حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاضُ الإعْجَازُ القُرْآنــي

رِيَاضُ الإعْجَازُ القُرْآنــي ( الاعجاز العلمي و البياني وتفسير الآيات والعلوم القرآنية)

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 11-02-2018, 02:40 PM   #11


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهــان 75

من سورة الأنعام


{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ
وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
{ 59 }





هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط،

وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه.

وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين،

فضلا عن غيرهم من العالمين،

وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار،

والرمال والحصى، والتراب،

وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها،

وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.





{ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ } من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر،

والدنيا والآخرة، إلا يعلمها.




{ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ } من حبوب الثمار والزروع،

وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛

وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات.



{ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ } هذا عموم بعد خصوص

{ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهو اللوح المحفوظ، قد حواها، واشتمل عليها،




وبعض هذا المذكور،
يبهر عقول العقلاء،
ويذهل أفئدة النبلاء،

فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته، في أوصافه كلها.



وأن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته،
لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك،

فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم،
الحميد المجيد، الشهيد، المحيط.


وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه،
بل كما أثنى على نفسه،
وفوق ما يثني عليه عباده،


فهذه الآية، دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء،
وكتابه المحيط بجميع الحوادث.



البرهــان 76

من سورة الأنعام


{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *


وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ *

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ
أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }
{ 60 _ 62 }





هذا كله، تقرير لألوهيته، واحتجاج على المشركين به،

وبيان أنه تعالى المستحق للحب والتعظيم، والإجلال والإكرام،

فأخبر أنه وحده، المتفرد بتدبير عباده، في يقظتهم ومنامهم،

وأنه يتوفاهم بالليل، وفاة النوم، فتهدأ حركاتهم، وتستريح أبدانهم،

ويبعثهم في اليقظة من نومهم، ليتصرفوا في مصالحهم الدينية والدنيوية

وهو تعالى يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك الأعمال.





ثم لا يزال تعالى هكذا، يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم.

فيقضى بهذا التدبير، أجل مسمى، وهو: أجل الحياة،

وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت،




ولهذا قال: { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } لا إلى غيره

{ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر.


{ وَهُوَ } تعالى { الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }

ينفذ فيهم إرادته الشاملة، ومشيئته العامة،

فليسوا يملكون من الأمر شيئا،

ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه،

ومع ذلك، فقد وكل بالعباد حفظةً من الملائكة،

يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل،




كما قال تعالى:

{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }





{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

فهذا حفظه لهم في حال الحياة.







{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا }

أي الملائكة الموكلون بقبض الأرواح.


{ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } في ذلك،

فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ولا ينقصون،

ولا ينفذون من ذلك، إلا بحسب المراسيم الإلهية والتقادير الربانية.




{ ثُمَّ } بعد الموت والحياة البرزخية، وما فيها من الخير والشر


{ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ }

أي: الذي تولاهم بحكمه القدري، فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير،

ثم تولاهم بأمره ونهيه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب،

ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء،

ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات،

ويعاقبهم على الشرور والسيئات،




وَلهذا قال: { أَلَا لَهُ الْحُكْمُ } وحده لا شريك له

{ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } لكمال علمه وحفظه لأعمالهم،

بما أثبته في اللوح المحفوظ،

ثم أثبته ملائكته في الكتاب، الذي بأيديهم،


فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير،
وهو القاهر فوق عباده،
وقد اعتنى بهم كل الاعتناء، في جميع أحوالهم،


وهو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي،

فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته،

إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء،

ولا عنده مثقال ذرة من النفع،


ولا له قدرة وإرادة؟!.



أما والله لو علموا حلم الله عليهم،
وعفوه ورحمته بهم،
وهم يبارزونه
بالشرك والكفران،
ويتجرءون على عظمته بالإفك والبهتان،
وهو يعافيهم ويرزقهم
لانجذبت دواعيهم إلى معرفته،
وذهلت عقولهم في حبه.


ولمقتوا أنفسهم أشد المقت،
حيث انقادوا لداعي الشيطان،
الموجب للخزي والخسران،
ولكنهم قوم لا يعقلون.



البرهــان 77

من سورة الأنعام


{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً
لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *
قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ
مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ
ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ }
{ 63 ، 64 }





أي { قُلْ } للمشركين بالله، الداعين معه آلهة أخرى،

ملزما لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية،

على ما أنكروا من توحيد الإلهية



{ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي: شدائدهما ومشقاتهما،

وحين يتعذر أو يتعسر عليكم وجه الحيلة،

فتدْعون ربكم تضرعا بقلب خاضع،

ولسان لا يزال يلهج بحاجته في الدعاء،

وتقولون وأنتم في تلك الحال:



{ لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ } الشدة التي وقعنا فيها

{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } لله، أي المعترفين بنعمته،

الواضعين لها في طاعة ربهم،

الذين حفظوها عن أن يبذلوها في معصيته.



{ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ }

أي: من هذه الشدة الخاصة،

ومن جميع الكروب العامة.



{ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ }

لا تفون لله بما قلتم، وتنسون نعمه عليكم،

فأي برهان أوضح من هذا على بطلان الشرك،

وصحة التوحيد؟"



البرهــان 78

من سورة الأنعام


{ وَإِذَارَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ
فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }


{ 68 ، 69 }




المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق،

من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها،

والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله،

فأمر الله رسوله أصلا، وأمته تبعا،

إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم،

وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل،

والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره،

فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.




فإن كان مصلحة كان مأمورا به،

وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به،

وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.


ثم قال:


{ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ }

أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة.




{ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

يشمل الخائضين بالباطل،
وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم،

فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر،
الذي لا يقدر على إزالته.




هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله،

بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم،

أو يسكت عنهم، وعن الإنكار،

فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير،

وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم،

فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه،

فهذا ليس عليه حرج ولا إثم،




ولهذا قال: { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى.








وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام،

ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى.



وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ،

مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره،

كان تركه هو الواجب

لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا.


البرهــان 80

من سورة الأنعام


{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا
وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ
لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *



وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ

وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ


قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

{ 71 _ 73 }




{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله، الداعين معه غيره،

الذين يدعونكم إلى دينهم، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم،

التي يكتفي العاقل بذكر وصفها، عن النهي عنها،

فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه،

قبل أن تقام البراهين على ذلك،








فقال: { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا }

وهذا وصف، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله،

فإنه لا ينفع ولا يضر، وليس له من الأمر شيء،

إن الأمر إلا لله.








{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ }

أي: وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال، ومن الرشد إلى الغي،

ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم،

إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم.








فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد،

وصاحبها { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ }

أي: أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده.






فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى }

والشياطين يدعونه إلى الردى، فبقي بين الداعيين حائرا





وهذه حال الناس كلهم، إلا من عصمه الله تعالى،

فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي متعارضة،

دواعي الرسالة والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة

{ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى }

والصعود إلى أعلى عليين.






ودواعي الشيطان، ومن سلك مسلكه، والنفس الأمارة بالسوء،

يدعونه إلى الضلال، والنزول إلى أسفل سافلين،

فمن الناس من يكون مع داعي الهدى، في أموره كلها أو أغلبها،

ومنهم من بالعكس من ذلك.

ومنهم من يتساوى لديه الداعيان، ويتعارض عنده الجاذبان،

وفي هذا الموضع، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.


وقوله: { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }

أي: ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله،

وما عداه فهو ضلال وردى وهلاك.








{ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }

بأن ننقاد لتوحيده، ونستسلم لأوامره ونواهيه،

وندخل تحت عبوديته،

فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد،

وأكمل تربية أوصلها إليهم.







{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }

أي: وأمرنا أن نقيم الصلاة بأركانها وشروطها وسننها ومكملاتها.


{ وَاتَّقُوهُ } بفعل ما أمر به، واجتناب ما عنه نهى.


{ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: تُجْمَعون ليوم القيامة،

فيجازيكم بأعمالكم، خيرها وشرها.



{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ }

ليأمر العباد وينهاهم، ويثيبهم ويعاقبهم،

{ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ }

الذي لا مرية فيه ولا مثنوية، ولا يقول شيئا عبثا


{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ }

أي: يوم القيامة، خصه بالذكر –مع أنه مالك كل شيء ـ

لأنه تنقطع فيه الأملاك، فلا يبقى ملك إلا الله الواحد القهار.







{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }

الذي له الحكمة التامة، والنعمة السابغة، والإحسان العظيم،

والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا،

لا إله إلا هو، ولا رب سواه.




البرهــان 81


من سورة الأنعام


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .... } إلى آخر القصة.
{ 74 _ 83 }


يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام،

مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك،


وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً }

أي: لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء،


{ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا،

وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم، ومدبركم.


{ وَكَذَلِكَ } حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه

{ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: ليرى ببصيرته، ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة


{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }

فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب.



{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي: أظلم

{ رَأَى كَوْكَبًا } لعله من الكواكب المضيئة،

لأن تخصيصه بالذكر، يدل على زيادته عن غيره،

ولهذا والله أعلم قال من قال: إنه الزهرة.


{ قَالَ هَذَا رَبِّي } أي: على وجه التنزل مع الخصم

أي: هذا ربي، فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟

وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟

فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.



{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي: غاب ذلك الكوكب

{ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } أي: الذي يغيب ويختفي عمن عبده،

فإن المعبود لا بد أن يكون قائما بمصالح من عبده،

ومدبرا له في جميع شئونه،

فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب،

فمن أين يستحق العبادة؟!

وهل اتخاذه إلها إلا من أسفه السفه،

وأبطل الباطل؟!


{ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا } أي: طالعا،

رأى زيادته على نور الكواكب ومخالفته لها { قَالَ هَذَا رَبِّي } تنزلا.



{ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ }

فافتقر غاية الافتقار إلى هداية ربه،

وعلم أنه إن لم يهده الله فلا هادي له،

وإن لم يعنه على طاعته، فلا معين له.


{ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ }

من الكوكب ومن القمر.


{ فَلَمَّا أَفَلَتْ } تقرر حينئذ الهدى، واضمحل الردى


فـ { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }

حيث قام البرهان الصادق الواضح، على بطلانه.


{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا }

أي: لله وحده، مقبلا عليه، معرضا عن من سواه.


{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

فتبرأ من الشرك، وأذعن بالتوحيد،

وأقام على ذلك البرهان


[وهذا الذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات، هو الصواب،

وهو أن المقام مقام مناظرة، من إبراهيم لقومه،

وبيان بطلان إلهية هذه الأجرام العلوية وغيرها.

وأما من قال: إنه مقام نظر في حال طفوليته،

فليس عليه دليل]


{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }

أيُّ فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟

فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى درجات اليقين،

فإنه –هو بنفسه يدعو الناس إلى ما هو عليه.


{ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ }

فإنها لن تضرني،
ولن تمنع عني من النفع شيئا.


{ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }

فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية.


{ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ }

وحالها حال العجز، وعدم النفع،


{ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ

مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا }

أي: إلا بمجرد اتباع الهوى.

{ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }



قال الله تعالى فاصلا بين الفريقين

{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا } أي: يخلطوا

{ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }

الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء،

والهدايةُ إلى الصراط المستقيم،

فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا،

لا بشرك، ولا بمعاص،

حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة.


وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده،

ولكنهم يعملون السيئات،

حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن،

وإن لم يحصل لهم كمالها.


ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران،

لم يحصل لهم هداية ولا أمن،

بل حظهم الضلال والشقاء.


ولما حكم لإبراهيم عليه السلام، بما بين به من البراهين القاطعة

قال: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ }

أي: علا بها عليهم، وفلجهم بها.



{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ }

كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة،

فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات.



خصوصا العالم العامل المعلم،

فإنه يجعله الله إماما للناس،

بحسب حاله ترمق أفعاله، وتقتفى آثاره،

ويستضاء بنوره، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره.


قال تعالى

{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } ،


{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

فلا يضع العلم والحكمة، إلا في المحل اللائق بها،
وهو أعلم بذلك المحل، وبما ينبغي له.





البرهــان 82

من سورة الأنعام



{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ

وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ
وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *




وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ

كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا
وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ *




وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ

وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ


وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *


أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *




أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }



{ 84 _ 90 }



لما ذكر الله تعالى عبده وخليله، إبراهيم عليه السلام،

وذكر ما مَنَّ الله عليه به، من العلم والدعوة، والصبر،

ذكر ما أكرمه الله به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب.


وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله، وأعظم بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة،

التي لا يدرك لها نظير فقال:


{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ابنه، الذي هو إسرائيل،

أبو الشعب الذي فضله الله على العالمين.





{ كُلًّا } منهما { هَدَيْنَا } الصراط المستقيم، في علمه وعمله.

{ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } وهدايته من أنواع الهدايات الخاصة

التي لم تحصل إلا لأفراد من العالم؛

وهم أولو العزم من الرسل، الذي هو أحدهم.


{ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح، لأنه أقرب مذكور،

ولأن الله ذكر مع من ذكر لوطا، وهو من ذرية نوح،

لا من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه.




ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لأن السياق في مدحه والثناء عليه،

ولوط -وإن لم يكن من ذريته- فإنه ممن آمن على يده،

فكان منقبة الخليل وفضيلته بذلك، أبلغ من كونه مجرد ابن له.


{ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } بن داود

{ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ } بن يعقوب.

{ وَمُوسَى وَهَارُونَ } ابني عمران،



{ وَكَذَلِكَ } كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل،

لأنه أحسن في عبادة ربه، وأحسن في نفع الخلق


{ كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }

بأن نجعل لهم من الثناء الصدق، والذرية الصالحة، بحسب إحسانهم.



{ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى } ابنه { وَعِيسَى } ابن مريم. { وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } هؤلاء

{ مِنَ الصَّالِحِينَ } في أخلاقهم وأعمالهم وعلومهم،

بل هم سادة الصالحين وقادتهم وأئمتهم.



{ وَإِسْمَاعِيلَ } بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب،

وهو الشعب العربي، ووالد سيد ولد آدم، محمد صلى الله عليه وسلم.


{ وَيُونُسَ } بن متى { وَلُوطًا } بن هاران، أخي إبراهيم.

{ وَكُلَا } من هؤلاء الأنبياء والمرسلين

{ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } لأن درجات الفضائل أربع –


وهي التي ذكرها الله بقوله:




{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ }




فهؤلاء من الدرجة العليا، بل هم أفضل الرسل على الإطلاق،

فالرسل الذين قصهم الله في كتابه،

أفضل ممن لم يقص علينا نبأهم بلا شك.




{ وَمِنْ آبَائِهِمْ } أي: آباء هؤلاء المذكورين

{ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } أي: وهدينا من آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم.







{ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } أي: اخترناهم { وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }

{ ذَلِكَ } الهدى المذكور { هُدَى اللَّهِ } الذي لا هدى إلا هداه.




{ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }

فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فلا هادي لكم غيره،

وممن شاء هدايته هؤلاء المذكورون.




{ وَلَوْ أَشْرَكُوا } على الفرض والتقدير

{ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

فإن الشرك محبط للعمل،
موجب للخلود في النار.


فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا -وحاشاهم-

لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى.



{ أُولَئِكَ } المذكورون { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }

أي: امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم

وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم.




فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين،

وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين،

صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين،

وبهذا الملحظ استدل بهذه من استدل من الصحابة،

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الرسل كلهم.



{ قُلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك:

{ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا }

أي: لا أطلب منكم مغرما ومالا، جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم

فيكون من أسباب امتناعكم، إن أجري إلا على الله.


{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }

يتذكرون به ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيذرونه،

ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه.




ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها،

والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها،


فإذا كان ذكرى للعالمين،

كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم،

فعليهم قبولها والشكر عليها.



البرهــان 83



من سورة الأنعام



{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ

وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

{ 93 _ 94 }



{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ }

أي: أعطيناكم، وأنعمنا به عليكم

{ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } لا يغنون عنكم شيئا



{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ }

فإن المشركين يشركون بالله، ويعبدون معه الملائكة،

والأنبياء، والصالحين، وغيرهم،

وهم كلهم لله،

ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم،

وشركة في عبادتهم،



وهذا زعم منهم وظلم،

فإن الجميع عبيد لله، والله مالكهم، والمستحق لعبادتهم.

فشركهم في العبادة، وصرفها لبعض العبيد،

تنـزيل لهم منـزلة الخالق المالك،

فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة.



{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ

الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }

أي: تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم،

من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا.




{ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }

من الربح، والأمن والسعادة، والنجاة،

التي زينها لكم الشيطان، وحسنها في قلوبكم، فنطقت بها ألسنتكم.


واغتررتم بهذا الزعم الباطل، الذي لا حقيقة له،

حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون،

وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم.




البرهــان 84


من سورة الأنعام



{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ

وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ

ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *


فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا

ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *


وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ

لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *


وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ

قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

{ 95 _ 98 }



يخبر تعالى عن كماله، وعظمة سلطانه، وقوة اقتداره،

وسعة رحمته، وعموم كرمه، وشدة عنايته بخلقه،


فقال: { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ } شامل لسائر الحبوب،

التى يباشر الناس زرعها، والتي لا يباشرونها،

كالحبوب التي يبثها الله في البراري والقفار،

فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت،

على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومنافعها،

ويفلق النوى عن الأشجار، من النخيل والفواكه، وغير ذلك.

فينتفع الخلق، من الآدميين والأنعام، والدواب.


ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى، ويقتاتون،

وينتفعون بجميع أنواع المنافع التي جعلها الله في ذلك.


ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر العقول، ويذهل الفحول،

ويريهم من بدائع صنعته، وكمال حكمته،

ما به يعرفونه ويوحدونه،

ويعلمون أنه هو الحق، وأن عبادة ما سواه باطلة.


{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } كما يخرج من المني حيوانا،

ومن البيضة فرخا، ومن الحب والنوى زرعا وشجرا.

{ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } وهو الذي لا نمو فيه، أو لا روح

{ مِنَ الْحَيِّ } كما يخرج من الأشجار والزروع النوى والحب،

ويخرج من الطائر بيضا ونحو ذلك.




{ ذَلِكُمْ } الذي فعل ما فعل، وانفرد بخلق هذه الأشياء وتدبيرها

{ اللَّهُ } رَبُّكُمْ أي:

الذي له الألوهية والعبادة على خلقه أجمعين،

وهو الذي ربى جميع العالمين بنعمه، وغذاهم بكرمه.



{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي: فأنى تصرفون،

وتصدون عن عبادة من هذا شأنه،


إلى عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا،

ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا ؟ "




ولما ذكر تعالى مادة خلق الأقوات، ذكر منته بتهيئة المساكن،

وخلقه كل ما يحتاج إليه العباد، من الضياء والظلمة،

وما يترتب على ذلك من أنواع المنافع والمصالح فقال:


{ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ } أي: كما أنه فالق الحب والنوى،

كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي، الشامل لما على وجه الأرض،

بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا،

حتى تذهب ظلمة الليل كلها، ويخلفها الضياء والنور العام،

الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم، ومعايشهم،

ومنافع دينهم ودنياهم.


ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والاستقرار والراحة،

التي لا تتم بوجود النهار والنور { جَعَلَ } الله

{ اللَّيْلَ سَكَنًا } يسكن فيه الآدميون إلى دورهم ومنامهم،

والأنعام إلى مأواها، والطيور إلى أوكارها، فتأخذ نصيبها من الراحة،

ثم يزيل الله ذلك بالضياء، وهكذا أبدا إلى يوم القيامة



{ و } جعل تعالى { الشمس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } بهما تعرف الأزمنة والأوقات،

فتنضبط بذلك أوقات العبادات، وآجال المعاملات،

ويعرف بها مدة ما مضى من الأوقات التي لولا وجود الشمس والقمر،

وتناوبهما واختلافهما - لما عرف ذلك عامة الناس،

واشتركوا في علمه، بل كان لا يعرفه إلا أفراد من الناس،

بعد الاجتهاد، وبذلك يفوت من المصالح الضرورية ما يفوت.


{ ذَلِكَ } التقدير المذكور


{ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }

الذي من عزته انقادت له هذه المخلوقات العظيمة،
فجرت مذللة مسخرة بأمره،
بحيث لا تتعدى ما حده الله لها،
ولا تتقدم عنه ولا تتأخر


{ الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن،
والأوائل والأواخر.


ومن الأدلة العقلية على إحاطة علمه،
تسخير هذه المخلوقات العظيمة،
على تقدير، ونظام بديع،
تحيُّرُ العقول في حسنه وكماله،
وموافقته للمصالح والحكم.



{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }

حين تشتبه عليكم المسالك، ويتحير في سيره السالك،

فجعل الله النجوم هداية للخلق إلى السبل،

التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم، وتجاراتهم، وأسفارهم.


منها: نجوم لا تزال ترى، ولا تسير عن محلها،


ومنها: ما هو مستمر السير، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك،

ويعرفون به الجهات والأوقات.





ودلت هذه الآية ونحوها

على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها

الذي يسمى علم التسيير، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك.




{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ } أي بيناها، ووضحناها،

وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة

{ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي: لأهل العلم والمعرفة،

فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب، ويطلب منهم الجواب،

بخلاف أهل الجهل والجفاء،

المعرضين عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءت به الرسل،

فإن البيان لا يفيدهم شيئا، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبسا،

والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا.



{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه السلام.

أنشأ الله منه هذا العنصر الآدمي؛

الذي قد ملأ الأرض ولم يزل في زيادة ونمو،

الذي قد تفاوت في أخلاقه وخلقه، وأوصافه تفاوتا لا يمكن ضبطه،

ولا يدرك وصفه،


وجعل الله لهم مستقرا، أي منتهى ينتهون إليه، وغاية يساقون إليها،

وهي دار القرار، التي لا مستقر وراءها، ولا نهاية فوقها،

فهذه الدار، هي التي خلق الخلق لسكناها،

وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها، التي تنشأ عليها وتعمر بها،

وأودعهم الله في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم في دار الدنيا،

ثم في البرزخ، كل ذلك، على وجه الوديعة،

التي لا تستقر ولا تثبت،

بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي المستقر،

وأما هذه الدار، فإنها مستودع وممر


{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } عن الله آياته،

ويفهمون عنه حججه، وبيناته.












 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 06:03 AM   #12


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهــان 85


من سورة الأنعام


{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ

وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ *

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ

وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *


ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *


لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ

وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا

وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

{ 100 - 104 }


يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم،

بآياته البينات، وحججه الواضحات

-أن المشركين به، من قريش وغيرهم،

جعلوا له شركاء، يدعونهم، ويعبدونهم،

من الجن والملائكة، الذين هم خلق من خلق الله،

ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء،


فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر،

وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم،

وكذلك "خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله،

بنين وبنات بغير علم منهم،

ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم،

وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!.

ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال:


{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ }

فإنه تعالى، الموصوف بكل كمال،

المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب.


{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

أي: خالقهما، ومتقن صنعتهما، على غير مثال سبق،

بأحسن خلق، ونظام وبهاء،

لا تقترح عقول أولي الألباب مثله، وليس له في خلقهما مشارك.


{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ }

أي: كيف يكون لله الولد، وهو الإله السيد الصمد،

الذي لا صاحبة له أي: لا زوجة له،

وهو الغني عن مخلوقاته، وكلها فقيرة إليه،

مضطرة في جميع أحوالها إليه،

والولد لا بد أن يكون من جنس والده؛

والله خالق كل شيء

وليس شيء من المخلوقات مشابها لله بوجه من الوجوه.


ولما ذكر عموم خلقه للأشياء، ذكر إحاطة علمه بها فقال:

{ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي إلى ثبوت علمه،

وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر،

فإن في ذلك دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته،


كما قال تعالى:

{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }


وكما قال تعالى:


{ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }


ذلكم الذي خلق ما خلق، وقدر ما قدر.

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ }أي: المألوه المعبود،

الذي يستحق نهاية الذل، ونهاية الحب، الرب،

الذي ربى جميع الخلق بالنعم،

وصرف عنهم صنوف النقم.


{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ }

أي: إذا استقر وثبت، أنه الله الذي لا إله إلا هو،

فاصرفوا له جميع أنواع العبادة، وأخلصوها لله،

واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق،

الذي خلقوا لأجله


{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }


{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

أي: جميع الأشياء، تحت وكالة الله وتدبيره،

خلقا، وتدبيرا، وتصريفا.


ومن المعلوم أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه، وكمال انتظامه،

بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على الأشياء،

ليست من جنس وكالة الخلق،

فإن وكالتهم وكالة نيابة، والوكيل فيها تابع لموكله.


وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه،

متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان فيه والعدل،

فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله،

ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا،

ولا في تدبيره نقصا وعيبا.




ومن وكالته: أنه تعالى توكل ببيان دينه،

وحفظه عن المزيلات والمغيرات،

وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.


{ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } لعظمته، وجلاله وكماله،

أي: لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه،

وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم،

فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم.

فإنه إذا نفى الإدراك، الذي هو أخص أوصاف الرؤية،

دل على أن الرؤية ثابتة.




فإنه لو أراد نفي الرؤية، لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك،

فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة،

الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة،

بل فيها ما يدل على نقيض قولهم.


{ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ }

أي: هو الذي أحاط علمه، بالظواهر والبواطن،

وسمعه بجميع الأصوات الظاهرة، والخفية،

وبصره بجميع المبصرات، صغارها، وكبارها،


ولهذا قال: { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }

الذي لطف علمه وخبرته،

ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.


ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه،

ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها،

ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي،

من حيث لا يحتسب،

حتى أنه يقدر عليه الأمور التي يكرهها العبد، ويتألم منها،

ويدعو الله أن يزيلها،

لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها،

فسبحان اللطيف لما يشاء،
الرحيم بالمؤمنين.


{ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ

وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }

لما بين تعالى من الآيات البينات، والأدلة الواضحات،

الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد، نبه العباد عليها،

وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم،

فقال: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ }

أي: آيات تبين الحق، وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للأبصار،

لما اشتملت عليه من فصاحة اللفظ، وبيانه، ووضوحه،

ومطابقته للمعاني الجليلة، والحقائق الجميلة،

لأنها صادرة من الرب، الذي ربى خلقه، بصنوف نعمه الظاهرة والباطنة،

التي من أفضلها وأجلها، تبيين الآيات، وتوضيح المشكلات.


{ فَمَنْ أَبْصَرَ } بتلك الآيات، مواقع العبرة، وعمل بمقتضاها

{ فَلِنَفْسِهِ } فإن الله هو الغني الحميد.


{ وَمَنْ عَمِيَ } بأن بُصِّر فلم يتبصر، وزُجِر فلم ينزجر،


وبين له الحق، فما انقاد له ولا تواضع،

فإنما عماه مضرته عليه.



{ وَمَا أَنَا } أي الرسول

{ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأرقبها على الدوام

إنما عليَّ البلاغ المبين وقد أديته،

وبلغت ما أنزل الله إليَّ، فهذه وظيفتي،

وما عدا ذلك فلست موظفا فيه


البرهــان 86


من سورة الأنعام


{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ

فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا

لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

{ 114 ، 115 }


أي: قل يا أيها الرسول

{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا }

أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه.

فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم.

وكل تدبير وحكم للمخلوق

فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور،



وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما،

فهو الله وحده لا شريك له،

الذي له الخلق والأمر.


{ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا }

أي: موضَّحا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية،

وأصول الدين وفروعه، الذي لا بيان فوق بيانه،

ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا،

لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة.


وأهل الكتب السابقة، من اليهود والنصارى، يعترفون بذلك

{ ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ }


ولهذا، تواطأت الإخبارات { فَلَا } تشُكَّنَّ في ذلك

ولا { تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }


ثم وصف تفصيلها فقال:

{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا }


أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأمر والنهي.

فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز،

ولا أعدل من أوامره ونواهيه


{ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ }

[حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق،

وبغاية الحق، فلا يمكن تغييرها،

ولا اقتراح أحسن منها]


{ وَهُوَ السَّمِيعُ }

لسائر الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات.


{ الْعَلِيمُ }

الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن،

والماضي والمستقبل.





البرهــان 87


من سورة الأنعام


{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ

وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

{ 121 }


ويدخل تحت هذا المنهي عنه،

ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام، وآلهتهم،

فإن هذا مما أهل لغير الله به، المحرم بالنص عليه خصوصا.

ويدخل في ذلك، متروك التسمية، مما ذبح لله،

كالضحايا، والهدايا، أو للحم والأكل،

إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية، عند كثير من العلماء.


ويخرج من هذا العموم، الناسي بالنصوص الأخر،

الدالة على رفع الحرج عنه،

ويدخل في هذه الآية، ما مات بغير ذكاة من الميتات،

فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه.


ونص الله عليها بخصوصها، في قوله:

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ولعلها سبب نزول الآية،

لقوله { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم.


فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ، وتحليله للمذكاة،

وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله،

ومجادلة بغير حجة ولا برهان-

أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟

يعنون بذلك: الميتة.

وهذا رأي فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل

بل يستند إلى آرائهم الفاسدة

التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن.




فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه،

الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة.


ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها،

صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين،


الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم،

ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.





{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ }
في شركهم وتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال


{ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله،

ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين،

فلذلك كان طريقكم، طريقهم.


ودلت هذه الآية الكريمة

على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف،

التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم،

لا تدل –بمجردها على أنها حق،

ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.


فإن شهدا لها بالقبول قبلت،

وإن ناقضتهما ردت،


وإن لم يعلم شيء من ذلك،

توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب،


لأن الوحي والإلهام، يكون [من] الرحمن

ويكون من الشيطان،

فلا بد من التمييز بينهما والفرقان،

وبعدم التفريق بين الأمرين،

حصل من الغلط والضلال، ما لا يحصيه إلا الله.




