بطاولة من رخام, غالية الثمن، رتب البيت، ويوم أراد أن يسكنه مات, ((أو موتاً مجهزاً...))
لا اعتراض، ((أو موتاً مجهزاً...))
، البطولة أن تعمل لهذه الساعة، للآخرة.
6- الدجال:
(أو الدجال...): الكلام كالعسل والفعل كالصبر، أي إنسان يعطيك من طرف اللسان حلاوةً، ويروغ منك كما يروغ الثعلب، هذا نموذج، تجد كلامه طيبًا, فإذا عاملته فما أصعب فعله، وباطنه ليس كظاهره، وظاهره ليس كباطنه.
7- الساعة:
(أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر): الساعة يعني يوم القيامة, قال تعالى:
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 68]
هذه النقاط السبع تنتظر كل واحد منا، فسارع إلى عمل صالح لئلا تصاب بالغنى المطغي، أو الفقر المنسي، أو المرض المفسد، أو الهرم المفند، أو الموت لا بد منه.
لكن بينما أن يكون الإنسان في توفيق من الله عزَّ وجل, وفي حفظ, أو في طرد من رحمة الله عز وجل، عمره سبع وتسعون سنة، بصره حاد، أسنانه في فمه، قامته منتصبة، سمعه مرهف، أسنانه سليمة، زوجته، قال له: يا سيدي, ما هذه الصحة؟ قال: يا بني, حفظناها في الصغر, فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً.
فإما أن نسارع إلى الأعمال الصالحة لئلا نصاب بأحد هؤلاء، وإما أن نسارع بالعمل الصالح قبل أن يهلكنا أحد هؤلاء، فاحفظوا هذا الحديث ورددوه دائماً، فإنه كالمكابح للإنسان، والله سبحانه وتعالى أكرم، وأعظم، وأوفى من أن يضيِّع مؤمناً، ما دمت قد عرفته في شبابك، عرفته في فورة الشباب، فالله سبحانه وتعالى يحفظك في مقتبل عمرك، وهذا العمل الرذيل, قال تعالى:
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾
[سورة الحج الآية: 5]
ليس من شيمة المؤمنين, لأن الله سبحانه وتعالى يحفظهم.
من عظمة عمر بن الخطاب:
والآن إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
أيها الأخوة, بذكر الصالحين تتعطر المجالس، وبالحديث عن أصحاب رسول الله, تتنزل الرحمات.
سيدنا عمر أعظم ما فيه: أنه مع تفوقه الشديد في مجالات عديدة, ما تمكن الغرور أن يصل إليه, وكما قلت قبل قليل: هؤلاء الناجحون معرَّضون لخطرٍ عظيم، ألا وهو الغرور، يقول عليه الصلاة والسلام:
((لو لم تذنبوا, لخفت عليكم ما هو أكبر -ما هو الشيء الذي هو أكبر من الذنب؟- قال: العجب العجب))
العجب أكبر من الذنب، أن تقول: أنا, قالها إبليس فأهلكه الله، قال:
﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
[سورة الأعراف الآية: 12]
ثلاث كلمات مهلكات: أنا، ولي، وعندي قالها قارون, قال تعالى:
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
[سورة القصص الآية: 78]
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾
[سورة القصص الآية: 81]
لي, قالها فرعون, قال تعالى:
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾
[سورة الزخرف الآية: 51]
فكل عظمة هذا الخليفة, تفوقه، مثلاً: دخل الإسلام في حفاوةٍ بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، صار الإسلام بعد إسلامه ديناً جهوري الصوت، المسلمون قبل إسلامه كانوا يستخفون، بعد إسلامه أصبحوا يعبدون الله جهراً، سمَّاه النبي بالفاروق, لأنه فرق الله بإسلامه الحق والباطل، أصبح خليفة، وله آراء نزل بها وحي اسمها: موافقات عمر, ((لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر))
هذا قمة النجاح، ومع ذلك ما استطاع الغرور أن يصل إلى قلبه.
قال مرة عن نفسه: ((لقد كنا ولسنا شيئاً مذكوراً, حتى أعزنا الله بالإسلام، فإذا ذهبنا نلتمس العز في غيره, أذلنا الله))
كل هذه العظمة، كل هذا التفوق، رآه فضلاً من الله عزَّ وجل يستوجب الشكر، فإذا ذهبنا نلتمس العز بغير دين الله, أذلنا الله سبحانه وتعالى، هذا درس بليغ لنا معشر الأمة العربية, أعزنا الله بالإسلام، فإذا أردنا أن نلتمس العز في غيره, أذلنا الله عزَّ وجل. ما رأيكم أن نصغي السمع لراوي هذه القصة عن عمر بن الخطاب ؟
الأحنف بن قيس, يروي هذه القصة، قال: ((كنت مع عمر بن الخطاب, فلقيه رجل, فقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي, فأعدني على فلان, فقد ظلمني، سيدنا عمر رفع درته, وخفق بها رأس الرجل, وقال له: تدعون أمير المؤمنين, وهو معرضٌ لكم، مقبلٌ عليكم، حتى إذا شغل بأمرٍٍ من أمور المسلمين, أتيتموه أعدني أعدني, فانصرف الرجل, فندم عمر بعدما عنَّفه، فقال: عليَّ بالرجل, فلما عاد ناوله مخفقته, وقال له: اقتص لنفسك مني، تعالَ اضربني, فقال الرجل: لا والله، ولكني أدعها لله، وانصرف.
