حفظ البيانات .. ؟ هل نسيت كلمة السر .. ؟

شغل الموسيقى هنا




اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسَلامة والإسلَام، والعَافِية المُجَلّلة، ودِفَاع الأَسْقَام، والعَون عَلى الصَلاة والصِيام وتِلاوَة القُرآن..اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا، حَتَّى يَخْرُجَ رَمَضَانُ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا، وَرَحِمْتَنَا، وَعَفَوْتَ عَنَّا، وقَبِلْتَهُ مِنَّا. اللَّهُمَّ إنّكَ عَفُوُّ كَرِيم تُحِبُّ الْعَفْوَ فَأعْفُ عَنَّا يَاكرِيم . كُلّ عَامٍ وَ أنتُم بِأَلْفِ خيْرِ وَ صِحَة وَعَافِيَة بِحُلُول شَهر التَوبَة وَ المَغْفِرَة شَهْرُ رَمَضان الْمُبَارَك كَلِمةُ الإِدَارَة


جديد المواضيع

العودة   منتديات رياض الأنس > |~ هُدَى الرَحْمَن لِـ تِلَاوة بِـ نبَضَات الإيمَان ~| > رِيَاض نَسَائِم عِطْرُ النُبُوَّة > ريآض الآحاديث النبوية

ريآض الآحاديث النبوية آحاديث نبوية ، آحاديث الصحابة عن رسول الله وآحاديث قدسية

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 09-13-2018, 08:37 AM   #21


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( التاسع العاشر )

الموضوع : باب المجاهدة - 2 -نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس


لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... قبل أن أشرح الحديث المقرر لهذا الدرس أريد أن ألفت النظر إلى أن بعض الناس يفهمون الدين على أنه مجموعةٌ من المعلومات، يعني هناك أحاديث، هناك آيات، هناك تفاسير، هناك قصص، هناك سِيَر، فإذا تتبعها الإنسان، وحفظها فاز فوزاً عظيماً، والحقيقة خلاف ذلك.
المعلومات لا تشكل من الدين إلا جزءًا يسيراً، الدين وجهةٌ إلى الله سبحانه وتعالى، الدين إقبالٌ عليه، الدين إحكام الاتصال به، فالحقيقة عندما ينقلب الإسلام إلى معلومات، أو إلى كتب، أو إلى ثقافة ليس غير، انتهى الإسلام، أما إذا كان الإسلام التزاماً، كان الإسلام طهارةً، كان الإسلام سمواً، كان الإسلام التزاماً، عندئذٍ هذا المسلم يفعل المعجزات، واحدٌ كألف وألفٌ كأف.
فمن حين لآخر أجد نفسي مضطراً أن ألفت نظر الإخوة الأكارم إلى أن تحصيل المعلومات فقط لا قيمة له في الإسلام، الصحابة الكرام فتحوا العالم، وكانوا أبطالاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لا لأنهم سمعوا أحاديث رسول الله، ولكن لأنهم عاشوها، الإسلام يجب أن تعيشه، يجب أن تعيشه في بيتك، يجب أن تعيشه في كل علاقاتك، يجب أن تكون لك صلةٌ بالله واضحة، يجب أن تقبل عليه وأنت مشتاقٌ في هذا الإقبال.
فأنا أحب من حين لآخر ما يسمونه تصحيح السير، فلما يميل بالإنسان الاتجاه إلى تجميع المعلومات، تكون صلاته جوفاء، واستقامته فيها خلل، وانضباطه ضعيف، والتزامه قليل، هذا لن يحصِّل من الدين شيئاً، فأن تعدل ساعةً خيرٌ من أن تعبد الله ستين سنة، أن تعدل في عملك، أن تكون مُنْصفاً، أن تكون صادقاً، أن تكون أميناً، لذلك الإمام الغزالي ـ وأعيد هذا مراتٍ كثيرة ـ لما حدثنا عن العلم بالله قال: " هذا العلم ثمنه المجاهدة "، ثمنه باهظٌ جداً، ونتائجه باهرةٌ جداً، ثمنه باهظ أن هذا العلم لا يحصل بحضور مجلس علم، هذا العلم لا يحصَّل بقراءة كتاب، لا يحصل بإتقان التجويد، لا يحصل بالاطلاع على الفقه، لا يحصل بالانتساب إلى جامعة ـ إلى كلية الشريعة ـ هذا العلم لا يحصل إلا بالمجاهدة، كما قال الإمام الغزالي: " جاهد تشاهد".
فإذا جاهدت نفسك وهواك، أحكمت الصلة بالله عزَّ وجل، كل واحد منا يعرف إذا وقف بين يدي الله عزَّ وجل ما إذا كان متصلاً أو مقطوعاً، يمكن أن تتوضأ، وأن تقف بين يدي الله عزَّ وجل، وأن تقرأ الفاتحة وسورة، وأن تركع، وأن تسجد، وأن تؤدي الصلاة كما أرادها الفقهاء تماماً، ويمكن مع هذا الأداء الكامل للصلاة أن تكون مقطوعاً عن الله عزَّ وجل ؛ بذنبٍ، أو بمخالفةٍ، أو بطمعٍ، أو بانحرافٍ، أو بتجاوزٍ، أو بتقصيرٍ، أو بشهوة، أو بشركٍ خفي، فمقياس الإنسان الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام:

((الصلاة ميزان فمن وفَّى استوفى))
( من الدر المنثور: عن " ابن عباس " )
يعني من وفَّى الاستقامة حقها، استوفى من الصلاة ثمراتها.
فالعمر ثمين جداً، ولكي لا يقول الإنسان: أنا داومت خمس سنوات، ست سنوات، سبعن سنوات، عشر سنوات، اثنتا عشرة سنة، ولم أستفد شيء، وهو ليس ملتزمًا، فلذلك إذا أحب الإنسان أن يكون من المؤمنين الصادقين فلابد له بادئ ذي بدء من أن يعقد العزم على أن يستقيم على أمر الله تماماً، أما هذه الكلمات: قدر الإمكان، الله يتوب علينا، الله يعفو عنا، الله عزَّ وجل لن يحاسبنا، لن يدقق، لن يضع عقله بعقلنا ـ كما يقول بعض العوام ـ هذا كلام كله مرفوض، الله عزَّ وجل عدله مطلق، وجنَّته ثمينة، وسلعة الله غالية، ولن يعطيها إلا لمن يستحق، فمَن تمنى أن يكون مؤمناً هذا التمني لا يغنيه شيئاً، ولا يقدم ولا يؤخر.
لذلك لما يضع الإنسان برنامجًا لنفسه، برنامجًا فيه سيره إلى الله عزَّ وجل، برنامجًا حازمًا فأحياناً ينقلب عند الإنسان حضور هذه المجالس إلى عادة من العادات، والله اليوم الأحد عندنا درس، بعد الأحد عندنا سهرة مختلطة، وكأنه ما حضر الدرس، يوم الاثنين عنده دوام بالمحل، المحل فيه أحياناً حلف يمين كاذب، فيه أحياناً ترويج سلعة زائفة، فيه أحياناً إخفاء عيب بالبضاعة، فإذا لم يكن ثمة انضباط شرعي خلال الأسبوع، والله هذا الدرس سيكون حجةً عليك.
والله أنا الذي أتمناه على الله عزَّ وجل أن النخبة المطبقة للإسلام مئة في المئة، فالإنسان يراجع نفسه هل بيته فيه مخالفات ؟ يا ترى زوجته هل هي منضبطة ؟ بناته منضبطات ؟ يا ترى بيته منضبط ؟ بيته إسلامي ؟ يا ترى بيعه وشرائه إسلامي ؟ علاقاته مع الناس إسلامية، فيها تقصير ؟ يا ترى إذا قام ليصلي هل يشتاق لله عزَّ وجل ؟ يصلي ـ كما يقول بعضهم ـ أرحنا منها، أم أرحنا بها ؟ وشتان بين أن تقول: أرحنا منها يا فلان، وبين أن تقول: أرحنا بها يا بلال، كما قال عليه الصلاة والسلام.
فأنا أحب من حين لآخر، ولو كان التوجيه ثقيلا على الإخوان، لكن والله الحقيقة مرَّة دائماً، والحقيقة أحياناً تأتي قاسية، فلماذا كان الصحابة الكرام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في قمة السعادة ؟ إنسان مسلم يغتاب أخاه !! والله هذا ليس بمسلم، لما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾
( سورة الحجرات: من آية " 12 " )
هذا نهي، أنت لماذا تصلي ؟ لأن الله أمر بالصلاة، كيف تغتب أخاك، وقد نهاك الله عن ذلك ؟ أتأخذ ما يعجبك، وتدع ما لا يعجبك ؟ أهكذا الإسلام ؟ لمَ لا تقرأ القرآن، وتحاول تطبق كل ما جاء فيه تطبيقاً تاماً، والله الذي لا إله إلا هو تدخل في سعادةٍ لا توصف، حينما تعقد العزم على التوبة النصوح، وحينما تصطلح مع الله سبحانه وتعالى، وحينما تقوم للصلاة، تقوم لتتصل بالله عزَّ وجل، لذلك تهيئ نفسك من وقتٍ طويل، ما بين الصلاتين تهيئةٌ للصلاة الثانية، ما بين الظهر والعصر تهيئةٌ لصلاة العصر، ما دام أن ليس هناك كذب، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا بهتان، ولا نظرة، ولا مخالفة، ولا معصية، كلك صدق، وأمانة، وخدمة، وطاعة، وبحث عن عمل صالح، يا ترى الإنسان أول ما يستيقظ صباحاً هل يقول: يا رب ارزقني عملاً صالحاً ترضى به عني ؟ فالواحد يحاسب نفسه: هذا اليوم كيف مضى ؟ مضى في القيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، مضى بكسب الرزق، مضى في المشاحنة والخصام، وبعدها عندنا درس الأحد، عندنا درس الجمعة، والله هذا الذي لا يرضي الله عزَّ وجل.
فالذي أتمناه على كل إخواني الأكارم أن هذا وقت مبذول، تأتون من مكان بعيد، يجب أن تستفيد من هذا الوقت بأعلى درجة ممكنة، فالقضية لا بالكتابة، ولا بالقراءة، ولا بالتأليف، ولا بسماع المحاضرات، ولا بسماع الخُطَب، ولا بتحصيل الثقافة، هذه كلها أشياء لابد منها ولكنها غير كافية، يعني إذا ما دخل الإسلام بصميم حياتك، إذا ما دخل الإسلام إلى مشاعرك، فإذا قرأت القرآن هل تدمع عيناك ؟ هل يقشعر جلدك ؟ هذا كلام الله، على قدر تفاعلك مع هذا الكتاب، على قدر الانضباط، على قدر البذل، على قدر العمل الصالح تتفاعل مع كتاب الله، فقد تأتي على المؤمن ساعة..
والله أنا قرأت حديث، سبحان الله، النبي عليه الصلاة والسلام ذاتٍ ليلةٍ افتتح البقرة فقال بعض أصحابه: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها بركعةٍ، فمضى، فقلت يركع بها، قرأ النساء، قرأ آل عمران.
نحن إذا أطلنا نقع في مشكلة، يا ترى هل هناك هذا السرور بإطالة القرآن بالصلاة ؟ يجب أن يكون لكل واحد ساعة مع ربه يسعد بها، له مثلاً ساعة قيام ليل يصلي ركعتين، ثلاثا، ستً، ثماني، قرأ آيات طويلة، شعر أنه ذاب ذوبان محبة لله عزَّ وجل، إذا لم يكن له قلب يخفق بمحبة الله، وله جوارح تقشعر من خشية الله، ولا انضباط كامل، ورع على مستوى الليرة، والنصف ليرة، والفرنك لهذه الدرجة ورع ؟ أحد التابعين كان لا يأكل مع أمه في قصعةٍ واحدة، فسألوه لمَ؟ فقال: والله أخاف أن تقع على عين أمي لقمة فتسبقها يدي إلى فمي، لهذه الدرجة ورع ؟! الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ما وقف في ظل بيتٍ مرهونٍ عنده لئلا يستفيد منه ، يعني ورع إلى درجة، ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط.
مادام قلب الإنسان ينبض، مادام فيه حياة، فالقضية سهلة كثير، الصلحة بلمحة، اعمل جردًا ؛ في بيتك، خارج بيتك، عملك، دخلك، مصروفك، علاقاتك، زياراتك، أصدقاءك، نشاطاتك، فيها مخالفات للشرع ؟ فيها شيء لا يرضي الله ؟ فيها مجاوزات ؟ فيها تقصيرات ؟ اعمل انضباطًا .
فهل هناك أسعد في الحياة كلها من أن تسعى لمرضاة الله عزَّ وجل ؟ هل في الحياة كلها في موقف أشرف من أن تبحث عن طاعة الله ؟ أو موقف أشرف من أن تخدم عباد الله ؟ لا نريد كلامًا، نريد عملا، الكلام انتهى، والله الآن الدنيا ممتلئة بالكلام، في أي موضوع، في كتب، وفي مجلات، وفي بحوث، وفي أشرطة، وفي محاضرات مصور بصورة وصوت، وملون، وغير ملون، ومع بيانات، ومع تصاوير، ومع أدلة، ومع براهين، العالم الآن مفعم بالكلام، أما الصحابة الكرام فكانوا إلى أن يفعلوا أقرب إلى أن يقولوا.
فيمكن لله أن يجعل على يد واحد هدى أمة بأكملها، أو مجتمع بأكمله، فقضية البطولة مفتوحة، باب البطولة مفتوح، لما يكون الإنسان محسوبًا على الناس أنه ديِّن، أين ذاهب ؟ على الجامع، من أين جئت ؟ من الجامع، فلان صاحب دين، فلان تمشيخ، فلان تلميذ الجامع الفلاني، فأنت محسوب على المسلمين، يا ترى ماذا فعلت ؟ سؤال كبير، أنت حجمك عند الله بحجم عملك، ما الذي فعلته في هذه الحياة ؟ ما الذي بذلت ؟ ألك عملٌ تلقى الله به، حينما يأتي ملك الموت ؟
موضوع الموت خطير جداً، لما يدخل الإنسان غرفة مظلمة، أغلق الباب عليه، هذه أحد حالات القبر، تفضل صلِّ، تفضل أقبل على الله عزَّ وجل، يا ترى هل عندك عمل تلقى الله به ؟ هل لك عمل ترضى عنه ؟ هل لك عمل يرفعك الله عزَّ وجل من أجله ؟ فلما يصير الدين ذهابا إلى المسجد، وعودة منه، وعدم انضباط، عدم التزام، عدم بذل، وقوع في غيبة، ونميمة، وبهتان، ومشكلات، فالمشكلة خطيرة.
فالذي أرجوه من الله سبحانه وتعالى أن يهدي قلوبنا إلى طاعته، وإلى محبته، وإلى العمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فأنا أحب علم الأحاديث، وعلم السِيَر، لكن أحب أكثر أن أرى إنسانًا دخل الدين إلى كل خليَّة من خلاياه، وكيان نفسه، وعقله، ومشاعره، وجوارحه كلها مع هذا الدين، بيته، انضباطه، سلامة صدر، ذاتية، صفاء، ود، تواضع، عطاء، لما يكون الإنسان كذلك فهذه القضية تحتاج إلى شيء من العبادة الصحيحة.
لما يعاهد الأخ من الإخوان الأكارم نفسه على قيام ركعتين من الليل قبل صلاة الفجر، في شهر من الزمان، يجد وجه قد تألق، شعر بسعادة، شعر أنه قريب من الله عزَّ وجل، ولما يعاهد نفسه أن يقرأ من القرآن جزءًا، نصف جزء، ربع جزء، لكن قسم، أقل شيء خمس صفحات تقرأها يومياً بخشوع، ويتدبر الآيات، ولما يعاهد نفسه على أن يذكر الله كل يوم ربع ساعة، جلسة مع الله ساعة زمن ؛ قسمًا للقرآن، وقسمًا للذكر، وقسمًا للصلاة، وقسمًا للتهجُّد، جلسة صباحية يومية مع شيء من قيام الليل، مع أداء الصلوات بإتقان، تجد حالك قد صرت إنسانًا آخر، هذه المعلومات ليست لها قيمة إلى الحد الذي تصبح هي كل الدين.
لكن لما يكون للإنسان هذه الصلة بالله عزَّ وجل، جاهد تشاهد، اعمل أعمالا صالحة، وانضبط، وافعل الخيرات، وساعتئذٍ قل لي: كم هي الحالة السعيدة التي تغمرك ؟ فهذه الملاحظة، فطريق الإيمان طريق يحتاج إلى انضباط، إلى موارد، إلى أوراد، إلى ذكر، إلى صلاة، إلى تهجد، إلى قيام ليل، إلى عمل صالح، ولما يبذل الإنسان وينضبط، والله لو تسأله: كيف حالك ؟ ليقول لك: ليس في الأرض من هو أسعد مني، والله أنا لا أبالغ إذا انضبط الإنسان، واصطلح مع الله عزَّ وجل، واتقدت نفسه بمحبة الله عزَّ وجل، لو أنك سألته سؤالاً صريحاً: كيف حالك ؟ قد يكون هذا الإنسان يعيش في وسط من أناسٍ مقهورين، متعبين، في ضياع، في قلق، في خوف يقول لك: والله ليس في الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني، هذه علامة الإيمان، الحياة جميلة جداً في طاعة الله، الإيمان له عز.
أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأظنه سيدنا الحسن، قالوا:
ـ يا سيدنا، أو يا فلان أتيهٌ في الإسلام ؟
ـ قال: هذا عز الطاعة.
إذا أطاع الإنسان الله عزَّ وجل يشعر بعزة ما بعدها عز.
* * * * *
فنحن عندنا أحاديث أختارها لكم من كتاب رياض الصالحين، وهذا الكتاب ـ كما تعلمون ـ يحتوي على الأحاديث الصحيحة، ومن هذه الأحاديث حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، طبعاً سيدنا العباس من أصحاب رسول الله، وسيدنا ابن عباس من أصحاب رسول الله، فإذا ذكرت صحابياً وابنه أو وأباه، فيجب أن تقول: رضي الله عنهما.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ))
( رواه البخاري )
هذا الحديث في باب المجاهدة من كتاب رياض الصالحين.
نعمة الصحة لا يعرفها إلا مَن فقدها، وقد قالوا: من أدرك الإسلام والصحة ما فاته شيء، والصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى، فلما يكون الإنسان بقوته، وبسمعه، وبصره، وعقله، وصحته، الأجهزة كلها صحيحة ؛ القلب، والرئتان والكبد، والكليتان، والعضلات، والأوردة، والشرايين، والعظام، والدماغ، والغدد الصمَّاء، والطحال، والبنكرياس، والكظر، والأجهزة كلها تعمل بانتظام فهذه نعمةٌ لا تعدلها نعمة.
هناك من يخيَّر، لو أن له مئات الملايين، ويفقد بعض أعضائه، أو بعض أجهزته لما رضي، فالإنسان الصحيح غنيٌ، وأي غنيّ، فربنا عزَّ وجل ما جعل هذه الصحة كي تستنفذها في الأمور التافهة، هذه القوة ؛ أن تمشي، أن تنهض، أن تستخدم يديك، أن تستخدم حواسك، هذه كلها يجب أن تستخدم في طاعة الله عزَّ وجل، هذه العين يجب أن ترى بها آيات الله، هذه الأذن يجب أن تستمع بها إلى الحق، هذا اللسان يجب أن ينطق بالحق، هذه اليد يجب أن تساعد بها المحتاجين، هذه الرِّجل يجب أن تنتقل بها إلى المسجد، أو إلى عملٍ شريف، أو إلى عملٍ صالح، لذلك:
(( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ))
الذي عنده وقت فراغ، ويتوانى عن حضور مجلس علم، فهذا له حسابٌ خاص، في الفراغ اقرأ القرآن، والمؤمن يوم القيامة لا يتألم إلا على ساعةٍ مضت لم يذكر الله فيها، أنت بهذه الساعة اقرأ القرآن، اذكر ربك، مُْ بالمعروف، وانه عن المنكر، اقرأ بحثًا علميًّا تستفيد منه، اقرأ موضوعًا في الفقه، اقرأ شيئًا من السيرة، عاون أهلك، اخدم جيرانك، اكتب موضوعًا، اعمل عملا، فهذا الوقت ثمين جداً ، فالإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، فهذا الذي أتمناه عليكم أن يكون الوقت أثمن شيء في حياتنا.
كل يوم ينشق فجره يقول: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
لما يستيقظ الإنسان ويفتح عينيه يجب أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سمح له أن يعيش هذا اليوم، كم من إنسان مات، نام وما استيقظ، زوجته نائمة إلى جانبه فوضعت يدها على يده فرأتها باردة جداً، وقفت فرأته ميتًا، نام وليس به شيء، فهذه القصص كثيرة جداً، فلما يعرف الإنسان حاله أن هذا الوقت لابد من أن ينتهي فيجب أن يسارع، لذلك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
( سورة آل عمران )
أي: لا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون، استسلام كامل، استسلام في الاستقامة، استسلام نفسي، استسلام للمقادير، فالصحة والفراغ نعمتان كبيرتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس.
واللهِ قال أحد العلماء في الشام، وقد مر في الطريق أمام مقهى، فرأى أناسًا يلعبون النرد، فقال هذا العالم الجليل، وأظنه الشيخ بدر الدين: سبحان الله !! لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريناه منهم، جالس في المقهى إلى الساعة الثانية عشرة، ما هذا ؟ هذا الوقت الثمين أهكذا يستهلك ؟ أهكذا تستهلكه ؟ والله هناك ألف مجال ترقى به إلى الله، هذه السهرة، الآن عندك سهرة أيام الشتاء، ربيع المؤمن، كما قال عليه الصلاة والسلام:
((طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه))
( من كشف الخفاء: عن " أبي سعيد " )
هذه السهرة ذهبت إلى البيت الساعة الثامنة والنصف، ممكن أن تجلس مع أهلك تحدثهم عن الله عزَّ وجل، ممكن تقرأ موضوعًا، ممكن تقرأ القرآن، ممكن أن تصلي، ممكن أن تتابع موضوعًا في كتاب، ممكن أن تكتب مقالة، ممن أن تنصح إنسانًا، ممكن أن تتألف قلبَ أخت بعيدة تزورها، ممكن أن تعاون الأهل، ممكن أن تقوم بعمل يرضي الله عزَّ وجل.
لذلك هذا الذي يعنيه النبي عليه الصلاة والسلام بالصحة والفراغ، فهؤلاء الشباب عندهم وقت فراغ، بعد فترة يتزوج، باللغة الدارجة ـ ينعمى قلبه ـ يوم مشكلة، وبكرة ابنه سخن، وبعد بكرة عند زوجته ولادة، ويريد إبرة غير متوافرة بالصيدليات من أجل الدم، لكي لا يصير فساد في الدم، يدخل الإنسان في عالم، وبعد ذلك يأتي المولود، فيحتاج حاجاته، يريد أن يسعى ليؤمن غذاء للمولود، فقبل أن يتزوج الرجل هذه فرصة كبيرة جداً، استغلها في معرفة الله عزَّ وجل، إذا كان للواحد عمل بسيط، وساعات دوامه قليلة فهذه نعمة كبيرة، ثمة أشخاص عندهم عمل اثنتي عشرة ساعة، وأشخاص ثماني عشرة ساعة يعمل حتى يستطيع أن يؤمن حاجاته وحاجات أهله.
فـ: (( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ))
هذا الحديث قصير، لكنه خطير، يعني استيقظت صباحاً قال عليه الصلاة والسلام: ((لا بورك لي في يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً ))
يا ترى أنا اليوم ماذا تعلمت ؟ هل تعلمت آيةً ؟ هل تعلمت حديثاً ؟ هل تعلمت حكماً فقهياً ؟ هل قرأت شيئاً عن أصحاب رسول الله ؟ هل قرأت شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ماذا تعلمت.
أو: ((لا بورك لي في يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً))
ماذا فعلت ؟ جلست، ماذا تكلمت ؟ هل أثرت في الآخرين ؟ هل أحدثت عند أحدهم توبةً ؟ هل نقلت أحدهم من حالٍ إلى حال، من قولٍ إلى فعل ؟
هذا الحديث هو حديث اليوم، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ))
( رواه البخاري )
هذا الحديث في باب المجاهدة من كتاب رياض الصالحين.
* * * *
والآن، إلى متابعة الحديث عن عملاق الإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
حينما أفاء الله على المسلمين في عهده خيراً كثيرا، وامتلأ بيت المال بالمال، أشار عليه نفرٌ من أصحابه أن يقوم بإحصاء الناس، ورصد أسمائهم في ديوان، حتى ينالوا جميعاً رواتبهم السنوية في نظامٍ مُحْكَم، واختير لهذه المهمة عقيل بن أبي طالب ـ أخو سيدنا علي ـ وجبير بن مطعم، ومخرمة بن نوفل، وكانوا أعلم الناس بأنساب قريش، وأكثرهم معرفةً بالمسلمين، جلسوا يدونون الأسماء بادئين ببني هاشم، ثم بآل أبي بكر، ثم ببني عدي آل عمر.
فلما طالع أمير المؤمنين الكتاب رده إليهم، وأمرهم أن يقدموا على آل عمر كثيرين ممَّن هم قبلهم، وذكر عائلتهم، وقال: ضعوا عمر وقومه في آخر الأسماء " وعلم بنو عدي بهذا، فذهبوا إليه راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا مناصبهم والمال الوفير، وقالوا له:
ـ ألسنا أهل أمير المؤمنين ؟
ـ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ بني عدي، أردتم أن تأكلوا على ظهري، وأن أهب لكم حسناتي، لا والله، لتأخُذُنَّ مكانكم، ولو جئتم آخر الناس.
هذا موقفه من أهله رضي الله عنه.
سيدنا عمر رفض أن يجعل ابنه عبد الله، وهو من أصحاب رسول الله، وكان تقياً، ورعاً، قوياً، رفض أن يجعل ابنه عبد الله من الستة الذين رشَّحهم للخلافة، قائلاً:
ـ حَسْبُ آل عمر أن يحاسب منهم واحد وهو عمر، يكفيهم واحد.
ـ فقالوا له: لكن يا أمير المؤمنين إن ولدك عبد الله هو التقي العادل، فهل ذنبه وذنب الناس الذين ستسعدهم ولايته أنه ابن أمير المؤمنين ؟!
طالما قيل هذا القول لعمر فيذكر قائليه بأن عبد الله ـ اسمعوا الجواب ـ قبل أن يكون رجل حكم، فإذا استعمل اليوم صالحي أهله، فربما جاء من بعده مَن يستعملون أهليهم ويقولون: هكذا فعل عمر، لجعلها سنةَ من بعده، لهذا قال سيدنا عمر: من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
أنت مثلاً عندك معمل، عندك مدرسة، عندك مستشفى، في لك صهر طبيب مثلاً، عينت هذا الصهر فرضاً رئيس قسم الأمراض الفلانية، وفي هذا القسم مَن هو أكفأ منه، مَن هو أخلص منه، أنت عينت هذا الصهر لأنك حابيته، أو جاملته، مَن فعل هذا فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
" من استعمل رجلاً لمودةٍ أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ".
أجمل خطبة قالها هذا الخليفة العادل حينما تولى الخلافة، يبدو أن بعضهم قال:
ـ يا أمير المؤمنين إن الناس خافوا منك، خافوا من شدتك.
ـ فقال هذا الخليفة رضي الله عنه: بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد ورسول الله بين أظهرنا ـ رسول الله رحيم، لطيف، حليم، وعمر شديد، لكن هناك من يوقفه، ويخفف من شدته ـ ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟!
أحياناً يكون الأب والأم في البيت، الأب يشد، والأم ترخي، توازن، إذا ماتت الأم يأخذ الأب دور الأم والأب، لما يشد الأب الأم تخفف، الآن ماتت الأم، يأخذ الأب دور الأم، ثم اشتد علينا وأبو بكرٍ والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟ الآن الأمر كله له، لا يرحم شديد.
ـ فقال سيدنا عمر: آلا مَن قال هذا فقد صدق ـ معه حق ـ فإني كنت مع رسول الله عونه وخادمه، وكان عليه السلام مَن لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين ـ كان لين، والرحمة ـ وكان كما قال الله تعالى:
﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
( سورة التوبة )
فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني ـ أنا سيف له يغمدني فأغمد، أنا جهاد بيده ـ أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد ـ أنا كنت سيفًا بيد رسول الله فكان يغمدني أو يستعملني ـ ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر فكان مَن لا تنكرون دعته، وكرمه، ولينه، فكنت خادمه، وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني، أو يدعني فأمضِي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل وهو عني راضٍ، الحمد لله على ذلك كثيراً وأنا به أسعد.
كنت سيفا لرسول الله يستعملني أو يغمدني، وكنت سيفا لسيدنا الصديق يستعملني أو يغمدني، قال:
ـ ثم إني قد وليت أمركم أيها الناس ـ أما الآن فهناك وضع ثان ـ فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت ـ الآن أنا سآخذ دور الأم والأب ـ ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ـ هذه الشدة تبقى شدة على أهل الظلم والتعدي ـ فأما أهل السلامة، والدين، والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً، أو يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض، حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف، وأهل الكفاف والتقوى ـ أنا مع أهل العفاف والكفاف والتقوى أضع لهم خدي على الأرض ـ ولكم عليَّ أيها الناس خصالٌ أذكرها لكم فخذوني بها ـ أي حاسبوني عليها ـ لكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ـ أي لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ـ ولكم علي إذا وقع في يدي منها شيء ألا يخرج مني إلا في حقه ـ لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولا أنفقه إلا بحقه ـ ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ أرفع الرواتب، هذا حق لكم، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم ـ إن شاء الله تعالى، ولكم علي أن أسد ثغوركم ـ أحمي البلاد من العدوان، وهذه من مهمات الحاكم، حماية الحدود من العدوان ـ ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث ـ يعني في الحروب ـ فأنا أبو العيال حتى ترجعوا، يعني أنا أبٌ لكل طفلٍ من أطفالكم.
لذلك العناية بأبناء من يقاتلون في ساحات القتال هذا عمل عظيم، عمل كبير، وهذا يشجع الإنسان أن يدافع عن وطنه، ويدافع عن أمته.
ـ قال: فاتقوا الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني أنتم عاونوني، مروني بالمعروف وانهوني عن المنكر.
سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اختار أحد كبار العلماء، وجعله مستشاراً له، اسمه أيضاً عمر، قال له: أنت اجلس إلى جانبي، وراقب أعمالي وأقوالي، فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت، هذه وظيفتك.
ـ فسيدنا عمر يقول: أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أمركم.
هذه خطبةٌ افتتح بها ولايته على المسلمين.
حين زار الشام جيء له بطعامٍ طيِّب ـ معنى هذا أن أهل الشام من زمان أكلهم طيب، هكذا يظهر ـ مختلفٍ ألوانه، وبدلاً من أن يقبل عليه، وينعم بمذاقه رمقه بعينين باكيتين، وقال: كل هذا لنا، وقد مات إخواننا الفقراء لا يشبعون من خبز الشعير ؟! هؤلاء الصحابة الذين ماتوا في بدر وفي أحد والخندق تألم من أجلهم، كل هذا لنا وإخواننا ماتوا فقراء لم يشبعوا من خبز الشعير؟!.
اسمعوا هذه القصة:
قدم المدينة بعض التجار في إحدى الأمسيات، وخيَّموا عند مشارفها، فاصطحب أمير المؤمنين عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة، سمع بقافلة جاءت إلى المدينة، وخيمت في ظاهرها، فقال لعبد الرحمن بن عوف: اذهب بنا لنتفقد هذه القافلة.
وكان الليل قد تصَرَّم، انقضى جزءٌ منه، واقترب الهزيع الأخير منه، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها، وقال عمر لعبد الرحمن: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، الجماعة نائمون كلهم، قال له: اقعد نحرس الضيوف، يعني من ذئب، لهم غنم، وهو مخيِّمون، قال له: فلنمضِ بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا، بإذن الله طبعاً.
وإذا هما جالسان سمع صوت بكاء صبي بالقافلة، فانتبه عمر وصمت، وانتظر أن يكف الصبي عن بكائه، ولكنه تمادى فيه، فمضى يسرع صوبه، وحينما اقترب منه سمع أمه تنهنهه، أي تسكته، ولكن لا ترضعه، قال لها: اتقِ الله، وأحسني إلى صبيكِ، ثم عاد إلى مكانه، وبعد حين عاود الصبي البكاء، فهرول نحوه عمر، ونادى أمه: قلت لك اتقِ الله، وأحسني إلى صبيك، وعاد إلى مجلسه، بيد أنه لم يكد يستقر حتى زلزله مرةً أخرى بكاء الصبي، فذهب إلى أمه وقال لها:
ـ ويحك إني لأراك أمّ سوء ـ أنت أم سيئة ـ ما لصبيك لا يقر له قرار ؟ أي ما ترضعينه ؟
ـ فقالت وهي لا تعرف من تخاطب، قالت: يا عبد الله قد أضجرتني، يعني هلكتني حل عني ـ بهذا المعنى ـ لقد أضجرتني إني أحمله على الفطام فيأبى، أنا أفطمه اليوم.
ـ سألها عمر: ولمَ تحمليه على الفطام ؟
ـ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، لا يعطي معاشًا، تعويضًا عائليًّا إلا للفطيم.
ـ قال وأنفاسه تتواثب، بدأ يلهث: وكم له من العمر ؟
ـ قالت: بضعة أشهر.
ـ قال: ويحك لا تعجليه، أرضعيه.
يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف: فصلى بنا الفجر يومئذٍ، وما يستبين الناس قراءته ـ يقرأ ويبكي بالصلاة، ما فهموا ما هي الآيات الناس، ماذا قرأ ما فهموا، يقرأ ويبكي ـ من غلبة البكاء، فلما سلّم قال: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين.
اعتبر حاله قاتل، لأنه أعطى التعويض العائلي للفطيم، فصارت الأمهات حتى يتعجلن التعويض يفطمن أولادهن في وقت مبكر قبل أن يتم الرضاعة فقال:
يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر منادياً ينادي في المدينة: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكل مولودٍ في الإسلام، ليس لكل واحد فطم، ولكن لكل واحد ولد، ثم فرض هذا إلى جميع ولاته في الأمصار، عممه على أنحاء البلاد الإسلامية.
في عام الرمادة سمع عن جماعةٍ في أقصى المدينة قد نزل بهم الضر أكثر مما نزل بأهل المدينة كلها، فيحمل فوق ظهره جرابين من دقيق، ويحمل خادمه أسلم قربةً مملوءةً زيتاً، ثم يهرولان إلى هناك يحملان النجدة والغوث، وعندما يصلان القوم يطرح أمير المؤمنين بردائه، ويطهو بنفسه طعامهم حتى يشبعوا، ثم يرسل خادمه ليعود إليه بإبلٍ يحملهم على ظهورها إلى دخل المدينة، حتى يكونوا بقربٍ منهم.
وكان يقول: يا علي، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، ويا عثمان، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ويا سعد، إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس.
وفي العام الذي لقي الله فيه كان على موعدٍ مع نفسه أن يطوف بجميع الأمصار، ليتفقد أحوال الناس، ويبلو أخبارهم، ولقد قال يوماً لأصحابه: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أمَا إنّ ولاتهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي ـ هم لا يصِلون، وولاتهم لا ترفع أمورهم إلي ـ أسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنِعم الحول هذا.
أي يتفقد بنفسه بشكل ميداني أنحاء المملكة، أو أنحاء البلاد الإسلامية، ليتعرف عن كسب على أحوال المسلمين.
مرة سأل أصحابه ـ امتحنهم ـ: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ـ انتقيت أفضل واحد فيكم ـ ثم أمرته بالعدل، أكان هذا يبرئني من الله عزَّ وجل ؟
ـ فقال أصحابه: نعم.
ـ قال: لا ـ إذا استعملت أفضل واحد، أطهر واحد، أنقى واحد، وأمرته بالعدل تنتهي مسؤوليتي أنا، قالوا طبعاً تنتهي، قالوا: نعم، قال: كلا حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لم يعمل ؟ لاَ تبرؤ ذمتي من الله عزَّ وجل حتى أتابع ما أمرته به، هل فعل هذا أم لم يفعل ؟ أيما عاملٍ لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا.
أي موظف عندي يظلم مظلمةً بلغتني فلم أغيرها فكأنما ظلمته أنا، هذا كان فهمه للمسؤولية.
آخر قاعدة لسيدنا عمر، هذه القاعدة أخذها عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله، أو يحرص عليه، أي إنسيان يسأل أن يتولى أمراً عندئذٍ لا نوليه، مادام طلب الولاية معنى هذا أنه راغبٌ فيها، ليس عالماً بما فيها من مسؤوليات، إذاً هو ليس أهلاً بها.
ذات يومٍ أسرّ في نفسه اختيار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم، ولو صبر هذا الصحابي بضع ساعاتٍ لاستدعاه عمر يقلده هذا المنصب، ولكن أخانا بادر الأمور التي لم يكن يعرف عنها شيئاً، وذهب إلى عمر يسأله أن يوليه هذا المنصب، ويبتسم عمر لحكمة المقادير، ويقول: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه، ولا يجاب إليه، ثم صرفه وولى.
اختاره فلما طلب منه ذلك غير قراره.
مرة اختار أحد الولاة قال له: إني لم أستعملك على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل، ثم يعُدُّ له عداً النواهي التي يجب عليه أن يتجنبها: لا تركب دابةً مُطَهَّمَة ـ يعني فخمة ـ لا تلبس ثوباً رقيقاً، لا تأكل طعاماً غاليًا، لا تغلق بابك دون حوائج الناس، كن في حياتك خشناً، وافتح بابك للناس جميعاً.
مرة قال: دلوني على رجلٍ أكِلُ إليه أمراً يهمني ؟
ـ فقالوا: فلان.
ـ قال: لا حاجة لنا فيه.
ـ قالوا: فمن تريد ؟
ـ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً عليهم، بدا وكأنه أميرهم ـ من شدة عطفه واهتمامه، وفطنته، وحكمته، وهو ليس أمير بدا وكأنه أميرٌ عليهم ـ وإذا كان فيهم وهو أميرهم بدا وكأنه واحدٌ منهم.
إذا معين أمير بدا وكأنه واحد منهم، وإذا ما كان فيهم أمير بدا وكأنه أميرهم، هذا شرط صعب جداً.
في موسم الحج، وعلى ملأٍ من الأعداد الهائلة من حجاج المسلمين القادمين من كل بلد، جمع عماله وولاته جميعاً، ووقف فيهم خطيباً قال:
أيها الناس، إني والله لا أبعث عمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعِل به سوى ذلك فليرفعه إليّ، فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص.
أنا عينتهم ولاة كي يعلموكم دينكم وسنة رسولكم، أما أن يضربوا جلودكم، ويأكلوا أموالكم فليس هذا من مهمته.
يظهر أن سيدنا عمرو بن العاص وجد أن هذا الكلام لا يناسبه، أن يثير الناس على الولاة، ضعَّف هيبة الولاة، فقال له: الذي رأى في هذا الحض خطراً على هيبة الولادة، قال له:
ـ أرأيت إن كان رجل من المسلمين والياً على رعيةٍ، فأدَّب بعضهم أتقتص منه ؟
ـ عمر: إي والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص بنفسه ويقول:
((من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه))
( من مجمع الزوائد: عن " ابن عباس " )
ألا يكفي قدوة لنا ؟
والحديث عنه يطول ـ وقصته في هذا الكتاب أطول قصة، إن شاء الله في دروس قادمة نتابع الحديث.
لكن البارحة قرأت في كتاب آخر كلمة أثارت كل مشاعري، قال: خطب امرأةً وهو أمير المؤمنين فرفضت، فهل سمعتم في حياتكم أمير مؤمنين يخطب امرأة فترفض ؟ فلما سئلت: لماذا لم تقبلي ؟ قالت: إنه في حياته خشن، بيته ليس فيه شيء، متقشف، وهو علينا شديد.
فقال الكاتب: إن رفض هذه المرأة الزواج من أمير المؤمنين هي أكبر شهادةٍ ترفعه إلى الأوج، في حين أن مئات النساء لو تهافتن عليه ما كانت كل هذه الحوادث لتكون شهادة حسن سلوك، أما سيدنا عمر يخطب امرأة، وهو خليفة المسلمين، فتأبى، لا تريد، ويحك أمير المؤمنين !! قالت: إنه رأى آخرته فذهل بها عن دنياه، وإنه يرى ربه، وكأنه يحاسبه.
له صفة عجيبة، فأن ترفض امرأةٌ الزواج من عمر، هذه شهادةٌ وأية شهادة.
على كلٍ بهذه القصص تحيى القلوب، بهذه القصص تتعطر المجالس، فإذا كان الإنسان أبًا فليقتدِ بسيدنا عمر، إذا كان معلمًا، إذا رفعه الله على عشرة أشخاص بمعمل، بدائرة، بمستشفى، كان طبيبًا، كان عنده مرضى، عنده موظفون، يقتدي بسيدنا عمر في أخلاقه، في تواضعه، في مساواته للناس، في اعترافه بخطئه، في قبوله للنصيحة، في قبوله للاعتراض والنقد، في أن يكون مع الناس سواءً بسواء، هذه كلها أولاً: نتأثر بها، وثانياً: يجب أن نقتدي بها.