البرهــان 88

من سورة الأنعام


{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ
وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا



قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }


{ 128 }




يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي: جميع الثقلين،

من الإنس والجن، من ضل منهم، ومن أضل غيره،


فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس،

وزينوا لهم الشر، وأزُّوهم إلى المعاصي:




{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ }

أي: من إضلالهم، وصدهم عن سبيل الله،

فكيف أقدمتم على محارمي،

وتجرأتم على معاندة رسلي؟


وقمتم محاربين لله، ساعين في صد عباد الله

عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟


فاليوم حقت عليكم لعنتي،ووجبت لكم نقمتي


وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم، وإضلالكم لغيركم.


وليس لكم عذر به تعتذرون،
ولا ملجأ إليه تلجأون،


ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع،

فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال،

والخزي والوبال،
ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا،


وأما أولياؤهم من الإنس، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا:

{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }

أي: تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفع به.


فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته،

وتعظيمه، واستعاذته به.


والإنسي يستمتع بنيل أغراضه،

وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته،



فإن الإنسي يعبد الجِنّي، فيخدمه الجِنّي،


ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية،

أي: حصل منا من الذنوب ما حصل،

ولا يمكن رد ذلك،




{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا }

أي: وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال،

فافعل بنا الآن ما تشاء، واحكم فينا بما تريد،

فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر،

والأمر أمرك، والحكم حكمك.

وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق،

ولكن في غير أوانه.


ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل، الذي لا جور فيه،

فقال: { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }

ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه،

ختم الآية بقوله:

{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }

فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها،

فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها.





البرهــان 89

من سورة الأنعام



{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا

لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا

وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا

إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ *

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ

فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }

{ 148 ، 149 }


هذا إخبار من الله أن المشركين

سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر،

ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر

حجة لهم في دفع اللوم عنهم.


وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه،

كما قال في الآية الأخرى:

{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية.


فأخبر تعالى أن هذة الحجة،


لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل،

ويحتجون بها،

فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم،

فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه.


فلو كانت حجة صحيحة، لدفعت عنهم العقاب،

ولما أحل الله بهم العذاب،

لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه،


فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه:

منها:


ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة،

لم تحل بهم العقوبة.


ومنها:

أن الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان،


فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص،

الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة،


ولهذا قال:

{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا }

فلو كان لهم علم - وهم خصوم ألداء- لأخرجوه،

فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم.


{ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }

ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن،

فهو مبطل خاسر،


فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟


ومنها:

أن الحجة لله البالغة، التي لم تبق لأحد عذرا،

التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون،

والكتب الإلهية، والآثار النبوية،

والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة،

فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل،

لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.


ومنها:

أن الله تعالى أعطى كل مخلوق، قدرة، وإرادة،

يتمكن بها من فعل ما كلف به،

فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله،
ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه،

فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر،

ظلم محض وعناد صرف.


ومنها:


أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم،

بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم،


فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا.


وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر،وأنكر المحسوسات،


فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية،



وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله،


ومندرجا تحت إرادته.


ومنها:

أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك.


فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك،


بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك،


واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج،


ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.



فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه.

ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟"


ومنها:


أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا،

ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق،

ويرون أن الحق بمنزلة الصائل،


فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام

وإن كانوا يعتقدونه خطأ


البرهــان 90


من سورة الأنعام



{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .....}

{ 151 }


يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْ } لهؤلاء الذين حرموا ما أحل الله.

{ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } تحريما عاما شاملا لكل أحد،

محتويا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال.


{ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }

أي: لا قليلاً ولا كثيراً.


وحقيقة الشرك بالله:

أن يعبد المخلوق كما يعبد الله،
أو يعظم كما يعظم الله،
أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية،

وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحداً،
مخلصاً لله في جميع أحواله،

فهذا حق الله على عباده،

أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.



البرهــان 91

من سورة الأنعام

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ

أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ

أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا

قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }

{ 158 }

يقول تعالى: هل ينظر هؤلاء الذين استمر ظلمهم وعنادهم،

{ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ } مقدمات العذاب، ومقدمات الآخرة بأن تأتيهم

{ الْمَلَائِكَةِ } لقبض أرواحهم، فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال،

لم ينفعهم الإيمان ولا صالح الأعمال.

{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } لفصل القضاء بين العباد،

ومجازاة المحسنين والمسيئين.

{ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الدالة على قرب الساعة.

{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الخارقة للعادة، التي يعلم بها أن الساعة قد دنت،

وأن القيامة قد اقتربت.

{ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ

أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا }

أي: إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع الكافر إيمانه أن آمن،

ولا المؤمنَ المقصر أن يزداد خيرُه بعد ذلك،

بل ينفعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك،

وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتي بعض الآيات.

والحكمة في هذا ظاهرة،

فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب،

وكان اختيارا من العبد،

فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة،

ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه الإيمان الضروري،

كإيمان الغريق والحريق ونحوهما،

ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه

كما قال تعالى:

{ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }



وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم

أن المراد ببعض آيات الله، طلوع الشمس من مغربها،

وأن الناس إذا رأوها، آمنوا، فلم ينفعهم إيمانهم،

ويُغلق حينئذ بابُ التوبة.

ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم، منتظرا،

وهم ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه

قوارع الدهر ومصائب الأمور،

قال:

{ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ }

فستعلمون أينا أحق بالأمن.

وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة

في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى،

كالاستواء والنـزول، والإتيان لله تبارك وتعالى،

من غير تشبيه له بصفات المخلوقين.

وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير،

وفيه أن من جملة أشراط الساعة طلوع الشمس من مغربها.

وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته،

أن الإيمان إنما ينفع إذا كان اختياريا لا اضطراريا، كما تقدم.

وأن الإنسان يكتسب الخير بإيمانه.

فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو

إذا كان مع العبد الإيمان.

فإذا خلا القلب من الإيمان

لم ينفعه شيء من ذلك.


البرهان 92


من سورة الأنعام


{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي

لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ

وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا

وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ

وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

{ 161 - 164 }


يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم،

أن يقول ويعلن بما هو عليه

من الهداية إلى الصراط المستقيم:

الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة، والأعمال الصالحة،

والأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح،

الذي عليه الأنبياء والمرسلون،


خصوصا إمام الحنفاء،

ووالد من بعث من بعد موته من الأنبياء،

خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام،



وهو الدين الحنيف المائل عن كل دين غير مستقيم،

من أديان أهل الانحراف، كاليهود والنصارى والمشركين.


وهذا عموم،

ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال:


{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } أي: ذبحي،

وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما،

ودلالتهما على محبة الله تعالى،

وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح

وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال،

لما هو أحب إليها وهو الله تعالى.


ومن أخلص في صلاته ونسكه،

استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله.


وقوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي:

ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليَّ،

وما يقدر عليَّ في مماتي،


الجميع { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ } في العبادة،

كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير،

وليس هذا الإخلاص لله ابتداعا مني،

وبدعا أتيته من تلقاء نفسي،


بل { بِذَلِكَ أُمِرْتُ } أمرا حتما، لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله

{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } من هذه الأمة.




{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ } من المخلوقين

{ أَبْغِي رَبًّا } أي: يحسن ذلك ويليق بي،

أن أتخذ غيره، مربيا ومدبرا والله رب كل شيء،

فالخلق كلهم داخلون تحت ربوبيته، منقادون لأمره؟".

فتعين علي وعلى غيري،

أن يتخذ الله ربا، ويرضى به،

وألا يتعلق بأحد من المربوبين الفقراء العاجزين.


ثم رغب ورهب بذكر الجزاء فقال:

{ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشر

{ إِلَّا عَلَيْهَا }


كما قال تعالى:

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }



{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } بل كل عليه وزر نفسه،

وإن كان أحد قد تسبب في ضلال غيره ووزره،

فإن عليه وزر التسبب

من غير أن ينقص من وزر المباشر شيء.


{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة

{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من خير وشر،

ويجازيكم على ذلك، أوفى الجزاء.




















 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 06:08 AM   #13


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 93



من سورة الأعراف



{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ

وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}
{ 3 }

خاطب اللّه العباد، وألفتهم إلى الكتاب فقال:

{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }

أي: الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم،


وهو: { مِنْ رَبِّكُمْ }

الذي يريد أن يتم تربيته لكم، فأنزل عليكم هذا الكتاب

الذي إن اتبعتموه، كملت تربيتكم، وتمت عليكم النعمة،

وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها



{ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ }

أي: تتولونهم، وتتبعون أهواءهم،

وتتركون لأجلها الحق.


{ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }

فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة،

لما آثرتم الضار على النافع، والعدو على الوليِّ.

البرهان 94




من سورة الأعراف




{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا

وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ

أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ

إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }

{ 28 -30 }



يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب،

وينسبون أن الله أمرهم بها.


{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً }

وهي: كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة

{ قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وصدقوا في هذا.

{ وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } وكذبوا في هذا،

ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال:

{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ }

أي: لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش

لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره

{ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وأي: افتراء أعظم من هذا"



ثم ذكر ما يأمر به، فقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ }

أي: بالعدل في العبادات والمعاملات، لا بالظلم والجور.

{ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }

أي: توجهوا للّه، واجتهدوا في تكميل العبادات،

خصوصا { الصلاة } أقيموها، ظاهرا وباطنا،

ونقوها من كل نقص ومفسد.


{ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }

أي: قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له.

والدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة،

أي: لا تراءوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم

سوى عبودية اللّه ورضاه.


{ كَمَا بَدَأَكُمْ } أول مرة { تَعُودُونَ } للبعث،

فالقادر على بدء خلقكم، قادر على إعادته،

بل الإعادة، أهون من البداءة.


{ فَرِيقًا } منكم { هَدَى } اللّه،

أي: وفقهم للهداية، ويسر لهم أسبابها، وصرف عنهم موانعها.


{ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي: وجبت عليهم الضلالة

بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية.


فـ { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ

فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً }


فحين انسلخوا من ولاية الرحمن،

واستحبوا ولاية الشيطان،

حصل لهم النصيب الوافر من الخذلان،

ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران.


{ وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }

لأنهم انقلبت عليهم الحقائق، فظنوا الباطل حقا والحق باطلا،



وفي هذه الآيات

دليل على أن الأوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة،

حيث ذكر تعالى أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول،

وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص،


وفيه دليل

على أن الهداية بفضل اللّه ومَنِّه،

وأن الضلالة بخذلانه للعبد،

إذا تولى - بجهله وظلمه - الشيطانَ، وتسبب لنفسه بالضلال،

وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضالٌّ، أنه لا عذر له،

لأنه متمكن من الهدى،

وإنما أتاه حسبانه من ظلمه

بترك الطريق الموصل إلى الهدى.




البرهان 95



من سورة الأعراف




{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا

وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

{ 33 }



ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال:

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ }

أي: الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها،

وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.


وقوله: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }

أي: الفواحش التي تتعلق بحركات البدن،

والتي تتعلق بحركات القلوب،

كالكبر والعجب والرياء والنفاق، ونحو ذلك،


{ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }

أي: الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه،

والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم،

فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه،

والمتعلقةُ بحق العباد.


{ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا }

أي: حجة،

بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد.

والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق،

وربما دخل في هذا الشرك الأصغر

كالرياء والحلف بغير اللّه، ونحو ذلك.


{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }

في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه،

فكل هذه قد حرمها اللّه، ونهى العباد عن تعاطيها،

لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة،

ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه،

والاستطالة على عباد اللّه، وتغيير دين اللّه وشرعه.




البرهان 96


من سورة الأعراف


{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ

أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ

حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ

قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }

{ 37 }


أي: لا أحد أظلم { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ْ}

بنسبة الشريك له، أو النقص له، أو التقول عليه ما لم يقل،


{ أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ْ} الواضحة المبينة للحق المبين،

الهادية إلى الصراط المستقيم،

فهؤلاء وإن تمتعوا بالدنيا،

ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ،

فليس ذلك بمغن عنهم شيئا،

يتمتعون قليلا، ثم يعذبون طويلا،


{ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ْ}

أي: الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم.


{ قَالُوا ْ} لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا

{ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ}
من الأصنام والأوثان،

فقد جاء وقت الحاجة

إن كان فيها منفعة لكم أو دفع مضرة.


{ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا ْ} أي: اضمحلوا وبطلوا،

وليسوا مغنين عنا من عذاب اللّه من شيء.


{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ْ}

مستحقين للعذاب المهين الدائم.


البرهان 97



من سورة الأعراف




{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا

لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ

حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ

وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

{ 40 - 41 ْ}


يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها،

مع أنها آيات بينات، واستكبر عنها فلم يَنْقَد لأحكامها، بل كذب وتولى،

أنهم آيسون من كل خير،

فلا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا

وصعدت تريد العروج إلى اللّه، فتستأذن فلا يؤذن لها،

كما لم تصعد في الدنيا إلى الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته

كذلك لا تصعد بعد الموت،

فإن الجزاء من جنس العمل.



ومفهوم الآية أن أرواح المؤمنين المنقادين لأمر اللّه المصدقين بآياته،

تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى اللّه،

وتصل إلى حيث أراد اللّه من العالم العلوي،

وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه.


وقوله عن أهل النار

{ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ ْ} وهو البعير المعروف

{ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ْ}

أي: حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر الحيوانات جسما،

في خرق الإبرة، الذي هو من أضيق الأشياء،


وهذا من باب تعليق الشيء بالمحال،

أي: فكما أنه محال دخول الجمل في سم الخياط،

فكذلك المكذبون بآيات اللّه محال دخولهم الجنة،


قال تعالى:

{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ

فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ْ}


وقال هنا { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ْ}

أي: الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.


{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ْ} أي: فراش من تحتهم

{ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ْ} أي: ظلل من العذاب، تغشاهم.


{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ْ} لأنفسهم،

جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد.

البرهان 98


من سورة الأعراف




{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ

أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ

تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }

{ 54 }



يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له:

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }

وما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما،

وإتقانهما، وبديع خلقهما.


{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة،

فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع


{ اسْتَوَى } تبارك وتعالى

{ عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي يسع السماوات والأرض

وما فيهما وما بينهما،

استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه،

فاستوى على العرش، واحتوى على الملك، ودبر الممالك،

وأجرى عليهم أحكامه الكونية، وأحكامه الدينية،


ولهذا قال: { يُغْشِي اللَّيْلَ } المظلم { النَّهَارَ } المضيء،

فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون،

وتأوى المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من التعب،

والذهاب والإياب الذي حصل لهم في النهار.


{ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا }

كلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل،

وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي اللّه هذا العالم،

وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار.


{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ }

أي: بتسخيره وتدبيره، الدال على ما له من أوصاف الكمال،

فخلْقُها وعظَمُها دالٌّ على كمال قدرته،

وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان دال على كمال حكمته،

وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها

دال على سعة رحمته وذلك دال على سعة علمه،

وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له.