عاد عمر إلى بيته، فصلى ركعتين, ثم جلس يحاسب نفسه, ويقول: يا بن الخطاب, كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، فما حملك على رقاب الناس؟ فجاءك رجل يستعديك فضربته, فماذا تقول لربك غداً؟.
-هذا هو كل الدين، كل الدين في هذه الكلمة: ماذا تقول لربك غداً؟ لماذا طلقتها؟ لماذا أكلت مال فلان؟ لماذا احتلت على فلان؟ لماذا كذبت على فلان؟ لماذا غررت بفلان؟ لماذا خنت العهد؟ لمَ فعلت هذا؟ ماذا تقول لربك غداً؟.
يا أيها الأخوة الأكارم, إذا كنت بطلاً, فهيِّئ جوابًا لله عزَّ وجل, عن كل عمل عملته في الدنيا؛ اشتريت، بعت، غضبت، خاصمت، عاديت، أعطيت، منعت، وصلت، قطعت، عليك أن تأتي بجوابٍ مقنعٍ لله عزَّ وجل, ماذا تقول لربك غداً؟ النبي الكريم قال:
((لعن الله الذواقين والذواقات))
تجده لسبب تافه يطلق امرأته، ويوبخها، ويعنِّفها، علِّمها، وضح لها الأمور، هكذا الله عزَّ وجل أخذ عليك العهد-.
ثم قال: ماذا تقول لربك غداً؟ هو ذا يؤم الناس في الصلاة، فيسمع بكاءه ونشيجه أصحاب الصف الأخير))
من مواقف عمر بن الخطاب:
مرة ثانية: كان يعدو ويهرول وراء بعيرٍ, أفلتت من معصمها، ويلقاه علي بن أبي طالب فيسأله:
((إلى أين يا أمير المؤمنين؟ فقال له: بعيرٌ ندَّ من إبل الصدقة أطلبه, فيقول له علي كرم الله وجهه: لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك، وأهلكتهم، أنت خليفة, تلحق إبلاً, هربت من مكانها، لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك, فيجيبه عمر بكلماتٍ متهدِّجة: والذي بعث محمداً بالحق, لو أن عنزةً, ذهبت بشاطئ الفرات, لأخذ بها عمر يوم القيامة، ولو أن بغلةً تعثرت, لحاسبني الله عنها, لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟))
هذا الكلام لنا، أنت صاحب محل سيارتك على الباب، لماذا هكذا عملت؟ فماذا تقول لربك غداً يا عمر؟.
ﺇليكم العبرة من هذا الحديث الذي دار بين عمر وبين أبي موسى الأشعري:
مرة سيدنا عمر قال لجليسه أبي موسى الأشعري:
((يا أبا موسى, هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتنا معه، وشهادتنا، وعملنا كله يرد علينا لقاء أن ننجوَ كفافاً لا لنا ولا علينا؟ -يتمنى هذا الخليفة العظيم أن ينجو بجلده، لا له ولا عليه, وهذا الإسلام، وهذه المجاهدة، وهذه الحروب- فيجيبه أبو موسى: لا والله يا عمر؛ لقد جاهدنا، وصلينا، وصمنا، وعملنا خيراً كثيراً، وأسلم على أيدينا خلقٌ كثير, إنا لنرجو ثواب ذلك, فيجيبه عمر, ودموعه تنحدر من على وجنتيه كحبات اللؤلؤ: أما أنا فو الذي نفس عمرٍ بيده, لوددت أن ذلك يرد علي، ثم أنجو كفافاً رأساً برأس))
لمَ لا يكون كذلك؛ وهو يرى النبي عليه الصلاة والسلام, يقضي ليله كله متهجداً متعبداً، ونهاره كله صائماً مجاهداً، فإذا قيل له: ((يا رسول الله, لمَ تتعب نفسك, وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبه عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكورا؟))
اقرأ ما كتبه عمر ﺇلى عامله في البصرة:
كتب مرة سيدنا عمر إلى عامله على البصرة عتبة بن غزوان، قال له:
((قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلَّطاً، وملكاً مطاعاً، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيالها نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، وتبصرك على مَن دونك، تحوط من النعمة, تحوطك من المعصية، هذه نعمة لكنها مزلق خطير، فلهي أخوفُ عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك، فتسقط سقطةً تطير بها إلى جهنم، أعيذك بالله, وأعيذ نفسي من ذلك))
إنّ أخطر شيء في النجاح الغرور، أن ترى أنك شيءٌ عظيم، أخطر شيء يقع الإنسان فيه أن يغتر بنفسه، والمؤمن دائماً يعزو نجاحه إلى الله عزَّ وجل، لولا فضل الله عليك ما كنت كذلك, قال تعالى:
﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾
[سورة النساء الآية: 113]
إذا أراد ربك إظهار فضله عليك, خلق الفضل ونسبه إليك, فأنت كمؤمن موحِّد: يا رب لك الفضل، هذا فضل الله عزَّ وجل.