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:44 AM   #22


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( العشرون )

الموضوع : باب المجاهدة - 3 - فضل المجاهدة - الحديث القدسى -يا عبادى انى حرمت الظلم على نفسى -1






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هو المقصود من نص الحديث كلمة: (يا عبادي) :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في الحديث النبوي الشريف, وفي باب المجاهدة .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي, إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا, يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ, فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ, فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ, فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ, يَا عِبَادِي, إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ, فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
[أخرجه مسلم في الصحيح وأحمد في مسنده]
قَالَ سَعِيدٌ:
((كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ))
وقال أحمد بن حنبل: ((ليس لأهل الشام حديثٌ أشرف من هذا الحديث))
هذا الحديث طويل، وقرأته بسرعة غير إملائية، لأننا سوف نقف في بعض أجزائه إن شاء الله تعالى وقفات طويلة .
ربنا سبحانه وتعالى يقول: يا عبادي؛ هذا نسب تشريف، لما ربنا عز وجل ينسب العباد إلى ذاته .
أحياناَ يقول الأب لابنه: يا بني أنت ابني، فلو أن الإنسان كان على درجة ما, من الحساسية، من رقة الشعور، لذاب لهذه الكلمة، هل أنت من عباد الله؟ ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾
[سورة الفرقان الآية: 63-66]
الآيات طويلة، هذه الآيات تصف عباد الله، تصف عباد الرحمن، فالحقيقة: ثمة نَسَب بالضرورة، ونسب حقيقي، فكلنا عباد الله، لكن مَن منا في مستوى هذه العبودية لله، هنا المشكلة، كل إنسان على وجه الأرض بشكل أو بآخر، شاء أو أبى, هو عبد لله، لكن بين أن يكون هذا العبد عبداً حقيقة، وبين أن يكون هذا العبد عبداً شكلاً، فما دمت إنساناً على وجه الأرض تمشي, فأنت عبد لله، لكن شتان ما أبعد الثرى عن الثريا، ما أبعد الإنسان أن يكون عبداً لله بالضرورة، وأن يكون عبداً لله بالحقيقة .
لذلك: يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام, حينما وصل إلى سدرة المنتهى، هكذا تروي بعض الروايات، قال: ((يا محمد اطلب تعط، قال: يا رب اجعلني عبدك))
اجعلني في مقام العبودية, فهو أشرف مقام يناله الإنسان، فالإنسان كلما كان عبداً لله, كلما رفعه الله عز وجل، وهل من مخلوق على وجه الأرض نال من العز، والرفعة، والتكريم ما نال النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنه كان عبداً لله قال: ((إنما أنا عبد, آكل كما يأكل العبد، وأنام كما ينام العبد))
دخل عليه رجل, فأصابته رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هَوِّن عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش, كانت تأكل القديد في هذه البطحاء))
فمعاني العبودية معاني كثيرة جداً، فأنت في مستوى العبودية، فإذا تطلَّع الإنسان إلى ما لا يليق به, فقد تجاوز حد العبودية، إذا كَفَّر فلاناً أو علاناً, فقد تجاوز حد العبودية، إذا قال: سيكون كذا أو كذا, فقد تجاوز حد العبودية, ربنا عز وجل قال: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 50]
سيد المرسلين، وإمام الأنبياء، وحبيب الله، وسيد ولد آدم, قال:
((لا أعلم الغيب))
لذلك أية جهة على وجه الأرض, مهما علا شأنها، إذا ادعت أنها تعلم الغيب, فهي كاذبة، لا يعلم الغيب إلا الله, قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً﴾
[سورة الجن الآية: 26]
انظر فمراتب العبودية لا تعلم الغيب .
آية ثانية: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾
[سورة الأنعام الآية: 15]
فهذا الذي يعصي ولا يخاف, ليس عبداً لله، من لوازم العبودية: أن الذي يعصي, لا بد من أن يدفع الثمن، لو تيقنت من هذه الحقيقة, لكنت إنساناً آخر .
آية ثالثة: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾
[سورة الأعراف الآية: 188]
أنا عندي سؤال لكم، سؤال يجب أن يسأله كل إنسان يسأل نفسه: هل أنا عبد لله؟ هل أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم؟ هذا الذي يعصي كيف يتوازن مع ذاته؟ كيف ينام الليل؟ كيف يطمئن؟ أن يسخط الله عنه وهو يضحك؟! .
سيدنا عمر يقول: ((عجبت لثلاث؛ عجبت لمؤملٍ والموت يطلبه, وعجبت لغافل وليس بمغفول عنه، وعجبت لضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط عنه الله أو راضٍ؟))
فلذلك: كلمة: يا عبادي, هذه كلمة، لما ربنا عز وجل قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
[سورة الذاريات الآية: 56]
العبادة أن تطيعه طاعة طوعية، ولن تستطيع أن تطيعه هذه الطاعة الطوعية, إلا إذا عرفته معرفة يقينية، إذا أطعته هذه الطاعة الطوعية المبنية على معرفةٍ يقينية، فلا بد من أن تفضي بك إلى سعادة أبدية في الدنيا والآخرة .
لذلك تكاد تكون العبادة كما أرادها الله عز وجل علة الخَلق، يعني خلقك ليسعدك، ولن تسعد إلا إذا أطعته، ولن تطيعه إلا إذا عرفته، لذلك العدو رقم واحد في حياة الإنسان, هو الجهل، ذلك قال الله عز وجل: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾
[سورة طه الآية: 114]
قال الإمام الشافعي: إذا أدرت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، إن الله عالم يحب كل عالم، لذلك ما طرح ربنا عز وجل في القرآن الكريم قيمةً يتفاضل بها الناس، إلا قيمة واحدة، ألا وهي قيمة العلم, قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
[سورة الزمر الآية: 9]
يكاد يكون طلب العلم فريضةً على كل مسلم، بل حقيقة طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لذلك الإنسان بلا علم كالبهيمة، يأخذ من كل حيوان بعض أخلاقه، لكن الذي يتعلَّم العِلم الشريف, فهذا الذي يرقي إلى مستوى الإنسان .
فدائماً في بالي هذا الموضوع: هل نحن في مستوى أن نكون عباداً لله عز وجل؟ العبد مطيع، العبد مستسلم، العبد متوكل، العبد راضٍ، العبد يصبر, قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
[سورة الإنسان الآية: 24]
الإنسان أحياناً يقرأ آية، معناها سهل وواضح، لكن أحياناً يتفاعل معها، ربنا عز وجل يخاطبك أيها العبد, يقول لك: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
[سورة الإنسان الآية: 24]
أي يا عبدي, إذا ما استوعبت شيئًا، أو لم تفهمه, أو وجدت في قسوة فاصبر، وسوف ترى أن الصبر مفتاح الفرج، واصبر وما صبرك إلا بالله، يعاب من يشكو الرحيم إلا الذي لا يرحم، الصبر نصف الإيمان، الإيمان نصف صبر، ونصف شكر، الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، إذا كنت عبداً لله, يجب أن تصبر، هذه مشيئته، هذا المحبوب هو أراد ذلك، كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادته متعلقةٌ بالحكم، والحكمة متعلقةٌ بالخير المطلق، الشيء قبل أن يقع اسع واجتهد، لكن ما دام قد وقع, فقد أراده الله، وما دام الله قد أراده, فإن هذا الشيء فيه حكمة بالغة، وهذه الحكمة متعلقة بالخير المطلق، ولكن اصبر وسوف ترى أن الله سبحانه وتعالى, يريك طرفاً من حكمة هذا الشيء .
لذلك أهل الجنة إذا دخلوا الجنة, يلخِّصون علاقاتهم كلها مع ربهم, منذ أن خلقهم ربهم, إلى أن أدخلهم الجنة بكلمة واحدة, وهي: الحمد لله رب العالمين .
في الدرس الماضي ذكرت بعض الملاحظات, حول السير في طريق الإيمان، الحقيقة خطر في بالي مثل: أن الإنسان أحياناً لكي يتحرك إلى الله عز وجل، حتى يتصل بالله، في شروط لا بد من توافرها، أنت اشتريت آلة، وهذه الآلة معلق عليها آمال كبيرة، أخي إنتاجها بالساعة أربعون ألف قطعة، القطعة فيها ربح مئة بالمئة، هذه الآلة لها شروط، تحتاج إلى تركيب معين، إلى مواد أولية معينة، إلى صيانة معينة، فإذا أنت أهملت هذه الشروط, تتوقف الآلة، ويتوقف معها الربح .
فإذا كنت أنت حريصا على الاتصال بالله عز وجل, فهناك شروط، لذلك الفرق بين الثقافة الدينية والسير في طريق الإيمان فرقٌ شاسع، أنت يمكن ألاّ يكون عندك بيت، وليس بإمكانك أن تشتري بيتًا، لكن جلست مع مهندس, أراك خرائط لبناء ضخم، وعلى قدر ما وجدت معادلات, وزوايا, وحساب، ما هذا المهندس، إنسان عظيم، أنت بلا بيت، لا يوجد عندك بيت، لكن هذا المهندس أعطاك نماذج من حساباته الدقيقة، شيء يأخذ بالألباب، ثلاث عشرة خريطة، هذا أول طابق، هذه الأساسات، هذا ثاني طابق، هنا معدل الإسمنت، هنا قوى الضغط، هنا قوى الشد، ما هذا؟ .
فإذا علمك إنسان شيئًا من الدين، أعطاك أحكامًا معينة، فأنت تعجب بهذه الأحكام، لكن إذا دلك إنسان على الله عز وجل, حيث تسكن في بيت، فشتان بين أن ترى خرائط رائعة، وتعجب بالمهندس، وبين أن تسكن في بيت مريح، مرتب، مفروش، منظَّم، متين، فالطريق إلى الله عز وجل أعظم من الثقافة الإسلامية، الإنسان يقرأ كتابًا فيتثقف في الإسلام، يقرأ كتابًا ، يسمع محاضرة، يسمع شريطًا أحياناً، يقول لك: هذا شيء جميل، والله خطبة رائعة، أهذه هي العملية؟! العملية أخطر من ذلك، وأعقد من ذلك, إذا أنت لم توفر الشروط للسير إلى الله عز وجل، فهذا الذي تعلمته أو سمعته, لا يعدو أن يكون ثقافة، معلومات إسلامية محشورة بالذهن فقط، لكن من أجل أن تسعد بالله عز وجل، يجب أن توفِّر جميع الشروط, التي تعينك على الاتصال به .
فأولاً: الاستقامة، فإذا ظنّ الواحد الدين عملية سماع دروس، وذهاب إلى المسجد، وعودة من المسجد، ولم يلتزم التزامًا صحيحًا، فهذا البرميل متى يُملأ؟ إذا كان له قعر، الاستقامة هي القعر، ولكن لا يوجد قعر، إذاً: هناك خلل، ثقب صغير, يفرغه في ربع ساعة، إذا لم يكن له قعر, فلا يُملأ إطلاقاً، فلما لا يستقيم الإنسان, كل شيء يسمعه, ليس له أثر في حياته، فقط محسوب على المسلمين، محسوب عند الناس, أن هذا صاحب دين، هذا من الجامع الفلاني، فإذا لم يستقم, لم يقطف ثمار الدين، فحتى يتعامل مع الله تعاملا صحيحًا، حتى يتعامل معه تعامل الصلح، والصلح مبني على التوبة، وعلى العبودية لله عز وجل .
فلهذا لما يقول ربنا عز وجل: يا عبادي, معنى ذاك: أنك يجب أن تكون عبداً لله في الطاعة، وفي الاتصال، وفي التقرب، وفي التوكل، وفي الصبر، وفي الاستسلام، وفي الانقياد ، وفي كل الصفات التي وجب أن تكون متحلياً بها .
فهذا الذي أقوله نابع من حرصي عليكم، إذا كان أحدنا لم يعمل مراجعات وحسابات مع نفسه، هناك خلل ومخالفات بالدخل، بالتعامل مع الناس، بالعلاقات الاجتماعية، بالصرف، بإنفاق المال، بكسب المال، باللسان: يا ترى أنا لساني فيه مخالفات؟ عشرون آفة من آفات اللسان مرت معنا في إحياء علوم الدين؟ يا ترى أنا مطهر لساني من هذه الآفات؟ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ, وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده]
يا ترى لساني مطهر؟ يا ترى عيني هل تنظر إلى عورات المسلمين؟ تتبع عينك منظر امرأة؟ يا ترى أذني هل تستمع إلى شيء باطل؟ هل تستمع إلى ما حرمه الله من غناء، من لهو، من غيبة، من نميمة، من فحش، من بذاءة، من مزاح رخيص؟ يا ترى أنت ضبطت بصرك، ضبطت سمعك، ضبطت تفكيرك؟ الخواطر الشريرة العقاب عليها, أنها ربما أصبحت أفعالاً تحاسب عليها؟ يا ترى ضبطنا عيوننا، ضبطنا آذاننا، ضبطنا خواطرنا، ضبطنا أيدينا, ضبطنا أرجلنا، ضبطنا علاقاتنا الاجتماعية في البيت، ضبطنا علاقاتنا مع الزوجة، مع الأولاد ، مع البنات، مع الجيران، مع الزبائن، مع المراجعين إذا كنت موظفًا؟ .
فلما يضبط الإنسان علاقاته مع الله عز وجل, يصبح إنسانًا آخر، ربنا عز وجل يتجلى على قلبه، يقول لك: ليس هناك أسعد مني، وهذه من علامة الإيمان، إذا التقيت مع إنسان مؤمن حقاً, يشعر أن الدنيا ترقص له، لأن الله عز وجل راض عنه، إذا كنت عنا راضياً فهو قصدنا, صدق القائل:
فـليتـك تحلـو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبــينك عامر وبيـني وبين العالمين خراب
فالذي أرجوه وأتمناه عليكم, حتى الإنسان يكسب حياته، وحتى يصل إلى ثمرة يانعة, يقطفها في الدنيا قبل الآخرة، عليه أن يضبط علاقاته الاجتماعية، وعلاقاته مع ربه، ليست القضية قضية حضور، وليست القضية قضية سماع، ولا القضية قضية كتابة، ولا القضية فهم, ولا القضية تكلم، القضية قضية التزام كامل في الإسلام، فمَن شاء أن يتزود بالثقافة الإسلامية, فالقضية سهلة جداً، منابع الثقافة الإسلامية واسعة جداً؛ كتب لا تعد ولا تحصى، خطب، دروس، محاضرات، كل شيء متوافر، ولكن أثمن ما في الإسلام, هو أن تسير إلى الله عز وجل، هذا السير يريد مجاهدة .
ألخص لكم هذه الكلمة بقول الإمام الغزالي رضي الله عنه: جاهد تشاهد، عندما تستقيم استقامة كاملة الله عز وجل, يفتح لك حجاب، لما يحصل هذا الاتصال مع الله عز وجل، ويأتيك هذا التجلي, فكأنك إنسان آخر، وتقول، وأنا معك في هذا القول: إنني ولدت من جديد، إنني إنسان آخر، فلذلك: ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام بأصحابه؟ كانوا أشخاصًا في الجاهلية, فجعل منهم أناساً كأنهم فوق البشر، كأنهم ملائكة، هم بشر، ولكنهم كالملائكة، لأنه ضبطهم ووجههم إلى الله عز وجل, قال تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 164]
فنحن لا نريد إنسانًا يقول: لي سنتان، ثلاث، خمس، حتى يكون هذا الزمن, قد استهلكه من أروع طريقة, يجب أن تلتزم بأمر الله .
فربنا عز وجل قال: يا عبادي، وكأنه يريد أن نكون عباده كما يريد, عبد الله لا يغضب إذا حرمه الله من الدنيا، فهو دائماً في استسلام، إذا أعطاها إياه يشكره، وإذا منعه منها يصبر، عبد الله متوكل على الله عز وجل، إذا أردت أن تكون أغنى الناس, فكن بما في يدي الله, أوثق منك بما في يديك .
الآن: في العالم الإسلامي هل هناك شرك جلي؟ لا يوجد، لو ذهبت إلى كل أقطار العالم الإسلامي من أقصاها إلى أقصاها، في محيط ألف مليون إنسان, لا يوجد شرك جلي، ما هو الشرك الجلي؟ أن تعبد بوذا، بوذا إله يعبد من دون الله، في أمم في شرق آسيا، وفي جنوب بعض البلاد, تعبده من دون الله، فهذا الشرك؛ إذا عبدوا بوذا، وجعلوه إلهاً، وجعلوا الميكادوا إلها باليابان، فهذا اسمه شرك جلي .
لكن لما يعتمد الإنسان على الأسباب؛ إذا اعتمد على ماله, فهذا شرك خفي، إذا اعتمد على أولاده, هذا شرك خفي، إذا اعتمد على زوجته, فهذا شرك خفي، إذا اعتمد على فلان وفلان, وما أدراك ما فلان؟ فهذا شرك خفي، لذلك قالوا: الاعتماد على الأسباب هو الشرك الخفي، والذي يعتمد على الأسباب معذَّبٌ دائماً، لأنه لا يخلوا من أن يخاف من فقدِ الأسباب، فالذي معتمد على ماله, ما الذي يخيفه؟ أن يذهب هذا المال، فهو في عذاب، فهو في عذاب خوف أن يذهب المال، وهو في عذاب حينما يذهب المال، إذاً: في كلا الحاليين فهو معذب بهذا الشرك، أما إذا اعتمدت على الله عز وجل, فهذا هو التوحيد .
فأردت أن أقف في هذا الحديث القدسي عند كلمة: يا عبادي، لأنها وردت مرة, اثنين ، ثلاثة، مرات عديدة وردت، يا عبادي، وكأن الله سبحانه وتعالى ينسب عباده إلى ذاته العلية ، وهذا نسب تشريف، فربنا عز وجل شرفنا, وقال: يا عبادي، فإذا كان للمسلم أخطاء، وعليه ذنوب, فليتلُ قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[سورة الزمر الآية: 53]
استغل ضربات القلب، ما دام القلب يضرب, فالباب مفتوح، استغلها ما دام في الحياة بقية، ما دام فيك رمق، ما دام هناك أمد في الحياة, فباب التوبة مفتوح على مصراعيه, قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[سورة الزمر الآية: 53]
إليكم المعنى الرئيسي من شق هذا الحديث: ( يا عبادي ............ فلا تظالموا) :
الشيء الثاني: يقول الله في هذا الحديث القدسي: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))
تظالموا على وزن تفاعلوا، وزن تفاعل فيه مشاركة، إذا قلنا: فلان أرسل إلى فلان رسالة، عندنا مرسِل، وعندنا مرسَل إليه، إذا قلنا: فلان قتل حشرةً، عندنا قاتل، وعندنا مقتول ، فوزن فعل: قتل، أرسل، هذا يفيد أن هناك فاعل، وهناك مفعول به، لكن إذا قلنا: راسل، هو أرسل رسالة, فهو فاعل، وتلقى رسالة، فهذا الفعل على وزن فاعل, فيه مشاركة، فنقول: قاوم ، ناضل، قاتل، راسل، ناوش، دافع، فهذا الوزن وزن مشاركة .
فربنا قال: لا تظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضاً، أحياناً الإنسان يظلم المشتري بالعسر، قال له: هذه بضاعة أجنبية، وهي غير أجنبية، أخذ منه سعرًا عاليًا، هذا بللور ياباني ، وهو بللور وطني، صنّفه مع الأجنبي، أخذ ثمنه ثلاثمائة ليرة، هذا ظالم، ظلمته بالسعر، أو ظلمته بالنوع، أو ظلمته بالكمية، تجد الكمية أقل مما يجب، فهناك ظلم بالكمية، وظلم بالنوعية ، وظلم بالسعر، فهذا كله ظلم، لا تظالموا .
أحياناً الإنسان يظلم زوجته، أحياناً هي تظلمه، لا تعطيه حقه؛ له عندها حق، تمنعه حقه، وقد يمنعها حقها، أحياناً الإنسان يظلم أولاده، أحياناً الأولاد يظلمون أباهم، أحياناً يظلم الإنسان جاره، فكل أنواع الاعتداءات هو ظلم، أي تجاوز الحق إلى حق الآخرين، لذلك ربنا عز وجل قال: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))
لذلك تكلمنا قبل قليل: لو سمعت مليون قصة مفادها: أن فلانا أو علاناً يعلم الغيب, فهذه القصص كلها كاذبة، قولاً واحداً، الآن لو سمعت مليون قصة، أن هناك ظلمٌ بين العباد, فهذه القصص كلها غير صحيحة، في ظلم ظاهري، وربنا عز وجل قال: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾
[سورة الإسراء الآية: 71]
﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾
[سورة الكهف الآية: 49]
﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾
[سورة الروم الآية: 9]
فهذه الآيات والأحاديث تفيد أنه لا ظلم، هناك ظلم ظاهري، ولكن ليس بظلم حقيقي .
في آخر الحديث القدسي فقرة هي الحقيقة، يسمونها بيت القصيد، آخر الحديث يقول الله سبحانه وتعالى:
((يا عبادي, إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك, فلا يلومن إلا نفسه))
((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا .. ))
طبعاً هذه فلا تظالموا، هذه تعقيب عليها: ((فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))
إن شاء الله في درس قادم، نتابع شرح هذا الحديث القدسي، وهو من الأحاديث التي فيها أسس كبيرة من أسس التوحيد .
ما قصة هذه المقولة : (متى استعبدتم الناس .......) :
والآن إلى سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه .
سيدنا عمر له قصةٌ مع سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقد وفد على سيدنا عمر فتىً مكروب حزين من مصر، هذا الفتى وفد عليه, وقال: ((يا أمير المؤمنين, هذا مقام العائذ بك .
سيدنا عمر يستوضح من هذا الفتى الأمر، فعلم أن محمد بن عمرو بن العاص قد أوجعه ضرباً، لأنه سابقه فسبقه، فعلا ظهره بالسوط، وهو يقول: خذها وأنت ابن الأكرمين، ابن سيدنا عمرو بن العاص, هو الذي فتح مصر .
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, دعا عمرو بن العاص وابنه محمداً، قال الكاتب: ولندع أنس بن مالك رضي الله عنه, يروي لنا النبأ, كما شهده ورآه، قال: فو الله إنا لجلوس عند عمر، وإذا بعمرو بن العاص يقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمر يتلفَّت باحثاً عن ابنه محمد، فإذا هو خلف أبيه، فقال: أين المصري؟.
فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين .
فقال عمر: خذ الدرة، واضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، يظهر أن قلبه ملئ منه .
يقول سيدنا مالك ابن أنس: ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع عن الضرب حتى أحببنا أن ينزع، اشتهينا مرة ثانية أن يوقف عن الضرب، من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين .
عندئذٍ قال هذا الرجل: يا أمير المؤمنين, قد استوفيت، واشتفيت، وضربت مَن ضربني.
عندئذٍ يقول عمر: أما والله, لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه, حتى تكون أنت الذي تدعه.
والتفت إلى عمرو بن العاص, وقال: يا عمرو، متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ .
-هذه المقولة تعد هي المادة الأساسية في حقوق الإنسان، فالغرب يطبل، ويزمر, ويملأ الدنيا صخباً وضجيجاً, لأنه أقر حقوق الإنسان، سيدنا عمر قبل ألف وأربعمائة عامٍ وزيادة قال:
((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟))
((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى))
مر أحد الصحابة فيما أذكر, مر بساعة انفعال, أو غضب، أو غلط, فقال لسيدنا بلال: ((يا بن السوداء، فبلغ هذا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا فلان, إنك امرؤ فيك جاهلية))
-ماذا فعل فلان؟- وضع رأسه على الأرض, ليضع بلال قدمه فوق رأسه, فلعل النبي يرضى)) قال له: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟، ثم التفت سيدنا عمر إلى المصري، وقال: انصرف راشداً، فإن رابك ريب فاكتب إلي)) أي شيء يحصل بلغني، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: ((عدل ساعة أفضل من عبادة ستين عاماً))
من ذكريات سعيد بن عامر الجمحي :
الآن له مواقف من ولاته، له موقف صارم جداً من أحد الولاة, واسمه سعيد بن عامر الجُمَحِيّ، هذا سعيد بن عامر الجمحي، في عنده حالة إغماء من حين إلى آخر، يكون واقفاً فيقع فجأةً، فمرة سأله: لماذا أنت هكذا؟ .
هذا سيدنا سعيد ابن عامر الجمحي, كان مشركاً قبل أن يسلم، وقد حضر مصرع خبيب، فسيدنا خبيب وقع أسيراً بيد قريش، وأرادت أن تصلبه، وأن تقتله، فتقدم منه سيدنا معاوية, قال له: ((يا خبيب, أتحب أن يكون محمد مكانك؟ فقال خبيب: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة, يقول سيدنا معاوية : والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً
-سيدنا سعيد بن عامر الجمحي, كان يشهد مصرع خبيب، وكان مشركاً، وكان بإمكانه أن ينقذه فما فعل- فيقول: كلما تذكرت موقفي يوم مصرع خبيب، تأتيني هذه الغاشية, يقع مغمياً عليه))
ما هي الشكوى التي أرسلت إلى عمر ضد واليه سعيد بن عامر الجمحي, وماذا أجاب الوالي
فذات يوم تلقى شكوى ضد والٍ له هو سعيد بن عامر الجمحي، في هذه الشكوى ثلاثة بنود؛ البند الأول: أنه لا يخرج إلى الناس حتى يتعالى النار، والبند الثاني: أنه لا يجيب أحداً بليل، والبند الثالث: أنه يغيب عن الناس كل شهر يوماً، فلا يرى أحداً ولا يراه أحد .
سيدنا عمر, استدعاه وواجهه بالبنود الثلاثة أو بالشاكين، وقال لهم: ((تكلموا .
فقالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار .
فقال: أجبهم .
فقال: والله يا أمير المؤمنين, إن كنت لأكره ذكر السبب، ليس لأهلي خادم, فأنا أعجن معهم عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ وأخرج إليهم، ما عندي خادم ، وأعين أهلي .
وأشرقت أسارير عمر، فقد بدا أنه لن يساء في رجل وثق في دينه، ثم قال للشاكين: وماذا أيضاً؟ .
قالوا: لا يجيب أحداً بليل .
فقال سعيد: والله إني كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم، والليل لله عز وجل، هذا وقت العبادة .
قال عمر: وماذا أيضاً؟ .
قالوا: إن له في الشهر يوماً لا يقابل فيه أحداً .
فقال سعيد: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ففي هذا اليوم أغسلها، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم آخر النهار .
سيدنا عمر غمره البشر والحبور, وقال: الحمد لله الذي لم يخيب فراستي فيه))
يعني جاءت الإجابات مقنعة .
لماذا استدعى عمر واليه على حمص عمير بن سعيد, وماذا رأى عمر من حال هذا الوالي ؟
في مرة أرسل إلى عُمَيْر بن سعيد واليه على حمص، أرسل له كتابًا, مضت سنوات لم يبعث له أي خبر، أو أي رسالة، أو أي رسول، فخاف أن يكون هذا الإنسان قد انحرف، فاستدعاه .
قال: ((وذات يوم, شهدت شوارع المدينة, رجل أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاد يقتلع قدميه من الأرض اقتلاعاً, من طول ما لاقى من عناء السفر, وبذل الجهد، على كتفه اليمنى جرابٌ وقصعة، وعلى كتفه اليسرى قربةٌ صغيرة فيها ماء، ليتوكأ على عصا، ولا يؤده حمله الضامر الوهنان، ودلف إلى مجلس عمر في خطواتٍ وئيدة، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين .
يرد عمر السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه, من جهد وإعياء, ما شأنك يا عمير؟! .
قال: شأني كما ترى، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنيها .
قال: وماذا معك؟ .
قال: معي جرابي, أحمل به زادي، وقصعتي آكل فيها، وأداتي أحمل فيه وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض، فو الله ما الدنيا إلا هذا المتاع، -هذه هي الدنيا- .
قال عمر: أجئت ماشياً؟ .
قال: نعم .
قال: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها؟ .
قال: إنهم لم يفعلوا، وأنا لم أسألهم، جئتك ماشياً .
قال: فماذا عملت فيما عهدنا إليك؟ ما هي أخبارك؟ وماذا فعلت في تلك الفترة؟ .
قال: أتيت البلد التي بعثتني إليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم, حتى إذا جمعوها, وضعتها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لجئتك به، أموال الأغنياء أعطيتها للفقراء .
فقال عمر للكاتب وهو منبهر: جدد العهد لعمير .
فقال عُمير له: تلك أيام قد خلت، والله لا عملت لك, ولا لأحدٍ بعدك، انتهت المسألة, ثم حاول، فقال له: انتهت هذه, مضت تلك أيام خلت، والله ما عملت لك, ولا لأحدٍ بعدك))
ورع عمر :
قال: والويل الشديد للوالي, إذا فكر أن يهدي لعمر هدية، والحق أنهم جميعاً كانوا من الفطنة, حيث لم يتورَّطوا قط في هذا .
لكن ذات يومٍ, عاد سيدنا عمر إلى داره, فرأى رقعة من سجاد, لا تزيد عن متر وبعض المتر، فسأل عاتكة زوجته: أنى لك هذه؟ .
قالت: أهداها إلينا أبو موسى الأشعري .
فقال: ائتوني به .
ويأتي أبو موسى تسبقه مخاوفه، ولا يكاد يقترب من عمر, حتى ينهره, ويقول: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين, ولكن أمير المؤمنين يقول له: وما يحملك على أن تهدي إلينا؟ خذها فلا حاجة لنا فيها .
تأمل في هذا :
مرة أحد ولاته أنزل جزاء بأحد ولاته، سيدنا عمر عاقب أحد ولاته، زوجته عاتكة انتهزت ساعةً من ساعات صفوه, وفراغه, وهدوئه, وشفعت للرجل، فقالت له كلمتان فقط: ((يا أمير المؤمنين, فيما وجدت عليه؟!! .
قال: وهناك انتفض عمر, كأنما انهد من دين الله ركن، وصاح فيها: يا عدوة الله, وفيما أنتِ وهذا؟))
هل هذا شغلك؟ ما قالت: إلا يا أمير المؤمنين, فيما وجدت عليه؟ لماذا غضبت منه؟ .
من أخبار عمر بن الخطاب :
جاء أيضاً في خبر, عن عبد الله بن عامر بن ربيعة, قال: ((صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة في الحج، ثم رجعنا، فما ضرب له فسطاط, ولا خباء، ولا كان لنا بناءٌ نستظل به، إنما يلقي كساء على شجرة فيستظل تحته .
ويقول بشار بن نمير: سألني عمر: كم أنفقنا يا بشار في هذه الحجة؟ .
قلت: خمسة عشر ديناراً .
فقال: لقد أسرفنا في هذا المال))
مع الأيام كانت تزداد تبعات سيدنا عمر، وتزداد احتياجاته ونفقاته، فكان يرفع رواتب المسلمين في المدينة وخارجها، كلما صارت أزمات يرفع الرواتب، لكنه لا يفكر في أن يزيد لنفسه درهماً، ترفع جميع الرواتب إلا راتبه، حتى سمع أصحابه يوماً, أن أمير المؤمنين يقترض ليعيش، فاجتمع نفر من الصحابة منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، واتفقوا على أن يتحدثوا مع عمر، ويطلبوا إليه أن يزيد في راتبه ومخصصاته، لكنهم عادوا، وتهيَّبوا، وخافوا أن يفتحوا معه هذا الموضوع، لأنهم يعرفون أنه في هذه المسألة بالذات شديد الوطأة، لافح الغضب، فقال عثمان: ((فلنستبرئ ما عنده من وراء الوراء، واتجهوا إلى حفصة بنت عمر، واستكتموها أمرهم، وطلبوا منها أن تستطلع أمر أبيها، وذهبت حفصة إلى عمر متهيبةً، وأخذت تسوق الحديث بحذر ورفق, قال عمر: من بعثك بهذا الأمر؟ .
قالت: لا أحد .
قال: بل بعثك بهذا قومٌ, لو عرفتهم لحاسبتهم، ثم قال لابنته: يا حفصة, لقد كنت زوجة رسول الله، فماذا كان يقتني في بيتك من الملبس؟ .
قالت: ثوبين اثنين .
قال: فما أطيب طعمةٍ رأيته يأكلها؟ .
قالت: خبز شعيرٍ طري مثرودٍ بالسمن.
قال: فما أوطأ فراشٍ كان لك في بيتك؟ .
قالت: كساءٌ ثخين, نبسطه في الصيف، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثرنا بنصفه الثاني .
فقال: يا حفصة، فأبلغي الذين أرسلوك إلي، إن مثلي ومثل صاحبي النبي وأبي بكر, كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزوَّد فبلغ المنزل، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم الثالث، فإن لزم طريقهما، ورضي بزادهما، لحق بهما، وإن سلك غير طريقهما, لم يجتمع بهما))
واقعة حدثت :
يقولون: ((في يوم صائف قائظ, يكاد حره يذيب الجبال، أطل عثمان بن عفان من بيته العالي, فرأى رجلاً يسوق أمامه بعيرين صغيرين، والهواء الساخن يغشاه كلفح السموم، فقال محدثاً نفسه: ما على هذا الرجل لو أقام بالمدينة حتى يبرِد؟ وأمر خادمه أن ينظر من هذا الرجل العابر من بعيد، والذي تخفي الزوبعة والرمال السافيات معالمه, ونظر الخادم من فرجة الباب فقال: أرى رجلاً معمماً بردائه، يسوق بكرين أمامه، وانتظر حتى اقترب الرجل، فعرفه الخادم وصاح : إنه عمر، إنه أمير المؤمنين .
فأخرج عثمان رأسه من كوةٍ صغيرة متوقياً سخونة الريح, ونادى: ما أخرجك هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ .
فأجاب عمر: بكران من إبل الصدقة, تخلَّفا عن الحمى، وخشيت أن يضيعا، فيسألني الله عنهما .
فقال عثمان: هلم إلى الظل والماء، ونحن نكفيك هذا الأمر .
فقال عمر: عد إلى ظلك يا عثمان .
فقال: عندنا من يكفيك هذا الأمر يا أمير المؤمنين .
قال مرة أخرى: عد إلى ظلك يا عثمان، ومضى لسبيله, والحر يصهر الصخر، فقال عثمان مأخوذاً ومبهوراً: من أراد أن ينظر إلى القوي الأمين, فلينظر إلى عمر))
قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
[سورة القصص الآية: 26]
خاتمة القول عن خليفة الإسلام عمر بن الخطاب :
حُمِلَ إليه يوماً مالٌ وفير من أحد الأقاليم، فسأل عن مصدره, وسر وفرته, وكثرته، فلما علم أنها الزكاة التي يدفعها المسلمون، والجزية التي يدفعها أهل الكتاب، قال وهو ينظر إليه بكثرة عارمة: ((إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ .
قالوا: لا والله، ما أخذنا إلا صفواً عفواً .
قال: بلا سوطٍ ولا موت؟ .
قالوا: نعم .
عندئذ أشرق وجهه, وقال: الحمد الله الذي لم يجعل ذلك عليَّ، ولا في سلطاني))
هذه بعض اللقطات من سيرة هذا الإمام العادل؛ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
نهاية المطاف :
أيها الأخوة, الإسلام يصنع رجال, والله هم فوق الرجال، هم إلى أن يكونوا ملائكةً أقرب إلى أن يكونوا من الرجال، وباب البطولة مفتوح، كل واحد بقدر صدقة، بقدر استقامته، بقدر عمله الصالح، بقدر تضحياته، بقدر إقباله، ينال من الله، فالإنسان لا يقنع بالقليل: أنا أريد وراء الباب بالجنة, لا، بل اطلب المراتب العليا .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:48 AM   #23


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الحادى و العشرون )