{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ }

أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها،

أعيانها وأوصافها وأفعالها

والأمر المتضمن للشرائع والنبوات،


فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية،

والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية،

وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء،


{ تَبَارَكَ اللَّهُ } أي: عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه،

فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها،

وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير،

فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته،


ولهذا قال: { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }



البرهان 99


من سورة الأعراف





ولما ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوي الألباب

على أنه وحده، المعبود المقصود في الحوائج كلها

أمر بما يترتب على ذلك، فقال:


{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا

وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً

إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }

{ 55 - 56}



الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة،

فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة،

{ وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء،

بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.


{ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور،


ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له،

أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء،

فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.


{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } بعمل المعاصي

{ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } بالطاعات،

فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق،


كما قال تعالى:

{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ }


كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق،

وأحوال الدنيا والآخرة.



{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا }

أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه،

طمعا في قبولها، وخوفا من ردها،

لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه،

ونزل نفسه فوق منزلته،

أو دعاء من هو غافل لاَهٍ.



وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء:


الإخلاص فيه للّه وحده،

لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره،

وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا،

ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة،


وهذا من إحسان الدعاء،

فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها،

وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه،



ولهذا قال: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }


في عبادة اللّه،

المحسنين إلى عباد اللّه،

فكلما كان العبد أكثر إحسانا،

كان أقرب إلى رحمة ربه،

وكان ربه قريبا منه برحمته،

وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى.












 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 06:14 AM   #14


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 100



من سورة الأعراف





{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ

فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ

إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.

{ 59 }



لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة،

أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده

مع أممهم المنكرين لذلك،

وكيف أيد اللّه أهل التوحيد،

وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم،

وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد،



فقال عن نوح - أول المرسلين -:

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }

يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان


{ فَقَالَ } لهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } أي: وحده



{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }

لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور،

وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء،




ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال:

{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم،

حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي،

كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق

أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم،



فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.


{ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } أي: الرؤساء الأغنياء المتبوعون

الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل،


{ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له،

بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح،

ونسبوه إلى الضلال،

ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.


وهذا من أعظم أنواع المكابرة،

التي لا تروج على أضعف الناس عقلا،


وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح،



الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم،

من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر،

ولا تغني عنهم شيئا،

فنـزلوها منـزلة فاطر السماوات،

وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات،

فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم

لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم،

بل هم أهدى منهم وأعقل،





البرهان 101



من سورة الأعراف



{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }

{ 65 }


وقوله تعالى :

{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ

وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا

فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *

قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ

أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }

{ 70 ، 71 }


أي: { و } أرسلنا { إِلَى عَادٍ } الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن

{ أَخَاهُمْ } في النسب

{ هُودًا } عليه السلام،

يدعوهم إلى التوحيد

وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض.

فـ { قَالَ } لهم:

{ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ }

سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه،

فلم يستجيبوا ولا انقادوا.



{ قَالُوا } متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه:

{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }

قبحهم اللّه،

جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور،

من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم،

فقدموا ما عليه الآباء الضالون

من الشرك وعبادة الأصنام،


على ما دعت إليه الرسل

من توحيد اللّه وحده لا شريك له،


وكذبوا نبيهم، وقالوا:

{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }

وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.



فقَالَ لهم هود عليه السلام:

{ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ }

أي: لا بد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.


{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }

أي: كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها،

وعلى أصنام سميتوها آلهة،

وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة


و{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

فإنها لو كانت صحيحة لأنزل اللّه بها سلطانا،

فعدم إنزاله له دليل على بطلانها،

فإنه ما من مطلوب ومقصود - وخصوصا الأمور الكبار -

إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج، ما يدل عليها،

ومن السلطان، ما لا تخفى معه.


{ فَانْتَظِرُوا } ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به

{ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } وفرق بين الانتظارين،

انتظار من يخشى وقوع العقاب،

ومن يرجو من اللّه النصر والثواب.


البرهان 102



من سورة الأعراف


{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا

لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ *

أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ *
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ

فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ}


{ 96 - 99 ْ}



لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا،

وبالسراء استدراجا ومكرا،

ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال،

واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه،

لفتح عليهم بركات السماء والأرض،

فأرسل السماء عليهم مدرارا،

وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم،

في أخصب عيش وأغزر رزق،

من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب،

ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا


{ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ْ}

بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات،

وهي بعض جزاء أعمالهم،

وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة.


{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ْ}


{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ْ} أي: المكذبة، بقرينة السياق

{ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ْ} أي: عذابنا الشديد

{ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ْ} أي: في غفلتهم، وغرتهم وراحتهم.


{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ْ}

أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه،

وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!



{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ْ} حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون،

ويملي لهم، إن كيده متين،


{ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ}

فإن من أمن من عذاب اللّه، فهو لم يصدق بالجزاء على الأعمال،

ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.



وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ،

على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان.


بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان،

وأن لا يزال داعيا بقوله:

{ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ْ}

وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن،

فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت -

فليس على يقين من السلامة.



البرهان 103



من سورة الأعراف



{ وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ

أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ
وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً

ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ }
[ 148 ]

{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا }


صاغه السامري وألقى عليه قبضة من أثر الرسول فصار

{ لَهُ خُوَارٌ } وصوت، فعبدوه واتخذوه إلها.


وقال { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي } موسى، وذهب يطلبه،


وهذا من سفههم، وقلة بصيرتهم،

كيف اشتبه عليهم رب الأرض والسماوات،

بعجل من أنقص المخلوقات؟"


ولهذا قال مبينا أنه ليس فيه من الصفات الذاتية ولا الفعلية،

ما يوجب أن يكون إلها

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ } أي: وعدم الكلام نقص عظيم،

فهم أكمل حالة من هذا الحيوان أو الجماد، الذي لا يتكلم


{ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } أي: لا يدلهم طريقا دينيا،

ولا يحصل لهم مصلحة دنيوية،


لأن من المتقرر في العقول والفطر،

أن اتخاذ إله لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر

من أبطل الباطل، وأسمج السفه،


ولهذا قال: { اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ }

حيث وضعوا العبادة في غير موضعها،

وأشركوا باللّه ما لم ينـزل به سلطانا،



وفيها دليل على أن من أنكر كلام اللّه،

فقد أنكر خصائص إلهية اللّه تعالى،

لأن اللّه ذكر أن عدم الكلام دليل

على عدم صلاحية الذي لا يتكلم للإلهية.

البرهان 104


من سورة الأعراف




{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ

سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ

وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ }


[ 152]



قال اللّه تعالى مبينا حال أهل العجل الذين عبدوه:

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } أي: إلهاً

{سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

كما أغضبوا ربهم واستهانوا بأمره.


{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ }

فكل مفتر على اللّه، كاذب على شرعه، متقول عليه ما لم يقل،

فإن له نصيبا من الغضب من اللّه، والذل في الحياة الدنيا،


وقد نالهم غضب اللّه، حيث أمرهم أن يقتلوا أنفسهم،

وأنه لا يرضى اللّه عنهم إلا بذلك،

فقتل بعضهم بعضا، وانجلت المعركة عن كثير من القتلى

ثم تاب اللّه عليهم بعد ذلك.


البرهان 105



من سورة الأعراف


{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ

قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا

أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *

أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ

وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ

أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ *

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.

{172 -174 }



يقول تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }

أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم،

وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن.


{ و } حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم

{ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }

أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار،

بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم.


قالوا: بلى قد أقررنا بذلك،

فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم.

فكل أحد فهو مفطور على ذلك،

ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة،


ولهذا { قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }

أي: إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم،

من أن اللّه تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة،

فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة اللّه ما قامت عليكم،

ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون.


فاليوم قد انقطعت حجتكم،

وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.


أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون:

{ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ }

فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم.


{ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }

فقد أودع اللّه في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل،

وأن الحق ما جاءت به الرسل،

وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه.



نعم قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين،

ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق،

وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج اللّه وبيناته،

وآياته الأفقية والنفسية،

فإعراضه عن ذلك، وإقباله على ما قاله المبطلون،

ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق،

هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات.



وقد قيل: إن هذا يوم أخذ اللّه الميثاق على ذرية آدم،

حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم،

فشهدوا بذلك، فاحتج عليهم بما أقروا به في ذلك الوقت

على ظلمهم في كفرهم، وعنادهم في الدنيا والآخرة،

ولكن ليس في الآية ما يدل على هذا، ولا له مناسبة،

ولا تقتضيه حكمة اللّه تعالى، والواقع شاهد بذلك.


فإن هذا العهد والميثاق الذي ذكروا

أنه حين أخرج اللّه ذرية آدم من ظهره، حين كانوا في عالم كالذر،

لا يذكره أحد، ولا يخطر ببال آدمي،

فكيف يحتج اللّه عليهم بأمر ليس عندهم به خبر،

ولا له عين ولا أثر؟"


ولهذا لما كان هذا أمرا واضحا جليا، قال تعالى:

{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي: نبينها ونوضحها،

{ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى ما أودع اللّه في فطرهم،

وإلى ما عاهدوا اللّه عليه، فيرتدعون عن القبائح.




البرهان 106




من سورة الأعراف


{ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ

سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.

{180 }


هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه،

بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن،

وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة،

وبذلك كانت حسنى،

فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علما محضا لم تكن حسنى،

وكذلك لو دلت على صفة ليست بصفة كمال،

بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح،

لم تكن حسنى،


فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها،

مستغرق لجميع معناها.


وذلك نحو (العليم ) الدال على أن له علما محيطا عاما لجميع الأشياء،

فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

و ( كالرحيم ) الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء.

و ( كالقدير ) الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.


ومن تمام كونها "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها،

ولذلك قال: { فَادْعُوهُ بِهَا }

وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة،

فيدعى في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب،

فيقول الداعي مثلا اللّهم اغفر لي وارحمني،

إنك أنت الغفور الرحيم،

وتب عَلَيَّ يا تواب،

وارزقني يا رزاق،

والطف بي يا لطيف ونحو ذلك.


وقوله: { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

أي: عقوبة وعذابا على إلحادهم في أسمائه،

وحقيقة الإلحاد الميل بها عما جعلت له،

إما بأن يسمى بها من لا يستحقها،

كتسمية المشركين بها لآلهتهم،


وإما بنفي معانيها وتحريفها،

وأن يجعل لها معنى ما أراده اللّه ولا رسوله،

وإما أن يشبه بها غيرها،


فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر الملحدون فيها،

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم

( أن للّه تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة )


البرهان 107


من سورة الأعراف




{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ

وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ

إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

{ 188 }



{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا }

فإني فقير مدبر، لا يأتيني خير إلا من اللّه،

ولا يدفع عني الشر إلا هو،

وليس لي من العلم إلا ما علمني اللّه تعالى.



{ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ

لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ }


أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع،

ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه،

لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه.



ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء،

وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها،

فهذا أدل دليل على

أني لا علم لي بالغيب.



{ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ } أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والأخروية،

وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.



{ وَبَشِيرٌ } بالثواب العاجل والآجل،

ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها،

ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة،

وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون،




وهذه الآيات الكريمات،

مبينة جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم

ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر.


فإنه ليس بيده شيء من الأمر،

ولا ينفع من لم ينفعه اللّه،

ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه اللّه عنه،

ولا له من العلم إلا ما علمه اللّه تعالى،



وإنما ينفع من قَبِل ما أرسل به من البشارة والنذارة،

وعمل بذلك،


فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم،

الذي فاق نفع الآباء والأمهات،

والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير،

وحذرهم عن كل شر،

وبينه لهم غاية البيان والإيضاح.

البرهان 108



من سورة الأعراف


{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا

فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا

فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *

أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ *

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ

سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }.





{ 189-193 }



أي: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ }

أيها الرجال والنساء، المنتشرون في الأرض على كثرتكم وتفرقكم.

{ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم.

{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }

أي: خلق من آدم زوجته حواء لأجل أن يسكن إليها

لأنها إذا كانت منه حصل بينهما من المناسبة والموافقة

ما يقتضي سكون أحدهما إلى الآخر،

فانقاد كل منهما إلى صاحبه بزمام الشهوة.


{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي: تجللها مجامعا لها

قدَّر الباري أن يوجد من تلك الشهوة وذلك الجماع النسل،

[وحينئذ] حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا،

وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها.


{ فَلَمَّا } استمرت به و { أَثْقَلَتْ } به حين كبر في بطنها،

فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد،

وعلى خروجه حيا صحيحا، سالما لا آفة فيه [كذلك]


فدعوا { اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا } ولدا

{ صَالِحًا } أي: صالح الخلقة تامها، لا نقص فيه

{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }.


{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه


{ جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }

أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به،

وأقرَّ به أعين والديه،

فَعَبَّدَاه لغير اللّه.

إما أن يسمياه بعبد غير اللّه كـ "عبد الحارث" و "عبد الكعبة" ونحو ذلك،

أو يشركا باللّه في العبادة،


بعدما منَّ اللّه عليهما بما منَّ من النعم التي لا يحصيها أحد من العباد.


وهذا انتقال من النوع إلى الجنس،

فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الجنس،

ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا،

فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك،


وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم،

سواء كان الشرك في الأقوال، أم في الأفعال،


فإن الخالق لهم من نفس واحدة،

الذي خلق منها زوجها وجعل لهم من أنفسهم أزواجا،

ثم جعل بينهم من المودة والرحمة ما يسكن بعضهم إلى بعض،

ويألفه ويلتذ به، ثم هداهم إلى ما به تحصل الشهوة واللذة والأولاد والنسل.


ثم أوجد الذرية في بطون الأمهات، وقتا موقوتا،

تتشوف إليه نفوسهم، ويدعون اللّه أن يخرجه سويا صحيحا،

فأتم اللّه عليهم النعمة وأنالهم مطلوبهم.


أفلا يستحق أن يعبدوه،

ولا يشركوا به في عبادته أحدا،

ويخلصوا له الدين.


ولكن الأمر جاء على العكس،

فأشركوا باللّه من لا

{ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }.

{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي: لعابديها

{ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }.


فإذا كانت لا تخلق شيئا،

ولا مثقال ذرة،

بل هي مخلوقة،

ولا تستطيع أن تدفع المكروه عن من يعبدها،

بل ولا عن أنفسها،

فكيف تتخذ مع اللّه آلهة؟

إن هذا إلا أظلم الظلم، وأسفه السفه.


وإن تدعوا أيها المشركون هذه الأصنام، التي عبدتم من دون اللّه

{ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ

سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }.


فصار الإنسان أحسن حالة منها،


لأنها لا تسمع،

ولا تبصر،

ولا تهدِي ولا تُهدى،


وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا،

جزم ببطلان إلهيتها، وسفاهة من عبدها.




البرهان 109


من سورة الأعراف


{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا

أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا

قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ *

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ

الَّذِي نـزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ }.

{194 - 196 }



وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان،

يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }

أي:

لا فرق بينكم وبينهم،

فكلكم عبيد للّه مملوكون،


فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا



{ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ }

فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم،

وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى،

مفترون على اللّه أعظم الفرية،

وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه،

فإنكم إذا نظرتم إليها

وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء،

فليس لها أرجل تمشي بها،

ولا أيد تبطش بها،

ولا أعين تبصر بها،

ولا آذان تسمع بها،


فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان.


فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها،

وهي عباد أمثالكم،

بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء،

فلأي شيء عبدتموها.



{ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ }

أي: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي،

من غير إمهال ولا إنظار

فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي.



{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ }

الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار.



{ الَّذِي نـزلَ الْكِتَابَ } الذي فيه الهدى والشفاء والنور،

وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.



{ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ }

الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم،



كما قال تعالى:

{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }



فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى،

ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر -

تولاهم اللّه ولطف بهم وأعانهم

على ما فيه الخير والمصلحة لهم، في دينهم ودنياهم،

ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه،



كما قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا }.




















 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 06:19 AM   #15


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 110


من سورة الأعراف




{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ

وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ *

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا

وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ }

{198,197 }


وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام

التي يعبدونها من دون اللّه لشيء من العبادة،

لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم،

ولا في نصر عابديها، وليس لها قوة العقل والاستجابة.


فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد،

وهي صور لا حياة فيها،

فتراهم ينظرون إليك،

وهم لا يبصرون حقيقة،

لأنهم صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم،

وجعلوا لها أبصارا وأعضاء،

فإذا رأيتها قلت: هذه حية،

فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها، ولا حياة،

فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع اللّه؟

ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها

وتقربوا لها بأنواع العبادات؟


فإذا عرف هذا، عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها،

لو اجتمعوا، وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر الأرض والسماوات،

متولي أحوال عباده الصالحين،

لم يقدروا على كيده بمثقال ذرة من الشر،

لكمال عجزهم وعجزها،

وكمال قوة اللّه واقتداره،

وقوة من احتمى بجلاله وتوكل عليه.


وقيل: إن معنى قوله { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ }

أن الضمير يعود إلى المشركين

المكذبين لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم،

فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول اللّه نظر اعتبار

يتبين به الصادق من الكاذب،

ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه المتوسمون فيك

من الجمال والكمال والصدق.






البرهان 111



من سورة الأعراف


{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ

وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ *

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }.

{ 205 - 206 }



الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان،

ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله،

فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا وغيره تبعا،

بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا.


{ تَضَرُّعًا } أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر،

{ وَخِيفَةً } في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه، وَجِلَ القلب منه،

خوفا أن يكون عملك غير مقبول،

وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به.


{ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } أي: كن متوسطا،

لا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا.


{ بِالْغُدُوِّ } أول النهار { وَالآصَالِ } آخره،

وهذان الوقتان لذكر الله فيهما مزية وفضيلة على غيرهما.


{ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }

الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم،

فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة،

وأعرضوا عمن كل السعادة والفوز
في ذكره وعبوديته،

وأقبلوا على من كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به،



وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها،

وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار،

خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا،

وتواطئا عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر،

وإحضار له بقلبه وعدم غفلة،

فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.


ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته،

ملازمين لخدمته وهم الملائكة،

فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة،

ولا ليتعزز بها من ذلة،

وإنما يريد نفع أنفسكم،

وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم،


فقال: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }


{ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين.


{ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم

{ وَيُسَبِّحُونَهُ } الليل والنهار لا يفترون.


{ وَلَهُ } وحده لا شريك له

{ يَسْجُدُونَ }

فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام،

وليداوموا [على] عبادة الملك العلام.




البرهان 112


من سورة الأنفال





{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ

أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ *

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ

وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ

وَيُنـزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ

وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ *

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ

أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ *

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *

ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }.

{ 9 - 14 }


أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم،

استغثتم بربكم، وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم


{ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } وأغاثكم بعدة أمور:.


منها: أن اللّه أمدكم { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }

أي: يردف بعضهم بعضا.


{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ } أي: إنـزال الملائكة

{ إِلا بُشْرَى } أي: لتستبشر بذلك نفوسكم،

{ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } وإلا فالنصر بيد اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ..

{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب، بل هو القهار،

الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا.

{ حَكِيمٌ } حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.


ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنـزل عليكم نعاسا

{ يُغَشِّيكُمُ } [أي] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل،

ويكون { أَمَنَةً } لكم وعلامة على النصر والطمأنينة.


ومن ذلك: أنه أنـزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث،

وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه.


{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن،

{ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } فإن الأرض كانت سهلة دهسة

فلما نـزل عليها المطر تلبدت، وثبتت به الأقدام.


ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة

{ أَنِّي مَعَكُمْ } بالعون والنصر والتأييد،

{ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } أي: ألقوا في قلوبهم، وألهموهم الجراءة على عدوهم،

ورغبوهم في الجهاد وفضله.


{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ }

الذي هو أعظم جند لكم عليهم،

فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين،

لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومنحهم اللّه أكتافهم.


{ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي: على الرقاب

{ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: مفصل.


وهذا خطاب، إما للملائكة الذين أوحى الله إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا

فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر،


أو للمؤمنين يشجعهم اللّه، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين،

وأنهم لا يرحمونهم،وذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله

أي: حاربوهما وبارزوهما بالعداوة.


{ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم.


{ ذَلِكُمْ } العذاب المذكور

{ فَذُوقُوهُ } أيها المشاققون للّه ورسوله عذابا معجلا.

{ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }



وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة

ما يدل على أن ما جاء به

محمد صلى الله عليه وسلم رسول اللّه حقا.


منها: أن اللّه وعدهم وعدا، فأنجزهموه.


ومنها: ما قال اللّه تعالى:

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }الآية.


ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين لما استغاثوه بما ذكره من الأسباب،


وفيها الاعتناء العظيم بحال عباده المؤمنين،

وتقييض الأسباب التي بها ثبت إيمانهم، وثبتت أقدامهم،

وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.


ومنها: أن من لطف اللّه بعبده أن يسهل عليه طاعته،

وييسرها بأسباب داخلية وخارجية.



البرهان 113


من سورة الأنفال



{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ

وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ


وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى

وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *

ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ *

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ

وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }.



{ 17 - 19 }




يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر، وقتلهم المسلمون -

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } بحولكم وقوتكم

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره.


{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }

وذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم وقت القتال

دخل العريش وجعل يدعو اللّه، ويناشده في نصرته،

ثم خرج منه، فأخذ حفنة من تراب، فرماها في وجوه المشركين،

فأوصلها اللّه إلى وجوههم،

فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها،

فحينئذ انكسر حدهم، وفتر زندهم،

وبان فيهم الفشل والضعف، فانهزموا.



يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم،

وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا.



{ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا }

أي: إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين،

من دون مباشرة قتال،ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين،

ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات،

ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا.



{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن،

ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها،

فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده،

ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.



{ ذَلِكُمْ } النصر من اللّه لكم

{ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } أي: مضعف كل مكر وكيد

يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم.




{ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أيها المشركون،

أي: تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين.



{ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } حين أوقع اللّه بكم من عقابه،

ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين


{ وَإِنْ تَنْتَهُوا } عن الاستفتاح

{ فَهُوَ خَيْرٌ } لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة.

{ وإن تعودوا } إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين

{ نَعُدْ } في نصرهم عليكم.



{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ }

أي: أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم،

شَيئا وأن الله مع الْمؤمنين.




ومن كان اللّه معه فهو المنصور

وإن كان ضعيفا قليلا عدده،

وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين،

تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.

فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات،

فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين

وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه،

وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه،

لما انهزم لهم راية [انهزاما مستقرا]

ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.





البرهان 114




من سورة الأنفال





{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ

إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ

وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.


{ 24 }



يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم

وهو الاستجابة للّه وللرسول،

أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه،

والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه.


وقوله: { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ }

وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته،


فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته

وطاعة رسوله على الدوام.


ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال:

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }

فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم،

فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم،

فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه،

يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء.


فليكثر العبد من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك،

يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك.



{ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه،

فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه.





البرهان 115





من سورة الأنفال



{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ

وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ *

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ

نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }.

{ 38 - 40 }



هذا من لطفه تعالى بعباده

لا يمنعه كفر العباد ولا استمرارهم في العناد،

من أن يدعوهم إلى طريق الرشاد والهدى،

وينهاهم عما يهلكهم من أسباب الغي والردى،


فقال: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا }

عن كفرهم وذلك بالإسلام للّه وحده لا شريك له.

{ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } منهم من الجرائم

{ وَإِنْ يَعُودُوا } إلى كفرهم وعنادهم

{ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } بإهلاك الأمم المكذبة،

فلينتظروا ما حل بالمعاندين،

فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون،فهذا خطابه للمكذبين ،


وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين،

فقال: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ }

أي: شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام،


{ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }

فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين،

أن يدفع شرهم عن الدين،

وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له،

حتى يكون هو العالي على سائر الأديان.


{ فَإِنِ انْتَهَوْا } عن ما هم عليه من الظلم

{ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا تخفى عليه منهم خافية.



{ وَإِنْ تَوَلَّوْا } عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة


{ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى }

الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم،

وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية.

{ وَنِعْمَ النَّصِيرُ } الذي ينصرهم،

فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار.



ومن كان اللّه مولاه وناصره فلا خوف عليه،

ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له.

البرهان 116





من سورة التوبة




{ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ

أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ

فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ

وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}



{ 3 ْ}



هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه وإعلاء كلمته،

وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة،

من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم،

مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.


نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين،

وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.


فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر،

وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة العرب،

أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين،

فليس لهم عنده عهد وميثاق،

فأينما وجدوا قتلوا،


وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا،

وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.


وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه،

وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.



ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة،

ورهبهم من الاستمرار على الشرك



فقال: { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ْ}


أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته،

قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين.



{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ْ}

أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء،

وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.


البرهان 117



من سورة التوبة



{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ

شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ

أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ *

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ

وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ

فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ}


{ 17 - 18 ْ}



يقول تعالى: { مَا كَانَ ْ} أي: ما ينبغي ولا يليق

{ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ْ}

بالعبادة، والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات،

والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر

بشهادة حالهم وفطرهم،

وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.


فإذا كانوا { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ْ} وعدم الإيمان،

الذي هو شرط لقبول الأعمال،

فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد اللّه،

والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟".



ولهذا قال: { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ْ} أي: بطلت وضلت

{ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ْ}



ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال:

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ } الواجبة والمستحبة،

بالقيام بالظاهر منها والباطن.


{ وَآتَى الزَّكَاةَ ْ} لأهلها


{ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ْ} أي قصر خشيته على ربه،

فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة.


فوصفهم بالإيمان النافع،

وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة،

وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير،

فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها، الذين هم أهلها.


{ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ}

و { عسى ْ} من اللّه واجبة.


وأما من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه،

فهذا ليس من عمار مساجد اللّه،

ولا من أهلها الذين هم أهلها،

وإن زعم ذلك وادعاه.





البرهان 118



من سورة التوبة



{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ

إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا

وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا

أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ

فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }


{ 23 - 24 }




يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى الإيمان،

بأن توالوا من قام به، وتعادوا من لم يقم به.


و { لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ } الذين هم أقرب الناس إليكم،

وغيرهم من باب أولى وأحرى،

فلا تتخذوهم { أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا }

أي: اختاروا على وجه الرضا والمحبة { الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ }



{ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

لأنهم تجرؤوا على معاصي اللّه، واتخذوا أعداء اللّه أولياء،


وأصل الولاية: المحبة والنصرة، وذلك أن اتخاذهم أولياء،

موجب لتقديم طاعتهم على طاعة اللّه،

ومحبتهم على محبة اللّه ورسوله.



ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك،


وهو أن محبة اللّه ورسوله،

يتعين تقديمهما على محبة كل شيء،

وجعل جميع الأشياء تابعة لهما


فقال:

{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات

{ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة

{ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي: قراباتكم عموما

{ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها،

خصها بالذكر، لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشد حرصا عليها

ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ.


{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي: رخصها ونقصها،

وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات،

من الأثمان، والأواني، والأسلحة، والأمتعة، والحبوب،

والحروث، والأنعام، وغير ذلك.


{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم،



فإن كانت هذه الأشياء

{ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ }

فأنتم فسقة ظلمة.


{ فَتَرَبَّصُوا } أي: انتظروا ما يحل بكم من العقاب

{ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له.


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة اللّه،

المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات.



وهذه الآية الكريمة

أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله،

وعلى تقديمها على محبة كل شيء،


وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد،

على من كان شيء من هذه المذكورات

أحب إليه من اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله.


وعلامة ذلك،

أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه اللّه ورسوله،

وليس لنفسه فيها هوى،


والآخر تحبه نفسه وتشتهيه،

ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه،

فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه اللّه،

دل ذلك على أنه ظالم،
تارك لما يجب عليه.



البرهان 119




من سورة التوبة




{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ

فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا

وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ 28 }




يقول تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره

{ نَجَسٌ } أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم،


وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة

لا تنفع ولا تضر،

ولا تغني عنه شيئا؟".


وأعمالهم ما بين محاربة للّه،

وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق،

وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح،

فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم.



{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس أبو بكر الصديق،

وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا،

أن يؤذن يوم الحج الأكبر بـ { براءة }

فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.



وليس المراد هنا، نجاسة البدن، فإن الكافر كغيره طاهر البدن،

بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها،

ولم يأمر بغسل ما أصاب منها.


والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار،

ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها، تَقَذُّرَهْم من النجاسات،

وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية بالشرك،

فكما أن التوحيد والإيمان طهارة،

فالشرك نجاسة.



وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون

{ عَيْلَةً } أي: فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام،

بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية،

{ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }

فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد،

بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة،

فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم،

خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم،

فإن اللّه أكرم الأكرمين.


وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله،

وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك.



وقوله: { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة،

لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان،

ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة.

فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب،

ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب.


{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: علمه واسع،

يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق،

ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها.



وتدل الآية الكريمة،

وهي قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }

أن المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت،

ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين،

مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية.


ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز،

فلا يبقى فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام،

فيدخل في قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }






















 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 01:56 PM   #16


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 120



من سورة التوبة


{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ

ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ

وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ

وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ

وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

{ 30 - 33 }




{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ }

وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم،

فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر

ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه،

وتنقصوا عظمته وجلاله.


وقد قيل: إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه،

أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل،

ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة،

وجدوا عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها،

فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها،

فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.


{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ }

قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه

{ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا.

ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله،

فإنه لا دين ولا عقل يحجزه، عما يريد من الكلام.


ولهذا قال: { يُضَاهِئُونَ } أي: يشابهون في قولهم هذا

{ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ }

أي: قول المشركين الذين يقولون: ( الملائكة بنات اللّه )

تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان.


{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

أي: كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين،

إلى القول الباطل المبين.



وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة، أن تتفق على قول-

يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه،



فإن لذلك سببا وهو أنهم: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم

{ وَرُهْبَانَهُمْ } أي: العُبَّاد المتجردين للعبادة.



{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }

يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه،

ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه،

ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها.


وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم،

ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه،

وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.


{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه،



والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله


فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

فيخلصون له العبادة والطاعة،

ويخصونه بالمحبة والدعاء،

فنبذوا أمر اللّه

وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.


{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ }

أي: تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم،

فإنهم ينتقصونه في ذلك،

ويصفونه بما لا يليق بجلاله،

واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه،

مما ينافي كماله المقدس.



فلما تبين أنه لا حجة لهم على ما قالوه، ولا برهان لما أصَّلوه،

وإنما هو مجرد قول قالوه وافتراء افتروه


أخبر أنهم { يُرِيدُونَ } بهذا { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ }

ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب،

وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة،


فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده،

فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين،

يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم،

التي ليس عليها دليل أصلا.


{ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } لأنه النور الباهر،

الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائه أن يطفئوه،

والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده،

وقد تكفل بحفظه من كل من يريده بسوء،


ولهذا قال: { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }

وسعوا ما أمكنهم في رده وإبطاله،

فإن سعيهم لا يضر الحق شيئا.



ثم بين تعالى هذا النور الذي قد تكفل بإتمامه وحفظه فقال:

{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } الذي هو العلم النافع

{ وَدِينِ الْحَقِّ } الذي هو العمل الصالح

فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم

مشتملا على بيان الحق من الباطل

في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره،

والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان


من إخلاص الدين للّه وحده،

ومحبة اللّه وعبادته،

والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،

والأعمال الصالحة والآداب النافعة،

والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه

من الأخلاق والأعمال السيئة

المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.



فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق

{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، والسيف والسنان،

وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم،

فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه،

فوعد اللّه لا بد أن ينجزه،

وما ضمنه لابد أن يقوم به.

البرهان 121




من سورة التوبة




{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا

لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

{ 37 }



النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم،

وكان من جملة بدعهم الباطلة،

أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم،

رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم،

التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه،

ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا،

فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما،


فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم،

لما فيه من المحاذير.


منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه،

واللّه ورسوله بريئان منه.


ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.


ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده،

ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.


ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها،

يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة،

فحصل من الغلط والضلال ما حصل،


ولهذا قال: { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا

لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ }

أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.


{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ }

أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة،

بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.


{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }

أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم،

فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.


البرهان 122



من سورة التوبة




{ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ

إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا

وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى

وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا

وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ 40 }



أي: إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ،

فاللّه غني عنكم، لا تضرونه شيئا،

فقد نصره في أقل ما يكون وأذله

{ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله، وسعوا في ذلك،

وحرصوا أشد الحرص، فألجؤوه إلى أن يخرج.


{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي: هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.

{ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي: لما هربا من مكة،

لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة،

فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب.


فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة،

حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما،

فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.



{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم

{ لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه،

{ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده.



{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد،

ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }


{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا }

وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم اللّه حرسا له،



{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي: الساقطة المخذولة،

فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين،

في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذه، حنقين عليه،

فعملوا غاية مجهودهم في ذلك،

فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم، بل ولا أدركوا شيئا منه.


ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه،

وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع،



فإن النصر على قسمين:

نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا، وقصدوا،

ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم.


والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر،

فنصر اللّه إياه، أن يرد عنه عدوه، ويدافع عنه،

ولعل هذا النصر أنفع النصرين،

ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.




وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية،

هي العالية على كلمة غيره، التي من جملتها قوله:


{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }

{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }

{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }


فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان،

بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر.


{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب،

{ حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها،

وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية.



وفي هذه الآية الكريمة

فضيلة أبي بكر الصديق

بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة،

وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة، والصحبة الجميلة،

وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة،

ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر

للنبي صلى الله عليه وسلم كافرا،

لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها.



وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد

في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة،

وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه،

وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته.


وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين،

مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه،

فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة.


البرهان 123


من سورة التوبة



{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
هُوَ مَوْلَانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

{51}



{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا }

أي: ما قدره وأجراه في اللوح المحفوظ.

{ هُوَ مَوْلَانَا } أي: متولي أمورنا الدينية والدنيوية،

فعلينا الرضا بأقداره

وليس في أيدينا من الأمر شيء.


{ وَعَلَى اللَّهِ } وحده

{ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم،

ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم،

فلا خاب من توكل عليه،

وأما من توكل على غيره،

فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.[1]


البرهان 124


من سورة التوبة




{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ

قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ *

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ

قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ

إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ

نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ }


{ 64 - 66 }




كانت هذه السورة الكريمة تسمى { الفاضحة }

لأنها بينت أسرار المنافقين، وهتكت أستارهم،

فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم، ويذكر أوصافهم،


إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين:

إحداهما: أن اللّه سِتِّيرٌ يحب الستر على عباده.


والثانية: أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين،

الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلي يوم القيامة،

فكان ذكر الوصف أعم وأنسب، حتى خافوا غاية الخوف.



قال اللّه تعالى:

{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ

لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا *

مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا }



وقال هنا { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ }

أي: تخبرهم وتفضحهم، وتبين أسرارهم،

حتى تكون علانية لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين.


{ قُلِ اسْتَهْزِئُوا } أي: استمروا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية.


{ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ } وقد وفَّى تعالى بوعده،

فأنزل هذه السورة التي بينتهم وفضحتهم، وهتكت أستارهم.



{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم،

يقول طائفة منهم في غزوة تبوك

{ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه-

أرغب بطونا، [وأكذب ألسنا] وأجبن عند اللقاء } ونحو ذلك.


ولما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بكلامهم،

جاءوا يعتذرون إليه ويقولون: { إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ }

أي: نتكلم بكلام لا قصد لنا به، ولا قصدنا الطعن والعيب.



قال اللّه تعالى -مبينا عدم عذرهم وكذبهم في ذلك-:

{ قُلْ } لهم

{ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }


فإن الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين

لأن أصل الدين مبني على تعظيم اللّه، وتعظيم دينه ورسله،

والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل،

ومناقض له أشد المناقضة.



ولهذا لما جاءوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة،

والرسول لا يزيدهم على قوله

{ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }


وقوله { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ } لتوبتهم واستغفارهم وندمهم،

{ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } منكم { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَانُوا مُجْرِمِينَ }

مقيمين على كفرهم ونفاقهم.



وفي هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة،

خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه، ويستهزئ به وبآياته ورسوله،

فإن اللّه تعالى يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة.


وأن من استهزأ بشيء من كتاب اللّه
أو سنة رسوله الثابتة عنه،

أو سخر بذلك، أو تنقصه،

أو استهزأ بالرسول أو تنقصه،

فإنه كافر باللّه العظيم،

وأن التوبة مقبولة من كل ذنب، وإن كان عظيما.


البرهان 125


من سورة التوبة




{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ

وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ

وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

{ 100 ْ}



السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة

وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه.


{ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ }

{ الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم

يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا،

وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }



و من { الْأَنْصَارِ }

{ الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم

يحبون من هاجر إليهم،

ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا،

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }



{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات والأقوال والأعمال،

فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم،

وحصل لهم نهاية المدح،

وأفضل الكرامات من اللّه.



{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ }

ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة،



{ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ }

الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان،

والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة.


{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا }

لا يبغون عنها حولا، ولا يطلبون منها بدلا،

لأنهم مهما تمنوه أدركوه، ومهما أرادوه وجدوه.


{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

الذي حصل لهم فيه كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح،

ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان،

واندفع عنهم كل محذور.

البرهان 126


من سورة التوبة




{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ

بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ *

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }

{ 128 - 129 }


يمتن [تعالى] على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي

الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه،

ولا يأنفون عن الانقياد له،

وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم،

والسعي في مصالحهم.


{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ }

أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.

{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ }

فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم،

ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان،

ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.


{ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }

أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.

ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق،

وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره


{ فَإِنْ } آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم،

وإن { تَوَلَّوا } عن الإيمان والعمل،

فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك،


وقل { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني،

{ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: لا معبود بحق سواه.

{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي: اعتمدت ووثقت به،

في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر،


{ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } الذي هو أعظم المخلوقات.

وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات،

كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.



البرهان 127



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ *

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا

إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ

وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }


{ 3 - 4 }



يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته:

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }

مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة،

ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.

ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق،

ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.


{ ثُمَّ } بعد خلق السماوات والأرض

{ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.


{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء،

وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس،

وكشف الضر عن المضرورين،

وإجابة سؤال السائلين.


فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه،

وجميع الخلق مذعنون لعزه

خاضعون لعظمته وسلطانه.



{ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ }

فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق،

حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى،

ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.



{ ذَلِكُمْ } الذي هذا شأنه

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ }

أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال،

ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.


{ فَاعْبُدُوهُ }
أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية،


{ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }

الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.



فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام،

وحكمه الديني وهو شرعه،

الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له،


ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت،

فقال: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }

أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.


{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته،

والذي يرى ابتداءه بالخلق،

ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل

منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه،

فهذا دليل عقلي واضح على المعاد.



وقد ذكر الدليل النقلي فقال:

{ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي: وعده صادق لا بد من إتمامه

{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات،

{ بِالْقِسْطِ } أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده،

وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين


{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله.

{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء.

{ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر أصناف العذاب

{ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي: بسبب كفرهم وظلمهم،

وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.

















 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 02:04 PM   #17


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 128




من سورة يونس عليه الصلاة والسلام


{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ

مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ

يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *

إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }


{ 5 - 6 }



لما قرر ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك

وعلى كماله في أسمائه وصفاته،

من الشمس والقمر، والسماوات والأرض

وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات،

وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و { لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }


فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها،

وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه،

والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير، والرهبة من الشر،

الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.



وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة،

دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته،


وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن،

دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه.


وما فيها من أنواع المنافع والمصالح

-كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا،

يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل-

يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه،


وما فيها من التخصيصات

دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.



وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود،

ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام،

الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه،

ولا يصرف خالص الدعاء إلا له،

لا لغيره من المخلوقات المربوبات،

المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.



وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله،

والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة،

ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة،

وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به،

وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.


البرهان 129



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام




{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ

وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ

قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ}


{ 18 ْ}





يقول تعالى: { وَيَعْبُدُونَ ْ}

أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.



{ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ْ}

أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.


{ وَيَقُولُونَ ْ} قولا خاليا من البرهان:



{ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ْ}

أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده،

وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم،




ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-:

{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ْ}


أي: الله تعالى هو العالم،

الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض،

وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه،

أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟

أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟

أأنتم أعلم أم الله؟



فهل يوجد قول أبطل من هذا القول،

المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟

فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول،

فإنه يجزم بفساده وبطلانه:



{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ}

أي: تقدس وتنـزه أن يكون له شريك أو نظير،

بل هو الله الأحد الفرد الصمد

الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو،

وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه،

فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.



{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ

وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ

وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ْ}


البرهان 130


من سورة يونس عليه الصلاة والسلام


{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا

جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ

وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ

دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *

فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}


{ 22 - 23 ْ}




{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ْ}

بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.


{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ْ} أي: السفن البحرية


{ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ْ}

موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.


{ وَفَرِحُوا بِهَا ْ} واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك،


إذ { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ْ} شديدة الهبوب

{ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ْ}

أي: عرفوا أنه الهلاك،

فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين،

وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده،

فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام،

فقالوا: { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ْ}



{ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ْ}

أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم،

فأشركوا بالله،

من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد،

ولا يدفع عنهم المضايق،

فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء،

كما أخلصوها في الشدة؟!!



ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم،

ولهذا قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ}

أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله،

أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير

الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.


{ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ْ} في يوم القيامة

{ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}

وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.



البرهان 131


من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا

ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ

فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ *

فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ *

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ

وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }


{ 28 - 30 ْ}



يقول تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ْ}

أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم،

ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.


{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ْ}

أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.

{ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ْ} أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي،

وحصلت بينهم العداوة الشديدة،

بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد،

فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة.


وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: { مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ْ}

فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.


{ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ْ}

ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك،

وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك،

وهو الشيطان



كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ} .



وقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ

أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ

قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ

بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ْ}


فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم

يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة

ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم

وهم الصادقون البارون في ذلك،


فحينئذ يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها،

ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال،

وما أسلفوا من رديء الخصال،

ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين،

وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم،

واضمحلت معبوداتهم،

وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.



ولهذا قال تعالى: { هُنَالِكَ ْ} أي: في ذلك اليوم

{ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ْ} أي: تتفقد أعمالها وكسبها،

وتتبعه بالجزاء، وتجازى بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر،

وضل عنهم ما كانوا يفترون

من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك

وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.




البرهان 132



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام




{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ

وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ

وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ *

فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ

فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ *

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ْ}


{ 31 - 33 ْ}



أي: { قل ْ} لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا

- محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية،

على ما أنكروه من توحيد الألوهية -


{ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ}

بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض،

وتيسير أسبابها فيها؟


{ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ْ}

أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟،

وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل،

ولكمال شرفهما ونفعهما.


{ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ْ}

كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى،

وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك،


{ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ْ} عكس هذه المذكورات،


{ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ْ} في العالم العلوي والسفلي،

وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية،


فإنك إذا سألتهم عن ذلك { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ْ}

لأنهم يعترفون بجميع ذلك،

وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.


{ فَقُلْ ْ} لهم إلزامًا بالحجة

{ أَفَلَا تَتَّقُونَ ْ} الله فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له،

وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.


{ فَذَلِكُمُ ْ} الذي وصف نفسه بما وصفها به

{ اللَّهُ رَبُّكُمْ ْ} أي: المألوه المعبود المحمود،

المربي جميع الخلق بالنعم

وهو: { الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ْ}



فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء،

الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،

ولا يأتي بالحسنات إلا هو،

ولا يدفع السيئات إلا هو،

ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.


{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ْ} عن عبادة من هذا وصفه،

إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم،

ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا،

ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.


فليس له من الملك مثقال ذرة،

ولا شركة له بوجه من الوجوه،

ولا يشفع عند الله إلا بإذنه،


فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به،

لقد عدموا عقولهم، بعد أن عدموا أديانهم،

بل فقدوا دنياهم وأخراهم.



ولهذا قال تعالى عنهم:

{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ْ}

بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات،

ما فيه عبرة لأولي الألباب،

وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.



البرهان 133



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ

قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ

أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ

أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى

فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا

إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ْ}


{ 34 - 36 ْ}



يقول تعالى - مبينًا عجز آلهة المشركين،

وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع الله-

{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ْ} أي: يبتديه

{ ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ} وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير،

أي: ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده،

وهي أضعف من ذلك وأعجز،


{ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ}

من غير مشارك ولا معاون له على ذلك.


{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ْ}

أي: تصرفون وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء والإعادة

إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.


{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ْ}

ببيانه وإرشاده، أو بإلهامه وتوفيقه.