من روائع عمر بن الخطاب:
ومرة زاره حفص بن أبي العاص، وكان عمر جالساً إلى طعامه، فدعا إليه حفصًا، تطلع حفص, فلم يعجبه الأكل، فرأى قديداً يابساً, يأكل منه عمر، فلم يشأ أن يكبد نفسه عناء ازدراده، ولا أن يجشم معدته مشقة هضمه، فاعتذر شاكراً، وأدرك أمير المؤمنين سر عزوفه عن هذا الطعام، فرفع بصره نحوه, وسأله: ((ما يمنعك عن طعامنا؟ فقال: إنه طعامٌ خشن، وإني راجعٌ إلى بيتي, وأصيب طعاماً ليناً, قد صنع لي، قال له عمر: أتراني عاجزاً أن آمر بصغار المعزة، فيلقى عنها شعرها، وآمر برقاق البر، فيخبز خبزاً رقيقاً، وآمر بصاعٍ من زبيبٍ, فيلقى في سُعنٍ, حتى إذا صار مثل عين الحجل, صب عليه الماء، فيصبح كأنه دم غزالٍ, فآكل هذا, وأشرب هذا, فقال له حفص وهو يضحك: واللهِ إنك بطيب الطعام لخبير, واستأنف عمر حديثه, فقال: والذي نفسي بيدي, لولا أن تنقص حسناتي, لشاركتكم في لين عيشكم، ولو شئت, لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، ولنحن أعلم بطيب الطعام من كثيرٍ من آكليه، ولكننا ندعه ليومٍ, تذهل فيها كل مرضعةٍ عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وإني لأستبقي طيباتي, لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوامٍ:
﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾
[سورة الأحقاف الآية: 20]
وسوف نتابع الحديث عن هذا الخليفة العظيم في درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:34 AM   #20


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الثامن العاشر )

الموضوع : باب المجاهدة - 1 - من عادى لى وليا فقد اذنتة بالحرب






حمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... مع الحديث النبوي الشريف، حديث اليوم من باب المجاهدة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))
( رواه البخاري )
يا أيها الإخوة المؤمنون... الولي هو القريب، ومتى يقرب الإنسان من الله ؟ في حالةٍ واحدة: إذا أطاعه، فالولاية مبذولةٌ لكل إنسان، سيدنا عمر رضي الله عنه حينما عيَّن سيدنا سعد بن أبي وقاص قائداً في معركة القادسية قال: يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، فإذا أطعت الله عزَّ وجل تكون وليه..
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾
( سورة يونس )
الولاية مبذولة لكل إنسان، أطعه تقترب منه، فإذا اقتربت منه كنت وليه، لذلك سيدنا الجنيد هذا العارف بالله قال: ليس الولي من يمشي على وجه الماء، وليس الولي من يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحرام والحلال، يعني أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، هذه الولاية، الولاية مبذولة لكل إنسان، الناس سواسيةٌ كأسنان المشط، فهذه بعض المعتقدات الزائفة الزائغة: حتى الله يأذن، حتى تأتي الولاية، حتى الله يسمح لنا، الولاية مبذولة، أطعه تكن وليّه..
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69)﴾
( سورة النساء )
لا أعذار أبداً، أطعه تكن وليه، فإذا كنت وليه تولاَّك بالحفظ، والتوفيق، وكنت برعايته، وتجلَّى على قلبك، القضية لو يقول الواحد: أخي الله ما كتب لي، لم يأت الإذن بعد، لله في خلقه شؤون، حتى يهدي الله قلبي، هذه الولاية لأهل الخواص، ليس هناك خواص، ولا عوام، كلنا في فضل الله سواء، كلنا على قدر المساواة في طريق الإيمان، فلذلك معنى الولي بالضبط: هو الإنسان القريب من الله عزَّ وجل، والقرب ثمنه الطاعة..
تعـصي الإلـه وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حـبك صادقـاً لأطعتـه إن المحب لمن يحبُّ يطيع
* * *

فهذا الولي، هذا الطائع لله عزَّ وجل الذي هو عند الأمر والنهي، هذا الذي يطيع الله عزَّ وجل في كل شؤونه، وفي كل أحواله، هذا إذا عاديته، فأنت في خطرٍ كبير، لأنك إذا عاديته لا تعادي ذاته، لا تعادي شخصه، بل تعادي مهمَّته، تعادي وظيفته، تعادي مقامه، إذاً أنت تعادي الحق، إذاً أنت تريد أن تطفئ نور الله عزَّ وجل، إذا عاديت الولي فأنت ضدُّ الحق، أنت وضعت نفسك في خندقٍ معادٍ لخندق الإيمان، لذلك: ((من عادى لي ولياً...))
عادى أي ناصبه العداء، يعني سفَّه آراءه، استهزأ به، كاد له، ائتمر عليه، دعا الناس إلى أن ينصرفوا عنه، اختلق أخباراً كاذبةً حوله، افترى عليه، يعني هذا كله من أنواع العداء، فـ
((من عاد لي ولياً...))