الموضوع : باب المجاهدة - 4 - الحديث القدسى -يا عبادى انى حرمت الظلم على نفسى -2








لحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إليكم بيان هذا المعنى الواسع من قول النبي: (كلكم ضال..........أهدكم) :
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا مع الحديث النبوي الشريف، والحديث القدسي الذي بدأنا تفسيره في الدرس الماضي، مطلعه: أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي, كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم ...))
الفضاء الخارجي الأصل فيه الظلام، والنور في الفضاء الخارجي مخلوق، فإذا ترك الإنسان نفسه على سجيَّتها, من دون أن يتعلم، من دون أن يتفقه، من دون أن يتأمل، من دون أن يبحث عن الهدى, فهو ضال، فالإنسان على الفطرة .
لو الإنسان مثلاً مارس حياته المادية؛ من طعام، وشراب، ونكاح، وعمل، وكسب للمال، وإنفاق للمال، هذا المستوى لا يزيد عن مستوى البهيمية، طعام, وشراب, ومتعة، أما حينما يبحث الإنسان عن الحقيقة، ارتقى من المستوى المادي الحيواني إلى المستوى الإنساني ، حينما تبحث عن الحقيقة، حينما تبحث عن عقيدةٍ صحيحة مطابقة للواقع، فالإنسان من دون عقيدة، من دون هدى, يعيش حياة مادية، لا تزيد على كسب للمال وإنفاق له؛ في الطعام والشراب, والمتعة .
فالإنسان وفق هذا الحديث:
((كلكم ضال))
بمعنى أنه ما لم يبحث عن الحقيقة، ما لم يتقصى فلسفة صحيحة، عقيدة مضبوطة، فهو ضال، وربنا عز وجل في القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
[سورة الأنعام الآية: 153]
الحق واحد لا يتعدد، بينما الباطل متعدد, قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
[سورة الأنعام الآية: 153]
فربنا عز وجل يؤكد بهذه الآية، وفي آية ثانية أنه: ماذا بعد الحق إلا الضلال؟ إما أن تكون على الحق، وإما أن تكون ضالاً، لا يوجد عندنا حق متعدد، بالعلم الأرضي في جامعات كثيرة، في نظريات كثيرة، كلها تعطيك شهادات، لكن بالعلم الديني ليس هناك غير حق واحد؛ إما أن تكون مع خالق الكون، وإما أن تكون مع الهوى، والهوى من لوازمه الضلال، لما ربنا عز وجل قال: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة النور الآية: 35]
عندنا سموات, وأرض، عندنا كون مادي, ومجرات، وأرض، وجبال، وبحار، وأنهار، وإنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، هذا الكون المادي له نور، ما هو النور؟ أي هذا نافع، هذا ضار، هذا يزول، هذا لا يزول، هذا خير، هذا شر، هذا يُسْعِد، هذا يشقي .
الإنسان أحياناً يدخل معملا، يا ترى هذه الآلة خطيرة؟ لها استعمال خاص؟ هذه الآلة مركبة على تيار معين؟ هذه الآلة فيها قطع؟ فإذا لم ينتبه الإنسان ليده قد تقطع، فالمعمل ضخم ، لكن أحياناً يكون صاحب المعمل معه تعليمات دقيقة جداً، أو نشرة، هذه النشرة بمثابة النور, الذي يضيء للإنسان طريقة استعمال هذه الآلات .
لو دخلنا على مخبر فيه قوارير، في هذه القوارير مواد، يا ترى هذه المادة سامة؟ هذه المادة ذات طابع انفجاري؟ هذه المادة مع الماء تتفاعل تفاعل خطير مثل الصوديوم؟ هذه المادة ساكنة؟ هذه المادة ليس لها مفعول قوي؟ هذه المادة رخيصة؟ هذه المادة غالية؟ لو إنسان أعطاك هذه المعلومات حول هذه القوارير، هذه المعلومات كأنها نور، لو كتب لك على هذه القوارير معلومات تفصيلية، أو لو قال لك: هذه المعلومات شفهياً، فكأنه أضاء لك الطريق .
فربنا عز وجل خلق الكون، فإذا أراد الإنسان أن يتصل بالمرأة وفق الشرع الإلهي, الذي يضمن لك حقك وحقها وحق الأولاد، فأنت ترتاح بهذا الاتصال، هذا الزواج، فلو حدث اتصال بعيداً عن هذا المنهج، هذا الاتصال يسبب لها التعاسة والشقاء، تصبح بَغِيًّا، وأنت تحس أن الناحية الإنسانية ضعيفة فيك، لأنك تسببت بانهيار امرأة .
فهناك آلام نفسية لا حدود لها, تتأتى من اتصالك بهذه المرأة اتصالا بعيدًا عن الشرع الذي أنزله الله عز وجل، فهذا الشرع الذي بين لك علاقتك بالمرأة، يجب أن تكون وفق الزواج، بين لك علاقتك بالمال، يجب أن تكون وفق الكسب المشروع، بين لك علاقتك مع نفسك، نفسك لها حق عليك، فهذه الشرائع بمثابة النور، فربنا عز وجل قال:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة النور الآية: 35]
إذا اشترى شخص آلة معقدة، هل في الأرض جهةٌ أولى من الجهة الصانعة بإعطائك تعليمات التشغيل؟ .
لو اشترى سيارة، وأحب أن يسأل عن بعض الملابسات، هل يسأل جهة تصنع قنابل مثلاً؟ ليس لها علاقة بهذه، يسأل خبيرًا بهذه السيارة، والخبير بنى خبرته من متابعة حركاتها وسكناتها وفق تصميم المصنع، فدائماً الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة المؤهلة بإعطاء التعليمات في تشغيل السيارة .
أنت آلة معقدة، لا يوجد إلا جهة وحيدة مؤهلة, أن تعطيك التعليمات الدقيقة في تحركاتك على سطح الأرض؛ افعل ولا تفعل، الله سبحانه، هذا صحيح، هذا غلط، فربنا عز وجل لما قال:
((كلكم ضال))
أي أن كل إنسان من دون أن يستنير بنور الله فهو ضال .
أحيانا الإنسان يكتفي بعقله، فهؤلاء الأجانب أوصلهم عقلهم إلى الشقاء، ارتقى بهم رقياً مادياً لا حدود له، لكن بالمقابل على حساب حياتهم النفسية، وعلى حساب أسرهم، وعلى حساب مستقبل حياتهم، فالمستقبل إلى جهنم أحياناً، والحياة الاجتماعية متفسِّخة، والحياة الأسرية أيضاً منهارة في التقدم المادي، والإنسان استغنى عن الله عز وجل، حتى إن ربنا عز وجل لما قال:
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾
[سورة الروم الآية: 7]
حتى أهل الدنيا إذا كانوا بعيدين عن الله عز وجل، حتى أهل الدنيا لا يعرفون حقيقة الدنيا، لا يعرفون حقيقة السعادة، يسعدون بظاهرها، يسعدون بما فيها من أشياء مادية، والأشياء المادية في الحياة الدنيا لا تشكل كل السعادة، كما قال سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان))
هناك علاقات نفسية وطمأنينة، وإرضاء للضمير إن صح التعبير، وتوازن نفسي، وصحة نفسية، هذه الأشياء الأساسية في حياة الإنسان غفل الأجانب عنها، أتقنوا حياتهم المادية ، أتقنوا معيشتهم، أتقنوا جسدهم، أعطوه كل حقوقه على حساب نفوسهم، فبذلك الإنسان ضال ما لم يهتد بنور الله عز وجل، ونور الله هو هذا القرآن .
لما ربنا عز وجل يقول في الحديث القدسي:
((كلكم ضال إلا من هديته))
يعني إذا لم تبحث عن الحقيقة، لم تبحث عن سبب وجودك، ما بحثت عن سبب خلقك، ما سلكت الطريق الصحيح، ما سلكت الطريق الموصل إلى الهدف، ما عرفت بنية نفسك، لك روح، لك جسد، الجسد له حاجات؛ يحتاج إلى لباس، إلى طعام، إلى شراب، إلى زاوج، لكن في نفس تحتاج إلى استقرار، تحتاج إلى طمأنينة، هذه النفس تحتاج إلى سكينة، تحتاج توازن، فالإنسان المؤمن يشعر أنه متوازن، عنده تفسير صحيح، يعلم أن هناك إلها عظيمًا كل شيء بيده، أنى له أن يحقد، الحقد أساسه؛ أن ترى أن مع الله إلهاً آخر، الحقد أساسه؛ أن تنظر لإنسان بيده مصيرك، وهو لا يحبك، ويتمنى أن يأخذ كل ما في يديك، من هنا ينشأ الحقد .
لو أنك وحَّدت الله عز وجل، وعلمت وفق الهدى الذي أنزله الله عز وجل, أن أمر العباد موكول إلى رب العباد، تلاشى الحقد، انتهى الحسد، تنتهي الضغينة، ينتهي النفاق، ينتهي الخوف، ينتهي القلق، فالأجانب اهتموا بالجسد، ولكن أهملوا النفس، والنفس شيء ثمين جداً، ربنا عز وجل قال:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 81-82]
ربنا عز وجل في كتابه الكريم يقول: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 82 ]
هؤلاء الذين يتمتعون بنعمة الأمن, قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 82]
هذا المؤمن الذي عرف أن له رباً عظيماً، وأن هذا الرب العظيم خلقه ليُسعده، وأن هذه السعادة لها ثمن، ثمنها أن تطيعه، فبمجرد أن تطيع الله عز وجل، تشعر بسعادة، وبأمن، وباستقرار لا يوصف، فتجد المؤمن عنده سكينة، إن الله يعطي الصحة, والذكاء, والمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين .
فلو أنك التقيت مع إنسان بعيد عن الله عز وجل؛ قد يكون مظهره أنيقًا جداً، قد يعيش حياة في أعلى درجة من الرفاه، لكن لو حادثته, لوجدت أن في قلبه سعيراً، في قلبه؛ من القلق والخوف، من الحسد والضغينة، من الشعور بالإعياء، فطبعاً البعد عن الله عز وجل يسبب عمى، فيتحرك حركة عشوائية، يرى أن الناس كلهم ينتظرون أن يقع، يتربصون به الدوائر، يريد أن يكيل لكل إنسان، فالحياة النفسية المضطربة المبنية على الحسد، على الخوف، على القلق، هذه الشقاء، هذه جهنم الدنيا، لذلك قال ربنا عز وجل:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة النور الآية: 35]
الله خلق السموات والأرض، والله نور السموات والأرض، هو الذي خلقها، وهو الذي يعرف ما يسعدها، هو الذي خلق النفس، وهو وحده، وليس هناك جهةٌ أخرى, تعرف ما الذي يسعدها، لذلك حينما يطيع الإنسان الله عز وجل, انتهت كل مشاكله، هذا هو الصلح مع الله عز وجل .
أحب أن أؤكد للأخوان, أن ربنا عز وجل لا يوجد عنده حرمان، لما أنت تنوي طاعة الله عز وجل الله لا يحرمك شيئاً، لكن سوف ينظم لك حياتك، ما مِن شهوة أودعها بقلبك، أودعها بنفسك, إلا جعل لها قناة نظيفة تفرغ من خلالها، ربنا عز وجل لم يكلف الإنسان فوق طاقته، ربنا عز وجل قال:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[سورة البقرة الآية: 286]
لم يكلفك أن تصلي مئة ركعة، ولا أن تصوم ستة أشهر، ولا كلفك أن تدفع كل مالك، ولا نصفه، العبادات كلها معقولة، وقتها قليل، حجمها قليل، لطيفة، تجعل لك نشاط، تجعل لك ثقة بنفسك، تجعل لك قرب من الله عز وجل، فهذه ((كلكم ضال))
أنا متأكد لما يكون الإنسان بعيدًا عن الله عز وجل فهو ضال، مهما كان ذكياً، لو حمل أعلى الشهادات، لو ملك أكثر الأموال، لو ارتفع إلى أعلى مقام، مدموغ بالغباء، لأنه لم يعرف الله عز وجل، ما عرف الهدى، فانظر إلى إنسان يعيش في الكون، وهو بعيد عن نور الله عز وجل، الله نور السموات والأرض .
لذلك:
((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته))
هذه حياة الطعام والشراب، اشترينا بيتًا، وزيناه، وأكلنا، وتزوجنا، وجاءنا أولاد، ودرسوا، وكبروا، وزوجناهم، هذه الحركة اليومية المستمرة للإنسان من دون هدى شقاء، ((كلكم ضال إلا من هديته))
لذلك قال العلماء: تمام النعمة الهدى، يمكن أن نمثل للهدى بواحد، ونمثل للمال بصفر أمامه، صار الواحد والصفر عشرة، ونمثل للزوجة بصفر ثان صاروا مئة، نمثل للأولاد بصفر صاروا ألفًا، نمثل الدخل صفر رابع، نمثل المركبة، نمثل البيت، فاسحب الواحد من أمام الأصفار، ثم انظر, تجدها أصفارًا كلها, ((كلكم ضال إلا من هديته))
بالمناسبة لا توجد جهة أرضية تملك الهدى، جهة في الأرض كائنة من كانت، لا يملك الهدى إلا الله، لأنه هو الخالق، لذلك قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
[سورة البقرة الآية: 21]
الخالق وحده هو الذي يجب أن تعبده، فالإنسان في فرز كامل، الناس رجلان؛ إما أنه مهتد إلى الله عز وجل، فهو الذي حقق الهدف من وجوده، وإما أنه بعيد عن نور الله, فهو الذي لم يعرف الهدف من وجوده .
(كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني): فعل استهدى؛ على وزن استفعل، استعلم، استغفر، استرحم، استودع، فيه معنى الطلب، يعني اطلبوا الهدى من الله وحده، لا كتاب يهديك ، ولا نظام وضعي يهديك، لا جهة في الأرض تهديك، ولا نظرية تهديك، أي شيء أرضي يبقى أرضيًّا، أما الذي يهديك فهو الذي خلق السموات والأرض، كما أنه خلق السموات والأرض, فهو نور السموات والأرض، هو الخالق، هذه الناحية المادية من خلقها؟ الله سبحانه وتعالى، بعد أن خلق السموات والأرض, هو وحده نور السموات والأرض .
لذلك:
((كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))
لا تُسَمَّ إنسانًا مهتديًا إذا لم تعرف الله عز وجل، هناك أشخاص درسوا دراسات واسعة جداً؛ قرؤوا آداب الإغريق، ألفوا قصائد مطوَّلة، قرؤوا تاريخ البشرية، ألفوا كتبًا في تاريخ الحضارة، وهناك أناس قرؤوا تاريخ الأديان، وأشخاص قرؤوا علومًا، فنونًا، اخترعوا، واكتشفوا، وأناس عرفوا خبايا الأرض، ولكنهم لم يعرفوا الله عز وجل، فهم في ضلال، فيا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك؟ ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإذا فتك فاتك كل شيء، يا رب ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك؟ .
هذا الحديث دقيق جداً، الهدى محصور بالله عز وجل، لا يوجد هدى أرضي، فلان قرأ كتابًا, مؤلفه دارون فاهتدى، مستحيل، فلان قرأ النظرية الفلانية فاهتدى، فلان تشبعت أفكاره بالمبدأ الفلاني فاهتدى، لا، لا يوجد هدى أرضي،
((كلكم ضال إلا من هديته))
كل شيء في الأرض ضلال، فقد يكون مبنيًا على علم، هذا ممكن، إنسان يتعلم علمًا معينًا، عن طبقات الأرض، ويأخذ دكتوراه فيها، ويكون له دخل كبير جداً، هذا متعلق بالأرض، ليس هذا هو الهدى، ممكن أن تأخذ أعلى شهادة بالطب، بورد، تتخصص بأدق الفروع بالطب، ويكون لك دخل في اليوم مئة ألف، هذه بالأرض، هذا ليس هدى، هذه مصلحة، هذا رزق من الحرفة ، أما الهدى فمقصور على الله سبحانه وتعالى, ((كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))
فلما قال ربنا: ((فاستهدوني))
فأنتم مخيرون، معنى ذلك: أنك أنت أيها الإنسان مخير ؛ إما أن تستهدي الله فيهديك الله عز وجل، وإما ألا تستهدي الله فتبقى في الضلال .
إذا قال شخص: الأستاذ رسبني، ما معنى هذا الكلام؟ فعلاً الأستاذ رسبه، لكن لماذا؟ لأنه لم يدرس، فلما ربنا عز وجل في القرآن الكريم ينسب الإضلال إلى ذاته، إذا قال لك:
﴿يضل من يشاء﴾
فهذا كما علماء التوحيد: هو الإضلال الجزائي، المبني على الضلال الاختياري، يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
[سورة الصف الآية: 5]
فكلكم ضال، ما معنى ضال؟ أي أنه رفض الهدى، أو ما بحث عن الحقيقة فهو ضال ، قرأ، درس، علَّم، ألَّف، أخذ شهادات عليا، دخله كبير، طالع، له آراء معينة، ما دام معلوماته أرضية فهو في ضلال، إلى أن يقتبس الحقيقة من رب السموات والأرض، كما قال الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[ سورة النور الآية: 35]
إذا اقتبس الحقيقة من رب السموات والأرض اهتدى، فإذا اهتدى عرف نفسه، المؤمن يعرف نفسه، يعرف قدره عند ربه، الله عز وجل كرم الإنسان .
في نقطة مهمة جداً: أن ربنا عز وجل سخر السموات والأرض جميعاً للإنسان، فلما يكون الإنسان في ضلال, لم يعرف قدر نفسه، لا يعرف من هو، يقول لك: الحياة كلها عذاب ، والله الموت أشرف، مَن يقول لك: الحياة كلها عذاب, هذا ما عرف ربه، بالتالي ما عرف نفسه، ما عرف أنه خلق ليسعد في الدنيا والآخرة، يظن أنه خلق ليُعذب، لأنه بعيد عن المنهج.
فهذا القول بالحديث القدسي؛
((كلكم ضال))
يعني ليس هناك هدى أرضي، ما من جهة بالأرض غير الله عز وجل، لأن الجهة الأرضية قد تكون بإذن الله, النبي من عند الله طبعاً، الأنبياء والرسل والعلماء الذين ينوبون عن رسول الله في تلقين العلم، هؤلاء مصدر معلوماتهم كلها من السماء، من الوحي، فنحن نتكلم عن أولئك الذي يخترعون نظريات في الأرض ليسعدوا بها البشر, هؤلاء في ضلال قطعاً، والواقع أثبت ذلك، الواقع أثبت أنه: لا يوجد جهة في الأرض تستطيع أن تهب السعادة للبشر .
فالإنسان إذا أطلقته تفسّح، وإذا قيّدته قهرته، لما يهتدي بهدى الله عز وجل صعَّدت له ميوله؛ صار إنسانًا راقيًا، صار المخلوق الأول، صار الإنسان الكامل، لكن هناك جهات تقهره، وجهات تفلته، الذين فلتوه أشقوه، والذين قهروه أشقوه، أما الإسلام فقد رفع من قدر الإنسان، عرفه بقدره، عرفه بمهمته، عرفه أنه مكرم، أن الكون كله خلق من أجله. لذلك:
((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته))
لا بد من أن تكون لك صلة بالله عز وجل، لا بد من أن يكون عقيدتك أساسها من عند الله، كي تكون مهتدياً .
عقيدتك مثلاً: إذا اعتقد الشخص, أن الإنسان بدأ في الأرض, على شكل قرد مثلاً، هذه ضلالة، لأن الهدى الإلهي يقول: إن الإنسانية بدأت بسيدنا آدم، لكن ليس لك حق في أن تأخذ النظرية بشكل سريع، تعلم، اقرأ, تجد النظرية فيها ثغرات كبيرة جداً، والنظرية ليست من الكذب العلمي، بل من الكذب الأخلاقي، فقد كان هناك رغبة جامحة لدى علماء القرون السابقة في تحطيم الكنيسة، وكان أفضل طريقة لتحطيم الكنيسة؛ اختراع نظرية تتناقض مع بدء الخليقة، فالكنيسة بدأت على أساس من الجهل .
أما الإسلام فقد رفع من شأن العلم، ما ينطبق على بعض الأديان لا ينطبق على الإسلام، فأخطر شيء بالإنسان نصف العلم، لا هو عالم فيفيد من علمه، ولا هو جاهل فيتعلم ، خطير جداً، قرأ كلمتين فشك في الدين، فإذا قرأت نظرية، أو قرأت شيئًا، أو رأيت نظامًا معينًا اجتماعيًا يتناقض مع الدين، هذا النظام باطل قطعاً، لا بد أن تعرف, أن الذي خلق السموات والأرض, هو الذي وحده الذي ينير لها السبيل، هو وحده الذي يسعدها، وأية معلومات، أية أفكار، أية نظريات، أية مذاهب نابعةٌ من الأرض ليست هدىً، إنما هي ضلال ، طبعاً قد يكون لها بريق، قد يكون لها شيء يجذب، أحياناً بعض المبادئ تجذب الناس، ليس لأنها على حق, لكن لأن فيها تحقيق للشهوات .