{ قُلِ اللَّهُ ْ} وحده

{ يَهْدِي لِلْحَقِّ ْ} بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق،

والإعانة إلى سلوك أقوم طريق.


{ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ْ} أي: لا يهتدي

{ إِلَّا أَنْ يُهْدَى ْ} لعدم علمه، ولضلاله،

وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى


{ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ْ}

أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل،

بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان،

أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده.


فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله

أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله،

بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها،

فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟


فالجواب: أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان،

أقبح البهتان، وأضل الضلال،

حتى اعتقد ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.


ولهذا قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أي:

ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله،

فإنه ليس لله شريك أصلا عقلًا ولا نقلاً،

وإنما يتبعون الظن و { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ْ}

فسموها آلهة، وعبدوها مع الله،

{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ْ} .


{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ْ}

وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.

البرهان 134



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ

إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ

وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}

{ 61 ْ}




يخبر تعالى عن عموم مشاهدته،

واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم وسكناتهم،

وفي ضمن هذا الدعوة لمراقبته على الدوام


فقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ْ}

أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية.


{ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ}

أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.


{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ْ} صغير أو كبير

{ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ْ}

أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.


فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة،

والاجتهاد فيها، وإياكم وما يكره الله تعالى،

فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.



{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ْ}

أي: ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته

{ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}

أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه.



وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر،

كثيرًا ما يقرن الله بينهما،


وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء،

وكتابته المحيطة بجميع الحوادث،


كقوله تعالى:

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }


البرهان 135


من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *

الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}


{ 62 - 64 ْ}



يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم

فقال: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ}

فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال.


{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال،

وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون،

ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.



ثم ذكر وصفهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا ْ}

بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره،

وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.


فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى] وليًا،


و { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ْ}


أما البشارة في الدنيا،

فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة،

وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق،

وصرفه عن مساوئ الأخلاق.


وأما في الآخرة،

فأولها البشارة عند قبض أرواحهم،


كما قال تعالى:

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ

أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}


وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.


وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم،

والنجاة من العذاب الأليم.


{ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ْ} بل ما وعد الله فهو حق،

لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله،

الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.



{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ} لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور،

والظفر بكل مطلوب محبوب،


وحصر الفوز فيه،

لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى.


والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب،

رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى،

ولهذا أطلق ذلك فلم يقيده.




البرهان 136


من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ

وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ *

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }

{ 66 - 67 ْ}



يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا،

يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه،

فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون،

لا يستحقون شيئًا من العبادة،

وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه،



ولهذا قال: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ْ} الذي لا يغني من الحق شيئًا

{ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ْ} في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان.



فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله،

فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة،

فلن يستطيعوا،

فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق،

أو يملك شيئًا من المخلوقات،

أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.



و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ}

في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض،

فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا.


{ و ْ} جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ} أي: مضيئًا، يبصر به الخلق،

فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.



{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ}

عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد،

فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون،


يستدلون بها على أنه وحده المعبود

وأنه الإله الحق،

وأن إلهية ما سواه باطلة،

وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.



البرهان 137



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام





{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ *

مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ

ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ْ}

{ 68 - 70 ْ}


يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين

{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ْ}

فنزه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ ْ}

أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا،



ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:

أحدها: قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ ْ} أي: الغنى منحصر فيه،

وأنواع الغنى مستغرقة فيه،

فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه،

فإذا كان غنيًا من كل وجه،

فلأي شيء يتخذ الولد؟

ألحاجة منه إلى الولد،

فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.



البرهان الثاني، قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ}

وهذه كلمة جامعة عامة

لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض،

الجميع مخلوقون عبيد مماليك.


ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد،

فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا.

فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.



البرهان الثالث، قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ْ}

أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا،

فلو كان لهم دليل لأبدوه،

فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه.

وأن ذلك قول بلا علم،


ولهذا قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ}

فإن هذا من أعظم المحرمات.



{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ْ}

أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم،

وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم في الدنيا قليلاً،

ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه،

فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون.


{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}













 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-03-2018, 02:09 PM   #18


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 138



من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي

فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ

وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*

وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ

فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }

{ 104 - 106 }




يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين،

وإمام المتقين وخير الموقنين:

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ْ}

أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه،

بل لدي العلم اليقيني أنه الحق،

وأن ما تدعون من دون الله باطل،

ولي على ذلك الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.


ولهذا قال: { فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ}

من الأنداد، والأصنام وغيرها،

لأنها لا تخلق ولا ترزق،

ولا تدبر شيئًا من الأمور،

وإنما هي مخلوقة مسخرة،

ليس فيها ما يقتضي عبادتها.



{ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ }

أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم،

ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد،

ويصلى له ويخضع ويسجد.


{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ْ}

أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله،

وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه،



{ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ}

لا في حالهم، ولا تكن معهم.


{ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ْ}

وهذا وصف لكل مخلوق،

أنه لا ينفع ولا يضر،

وإنما النافع الضار، هو الله تعالى.


{ فَإِنْ فَعَلْتَ ْ}

بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك

{ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ْ}

أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها،


وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى:

{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ْ}



فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره،

لكان من الظالمين المشركين

فكيف بغيره ؟!!



البرهان 139


من سورة يونس عليه الصلاة والسلام



{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ

فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ

وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ

يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }


{ 107 }



هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة،

فإنه النافع الضار، المعطي المانع،

الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها

{ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ }

لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء،

لم ينفعوا إلا بما كتبه الله،

ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا،

لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله،


ولهذا قال: { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ }

أي: لا يقدر أحد من الخلق، أن يرد فضله وإحسانه،



كما قال تعالى:

{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا

وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }



{ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }

أي: يختص برحمته من شاء من خلقه،

والله ذو الفضل العظيم،


{ وَهُوَ الْغَفُورُ } لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته،

ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.


{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء،

ووصل جوده إلى جميع الموجودات،

بحيث لا تستغنى عن إحسانه، طرفة عين،



فإذا عرف العبد بالدليل القاطع،

أن الله، هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم،

وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات،

وأن أحدًا من الخلق، ليس بيده من هذا شيء

إلا ما أجراه الله على يده،

جزم بأن الله هو الحق،

وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.


البرهان 140


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )





{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا

وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا

كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

{ 6 }



أي: جميع ما دب على وجه الأرض، من آدمي، أو حيوان بري أو بحري،

فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فرزقها على الله.


{ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي: يعلم مستقر هذه الدواب،

وهو: المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه، وتأوي إليه،

ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها،

وعوارض أحوالها.


{ كُلِّ } من تفاصيل أحوالها

{ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }

أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة،

والتي تقع في السماوات والأرض.


الجميع قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه،

ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه،

فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها،

وأحاط علما بذواتها، وصفاتها.





البرهان 141



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )




{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ

لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ }

{ 7 }



يخبر تعالى أنه { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }

أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة

{ و } حين خلق السماوات والأرض

{ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فوق السماء السابعة.


فبعد أن خلق السماوات والأرض استوى عليه يدبر الأمور،

ويصرفها كيف شاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية.



ولهذا قال: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: ليمتحنكم،

إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض بأمره ونهيه،

فينظر أيكم أحسن عملا.



قال الفضيل بن عياض رحمه الله:

"أخلصه وأصوبه"

قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه" ؟.


فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل.


وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل،

حتى يكون خالصا صوابا.


والخالص: أن يكون لوجه الله،

والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة،



وهذا كما قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }


وقال تعالى:

{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }



فالله تعالى خلق الخلق لعبادته ومعرفته بأسمائه وصفاته،

وأمرهم بذلك،

فمن انقاد، وأدى ما أمر به، فهو من المفلحين،

ومن أعرض عن ذلك، فأولئك هم الخاسرون،

ولا بد أن يجمعهم في دار يجازيهم فيها

على ما أمرهم به ونهاهم.

البرهان 142


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ

فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }


{ 13 - 14 }




{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي: افترى محمد هذا القرآن؟

فأجابهم بقوله: { قُلْ } لهم

{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ

وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

أنه قد افتراه ،

فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة،

وأنتم الأعداء حقا، الحريصون بغاية ما يمكنكم على إبطال دعوته،

فإن كنتم صادقين، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.


{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } على شيء من ذلكم


{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ }

[من عند الله] لقيام الدليل والمقتضي، وانتفاء المعارض.



{ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: واعلموا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

أي: هو وحده المستحق للألوهية والعبادة،

{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

أي: منقادون لألوهيته، مستسلمون لعبوديته،



وفي هذه الآيات

إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله

أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.


خصوصا إذا كان القدح لا مستند له،

ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك،

ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه،



وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين للأدلة التي يختارونها.

بل يكفي إقامة الدليل السالم عن المعارض،

على جميع المسائل والمطالب.



وفيها أن هذا القرآن، معجز بنفسه،

لا يقدر أحد من البشر أن يأتي بمثله،

ولا بعشر سور من مثله، بل ولا بسورة من مثله،

لأن الأعداء البلغاء الفصحاء، تحداهم الله بذلك،

فلم يعارضوه، لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك.



وفيها: أن مما يطلب فيه العلم، ولا يكفي غلبة الظن،

علم القرآن، وعلم التوحيد،


لقوله تعالى:

{ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }


البرهان 143


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا

نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ

وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

{ 15 - 16 }



يقول تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا }

أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا،

وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة،

من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث.

قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء،

ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا،

فهذا لا يكون إلا كافرا،

لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان

يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا،

بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال

أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.

ولكن هذا الشقي، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها



{ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا }

أي: نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا.


{ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }

أي: لا ينقصون شيئا مما قدر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم.


{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ }

خالدين فيها أبدا، لا يفتَّر عنهم العذاب،
وقد حرموا جزيل الثواب.


{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا } أي: في الدنيا،

أي: بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله،

وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها،

ولا وجود لشرطها وهو الإيمان.


البرهان 144


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )




{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }


{ 23 }




يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم،

أي:صدقوا واعترفوا لما أمر الله بالإيمان به،

من أصول الدين وقواعده.


{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }

المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان.


{ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ }

أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه،

وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه.


{ أُولَئِكَ } الذين جمعوا تلك الصفات

{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه،

ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.


البرهان 145



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً

قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ

هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }

{ 61 }



أي:{ و } أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ }

وهم: عاد الثانية، المعروفون، الذين يسكنون الحجر، ووادي القرى،

{ أَخَاهُمْ } في النسب

{ صَالِحًا } عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،

يدعوهم إلى عبادة الله وحده،



فـ { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ }

أي: وحدوه، وأخلصوا له الدين

{ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }

لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.



{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } أي: خلقكم فيها

{ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي: استخلفكم فيها،

وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة،

ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون،

وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها،


فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك،

فلا تشركوا به في عبادته.



{ فَاسْتَغْفِرُوهُ }

مما صدر منكم، من الكفر، والشرك، والمعاصي, وأقلعوا عنها،

{ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي: ارجعوا إليه بالتوبة النصوح، والإنابة،



{ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ }

أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة،

يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب،


واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص،

فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق،

وهو المذكور في قوله تعالى:

{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }


والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه،

وهو المذكور في قوله تعالى { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }




وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى:

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ }

وهذا النوع قرب يقتضي إلطافه تعالى،

وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم،

ولهذا يقرن، باسمه "القريب" اسمه "المجيب"


البرهان 146



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ قَالُواْ يٰصَـٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَـٰذَا

أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا

وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }


{ 62 }



فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام ،

ورغبهم في الإخلاص لله وحده,

ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة.



{ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا }

أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع،

وهذا شهادة منهم لنبيهم صالح،

أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم،

وأنه من خيار قومه.


ولكنه لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة,

قالوا هذه المقالة التي مضمونها أنك [ قد] كنت كاملا،

والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير.


وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم:

{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا }

وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح،

كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين،


وكيف ينهاهم عن عبادة من لا ينفع ولا يضر،

ولا يغني شيئا من الأحجار والأشجار ونحوها.


وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم،

الذي لم تزل نعمه عليهم تترى,

وإحسانه عليهم دائما ينزل،

الذي ما بهم من نعمة إلا منه،

ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.


{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ }

أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه،

شكا مؤثرا في قلوبنا الريب،

وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه لاتبعوه،

وهم كذبة في ذلك.




البرهان 147



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ *

وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ

فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ

ٱلَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ

لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ

وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ }

{ 100 -101 }



ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم،

قال الله تعالى لرسوله: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ْ}

لتنذر به، ويكون آية على رسالتك،

وموعظة وذكرى للمؤمنين.


{ مِنْهَا قَائِمٌ ْ} لم يتلف، بل بقي من آثار ديارهم، ما يدل عليهم،

{ وَ ْ} منها { حَصِيدٌ ْ} قد تهدمت مساكنهم،

واضمحلت منازلهم، فلم يبق لها أثر.


{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ْ} بأخذهم بأنواع العقوبات

{ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ْ} بالشرك والكفر، والعناد.



{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ

الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ

لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ْ}

وهكذا كل من التجأ إلى غير الله،

لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد.


{ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ْ}

أي: خسار ودمار،

بالضد مما خطر ببالهم.
























 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-04-2018, 06:34 AM   #19


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 148



من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )



{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ

مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ

وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ْ}


{ 109 ْ}




يقول الله تعالى، لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:

{ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ ْ} المشركون،

أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه باطل,

فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي،

وإنما دليلهم وشبهتهم،


أنهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ْ}


ومن المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا،

لأن أقوال ما عدا الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها،

خصوصا أمثال هؤلاء الضالين،

الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم في أصول الدين،

فإن أقوالهم وإن اتفقوا عليها فإنها خطأ وضلال.



{ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ْ}

أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم،

وإن كثر ذلك النصيب، أو راق في عينك,

فإنه لا يدل على صلاح حالهم،

فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب،

ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب.



والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين،

على قول الضالين من آبائهم الأقدمين،

ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.


البرهان 149


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )




{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ

وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ

وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ْ}


{ 113 ْ}



أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين،

أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع،

ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة،

ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك،

ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.



وقوله: { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ْ}

أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها،

ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها،


ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال:

{ وَلَا تَرْكَنُوا } أي: لا تميلوا { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ْ}

فإنكم إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم،

أو رضيتم ما هم عليه من الظلم

{ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ْ} إن فعلتم ذلك


{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ْ} يمنعونكم من عذاب الله،

ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.


{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ْ} أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم،



ففي هذه الآية:

التحذير من الركون إلى كل ظالم،

والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك،

والرضا بما هو عليه من الظلم.


وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة،

فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!!

نسأل الله العافية من الظلم.


البرهان 150


من سورة هود ( عليه الصلاة والسلام )






{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ

وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ْ}

{ 123 ْ}




{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ}

أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية.


{ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ْ}

من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب


{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ْ}

أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه،

وتوكل على الله في ذلك.


{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ْ} من الخير والشر،

بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه،

وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه.