من هو الولي ؟ ليس الذي يدعي الولاية، بل هو الولي الحقيقي الطائع لله عزَّ وجل في كل شؤونه، أو الذي يدعو إليه.
((من عاد لي ولياً فقد آذنته ـ معنى آذنته أي أعلمته ـ بالحرب...))
وإذا حارب الله عزَّ وجل إنساناً فقد انتهى، تأتي الأمور على خلاف ما يريد، من سيئ إلى أسوأ، يذيقه الله العذاب صُعُداً.
فلذلك:
((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه...))
يعني جميع أنواع النوافل ؛ نوافل العبادات، نوافل المعاملات، نوافل الأعمال الصالحة، جميع هذه النوافل ليست مقبولةً ما لم تؤدَّ الفرائض، إنسان لا يصلي لكنه عمَّر جامعًا، لا، لابد من أن يصلي أولاً، التقرب إلى الله لا يكون بالإحسان من دون صلاة، هذا الذي يدع حقوق الآخرين ؛ له أولاد، له زوجة، له أقارب، له أب، له أم، قبل أن تتقرب إلى الله بالنوافل، قبل أن تحج الحجة الخامسة والعشرين ارعَ حقوق أولادك، لهم عليك حق، لذلك جميع أنواع النوافل ؛ نوافل العبادات، نوافل المعاملات، نوافل الذكر، هذه كلها ليست مقبولة ما لم تؤدَّ العبادات، الفرائض.
لهذا يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
((وما تقرب عبدي إلي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه... ))
أدِ الصلوات الخمس كما أراد الله أن تؤدَّى، أحسن الوضوء، أسبغ الوضوء، قف كما أراد النبي عليه الصلاة والسلام، وكما علمنا، اطمئن راكعاً، اطمئن ساجداً اخشع في صلاتك، التفت إلى الله عزَّ وجل، وبعدها صم شهر رمضان كما أراد الله عزَّ وجل، أدِ العبادات، وأد ما عليك من حقوق، وبعدها ابحث عن النوافل.
((وما تقرب عبدي إلي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه... ))
يعني أداء الصلوات، أداء الحقوق إلى أربابها، بر الوالدين، وجميع الواجبات التي أمرنا الله بها، بعد أن تؤدي كل العبادات الله عزَّ وجل أمرنا بغض البصر، فقبل أن تغض البصر، الأعمال الصالحة غير مقبولة، لأنك مصر على شيء، على شهوة، فلابد من أن تأتمر بما أمر الله، لابد من أن تنتهي عما عنه نهى الله، وبعدئذٍ تفعل النوافل.
قال:
((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل... ))
الآن جاء دور النوافل، أنت تقربت إلى الله بالفرائض ؛ الصلوات الخمس، الصيام، الحج، الزكاة، حقوق الوالدين، حقوق الزوجة، حقوق الأولاد، حقوق الجوار، حقوق مَن تعاملهم ممَّن هم دونك، ممن هم فوقك، أديت الحقوق، حقوق المسلمين، حقوق غير المسلمين، أديت كل شيء الآن ما أروع النوافل،
((... وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل... ))
يصلي قيام الليل، الآن قيام الليل بعد الصلوات الخمس شيءٌ رائع، يصلي صلاة الأوابين، يصلي صلاة الضحى، يدفع زكاة ماله، ويزيد عليها، يدفع أكثر من الزكاة، يساهم في بناء المساجد، يساهم في إقامة دور العجزة، يساعد الأرامل، يساعد المساكين، يتعطَّف على الناس، يعين ضعيفهم، يعطي فقيرهم، رائعٌ جداً أن تقوم بالنوافل بعد أداء الفرائض.
قال:
((... حتى أحبه ))
يعني ما في مرتبة على وجه الأرض تفوق أن يحبك الله عزَّ وجل،
((حتى أحبه ))
قال:
((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ))
هذه الكلمات إشارات إلى نصر الله عزَّ وجل، يعني يسمعك الحق، ويسمعك الذي ينفعك، ويسمعك ما أنت بحاجةٍ إليه، وترى بنور الله حقائق الأشياء، ترى بنور الله، تسمع بنور الله، تتحرك بنور الله، تعادي بنور الله، تواصل بنور الله، تقطع بنور الله، تصل بنور الله، تعطي بنور الله، تمنع بنور الله، تبطش بنور الله، تنتقل من مكان إلى مكان بنور الله، هذه معنى أنه كنت سمعه، وكنت بصره، وكنت يده، معناها أن كل حركاتك وسكناتك في تأييد، وفي تسديد، وفي هدى، وفي رشاد، وفي توفيق، وفي توجيه نحو ما ينفعك.