فأعداؤنا اليهود, عملوا مزارع, ليس فيها نظام الأسرة، كيوبتس، استقطبوا شباب العالم، على ماذا بنوها؟ على الإباحية بنوها، فهل هذا النظام حق؟ لا, باطل، الحق نظام الأسرة، لكن باعتبار هذا النظام, يغري الشباب اليهود بالعالم, يأتون على الأرض المغتصبة، فصار الإغراء إغراءً ماديًا، إغراء شهوانيًا، ما هذا الحق؟ الإنسان لا أب له، فطبعاً اليهود لهم مصلحة، هذا لماذا له أب؟ حتى إذا قتل لا يعلنون عنه، يقولون لك: قتل واحد، يكون الموتى مئة، قتل واحد، الأبناء بالكيوبتس، ليس لهم آباء بالأساس، فيا ترى هذا النظام صحيح؟ لا، فهذا خطأ، لأنه مبني على الإباحية .
فكل نظام اجتماعي، كل فكرة، كل مذهب، كل نظرية منبعها أرضي, هذه ضلال قطعي،
((كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))
إذا كانت عقيدتك مركبة من منابع أرضية, فهذه عقيدة غلط، الخالق يقول: هذا غلط، لأن: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة النور الآية: 35]
معنى النور: أي العنصر التوضيحي التفسيري الذي منبعه من الله عز وجل، العنصر المادي, الله خلقه، الله خلق الجبال، خلق مجرات، خلق نجومًا، خلق كواكب، خلق بحارًا، خلق أسماكًا، يوجد مليون نوع سمك، آلاف أنواع الطيور، أنواع الأزهار، أنواع الأطيار، المذكرة التوضيحية لهذا الكون, من أين يجب أن تكون؟ من الله عز وجل .
أي جهة مؤهلة, تبين لك أن هذا الكون, خلق لأجلك، نوَّعت الأثمار إكراماً لك، خلقت الجمال لتعرفني، خلقت لك من نفسك زوجة كي تشكرني، جعلت ابنك من نسلك, كي تعرف كيف خلقت؟ أنت لم تر كيف خلقت؟ لكنك رأيت نفسك شابًا، واعيًا، طويلا، ذكيًا، معك شهادة ، معك مال، لما تنجب ولدًا، كأن ربنا عز وجل عرفك: كيف خلقت أنت؟ من نقطة ماء لا ترى بالعين، تولد ضعيفًا لا تقوى على التكلم، لا تقوى على أن تبين ما في نفسك .
مرة طفل صغير, بكى بكاء مستمرًا، ساعة، ساعتين، ثلاثا، يطعمونه فيبكي، بعد ذلك ظهر, أن في جسمه مسمارا صغيرا، الطفل ضعيف، لو كان كبيرًا يقول: هناك شيء يؤلمني هنا، انتهت العملية, قال تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
[سورة الرحمن الآية: 1-4]
فلو كان الإنسان يريد تلقي عقيدته ومبادئه، وإن صح التعبير المذكرة التوضيحية, لخلق الكون من جهة أرضية، فهذا ضلال قطعاً، إلا أن تكون هذه المذكرة التوضيحية، إلا أن يكون تفسير الكون ممن خلق الكون، كما قلنا: آلة معقدة جداً، بعثوها لك من غير نشرة، الآلة ثمنها بالملايين، وعليها دخل كبير جداً، فيها أجهزة لتحليل الدم، كل كبسة زر, يظهر فيها سبعة وعشرون تحليلا، لو كان كل تحليل ألف ليرة، معناها كل كبسة زر ألف ليرة، لو عندك ألف زبون، يصير دخلك مليونًا، هذه الآلة معقدة جداً، لكن لا يوجد معها تعليمات، فهل تفكر أن تسأل عن تشغيلها إنسانًا غير الجهة الصانعة؟ هذا السؤال .
لو كان عندك كمبيوتر معقد جداً، وله فوائد كبيرة جداً، وعليه طلب شديد، والزبائن تقف بالدور، وأنت هلكت حتى اشتريته، أخذت إجازة ورخصة، واشتركتم مع بعضكم برأس مال، لكي تربحوا باليوم مليونًا، وهذا الكمبيوتر ليس معه نشرة، واستعماله معقد، فهل تفكر أن تسأل جهة بالأرض غير الجهة الصانعة؟ لا تقدر، لو سألت ميكانيكيًا؟ لا تسأله, ماذا يفهم هذا في ذاك؟ لك جار خضري: هل تسأله عنه؟ لا تسأله، لا تسأل إلا الجهة الصانعة .
هذا الحديث معناه:
((كلكم ضال إلا من هديته))
هذا الإنسان ما لم يسأل الذي خلقه: يا رب لماذا خلقتني؟ ما هي السعادة؟ يا رب بالأكل والشرب والمال أما بمعرفتك؟ .
فلا يدور ذهنك بسؤال مخلوق في الأرض, إلا الجهة الصانعة بهذه الآلة، وأنت أعقد آلة في الكون، فلما تتجه إلى إنسان كافر, له نظرية معينة، تقرأها لكي تهتدي؟ مسكين، ضلال في ضلال، كلام منمَّق، كلام يغري، كلام يرضي الشهوات .
الأفكار متى تروج؟ إذا كان معها دغدغة للعواطف والشهوات، إذا كان فيها ترتيب معين, يبيح للإنسان أن يمارس شهواته كلها من دون قيد أو شرط، فالإنسان يقبل بهذا المبدأ، ليس لأنه حق، بل على أنه مغرٍ، هذا قبول مصلحي، وليس قبولا موضوعيًا للفكرة، لذلك:
((كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))
أفكارك، مبادئك، تعريف الخير عندك، الناس يظنون الذكي الذي يكسب المال، بالحلال, بالحرام، بحق، بباطل، بالحياء، بالعدوان، بالذوق، دون ذوق، ما دام حصل أموالا، اشترى بيتًا، ركز وضعه، فهذا ذكي، هذه عقيدة غلط، هذا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة النور الآية: 35]
الله عز وجل توعد من أخذ أموال الناس، إن كان يريد إتلافها أتلفه الله، والدليل الوقاع، كل إنسان كسب مال حرام, تأتيه ضربات تحطمه تحطيم، تدمره، تهلكه هو والمال، فمن أين جاء الغلط؟ لأنه لم يستهد الله عز وجل، استهدى الناس، أخي أنت عندك أولاد, ماذا تفعل؟ إذا لم تغش لا تعش، هذا من استهداه؟ استهدى إنسان ضال، لو استهدى الواحد الديان لقال له: استقم على أمري, قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾
[سورة فصلت الآية: 30]
لو أن هذا الإنسان استهدى الله عز وجل لما غش الناس، بارك الله له في ماله، ورزقه رزقاً حسناً، ومتعه بصحته وأهله وأولاده، لما استهدى رفيقه، قال له: أنت مضطر، الناس كلهم يغشون، ماذا تفعل؟ أخي الناس مالها حرام، إذا لم تغشهم لا يشترون منك، مَن قال لك ذلك؟ .
أنت لما تستقيم, يرفع الله شأنك، يوسع رزقك، يكرمك، يسعدك، فهذا السؤال بكل حركة من حركاتك اليومية، هل استهديت الله عز وجل؟ لما غضبت من زوجتك، طردتها إلى بيت أهلها، أنت بهذا لم تستهد الله، استهديت الشيطان، فهداك أن تطردها، لما طردتها إلى بيت أهلها، وكان الخلاف على كلمة قالتها لك، لها أخوات، لها خالات، لها عمات، عمموا المشكلة, يليق بكِ أحسن منه، ماذا تريدين منه؟ اتركيه، راجعيه، وهو أيضاً: أنا لا أخضع، لا أرجع، بعد شهرين طلق، عنده ثلاثة أولاد, أصبحوا بالطريق، من استهدى هذا الزوج؟ الشيطان، لو أنه استهدى الرحمن لأفلح, قال تعالى:
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾
[سورة الطلاق الآية: 1]
انتهى الأمر، الذي خلقك قال لك: افعل هكذا، أما فاخرجي إلى بيت أهلك، هذه ليست واردة إطلاقاً، تناقشها، أعرض عنها، لا مانع، أدبها، لا مانع، أقنعها، لا مانع، أما اذهبي إلى بيت أهلك, فهذه ليست واردة إطلاقاً، فبزواجك، بأولادك، ببيعك، بشرائك، مع جيرانك، مع نفسك، إذا استهديت الله عز وجل تسعد، والدليل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
[سورة الإسراء الآية: 9]
هذه مطْلقة، ببيعك بشرائك هكذا أقوم، لذلك قال ربنا عز وجل: ((كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم ...))
اطلب مني الهدى، ثمة أشخاص يقعون في مشكلة، في أزمة، يسجد أحدهم ويدعو الله: يا رب اهدن إلى عمل ترضاه عني، كيف أتصرف يا رب؟ ليس هناك واحد منا لم يقع في مشكلة، أحياناً في ورطة، أحياناً بموقف أخرج أمه وزوجته، شريكه وصاحبه، هذا البيت له مشكلة، هذا المحل له مشكلة، يريد يسترجعه منك، وأنت دفعت فروغًا، وقال لك: أنا أشكيك إلى الله عز وجل، هذه مشكلة، انظر إلى رأي الفقه، رأي العلماء، رأي القانون، تقع بورطة أحياناً، استهد الله عز وجل، إما أن تستهديه بأن ترجع إلى كتابه، أو أن ترجع إلى سنة نبيه، أو أن ترجع إلى أحكام الفقه, التي استنبطها العلماء والفقهاء, من النصوص الثابتة القرآن والحديث، وإما أن تسجد وتقول: يا رب اهدن لخير إلى ما تحب, ((فاستهدوني أهدكم))
كلما وقعت في مشكلة, اترك الخط مفتوحًا، لا تقطع الخط مع الله عز وجل، تعوّد على السجود، تعوّد على ركعتي الحاجة، تعوّد على قيام الليل، تعوّد على أن تنادي ربك بالسجود: يا رب ماذا أفعل؟ يا رب اهدن لصالح الأعمال، اهدن لقول سديد ترضى، ويرضيك يا رب، ((فاستهدوني أهدكم))
فاستهدوني في المعضلات والصغائر، إن الله يحب من عبده, أن يسأله شسع نعله إذا انقطع .
أحياناً مسمار داخل الحذاء، وأنت متضايق منه، لا تجد واحدًا يصلحه: يا رب، يا رب أعن، ضاعت مفاتيحك: اللهم يا جامع الناس، هل هناك أتفه من ضياع مفاتيحك بالبيت؟ أين المفاتيح؟ لا تجدها، تكون تحت البشكير، تبحث عنهم خمس ساعات، تقيمه وتقول: اللهم يا جامع الناس، رأساً تجد المفاتيح، فاستهدوني في الأشياء الصغيرة، والأشياء الكبيرة، في المعضلات .
جاءك خاطبون لابنتك، هذا عنده بيت، هذا ليس عنده بيت، الذي عنده بيت, دينه رقيق قليلاً، وهذا دينه قوي، ولكن ليس عنده بيت، والله شيء يحير، ماذا تفعل بهذه الحالة؟ فاستهدوني أهدكم، اسأل الله عز وجل أن يهديك إلى قرار صحيح، لا تقع بغلط، هناك دعاء الاستخارة،
((فاستهدوني أهدكم))
لك دعاء الاستخارة، صل ركعتين، وادع دعاء الاستخارة، ونم، إذا كان الخير بهذا الشيء, ييسره ربنا سبحانه لك، وإن كان خلاف ذلك عسره عليك، فاستهدوني أهدكم .
زوجتك مصرة على هذا الشيء، لا تتراجع عنه، وأنت رأيته غلطًا، طبعاً العنف سهل، تقول لها: ما أعجبك! فاذهبي إلى بيت أهلك، هذه سهلة، لكن عندك أولاد، وركبت رأسها: يا رب اهدن، ماذا افعل؟ اهدن إلى موقف حكيم .
أحياناً يتشاجر أولادك بالبيت، أو أخوك مع ابنك، وأنت جعلتهم في المحل معاً، ماذا تفعل؟ فاستهدوني أهدكم، إذا كان الشخص بعيدًا عن الله, يخبط خبط عشواء، أحياناً يغلط، يتورط، يتحامق، إذا كان مع الله عز وجل يهديه، عود نفسك في كل قضية, قل له: يا رب ماذا أفعل؟ .
والله الذي لا إله إلا هو لا تلبث أن تهدي إلى الطريق الصحيح، الرب سبحانه معك ، وهو الذي قال:
﴿إني معكم﴾
أنا معك، ﴿ادعوني أستجب لكم﴾
اسألن، ما دام تسأله في شسع النعل إذا انقطع، هناك أشياء أكبر بكثير .
هذا الحديث دقيق، فهل أنا آخذه على معنى واسع كثير على الهدى الكلي؟ آخذه على الأشياء الجزئية،
((كلكم ضال إلا من هديته))
تجد شخصًا ذكيًا، فهيمًا، نبيهًا، حكيمًا، يغلط غلطة كبيرة، ما أسبابها؟ الاعتزاز بنفسه ، يقول لك: أنا، أنا خبراتي واسعة بهذا الموضوع، أنا متفوق بالدراسة، أنا مضى علي سنوات بهذه المصلحة .
مرة طبيب, معتز بنفسه كثيرًا، في أثناء عملية الولادة, أزال الرحم، وقطع الأمعاء، لو ما أخذ المريضة على المستشفى, لسحبوا منه الشهادة، أراد تخليص الجنين, فقطع الرحم، وقطع الأمعاء، ويقتل المريضة، لما يتعزّ الإنسان بنفسه, يكله الله عز وجل إلى نفسه، يتحامق ، يقولون: غلطة الكبير كبيرة،
((فاستهدوني أهدكم))
عوّد نفسك في كل حركة باليوم: دخلت عند شخص: يا رب ألهمن كلامًا صحيحًا، أحياناً تقول كلمة غلطًا, تدفع ثمنها شهرًا، لماذا قلتها؟ ليس هناك موافقة، كلمة غلط أحياناً تقولها لإنسان, تأتيك متاعب لا حصر لها .
دخلت إلى إنسان: يا رب اهدن، تلقي درسًا، يا رب أعن، تحكّم مريضًا: يا رب ألهمن التشخيص الصحيح، والدواء الصحيح، أنت محام: يا رب ألهمن المذكرة الصحيحة، هذا الرجل مظلوم، أما أن تقول: أنا محام معي شهادة، من كذا سنة، قضايا أخذتها، وخصومي أقوياء، لا، بل قل: يا رب اهدن، كلما تواضعت لله يرفعك، كلما تذللت له يعزك، كلما أعلنت ضعفك أمامه, يعطيك العلم, والخبرة, والموقف الصحيح, والحكمة، فاستهدوني أهدكم .
((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم ...))
في الأشياء الصغيرة, والكبيرة، في علاقاتك، في بيعك، في شرائك، في حركاتك، في زواجك، في شركاتك، بأي حركة يومية .
أحياناً يفحص الإنسان سيارته قبل أن يسافر، ويقول: فحصتها فحصًا كاملا، تقف به في مكان صعب، أين الفحص الكامل؟ إذا كان الرجل مؤمنًا يقول: يا رب تسلم، كلمة يا رب تسلم، الله يسلم، فاستهدوني، يعني كن معي دائماً، لا تنسني يا عبدي, قال تعالى:
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
[سورة الكهف الآية: 24]
إن شاء في الدرس القادم, نتابع هذا الحديث القدسي، هذا حديث أساسي: ((كلكم جائع إلا من أطعمته, فاستطعموني أطعمكم))
ليس هناك ذكي في التجارة، أحياناً الذكي بالتجارة يفلس، هناك تاجر موفق، وتاجر غير موفق، فالإنسان يطلب من الله التوفيق، لأن الله عز وجل قال: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾
[ سورة هود الآية: 88]
ما هو الموضوع التي تتعلق به هذه الآيات, وبماذا كان يتميز عمر بن الخطاب ؟
الآن إلى سيرة سيدنا عمر رضي الله عنه .
هذا الفصل عن سيدنا عمر متعلق بالشورى، ربنا عز وجل وصف المؤمنين فقال:
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾
[ سورة الشورى الآية: 38]
فإذا أنت كنت مؤمناً، وعشت مع أخوانك المؤمنين، ليس لك حق أن تستبد برأيك، إذا كان لك شريكان مؤمنان، ليس لك حق في أنْ تستبد برأيك، إذا كنت تعيش مع أخوانك في مسجد، ليس لك حق في أن تستبد برأيك، إذا كنت عضو بلجنة, ليس لك حق في أن تستبد برأيك، لأنك إذا كنت مؤمن حقاً, يجب أن تنطبق عليك هذه الآية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾
[ سورة الشورى الآية: 38]
الآية الثانية: ربنا عز وجل, يأمر سيدنا رسول الله, وهو قمة البشر في العلم، وفي الحكمة, وفي الفهم، ويوحى إليه، والملائكة معه، هذا النبي العظيم على عِظَمِ شأنه، وعلى جلال قدره، وعلى تفوقه، وعلى أنه الشخصية الأولى في الكون، ربنا عز وجل وجَّه له أمر، وأمر الله يقتضي الوجوب, فقال له: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 159]
شاورهم, قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
[ سورة آل عمران الآية: 159]
ولما يستشير الإنسانُ الرجالَ, يستعير عقولهم، فتحت محلا بسوق، توسم بهذا السوق، تلتقي بتاجر صاحب دين، مؤمن، كريم، اجعله مستشارًا لك، نبيع هذا بهذا المبلغ, فيقول لك: لماذا لا، اسأل عنه أولاً، فتجبه: الله يجزيك الخير، إذا قال لك: اسأل عنه، نبهك أنه من الممكن قبل أن تبيع البضاعة, أن تسأل عن الزبون، قد يكون نصابًا هذا الزبون، يتساهل معك بالسعر، اشحنها، وهذا العنوان، تصير عنده شحادًا عشر سنوات، تطرق مشوار إلى حلب فيقول لك: تعال ثاني جمعة .
لو سألت هذا التاجر المؤمن: ماذا أفعل؟ طلب مني بضاعة بمئة ألف, اسأل عنه أولاً ، خذ عنوانه، واسأل عنه، فلما يستشير الإنسان, يستعير عقول الرجال، كل مصلحة لها خبراء ، فيها أتقياء، وفيها خبراء بكل مصلحة، فيها خبراء وأتقياء، فإذا كنت أنت موفق, تسأل التقي الخبير، إن سألت خبيرًا غير تقي سيغشك، وإن سألت تقيًا غير خبير لا يعرف، اسأل الخبير التقي، تعوّد بكل حياتك, أن يكون لك مستشارون، ابحث عن طبيب مؤمن، مع زوجتك قرحة ، إن سألت طبيبًا غير مؤمن عن صيامها, يقول لك: تفطر، يريد كثرة مِن المفطرين، لكي يستأنس، لأنه هو مفطر، اسأل طبيبًا مؤمنًا، بكل قضية اسأل، تريد أن تشتري بيتًا, اسأل واحدًا، يكون البيت مرهونًا، عليه إشارة حجز، تدفع ثمنه كاملاً، تأتي آخر السنة, فلا تعطى لك موافقة بنائه، فاستشر .
فربنا عز وجل, أمر النبي عليه الصلاة والسلام, وهو سيد الخلق, وحبيب الحق, أمره أن يستشير استشارة حقيقية، إياك أن تظن أنها استشارة شكلية، لا, حقيقية, قال تعالى:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 159]
إذا استشار الإنسان, فهذه الاستشارة لا تنقص من قدره أبداً، وكأن الله عز وجل أمر النبي أن يستشير, حتى يكون النبي لنا أسوة لنا، وقدوة صالحة، لا تكبر نفسك عليك، اسأل لو كنت مدير مستشفى، عندك طبيب متخرج حديثاً، قل له: ماذا نتصرف بهذا الموضوع؟ ما قولك؟ اسمع منه، وخذ قرارًا، أنت محام، وعندك محام متمرن، اسأله، قد يكون عنده فكرة أنت لا تعرفها، ذهنه صاف، وأنت واقع تحت ضغط معين، وهذا الضغط معين, عكر عليك الرؤية، أما هذا المحامي المتمرن, فهو صاف الذهن، سيقول لك: هذا لا يمكن، لا ترد عليه .
فهذا الفصل كيف كان سيدنا عمر، وهو في قمة مجده وسلطانه، وهو خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين, كان يستشير، وكان يرحب بالنقد، لذلك إذا مدحك واحد, تجلس في مكانك، إذا انتقدك رفعك، إذا انتقدك أزعجك، لما يزعجك, فهذا الذي انتقدك فيه تدعه، فإذا تركته ارتقيت، كلما تلقيت نقدًا ارتفعت، كلما تلقيت نقدًا بنَّاء من إنسان مخلص, تحاشيت الغلط وارتفعت، إذا عوّدتَ نفسك على المدح، يمدحك الناس باستمرار, ينزلونك بالمدح، تبرك ولا تتقدم، لذلك حينما يرفض الإنسان النقد ينتهي .
سيدنا عمر كان يقول:
((أحب ما أهدى إلي أصحابي عيوبي))
موضوع الشورى موضوع أساسي في الإسلام، استشر الكبير والصغير، القريب والبعيد، وبعدئذٍ اتخذ قرارك .
سيدنا عمر كان يقول:
((لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي .
-طبعاً الإنسان الذكي, يعرف أنه هذا الطرف, يرغب بهذا الاتجاه، فالإنسان أحياناً يستشير شخصًا، إذا كان شخصًا مخيفًا، يسمع إجابات توافق هواه، فيصدق أن هذا الكلام صحيح- .
سيدنا عمر نبه أصحابه، وقال لهم: لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، وقولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق))