البرهان 151




من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ

أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ

إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ

أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ

ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }


{ 39 - 40 }



{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }

أي: أرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر،

ولا تعطي ولا تمنع،

وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات،

وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون،


أتلك { خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ } الذي له صفات الكمال،

{ الْوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله

فلا شريك له في شيء من ذلك.


{ الْقَهَّارُ } الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه،

فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن


{ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها }


ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه

خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء،

لا كمال لها ولا أفعال لديها.


ولهذا قال: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ }

أي: كسوتموها أسماء، سميتموها آلهة،

وهي لا شيء،

ولا فيها من صفات الألوهية شيء،


{ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ }

بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها،

وإذا لم ينزل الله بها سلطانا،

لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها.


لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى،

ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام،

وهو الذي أمركم { أن لا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }

أي: المستقيم الموصل إلى كل خير،

وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة،

بل معوجة توصل إلى كل شر.


{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } حقائق الأشياء،

وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له،

وبين الشرك به، أظهر الأشياء وأبينها.


ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك،

حصل منهم ما حصل من الشرك،


فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن

لعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له،

فيحتمل أنهما استجابا وانقادا، فتمت عليهما النعمة،

ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما،

فقامت عليهما -بذلك- الحجة،


البرهان 152



من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ

وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ

إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }


{ 87 - 88 }



أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه:

{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ }

أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما


{ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ }

فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه،

والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ،

وأولى ما رجا العباد،
فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه،



{ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }

فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته،

ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.



ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد

يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه.




البرهان 153



من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ *

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ *

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ

أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }


{ 103 - 107 }



يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:

{ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ } على إيمانهم

{ بِمُؤْمِنِينَ } فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة،

فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع،

بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم،

ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض،

ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا.



ولهذا قال:

{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }

يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه، وما يضرهم ليتركوه.


{ وَكَأَيِّنْ } أي:

وكم { مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا }

دالة لهم على توحيد الله { وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }



ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا

{ يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }

فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى،

وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور،

فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده،

فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال

لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب،

ويفجأهم العقاب وهم آمنون،



ولهذا قال:

{ أَفَأَمِنُوا } أي: الفاعلون لتلك الأفعال، المعرضون عن آيات الله


{ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ }

أي: عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهم،

{ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } أي: فجأة

{ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } أي: فإنهم قد استوجبوا لذلك،

فليتوبوا إلى الله، ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم.




البرهان 154


من سورة يوسف ( عليه الصلاة والسلام )



{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي

وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }


{ 108 - 109 }



يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:

{ قُلْ } للناس { هَذِهِ سَبِيلِي } أي: طريقي التي أدعو إليها،

وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته،

المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره،

وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له،


{ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم،

وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه.


ومع هذا فأنا { عَلَى بَصِيرَةٍ } من ديني،

أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية.

{ وَ } كذلك

{ مَنِ اتَّبَعَنِي } يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره.



{ وَسُبْحَانَ اللَّهِ }

عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.


{ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

في جميع أموري،

بل أعبد الله مخلصا له الدين.


البرهان 155



من سورة الرعد




{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ

لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }

{ 2 }



يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير، والعظمة والسلطان

الدال على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له



فقال: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ }

على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة،

{ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي: ليس لها عمد من تحتها،

فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها


{ ثُمَّ } بعد ما خلق السماوات والأرض

{ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات،

استواء يليق بجلاله ويناسب كماله.



{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم،

{ كُلِّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي } بتدبير العزيز العليم،

{ لأَجَلٍ مُسَمًّى } بسير منتظم، لا يفتران ولا ينيان،

حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم،

ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار،

فعند ذلك يطوي الله السماوات ويبدلها، ويغير الأرض ويبدلها.

فتكور الشمس والقمر، ويجمع بينهما فيلقيان في النار،


ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛

فيتحسر بذلك أشد الحسرة

وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.



وقوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ }

هذا جمع بين الخلق والأمر،

أي: قد استوى الله العظيم على سرير الملك،

يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي، فيخلق ويرزق،

ويغني ويفقر، ويرفع أقواما ويضع آخرين،

ويعز ويذل، ويخفض ويرفع،

ويقيل العثرات، ويفرج الكربات،

وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه،

وجرى بها قلمه،

ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره.

وينـزل الكتب الإلهية على رسله

ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي،

ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها،


{ لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات القرآنية،

{ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها،

من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية،

خصوصا في العقائد الكبار،

كالبعث والنشور والإخراج من القبور.


وأيضا فقد علم أن الله تعالى حكيم لا يخلق الخلق سدى،

ولا يتركهم عبثا،

فكما أنه أرسل رسله وأنزل كتبه لأمر العباد ونهيهم،

فلا بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه،

فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء،

ويجازي المسيئين بإساءتهم.













 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
قديم 11-04-2018, 06:43 AM   #20


السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: من براهين التوحيد في القرآن المجيد





البرهان 156



من سورة الرعد



{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ

وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ *

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ *

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ

وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ *

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ

وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }


{ 8 - 11 }



يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلاعه وإحاطته بكل شيء فقال:

{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } من بني آدم وغيرهم،


{ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ }

أي: تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل أو يضمحل

{ وَمَا تَزْدَادُ } الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها،


{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }

لا يتقدم عليه ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص

إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.


فإنه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ }

في ذاته وأسمائه وصفاته

{ الْمُتَعَالِ } على جميع خلقه بذاته وقدرته وقهره.



{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ } في علمه وسمعه وبصره.

{ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ }

أي: مستقر بمكان خفي فيه،

{ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي: داخل سربه في النهار

والسرب هو ما يختفي فيه الإنسان إما جوف بيته

أو غار أو مغارة أو نحو ذلك.


{ لَه} أي: للإنسان

{ مُعَقِّبَاتٌ } من الملائكة يتعاقبون في الليل والنهار.


{ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }

أي: يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء،

ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما،

فكما أن علم الله محيط به،

فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد،

بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا يُنسى منها شيء،



{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ }

من النعمة والإحسان ورغد العيش

{ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }

بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر

ومن الطاعة إلى المعصية،

أو من شكر نعم الله إلى البطر بها

فيسلبهم الله عند ذلك إياها.


وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية،

فانتقلوا إلى طاعة الله،

غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء

إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة،




{ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا }

أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه،

فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم.


فـإنه { لَا مَرَدَّ لَهُ } ولا أحد يمنعهم منه،

{ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }

يتولى أمورهم فيجلب لهم المحبوب،

ويدفع عنهم المكروه،

فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله

خشية أن يحل بهم من العقاب

ما لا يرد عن القوم المجرمين.



البرهان 158


من سورة الرعد





{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ

إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ

وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }


{ 14 }



أي: لله وحده { دَعْوَةُ الْحَقِّ }

وهي: عبادته وحده لا شريك له،

وإخلاص دعاء العبادة ودعاء المسألة له تعالى،

أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء، والخوف، والرجاء،

والحب، والرغبة، والرهبة، والإنابة؛

لأن ألوهيته هي الحق،
وألوهية غيره باطلة




{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }

من الأوثان والأنداد التي جعلوها شركاء لله.


{ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ }

أي: لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ولا كثير

لا من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة


{ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ } الذي لا تناله كفاه لبعده،

{ لِيَبْلُغَ } ببسط كفيه إلى الماء

{ فَاهُ } فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده،

ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه، فلا يصل إليه.



كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة لا يستجيبون لهم بشيء

ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة

لأنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء،

لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء،

وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير.



{ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }

لبطلان ما يدعون من دون الله،

فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛

لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها،


ولما كان الله تعالى هو الملك الحق المبين،

كانت عبادته حقًّا متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والآخرة.



وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله

بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة؛

فإن ذلك تشبيه بأمر محال،

فكما أن هذا محال، فالمشبه به محال،

والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء


كما قال تعالى:

{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها

لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة

حتى يلج الجمل في سم الخياط }



البرهان 159


من سورة الرعد



{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ

قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ

لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ

أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ
قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }

{ 16 }


أي: قل لهؤلاء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون الله،

ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات:

أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه أولياء

تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك؟


فإنهم { لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا }

وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات،

المالك للأحياء والأموات،

الذي بيده الخلق والتدبير والنفع والضر؟


فما تستوي عبادة الله وحده، وعبادة المشركين به،

كما لا يستوي الأعمى والبصير،

وكما لا تستوي الظلمات والنور.


فإن كان عندهم شك واشتباه،

وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه وفعلوا كفعله،

فأزلْ عنهم هذا الاشتباه واللبس

بالبرهان الدال على توحد الإله بالوحدانية،


فقل لهم: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }

فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه.

ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق،

فتعين أن لها إلها خالقا لا شريك له في خلقه لأنه الواحد القهار،


فإنه لا توجد الوحدة والقهر إلا لله وحده،

فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق يقهره

ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه،

حتى ينتهي القهر للواحد القهار،

فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده،


فتبين بالدليل العقلي القاهر،

أن ما يدعى من دون الله ليس له شيء من خلق المخلوقات

وبذلك كانت عبادته باطلة.


البرهان 160



من سورة الرعد



{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ

أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *

لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ

وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }


{ 33 - 34 }



يقول تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }

بالجزاء العاجل والآجل، بالعدل والقسط،

وهو الله تبارك وتعالى كمن ليس كذلك؟


ولهذا قال: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ }

وهو الله الأحد الفرد الصمد،

الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير،



{ قُلْ } لهم إن كانوا صادقين:

{ سَمُّوهُمْ } لتعلم حالهم

{ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ }

فإنه إذا كان عالم الغيب والشهادة وهو لا يعلم له شريكا،

علم بذلك بطلان دعوى الشريك له،

وأنكم بمنـزلة الذي يُعَلِّمُ الله أن له شريكا وهو لا يعلمه،

وهذا أبطل ما يكون؛



ولهذا قال: { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }

أي: غاية ما يمكن من دعوى الشريك له تعالى أنه بظاهر أقوالكم.


وأما في الحقيقة،


فلا إله إلا الله،

وليس أحد من الخلق يستحق شيئا من العبادة،


ولكن { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ }

الذي مكروه وهو كفرهم وشركهم، وتكذيبهم لآيات الله

{ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ }

أي: عن الطريق المستقيمة الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته،

{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

لأنه ليس لأحد من الأمر شيء.


{ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ }

من عذاب الدنيا لشدته ودوامه،


{ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ }

يقيهم من عذاب الله،

فعذابه إذا وجهه إليهم لا مانع منه.




البرهان 161


من سورة الرعد



{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً

وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ

لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ *

يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }


{ 38 - 39 }



أي: لست أول رسول أرسل إلى الناس حتى يستغربوا رسالتك،

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }

فلا يعيبك أعداؤك بأن يكون لك أزواج وذرية،

كما كان لإخوانك المرسلين،

فلأي شيء يقدحون فيك بذلك وهم يعلمون أن الرسل قبلك كذلك؛

إلا لأجل أغراضهم الفاسدة وأهوائهم؟

وإن طلبوا منك آية اقترحوها فليس لك من الأمر شيء.



{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }

والله لا يأذن فيها إلا في وقتها الذي قدره وقضاه،


{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه،

فليس استعجالهم بالآيات أو بالعذاب

موجبا لأن يقدم الله ما كتب أنه يؤخر

مع أنه تعالى فعال لما يريد.



{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } من الأقدار

{ وَيُثْبِتُ } ما يشاء منها،


وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه

فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله،

أن يقع في علمه نقص أو خلل



ولهذا قال: { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }

أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء،

فهو أصلها وهي فروع له وشعب.




فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب،

كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة،

ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا،

لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ،


كما جعل الله البر والصلة والإحسان

من أسباب طول العمر وسعة الرزق،

وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر،

وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة،

وجعل التعرض لذلك سببا للعطب،


فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته،

وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.



البرهان 162


من سورة إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام )


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا

وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ *

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ

قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }

{ 28 - 30 }


يقول تعالى - مبينا حال المكذبين لرسوله من كفار قريش

وما آل إليه أمرهم:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا }

ونعمة الله هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم،

يدعوهم إلى إدراك الخيرات في الدنيا والآخرة

وإلى النجاة من شرور الدنيا والآخرة،

فبدلوا هذه النعمة بردها،

والكفر بها والصد عنها بأنفسهم.



{ و } صدهم غيرهم حتى { أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ }

وهي النار حيث تسببوا لإضلالهم،

فصاروا وبالا على قومهم، من حيث يظن نفعهم،

ومن ذلك

أنهم زينوا لهم الخروج يوم " بدر " ليحاربوا الله ورسوله،

فجرى عليهم ما جرى،

وقتل كثير من كبرائهم وصناديدهم في تلك الوقعة.


{ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي: يحيط بهم حرها من جميع جوانبهم

{ وَبِئْسَ الْقَرَارُ }



{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وشركاء

{ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ }

أي: ليضلوا العباد عن سبيل الله

بسبب ما جعلوا لله من الأنداد ودعوهم إلى عبادتها،


{ قُلْ } لهم متوعدا:

{ تَمَتَّعُوا } بكفركم وضلالكم قليلا، فليس ذلك بنافعكم

{ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }

أي: مآلكم ومقركم ومأواكم فيها وبئس المصير.




البرهان 163


من سورة إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام )


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا

وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأصْنَامَ *

رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ

فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ 35 -36 }




{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } أي:

{ و } اذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة الجميلة،

إذ قَال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } أي: الحرم

{ آمِنًا } فاستجاب الله دعاءه شرعا وقدرا،

فحرمه الله في الشرع ويسر من أسباب حرمته قدرا ما هو معلوم،

حتى إنه لم يرده ظالم بسوء إلا قصمه الله

كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم.


ولما دعا له بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن فقال:

{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }

أي: اجعلني وإياهم جانبا بعيدا عن عبادتها والإلمام بها،

ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه

بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها

فقال:
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }
أي: ضلوا بسببها،


{ فَمَنْ تَبِعَنِي }

على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين

{ فَإِنَّهُ مِنِّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم.


{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام

حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله

والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده

لا يعذب إلا من تمرد عليه.









 
 توقيع : السعيد

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
لن, المجيد, التوحيد, القرآن, براهين, في


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ثمرات التوحيد السعيد رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 15 10-22-2018 12:07 PM
تهنئتي بمناسبة نصر أكتوبر المجيد القلب الكبير رِيَاضُ التَهَانِي وَ الإهْدَاءَات 2 10-13-2016 09:29 AM
توثيق أعمال المصممه ريم المجيد ابوفهد رياض لأعمال المصمم المبدع "ابوفهد" 9 04-06-2016 08:30 PM
العلاقة بين التوحيد والاستغفار منال نور الهدى رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 3 05-01-2014 04:49 AM
زوجان مسنان ينتحران متعانقي الأيدي في الفندق الذي تعرفا فيه! محمد العتابي رِيَاض صَدَى المُجْتمَع و الْأخبَار الرِيَاضَيَة 4 12-08-2013 07:01 PM


الساعة الآن 06:07 AM