سبحانك يا رب، أهل المعصية والفجور تأتيهم وساوس، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أدعيته:
(( اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم ))
أحياناً الإنسان يفكر، يُفكر، يفكر، يدرس، يَدرس، يدرس، يحسب، يَحسب، يحسب فتأتي فوق رأسه بعدها، هذا جعل الله تدميره في تدبيره، أما المؤمن الله عزَّ وجل، ما دام المؤمن مع الله سبحانه وتعالى فهو بصره، وهو سمعه، وهو يده، يعني يرى بنور الله، يسمع بنور الله، يتحرك بنور الله، يعطي، يمنع، يصل، يقطع، كل هذا بنور الله، طبعاً لا ينبغي أن نفهم هذا الكلام على ظاهره، الله سبحانه وتعالى ليس هو يد الإنسان، هو في عليائه، لكن إذا قال: كنت يده يعني أعنته، سددت عمله، وفَّقته، إذا قال: كنت بصره يعني أريته الحق، رأى بنوري، إذا قال: كنت سمعه يعني استمع إلى الحق بنوري، فهذه الكلمات معناها أن الله سبحانه وتعالى يؤيده، ويحفظه، وينصره، وهو يتحرك بنور الله عزَّ وجل.
((ولئن سألني لأعطينه... ))
صار سؤاله منطقيًا، لأنه عرف الحق، صار سؤاله متعلقًا بما هو خيِّر، لا يسأل: يا رب، يا عزيز، ألف ليرة إنكليز، هذا ليس بسؤال، اسأله السلامة، اسأله الرضى، اسأله التوفيق: اللهم وفقنا لمحابك من الأعمال، اسأله الهداية، اسأله أن يتولى الله معالجتك، اسأله السداد، اسأله عمل صالح، اسأله أن تحب من يحب، فالإنسان عندما يعرف الله عزَّ وجل يعرف يسأله، فهل من المعقول إذا دخل رجل على ملك، وقال له الملك: اسألني، يقول له: أريد ممحاة ؟ معقول أن يطلب منه ممحاة ؟ الملك يعطي أقل شيء بيتًا فخما، ممحاة ؟!! أو أريد شفرة أجرح أخي فيها، أهذا سؤال يسأل لملك ؟ فإذا عرف الإنسان الله عزَّ وجل يسأل، يسأل ربه عزَّ وجل سؤال صحيح..
((... كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ))
السؤال أنت كلما ارتقيت عند الله عزَّ وجل صار لك عنده مكانة كبيرة..
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
( سورة القمر )
((عبدي المؤمن أحب إلي من بعض ملائكتي))
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
( سورة مريم )
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
( سورة الحج: من آية " 38 " )
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
( سورة الطور: من آية " 48 " )
﴿ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾
( سورة الضحى )
عندما تكون مؤمنًا، وتقرأ كتاب الله أحياناً تذوب ذوبان محبةً لله عزَّ وجل.
فهذا الحديث إذا أطاع الإنسان الله عزَّ وجل صار وليّه، الولاية مبذولة، ليس هناك أخذ معدلات، انتهت المقاعد، انتهت الشواغر، انتهى الملاك، الملاك لا يسمح، ليس هناك تعيينات، باب الولاية مفتوحٌ على مصراعيه، والشروط شرط واحد، هو الطاعة لله عزَّ وجل.
ومن عادى ولي الله فقد عادى دين الله، فقد عادى شرعه، فقد عادى الحق، لذلك الله سبحانه وتعالى يتولى محاربته.
((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...))
يعني إذا الإنسان استعاذ بالله عزَّ وجل، الله عزَّ وجل يعيذه، يلبِّيه، لذلك إذا قال العبد: يا رب وهو راكع قال الله: لبيك، فإذا قال: لبيك وهو ساجد، قال الله تعالى: لبيك، فإذا قال: يا رب وهو عاصٍ قال الله عزَّ وجل: لبيك ثم لبيك ثم لبيك.
سبحان الله الإنسان كيف تمر الأيام والليالي، ولا يزال هناك جفوةٌ بينه وبين الله !!! بابه مفتوح، باب التوبة مفتوح، باب الصلة مفتوح، الله سبحانه وتعالى يسترضى.. "، صدقة السر تطفئ غضب الرب "..، "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطَّاها "، الله عزَّ وجل يسترضى بالصدقة، يسترضى بالعمل الصالح، يسترضى بخدمة الخلق، فمتى الصلح مع الله، الصلحة بلمحة..
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
( سورة الزمر )
أعيد على أسمعاكم مرةً ثانية قراءة الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))
( رواه البخاري )
والله مقام عالي كثير، يعني المؤمن تأتيه إلهامات لمصلحته: يا عبد الله افعل كذا، اذهب من هذا الطريق، تعامل مع هذا الرجل، اشترِ هذا البيت، اخطب هذه الفتاة، كل حياته سلسلةٌ من التوفيقات، فإذا عصى الله عز وجل يخفق في زواجه، يخفق في عمله، يخفق في علاقته مع الآخرين، يقع في ورطات، يقع في مشكلات، يتهم بأشياء وهو منها بريء، يقع في أزمات، لذلك الإنسان بين أن يكون ولياً لله عزَّ وجل، وبين أن يكون ولياً للشيطان.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع شرح بعض الأحاديث الصحيحة.
* * * * *
والآن، إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه .
سيدنا عمر رضي الله عنه كان شجاعاً، عزيز النفس، فحينما أسلم قال: والله يا رسول الله لن نعبُد الله سراً بعد هذا اليوم، فكان إسلام عمر فيه عزٌ للمسلمين.