نفى التملق، لا تقل لي كلامًا أرضى به، قل الحق ولو كان مراً، لو تعوّدنا كلنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، ونتكلم كلمة الحق، وألا يأخذنا بالحق لومة لائم, لكنا في حال غير هذا الحال .
لو كان الإنسان مع زوجته وأولاده صريحًا، أحياناً الإنسان يلحق المظاهر، تكون حالته المادية أقل من الوسط، يريد أن يظهر بمظهر الأغنياء، يتحطم من أجل وليمة واحدة, يظل مكسورًا بالدين شهرين أو ثلاثًا، اسأل أهل الخبرة، لا ترض بالمظاهر الفارغة، لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، وقولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق، هكذا أعطى سيدنا عمر التوجيه .
مرة دعا فريقاً من الأنصار المشهود لهم بالحنكة ونضج التجربة، فتح لهم باب المناقشة، وخشي عمر أن يجامله أحدٌ في رأيه بوصفه أمير المؤمنين، فقال لهم:
((إني دعوتكم لتشاركوني أمانة ما حُمِّلت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هواي، فمعكم من الله كتاب ينطق بالحق، فو الله لئن كنت نطقت بأمر أريده، فما أريد به إلا الحق، تكلموا بصراحة وانصحوني ، ولا تتوخوا أن أرضى بأقوالكم، ارضوا بها الله سبحانه وتعالى))
مصيبة ألمت بعمر واستبرأها حذيفة بن اليمان :
دخل عليه مرة سيدنا حذيفة بن اليمان, رآه مهموماً باكي العين، فقال له: ((مالك يا أمير المؤمنين؟ .
فقال له عمر: إني أخاف أن أخطئ, فلا يردني أحد منكم تعظيماً لي، -أخاف أن أخطئ، وأحدكم لا يردني، يبقى ساكتًا، تعظيماً لي وتوقيراً .
سيدنا عمر بن عبد العزيز الله رضي عنه, عيّن أحد كبار العلماء مستشار له، اسمه عمر أيضاً، قال له:

((يا عمر, كن إلى جانبي، وانظر ماذا أفعل؟ فإن رأيتني ضللت, فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتقِ الله يا عمر فإنك ستموت))
هذه الأمانة- .
فأجابه سيدنا حذيفة قال له: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لرددناك إليه .
فعندئذٍ استبشر سيدنا عمر, وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا اعوججت))
من مواقف عمر على منبر الإسلام :
مرة صعد المنبر وقال: ((يا معشر المسلمين, ماذا تقولون, لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا؟ فيشق الصفوف رجل، ويقول، وهو يلوِّح بذراعه, كأنها حسام ممشوق: إذاً: نقول لك: بالسيف هكذا .
فيسأله عمر: إياي تعني بقولك؟!
قال: نعم إياك أعني بقولي .
عندئذٍ فرح سيدنا عمر وقال: رحمك الله، والحمد لله الذي جعل فيكم من يقوِّم عوجي))

يا ترى هذه المواقف زعزعتْ من مكانته؟ يا ترى صار بنظرهم صغيرًا؟ لا والله صار كبيرًا، الفصل كله حول هذا الموضوع، حول أن تستشير الناس، أن تستمع إلى النقد، أن تقبل الشخص الذي ينتقدك، لكن لا ينبغي أن يكون نقدًا مبنيًا على الحقد، مبنيًا على الإصلاح، مبنيًا على الإخلاص. من مواقفه أيضاً على منبر الإسلام :
مرة صعد المنبر, ليحدث المسلمين بأمر جليل، فيبدأ خطبته بحمد الله، وبقوله: ((اسمعوا يرحمكم الله، ولكن أحد المسلمين ينهض قائماً, ويقول: والله لا نسمع، والله لا نسمع .
فيسأله عمر في لهفة: ولمَ يا سلمان؟ .
فيجيب سلمان: ميَّزت نفسك علينا في الدنيا، أعطيت كلاً منا بردة واحدة، وأخذت أنت بردتين، -كان رضي الله عنه طويلًا، لا تكفي البردة، سيدنا عمر لما قال له هذا الكلام- فيجيل الخليفة بصره في صفوف الناس، ثم يقول: أين عبد الله بن عمر؟ فوجده، فينهض ابنه عبد الله, ويقول: ها أنذا يا أمير المؤمنين .
فيسأله عمر على الملأ: من صاحب البردة الثانية يا عبد الله؟ .
فيقول عبد الله فيقول: أنا يا أمير المؤمنين، الثانية لي .
ويخاطب عمر سلمان, والناس معه, ويقول: إنني كما تعلمون رجل طويل، ولقد جاء بردتي قصيرة، فأعطاني عبد الله بردته، فأطلت بها بردته .
فيقول سلمان وفي عينه دموع الغبطة: الحمد لله, والآن قل فنسمع، الآن نسمع لك))

مقولة حق قالها عمر بن الخطاب هي :
مرة وهو على المنبر يخطب بالناس فقال: ((أيها الناس, لا تزيد مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال .
امرأة قالت له: ما ذاك لك؟.
فيسألها: ولمَ؟ .
فتجيبه بأن الله تعالى, يقول:

﴿وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾
[سورة النساء الآية: 20]
عندئذٍ قال سيدنا عمر بملء فمه: أصابت امرأة وأخطأ عمر)) يبقى بقدره العالي، وعظمته، هو عملاق الإسلام, هذا التراجع السريع, لم يضعضع من مكانته، لم ينقص من قدره، الإنسان مع الحق حيث دار . إليكم سبب هذا النقاش الذي دار بين عمر وخالد بن الوليد :
مرة سيدنا عمر, عزل سيدنا خالدًا، سيدنا خالد سيف الله، ورسول الله سماه: سيف الله، وأبلى في المعارك بلاء حسن، خاض مئة معركة، وما انهزم في واحدة، وبالرغم من ذلك عزله، فجاءه وقال له: ((يا أمير المؤمنين لمَ عزلتني؟ .
قال له: والله إني أحبك .
قال له مرة ثانية: لمَ عزلتني؟ .
قال له: والله إني أحبك .
قال له مرة ثالثة: لم عزلتني؟ .
قال له: والله ما عزلتك يا ابن الوليد إلا مخافة أن يفتتن الناس بك، لكثرة ما أبليت في سبيل الله))

خفت على عقيدة الناس، الله ينصر، ولست أنت، فحتى أبرهن للناس, أنه ولو عزلتك فالنصر مستمر، ما دمتم مؤمنين فالنصر مستمر، أنقذ التوحيد بهذا العزل .
هناك أناس يفسرونها تفسيرًا آخر، على أنه كان في عداوة سابقة معه في الجاهلية، وانتقم منه، الصحابة فوق ذلك، وأعلى من ذلك .
من هو قدوة عمر بن الخطاب في مواقفه كلها ؟
سيدنا عمر, تلميذ نجيب لرسول الله .
سيدنا رسول الله, جاءه أعرابي من أهل البادية، وتهجم عليه، وقال له بين أصحابه, وهو يخاطب سيدنا رسول الله:
((أعطن، فليس المال مالك ولا مال أبيك، -كان قاسيًا، مَن بدا جفا- النبي ابتسم، وقال له: صدقت إنه مال الله))
معك حق.
سيدنا رسول الله علم أصحابه التواضع، علم أصحابه الحلم، علم أصحابه إذا كان الواحد فظًّا, فامتصه امتصاصًا، لا تمحقه، قال له: هذا المال ليس المال مالك، ولا مال أبي، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
((صدقت إنه مال الله))
قال له بدوي مرة: ((اعدل يا محمد، -هذه المرة غضب، وكان إذا غضب, ظهر عرق في جبينه- قال له: ويحك من يعدل إن لم أعدل؟ .
-هل هناك إنسان مؤهل للعدل أكثر مني؟ ويحك من يعدل إن لم أعدل؟- سيدنا عمر لم يتحمل الأعرابي, رآه تهجم على رسول الله، وتطاول، لا بد أن يتأدب، فهمّ، قال له: دعه يا عمر، إن لصاحب الحق مقالا))

تكون موظفًا مرتاحًا، والغرفة مكيفة، يدخل مواطن عليك، تجده يغضب، تقول له: اخرج، صار له ثمانية أيام مع المعاملة الإدارية، وبعد ذلك ضاعت المعاملة، غضب، قل له: طول بالك، والله معك حق، لا تقس الناس على نفسك، أنت مرتاح، ليس عندك مشكلة، غرفتك مكيفة، هذا صاحب الحاجة أرعن، صاحب الحاجة أعمى، قال له: ((دعه يا عمر، إن لصاحب الحق مقالا))
له حق يتكلم، إذا كنت موظفًا بأي مكان, فهذا الذي أمامك, إنسان له مطالب، فيجب أن تلبيها له .


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:52 AM   #24


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الثانى و العشرون )

الموضوع : باب المجاهدة - 5 - الحديث القدسى -يا عبادى انى حرمت الظلم على نفسى -3






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
اعلم هذه الحقيقة أيها المسلم:
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا مع دروس الحديث النبوي الشريف، ولا زلنا في الحديث السابع عشر، من باب المجاهدة، من كتاب رياض الصالحين، والحديث الذي بدأنا شرح بعض معانيه في دروسٍ عدة، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
((يَا عِبَادِي, إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ, فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ, فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ, فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ, يَا عِبَادِي, إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ, فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
[أخرجه مسلم في الصحيح وأحمد في مسنده]
يعني ما دام هذا القلب ينبض, فباب التوبة مفتوح, قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾
[سورة الزمر الآية: 53]
وكما جاء في الحديث القدسي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((يَا ابْنَ آدَمَ, إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي, غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي, يَا ابْنَ آدَمَ, لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ, ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي, غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي, يَا ابْنَ آدَمَ, إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا, ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا, لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
إذا رجع العبد العاصي إلى الله, نادى منادٍ في السموات والأرض, أن هنئوا فلاناً, فقد اصطلح مع الله.
العجب العجاب: أن ترى إنساناً مقيماً على معصيةٍ، وباب التوبة مفتوح، والأيام تمضي، لو نظرت إلى ساعتك، انظر إلى عقرب الثواني, كلَّما تحرك هذا العقرب درجةً واحدة، فقد نقص العمر ثانية، واقتربت من الموت ثانية, صدق القائل:
دقات قلب المرء قائلةٌ للـــه إن الحيـاة دقائـقٌ وثوانٍ
فارفع لنفسـك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسـان عمرٌ ثانٍ

إذا أيقن الإنسان بالموت، وإذا أيقن أن هناك إلهاً عظيماً, سيحاسبه عن كل عمله, قال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
[ سورة الحجر الآية: 92]
﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 93]
وأنه بعد الموت لا رجعة إلى الدنيا، وأنه إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، فماذا ننتظر؟.
يقول سيدنا عمر:
((عجبت لثلاث؛ عجبت لمؤملٍ والموت يطلبه. -أيها الأخوة, وحول هذا الموضوع آلاف القصص، إنسان كان يحلم ببيت معين، بقي يبنيه، ويرتبه، ويزيِّنه، ويفرشه بأفخر الأثاث، ولم يستطع أن يسكن فيه، فكم من إنسانٍ بنى بيتاً، ولم يسكنه؟ وكم من إنسانٍ تزوج امرأةً، ولم يتمكَّن من أن يقترن بها؟ وكم من إنسانٍ نال شهادةً، ولم يبق في حياته فسحةٌ ليستفيد منها؟ هناك إنسان ينام فلا يفيق، وهناك إنسان يستيقظ فلا ينام، وهناك إنسان يذهب فلا يعود، وهناك إنسان وهو في زحمة العمل، وهو في أوج نجاحه، جاءه مَلَك الموت- فـ عجبت لثلاث: لمؤملٍ والموت يطلبه، وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه، وضاحكٍ ملء فيه, ولا يدري أساخطٌ عنه الله أو راضٍ؟))
لذلك:
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾
[سورة المدثر الآية: 8]
﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾
[سورة المدثر الآية: 9]
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾
[ سورة المدثر الآية: 10]
أحياناً يسترسل الإنسان، لكن حينما يسأل، وحينما يحاسب يقول: لم أر خيراً قط في حياتي.
في بعض الآثار: أن الإنسان حينما يموت، ويرى مقامه في الجنة يقول: لم أر شراً قط في حياتي.
كل المصائب التي ساقها الله له، وكأنها ليست بشيء، وأهل الدنيا إذا جاءهم الموت, يصيحون صيحةً, لو سمعها الناس لصعقوا.
يروى أن إنسانًا ذميًّا، فقيرًا، شقيًّا، متعبًا، جائعًا، مريضًا، يعمل في مهنة حقيرة قذرة، رأى عالماً من علماء المسلمين, يركب فرسه، وحوله بعض أخوانه، وهو معززٌ، مكرمٌ، مبجلٌ، يرتدي أجمل الثياب، تفوح منه رائحةٌ عطرة، فهذا الذمي كان قد سمع, أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ, وَجَنَّةُ الْكَافِرِ))
[أخرجه مسلم عن أبي هريرة في الصحيح]
لم يحتمل هذا الحديث، كيف؟! فالتقى بهذا العالم الإسلامي في الطريق, وقال: يا سيدي يقول نبيكم:
((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ, وَجَنَّةُ الْكَافِرِ))
فأيّ سجنٍ أنت فيه، وأية جنةٍ أنا فيها؟! فما كان من هذا العالم إلا أن قال له: لو قست ما أنت عليه, بما سوف ينتظرك, فأنت في جنة، ولو قست ما أنا عليه، وما ينتظر المؤمن, فأنا في سجن.
لهذا ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ اللَّهُ:
((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ؛ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ, وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]
دائرة المشاهدات محدودة، لكن دائرة المسموعات أكبر منها بكثير، بينما دائرة الخواطر ليست محدودة،
((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ؛ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ, وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ))
حينما يتوب الإنسان، ويتوب الله عليه، يعرف طعم التوبة، طعم التوبة لا يوصف، وحينما يتوب يشعر وكأنه أصبح إنساناً آخر، بعد الصُلح مع الله، حينما يفتح الله لك صفحةً جديدة، ويطوي كل الصفحات، فالإسلام يجبُّ ما قبله، ويهدم ما كان قلبه، إذا فُتِحَت لك مع الله صفحة جديدة, تشعر أنك إنسان آخر، لذلك يصب في قلب التائب من سعادة، ومن تجلي، حيث إنه يرى أنه أسعد الناس جميعاً، فباب التوبة مفتوح، والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: ((للهُ أفرح بتوبة عبده؛ من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد))
دليل هذه الحقيقة هذا الحديث: يا عبادي إنكم تخطئون............أغفر لكم:
فهذه الفقرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أن:
((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))
الحقيقة: ليس العار أن يخطئ الإنسان، لأن الإنسان غير معصوم أولاً، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ, وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
ليس العار أن تخطئ، ولكن العار أن تصرَّ على خطئك، لذلك يفرق العلماء بين الأمي والجاهل، فرقٌ كبير، الأمي إنسان وعاؤه فارغ، يقبل أيّ شيءٍ يوضع فيه، فتعليم الأمي سهل جداً، إنسان وعاء نفسه فارغ يتقبل منك أي شيء، لكن الجاهل هو الذي امتلأ وعاؤه مغالطات, وعلاقات غير صحيحة, لا يؤكدها الواقع، لذلك هناك مشقة كبيرة في إقناعه بالحق، هو ينطلق من قواعد غير صحيحة، من علاقات لا يؤكدها الواقع، فالجاهل هو الذي يعلم، ولكن لا يعمل بما يعلم، أو هو الذي ينطوي على مفاهيم، وعلاقات، ومنطلقات خاطئة أو غير صحيحة,
((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))
ليس العار أن تخطئ، ولكن العار أن تصر على خطئك، ليس العار أن تخطئ، ولكن العار ألا تتوب, وباب التوبة مفتوح.
هناك آيةٌ تلفت النظر، الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات يقول:
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾
[سورة التوبة الآية: 118]
ربنا عزَّ وجل لشدة رحمته أحياناً, يلجئ العبد إلى التوبة، يلجئه، يضيق عليه، يصيبه ببعض المصائب، يحيطه بجوٍ مخيف، يلقي في قلبه الذعر، يلقي في قلبه الهم، هذا التضييق هو معنى قوله تعالى:
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾
[سورة التوبة الآية: 118]
فإذا قلت لشخص: الله يتوب عليك، لا تظن هذه الكلمة سهلة، هذه كلمة دقيقة، ولها أبعاد عميقة، وربنا عزَّ وجل لا يدع المؤمن من دون أن يمحِّصه، ومن دون أن يتوب عليه.
فـ..