صلح الحديبية، هذا الصلح يرد في كتب السيرة، والحقيقة بنوده في ظاهرها فيها إجحافٌ لحق المسلمين، سيدنا عمر عزيز النفس، شهم، فرأى هذا الخليفة العظيم أن المزايا التي أعطاها النبي عليه الصلاة والسلام لكفار قريش سخيةٌ وكثيرة، وهو يؤمن بضرورة مناجزتهم، ودخول مكة طوعاً أو كرهاً، وما داموا لا يريدون أن يجنحوا للسلم، ويحتكموا إلى الحق، وما دام الحق والباطل في معركة فلابد للحق أن يستعلي بدل أن يهادَن، ولابد له أن يناجز بدل أن يساير، هكذا فهم عمر المسألة، وكوَّن الرأي، ولم يكن للجهر به من مفر، وهكذا أقبل على النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يبدأ الكاتب في تحرير صحيفة المعاهدة، فقال:
ـ يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟
ـ قال: بلى.
ـ قال: يا رسول الله، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟
ـ فقال عليه الصلاة والسلام: بلى.
ـ فقال سيدنا عمر: يا رسول الله، فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ؟!! لماذا هذه الشروط المجحفة ؟ لماذا هذه القيود ؟ لماذا هذه المزايا السخية للكفار ؟ فعلامَ نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟
ـ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ابن الخطاب إني رسول الله. فهمتم ماذا قال له ؟ إني رسول الله، أي:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
( سورة النجم )
ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً.
أنا سأقول لكم هذه الكلمة، وإن شاء الله مسؤول عنها حتى الموت واللهِ الذي لا إله إلا هو زوال الكون أهون على الله من أن يضيع مؤمناً، تطيعه ويضيُّعك ؟ تطيعه ويجعلك في آخر الركب ؟! تطيعه وتندم على طاعته ؟!! ادعُ الله عزَّ وجل في صلاة الصبح بالدعاء المأثور دعاء القنوت وقل له: سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز مَن عاديت، وهذه الأيام بيننا، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز مَن عاديت، يعني من رابع المستحيلات أن يذل المؤمن، وأن يعلي الكافر دائماً، للباطل جولةٌ ثم يضمحل، ولكن العاقبة للمتقين.
ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا، يعني ما اقتنع، فذهب لسيدنا الصديق قال:
ـ يا أبا بكر ألسنا على الحق ؟
ـ قال: نعم.
ـ قال: أليسوا على الباطل ؟
ـ قال: نعم.
ـ قال: فلماذا إذاً نعطي الدنية في ديننا، ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟
ويطمئنه سيدنا الصديق بأن الله لن يتخلَّى عن رسوله، وأن فتح الله قريب، معنى هذا أن سيدنا الصديق أقرب لرسول الله من سيدنا عمر، يعني فهم عليه.
ـ فقال سيدنا الصديق: يا عمر الزم حرزه.
يعني كن معه، استسلم له لأنه رسول الله، لأنه معصوم، لأنه يوحى إليه وليس هذا لغير رسول الله، كل إنسانٍ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء، ما جاءنا عن رسول الله فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن أصحابهم فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن سواهم فهم رجال ونحن رجال، إنسان غير رسول الله لا يحق له أن يقول: اتبعوني بلا دليل، لا نتبع بلا دليل، " أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم "، هذا كلام سيدنا الصديق، إنسان غير رسول الله لا يحق له أن يقول: اتبعوني، بلا دليل، لا تتبع إلا بالدليل، إذا جاءك بالدليل من كتاب الله، وفسر العلماء كما فسرها علماء المسلمين أئمة التفسير، وجاء بالحديث الصحيح المتواتر، وفسره كما فسره علماء الحديث، أنت الآن عليك أن تتبعه، أنت إذا اتبعته لا تتبعه بل تتبع الله ورسوله فقط.
إذا دعاك إنسان بعد رسول الله إلى الله، جاء لك بآيةٍ، وفسرها كما فسرها أئمة التفسير، أو جاء بحديث صحيح، وفسره كما فسره علماء التفسير، أنت الآن ملزمٌ أن تطيعه، وأنت إذا أطعته لا تطيعه هو، بل تطيع الذي جاء به من كتاب الله ومن سنة رسوله، أما أطيعوني بلا دليل، لا نطيعه.
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
( سورة الحشر: من آية " 7 " )
لا مجال، أنت مأمور بنص كتاب الله أن تأخذ ما جاء به النبي، وأن تنتهي عما عنه نهاك، فلو كان في سلوك النبي ما هو خلاف الحق لكان الله قد أمرك بالباطل، ألم يقل لك: أطع رسولي، وانتهِ عما عنه نهاك، معنى ذلك لو أن النبي غير معصوم كأن الله قد أمرك بالمعصية.