((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)).
بعض المؤمنين الصادقين, يحاسب نفسه حسابًا يوميًّا، وحسابًا دقيقًا، فإذا زلت قدمه، أو أخطأ لسانه، أو وقعت منه نظرةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، أو وقعت منه كلمةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، يبادر بعملٍ صالح, يمحو به تلك الخطيئة، لقول الله تعالى:
﴿إِنَّ الْحَسَناَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾
[سورة هود الآية: 114]
فمؤمن تكلم عن أخيه، وثرثر، وتكلم عن أخيه، ووقع في الغيبة، يلزم نفسه بصدقةٍ.
الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه, كان إذا حلف يميناً في البيع والشراء، كان يلزم نفسه بمبلغٍ معين، ثم بدأ يرفع هذا المبلغ، إلى أن كف عن حلف اليمين في البيع والشراء، قال عليه الصلاة والسلام، طبعاً اليمين صادق، لكن الأكمل لا تحلف، لكن اليمين الكاذبة كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها:

((الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة]
يقول الشاعر:
لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده ولا الصبابة إلا مَن يعانيها
إذا تاب الإنسان إلى الله توبة نصوحا، وعاهد الله على أن يلزم نفسه بطاعة الله بكل ما أمر الله، يلقي الله في قلبه طمأنينةً، وتجلياً، ونوراً, لا يعرفه إلا مَن ذاقه. من أركان التوبة كما يبينها الإمام الغزالي:
الإمام الغزالي رحمه الله تعالى, يبين أن التوبة أساسها: علمٌ، وندمٌ، وعمل، إن صح التعبير للتوبة أركانٌ ثلاثة: العلم، والندم، والعمل، أو كان يقول: علمٌ، وحالٌ، وعمل.
أنت أيها الأخ الكريم, تحضر مجالس العلم لتكتسب العلم، فبالعلم تعرف أين أنت من الشرع؟ هل هناك شبهة في دخلك؟ هل هناك شبهة في إنفاق المال؟ هل هناك معصية في البيت؟ هل هناك مخالفة في العلاقة مع زوجتك، مع أولادك، مع جيرانك، مع زبائنك؟ هل هناك تقصير مع ربك في العبادات؟ كيف تعرف أنك لست على الحق؟ كيف تعرف أن هناك خللاً في حياتك؟ لا بد من العلم، فإذا حضر الإنسان مجلس العلم، وكما يقول بعضهم: إن بذل الوقت لحضور مجلس العلم زكاة الوقت.
ربنا عزَّ وجل أحياناً بغلطة بسيطة, يجعل وقتك يستهلك استهلاكا رخيصًا، غلطة في التعامل مع الآلة أحياناً فتتعطل، تبذل ثمانين ساعة لتصليحها، مع الهم، والحزن، والسفر، ودفع المال، فلما يضن الإنسان على ربه بساعة، أو ساعتين في الأسبوع, يحضر فيها مجلس علم, يتعرف إلى الله عزَّ وجل، يتعرف إلى معاني كتابه الكريم، يتعرف إلى معاني حديث رسول الله، يتعرف إلى أحكام الفقه، يتعرف إلى هؤلاء الصحابة الكرام الذين كانوا مُثُلاً عليا، إذا ضن الإنسان بوقته ليحضر مجلس علم، ربما ضاع من وقته ساعاتٍ طويلة مع الغيظ، والألم، والنكد، فإذا حضر الإنسان مجلس العلم, فكأنما زكَّى عن وقته، لأن الوقت مال، كيف هو مال؟.
الذي عنده محل تجاري، وإغلاق المحلات الساعة الثامنة، فإذا بقي من الساعة السادسة للساعة الثامنة حتماً فيها بيع وشراء، قد يحصل في هذه الساعتين مئة ليرة، مئتين، ستمئة، بحسب نوع العمل، فلما أغلق المحل، وذهب إلى المسجد, ليحضر مجلس العلم، فكأنما دفع شيئاً من المال، كان من الممكن أن يقبض هذا المال، ها هو يمتنع عن قبض هذا المال فكأنما دفعه في سبيل الله، فلذلك حضور مجلس العلم من نوع تأدية زكاة الوقت، والقصص حول التوفيق الذي يناله الإنسان إذا ضحى بوقته, من أجل معرفة ربه، لا تعد ولا تحصى.
فالتوبة؛ علم وحال وعمل، علم لا بد من أن تعرف شرع الله, من أجل أن تقيس أعمالك بهذا الشرع، الشرع مقياس في كسب المال، في إنفاق المال، في العلاقات الاجتماعية، في الحواس الخمس، كيف أنظر؟ كيف أغض بصري؟ ماذا أسمع؟ ماذا ينبغي أن أسمع؟ ماذا ينبغي ألا أسمع؟ لا بد من معرفة أوامر الشرع، فالتوبة من أركانها العلم.
وركنها الثاني: الحال، يعني لا بد من أن يشعر التائب بندمٍ شديد على ما مضى من ذنوب، هذا الندم يؤكد صحة توبته، وهذا الحال حال الندم, لا بد من أن ينقل الإنسان إلى حالٍ آخر، أو إلى عمل، ينطلق إلى طاعة الله، يلغي كل معصية، كل مخالفة، يصحح كل مخالفة متعلقة بحقوق العباد، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
[سورة الأحقاف الآية: 31]
هذه (من) للتبعيض، يعني يغفر لكم بعض ذنوبكم المتعلقة فيما بينكم وبين الله عزَّ وجل، الذنب الذي بينك وبين الله، الله سبحانه وتعالى يغفره، ولكن الذنب الذي بينك وبين العباد, لا بد من أن يغفر لك العباد، لهذا جاء في قوله تعالى:
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
[سورة الأحقاف الآية: 31]
فلا بد من علم، ولا بد من حالٍ، ولا بد من عمل، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((النَّدَمُ تَوْبَةٌ))
[أخرجه أحمد في مسنده]
ومعنى: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ))
يعني لخص العلم, والحال, والعمل بكلمة واحدة، وهذه من روائع إيجازه: لا بد من علمٍ أوجب الندم، ولابد من حالٍ دفع إلى العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)).
لمجرد أن تندم, معنى ذلك: أنك قد علمت أن هذه مخالفة للشرع، ولمجرد أنك قد ندمت، تعقد العزم على ألا تعود إلى مثلها ثانيةً، وانتهى الأمر. إليكم هذا الحديث الذي يصب في معنى هذا البحث:
أيها الأخوة, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ, حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ, نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ, حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ؟))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
فإذا سألني أخ سؤالا واقع في مشكلة عويصة، أو أزمة، أمامه شبح مصيبة، خائف من جهة، أقول له: عليك بقيام الليل، صلِ ركعتين قبل الفجر، واسأل ربك في السجود, هذه الحاجة، أخذاً من هذا الحديث:
((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ, حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ, نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ, حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ؟))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
رب العزة، خالق السموات والأرض، مَن بيده ملكوت السموات والأرض، من بيده كل البشر؛ كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، خطيرهم وحقيرهم بيده، وأنت واقع بمشكلة مع أحدهم، اسأل ربك:
لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أفضاله لا تحجب
إذا سئل الإنسان يغضب، وربك سبحانه وتعالى يغضب إن تركت سؤاله، الليل جعله الله عزَّ وجل, لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فمن أحب أن يشكر ربه عزَّ وجل على نعمة الإيمان، على نعمة الصحة، على نعمة الزواج.
كان السلف الصالح, إذا واجه نعمة, لها سجود الشكر، واحد تزوج، ليلة العرس, رأى في زوجته كمالاً وصلاحاً، رآها كاملة في الخلق، وصالحة في الأخلاق, فصليت ركعتين شكراً لله على نعمة الزوجة الصالحة، فلما سلمت وجدتها تصلي بصلاتك، وتسلم بسلامك، وتشكر شكرك، فإذا واحد الله عزَّ وجل كَمَّله، سلَّم له صحته، زوجته كما يريد، أولاده أبرار، ساكن في بيت يأويه، متدفئ، شبعان، قم في هذا الليل, اشكر ربك عزَّ وجل على هذه النعمة، فلعل الله سبحانه وتعالى لا يزيحها عنك، الشكر على النعمة أمانٌ من زوالها, قال تعالى:

﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾
[سورة الفرقان الآية: 62]
لك عنده حاجة، راغب في شكره، راغب في مغفرته، لك عنده قضية، خائف من جهة، واقع في ورطة، قضية معسَّرة، لا تجد بيتًا، لا تجد زوجة صالحة، جاء التحليل أن في معك نسبة عالية، في الجسم موضع يحتاج لعملية، مشكلة بالبيت مع زوجتك، مع أولادك بعملك، اسأله، إن الله يحب أن تسأله حاجتك، من لا يدعني أغضب عليه، إن الله يحب من عبده, أن يسأله شسع نعله إذا انقطع، اسأله يا أخي، اسأله وترجاه، باب عظيم, فلما يكون للإنسان علاقة مع الله مباشرةً, معنى هذا أنه عرفه، صدق القائل:
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميتُ

من تتمة معاني هذا الحديث: يا عبادي إنكم تخطئون........أغفر لكم:
يقول الله عزَّ وجل:
((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))
الواحد لا يطل في الذنب، إذا غلطت اليوم, فاستغفر في العشي، لا ينام على معصية، زلت قدمه، العصر يستغفر، إذا نام ينام على طاعة، خرج من بيته وقع بمشكلة، رأساً يدخل لمسجد يصلي، ويتوب لله عزَّ وجل، هكذا المؤمن مذنب تواب، وربنا عزَّ وجل يفتح لك باب التوبة على مصراعيه، ولا تعرف، ولا تذوق طعم التوبة إلا إذا كنت تائباً، تشعر نفسك خفيفًا، والله أنا أشعر أن المذنب ثقيل، وكأن جبال وكوابيس فوق أكتافه، جبل فوق صدره جاثم، والتائب خفيف، يقول لك: دبر ألا تدبر، أنا إن شاء الله على طاعة الله، وعلى الله الباقي، هذا الشعور بالأمن, قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 81]
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 82]
الشعور بالأمن، أن تشعر أن خالق الكون راضٍ عنك، والله هذا الشعور لا يقدر بثمن، تحس حالك إنسان آخر، أنت غالي على الله, قال تعالى:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
[سورة الطور الآية: 48]
أنت في ظلِّه، لأنك مطيعٌ لأمره, أنت في ظله، أنت في حمايته، أنت في رعايته، تحس في عناية, صدق القائل:
وإذا العناية لاحظتك جفونها نم فالمخاوف كلهـن أمان
تشعر أن الله معك؛ يسددك، يكرمك، يتجلى على قلبك، يوفقك، يلهمك القول السديد، والموقف الصحيح، هذا الشر صرفه عنك، هذا الموقف نجاك عنه، هذه الأزمة خلصك منها، تحس بمعاملته، فالإنسان متى يثبت في الحق؟.
يثبت في الإيمان, حينما يشعر أن الله معه، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ تخاف من مَن؟ إذا كان الجندي أبوه قائد الجيش، هذه الرتب كلها لا يخاف منها, والده أعلى قائد بالجيش، إن رأى ملازمًا، إن رأى مثلاً نقيبًا، يحس بطمأنينة عجيبة، هكذا حال المؤمن, قال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾
[سورة هود الآية: 55]
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
[سورة هود الآية: 56]
كل هؤلاء الدواب آخذٌ بناصيتها, قال تعالى:
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
[سورة هود الآية: 56]
فلذلك: باب التوبة مفتوح، وربنا عزَّ جل ينتظر أن تتوب إليه.
لو يعلم المعرضون انتظاري لهم, وشوقي إلى ترك معاصيهم, لتقطعت أوصالهم من حبي، يا داود, هذه إرادتي في المعرضين, فكيف إرادتي في المقبلين؟.
هذا المعرض الذي يعصي، يسب الأديان، هذا المعرض لو يعلم انتظار الله له, وشوقه إلى ترك معاصيه, لتقطعت أوصاله من حبه، ولماتوا شوقاً إلي، يا داود, هذه إرادتي في المعرضين, فكيف إرادتي في المقبلين؟ فربنا عزَّ وجل يقول:

((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))
ماذا ننتظر؟ لا بد للإنسان ألا ينام الليل لهذا الحديث، لا يتأخر ثانية في التوبة إلى الله عزَّ وجل، من أعماقك: يا رب تبت إليك توبةً نصوحا, قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾
[سورة التحريم الآية: 8]
الإنسان يغلب الشيطان بالاستغفار، عوِّد نفسك الاستغفار، كلما زلت قدمك قل: يا رب اغفر لي ذنبي، إن لم تغفر لي, فمن يغفر لي؟ يعني النبي عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نستغفر الله عزَّ وجل؟.
هذا الحديث مهم, لأن فيه فقرات دقيقة جداً، فقرة متعلقة بالهداية، فقرة متعلقة بالرزق، فقرة متعلقة بالعبودية، فقرة متعلقة بالاستغفار.
رسالة من عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:
وإلى سيرة سيدنا عمر رضي الله عنه.
العجيب تدخل قصر العدل، تجد وراء القاضي وصية سيدنا عمر لأبي موسى الأشعري، هذه الوصية تعد دستوراً للقضاة، أصحاب رسول الله من أي جامعة تخرجوا؟ ما الشهادة التي نالوها؟.
إنسان عاش في الصحراء؛ النبي عليه الصلاة والسلام علَّم أصحابه، فكان أصحابه أبطالاً، يسمى عصر النبي عليه الصلاة والسلام: عصر الأبطال.
سيدنا عمر يرسل كتابًا إلى أبي موسى الأشعري، يعد هذا الكتاب دستوراً للقضاة حتى الآن, حتى أكثر الأحكام الشرعية في القضاء مأخوذة من هذه الوصية، يقول: ((من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس سلامٌ عليك، أما بعدُ؛ فإن القضاء فريضةٌ محكمة، وسنةٌ متبعة، فافهم إذا أُدْلي إليك، -يعني القاضي ومن قام مقام القاضي.
أحياناً يكون المتهم, يتكلم عن أحداث المشكلة، والقاضي يفكر بالغداء، هذه مشكلة، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ, وَهُوَ غَضْبَانُ, قَالَ هِشَامٌ فِي حَدِيثِهِ: لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه]
حملوا على ذلك, إذا كان جائعًا، أو إذا كان غضبان، أو إذا كان معه مشكلة، فلا بد من الصفاء، لابد من التفهم.
قلت لكم مرة: الحجر الذي ضج بالشكوى إلى الله عزَّ وجل, قال:

((يا رب عبدتك خمسين عاماً، وتضعني في أس كنيف, فقال: تأدب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم))
والحديث النبوي الشريف, عَنْ بُرَيْدَةَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ, رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ, فَعَلِمَ ذَاكَ, فَذَاكَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ, فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ, فَهُوَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ, فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
واحد قرأه لي خطأ من يومين, قال لي: قاضيان إلى النار، وقاضٍ إلى جهنم، يعني الثلاثة إلى النار، هو:
((الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ, رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ, فَعَلِمَ ذَاكَ, فَذَاكَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ لَا يَعْلَمُ, فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ, فَهُوَ فِي النَّارِ, وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ, فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ))
[أخرجه الترمذي في سننه]
فقال له: فافهم إذا أدلي إليك حقوق العباد، الظلم يهتز له عرش الرحمن، -اسمع هذا الحديث، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ:
((اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
كافر، مجوسي، عابد صنم، ملحد، لا شأن لك، هذا عبد لله عزَّ وجل, عليك أن تعدل في حكمك.
أحياناً معلم, يأتيه طالبان صغيران متخاصمان، فيضرب الاثنان معاً، حطمت الطفل الصغير، واحد مظلوم، والثاني ظالم، ضرب الاثنين، وقال لهم: اخرجوا إلى خارج المدرسة، ماذا فعلت أنت؟ هذا طفل، هذا نفس، شك بالقيم كلها، حقد على الإنسانية، ما عمل شيئًا إلا أن رفيقه ضربه، جاء عندك، وعملك قاضي, قال لك: أستاذ هذا ضربني، افتح يدك, ضرب الأول والثاني، حتى على هذه الحادثة ظلم شديد.
أحياناً الأب يكرم ابنًا دون ابن، يعتني بابن دون ابن، النبي عليه الصلاة والسلام نهانا أن نميز بين أولادنا في القُبَل، أنت جربها إذا كان عندك ابن صغير قبِّله، وانظر إلى الثاني تجده ينظر إليك، وكأنه يزورك، ما تقبلني أنا, تحطمه، فهذا القضاء ليس على الذي يجلس على القوس، ولكن الأب قاض، المعلم قاض، مدير المعمل قاض، رئيس الدائرة قاض، عملياً القاضي يفصل بين المرؤوسين، فلما يميل الإنسان فقد قال الله عزَّ وجل:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ﴾
[سورة الأنعام الآية: 81]
انظروا الأمن, قال تعالى:
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 81]
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 82]
نفهم من الآية: أن هناك مَن يؤمن بالله، ويلبس إيمانه بظلم، هذا لن يكون آمناً في حياته، ما دام في ظلم، أحياناً زوجتان، ظلم واحدة منهن، أحياناً ولدان، أو بنتان؛ بنت أخذ لها بيتًا، واعتنى بزوجها، والثانية لا يحب زوجها، هذه يكرمها، وتلك لا يكرمها.
أحياناً الحمو تظلم الكنة كثير، إذا تجدها ابنتها حريصة عليها، إذا تأخرت بالنوم تقول: مسكينة تعبت، أما إذا الكنة تأخرت، مثل القردة، لماذا إلى الآن متأخرة بالنوم؟ هذا ظلم كبير، فهذا الكلام ليس للقاضي فقط، للحمو، للزوج، للأب، للمعلم، لرئيس الدائرة، كل إنسان تحت يده في عشرة، خمسة-.
فقال له: فافهم إذا أدلي إليك, وأنفذ إذا تبين لك، -إذا أدلى لك الخصم فافهم تمام, اطلب الأدلة.
التنفيذ ضروري جداً، فمما يذهب قيمة العدالة عدم التنفيذ، قرار صدر لا بد من سرعة التنفيذ، فإنه لا ينفع حقٌ لا نفاذ له، القرار ما عاد له قيمة، إذا أنت حكمت على فلان، وفلان ما تنفذ فيه الحكم، ما عاد للقرار قيمة- قال له: فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفق حقٌ لا نفاذ له، آسي بين الناس في مجلسك ووجهك.
رسالة من أحد الولاة إلى عمر بن الخطاب:
-قيل: إن سيدنا عمر, جاءته رسالة من أحد الولاة, قال له:
((إن أناساً, قد اغتصبوا مالاً ليس لهم، لست أقدر على استخراجه منهم, إلا أن أمسهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلت؟. فقال له: ويحك أتستأذنني في تعذيب بشر؟ وهل أنا لك حصنٌ من عذاب الله؟ وهل ينجيك رضائي من سخط الله؟ أقم عليهم البينة، فإن قامت، فخذهم بالبينة, ثم ادعهم للإقرار، فإن أقروا, فخذهم بإقرارهم، ثم ادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، وايم الله لأن يلقوا الله بخياناتهم, أهون من أن ألقى الله بدمائهم))
من روائع التاريخ:
يروى أن سيدنا عمر, كان إلى جانبه سيدنا علي، جاء رجل يهودي يرفع قضيةً على سيدنا علي، ماذا فعل سيدنا عمر؟ قال له:
((قم يا أبا الحسن فقف إلى جنب الرجل، -لأنه آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك، فسيدنا علي غضب، ليس له حق يغضب, هذا قضاء، حكم بالقضية لسيدنا علي، لأن الحق كان مع سيدنا علي- قال له: يا أبا الحسن أوجدت علي؟ قال له: نعم, -ما هو الموضوع؟- قال له: لم قلت لي: يا أبا الحسن، ولم تقل لي: يا علي؟ لقد ميزتني عليه))
إذا قال القاضي للواحد: أبو فلان، ما هو الموضوع, اذكره لنا؟ تفضل، هذا كرسي، والخصم الثاني واقف: ما هو الموضوع؟ ما هو اسمك أنت؟ هذا القاضي وقع في إثم كبير، اسم باسم، اقعد اقعد، قف قِف، عبوس عبُوس، طلاقة وجه، طلاقة وجه، واحد تفضل اقعد، وواحد عبس في وجهه، واحد أبو فلان، وواحد ما هو اسمك أنت؟ هذا ظلم. من ذاكرة التاريخ:
يروى أنه في العهد الأموي, كان أحد القضاة, عُرف أنه يحب الرطب, بل يحبه في بواكيره، في أول ما يثمر، فمرة طرق الباب، جاء رجل, فقدم لهذا القاضي طبقًا من الرطب، فسأل:
((من جاء بهذا؟. قال له الخادم: جاء رجل شكله كذا وكذا، فعرف القاضي أن هذا الرجل أحد الخصوم في قضية عنده، فردَّه له، ما قبض، وثاني يوم ذهب إلى أمير المؤمنين وقال له: أعفني من هذا المنصب, لمَ؟. قال له: والله لا أريد، فبعد أن ألح عليه, قال له: والله حدث معي البارحة كذا وكذا، فأنا رددت الطبق، لكن تمنيت في اليوم الثاني, أن يكون الحق مع الذي قدم الطبق، فقط تمنيت، وقد رددته، فكيف لو أخذته؟ -الطبق رده ولم يأخذه، ولكنه تمنى في اليوم الثاني, أن يكون الحق مع هذا الذي قدم هذا الطبق- قال له: هذا مع أني رددته, فكيف لو قبلته؟))
فالعدالة دقيقة جداً، وربنا عزَّ وجل هو الحق.
يقولون: إنه في الحرب العالمية الثانية، إحدى الدول المهزومة بالحرب، رئيس وزارة التفت لأعضاء المجلس، وسألهم واحِداً واحداً قال له: كيف الوضع عندك يا فلان؟ قال له: المعامل كلها مهدمة، كيف الوضع عندك؟ قال له: في إفلاس عام، كيف الوضع؟ فالتفت إلى مَن بيده أمور العدل قال له: وكيف العدل عندك؟ قال له: بخير، فقال: نحن جميعاً بخير، مادام العدل صحيحًا, فنحن جميعاً بخير-.
من وصايا عمر في القضاء:
1-موضوع البينة:
قال سيدنا عمر: آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.
-يعني عبء تقديم الأدلة على المدعي، والمدعى عليه إذا أنكر، فلك أن تدعوه لحلف اليمين الحاسمة، وهذه اليمين الحاسمة يمين غموس، ومعنى غموس: أن الإنسان لو حلف كذباً, لاقتطاع حق امرئ مسلمٍ, فقد غمس في النار، وهذه اليمين الغموس ليس لها كفَّارة، لماذا؟ لأنها تخرج صاحبها من الإسلام، الموت ما له دواء، مات، الدواء لواحد فيه حياة، فيه أمل، الكفارة ليمين منعقدة، أما اليمين الغموس فلا كفارة لها، لأنها تغمس صاحبها في النار، يحتاج الإنسان بعدها إلى تجديد إسلامه، يشهد الشهادتين مرة جديدة.
وربنا عزَّ وجل أحياناً, الإنسان يسمع حوادث, أن هذا حلف يمين، وما صار له شيء، مضت ثماني سنوات أخذ المليون، وما صار له شيء، وإنسان لا يتخطى باب المحكمة إلا ويقع مفلوجًا، يا ترى ما هذه وما تلك؟ ربنا عزَّ وجل قال:

﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[سورة آل عمران الآية: 137]
وقال في آية ثانية:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
[سورة الأنعام الآية: 11]
(ثم, والفاء)، قد تكون الحكمة: أن الله سبحانه وتعالى, يعاقب هذا الذي حلف يميناً غموساً في الساعة نفسها، وقد تكون الحكمة أن يمد له، يعطيه فرصة، فهذه من حكمة الله عزَّ وجل-.
فالبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين, إلا صلحاً أحل حلالاً أو حرم حراماً.
-كل عقد خلاف نص القانون باطل، اعمل عقدًا مع إنسان على دكان, أن هذه إجارة سنة واحدة، تقدر تقيم دعوى على إنسان؟ لأن هذه المادة خلاف القانون، المحل التجاري لا يخلف، لأنه مدفوع فروغ، مليون فروغ، وتريد إخراجه انتهى العقد, يجب أن يأخذ فروغ أولاً ليبيع هذا المحل، كل عقد مخالف للقانون باطل، وهذه القاعدة: الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حلالاً أو حرم حراماً، يعني أي اتفاق بين المسلمين إذا كان مخالف لكتاب الله باطل-.
2- مراجعة الحكم إذا ألبس عليه والعودة إلى الحق:
قال: ولا يمنعنك قضاءٌ قضيته بالأمس, فراجعت فيه نفسك، وهُديت لرشدك, أن ترجع إلى الحق.
-أنا أعد الإنسان بطلاً, إذا تراجع عن خطئه، من علامات بطولته، من علامات رجولته، من علامات فهمه، من علامات ورعه، من علامات استقامته أن يقول: أخطأت بملء فمه.
سيدنا عمر على المنبر, وهو ثاني الخلفاء الراشدين, قال:
((أصابت امرأة وأخطأ عمر))
مكانته هي هي، ولكن الإنسان يغلط أحياناً، الإنسان غير معصوم.
فقال له: إذا ارتكب واحد غلطة يعتذر، يتراجع، يبين الصواب، فكل إنسان يتعنت، ويصر على خطئه، وعلى انحرافه, أو على أفكاره غير الصحيحة, فهذا إنسان غير عالم-.
قال: فلا يمنعنك قضاءٌ قضيته بالأمس, فراجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك, أن ترجع إلى الحق, فإن الحق قديم لا يبطله شيء.
-عوّد أن تتراجع عن خطأك مع أسرتك، مع أولادك، مع جيرانك، مع زبائنك، مع طلابك، تزداد عندهم رفعة، نصف العلم لا أدري، لا يوجد شيء اسمه: إنسان لا يخطئ، الأنبياء معصومون، الأولياء محفوظون، عامة الناس يصيبون ويخطئون، ما جاءنا عن هذه القبة الخضراء، سيدنا رسول الله فعلى العين والرأس، وما جاء عن سواهم, فهم رجال ونحن رجال، كل إنسانٍ يؤخذ منه ويرد عليه، إلا صاحب هذه القبة الخضراء.
إن كنت ناقلاً فالصحة، مدعياً فالدليل، لولا الدليل لقال: مَن شاء ما شاء، عوِّد نفسك أن تطلب الدليل، لا تقبل من إنسان شيء إلا بالدليل، لا ترفض إلا بالدليل، أنت بذلك عالم، أما هذا الذي يقبل من غير دليل, هذا إنسان مقلد-.
3- مراجعة الحق خير لك من التمادي في الباطل مع مثال عليه:
قال: ومراجعة الحق خيرٌ لك من التمادي في الباطل.
-لما كان سيدنا عمر مع سيدنا ابن عوف رضي الله عنهما، وشاهدوا قافلة قد جلست, تستريح في المدينة ليلا، فقال له:
((تعال نحرس هذه القافلة، فسمع صوت طفلٍ يبكي, فنبه أمه أول مرة, والثانية, والثالثة، ففي المرة الثالثة قال لها: يا أمة السوء أرضعيه, قالت: إنني أفطمه، وعمر لا يفرض لنا العطاء, إلا إذا كان فطيماً. سيدنا عمر خاطب نفسه وقال: ويحك يا بن الخطاب, كم قتلت من أطفال المسلمين؟ ولما صلى الفجر بالمسلمين, يقول بعض أصحابه: أنهم ما فهموا قراءته أبداً, لشدة بكائه))
تبقى مكانتك هي هي، غلطت تتراجع، تبقى أنت حيث أنت، بل تزداد في نظر الناس رفعةً-.
4- بيان موضع الاجتهاد:
قال: الفهم الفهم, فيما تلجلج في صدرك, مما ليس في كتاب الله.
-إذا كان في قضية, فيها آية قرآنية, انتهى الأمر، لأنه:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب الآية: 36]
إذا حرم الله الربا فهو حرام، انتهى الأمر، لا يوجد فلسفة هنا، أخي الوضع صعب، بعد ما ربنا عزَّ وجل حرَّم حرَّم، حلال حلال، حرام حرام، بينهما أمور مشتبهات، من ترك الشبهات, فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومَن حام حوى الحمى, يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى, ألا وإن حمى الله محارمه، فالإنسان فيما فيه نص، لا اجتهاد في موطن النص، في قضية فيها نص, قال تعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
[سورة النور الآية: 30]
هذه الآية ليست كما تقصد أنت، لأن الزمان صعب، والطريق كله نساء، والواحد شغلته مع النساء، أين يذهب بعيونه؟ قال تعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾
[سورة النور الآية: 30]
لا اجتهاد في مورد النص، وإذا وُجد حديث صحيح شريف, انتهى الأمر، كذلك لا يوجد اجتهاد، أما قضية ليس فيها نص قرآني, ولا من السنة، الآن نحتاج للقياس والإجماع، الإجماع والقياس, هذان مصدران تشريعيان فرعيان، الأصيلان القرآن والسنة-.
فقال له: الفهم الفهم, فيما تلجلج في صدرك, مما ليس في كتاب الله، ولا في سنة نبيك، واعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور عند ذلك.
-النبي قال:

((لا يقضي القاضي وهو غضبان))
قاس العلماء عليها: وهو جائع، وهو منزعج، هو حاقن, لا يجوز يقضي، هذا قياس، الخمر حرام، والحشيش حرام، وكل المسكرات حرام، يقاس عليها- اعرف الأشباه والأمثال، ثم قس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق فيما ترى.
5- إيجاد العذر للمدعي أول مرة ويسقط في المرة الثانية إن لم يأت ببينة:
قال: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً.
-واحد ادعى واضطر يسافر، لأنه غاب أول جلسة الدعوى تسقط؟ لا، بل تعطيه تأخير شهر ثاني، اجعل لمن ادعى حقاً غائباً، أو بينةً، أمداً ينتهي إليه، إذا غاب ثاني جلسة, تسقط الدعوى، ويصدر في حقه حكمٌ غيابي للمدعى عليه, فإن أحضرت، قال لك: أمهلني, أريد أن آتي لك بالوثيقة، مبلغ أنا دافعه، أين دافعه؟ عندي إيصال، والإيصال تركته بمكتبتي, نسيت أين هو، وأحتاج شهرا لأخرجه.
إذا طلب أحد الأطراف من القاضي تأجيل الدعوى لإحضار بينة, فعلى القاضي أن يفعل ذلك- فإن أحضر بينةً, أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك، وأجدى للعمى، وأبلغ في العذر.
6- المسلمون عدول في الشهادة:
قال: المسلمون عدولٌ في الشهادة، -الأصل في الحياة: أن الإنسان بريء ما لم يتهم، الأساس أنه بريء ما لم يتهم- فالمسلمون عدولٌ في الشهادة بعضهم على بعض، إلا مشدوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاءٍ أو قرابة.
-شريح القاضي, جاءه سيدنا علي رضي الله عنه، يدعي على يهودي اغتصابه درعاً له، سيدنا علي عنده درع ثمينة جداً، افتقدها، رآها مع يهودي، قال:
((هذه لي, قال: كلا, بل هي لي، -اختصموا وهو أمير المؤمنين- رفع الأمر إلى شريح القاضي, فقال له: يا أمير المؤمنين البينة، أو شاهداك، فجاء بشاهد وهو غلامه، وجاء بابنه سيدنا الحسن، فقال له: أما غلامك فشهادته مقبولة، وأما الحسن فشهادته مرفوضة، قال له: النبي عليه الصلاة والسلام بشره بالجنة))
-مرفوضة.
الآن القاضي لا يأخذ بشهادة الابن، طبعاً هذه الشهادة من مصلحة أبيه، ولا البنت، ولا الزوجة، ولا الأب، ولا الأخ، ولا الأخت، عندنا مجموعة أقارب لا تقبل شهادتهم، لأنه قطعاً هذه الشهادة لمصلحة الأب، هو حكم لليهودي أن الدرع له، ما في بينة كافية، يقال أن اليهودي أسلم، أنه أنا أقف مع أمير المؤمنين أمام قاض، ولأن القضية تفتقر إلى شاهد، صار الحكم لي، أعلن إسلامه-.
فالمسلمون عدولٌ في الشهادة بعضهم على بعض، إلا مشدوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاءٍ أو قرابة، ولاء أو قرابة، -الآن الشريك مع شريكه، يمكن القاضي يرفض أن يشهد الشريك لشريكه في مصلحة بينهما، شريك، أخ، صديق، إذا كان في علاقة في مصلحة، الشهادة مرفوضة-.
7- إليكم شرح بقية الوصية:
قال: فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ عنكم الشبهات، وإياك والقلق، والضجر، والتأذي بالناس.
-إذا أحب الله عبداً, جعل حوائج الناس إليه، فالإنسان لا يتأذى، لا يضجر، لا يتبرم، لا يتململ، لا يسأم، فإذا سئم, ما عرف أن الله سبحانه وتعالى ساق هذا الخير إليه، ورفعه بهذا، يمكن أن تنفر الناس منك وترتاح، لا أحد يطرق بابك أبداً، ولا أحد يكلفك بعمل، لكن عند الله عندئذٍ لن تكون رضياً-.
قال: وإياك والقلق, والضجر, والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر.
-القضية تحتاج لكشف، لا أطلع، اذهب يا أخي، قال لك: تحتاج لكشف، اطلع اكشف على البيت، أحياناً يكون القرار غير صحيح, حتى لا يبذل القاضي جهدا، هذا محاسب عليه، يقرأ المذكرات كلها قراءة دقيقة جداً-.
قال: فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى, يكفه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيَّن للناس فيما يعلم الله خلافه منه، شانه الله, وهتك ستره, وأبدى فعله.
-كل إنسان يحب أن يكون له موقف أمام الناس جيد، أما هو على خلافه، الله عزَّ وجل يفضحه في عقر داره، لذلك الدعاء الذي يقطع الظهر:
((اللهم إني أعوذ بك, أن أتزين للناس بشيءٍ يشينني عندك، وأعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك, أرجو به أحداً سواك، وأعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني، وأعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك)) تتزين للناس بشيء، وأنت عند الله لست مقبولاً, هذه مشكلة، ومصيبة كبيرة-.
قال: فما ظنك بثوابٍ عند الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته؟ والسلام))

طبعاً لو كلفنا مختصين بالقضاء, ليشرحوا هذه الوصية, لاحتاجت إلى سنوات، هذه دستور إن صح التعبير في أصول المحاكمة، هذه الرسالة محورها أصول المحاكمات، أخلاق القاضي, صفات القاضي، حقوق المتخاصمين، المدعي، المدعى عليه، هذه رسالة، لذلك الإنسان كلما اقترب من الله عزَّ وجل نور الله قلبه، وكشف عن بصيرته.
موقف أخير لعمر بن الخطاب:
يروى أنه دخل على سيدنا عمر وفد من المجاهدين، كانوا يفتحون تكريت وجلولاء، فرأى جسومهم ضامرة، ووجوههم شاحبة، فيسألهم عن سبب ضعفهم، فيجيبونه:
((لأنها بلادٌ رطبة، فكتب لسيدنا سعد, يأمره أن يحسن اختيار مكانٍ يلائم الناس، ويرسم له الطريق فيقول: ابعث سلمان رائداً وحذيفة, فليبحثا عن منزلٍ, ليس بيني وبينكم فيه بحرٌ ولا جسر، وادع أبا زياد بن مالك، وأمره أن يجعلها مناهج - يعني شوارع - عرض مكلٍ منها أربعون ذراعاً، وأخرى عرض كل منها ثلاثون ذراعاً، وأخرى عرض كل منها عشرون ذراعاً))


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 09-13-2018, 08:57 AM   #25


الصورة الرمزية السعيد
السعيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1095
 تاريخ التسجيل :  Oct 2017
 العمر : 47
 أخر زيارة : 11-22-2018 (07:57 AM)
 المشاركات : 12,670 [ + ]
 التقييم :  1432
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الحديث الشريف

الدرس : ( الثالث و العشرون )

الموضوع : باب المجاهدة - 6 - الحديث القدسى - تتمة الحديث القدسى - يا عبادى انكم لن تبلغوا ضرى الا نفسة






الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إليكم شرح الجزء المعني من هذا الحديث: ((يا عبادي, إنكم لن تبلغوا....... فتنفعوني)):
أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في الحديث القدسي، عَنْ أَبِي ذَرٍّ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, أَنَّهُ قَالَ:
((يَا عِبَادِي, إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ, فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ, فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ, يَا عِبَادِي, كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ, فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ, يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا, فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))
إلى هنا تم شرحه في دروس سابقة.
نتابع الحديث: ((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ, يَا عِبَادِي, إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ, ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ, فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
أيها الأخوة الأكارم, ((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))
، هكذا يقول الله تبارك وتعالى، الإنسان أعلى درجة يمكن أن يصلها هي مرتبة العبودية لله عز وجل، وإذا وصلت هذه المرتبة, فيجب أن تعلم علم اليقين: أنك لا تملك شيئاً، رحم الله عبداً عرف قدره فوقف عنده، كل إنسان فيه ضعف من إيمان, ربما تجاوز قدره، وقدره عبوديته لله عز وجل، لذلك لو فكر الإنسان في نفسه، فكر في جسمه، لرأى أن حياته متوقفةٌ على آلافِ آلاف الأجهزة, والأعضاء، والخلايا، والأنسجة، والغدد، فلو أن شيئاً من هذا تعطل, لانقلبت حياته إلى جحيم، فمجرد أنك إذا استيقظت, ترى أنك في صحة طيبة، هذه نعمة، ولكن ليست بذكائك، وليست بجهدك، وليست من فرط عنايتك بنفسك، إنما هي من رحمة الله عز وجل, ولطفه بك، نعمة الصحة, فهناك مَن هم أذكى منك، ظهر في بعض أنحاء أجسادهم ورم خبيث، انتهى الأمر، هناك أشخاص أكثر حيطة منك، تعطلت بعض أجهزتهم، أحياناً تتعطل الكلية فجأة، هبوط مفاجئ في وظائف الكليتين، انتهت، أصبحت الحياة قطعةً من الجحيم، فإذا دقق الإنسان في خلقه, يرى أنه لا يملك شيئاً، يؤكد هذا قول الله عز وجل:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 26]
من الذي يملك هذه العين؟ القرنية, الملتحمة, القزحية, الجسم البللوري, الخلط الزجاجي, الشبكية, عشر طبقات للشبكية، مئة وثلاثون مليون عصيّة، سبعة ملايين مخروط, أربعمائة ألف عصب، مركز الرؤية بالدماغ؟ هذه العين مَن يملكها؟ تسمع أحيَاناً سقوط الشبكية، أحياناً تتعطل بعض العضلات في العين, قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 26]
العين، والأذن، واللسان، والدماغ، والذاكرة، والأعصاب, والعضلات، فهناك أمراض لا تعد ولا تحصى، أمراض العظام، أمراض العضلات، أمراض الجلد، أمراض العين، أمراض الأذن، أمراض اللسان، أمراض الدماغ، أمراضٌ لا تعد ولا تحصى، فلما يكون الإنسان بحالة طيبة, فهذه نعمة لا يعرفها إلا مَن فقدها، لذلك:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 26]
فأنت مفتقر إلى الله عز وجل, صدق القائل:
وما لي إلى فقري إليك وسـيلة فبالافـتقـار إليك فقـري أدفـع
ومـا لي ســوى قرعي لبابك حـيلةً فإذا ردت فـأي باب أقرع
مقام العبودية, يجب أن تعرف, أن الذي أعطاك, هو الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الذي أعطاك محض فضلٍ منه، ولا حيلة لك بشيء، لكن إذا كنت مطيعاً لله عز وجل، فربنا سبحانه وتعالى, يحفظك في الدنيا والآخرة, ((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))
لما قال ربنا عز وجل:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 7]
كيف نوفق بين هذه الآية:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 7]
وبين قول الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي؟))
التوفيق: أن الله سبحانه وتعالى غنيٌ عن أن تنصره، غني عن نصرك، ولكنك إذا وقفت موقفاً تثبت فيه الحق، وضحيت بجزء من طمأنينتك، إذا وقفت موقفاً فيه دعمٌ للحق، ورد على الباطل، هذا الموقف ربما ثبَّت الحق بين الناس، عندئذٍ ربنا سبحانه وتعالى, يرفع من شأنك، وينصرك على مَن تخاف منه، فلذلك إذا نصرت الله عز وجل، فهذا النصر لا يعني أن الله مفتقر إلى هذا النصر، يعني أنك قطعت امتحاناً صعباً, تستحق من أجله العطاء من الله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾
[سورة محمد الآية: 7]
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
[سورة الحج الآية: 74]
هو قويٌ, وليس مفتقراً إلى أن تنصروه، ولكنك إذا نصرتموه، نلتم منه المرتبة العليا، والسعادة الأبدية.
(يَا عِبَادِي, إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي, وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي): الصلاة لك، وأقم الصلاة لذكري، الصلاة من أجل أن تتصل به، من أجل أن تستنير بنوره، فالصلاة والصوم, والحج, والزكاة, كلها تعود عليك في النهاية، فهذه العبادات أوامر الدين، وهي ليست موانع تحد من حريتك، إنما هي ضماناتٌ لسلامتك، فإذا أطعته، ما زدت أن فعلت الخير لنفسك، وإذا عصيته، ما زدت إلى أن سببت التعاسة لنفسك، لن تفيده بطاعتك، ولن تضره بمعصيتك، طاعتك لك، ومعصيتك عليك, قال تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
[سورة البقرة الآية: 286]
﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾
[سورة الروم الآية: 44]
طاعتك لله، عبوديتك له، انصياعك لأمره، ابتعادك عن نهيه، هذا عائدٌ عليك في النهاية، والله غنيٌ عن طاعتك, ولا تضره معصيتك.
إليكم شرح الجزء الأخر من الحديث: ((يا عبادي, لو أن أولكم.........ملكي شيئاً)):
الآن:
((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا))
لكن الله سبحانه وتعالى يريد أن نؤمن, فقال:
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾
[سورة الزمر الآية: 7]
فالرحيم يفرح إذا رحم الآخرين، لكنه قد يكون في غنىً عن مدحهم، أو لا يؤذيه ذمهم، لكنه إذا رحمهم يسعد، هذا الإنسان الطيب الكريم، ربنا عز وجل يرضى إذا آمن العباد، ويمقتهم إذا كفروا به, قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾
[سورة غافر الآية: 10]
مقت الله عز وجل لهذا الإنسان المعرض في الدنيا، أشد من مقته لنفسه يوم القيامة، الإنسان يوم القيامة حينما يرى مكانه في النار، وحينما يرى خسارته الأبدية، وحينما يرى كيف ضيَّع الدنيا في سفاسف الأمور؟ تأتيه حسرة لا توصف، هذه الحسرة يسميها مقتهم لأنفسهم، فربنا عز وجل يقول:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾
[سورة غافر الآية: 10]
من باب التقريب: أحياناً الابن يصر على ترك الدراسة، والأب بعد محاولات يائسة يدعه واختياره، لكن الأب متألم جداً لهذا الموقف من ابنه، لكن حينما يكبر ابنه، ويرى مقدار ما ضَّيع من ترك الدراسة, يتألم من نفسه، يقول له أبوه: أنا متألم ليس الآن، ولكن منذ أن رفضت الدراسة حينما كنت صغيراً, قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾
[سورة غافر الآية: 10]
فمعناها: أن ربنا عز وجل الآن يدعونا إلى الإيمان، يدعونا إلى التوبة، يدعونا إلى الصلح معه، فالذي يستجيب يسعد في الدنيا والآخرة، والذي لا يستجيب لا بد من أن يعتصر قلبه ندماً وأسىً, حينما تنكشف الحقائق.
((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ, مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا))
لن ننفعه إذا آمنا، ولن نضره إذا عصينا، طاعتنا لنا، ومعصيتنا علينا.
إليكم هذا البيان من معنى هذا الحديث: ((يا عبادي, لو أن أولكم.......البحر)):
((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))
مثل رائع جداً: إذا ركبت قاربًا، وأمسكت بإبرة، وغمستها في مياه البحر، ثم رجعت فاسترجعتها، ماذا حملت من ماء البحر؟ هذا الذي حملته ما نسبته إلى ماء البحر، البحر المحيط الهادي أكبر المحيطات العالم، هناك واد اسمه؛ وادي مريانة، هذا الوادي أعمق نقطة في البحار، أعتقد اثني عشر ألف متر وزيادة، فإذا كانت أربعة أخماس الأرض بحارًا، وأعمق نقطة اثنا عشر ألفًا، فكم هي مياه البحار؟ كم حجمها؟ كم متر مكعب؟ إذا كان البحر المتوسط هذا بحرًا محاطُا، هو محاط بأوروبا، وآسيا، وإفريقيا، لكن البحار الكبرى اسمها المحيطات، البحر محيط بإفريقيا، محيط بآسيا، محيط بأمريكا، فالبحر المحيط كبير جداً، أربعة أخماس الأرض بحار، إذا غمست إبرة في مياه البحر، ثم سحبتها، فانظر بما ترجع من مياه البحر، وهذا الذي رجعت به, كم يساوي من مياه البحر؟ ((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ))
إذاً: تقنين الله عز وجل تقنين تأديب، لا تقنين عجز، الإنسان إذا قنن, كان تقنينه عجزًا، يكون دخله محدودا، ينفق بشكل مدروس، أحياناً يكون عجز في بعض المواد الأولية, فيصير فيها تقنين، أحياناً عجز بالمولدات الكهربائية, يصير فيها تقنينًا، فالتقنين البشري تقنين عجز، ولكن التقنين الإلهي تقنين تأديب، تقنين معالجة، وربنا عز وجل من حين إلى آخر يرسل شيئاً من فضله، نسمع أننا نستهلك بالعام حوالي مليون طن قمح، ولكن العام الماضي أنتجت أراضينا ثلاثة وربع، هذا الذي وصل إلى المستودعات الرسمية، أنتجنا ثلاثة أطنان، ثلاثة أمثال حاجتنا، فربنا عز وجل:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾
[سورة الحجر الآية: 21]
كن فيكون، لذلك الأمطار، ممكن أن تُحبس، ممكن أن تأتي بكميات كبيرة جداً، تفيض الينابيع، تفيض الأنهار، الخيرات تمتلئ، وربنا عز وجل قال:
﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾
[سورة الجن الآية: 16-17]
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾
[سورة المائدة الآية: 66]
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾
[سورة الأعراف الآية: 96]
فالموضوع موضوع الرزق بيد الله عز وجل، ما له حدود، لذلك: ((يَا عِبَادِي, لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ, قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي, فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ, مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي, إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ))
ماذا نستفيد من معنى هذا الحديث ؟
((إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ))
أنت لك عمل، النقطة المهمة: إذا الإنسان استمع وما فعل شيئاً، إذا آمن إنسان بشيء بديهي وما فعل شيئاً، إلى أن يبذل، إلى أن يعطي، أنت لك عند الله عز وجل لك إضبارة، فلان الفلاني ما أعماله؟ أما مستمع ممتاز، مستمع ممتاز لا يكفي، يجب أن يكون له عمل صالح، فحجمك عند الله بحجم عملك, قال تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
[سورة الأنعام الآية: 132]
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
[سورة المجادلة الآية: 11]
وفي آية ثانية:
﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾
[سورة فاطر الآية: 10]
هذا سؤال مهم، الإنسان يحاسب نفسه: أنا ماذا قدمت؟ ماذا قدمت لآخرتي؟ قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾
[سورة الحشر الآية: 18]
ساعة الوفاة، ما العمل الصالح الذي يمكن أن أعرضه على الله عز وجل؟ يا ربي فعلت هذا من أجلك، يا رب أنفقت هذا المال من أجلك، يا ربي قدمت خدمات لفلان ولفلان من أجلك، يا رب وجهت زوجتي حتى أصبحت مؤمنة، هذا من أجلك يا رب، فعلت كذا وكذا مع أولادي، فعلت كذا وكذا مع أخواني.
هذا سؤال دقيق جداً، من أنت؟ ما عملك؟ قل لي ما عملك؟ أقل لك مَن أنت؟ ومع ذلك العمل صورة، روح العمل الإخلاص، فإذا كان العمل خاليًا من الإخلاص فلا قيمة له، الأعمال صور روحها الإخلاص، فإذا أكرم ربنا عز وجل أحدَنا بعمل صالح، وكان بهذا العمل مخلصاً، فقد فعل شيئاً ثميناً.
قال لي اليوم واحد: توفيت امرأة في هذه الأيام، هكذا قال لي، وتركت مئتي مليار دولار, عمرها ثمانية وثلاثون سنة، فما قيمة هذه المبالغ الطائلة؟ هي بنت أكبر غني في العالم سابقاً، وماتت، ولم تزد على ثمانية وثلاثين عاماً, هذا ليس عطاء، العطاء ما كان بعد الموت، لذلك الغنى والفقر بعد العرض على الله، ((إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ))
مرة حضرت تأبين متوفى، وكان شخصًا صالحًا، ولكن الذي أبّنه, لم يتمكن أن يتكلم عنه بشيء، هذا الإنسان فرضاً سافر، اعتنى في بيته، كان له ذوق رفيع بالطعام والشراب، كان عنده ميول للأشياء المباحة، لكن لما وضع في النعش، وجاء إنسان ليؤبّنه، ماذا يقول؟ كان أكله طيبًا، لا تتكلم على التأبين، بيته فخم، لا يحكى في هذا الموقف إلا العمل الصالح.
فالواحد منا يقول: إذا كان أنا وضعت في النعش، ووقف واحد لكي يؤبنني, ماذا سيقول؟ يكون عنده شيء يتكلم عنه، فعل كذا، وكذا، وكذا، فالقبر صندوق العمل، والدنيا ساعة فاجعلها طاعة، والنفس طماعة عودها القناعة، ومن عدَّ غداً من أجله, فقد أساء صحبة الموت، إذا كان متيقن أن غداً سوف يعيش، أحياناً ينسى أن يقول: إن شاء الله.
قال لي شخص من يومين: رجل من الأثرياء بالأربعينات، تمكن أن يشتري أراضي مئات الدنمات، بل بالآلاف، وعمر بيتًا فخم جداً بمصيف أحاطه بغابة من الصنوبر، وجعل في هذا البيت كل ما فيه راحة وطرب، وبيت بالشام، وسيارة، فعندما كان بالشام عدد سبع سيارات، عنده أفخر سيارة، جلس مع زوجته في البيت الجديد في الشام، قال لها: الآن أمّنا مستقبلنا، في تلك العشية كان ميتًا، بعدما سكن البيت أول يوم.
ربنا عز وجل يقول في الحديث القدسي: ((إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ))
أنا أتمنى على كل أخ, أن يكون موضوع الآخرة موضوعًا أساسيًا في حياته، إذا كان لك ساحة بالنفس، يكون هذا الموضوع محتلا أكبر مساحة من هذه الساحة، يمكن لإنسان أن يكون موضوع الآخرة محتلا جزءًا يسيرًا جداً.
((من أصبح وأكبر همه الآخرة، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا, جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له))
, فهذا تفكير سديد.
لما ربنا عز وجل خلق العقل قال: ((أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر، قال عزتي وجلالي, ما خلقت خلقاً أحب إلي منك، بك أعطي، وبك آخذ))
إذا أعمل الإنسان عقله إعمالاً صحيحاً, يهتدي قطعاً إلى أن طريق الاستقامة, والعمل الصالح, ومعرفة الله عز وجل, هو أسلم طريق، وأقرب طريقٍ إلى سعادته.
كما ذكرت في الخطبة السابقة: الإنسان أحياناً ينطلق من علاقة غير صحيحة، وضربت مثلا قريبًا من الذين عندهم سيارات، في السيارة مصباح لونه أحمر، هذا مصباح الزيت، إذا تألق فجأة، معنى ذلك: أن الوضع خطر جداً، زيت المحرك نفذ، فلو مشي خمسة أمتار أو عشرة, يحترق المحرك، يلزمه لإصلاحه ثلاثون أو أربعون ألف ليرة.
لو فرضنا شخصًا, تصور أن هذا المصباح, تألق في أثناء السفر، يتألق من حين لآخر، وظنه عاديا، فلما تألق, بدأ ينظر إليه, إلى أن احترق المحرك، بين هذا التصور الخاطئ، وبين ذاك التصور الصحيح, مسافة كبيرة جداً، الإنسان أحياناً في الدنيا, ينطلق من تصور خاطئ، إذا ظن أن الدنيا هي كل شيء، فهذه أكبر مقولة خاطئة، الدنيا ساعة, قال تعالى:
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾
[سورة المؤمنون الآية: 112-113]
هذه الدنيا مهما طالت, تمر يوم القيامة كلمح البصر، إذاً: الإنسان ينطلق أحياناً من تصورات صحيحة أساسها العلم، العلم: علاقة ثابتة بين شيئين, مقطوع بصحتها, مطابقة للواقع, عليها دليل، هذا العلم، بعدم الدليل هو تقليد، من غير الواقع هو جهل، من غير قطع هو شك، ووهم، وظن، فلما يتحرر الإنسان من الشك, والوهم, والظن, والجهل, والتقليد، لم يبق في تصوراته إلا علاقة علمية واحدة، هي العلاقة الحتمية الصحيحة الواقعية, التي عليها دليل، عندئذٍ ينطلق إلى هدفه بشكل واضح تماماً، فأنت لك هدف، ولك حركة يومية، ما لم تنطبق هذه الحركة على الهدف، أو ما لم تتجه نحو هذا الهدف, فأنت في شقاء.
تعريف الشقاء: عدم تطابق الحركة اليومية مع الهدف، إن كان هناك تطابق, فأنت في سعادة، ليس هناك تطابق, فأنت في شقاء، الحركة اليومية؛ استيقظت صباحاً، واحد يستيقظ على الأخبار رأساً يفتح، وإنسان على الصلاة، على القرآن، شتان بين هذا وهذا، انطلقت بالطريق، في الطريق نساء، هذه حركة يومية، المؤمن يغض بصره، إذا غض بصره, فهو يوفق حركته اليومية مع الهدف, مع طاعة الله، غير المؤمن يطلق بصره، معناها انحرفت حركته اليومية عن الهدف
دخل دكانه, عنده بضاعة كاسدة، جاءه زبون, وقال له: أنا لي ثقة فيك، يريد أن ينصحه، فيقول له: هذه أفضل شيء، ما بقى يأتي منها إطلاقاً، ما عاد يأتي منها، على قدر سوءها, لن يأتي منها، حركته اليومية بهذا المحل خلاف النصيحة، خالف النصيحة بالبيع، وخالف غض البصر في الطريق، وخالف في بيته العبادة.
هذه الحركة اليومية منذ أن تستيقظ, هل بدأت بالصلاة؟ هل بدأت بالقرآن؟ هل بدأت بذكر الله؟ هل بدأت بمعرفة الله؟ هل بدأت بالتكبير، والتحميد، والتسبيح؟.
النبي عليه الصلاة والسلام, لما دخل على السيدة عائشة في ليلتها, قال: ((ذريني أتعبد لربي، فقام توضأ, وصلى، فبلَّ لحيته، وركع, وسجد, فبلّ الأرض، ثم اضطجع إلى أن جاء بلال, يؤذنه بصلاة الصبح))
تطلب كأس ماء، تشاهد وردًا، تشاهد الجبل، ربنا عز وجل قال:
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾
[سورة النمل الآية: 88]
هذه الحركة اليومية، النبي الكريم قال: ((أمرت أن يكون صمتي فكري، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة))
فحركتك اليومية بين استيقاظ، بين تناول طعام الفطور، ماذا كان قبل الفطور, ماذا كان الحديث في أثناء الفطور, كان في غيبة, ونميمة، فهل هناك علاقات لا ترضي الله عز وجل؟ هل هناك مخالفات؟ هل هناك معاص في الطريق؟ في البيت؟ في العمل التجاري؟ في العمل الوظيفي؟ في علاقتك مع النساء؟ علاقتك مع الرجال؟ مع الجيران؟ مع الأصحاب؟ في علاقتك مع الله عز وجل؟ إن جاءت الحركة اليومية مطابقة للهدف, فأنت في سعادة، فإن لم تأت مطابقة, فالإنسان في شقاء.
الأجانب عبروا عنها بتعبير آخر، يسمونها شعور الإنجاز، إذا كان عند الإنسان قضية وأنجزها، يشعر براحة كبيرة جداً، إذا اشترى صفقة، وباعها، وربح فيها, يشعر براحة، يفرح، يرتاح، لأن حركته تطابقت مع هدفه، فتح محل وربح، دخل جامعة ونجح، قدم طلبًا وتعين موظفًا سابقاً يفرح، لأنه يكون طموحه قد تحقق، فلما تكون حركةُ الإنسان متوافقة مع هدفه يشعر بالسعادة، فإذا كانت حركته الأساسية متوافقة مع هدفه الكبير, وهو: أن تعرف الله عز وجل, وأن تعبده، وأن تسعد بهذه العبادة، فعندئذٍ الإنسان يشعر بسعادة لا توصف، لذلك السلامة والسعادة, مطلب كل إنسان في أي زمان ومكان، وهذان مطلبان ثابتان.
الإنسان يحتاج غير السماع، تكون له جلسة تأمل، يراجع حساباته، أين أنت من الإيمان؟ يا ترى أنت بأوله؟ بمنتصفه؟ بآخره؟ أين أنت من أمر الله؟ هل أنت مطبق له أم غير مطبق؟ أين موقعك؟ الإنسان أحياناً أين موجود الآن؟ أنا ببيتي، أنا بعملي، أنا بحانوتي، أنا بدائرتي، لو سافر لمدينة لا يعرفها، وركب مع صديق: أين الآن نحن؟ بالقسم الجنوبي، الشمالي، بالقسم العتيق، الجديد، بأولها, بآخرها, لا يعلم أين هو؟.
الإنسان يجب أن يعرف بالإيمان أين هو؟ أين موقعك؟ موقع متقدم، متأخر، متخلف، ضعيف، قوي، موضع فيه نفاق، فيه رياء، فيه إخلاص، الموقع مهم جداً، فلما يستهلك الإنسان وقته بسعي غير هادف، وبأعمال يومية روتينية رتيبة، ليس لها أي معنى، كل يوم مثل أمسِه، استيقظ باكرًا، أكل، ذهب إلى العمل، جاء بالعشاء، نام، سهر، تابع بعض المسلسلات، نام، استيقظ ثاني يوم بلا هدف، ولا حركة، ولا تقدم، فهذا الإنسان يكون في خسارة كبيرة جداً، والإنسان في الدنيا إذا خسر, تعوض الخسارة، ولكنها في الآخرة لا تعوض، لذلك الحسرة التي يشعر بها الإنسان, حينما يضيع الآخرة، تكاد تكون صاعقة.
إليكم شرح ما تبقى من الحديث:
((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
يجب أن تعرف ثمة نظامًا دقيقًا, يحكم كل شيء, هذا غني، هذا فقير, هذا صحيح، هذا مريض، أنت لا تعلم ولكن الله يعلم، لا يوجد عمل عبث من الله، لا يوجد عمل بلا حكمة، هذا توفق بعمله، هذا لم يوفق، هذا نجح في زواجه، هذا لم ينجح، هذا بصحته شيء، وآخر لا شيء، فكلما اقترب الإنسان من الله عز وجل, يكشف الله له الحكمة التي تنطوي وراء هذا التصرف، لكن يوم القيامة لا بد من أن نعرف جميعاً: أن هذا الذي ساقه الله لنا محض حكمة، ومحض عدل، ومحض رحمة، لكن البطولة في الدنيا أن تعرف ذلك.
((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
فأحياناً الإنسان يتلقى ضربة بعصا غليظة من إنسان آخر، فيا ترى ألمه ينصب على العصا أم على الضارب؟ على مَن؟ على الضارب، فمن الغباء, ومن قصور العقل, تصب نقمتك على العصا، وإذا كان الضارب عادل، ورحيم، ولا يظلم إطلاقاً، يجب أن تصب نقمتك على نفسك، فكل إنسان هذا عصاه بيد الله عز وجل، أداة، الله عز وجل أراد أن يؤدبك عن طريق هذا الإنسان، فكل إنسان يسب الآخرين، ويظن الأفعال المؤذية منهم، إنسان ضعيف في توحيده، التوحيد عنده ضعيف، فكلما ارتقى في توحيده, لم يأبه بأفعال الآخرين، ويعلم علم اليقين: أن الله عادل، وهو رحيم، عندئذٍ يعود باللوم على نفسه، فالمؤمن العاقل الموحد لا يلوم إلا نفسه، لذلك النبي الكريم قال: ((لا يخافن العبد إلا ذنبه, ولا يرجون إلا ربه)).
((فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
الحديث انتهى.
قال سعيد: ((كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث, جثا على ركبتيه)).
وقال أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث، في موضوع الظلم، موضوع الهداية، موضوع الرزق، موضوع التوبة، موضوع العبودية، موضوع أن الإنسان قيمته في عمله.
رسالة من عمر بن الخطاب إلى سعد:
والآن إلى شيء عن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
الرسالة الثانية التي أرسلها سيدنا عمر رضي الله عنه لسيدنا سعد رضي الله عنه, أيضاً فيها بعض التوجيهات العسكرية، كأن هذا الإنسان خرِّيج في أكبر جامعة من جامعات فنون القتال، والجامعات العسكرية، يقول سيدنا عمر مخاطباً سيدنا سعد:
((ترفق بالمسلمين في مسيرهم، -فالجندي حينما يلتقي مع العدو, يجب أن يكون مرتاحاً، فهذا الذي يتعب جنوده تعباً شديداً قبل مواجهة العدو, ربما يخفقون في النصر، فالجندي إذا كان مرتاحًا؛ طعامه، وراحة جسمه، وثيابه موفرة، في أموره كلها مرتاح، فإذا جاءت ساعة اللقاء, وساعة المواجهة، كل طاقاته تبذل في هذه المعركة، أما إذا وصل إلى المعركة, وهو منهك، منهك القوى، في حالة تعب, وجوع, وعطش, وضيق، عندئذٍ كأن هذا الجهد الذي بذله سابقاً, قد جعله نصف إنسان، أو ربع إنسان-.
ترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشمنهم مسيراً يتعبهم، -طبعاً التدريب في أثناء الحياة المدنية, ممكن أن يكون تدريبًا قاسيًا، لكن إذا كان موعد اللقاء مع العدو, فيجب أن يكون المسير مريحاً، لا أن يستهلك الإنسان في المسير- ولا تجشمنهم مسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزلٍ فيه رفق لهم -ثمة استراحة في أثناء الطريق يرتاحون، يأكلون، يستعيدون شيئًا من نشاطهم, هذا ضروري جداً، القصد أن هذا الجندي يكون كل طاقاته في المعركة، في أثناء المواجهة، فإذا كان بالطريق نريحه، يستعيد شيء من نشاطه، نؤمن له حاجاته، يكون في حالة طيبة جداً، هذا لمصلحة المعركة-.
قال: حتى يبلغوا عدوهم، -والسفر لم ينقص من قوتهم، يجب أن يصلوا إلى عدوهم, والسفر لم يستهلك طاقاتهم، فإذا استهلك السفر طاقاتهم, كان هناك لقاء غير ناجح في المعركة-
يقول سيدنا عمر لسيدنا سعد: وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة، -هذه العطلة الأسبوعية، حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، أحياناً يكون عند الإنسان ستة أيام عمل شاق، يوم الجمعة بدل أن يكون هذا اليوم عيداً له، هناك أسر تنهي كل أعمالها الخميس، وأشخاص الغسيل يكون الجمعة، والكي، والتنظيف، والحمام يوم الجمعة، فهذا اليوم يوم شاق، والطبخ يوم الجمعة، هناك أشخاص ينهي كل أموره يوم الخميس، هذا يوم عيد للمسلمين، يكون في لقاء بالأهل، في حضور خطبة جمعة، بعد الخطبة الأكل جاهز، الإنسان يجلس مع أهله، مع أولاده، فكأن هذا العيد ضيّعه المسلمون، فصار الجمعة للتنظيف، وخدمة البيت, تحتاج إلى جهد يوم الجمعة، فلم يعد اليوم عيدًا-.
وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة, حتى تكون لهم راحة، يجمعون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، -الاستجمام من ضروريات الحياة، الاستجمام يستعيد الإنسان فيه نشاطه، إذا اشتغل الإنسان في عمل شاق شهر، وارتاح يومين، أو تفسح كما يقولون, أو ذهب في نزهة، هذه جزء من العمل، لأن الإنسان بهذه النزهة, يستعيد أكثر نشاطه، هذه حقيقة الجسم، إن القلوب إذا كلَّت عميت، الإنسان من حين لآخر إذا قام باستجمام، هذا من طبيعة العمل، ومن طبيعة النجاح في العمل-.
فإذا وطئت أدنى أرض العدو، -لم تصل إلى أرض العدو، أي قربت من أرض العدو- فإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذكِ العيون، -أي أرسل أنساً ينقلون لك الأخبار، لأن قرارك بالقتال أساسه المعلومات، إذا لم يكن عندك معلومات صحيحة عن العدو يمكن تتورط، لذلك الحرب كما قال النبي خدعة، ممكن أن يوهمك العدو أنه بهذه الجهة، تركز كل قواتك بهذه الجهة, يكون بجهة أخرى، التف عليك، روح المعركة، فمعرفة مواقع العدو، مراكز قوته، نوع أسلحته، عدد جنوده، هذا شيء ورد في سير الصحابة الكرام، فكان بكل لقاء مع العدو له عيون, يبثها القائد ليأخذ الأخبار الصحيحة، وفي ضوء هذه الأخبار الصحيحة, يستطيعون أن يتخذوا قراراً صحيحاً.
سمعت في التاريخ العسكري, معارك كبيرة في العالم فشلت, بسبب أن كان في تمويه من العدو، تمكن عن طريق مثلاً مدرعات كرتونية يحشدها بمكان، يعمل تفجيرات أصوات، فيظن العدو أن عدوه موجه كل طاقاته بهذا المكان، فإذا توجه إلى هذه الجهة، كان الالتفاف-.
فإذا وطئت أدنى أرض العدو, فأذكِ العيون بينك وبينهم، حتى لا يخفى عليك أمرهم -معلوماتك أساسية في القتال- واختر لهذا من تطمئن إلى نصحه وصدقه -هذا الذي يخبرك, يجب أن تكون واثقاً من صدقه، ومن إخلاصه لك، إخلاص وصدق- فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدق في بعضه، والغاش عين عليك، وليس عيناً لك -هذا الذي يغشك في أقسى الساعات، وفي أحرج الساعات، ربما ينقل للعدو عنك بدل أن ينقل لك عن العدو، إذاً: لا بد من إنسان ناصح لك, وإنسان صادق-.
وإذا دنوت من أرض العدو فأكثر الطلائع, -الطلائع أي الجنود المتقدمين جداً- وبث السرايا، أما السرايا فتقطع أمدادهم ومرافقهم، -الجيش يريد إمدادًا وتموينًا باستمرار, فإذا تمكن الخصم أن يقطع على عدوه طريق الإمداد, انتهت المعركة، لذلك أي حركة يجب أن تكون وفق خط مستمر من الإمداد والتموين، فإذا قطع الإمداد عن هذا الجيش فقد قضي عليه، فهذه السرايا مهمتها: أن تقطع عن الجيش الإمداد، وأن تقطع عنه المرافق، فالسرايا مهمتها قطع الإمداد عن جيش العدو، والطلائع هدفها أن تبلو أخبارهم-.
وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس، -باعتبار متقدم جداً، قد يفاجأ بكمين، فهذا الجندي المتقدم جداً, يجب أن يكون من صفوة الجنود؛ جرأة, وشجاعة, وقوةً, وذكاء- وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيَّر لهم سوابق الخيل، -يحتاجون لمناورة سريعة جداً، لو كان معه بغلة مشكلة، يحتاج لخيل أصيلة، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدواً, كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، أول شيء يلقى العدو هذا الإنسان القوي الذكي- واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر الجلاد، -قواد السرايا- ولا تخص أحداً بهَوى, فيضيع من رأيك وأمرك أكثر مما تحابي به أهل خاصتك.
-لو فرضنا واحد رجاك أن تعينه على هذه السرية، مستواه القتالي منخفض، غير متمكن، ضعيف الشخصية، فأنت بهذا أرضيته، ولكن خسرت معركة، أرضيت واحداً وخسرت معركة-.
شيء آخر: ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجهٍ تتخوف فيه ضيعة ونكاية، -فهذا الجندي غال جداً، فإذا قدمته إلى مكان متقدم، يجب أن يكون هناك ضمان للرجوع، فإذا كان في خطر، يكون في التفات من وراء ظهره، يقطع عليه طريق العودة، معنى هذا أنك ضحيت به، فإذا شعر الجندي أنه هين على قائده، ربما لا يقاتل، إذا شعر الجندي, أن حياته غالية جداً على قواده, عندئذٍ يندفع، فأي مهمة متقدمة, يجب أن يكون هناك دراسة واثقة لها، لا يكون في احتمال أن ينقطع طريق العودة عليهم، احتمال أن يقطع عنهم التموين والإمداد-.
ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو, فاضمم إليك أقاصيك, وطلائعك, وسراياك, -إذا بعثت طليعة، وهناك سرية، حينما تواجه العدو, يجب أن تجمع كل أولئك السرايا، مع الطلائع، مع الأجنحة، مع المقدمة، مع المؤخرة، مع الميمنة، مع الميسرة، مع القلب، كل هذه الفرق، وهذه السرايا تجتمع في مكان واحد- لتضع كل ثقلها في هذه المعركة))
لو درس هذه الوصية إنسان خبير بهذه الشؤون، ربما كان أقدر على تفسيرها, وعلى بيان عظمتها مني، هذا اختصاص.
سيدنا عمر كان في حالةٍ من الفهم والفطانة لدرجة عالية جداً، توجيهات دقيقة جداً, من هذه التوجيهات: إذا شعر الجندي, أن حياته غالية على من يبعثه لهذه المهمة, كان شجاعاً، إذا كان مرتاح, وضع كل طاقاته في المعركة، وإذا أرسلنا السرايا, المهم أن تقطع على العدو إمداداته، والطلائع للأخبار والعيون, لا بد من توافر الصدق والإخلاص فيهم.
فهذه الرسالة الأولى بالقضاء، فإن القضاء فريضة محكمة، والرسالة الثانية في تخطيط المدن، وهذه الرسالة في الشؤون العسكرية.
رسالة من عمر إلى بعض ولاته:
رسالة من عمر إلى بعض ولاته:
هناك رسالة إدارية: سيدنا عمر كتب لبعض ولاته, قال له:
((بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك, هيئة في لباسك, ومطعمك, ومركبك ليست للمسلمين، -عيّن واليًا، فهذا الوالي في مستوى حياته اليومية, هو وأهل بيته, له هيئة حسنة في لباسه, ومطعمه, ومركبه، ليست لعامة المسلمين- يقول سيدنا عمر: فإياك يا عبد الله, أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرَّت بوادٍ خصيب, فلم يكن لها هم إلا السِمَن، وإنما حتفها في السمن))
يعني إذا اتجهت إلى أن تعيش حياة فوق الناس, فكأنك جعلت همك في السمن، والدابة كلما سمنت, كلما آن أوان إنهاء حياتها، وإنما حتفها في السمن, وفي السمن حتفها.
اعتبر يا عبد الله:
مر يوماً بدار جديدة في أطراف المدينة فسأل: ((دار من هذه؟.
فقالوا: هذه دار فلان -وفلان واحد من ولاة عمر-.
فقال عمر رضي الله عنه: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها)), أي أن هذه الدراهم التي أخذها, لا بد من أن يستخدمها في إنشاء هذه الدار، فكشفته هذه الدار.
حوار جرى:
مرة سأل سيدنا عمر أحد أولاد هرم بن سنان, الذي خلده بشعره زهير بن أبي سلمى، هذا هرم بن أبي سنان, عملَ عملاً عظيماً, حينما أنهى حرب البسوس، حرب بقيت عشرات السنوات، أنهاها بأن دفع من ماله الخاص ديات القتلى، فالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، نظم في هذا الإنسان العظيم قصائد خالدة.
فمرة سيدنا عمر, سأل أحد أولاد هرم بن سنان, الذي خلده بشعره زهير بن أبي سلمة، يقول له:
((أنشدني بعض مدح زهير في أبيك، فينشده, فيقول عمر: إنه كان ليحسن فيكم القول.فأجابه الرجل: ونحن والله كنا نحسن له العطاء، هو أحسن القول فينا، ونحن أحسنا العطاء له فيقول عمر: لقد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم -هذا الذي أعطيتموه ذهب، صرفهم، انتهى, ومات الرجل- أما هذه القصائد التي قالها في مدح والدك فبقيت خالدة، فالذي أخذتموه منه أضعاف ما أعطيتموه))
من فضائل عمر بن الخطاب:
آخر قصة من قصص هذه الخليفة العظيم: أنه رأى عجوزاً تحمل مكتلاً يؤودها حمله، -مكتل شعير أو مكتل قمح- فيتقدم منها ويحمله عنها بعض الطريق، -أما هي ماذا فعلت حينما حمل عنها هذا المكتل؟- قالت له شاكرةً:
((أثابك الله الخير يا بني، والله إنك لأحق من عمر بالخلافة))
، أنت أفضل منه.
ذات ليلة خرج في جولة من جولاته, التي كان يخرج بها وحيداً، والناس نيام، ليطمئن على قومه، ويبلو أحوالهم، وينفض الليل عن حاجاتهم، وعند مشارف المدينة, رأى كوخاً ينبعث منه أنين امرأة، فاقترب يسعى، ورأى رجلاً يجلس بباب الكوخ، وعلم منه أنه زوج السيدة التي تئن، وعلم أنها تعاني كرب المخاض، وليس معها أحد يعينها، لأن الرجل وزوجته من البادية، وقد حَطَّا رحالهما هنا وحيدين غريبين، رجع عمر إلى بيته مسرعاً، وقال لأم كلثوم بنت الإمام علي: ((هل لك في مثوبة ساقها الله إليك؟.
-إذا طرق باب أحدِنا، ودعي لعمل صالح، ماذا يرى؟ هذا خير ساقه الله إليك، إذا أحب الله عبداً, جعل حوائج الناس عنده- فقال لزوجته: هل لك في خير ساقه الله إليك؟.
قالت: خيراً؟.
قال: امرأة غريبة تمخض، وليس معها أحد.
قالت: نعم إن شئت، -القوامة للرجل، إذا شئت أنا حاضرة-.
وقام وأعد من الزاد والماعون ما تحتاجه الوالدة من دقيق وسمن، ومزق ثيابًا يلف بها الوليد، وحمل أمير المؤمنين القدر على كتف، والدقيق على كتف، وقال لزوجته: اتبعيني، ويأتيان الكوخ، وتدخله أم كلثوم زوج أمير المؤمنين، لتساعد المرأة في مخاضها، أما أمير المؤمنين, فيجلس خارج الكوخ، وينصب الأثافي -ثلاثة أحجار لوضع القدر- ويضع فوقها القدر، ويوقد تحتها النار، وينضج للوالدة طعاماً، والزوج يرمقه شاكراً -ولعله كان يحدث نفسه هو الآخر: بأن هذا العربي الطيب, والله أولى بالخلافة من عمر- وفجأة صدح في الكوخ صراخ الوليد، لقد وضعته أمه بسلام، وإذا بصوت أم كلثوم, ينطلق من داخل الكوخ عالياً: يا أمير المؤمنين, بشِّر صاحبك بغلام.
-انظر هذا الاحترام بين الزوجة وزوجها، أحياناً الزوجة لا تقول لزوجها: أبو فلان، تقول باسمه أمام الضيوف، أمام أهله أحياناً- يا أمير المؤمنين, بشر صاحبك بغلام، ويفقه الأعرابي من الدهشة، ويستأخر بعيداً على استحياء، ويحاول أن ينطق بكلمتين: أمير المؤمنين، ولكن شفتيه لا تقويان على الحركة, من فرط ما فاجأته هذه الكلمة، ويلحظ عمر كل هذا، فيقول للرجل: ابق مكانك لا ترع.
ويحمل أمير المؤمنين القدر، ويقترب من باب الكوخ, وينادي زوجته: خذي القدر يا أم كلثوم، وأطعمي الأم وأشبعيها، وتطعمها أم كلثوم حتى تشبع، وترد القدر إلى عمر بما بقي من طعام، فيضعها عمر بين يدي الأعرابي, قائلاً له: كل واشبع, فإنك قد سهرت طويلاً، وعانيت كثيراً، ثم ينصرف هو وزوجته بعد أن يقول للرجل: إذا كان صباح الغد, فائتن بالمدينة, لآمر لك من بيت المال بما يصلحك، ولنفرض للوليد حقه))
101/21


 
 توقيع : السعيد



رد مع اقتباس
قديم 11-05-2018, 10:37 AM   #26
سليلة الأبجدية



الصورة الرمزية عاشقة الأنس
عاشقة الأنس غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 390
 تاريخ التسجيل :  Jun 2014
 أخر زيارة : 07-22-2023 (09:39 AM)
 المشاركات : 4,471 [ + ]
 التقييم :  2789
 الدولهـ
Algeria
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: شرح الحديث الشريف



في ميزان حسناتك وبارك فيك


 
 توقيع : عاشقة الأنس


كل الشكر للأستاذة المصممة البارعة سوالف احساس على التوقيع


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الحديث, الشريف, شرح


 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
علم الحديث الشريف السعيد ريآض الآحاديث النبوية 6 11-11-2018 08:29 AM
شرح الحديث الشريف رياض الصالحين السعيد ريآض الآحاديث النبوية 6 05-09-2018 04:11 PM
الحديث الشريف فى بر الوالدين وصلة الارحام السعيد ريآض الآحاديث النبوية 3 05-09-2018 11:39 AM
التنافس الشريف منال نور الهدى رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 5 04-27-2016 10:06 AM
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والدليل على جوازه آفراح رِيَاضٌ رَوحَانِيَـاتٌ إيمَـانِيَـة 4 10-26-2014 07:12 PM


الساعة الآن 05:22 AM