إذاً ما ينطبق على النبي لا ينطبق على غيره، لا يحق لأحدٍ أن يأخذ ميزات النبي عليه الصلاة والسلام، هو معصوم، ويوحى إليه، وقد أُمِرْنا أن نطيعه في كل شيء، وأن ننتهي عما عنه نهانا، وليس هذا لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سوى النبي تعامل معه بالدليل، افعل كذا، أين الدليل ؟ لا تفعل، أين الدليل ؟
سيدنا عمر شعر بالمسؤولية بعد أن تولى أمر الناس، حتى إنه أراد أن يكون أول من يجوع إذا جاع قومه، وآخر مَن يشبع إذا شبعوا، عبارة دقيقة: أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا، كان يخاطب نفسه فيقول: كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم ؟ يعني إذا دخل الأب مثلاً المطعم، وأكل حلويات، كل يومين أو ثلاثة يأكل أكلة حلو، وليس في البيت في حلويات، والدنيا شتاء، اشتهوا أن يأكلوا حلويات، هذا الأب ما انتبه لهذه الناحية لأنه شبعان.
حدثني شخص فقال لي: عنده اثنا عشر نفسا، يأتي بأوقية من اللحم ـ حالته المادية جيدة ـ يضعها في الطبخة، يدخل عند اللحام يأخذ أوقيتين ويأكلها، يشويها ويأكلها في مكان خفي، كيف يعنيك أمر هذه الأسرة إن لم تشعر بما تشعر ؟ إن لم تجع كما تجوع ؟ إن لم تشته كما تشتهي ؟ فالأب إذا ما شعر بشعور أولاده، وبشعور زوجته، ليس مؤهلاً أن يكون أباً، فكان سيدنا عمر يقول: كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم ؟ فصار سيدنا عمر يلتزم أكل الزيت حين أصاب المسلمين أزمةٌ شديدة في اللحم والسمن، ويدمن أهل الخطاب أكل الزيت حتى قرقرت أمعاءه، يقول لك: التوى قلبي كله زيت بزيت، فيضع كفه على بطنه ويقول له: قرقر أيها البطن أو لا تقرقر فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين.
في رواية ثانية: لتمرن أيها البطن على الزيت مادام السمن يباع بالأواقي، مادام السمن غاليا فكل الزيت.
في عام الرمادة، وهذا كان عام مجاعة قاتلة في المدينة، أمر يوماً بنحر جذور ـ ناقة كبيرة ذبحت وتوزيع لحمها على الفقراء من أهل المدينة ـ وقام المختصون بإنجاز هذه المهمة، بيد أنهم استبقوا لأمير المؤمنين أطيب أجزاءٍ في الذبيحة، أطيب جزء في الذبيحة يقال إنه السنام، الشهباية مثلاً أطيب شيء، فتيلة مثلاً، فبالناقة أطيب شيء السنام، وعند الغذاء وجد سيدنا عمر أمامه على المائدة سنام الجزور وكبده، وهما أطيب ما فيه، فقال:
ـ من أين هذا ؟
ـ قيل: من الجذور الذي ذبح اليوم.
ـ فقال وهو يزيح المائدة بيده الأمينة: بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها، يعني عظامها، فقال: أزحها من أمامي، وقال: يا أسلم ارفع هذه الجفنة، وأتني بالخبز والزيت، بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها.
في مرة جاءه من أذربيجان رسول عامله، واسمه عتبة بن فرقد، فهذا الرسول وصل للمدينة في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، في المدينة كره أن يطرق باب أمير المؤمنين في هذه الساعة المتأخرة فتوجه إلى المسجد، وليس فيه إضاءة، فسمع صوتاً يناجي ربه، يقول هذا الصوت: يا رب أنا واقفٌ بين يديك، هل أنت راضٍ عني ؟ هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟ من هذا الشخص.
ـ فقال: من أنت يرحمك الله، من أنت ؟
ـ قال: أنا عمر، كره أن يطرق بيته ليلاً فإذا هو في المسجد.
ـ فقال: يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟!
ـ قال: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعف رعيتي.
فالنتيجة صلى معه، وأذن الفجر، وصليا الفجر، ودعوا بدعاء الفجر، وأخذه إلى البيت، وقال:
ـ يا أم كلثوم ماذا عندك من الطعام ؟
ـ قالت: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح، هو خيَّره: أتحب أن تأكل مع فقراء المسلمين أم أن تأكل في بيتي ؟ قال: لا عندك في البيت، ليس هناك نسبة، بالبيت لا مع الفقراء ؟! فقال: يا أم كلثوم ماذا عندك من الطعام ؟ فقالت: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح ؟ فقال:
ـ أحضريه لنا.
وأكل سيدنا عمر مع ضيفه الخبز والملح، إذا كان هناك واحد منا جميعاً من يأكل خبزا وملحا فأنا مسؤول، فقط خبز وملح ؟ شرب الماء، وحمد الله على أنه أطعمه وسقاه وقال:
ـ ما الذي جاء بك إلينا ؟ خير إن شاء الله ؟
ـ قال: جئت لك بهذه الهدية.
فتحها فإذا حلوى من أذربيجان، فذاق منها لقمةً فإذا لها طعمٌ طيب فقال:
ـ يا هذا أيأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام ؟
ـ قال: لا، هذا طعام الخاصَّة، يعني الطبقة الغنية.
ـ قال له: أو أعطيت فقراء المدينة مثل ما أعطيتني ؟
ـ قال: لا، هذه لك وحدك.
ـ فقال له: أين بعيرك ؟ خذ حملك هذا وارجع به لعتبة، وقل له: عمر يقول لك اتقِ الله، وأشبع المسلمين مما تشبع منه.
وفي قول آخر أنه قال له: وزع هذه الحلوى على فقراء المدينة، وحرامٌ على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين.
طبعاً كان يجمع من حين لآخر أهله وأقرباءه المقربين إليه، أهل خاصته يقول: " إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وأمرتهم بكذا وكذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله لأوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني "، فصارت القرابة من عمر مصيبة، كل إنسان قريب من سيدنا عمر سيحاسب مرتين، يضاعف لها العذاب ضعفين، هؤلاء الأشخاص الذين بحكم أعمالهم، بحكم مراتبهم الاجتماعية يحتلون مركز الصدارة هؤلاء، يعاقبون ضعفين، ويثابون مرتين، مرةً على أعمالهم الطيبة، ومرةً لمن اقتدى بهم، فإذا أساؤوا يعاقبون مرتين، مرةً لأنهم أساؤوا، ومرةً لأنهم كانوا قدوة سيئةً لغيرهم، هذه دخل فيها الأب، دخل فيها المعلم، دخل فيها مدير المعمل، دخل فيها رئيس الدائرة، دخل فيها كل إنسان، لو كان له ولاية على عشرة أشخاص، صار هذا له عذاب الضعف.
مع أن سيدنا عمر كان إماماً في الورع والزهد، لكنه يعاتب ولده عبد الله بن عمر عتاباً فيه العجب العجاب، فمرة سيدنا عمر رأى ابنه يستروح نعمةً متواضعة من نعم الحياة، يعني يأكل لحماً، هذا ذنبه الوحيد، دخل يوماً دار ابنه عبد الله، فرآه يأكل شرائح اللحم، فغضب وقال: ألأنك ابن أمير المؤمنين تأكل لحماً والناس في خصاصة، ألا خبزاً وملحاً، ألا خبزاً وزيتاً، والناس في خصاصة ؟
ذات مرة خرج في جولة تفتيشية في السوق، فرأى إبلاً سماناً تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها، فقال:
ـ إبل مَن هذه ؟
ـ فقالوا: هي إبل عبد الله بن عمر، لابنك هذه.
وانتفض أمير المؤمنين كأنما القيامة قامت وقال:
ـ عبد الله بن عمر ؟ بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين. طول بالك الله يعينك، وأرسل في طلبه من فوره، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده، أخذ عمر يفتل سبلة شاربه، وتلك كانت عادته إذا أهمه أمرٌ خطير وقال لابنه:
ـ ما هذه الإبل يا عبد الله ؟
ـ فأجاب: إنها إبلٌ أمضاء ـ يعني هزيلة ـ اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى ـ أي إلى المرعى ـ أتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون. مثلي مثل كل الناس.
ـ فعَقَّب عمر في تهكمٍ لاذع: ويقول الناس حين يرونها ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين ـ أنت عرفت لماذا سمينة إبلك هذه ؟ لأنك ابني ـ ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين ـ وتربح بهذه الطريقة، يطعمونها ويسقونها وتسمن، وتبيعها وتربح لأنك ابن أمير المؤمنين، قال له: يا عبد الله بن عمر خذ رأسمالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربح في بيت مال المسلمين.
آخر لقطة من سيرة سيدنا عمر رضي الله عنه، يصل إلى المدينة يوماً بعض أموال الأقاليم فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها، وتقول له مداعبةً:
ـ يا أمير المؤمنين حق أقاربك في هذا المال، فقد أوصى الله بالأقربين، ما لنا شيء نحن ؟
ـ فيجيبها جاداً: يا بنية، حق أقاربي في مالي، أما هذا فمال المسلمين، قومي إلى بيتك، اذهبي.
سيدنا عمر من علمه هذا ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام، مرة قال النبي لأحب الناس إليه، لابنته فاطمة، قال مرةً:
((فاطمةٌ بضعةٌ مني من أحبها فقد أحبني ومن أبغضها فقد أبغضني ))
( من الجامع الصغير: عن " عن المسور " )
ولما ولدت، حملها وضمها وشمها وقال:
((ريحانةٌ أشمها وعلى الله رزقها ))
ولم يكن في الناس مخلوقٌ أحب إليه من فاطمة، قالت: يا أبتِ، طلبت منه شيئا من المال، فقال:
((لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال ))
ثم يحرمها ويعطي سواها.
إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع الحديث عن هذا الخليفة العظيم.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الحديث, الشريف, شرح


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
علم الحديث الشريف السعيد ريآض الآحاديث النبوية 6 11-11-2018 08:29 AM
شرح الحديث الشريف رياض الصالحين السعيد ريآض الآحاديث النبوية 6 05-09-2018 04:11 PM
الحديث الشريف فى بر الوالدين وصلة الارحام السعيد ريآض الآحاديث النبوية 3 05-09-2018 11:39 AM
التنافس الشريف منال نور الهدى رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 5 04-27-2016 10:06 AM
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والدليل على جوازه آفراح رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 4 10-26-2014 07:12 PM


الساعة الآن 10:57 PM